ووعيد لمن أمسكوا قلوبهم على نفاق، وعقدوا نياتهم عليه.. فالله- سبحانه- مخرج ما أمسكته قلوبهم، وما انطوت عليه نياتهم! وليس من الممكن أن يتصور أحد ما الذي كان يعيش فيه المنافقون يومئذ، من كرب وفزع، وهم يرون كل يوم صرعاهم، وقد رمتهم كلمات الله بسهام نافذة لم تخطىء صميم الداء منهم! ولقد كان ما صنعه الله بالمنافقين فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وفى فضح من فضح منهم- حماية للمجتمع الإسلامى الأول من هذا الداء الخبيث، ووقاية للمؤمنين من أن يطوف بهم طائف منه.. حتى لقد كان صحابة رسول الله- وهم من هم- يضعون أنفسهم تحت مراقبة دقيقة منهم، لكل خاطرة تخطر لهم، ولكل وسواس يطوف بهم..
ومن هنا ندرك السرّ فى هذا الصفاء الروحىّ، الذي كان عليه صحابة رسول الله، وتلك العظمة الإنسانية التي اشتملت عليها نفوسهم، والذي كان من آثاره ما شهدته الحياة- وربما لأول مرة ولآخر مرة أيضا- من مجتمع مثالىّ، يحكمه وازع الضمير، ويقوم فيه مقام السلطان القاهر، الذي يتسلط على كل نفس، ويأخذ على كل جارحة؟
وفى قصتى «ما عز» والمرأة الغامدية شاهد مبين، يحدّث بأن المجتمع الإسلامى فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان تحت مراقبة سماوية تتكشف للناس منها سرائرهم، كما تتكشف لهم صور المرئيات على المرايا العاكسة، فإن عمى الإنسان عن أن يرى نفسه فيها، رآه الناس من حوله، من قريب وبعيد! وتتلخص قصة ما عز بن مالك، فى أنه قد غالب شهوته فغلبته، فأتى(5/829)
الفاحشة.. فلما استيقظ من سكرة تلك الشهوة الغالبة أنكر نفسه، ولم يطق صبرا على الحياة مع تلك النفس الأمارة بالسوء..
ففزع إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، يطلب النجاة عنده.. فقال:
يا رسول الله. طهرنى.. فعرف الرسول أنه جاء ليقام عليه حدّ الزّنا، وهو الرجم، إذ كان «ما عز» محصنا.
فقال الرسول الرحيم: «ويحك.. ارجع، فاستغفر الله، وتبّ إليه!» فرجع غير بعيد.. ثم جاء فقال: يا رسول الله.. طهرنى..
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ارجع، واستغفر الله، وتب إليه..»
فرجع، ثم عاد فقال: يا رسول الله طهّرنى.!
فقال الرسول الكريم: «ارجع واستغفر الله وتب إليه» .
فرجع، فقال: يا رسول الله طهرنى..
فقال صلوات الله وسلامه عليه: ففيم أطهّرك؟
فقال: من الزّنا..
فقال صلى الله عليه وسلم. «أيه جنون؟» .. فأخبر أنه ليس بمجنون..
فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فشمّه، فلم يجد ريح خمر! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم:
فأمر به.. فرجم! أما المرأة، فهى من «غامد» وغامد هذه بطن من بطون الأزد، والأزد قبيلة عربية معروفة..
جاءت هذه المرأة إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد فعلت الفاحشة، ولم(5/830)
يكن أحد من الناس قد كشف أمرها، فقالت: يا رسول الله: إنّى زنيت..
فطهرنى! فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فلما كان الغد جاءت، فقالت يا رسول الله: لم تردّنى؟ لعلك أن تردّدنى كما ردّدت ماعزا؟
«فو الله إنى لحبلى! فقال النبي الكريم: «أما الآن فاذهبى حتى تلدى» فلما ولدت أتته بالصبي فى خرقة.. ثم قالت: هذا قد ولدته! فقال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» فلما فطمته، أتت بالصبي فى يده كسرة خبز، ثم قالت: «هذا يا نبى الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.. فدفع النبىّ إلى رجل من المسلمين..
ثم أمر بها فرجمت..
ووراء هذه القصة أكثر من آية معجزة من آيات السموّ الإنسانى، وعظمة الإنسان، حين يسكن الإيمان قلبه، ويملأ كيانه، فلا يخاف غير الله، ولا يطمئن إلا باللّجأ إليه والاستسلام له..
ونحسب أننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن ما عزا والغامدية، لم يكن منهما هذا الإصرار العنيف على فضح أمرهما، بعد أن ستر الله عليهما- إلّا خوفا من فضيحة مهلكة، يتنزل بها القرآن فى شأنهما، فتكون لعنتهما على لسان كل قارئ للقرآن إلى يوم الدين.. فهما إذ يطلبان الموت، وإذ يجدان هذه الحرارة فى الإقدام عليه، واستساغة طعمه- إنما ليهربا من تلك السياط الملتهبة التي تتساقط عليهما بنذر الفضيحة، التي يشهدها الوجود كله، على امتداد الزمن، إلى يوم النّشور! وطبيعى أن ذلك الشعور الذي تسلط على ما عز والغامدية، والذي أراهما(5/831)
مدى الهوّة التي سيهويان فيها إذا هما وقعا تحت لعنة الله، وأنزل الله سبحانه فى شأنهما قرآنا يفضحهما- طبيعى أن هذا الشعور إنّما بلغ به هذه الدرجة من اليقظة والحساسية، هو وثاقة الإيمان بالله، وحسن الإدراك لكماله سبحانه وتعالى، وأنه القادر الذي لا يعجزه شىء.. العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.. فإذا جاءت بعد ذلك شواهد عملية تكشف عن تلك القدرة وهذا العلم، فيما كشف القرآن الكريم من خبايا المنافقين، وخفايا صدورهم- لم يكن ثمّة مهرب من الله إلا إليه، ولم يكن ثمة سبيل للنجاة إلّا فى طلب التطهير من الإثم، وإقامة حدّ الله على من اعتدى على حرمات الله! هذا، ولمّا لحق الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالرفيق الأعلى، وانقطع وحي السماء- تنفّس المنافقون الصعداء، وزايلهم هذا الشعور من الحذر والخوف أن يمسوا أو يصبحوا على أعين الناس فضيحة مفضوحة للعالمين- فاستعلن نفاقهم، وتحركت ألسنتهم، بما كانت تكنّه صدورهم من منكر القول، وآثم التدبير.
ولكن- مع هذا- لم يكن للنفاق ولا للمنافقين أثر فى حياة المجتمع الإسلامى، الذي تركه الرسول، بعد أن أزاح تلك العلل التي كانت مستولية عليه، وسلك به مسالك الهدى والتقوى.. فما يكاد يظهر فى المجتمع انحراف، أو يطلّ عليه وجه منحرف، حتى تنكره الحياة كلها من حوله، وحتى ليأخذ المجتمع عليه كل سبيل للإقامة على هذا الانحراف، أو الإفلات من العقاب الراصد له..
ولقد تركت هذه التجربة أثرها فى نفوس المؤمنين، الذين عاشوا فى عهد النبىّ، ثم امتدّت بهم الحياة بعد النبىّ.. إذ أحسوا بهذا الفراغ الذي خلّفه فراق النبىّ الكريم لهم، كما استشعروا تلك الوحشة، من انقطاع الوحى(5/832)
السماوي، الذي كان يؤنس حياتهم، وينير لهم طريقهم فيها، ويرصد الانحرافات التي تحدث فيهم..
لقد كان المسلمون فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- تحت مراقبة دائمة، يؤمنون معها من أن يدخل عليهم حلل، دون أن يشعروا به، ويعرفوا مكانه فيهم، فيما ينزل من آيات القرآن الكريم، مما يتلبس به الأفراد..
وأما وقد مات الرسول، وانقطع الوحى، فإنه لم يعد للمؤمن ما يعرف به حقيقة إيمانه، إلا بأن يعرض نفسه على كتاب الله، وسنة رسوله، وإنه على قدر قربه أو بعده منهما، يكون حظه من الإيمان، ومكانه من المؤمنين..
وبهذا صار إلى المؤمن أمر دينه، كما صارت إليه حراسته من كل آفة تعرض له، دون أن ينبّه إلى ذلك، أو يلفت إليه..
روى أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كان يمضى إلى بيت حذيفة بن اليمان، ويقول له: يا حذيفة.. أنت صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فانظر ما فىّ من النفاق، فعرفنى به!! فيقول حذيفة: والله يا أمير المؤمنين ما أعلم فيك نفاقا.. فيقول: انظر وحقق النظر! فيبكى حذيفة، ويبكى عمر رضى الله عنهما، فلا يزالان يبكيان حتى يغشى عليهما..
ومن هنا ندرك السرّ فيما كان من التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا المرض الخبيث- مرض النفاق- ورصد تحركاته فى المجتمع الإسلامى، وفضح أهله. وكشف وجوههم للملأ، حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم، وحتى لا تصيبهم عدواه، الأمر الذي إن فشا فى الناس، أفسد عليهم حياتهم، وأراهم(5/833)
الأمور فى أوضاع مقلوبة، لا يلتقون معها إلا إذا قلبوا هم أوضاعهم، ومشوا على رءوسهم، بدلا من أرجلهم! قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» هو كشف عن وجه آخر، من وجوه النفاق التي يظهر بها المنافقون فى الناس.. وهو أنهم إذا ضبطهم القرآن متلبسين بجريمة من جرائمهم المنكرة، أو لامهم لائم على ما انكشف من مستور تدبيرهم السيّء، وما جرى على ألسنتهم من هزؤو سخرية برسول الله وبالمؤمنين بالله، قالوا معتذرين:
«إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» أي لم نكن جادّين فيما كنا فيه، وإنما هو لعب وعبث، ومفاكهة! وهكذا المنافق.. لا يجد ما يستر به نفاقه إلا الكذب.. فهو كدب يستر كذبا، ونفاق يدارى نفاقا..
وقد أمر الله سبحانه نبيه الكريم أن يردّ عليهم زعمهم هذا، وأن يسفّه باطلهم الذي هم فيه، وأن يفضح عذرهم المفضوح الذي اعتذروا به.. «قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟» .. أفهذا مقام يخوض فيه الخائضون ويلعب اللاعبون؟ إنه لعذر أقبح من ذنب! قيل إن جماعة من المنافقين الذين كانوا فى غزوة تبوك مع المسلمين، وقد كانوا يذيعون فى الناس أحاديث يسخرون فيها من النبىّ وأصحابه، ويقولون فيما يقولون: إن محمدا وأصحابه لن يثبتوا للروم، وما هم إلا غنيمة باردة ليد الروم إذا التقوا بهم.. وقد كشفهم الله سبحانه وتعالى للنبىّ، وأراه وجوههم،(5/834)
وأطلعه منهم على ما كانوا يقولون.. فلما أنبأهم النبىّ بهذا الذي كان منهم- قالوا إنما كنا نخوض ونلعب» ! وقيل إنه ضلّت للنبىّ صلى الله عليه وسلم ناقة فى هذه الغزوة، فجعل أصحابه يبحثون عنها.. فقال المنافقون: لو كان محمدا متصلا بربّه- كما يقول- لأخبره بالمكان الذي فيه ناقته! فكيف يدّعى- مع هذا- أنه يوحى إليه من ربه!؟» وقد أطلع الله سبحانه النبىّ على ما دار بين هؤلاء المنافقين، فلما أنبأهم النبىّ بهذا الإثم الذي تعاطؤه، قالوا: «إنما كنا نخوض ونلعب!! وقد أخزاهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» .. ثم أخزهم خزيا بعد خزى، إذ أطلع النبىّ على المكان الذي شردت إليه الناقة، فأشار إلى أصحابه إليه، فوجدوها حيث أشار! قوله تعالى: «لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» فى هذه الآية يأخذ الله المنافقين بنفاقهم.. فلا يقبل لهم عذرهم الذي اعتذروا به، لأنه كذب إلى كذب، ونفاق إلى نفاق.. ثم يحكم- سبحانه وتعالى- عليهم بالكفر، بسبب هذا النفاق الذي لبسوه، بعد أن نزعوا ثوب الإيمان الذي كانوا يخفون به ما انطوت عليه قلوبهم من نفاق.. وبهذا- وبعد أن افتضح أمرهم- صاروا كافرين ظاهرا وباطنا. بعد أن كانوا كافرين باطنا، مؤمنين ظاهرا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا تَعْتَذِرُوا.. قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» ..
وفى قوله سبحانه: «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» ..(5/835)
فى هذا إشارة إلى أن باب التوبة والقبول لا يقفل أبدا فى وجه أي إنسان، يتجه إلى الله، وينزع عما كان فيه من غىّ وضلال.. وأن هؤلاء المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم ليسوا على حال واحدة، ففيهم من سيثوب إلى رشده، وينزع عن غيه، ويرجع إلى الله تائبا نادما، وفيهم من يلجّ به الضلال، ويستبد به العمى، فيمضى إلى مساقه الذي يسوقه شيطانه إليه..
فالذين يتوبون إلى الله، ويرجعون إليه من قريب من هؤلاء المنافقين، سليقون من الله سبحانه، عفوا، ومغفرة.. والذين يصرّون على هذا النفاق الذي هم فيه، سيلقون من الله ما أعد للكافرين والمنافقين من عذاب ونكال.. «بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» .. أي بسبب ما كانوا عليه من ضلال، ومحادّة لله ورسوله، الأمر الذي اقترفوا به ما اقترفوا من جرائم وآثام.
قوله تعالى: «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» هكذا هم المنافقون، وذلك هو مجتمعهم، لا ينضح بغير الإثم والمنكر، ولا يلد إلا البغي والفجور.. «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» أي على طبيعة سواء يجمعهم النفاق، ويؤلف بينهم، من رجال ونساء، حتى لكأنهم أفراد أسرة واحدة، تجمعها لحمة النسب والقرابة، وتؤلف بينها مشاعر الحب والولاء.. وذلك أن المنافق لا يجد المرعى الخصيب الذي يغذّى فيه نفاقه، ويحقق به وجوده، ويرضى فيه مشاعره- إلا فى بيئة منافقة، تتجاوب معه، وتروّج لهذه البضاعة التي يتعامل بها..
ذلك أن بضاعة المنافقين، بضاعة خبيثة، وطعام فاسد عفن، لا تقبله إلا(5/836)
النفوس المريضة، ولا تستطعمه إلا الطبائع الخبيثة.. إنه عملة زائفة، لا تروج إلا فى الظلام، ولا يتعامل المتعاملون بها إلا فى أوكار اللصوص، وفى حانات الخمر، حيث تدور الرءوس، وتذهب العقول! «يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ» هذه هى بضاعة القوم، وتلك هى رسالتهم فى الحياة، وشأنهم فى الناس..
«يأمرون بالمنكر» ! فلا يكفيهم أنهم يطعمون من هذا الطعام الخبيث، ولا يرضيهم أن يعرضوه على الناس- بل يأمرونهم به، ويحرضونهم عليه، ويزينون لهم تعاطيه..
إنهم لا يهنؤهم هذا الطعام الخبيث العفن، حتى يستكثروا له من الأيدى التي تشاركهم فيه، ومن الأفواه التي تمضغه معهم..
«وينهون عن المعروف» ! فمن دعا إلى منكر وأمر به، وحرض عليه، فهو ناه- ضمنا- عن معروف، صادّ عن خير.. ولكن القوم، لا يقفون عند هذا، بل إنهم حين يدعون إلى المنكر، يقومون بدعوة أخرى، هى تبغيض الحلال إلى الناس، وتزهيدهم فى الخير، وذلك إذا تأبّوا عليهم، ولم يستجيبوا لدعوتهم إلى المنكر..
وحسبهم فى هذا أن يصرفوا وجوه المؤمنين عن الإيمان، ويكفّوا أيديهم عن التعامل بالخير، فذلك إن تمّ لهم كان كسبا للمعركة التي يخوضونها مع المؤمنين، وهو عزل أكبر عدد يمكن عزله منهم عن المعركة، بحيث لا يكونون مع المؤمنين ولا على المنافقين!(5/837)
«ويقبضون أيديهم» أي أن هؤلاء المنافقين الذين يسعون فى الناس هذا السعى الحثيث فى مجال الإفساد، والإهلاك للناس- هم فى الوقت نفسه أشحة على الناس بأى خير يمكن أن تحمله أيديهم إلى الناس، إن كان فى يدهم أي خير..
إنهم أسخياء كرام، يبذلون- فى تبذير شديد- كلّ منكر، ويجودون بلا حساب، بكل مفسدة وكل ضلال.. أما فى مجال الخير والإحسان، فهم بخلاء أشحّاء، لا تندّ أيديهم بذرة خير، ولا تسخو أنفسهم بعارفة من إحسان! «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» إنهم لا يذكرون الله أبدا، إذ لو ذكروه، لما كان لهم فى عباد الله هذا البلاء الذي يرمونهم به، فى غير حرج أو تأنّم..
إنّهم نسوا الله، فنسيهم الله، وتركهم وما هم فيه من ضلال.. فلو أنهم ذكروا الله لوجدوا فى قلوبهم خشية له، ولكان لهم فى خشيتهم لله ما يمسك بهم عن هذا الضلال الذي يهلكون به أنفسهم، ويهلكون به كثيرا من الناس معهم..
ونسيان الله لهم، هو تركهم لأنفسهم، وحرمانهم من توفيق الله.
«إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .. أي هم الذين فسقوا عن أمر ربّهم، وخرجوا عن الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال والهلاك.
قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» هذا هو الجزاء الذي أعدّه الله لأهل النفاق والكفر.. نار جهنم خالدين فيها، لا يتحولون عنها أبدا.. هى حسبهم، أي هى كلّ ما لهم عند الله..(5/838)
لا شىء لهم غيرها.. ثم من وراء جهنّم وعذابها، لعنة الله القائمة عليهم، وعذاب مقيم لا يفتّر عنهم وهم فيه مبلسون..
قوله تعالى: «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» هو عرض لصورة أخرى من صور الضالّين والمفسدين، تطلع على هؤلاء المنافقين من ثنايا الزمن الغابر، وترتفع لأبصارهم، ممن كان قبلهم من الأمم السالفة..
إنّهم لن يخلدوا فى هذه الدنيا، كما لم يخلّد من كان قبلهم من الماضين، ممن كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا، وأشدّ قوة، وأمكن سلطانا..
فليست هذه الدنيا دار بقاء وخلود، وليس ما فيها من متاع، إلا ظل زائل، وعرض ذاهب.. ثم يجىء من بعد هذا الحساب، والقضاء والجزاء..
لقد استمتع هؤلاء الذين ذهبوا، بما كان بين أيديهم من مال وبنين، وبما كان لهم من جاه وسلطان.. ثم ذهبوا وذهب كل ما كان لهم، وما كان معهم.. استمتع كلّ «بخلاقه» أي بنصيبه المقسوم له، وبحظه المتاح له، إن كثيرا، وإن قليلا.. ثم انتهى كلّ إلى نهايته، وصار كلّ إلى ما قدّم من خير أو شر.. وقد كانوا أكثر من هؤلاء المنافقين مالا، وأقوى قوة، وأعزّ نفرا..
وهؤلاء المنافقون.. الذين يكيدون للنبىّ، ويحادّون الله ورسوله..
إنّهم ليسوا بدعا فى النّاس، ولن يخرجوا على سنة الله التي خلت فى عباده.. فلن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا.. وإنهم ليأخذون حظّهم المقدور لهم مما فى أيديهم من مال وولد، ثم يلحقون بمن سبقهم إلى(5/839)
عالم الموت، وينتظمون فى ركب الضّالّين والمكذّبين، ليقفوا بين يدى الله، ولينالوا الجزاء الذي هم أهله، من عذاب أليم..
فلقد حبطت أعمالهم كلّها، فلم يسلم لهم منها شىء، حتى تلك الأعمال التي كان يمكن أن تحسب لهم فى جانب الإحسان.. لأنّهم إذ فعلوها لم يريدوا بها وجه الله، ولم يطلبوا بها ما عند الله.. لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يتعاملون مع الله..
«حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» فلم يحمدوا بها.. وحبطت فى «الآخرة» فلم تدفع عنهم عذاب الله الذي أعده لهم، وأنزله بهم.. «وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .. إذ لا خسران بعد هذا الخسران، ولا ضياع بعد هذا الضياع.
قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وإذا تصفحّ هؤلاء المنافقون تاريخ القرون الماضية، فلم ينكشف لهم منها- لماهم فيه من غفلة وعمّى- ما أخذ الله به الظالمين من نكال وبلاء- فها هى ذى المثلات، يضعها الله بين أيديهم، ويكشف لهم ما خفى منها..
قوم نوح.. وعاد.. وثمود.. وقوم إبراهيم.. وأصحاب مدين..
والمؤتفكات..
هؤلاء جميعا، قد جاءتهم رسل الله، تحمل إليهم الهدى والخير.. فمكروا بآيات الله، وكذّبوا رسل الله..
فماذا كانت عاقبة أمرهم؟
لقد أخذهم الله بذنوبهم، وأوقع بهم نقمته، وصبّ عليهم عذابه، ألوانا(5/840)
متعددة من البلاء، وصورا متباينة، من المهلكات..
قوم نوح.. أغرقهم الله بالطوفان..
وعاد، قوم هود.. أهلكهم الله «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ! وثمود.. قوم صالح.. أخذتهم الصيحة.. فأصبحوا فى ديارهم جاثمين..
وقوم إبراهيم.. ألقوه فى النار، فجعلها الله بردا وسلاما عليه، وجعل فى ذريته الكتاب والحكم والنبوّة..
وأصحاب مدين.. قوم شعيب.. أخذهم الله بالصيحة، كما أخذ قوم صالح..
فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.. «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ» (94: هود) والمؤتفكات.. أي المنقلبات على أهلها، وهى الدّور التي كان يسكنها قوم لوط.
إذ أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود، فطحنتهم طحنا، وقلبت عليهم قريتهم، فأصبح عاليها سافلها.. ومنه الإفك، وهو الحديث المفترى، الذي تقلب فيه وجوه الأمور، وتغير معالمها..
هؤلاء جميعا.. كذبوا رسل الله، فأخذهم الله بذنوبهم، وجزاهم جزاء الظالمين..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ»
بهذا العذاب الذي أنزله بهم، «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .. فلقد ظلموا أنفسهم، بأن صرفوها عن الخير الذي جاءهم على يد رسل الله.. فماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟ وماذا بعد الضلال إلا البلاء والعذاب؟.(5/841)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
الآيتان: (71- 72) [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
التفسير: مما يضاعف حسرة المنافقين، ويزيد فى بلائهم، أن يطلع عليهم المؤمنون فى هذا الموكب العظيم، الذي يحفّه الجلال والإكرام، ويتغشّاه النعيم والرضوان، بعد أن انكشف للمنافقين سوء أمرهم، وعاقبة سعيهم، وما أخذهم الله به من نكال وبلاء..
وفى هذا الموكب الذي ينتظم المؤمنين، يرى الرائي لهم أن بعضهم أولياء بعض، تجمعهم الأخوّة، وتؤلف بينهم المودّة، يلتقون على الإيمان بالله، والولاء له، والاستجابة لرسوله، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر..
«وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..» .. فتلك هى سبيل المؤمنين، وذلك هو حبل الله الذي يعتصمون به، ويشدّون أيديهم عليه.. «أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ» لأنهم لجثوا إليه والتمسوا مرضاته، وأخلصوا القول والعمل له.. «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يضام من لجأ إليه، واعتصم به..
«حكيم» فى قضائه بين عباده، وحكمه فيهم، فيجزى المحسنين بإحسانهم،(5/842)
ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ المسيئين بما عملوا إن شاء، أو يتوب عليهم..
كل ذلك عن قدرة متمكنة، وعزة غالبة، وحكمة بالغة.. سبحانه، عزّ فحكم، لا معقب لحكمه، ولا منازع لسلطانه..
هذا، وليس دخول حرف الاستقبال فى قوله تعالى: «سيرحمهم» ..
بالذي يجعل وعد الله غير محقق فى الحال كما هو محقق فى الاستقبال، بل هو وعد منجز فى جميع الأحوال، والأزمان.. فالمؤمن محفوف برحمة الله دائما، ولولا هذه الرحمة لما كان من المؤمنين، الذين دعاهم الله إلى الإيمان، وهداهم إليه، وأمسك بهم على طريقه.
وفى قوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ما يشير إلى ما فى المؤمنين من معانى الإنسانية، التي تعطى المؤمن وجودا مشخّصا، وذاتية مستقلة.. ثم هو- مع هذا الوجود الذاتي المستقلّ- يحكمه عقل رشيد، ويوجهه قلب سليم، فيلتقى مع أصحاب العقول الرشيدة، ويتجاوب مع أولى القلوب السليمة، على جبهة الحق، وتحت راية الخير، فإذا هو قوة عاملة فى هذا الميدان، يعمل للحق مع العاملين، وينتصر للخير مع أهل الخير.. يبادلهم ولاء بولاء، وحبّا بحبّ، وإخاء بإخاء! وليس كذلك المنافقون والمنافقات.. «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» .. إنهم كتلة متضخّمة من الخبث.. أشبه بالديدان التي تتخلّق من الرّمم، ليس بينها تجاوب فى المشاعر، أو تلاق فى التفكير، وإنما هى كائنات تسبح فوق هذه الرمم، وتغتذى منها! قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(5/843)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
هو بيان لما أعدّ الله للمؤمنين والمؤمنات من جزاء حسن، ومقام كريم فى الآخرة.. إنّ لهم عند الله جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ومساكن طيبة فى جنّات عدن.. أي جنّات إقامة واستقرار.. يقال عدن بالمكان، أي أقام واستقر.. فهى جنات لا يتحول عنها ساكنوها إلى مكان آخر، حيث تطيب لساكنيها الإقامة، لما يجدون فيها من نعيم لا ينفد، ولا يملّ مهما طالت صحبته، وامتدّ الزمن فى الحياة معه.
وقوله سبحانه: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .. هو نعيم فوق هذا النعيم الذي يناله أصحاب الجنة.. بما يفيض الله سبحانه وتعالى عليهم من رضوانه، وما يضفيه عليهم من رضاه.. فكل نعيم- وإن عظم- هو قليل إلى رضوان الله، الذي يناله من رضى الله عنهم، ثم إن كل نعيم هو تبع لهذا الرضا، ونسمة من أنسامه الطيبة المباركة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «ورضوان من الله أكبر» مستأنفا، غير معطوف على ما قبله، حتى لكأنه إضراب عما سبقه، بمعنى «بل» .. وعلى هذا يكون التقدير: «بل.. ورضوان من الله أكبر» ..
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» الإشارة هنا إلى رضوان الله، الذي هو الفوز كل الفوز، والنعيم كل النعيم.
الآيتان: (73- 74) [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)(5/844)
التفسير: لم تنته الآيات القرآنية بعد، من عرض الوجوه التي يظهر بها المنافقون فى الناس، فما زالت هناك وجوه كثيرة لهم، سيكشف عنها القرآن فى آيات تالية- ومع هذا، فقد جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» - جاء معترضا سلسلة هذا العرض الكاشف عن مخازى المنافقين، ليذكّر النبىّ بما ينبغى أن يأخذ به المنافقين، الذين هم أشد أعداء الإسلام خطرا على الإسلام.
والكفار والمنافقون، هم على سواء فى كفرهم بالله، ومحاربتهم لدين الله، وكيدهم لرسول الله.. وإن على النبىّ أن يجاهد هؤلاء وأولئك جميعا، وأن يلقاهم بكل قوة وبأس.. فالمنافقون، كافرون، وأكثر من كافرين.. لأنهم يسترون كفرهم بالنفاق، ويدارونه بإظهار الإسلام.. فهم بهذا عدوّ خفىّ، يأمن المسلمون جانبه، ولا يأخذون حذرهم منه، فيطّلع منهم على ما لا يطّلع عليه العدوّ الظاهر، من مواطن الضعف منهم، وانتهاز الفرصة فيهم..
فإذا جاهد النبىّ الكفار، فليجاهد المنافقين كذلك، وليشتدّ فى جهادهم، وليغلظ عليهم، فلا يرخى يده عنهم إذا أمكنته الفرصة فيهم..
وقوله: «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» هو بيان للحكم الواقع تحته الكافرون والمنافقون، وهو أن جهنم مأواهم الذي يؤوون إليه، والمصير الذي يصيرون له.. وأنهم إذا أفلتوا فى هذه الدنيا من القتل أو الأسر، فلن يفلتوا فى الآخرة من عذاب جهنم، وبئس المصير..(5/845)
وقد جاء فى سورة التحريم نص هذه الآية هكذا: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (9: سورة التحريم) وفى هذا تأكيد للأمر بجهاد النبىّ للكفار والمنافقين، وأخذهم بالبأساء والضرّاء، حتى يزول الخطر الذي يتهدد الإسلام والمسلمين منهم..
قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» هذا عرض لحال من أحوال المنافقين، وكشف لوجه من وجوههم المنكرة..
وهو أن من دأبهم أن يحلفوا كذبا وزورا أنهم ما قالوا هذا القول المنكر، الذي كان سرا بينهم، ففضحهم الله به، وأطلع النبىّ والمسلمين عليه..
وقد كذّبهم الله، وردّ أيمانهم الكاذبة بقوله سبحانه: «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ» .
والمراد بكلمة الكفر، هو الكلام الذي تحدثوا به فيما بينهم، وتناولوا فيه النبىّ بالهزء والسخرية، وقالوا حين سئلوا: «إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» ..
وذلك منهم هو الكفر الصّراح.. فلو كان فى قلوبهم شىء من الإيمان، لما حدّثتهم أنفسهم بهذا السوء، ولما طاوعتهم ألسنتهم على النطق بهذا المنكر من القول..
وفى التعبير عن كلمات السوء بكلمة الكفر، إشارة إلى أن حصيلة هذا الكلام الكثير الذي دار على ألسنتهم، هو كلمة واحدة، هى الكفر، الذي دمغوا به ظاهرا، بعد أن كان يعيش فى كيانهم متخفيا، مستبطنا..(5/846)
فكلامهم كله، هو الكفر، إذ لا ثمرة له إلا الكفر..
وقوله تعالى: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ» .. هو تأكيد لكفرهم الذي استعلن بكلماتهم المنافقة التي فضحهم الله بها.. وفيه إشارة إلى أنهم لم يكونوا مؤمنين أبدا، وأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، وإنما جرت كلمة الإسلام على ألسنتهم، فحسبوا بهذا من المسلمين لا المؤمنين..
فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا.. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (14: الحجرات) .
وقوله تعالى: «وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» هو فضح لخفيّة من خفايا المنافقين، وكشف لمكيدة من مكايدهم، وأنّهم قد بيتوا عدوانا، ودبروا كيدا، ولكنّ الله- سبحانه- أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم.. فقد أرادوا بالنبيّ- صلى الله عليه وسلم- شرا، وائتمروا فيما بينهم على أن يرصدوا له، وهم معه على طريق العودة من تبوك، فأطّلع الله سبحانه النبىّ عليهم، وأراه ما دبروا له.. فدعاهم النبىّ إليه، وكشف لهم عن تدبيرهم السيء.. فلم يجدوا غير الحلف كذبا وبهتانا، بأنّهم ما قالوا شيئا، ولا بيّتوا شرّا..
وقوله سبحانه: «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» ..
هو تسفيه لهم، واستنكار لهذا المنكر الذي هم فيه.. وأنهم لم يتخذوا هذا الموقف المنحرف اللئيم من الله ورسوله، إلّا لما أفاء الله ورسوله به عليهم من فضله.. وهكذا أصحاب الطباع السيئة، والنفوس المريضة، تنقلب حقائق الأشياء عندهم، فإذا النور ظلام، والحق باطل، والنعمة نقمة..
والله سبحانه وتعالى يقول فى مثل هؤلاء الحمقى والسفهاء من الناس:(5/847)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» .
وانظر كيف جاء النظم القرآنى بقوله تعالى «وَما نَقَمُوا» ليكشف بذلك عما بلغه القوم من سفه وضلال، حتى إنهم ليجدون فى النعم التي بفضل الله سبحانه وتعالى عليهم بها، ما يحرك فى نفوسهم داعية الانتقام ممن أنعم عليهم، حتى لكأن هذه النعم شرّا قد سيق إليهم، وبلاء وقع بهم.. وهذا هو فى الواقع ما لنعم الله عندهم.. إنها لا تلبث حتى تتحول فى أيديهم إلى أسلحة مهلكة..
قوله تعالى: «فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
هو تنبيه لهؤلاء الضالّين، وإشارة مضيئة تطلع فى ليلهم المطبق عليهم، رجاء أن يتوبوا إلى الله، ويستقيموا على طريق الحقّ، فإن فعلوا رشدوا وأمنوا، وإن أبوا، ضلوا وهلكوا، وأخذهم الله بالعذاب الأليم فى الدنيا، بما يصيبهم على يد المؤمنين من خزى وبلاء، وبعذاب السعير فى الآخرة، حيث لا ولىّ لهم، ولا نصير، يردّ عنهم بأس الله الواقع بهم.
الآيات: (75- 80) [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 80]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)(5/848)
التفسير: هذا صنف آخر من أصناف المنافقين، ووجه كريه من وجوه النفاق.. يكشف عنه- اقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» .
إن هذا الصنف من المنافقين، يلقى الله فى حال العسر والضيق، مستكينا مستسلما، ويبسط إليه يده، ضارعا طامعا، يتمنى على الله أن يبسط له فى الرزق، وأن يملأ يديه من المال، وأنه إذا استجاب الله له فيما طلب، بسط يده بالعطاء والإنفاق فى وجوه الخير، وشغل قلبه ولسانه بالحمد والشكران لله ربّ العالمين..
هذا موقف من مواقف المنافقين مع الله.. حين يمسّهم الضرّ، وينزل بهم العوز، ويصيبهم الفقر..
فماذا يكون منهم إذا كشف الله ما بهم من ضرّ، وصرف عنهم العوز والفقر، ووسع لهم فى الرزق، وأفاء عليهم من فضله؟.(5/849)
هنا يغلب عليهم طبعهم اللئيم، فإذا هم على طريق النفاق، ينقضون العهد الذي عقدوه مع الله، ويتحلّلون من الوفاء به! «فلمّا آتاهم من فضله بخلوا به» أي ضنّوا بهذا الفضل الذي هو من عند الله، على الإنفاق منه فى سبيل الله.
«وتولّوا وهم معرضون» أي نكصوا على أعقابهم، وأعرضوا عن الحق الذي لزمهم.
«فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ» أي تبعهم النفاق، وركب معهم الطريق الذي ركبوه، مبعدين عن الله، مطرودين من رحمته «إلى يوم يلقونه» أي سيصحبهم هذا النفاق إلى يوم القيامة، حيث يطلع عليهم هذا النفاق بوجهه الكريه، ليقف معهم بين يدى الله، وليكون شاهد إدانتهم، ورفيق طريقهم إلى عذاب السعير «بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» أي هذا النفاق الذي لبسهم، واشتمل عليهم، وأصبح بعضا منهم، هو الثمرة الخبيثة التي أثمرها إخلافهم وعدهم لله، وقولهم بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، وهم يحسبون أن الله- سبحانه- محدود القدرة، محدود العلم، وأنه إذا لم يشهد شهود عيان هذا العهد الذي عاهدوه عليه، لم تقم عليهم حجة، وكان لهم أن يمكروا به، وينكروا العهد الذي أعطوه من أنفسهم له؟.
وهذا عدوان على الله، أوقعهم فيه سوء فهمهم وتقديرهم لجلال الله، وعظمته، وقدرته وعلمه.. ولهذا أنكر الله عليهم سوء ظنهم به، وخطأ تصورهم لكمال صفاته، فقال سبحانه: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .. ولو أنهم علموا هذا واستيقنوه، لما كان منهم هذا الظنّ السيّء، الذي زيّن لهم التحلّل ممّا عاهدوا الله عليه، فيما حكاه القرآن عنهم من قولهم: «لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ» ..(5/850)
والسرّ: ما أسرّه الإنسان فى نفسه ولم يطلع عليه غيره، والنجوى:
ما ناجى به غيره من حديث، وأفضى به إليه فى سر.. وأصل النجوى، والنجوة: المكان المرتفع الظاهر للعيان.
ويذكر المفسّرون فى سبب نزول هذه الآيات، أن أحد أصحاب رسول الله، واسمه ثعلبة بن حاطب، كان من فقراء المسلمين، وممن يلزمون الجماعة والجمعة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حدثته نفسه أنه لو كان من الموسرين لأرضى الله ورسوله بما ينفق فى سبيل الله، ولما فاته هذا الفضل الذي سبقه إليه أولئك الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقنى مالا!. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ثعلبة.. قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه. أمالك فى رسول الله أسوة؟» ثم عاد إلى النبي يسأله أن يدعو الله له أن يرزقه مالا، وأن لو استجاب الله له ورزقه المال الذي يطلب، لأعطى كل ذى حق حقه من هذا المال.. فقال الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: «اللهم ارزق ثعلبة مالا..»
قالوا: وقد رزق ثعلبة مالا كثيرا.. وكان ماله من الغنم، فتكاثر ونما حتى ضاقت به المدينة، فخرج إلى البادية، وشغله ذلك عن حضور الجماعة والجمعة فى مسجد رسول الله، وتفقّده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده فى أصحاب الجماعة والجمعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ويح ثعلبة!» ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّال الصدقة ليأخذوها من أهلها، فلما جاء عامل الصدقة إلى ثعلبة، وعرف القدر المطلوب منه للصدقة استكثره، وأنكره وقال: ما هذه الصدقة، بل هى الجزية أو ردّ العامل، قائلا له: أنظرنى لأرى!! وحين لمغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من ثعلبة، قال:(5/851)
«يا ويح ثعلبه.. يا ويح ثعلبة» .. ثم نزلت هذه الآيات.
قيل، وجاء ثعلبة بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال له رسول الله: «إن الله منعنى أن أقبل منك» فجعل يحثوا التراب على رأسه، فقال رسول الله: «هذا عملك! قد أمرتك فلم تطعنى» .. ثم لما توفّى رسول الله، جاء بالصدقة إلى بكر، فلم يقبلها منه، ثم جاء بها إلى عمر فى خلافته فردّها.. ثم هلك فى خلافة عثمان!.
وليس ثعلبة وحده- إن صح ما روى فيه- هو الواقع تحت حكم هذه الآيات، بل هو حكم واقع على كل من نكث مع الله عهدا.. وما أكثر الناكثين عهود الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» (21- 23: يونس) قوله تعالى: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» اللّمز: القرص، والغمز، بالكلمة الجارحة، يرمى بها فى موارية..
تلويحا لا تصريحا.(5/852)
والمطوّعين: جمع متطوع، وهو الذي يأتى بعمل الخير من تلقاء نفسه، تطوعا، غير مطالب به.. وهو يثاب عليه إذا فعله، ولا يعاقب إذا تركه..
وأصل المطّوع- لغة- المتطوع.. قلبت التاء طاء وأدغمت فى الطاء.
والجهد: هو غاية ما فى وسع الإنسان، وطاقته، واحتماله..
والآية هنا، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وعن سلاح من أسلحتهم الخفية، التي يضربون بها فى كيان المجتمع الإسلامى..
فهذه الجماعة من المنافقين، لم يكفها أنها كفّت يدها عن الجهاد فى سبيل الله، وغلّتها عن الإنفاق فى وجوه الخير، بل جعلت تترصّد المنفقين فى سبيل الله، وتتخذ منهم مادة للهزء والسخرية، سواء المكثرون منهم والمقلّون..
فالذين بسط الله لهم فى الرزق من المؤمنين، فبسطوا أيديهم بالبذل فى سبيل الله، وجاءوا بالكثير من أموالهم إلى رسول الله، يضعها حيث يشاء- هؤلاء هم عند الجماعة المنافقة مراءون، لا يطلبون بما أنفقوا إلا أن يظهروا فى الناس، وإلا أن يكونوا حديث المتحدّثين! وأمّا الذين قصرت أيديهم عن العطاء الكثير من المؤمنين، فأعطوا ما وسعهم الجهد، وجاءوا بما ملكت أيديهم- فإنهم لم يسلموا من تلك الألسنة المنافقة، إذ جعلوا منهم مادّة سخرية واستهزاء وتندر، فيقولون فيما قالوا:
ماذا تغنى الحفنة من التمر التي جاء بها فلان؟ وما جدوى هذه الكسرات من الخبز التي قدمها فلان؟ وما هذا الثوب الخلق الذي بذله فلان؟ .. إن هؤلاء لم يفعلوا ما فعلوا من هذا العبث إلا ليذكروا مع المتصدّقين، وإلا ليذكّروا بأنفسهم إذا وقعت للمسلمين غنيمة، وأصابهم خير!.
وهكذا، يكيد المنافقون للإسلام، ويحاولون جاهدين أن يفسدوا كل صالحة فيه.(5/853)
وفى قوله تعالى: «سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو دفاع من الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين، الذين سخر منهم المنافقون.. وفى هذا تكريم للمؤمنين المنفقين، وإيذان منه- سبحانه- بأنّه تقبل صدقات المتصدقين، قليلها وكثيرها، وأنه- سبحانه- هو الذي يتولىّ حماية هذه الصدقات وحماية أصحابها من كل سوء.. فإذا سخر ساحر من الصدقات، واستهزأ بأهلها، سخر الله منه، واستهزأ به.. إنه عدوّ لله. محارب له، وحسب من يعادى الله ويحاربه، ضياعا، وهلاكا، وسوء مصبر!.
قوله تعالى: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» هو تيئيس لهؤلاء المنافقين من رحمة لله، وقطع لطريق النجاة من العذاب الذي أعدّه الله لهم..
إنّه لن ينقدهم من الله منقذ، ولن يشفع لهم شفيع.. حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو من هو عند الله- لن تقبل شفاعته فيهم، ولن يستجاب استغفاره لهم، ولو حرص النبىّ على هذا الاستغفار وبالغ فيه. وذلك لأنّهم كفروا بالله ورسوله، وحادوا الله ورسوله، ومن كان هذا موقفه مع الله ومع رسول الله، فلن يقبل الله فيه شفاعة، ولن يصرف عنه العذاب الذي رصده له..
وليس حصر الاستغفار بسبعين مرة، مرادا به أن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاوز هذا العدد، وخرج به عن قيد الشرط- جاز أن يغفر الله لهم..
وكلّا، فإن المراد بهذا العدد هو الدلالة على أن استغفار النبىّ لهم، لن يقبل من الله فيهم على أية حال، كثر العدد أو قلّ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:(5/854)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» فإن هذا معناه أنه لن يغفر لهم على أية حال..
سواء استغفر لهم النبي أو لم يستغفر لهم.. قلّ استغفاره لهم أو كثر! والخبر الذي يروى من أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية: «والله لأزيدنّ عن السبعين» هو خبر آحاد، لا يعوّل عليه هنا عند معارضته لصريح المفهوم من الآية الكريمة.. لأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يعلم ما فى هذه الآية من القطع بأن الله سبحانه لن يغفر لهم، ولن يقبل شفاعة شافع فيهم. فلا يعقل- مع هذا- أن يقول النبي هذا القول، بعد أن تلقّى هذه الآية. وكذلك الشأن فى الخبر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو علمت أنه لو زدت على السبعين مرّة غفر الله لهم لفعلت» ..
فإنه خبر لا يصحّ عن رسول الله.. لأنه فيه ما يشبه التحدّى لحكم الله!!.
الآيات: (81- 85) [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 85]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)(5/855)
التفسير: تكشف هذه الآيات عن وجه أولئك المنافقين، الذين تخلّفوا عن رسول الله فى غزوة تبوك، وتفضح الأعذار الكاذبة التي كانوا يعتذرون بها، وترسم للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- الأسلوب الذي يعاملهم به، والموقف الذي يقفه منهم..
وفى قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» تنديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله فى تلك الغزوة، وأن هذه الفرحة التي شاعت فى نفوسهم حين بدا لهم أنهم أفلتوا من هذا البلاء الذي ابتلى به المؤمنون فى هذه الغزوة.. من قلّة الزاد، وبعد الشّقة، ووقدة الحرّ- هذه الفرحة لن يهنئوا طويلا بها، بل ستعقبها حسرة وندامة، وعذاب شديد.
والمخلّفون: جمع مخلّف، وهو الذي بقي خلف القوم، وترك وراءهم..
وكأنه بهذا هو المتروك لا التّارك، والمخلّف لا المخلّف.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء الذي تخلّفوا هم مخلّفون! قد تركهم المجاهدون، وسبقوهم إلى حظهم من الخير الذي أراده الله لهم..
والمقعد: مصدر ميمى للفعل «قعد» أي فرح المخلفون بقعودهم.
و «خلاف رسول الله» : الخلاف ظرف بمعنى خلف، ووراء.. ويجوز أن يكون مفعولا له، بمعنى: لأجل خلافهم لرسول الله.
وقوله سبحانه: «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معطوف على قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى فرحوا بقعودهم بعد رسول الله، وكرهوا، أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله..
وقوله تعالى: «وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» معطوف على ما قبله، من فعلات هؤلاء المخلّفين.. بمعنى أنهم فرحوا بتخلفهم، وكرهوا أن يجاهدوا، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ..(5/856)
وقولهم: «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» قد يكون من حديث بعضهم إلى بعض، وتحريض بعضهم لبعض على ترك الجهاد فى الحرب، وذلك ليكثر عددهم، وتقوى جبهتهم، وليكون للمتخلف منهم وجه من العذر، بكثرة المتخلفين غيره.
وقد يكون هذا القول منهم على إطلاقه، يقولونه لكل من يلقاهم من المؤمنين، ليفتّروا به الهمم، ويكسروا العزائم، حتى لا يجتمع على دعوة النبىّ للجهاد، الجيش الذي يخرج به فى هذه الغزوة.. وبهذا لا ينكشف أمر المنافقين الذين عقدوا العزم على التخلّف عن الغزو، حيث لا يخفّ أحد للجهاد، إذا صحّ ما قدّروه، وعملوا له، من إشاعة الدعوة فى الناس، بألّا ينفروا فى الحرّ.
وقوله سبحانه: «قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» هو ردّ مفحم على هذه القولة التي تنادى بها المنافقون بقولهم: «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» .. فإن تركهم النفير فى الحرّ يوقعهم فى حرّ أشد هولا من هذا الحرّ، الذي يعتبر بردا وسلاما إذا قيس بحر جهنم.. فلو أنهم عقلوا هذا، وفقهوه، لما اشتروا عذاب الآخرة بلفحات الهجير هذه، التي يخشون لقاءها فى طريقهم إلى الجهاد..
ولكنهم قوم لا يفقهون..
وقوله تعالى: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لهؤلاء المنافقين، الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ.. إنهم لن يهنؤهم هذا الفرح، ولن يطول مقامهم فى ظل هذه العافية التي هم فيها.. فما هى إلا أيامهم الباقية لهم فى هذه الدنيا، ثم إذا هم فى العذاب الأليم الدائم، لا يفترّ عنهم وهم فيه مبلسون..
وقوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» .(5/857)
هو بيان من الله سبحانه للنبىّ، فى موقفه من المنافقين، إذا هو رجع من غزوته تلك.. فإن من هؤلاء المتخلّفين من تخلّف لا عن شك فى دينه، أو ارتياب فى عقيدته، ولكن قعد به فتور همته أن يلحق بالركب، وأن يجمع عزمه المشتت، ليقطع حبال التردد العالقة به، فلمّا أن فاتته الفرصة، ولم يعد فى استطاعته أن يلحق بالجيش المجاهد، استبدّ به الندم، واستولت عليه الحسرة، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. ومن هؤلاء المتخلفين من تخلّفوا عن نية فاسدة، وعقيدة منافقة، ودين مريض.. فهؤلاء هم المنافقون حقّا، وهم الطائفة التي أشار إليها قوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» .. إنّهم يريدون أن يحتفظوا بمكانهم فى المسلمين، وأن يأخذوا موقفهم مع المجاهدين، وذلك بأن يتخيّروا الزمان والمكان اللذين يخرجون فيهما مع المجاهدين.. فإذا كانت الشقة بعيدة، والحرّ شديدا أو البرد قارصا، تبطّئوا، وجاءوا بالمعاذير والعلل، وإن كانت الشقة قريبة، والمغانم دانية، أخذوا مكانهم فى صفوف المسلمين.
وفيهم يقول الله تعالى: «لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (42: التوبة) .. وليست هذه سبيل المؤمنين المجاهدين، وإنما سبيلهم قائمة على نيّة منعقدة أبدا على الجهاد والاستشهاد فى سبيل الله، ومن كانت تلك سبيله، وهذه غايته، فإنه لا ينظر إلى نفسه، ولا يعمل حسابا لمغنم أو مغرم، وإنما حسابه كلّه مضاف إلى الانتصار لدين الله، والإعزاز لكلمة الله.
ولهذا ردّ الله سبحانه هؤلاء المنافقين، ومحا اسمهم من ديوان المجاهدين، وأمر نبيّه الكريم أن يبعدهم عنه، وأن يعزلهم عن مجتمع المسلمين المجاهدين،(5/858)
وأن يكون ردّه عليهم إذا استأذنوه لقتال معه: «لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوّا» .. هكذا يلقاهم النبىّ بهذا الحكم القاطع، الذي لا استثناء فيه، ولا رجوع عنه.. «إنكم رضيتم بالقعود أول مرة» . أي أول مرّة دعيتم فيها للجهاد دعوة ملزمة لا تحل منها، وذلك فى غزوة تبوك التي ندب النبىّ لها المسلمين جميعا، كما أمره الله سبحانه وتعالى بذلك فى قوله: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..» (41: التوبة) . فهذه أول مرّة يدعى فيها المسلمون دعوة عامة للجهاد بكل ما يملكون من أنفس وأموال..
وفى قوله تعالى: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - ما يكشف عن شناعة جرم هؤلاء المنافقين، وفظاعة الجناية التي جنوها على أنفسهم.. ولهذا، فإن الصلة التي بينهم وبين المؤمنين قد انقطعت انقطاعا تاما فى الحياة، وفيما بعد الحياة، حتى لو مات ميّتهم لم يلتفت المسلمون إليه، ولم تعطفهم عليه عاطفة رحم أو رحمة.. وقد نهى الله النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يصلى على أحد من موتاهم أو يقوم على قبره، داعيا له مستغفرا.. وهو نهى للمسلمين جميعا، فى جميع الأحوال والأزمان أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.. أحياء أو أمواتا. «إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» أي إنهم كانوا على كفر بالله وبرسوله، وقد ماتوا على هذا الكفر.. فلا ينالهم الله برحمته، ولا يرحمهم الراحمون..
وقوله سبحانه: «وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» - هو تحقير لهؤلاء المنافقين، واستخفاف بما كان لهم فى الدنيا من مال وأولاد.. فإن كثرة هذه الأموال، وهؤلاء(5/859)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
الأولاد، لم تكن مبعث سعادة ورضى لهم فى دنياهم، كما يبدو ذلك من ظاهر الحال، ولكنها كانت مثار قلق دائم، وإزعاج متصل لهم، لأن عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أراهم كلّ الذي بين أيديهم، هو فى معرض الهلاك والزوال، لا يلتقون به بعد هذه الحياة، بل ولا يلتقون بأنفسهم بعد أن تحتويهم القبور، ويشتمل عليهم التراب.. فهم فى هذه الحياة، يختطفون اللذات اختطافا، ويختلسونها اختلاسا، بلا أمل فى غد، ولا رجاء فيما بعد غد.. وأنهم كلّما كثرت أموالهم وأولادهم كلّما ازدادت همومهم، وثقلت عليهم مئونة حراستها، ودفع غائلة العدوّ الراصد لها ولهم، وهو الفناء الأبدى، والقطيعة القاطعة بينها وبينهم.
وقوله تعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» هو من البلاء المسلط عليهم من أموالهم وأولادهم، إذا كانت هذه الأموال والأولاد من الأسباب التي مدّها الله لهم، لتحجبهم عن الإيمان، وتقيمهم على طريق الكفر، فيعيشون به، ويموتون عليه. إذ كان شغلهم بأموالهم وأولادهم مما أعمى بصيرتهم عن النظر إلى ما وراء الأموال والأولاد..
وفى قوله سبحانه، فى هذه الآية: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» وقوله فى الآية التي قبلها: «وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - إشارة إلى أن الكفر والفسق من واد واحد، وأن الكافر فاسق، والفاسق كافر.. إذ الفسق هو الخروج عن طريق الحقّ، والمشاقّة لله ولرسوله وللمؤمنين، وذلك هو الكفر كله.
الآيات: (86- 89) [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)(5/860)
التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» .
أولو الطول: الطول: من طال الشيء بطوله، أي قدر عليه وتمكن منه.. وأولوا الطول: هم أصحاب القدرة التي تمكن لهم من بلوغ ما لا يستطيع غيرهم بلوغه، يجاههم، وسلطانهم، وأموالهم..
والآية الكريمة، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وتفضح طائفة أخرى من طوائفهم، وهم أصحاب الرياسة، والسيادة، والقدرة فيهم..
هؤلاء المنافقون «إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» أي إذا أنزل قرآن يحمل إلى المؤمنين أمرا من الله سبحانه وتعالى، يذكرهم بالإيمان بالله، ويدعوهم إلى الجهاد مع رسول الله.. «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» أي بادر أصحاب الطول هؤلاء، إلى التحلل من هذا الأمر، بالاعتذار إلى رسول الله، واستئذانه فى أن يعفيهم من إجابة هذه الدعوة، والجهاد فى سبيل الله..
وفى قولهم «ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» ما يكشف عن استخفافهم بأمر الله، واسترواحهم للتحلل منه، حتى ليهنؤهم المقام، وتطيب لهم الحياة، فيقعدون مع القاعدين، ويسمرون مع السامرين.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ»(5/861)
أي قد سولت لهم أنفسهم أن يكونوا مع الخوالف، ممن لا طول لهم ولا حول، من المرضى، والزّمنى، وأصحاب العاهات والعلل، والأطفال، والنساء، والإماء، والعبيد- رضوا أن يكونوا مع هذه الطوائف من الناس، وهم أصحاب طول وحول، لم يكن يرضيهم أبدا أن يكون بينهم وبين هذه الطوائف أمر جامع، أو صفة مشتركة.. فكيف وهم أصحاب الحول الطول ينزلون إلى هذا المستوي الذي يضيفهم إلى مجتمع الصبيان والعبيد؟ ولكن هكذا أرادوا أن يكونوا، وهكذا صنعوا بأيديهم هذا الثوب الذي لبسوه..
ثوب الصّغار والامتهان.
وفى قوله سبحانه: «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» إشارة إلى أنهم وقد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه- لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم فى عمى، وقلوبهم فى غفلة، وعقولهم فى ضلال.
وقوله تعالى: «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هو عرض للوجه الآخر المشرق الوضيء من وجهى هذا الموقف.. من أمر الله بالإيمان، ودعوته إلى الجهاد..
فإذا كان المنافقون، وأصحاب الطول فيهم، قد نكصوا على أعقابهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فإن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والذين آمنوا معه، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. فما أن دعاهم الله ورسوله إلى الجهاد حتى طاروا إليه سراعا، ونفروا خفافا وثقالا.
وإذا كان المخلّفون قد ألبسهم لله بتخلفهم ثوب الخزي ولذلة، فإن رسول الله والمجاهدين معه، قد تلقاهم الله حفيّا بهم، موسعا لهم فى رحاب فضله ورضوانه، فملأ أيديهم من المغانم، وكتب لهم النصر على عدوهم، ومكن لهم فى الأرض،(5/862)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
وأعدّ لهم فى الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار.. ورضوان من الله أكبر..
ذلك هو الفوز العظيم..
وفى قوله تعالى: «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ» .. العطف هنا بالواو، إشارة إلى ما للرسول والمؤمنين المجاهدين معه، عند الله، من أوصاف كريمة، غير تلك الأوصاف التي وصفها الله بهم، وأن ما وصفوا به هنا ليس إلا من قبيل التنويه والإشارة إلى تلك الأوصاف التي لا تحصر، وإن كان ذكر قليلها يغنى عن كثيرها، لأنها كلها من باب واحد، هو باب الخير والإحسان.. ويكون من مفهوم الآية الكريمة.. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.. أولئك رضى الله عنهم، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
وفى تكرار الإشارة إلى الرسول والمؤمنين المجاهدين فى قوله تعالى:
«وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» تأكيد للتنويه بهم، وتقرير لدرجتهم العالية، ومنزلتهم الكريمة التي أنزلهم الله إياها.. كما أن فى ذلك إشارة إلى أن مقامهم هذا الرفيع الذي هم فيه، لا تبلغه الإشارة التي يقصر عنها النظر، وأنه لكى يمكن أن يرتفع النظر إلى هذا المستوي، ينبغى أن يكون ذلك على مراحل يقطعها صعدا فى الوصول إليهم.
«أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ» .. فانظر إليهم.. إنهم هنا! لا.. إنهم هناك.. ولا.. إنهم فوق هذا.. «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» فارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير!
الآيات: (90- 92) [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)(5/863)
التفسير: قوله تعالى: «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» «الواو» فى قوله تعالى «وجاء» تصل ما انقطع من حديث القرآن عن المنافقين، وما كشف من وجوههم المنكرة، وما فضح من أساليبهم المخادعة المضللة..
والفعل «جاء» فى امتداد مقطعه هكذا «جاء» وفى تذبذب أنغامه بين همس «الواو» وجهر الجيم، وخطف الهمزة- برسم صورة مكتملة الألوان والظلال للمنافقين، وهم فى طريقهم إلى النبىّ، متحاملين متثاقلين، تدور أعينهم هنا وهناك، حذرا من أن تفضحهم أعذارهم التي بين أيديهم، يسوقونها إلى النبىّ، ويدفعون بها فى خوف وخطف واضطراب..
ثم هم فى موكبهم الطويل إلى رسول الله أنماط مختلفة..
منهم.. السفيه الوقح، الذي لا يعرف الحياء وجهه.. فيجىء خفيفا مسرعا، يبادر القوم قبل أن يسبقوه، فيأخذوا عليه الطريق إلى ما يعتذر به، إذ كانوا قد استنفذوا الأعذار بين يدى رسول الله..
ومنهم من لا يعرف له عذرا.. ولكنه لا بدّ أن يعتذر، لأنه لا يريد أن يكون فى المجاهدين.. فيمشى إلى النبيّ متثاقلا متحاملا.. حتى تنكشف له وجوه الأعذار التي يعتذر بها المعتذرون، لعله يقع على واحد منها!! ومنهم من يقطع الطريق إلى النبىّ ولا يبلغه، بل يقف بعيدا يتسمّع الأنباء عن المعتذرين وما يعتذرون به وما يقوله النبىّ لهم! ومنهم.. ومنهم..(5/864)
إنهم أشكال متعددة، وأنماط مختلفة.. ولكنهم جميعا على طريق النفاق سائرون، وعلى نية التخلف عن الجهاد قائمون..
«وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» ..
والمعذّرون هم أصحاب الأعذار ومختلقوها.. فخلق الأعذار واصطناعها هو عملهم، والصفة الغالبة عليهم.. كما يقال: المهندسون، والمعلمون.. فهم صناع الأعذار، لا صنعة لهم غير هذا..
والأعراب: جمع أعرابى، وهم سكان البادية.
وانظر فى وجه النظم القرآنى، يشهدك على هؤلاء الأعراب، وقد جاءوا من شتى الجهات، بعد أن سمعوا دعوة الرسول إليهم بقوله. «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - جاءوا لا لينتظموا فى صفوف المجاهدين، ولا ليقاتلوا فى سبيل الله، وإنما جاءوا ليعتذروا عن الجهاد، وليقدموا من المعاذير ما فى جهدهم، كما يقدم المجاهدون فى سبيل الله أموالهم وأنفسهم!! فما أتعس هذا المجيء، وما أشأم ذلك السعى! قوله تعالى: «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» هو الوصف الذي وصف به أولئك المعذّرون، والسّمة التي وسموا بها.. فهم الذين قعدوا متخلفين عن الجهاد، وهم الذين افتروا الكذب على الله ورسوله، بهذه الأعذار التي اختلقوها وجاءوا إلى النبىّ بها..
وفى هذا الخبر تهديد ووعيد لهم.. إذ ليس مرادا به الإخبار عنهم، وأنهم قعدوا، وإنما هو خبر يكشف عن جريمة غليظة، ويحدّث عن منكر عظيم..
وفى قوله تعالى: «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» حكم عليهم بالإدانة، وبأن هذه الأعذار التي اعتذروا بها إنما هى محض كذب وافتراء.. إذ هم الذين كذبوا الله ورسوله.. وقد عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر، ليعرضوا هذا العرض الكاشف عن كذبهم، ويسمعوا حكم الله عليهم..(5/865)
وقوله سبحانه: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو بيان للجزاء الذي أحذ به هؤلاء المعذّرون الذين كذبوا الله ورسوله، وأنهم جميعا من أهل الكفر، ولا مثوى للكافرين غير النار وعذاب السعير.
وحرف الجرّ فى قوله تعالى: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» للبيان، لا للتبعيض.
فكل هؤلاء المعذّبين من الكافرين فليس فيهم كافر وغير كافر، بل كلهم كافرون.
أما أصحاب الأعذار الحقيقة فقد أغناهم الله سبحانه وتعالى عن أن يقفوا هذا الموقف، فعذرهم لله قبل أن يعتدروا، ورفع عنهم الحرج، فى قوله تعالى:
«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» فهؤلاء أصحاب أعذار ظاهرة، ينطق بها لسان الحال، قبل أن ينطق بها لسان المقال.. فالشريعة الإسلامية قائمة على اليسر، ورفع الحرج عن المؤمنين، فلا إعنات فيها، ولا مشقّة أو عسر فى تكاليفها.. «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.»
فالضعفاء.. من شيوخ، وأطفال، ونساء، وعبيد وإماء، والمرضى وأصحاب العاهات المانعة من السفر والقتال- هؤلاء جميعا ومن فى حكمهم لا حرج عليهم فى أن يتخلفوا عن ركب المجاهدين، «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» أي إذا كانت(5/866)
قلوبهم سليمة عامرة بالإيمان، تربط مشاعرهم بمشاعر المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله.. فهم مع المجاهدين بمشاعرهم كلها. يدعون لهم بالنضر، ويتمنون لهم الغلب والسّلامة، ويخلفونهم فى أهلهم، ويقومون على رعاية أبنائهم وأزواجهم، وقضاء حوائجهم، ورفع الضرّ عنهم، ومواساة من أصيب منهم فى أب، أو أخ، أو زوج، إلى غير ذلك ممّا يبعث فى نفس المجاهد الطمأنينة، ويطلق يديه كليهما، ووجوده كلّه، للعمل فى ميدان المعركة، ومواجهة العدوّ..
وبهذا يكون المؤمنون جميعا فى ميدان المعركة. سواء منهم من شهدها وحارب فيها، أو من تخلّف، بما معه من عذر، ونصح لله ورسوله، فى سلوكه الطيب، مع من يخلّفهم المحاربون وراءهم من أهل وولد، وفى مشاعره المتجهة إلى المجاهدين فى ميدان القتال، والدعاء لهم بالنصر وتمنّيه لهم..
وقوله تعالى: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» إشارة إلى أن هذا الذي يبدله المتخلفون من ذوى الأعذار، من نصح لله ورسوله، وراء جبهة القتال، هو غاية ما فى مستطاع هؤلاء المتخلفين، وهو ميدانهم الذي يكون لهم فيه عمل وإحسان.. «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» . فإذا أعطى المؤمن- فى باب الإحسان- ما وسعته نفسه، فهو فى المحسنين..
وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة أيضا إلى أن الذي يوجّه نفسه للإحسان، ويعمل له، هو محسن، وإن قصّر فيما عمل، ولم يبلغ غاية الإحسان.. فرحمة الله واسعة، ومغفرته شاملة، يتقبل من المحسنين أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» (16: الأحقاف) .
وقوله تعالى: «وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا(5/867)
ما يُنْفِقُونَ»
- هو معطوف على قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى..» أي ليس حرج على هؤلاء الذين أتوك لتحملهم، أي تهيىء لهم مركبا ينقلهم إلى ميدان الجهاد.. والخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه جماعة من فقراء المسلمين، صحّت نيتهم على الغزو والجهاد، ولكنهم عجزوا عن أن يجدوا مركبا يركبونه، فجاءوا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحملهم معه فى جيش المجاهدين، ولم يكن بين يدى النبىّ، ولا فى جيش المسلمين ما يحملهم عليه، فقال لهم- صلوات الله وسلامه عليه: «لا أجد ما أحملكم عليه» .. فامتلأت نفوسهم أسى وحسرة، وفاضت دموعهم ألما وحزنا، أن فاتهم حظهم من الجهاد، وإن لم يكن فى أيديهم ما ينفقونه فى سبيل الله، وفى إعداد المركب الذي يحملهم مع المجاهدين: «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .. وهؤلاء هم الذين عرفوا فى المسلمين بالبكائين.
وإذا كان بكاء الرجال مذموما فى كل موطن، إلّا أنه هنا فى هذا المقام- مقام التعامل مع الله- محمود غاية الحمد، بل ومطلوب من المؤمن أن يكون هنا حاضر الدمعة غزيرها.. وفى الحديث: «إن لم تبكوا فتباكوا» ..
فالدمعة هنا دمعة عزيزة على الله، لا تقع على الأرض، كما تقع دموع الباكين، فتضيع بددا.. وإنما تتلقاها ملائكة الرحمن، فإذا هى نهر جار من نور، يغمر فيه صاحبها، فإذا هو خلق من نور، أصفى من الجوهر، وأضوأ من شمس الضحى، يقول الرسول الكريم: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله..» .
تم الجزء العاشر، ويليه الجزء الحادي عشر.. إن شاء الله المؤلف(5/868)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
[الجزء السادس]
[تتمة سورة التوبة]
الآيات: (93- 99) [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 99]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
التفسير: فى الآية السابقة على هذه الآيات، رفع الله الحرج عن الضعفاء والمرضى، وعن الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا هم لم يكونوا فى موكب المجاهدين الذين يلقون العدوّ فى ميدان القتال، إذ كانوا ومعهم أعذارهم التي تحول(6/869)
بينهم وبين القيام بهذا الأمر الذي ندب الله سبحانه وتعالى المؤمنين له..
«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ... ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» .. (الآية 91) .
وفى هذه الآية: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ» اتهام ومؤاخذة لمن تخلّفوا عن الجهاد، ولا عذر لهم.. لأنهم قادرون- بأشخاصهم على أداء هذا الواجب المفروض عليهم، فهم ليسوا ضعفاء، أو مرضى، وهم قادرون بأموالهم على أن يجدوا الزاد الذي يتزودون به للسفر.. من طعام، وحمولة، وسلاح..!
وعلّة واحدة لا غير، هى التي قعدت بهم عن أن يكونوا فى المجاهدين، هى أنهم «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف» .. إنه لا شىء يقعدهم عن هذا الأمر إلا إيثارهم العافية والسلامة لأنفسهم، وإلّا ضنّهم بالمال وبالجهد عن البذل فى سبيل الله.. وذلك خذلان منهم لله، فكان أن خذلهم الله، «وطبع الله على قلوبهم» فلم يروا بها سوء ما هم عليه.. «فهم لا يعلمون» ما وقع عليهم من غبن فى هذا الموقف الذي وقفوه من أمر الله، والجهاد فى سبيل الله..
وفى مخالفة النظم لمقتضى السياق، فى قوله تعالى: «إنما السبيل» إذ كان من مقتضى السياق أن يكون: «إنما الحرج» - فى هذا ما يشير إلى ما بين الحالين من اختلاف..
فالضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون- هؤلاء ومن على شاكلتهم، واقعون تحت عفو الله، غير مطالبين بما هو مطلوب من أهل القوة والصحة والغنى.. فلا حرج عليهم، ولا جناح، إذا هم كانوا من المتخلفين..
أما هؤلاء الأغنياء الذين تخلّفوا عن قدرة، فهم فى مقام المؤاخذة، وفى معرض الجزاء والعقاب، ومن هنا كان السبيل مفتوحا، والطريق مكشوفا(6/870)
للجزاء الذي هم أهل له، وللعقاب الذي لا بدّ هو واقع بهم، إن عاجلا وإن آجلا ...
ويشهد لهذا المعنى، قوله تعالى: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» (42: الشورى) .. فهؤلاء الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق، قد عرّضوا أنفسهم للنقمة والبلاء، وإنّه لا عاصم لهم يدفع عنهم هذا البلاء الذي سيحل بهم.. وقوله سبحانه: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» (90: النساء) أي أن هؤلاء الكافرين الذين اعتزلوا القتال الذي بين المسلمين وبين الكافرين، وفاءوا إلى السّلم، ولم يبسطوا أيديهم أو ألسنتهم بأذى للمسلمين- فليس للمسلمين سبيل إلى قتالهم..
فانظر فى وجه هذا الكلام المشرق، تجد أنه كلام- وإن أخذ من أفواه الناس- قد نظمته بد القدرة، وجاءت به على هذا الإعجاز المبين.. فسبحان سبحان من هذا كلامه.
وقوله تعالى: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
هو إخبار للنبىّ والمؤمنين، وإنذار للمنافقين وذوى الأعذار الكاذبة، إخبار بما سيكون من هؤلاء المنافقين والمعذّرين حين يلقون النبىّ والمؤمنين بعد عودتهم من غزوة تبوك- بما لفّقوا من أعذار، وما نسجوا من أكاذيب، يبرّرون بها تخلفهم عن الجهاد مع المجاهدين.(6/871)
وقد أمر الله النبىّ والمؤمنين أن يبهتوا هؤلاء المعذّرين، وأن يفضحوهم على رءوس الأشهاد.. «لا تَعْتَذِرُوا.. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ» .. أي لن نصدّق ما تعتذرون به، ولن نقبله.. وليس هذا مما يشهد به حالكم، وتفضحه ألسنتكم وحسب، وإنما هو مما علمه الله منكم، وأطلع نبيّه عليه: «قد نبأنا الله من أخباركم» .
- وقوله تعالى: «وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» أي سيرى الله ورسوله ما يكون منكم بعد هذا من مواقف حيال الإسلام والمسلمين، من بغى وعدوان، ومخادعة ونفاق، أو مسالمة وسلام..
ومعنى الرؤية هنا، العلم القائم على واقع الحال..
وهذا ما جعل الرؤية معلقة على المستقبل: «وسيرى الله عملكم ورسوله» أي فى حال تلبّسهم بما يعملون. أما رؤية الله سبحانه فهى مطلقة تشمل الزمان والمكان جميعا..
- وقوله سبحانه: «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» تهديد لهؤلاء المعذّرين، بوضعهم تحت المراقبة التي لا تغفل، والتي تعلم سرّهم وجهرهم، وتأخذهم جميعا بما عملوا، فلا يفلت منهم أحد.
قوله تعالى: «سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .
يكشف عمّا فى وجوه المنافقين من صفاقة، وأنهم لا يكترثون كثيرا بما يحببهم به النبىّ والمؤمنون من ردّ وردع، ومن تكذيب وبهت..(6/872)
والمنافق لا يلبس أثواب النفاق إلّا إذا كان صفيقا، لا يعرف الحياء سبيلا إليه، ولو كان فى وجه المنافق شىء من الحياء، لما رضى لنفسه أن يلقى الناس بشخص غير شخصه، وبوجود غير وجوده! وليس هكذا شأن المؤمن بالله.. إنه بإيمانه بالله، واستناده إلى أقوى الأقوياء، لا يرى فى هذا الوجود قوة يخشى بأسها، أو يرهب سلطانها، مادام مستمسكا بالحق، مستقيما على طريق العدل والإحسان.. ورحم الله البوصيرى إذ يقول:
ومن تكن برسول الله نصرته ... إن تلقه الأسد فى آجامها تجم
فالاستنصار برسول الله، هو التمسك بالشريعة التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه، فذلك هو الإيمان بالله، والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ..»
وهكذا، كل من استقام على طريق الحق، يجد من نفسه القوة التي تنأى به عن سفساف الأمور، وترفعه عن الدنايا، فلا يأتى ما يخلّ بالمروءة، أو يشين الشرف..!
وليس هذا فى الإنسان وحده، بل إنه فى عالم الحيوان.. فالحيوان الضعيف، يقوّى ضعفه بالاحتيال والمخادعة.. على حين أن الحيوان القوى يأخذ فى حياته خطّا مستقيما واضحا.. وشتان بين الثعلب، والأسد.. فذاك من ضعفه مخادع مخاتل، وهذا من قوته ظاهر واضح. ذاك يأكل الجيف ولا يعافها، وهذا يعفّ عن أن يلوّث فمه بالميتة وإن هلك جوعا..!
وأكثر من هذا، فإن عالم النبات يجرى على هذا الأسلوب من الحياة..
الشجرة القوية، الطيبة، لا تأوى إليها الهوام، ولا تندس فيها الحشرات.. على حين(6/873)
أن الأشجار الواهية الضعيفة تكون مباءة للآفات، ومرتعا للحشرات والهوامّ..
وأكثر من هذا أيضا.. عالم الجماد تجد فيه هذه الظاهرة واضحة على أتمّها.. فالأرض الصلبة لا تشوّه وجهها الأخاديد والحفر..! والمرتفع من الأرض لا يكون مستودعا للمياه الراكدة، والمستنقعات.. وقمة الجبل لا تكون محطّا لخسيس الطير أبدا..
القوّة أبدا.. هى موطن السلامة والعافية، وهى مستودع الخير والحسن..
فإذا كانت القوة قوة منبعثة من إيمان يعمر القلب، ويغذّى الوجدان، كانت قوة كلّها خير، ورحمة، وإحسان.
والإيمان هو الزاد الذي يغذّى القوة الروحية فى الإنسان، ذلك الزاد الذي تتجمع عناصره من الأعمال الصالحة التي نمت فى ظل الإيمان، والتي تجمعها التقوى التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» فهؤلاء المنافقون الذين ردّهم النبىّ والمؤمنون، وفضحوا ما جاءوا إليهم به من أعذار- هاهم أولاء يجيئون إلى النبىّ والمؤمنين بوجه آخر من وجوه نفاقهم، يجيئون بأعذارهم تلك التي كذّبها الله، وفضحها النبىّ والمؤمنون، فيزكّونها بالحلف كما يذكّى الذابح البهيمة بالذبح، بعد أن تموت وتتعفّن!! وماذا يريدون بهذا الحلف الكاذب؟
يريدون أن يقبل النبىّ والمؤمنون أعذارهم، وأن يصدقوا منهم هذا الكذب المفضوح، وبهذا يتحقق لهم أمران:
الأمر الأول: عدم فقدان الثقة فى أنفسهم، وفى تلك البضاعة التي يتعاملون بها، لأنه لا وجود لهم إذا أفلت من بين أيديهم هذا الزاد الذي يعيشون فيه، وبارت تلك البضاعة التي هى رأس مالهم فى الحياة..(6/874)
وثانى الأمرين- وهو تبع للأمر الأول- أن يعرض النبىّ والمؤمنون عنهم، فلا يأخذونهم باللّوم، ولا يضعونهم موضع الاتهام..
وقد دعا الله النبىّ والمؤمنين أن يعرضوا عنهم، ولكن لا إعراض المصدّق أو المتسامح، بل إعراض المشمئز المتقزّز النافر من شىء كريه، تؤذيه رائحته: «إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. فإنهم لو سلموا من أذى النبىّ والمسلمين، فلن يسلموا من عقاب الله، ومن عذاب السعير المعدّ لهم..
قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» .
هو بيان لحلف يحلف به المنافقون، يريدون به أكثر مما يريده الذين حلفوا منهم، وكانوا يريدون به أن يعرض عنهم النبي والمؤمنون، فلا ينالوهم بأذى..
أما هؤلاء، فإنهم يبغون بحلفهم أن يرضى النبىّ والمؤمنون عنهم، وأن يخلطوهم بهم..!
وقد أيأس الله المنافقين من أن ينالوا بحلفهم هذا الرضا الذي طلبوه، وأنه حتى لو رضى النبي والمؤمنون عنهم- وهذا ما لا يكون أبدا- فلن يرضى الله عنهم: «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ»
..
قوله تعالى: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
تشير الآية الكريمة هنا إلى ما للبيئة من أثر فى طبيعة الإنسان، وفى رسم معالم شخصيته، وتحديد مواقفه من الحياة.(6/875)
والبادية، وما فيها من جفاف، وجدب وقسوة، قد طبعت الكائنات فيها- وبخاصة الإنسان- بطابعها الجاف الجديب القاسي.. وفى المثل: «من بدا جفا» .
ومن هنا كانت الطبيعة الحادّة فى نفس البدوىّ، ذاهبة به مذهب الغلوّ والتطرف..
فالمنافقون من أهل البادية على نفاق أشد وأسوأ من نفاق سكان الحضر..
وكذلك كفرهم.. هو كفر غليظ كثيف مغلق، لا تطلع عليه ضوءة من الحق أبدا، وإنهم لبعدهم عن مواقع الهدى من رسول الله، ومن المؤمنين، قد فاتهم خير كثير، إذ لم يعلموا ما بين يدى الله من دين الله، ومن شريعة الله.. ومن علم منهم شيئا من هذا، لم يعلمه علم تحقق ويقين..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» دعوة لهؤلاء الأعراب أن ينزعوا لباس البداوة، وأن يخرجوا من حياتهم تلك، إلى حياة الحضر، وأن يقتربوا من مواطن العلم والمعرفة، حيث يلقون رسول الله، ويأخذون عنه، ويخالطون المؤمنين، ويحذون حذوهم.. فالله سبحانه «عليم حكيم» ولا يعرف الطريق إلى الله، ويحسن التعامل معه، إلا أهل العلم والحكمة..
فالإسلام إذ يشنع على البداوة، وإذ يصم أهلها بالنفاق الكريه، والكفر الغليظ، والجهل الفاضح- الإسلام بهذا يدعو إلى العمران، ويحرض على المدنية، ويبغض إلى الناس العزلة والوحشة وقبول الحياة، كما هى، من غير معالجة لأشيائها، ووضع بصمة الإنسان العالم الحكيم عليها..
قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ(6/876)
بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»
الأعراب الذين دخلوا فى الإسلام على غير علم أو نظر، لم يكن لهذا الدين أثر فى نفوسهم، ولا لشريعته حساب فى ضمائرهم.. إنهم مسلمون، وليسوا مؤمنين، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» .. (14: الحجرات) هؤلاء الأعراب إذا دعوا إلى الإنفاق فى سبيل الله، بحكم أنهم مسلمون، تجب عليهم الزكاة، كما يجب عليهم الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الله- إذا دعوا إلى الإنفاق لم ينفقوا إلا تحت هذا الحكم الملزم لهم، لا عن طواعية واختيار، ولهذا يعدّون ما ينفقون فى هذا الوجه مغرما، لأنهم أنفقوه فى غير ما يشتهون، فهم لهذا ينظرون إلى الوجه الذي أنفقوه فيه نظر حقد وكراهية، ويتربصون بالمسلمين وبالمجاهدين الدوائر، أي يتمنون لهم الهزيمة والضياع، حتى لا يكون للإسلام يد عليهم تأخذ من أموالهم ما تأخذ من صدقات..
والدوائر جمع دائرة، وهى خط أشبه بالحلقة، يدور حول نقطة ارتكاز فى وسطه.. وقد استعيرت للشر يقع بالإنسان أو الجماعة، فى مجال الصراع مع قوة أخرى معادية، فيقال دارت عليهم الدائرة، أي هزموا، وذلك يعنى أنهم قد أطبق عليهم العدوّ وأحكم عليهم إغلاق طريق الإفلات أو الفرار، فكانوا وكأنّ العدوّ دائرة عليهم.
وقد ردّ الله على المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدائرة بقوله:
«عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» .. فقضى الله عليهم هذا القضاء، وتوعدهم به، وهو أن الدائرة التي ينتظرونها فى المسلمين، لن تقع فى المسلمين، الذين سيكتب الله(6/877)
لهم العزة والغلب، وإنما ستحلّ الدائرة بهؤلاء المنافقين، وسينزل بهم الخزي والسوء.
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» تهديد لهؤلاء المنافقين بمراقبة الله سبحانه وتعالى لهم، واطّلاعه على ما يسرّون وما يعلنون، وأنه سبحانه مؤاخذهم بما كانوا يكسبون..
قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ.. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
ليس الأعراب جميعا على حال سواء، فإذا كانت الصحراء تنبت الشوك والحسك، وتؤوي الوحوش والحيّات، فإنها تخرج العرار «1» والريحان، وتتحلّى بالظّباء والنّعام..
وإذا كان فى أعراب البادية، الجفاة، وأهل الوحشة والجهالة، فإن فيهم ذوى النفوس الرقيقة، والقلوب المتفتحة، والوجدانات الشفيفة.. التي تذوب رقة وعذوبة.. إن هؤلاء أشبه بالأنسام العليلة الرطبة، التي تهمس بها أنفاس الصحراء بين الحين والحين فى آذان الأصائل والأشجار، فتبعث الرّوح والعافية فى كيان الأحياء، التي كادت تهلك من لفحات الهجير، ووقدات السّموم! ..
ففى أعراب البادية الشعراء، والحكماء، وأصحاب الفراسة والألمعية التي تلمح بذكائها الفطري ما لا تلمحه العين المبصرة وراء المجهر، وتكشف بصدق حدسها وظنّها من خفايا النفوس، ما لا يكشفه عالم النفس بأدوات علمه، ومقاييس فنّه.
والذين دخلوا الإسلام من هؤلاء الأعراب، من ذوى النظر، والحكمة، قد عرفوا هذا الدّين معرفة كاشفة، فازدادت به بصائرهم استضاءة وتألفا،
__________
(1) العرار: نبت طيب الريح.(6/878)
واستروحت منه قلوبهم روح الطمأنينة واليقين.. فصحبوا هذا الدين صحبة المؤاخاة والمخالطة، وعايشوه معايشة الأمن والعافية، وأمسكوا به إمساك الأرض الطيبة هو اطل الغيث السّخىّ.. فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. فإذا أنفق هؤلاء المؤمنون من الأعراب نفقة فى سبيل الله احتسبوها قربات يتقربون بها إلى الله، ويبتغون بها مرضاته، ويلتمسون منها صلوات الله وبركات دعائه..
وفى قوله تعالى: «وَصَلَواتِ الرَّسُولِ» بالعطف على قوله سبحانه:
«قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» إشارة إلى أن صلوات الرسول، أي دعاءه لمن يقدّم له الصدقات، هى مما يتقرب به المتقربون إلى الله.. فهى صدقات إلى صدقاتهم، يضيفها الرسول إليهم لتزيد فى قربهم إلى الله..
فلقد، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يصلّى على المتصدق، أي يدعو له، بالخير، والبركة، وذلك امتثالا لقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» ..
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ» هو توكيد للمفهوم الضمنى الذي أفاده عطف صلوات الرسول على قوله تعالى: «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» .. فهذه الصلوات والدعوات من الرسول هى قربة لهم عند الله، بمعنى أن دعاء الرسول للمؤمن، يعنى رضا الرسول عنه، وهذا الرضا هو فى ذاته قربة عند الله للمؤمن، ينال به رضا الله ومغفرته، سواء أكان دعاء الرسول ورضاه عن نفقة أنفقها المؤمن، أو عن كلمة طيبة قالها، أو مسعى حميد سعى به بين المسلمين، أو موقف كريم وقفه، أو مشهد حسن شهده.. وقد دعا الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لعثمان رضى الله عنه، حين أنفق ما أنفق فى تجهيز جيش العسرة فقال: «اللهم ارض عن عثمان فإنى أصبحت عنه راضيا» ! فكان عثمان بذلك أحد العشرة المبشرين بالجنّة.(6/879)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وقوله تعالى: «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو الجزاء الذي سيجزيه الله هؤلاء الذين أنفقوا فى سبيل الله، فنالوا رضا الله عنهم، ورضا رسوله، وصلواته عليهم..
الآيات: (100- 106) [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 106]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
التفسير: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ(6/880)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها تعرض صورة مشرقة للمؤمنين، الذين يتجلّى عليهم الله سبحانه وتعالى برضوانه، وينزلهم منازل فضله وإحسانه، وذلك بعد أن عرض فى الآية السابقة عليها صورة مضيئة، انبثقت من بين ظلام البداوة، وطلعت من مهابّ سمومها وهجيرها..
فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- هم الإنسانية الكريمة الوضيئة، يتمثل فيهم كل ما يمكن أن تعطيه الإنسانية من ثمر طيّب مبارك.. فهم من الإنسانية بمنزلة هذه القلّة من أعراب البادية، الذين خلصوا من كدر البادية، وسلموا من أدرانها وأوضارها..
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. هم الذين سبقوا إلى الإسلام، فكانوا الكوكبة الأولى التي تقدمت ركبه الميمون، وكانوا الكواكب الدّريّة التي بين يد فجره الوليد.. أولئك هم الذين حملوا أعباء الدعوة الإسلامية، واحتملوا- فى صبر ورضا- مواجهة العاصفة التي هبّت عليهم عانية مزمجرة، تحمل فى كيانها جهالة الجاهلية، وحماقاتها، وسفاهاتها، وعتوّها وضلالها.. فكان لهم عند الله هذا المكان الكريم، وتلك المنزلة التي اختصهم بها، وأفردهم فيها..
فمن أراد أن يلحق بهم ويضاف إليهم، فسبيله إلى ذلك أن يقفو أثرهم، ويتبع سبيلهم، ويحسن كما أحسنوا، ويبلى كما أبلوا.. فذلك هو الثمن لمن يطلب رضا الله، ويطمع فى أن يكون مع أحبابه وأصفيائه.. فيكون بهذا مضافا إليهم مع الذين اتبعوهم بإحسان.
وفى قوله تعالى: «بِإِحْسانٍ» هو قيد مؤكّد، يكشف عن الإحسان الذي يكون من متابعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتأسّى بهم..(6/881)
فمتابعتهم هى إحسان، وقوله تعالى: «بِإِحْسانٍ» هو توكيد لهذا الإحسان الذي تنطوى عليه المتابعة.. وهذا يعنى أن ما كان من السابقين من المهاجرين والأنصار، هو إحسان كلّه، فمن تابعهم، وتأسّ بهم على ما كانوا عليه، فهو محسن.. كل الإحسان!.
وقوله تعالى: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» هو عرض كاشف لمنزلة هؤلاء الصفوة من عباد الله، وأنّ الله رضى عنهم، بما كان منهم من إحسان، وأنّهم رضوا، بما أرضاهم الله به، ونعموا فيه..
وفى قوله تعالى: «وَرَضُوا عَنْهُ» رضوان فوق رضوان من عند الله، يحفّهم به، ويزيدهم نعيما إلى نعيم.. إذ جعل الله سبحانه وتعالى رضاهم عنه بما أعطاهم معادلا لرضاه عنهم، حتى لكأنه سبحانه وتعالى، يتبادل الرضا معهم، فيرضى عنهم، ويرضون عنه.. فسبحانه، ما أعظم لطفه، وما أوسع فضله، وما أكرم عطاءه، وأسبغ إحسانه! قرئ: «والأنصار» بالرفع. على الاستئناف..
وفى هذه القراءة يكون قوله تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ» مقصورا على المهاجرين وحدهم.. وهذه القراءة ينقضها التفسير العملىّ للآية الكريمة التي احتج بها أبو بكر رضى الله عنه على الأنصار، وجعلها مستنده فى تقديم المهاجرين على الأنصار، فقال فى خطبة «يوم السقيفة» مخاطبا الأنصار: «أسلمنا قبلكم، وقدّمنا فى الكتاب عليكم، فقال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء..
وهذا يعنى أن الأنصار شركاء للمهاجرين فى هذا الفضل، الذي تطلب الخلافة به، وأن المهاجرين إذا كانوا أولا، فالأنصار ثانيا، كما جاء ذكرهم فى(6/882)
القرآن الكريم: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» فذكر المهاجرون أولا، ثم الأنصار ثانيا..
وإذا كانت واو العطف النحوية لا تفيد ترتيبا، ولا تعقيبا، فإن واو العطف القرآنية، تفيد ترتيبا وتعقيبا.. هكذا دائما. فى كل مقام وقع فيه العطف بين متعاطفين أو أكثر..
وأما قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» .. فهو معطوف كذلك على ما قبله عطف نسق، بمعنى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوا السابقين من المهاجرين والأنصار، هم جميعا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعدّ لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. وإن كان ثمة تفاضل فهو فى الدرجة، وليس فى الرتبة.
والأنصار أعنى السابقين الأولين منهم، وهم الذين بايعوا النبىّ بيعتى العقبة.
الأولى والثانية قبل الهجرة، والذين استجابوا له، وأقاموا المجتمع الإسلامى الأول بالمدينة، وكانوا حصن الإسلام والمسلمين- هؤلاء جديرون بأن يشاركوا المهاجرين الأولين منزلتهم، وأن يزاحموهم بالمناكب عليها، وإن كان فضل الله أوسع وأرحب من أن يقع فى رحابه زحام أو صدام..
وكذلك الذين جاءوا من بعد المهاجرين الأولين والأنصار، وسلكوا طريقهم، وساروا سيرتهم، هم جديرون بأن يلحقوا بهذا الركب الميمون، وأن يكونوا منه غير بعيد..
فإذا كانت مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آيات النبوّة، ونفحات النبىّ، فسبقوا إلى الإيمان، ودانوا له، وأعطوه ولاءهم كاملا، حتى اشتمل عليهم ظاهرا وباطنا، وكان حريّابهم أن يبلغوا من الصفاء والشفافية واليقين ما بلغوا، مما تتقطع دونه الأعناق- إذا كان ذلك كذلك، فإن الذين(6/883)
يجيئون من بعدهم فى أجيال الإسلام المتعاقبة إلى يوم القيامة، ويؤمنون إيمانا أقرب إلى إيمانهم، ويأخذون سمتا مدانيا لسمتهم- هم أهل لأن يلحقوا بهم، وأن ينزلوا منزلتهم، إذ أنهم آمنوا وأحسنوا، ولا نبوة بين أيديهم، ولا نبىّ يملأ حياتهم هدى ونورا..
يقول ابن مسعود رضى الله عنه: «إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه..
والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم تلا قوله تعالى:
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هذا وقد جاء ذكر هؤلاء الصفوة من المؤمنين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- جاء ذكرهم على هذا الترتيب فى قوله تعالى: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (8- 10: الحشر) .
وهكذا الإسلام، طريقه مفتوح دائما لأصحاب النفوس الطيبة، والقلوب السليمة، والعزائم الصادقة، يرتادون فيه منازل الرضوان، وينزلون منها حيث(6/884)
يبلغ جهدهم، وتحتمل عزماتهم.. وهكذا يدخل المسلمون جميعا، بل الناس جميعا، تحت قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. ففى ذلك فليتنافس المتنافسون، ولهذا فليعمل العاملون.. قوله تعالى: «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» بعد هذه الصورة المشرقة التي عرضتها الآية السابقة لأهل السبق والإحسان وما أعدّ لهم من نعيم، وما أسبغ عليهم من رضا- جاءت هذه الآية لتعرض صورة معتمة طامسة، لأهل الزيغ والضلال، وتكشف عن وجوه منكرة للإنسانية حين تفسد فطرتها، وتشوه معالم إنسانيتها.. وذلك ليكون لهؤلاء المنافقين الضالين نظر فى أنفسهم، ورجعة إلى ربهم، إن كانت قد بقيت فيهم بقية صالحة لنظر واعتبار.
ففى الأعراب الذين حول المدينة منافقون، وفى المدينة ذاتها منافقون..
وهؤلاء وأولئك جميعا قد مردوا على النفاق، أي شبوا عليه، ورضعوا أخلاقه وهم شباب مرد، فمرنوا عليه، وخف عليهم محمله، إذ شب معهم وصار بعضا منهم، أشبه بالجارحة من جوارحهم..
وفى قوله تعالى «لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» تهديد ووعيد لأولئك المنافقين الذين برعوا فى النفاق، وصاروا أساتذة فيه، حتى لا يكاد يطلع عليهم أحد، وهم يتعاملون به، ويتعاطون كئوسه مترعة! ولكن الله يعلمهم، وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابهم ويأخذهم بذنوبهم، بل ويفضحهم فى هذه الدنيا، بما ينزل من آيات فيهم..
وقوله تعالى: «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» ..
اختلف المفسرون فى عذاب المنافقين مرتين.. ولم نجد عندهم ما نرضاه ونستريح إليه..(6/885)
ونقول- والله أعلم-: إن عذاب المنافقين مرتين هو فى النصر الذي يتحقق للإسلام، وفى المغانم التي تمتلىء بها أيدى المسلمين، هذا عذاب من أحد العذابين، الذي تتقطع به قلوب المنافقين كمدا وحسرة.. أما العذاب الآخر، فهو ما يصيبهم فى أنفسهم من بلاء على أيدى المؤمنين، حيث يجرفهم تيار الإسلام، ويزعج أمنهم وسلامتهم، ويخرجهم من ديارهم وأموالهم كما حدث مع اليهود..
أما العذاب العظيم الذي يردّون إليه بعد هذين العذابين، فهو عذاب الآخرة، «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (55: العنكبوت) قوله تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
هو إشارة إلى صنف آخر من الذين نافقوا فى غزوة تبوك، فتخلفوا عنها بأعذار ملفّقة، وتعللوا بتعللات كاذبة، وقد وقع فى أنفسهم النّدم على ما كان منهم، وجاءوا إلى النبىّ معترفين بذنوبهم، ومنهم الثلاثة الذين خلّفوا، والذين ذكرهم الله بعد ذلك فى قوله سبحانه: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» .
فهؤلاء المخلّفون، قد خلطوا عملا صالحا كان منهم قبل هذا التخلف، بآخر سيّىء، هو هذا التخلف عن رسول الله وعن المؤمنين فى غزوة تبوك..
- وفى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» دعوة لهم إلى المبادرة بالتوبة، والانخلاع مما تلبّسوا به من خلاف لله ولرسوله.
فإنهم إن أخلصوا نيّاتهم، وأخلوا قلوبهم من وساوس النفاق، ورجعوا إلى الله تائبين- كانوا بمعرض الصفح والمغفرة، فإنهم يطلبون الصفح والمغفرة من رب غفور رحيم.(6/886)
قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» - هو تحريض للمؤمنين عامة، ولهؤلاء المذنبين خاصة على البذل والإحسان فى سبيل الله، فإن إنفاق المال فى سبيل الله هو عدل الجهاد بالنفس، وهو تطهير للمتصدق، وتزكية له من الأوضار والآثام التي تعلق به.
- وفى قوله سبحانه: «مِنْ أَمْوالِهِمْ» إشارة إلى أن المطلوب بذله فى وجوه الإحسان من المال، هو بعضه لا كلّه، وفى ذلك رحمة بالناس.
- وفى قوله تعالى: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» - أكثر من إشارة:
فأولا: أن فى صلاة النبىّ على المتصدّق، ودعائه له، مجازاة عاجلة بالإحسان، يجد المتصدّق أثرها فى نفسه، وبردها على قلبه، فيشيع فى كيانه الرضا، وتملأ قلبه السكينة.
وهذا أدب ينبغى أن يتأدب المسلمون به، فيلقون إحسان المحسن بالحمد والشكران، فإن ذلك أقلّ ما يجزى به، والله سبحانه وتعالى يقول: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .. وبهذا تتفتح النفوس للخير، وتسخو الأيدى بالإحسان..
وثانيا: أن الإحسان فى ذاته جدير بأن يحمد للمحسن فى كلّ إنسان، سواء أصابه شىء من هذا الإحسان أم لم يصبه، فهو عمل طيب، وصنيع مبرور، وكما ينبغى على المؤمن أن ينكر المنكر لذاته، كذلك يجب عليه أن يحمد المعروف لذاته.. وبهذا يشيع فى الناس الخير، وتتكاثر أعداد المتعاملين به.(6/887)
والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إنما يدعو للمتصدقين، ويصلّى عليهم، لا لأنه يحتجز صدقاتهم لنفسه، ويضمها لذات يده، وإنما لأنها خير مبذول فى وجوه الخير، وبرّ مرسل فى سبيل الله..
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- قائم على رسالة الخير والبرّ.
هذا، وقد قيل فى سبب نزول هذه الآية: إن الثلاثة الذين خلّفوا، حين اعترفوا بذنوبهم، ونزل فى قبول توبتهم قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» ، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك، فخذها وتصدّق بها عنا، فقال النبىّ: «ما أمرت» فنزلت الآية: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» .
وهذا سبب غير واضح، وغير مناسب لهذا الموقف، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد كرّم هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا، وقبل توبتهم، وأنزل فى ذلك قرآنا، فكيف لا يقبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يقدّمون من صدقات؟ أليسوا مؤمنين؟ أليسوا ممن تجب عليهم الزكاة؟ أليسوا ممن يطلب إليهم الإحسان ويقبل منهم.؟
والذي نستريح إليه، هو أن الآية أمر مطلق ببذل الصدقات، وأن مناسبة ذلك هو ما عرض من آثام المنافقين وجرائمهم، فناسب ذلك أن يجىء الأمر بالدعوة إلى الزكاة، التي من شأنها تطهير الآثمين.. وفى توجيه الأمر للنبى صلوات الله وسلامه عليه بقبولها، تحريض للمسلمين على أدائها، وإشارة دالّة على اليد الكريمة التي تتناولها منهم، والجزاء الحسن الذي تجزيهم به..
وليس هذا فحسب، بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل منهم صدقاتهم، كما تشير إلى ذلك الآية التالية..(6/888)
قوله تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .. فى الآية وعد كريم من الله سبحانه وتعالى بأنه يقبل التوبة عن عباده. فيلقى التائب منهم بالقبول والمغفرة، ويتقبل ما يقدّم من صدقة.. وهذا ينقض ما قيل فى سبب نزول الآية: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» . كما أشرنا إلى ذلك من قبل.. فإن من قبل الله توبته، لم يردّ صدقته..
والاستفهام هنا تقريرى، وضمير الفصل هو توكيد لاختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بقبول التوبة، ومنح العفو والغفران.. وليس ذلك لغير الله..
- وفى قوله تعالى «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» ما يسأل عنه، وهو:
لم عدّى الفعل «يقبل» بحرف الجرّ «عن» مع أن الاستعمال اللغوي لهذا الفعل لم يجىء متعديا إلّا بحرف الجرّ «من» .. كما جاء ذلك فى الاستعمال القرآنى لهذا الفعل فى قوله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وفى قوله سبحانه: «إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. فلم عدّى الفعل هنا بحرف الجر «عن» ؟
الجواب- والله أعلم- أن التوبة التي يقبلها الله من عباده تضع عنهم ما حمّلوا به من أوزار، وما أثقل كاهلهم من ذنوب، فكان فى قبول التوبة منهم رفع لهذه الآثام عنهم، ولهذا ضمن الفعل «يقبل» معنى الفعل يضع، أو يسقط.. ونحو هذا، كما نظر إلى التوبة على أنها شىء محمّل بالذنوب والآثام لأن التوبة لا تكون إلا عن ذنب وقع، أو إثم اقترف.. فكان قوله تعالى:(6/889)
«أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» يعنى ألم يعلموا أن الله يضع الذنوب والآثام عن عباده. ويرفعها عن كواهلهم؟. وقوله تعالى: «وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ صدقات المتصدقين ويجزيهم عليها، وأن النبىّ إذ يأخذها منهم، فإنما يأخذها بأمر الله، وينفقها فى سبيل الله، وكذلك كل صدقة يأخذها متصدّق عليه من متصدّق.. إنها لله، لا للمتصدّق عليه، وهو سبحانه الذي يجزى عليها كما يقول الله سبحانه وتعالى: «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» (88: يوسف) . وفى هذا يقول النبىّ صلوات الله وسلامه عليه: «إن الصدقة تقع فى يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل» .
قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
هو دعوة عامة للمبادرة إلى العمل فى مجال الخير والإحسان.. وفى العمل فى هذا المجال يعرف العاملون بأعمالهم.. فما كان فى السرّ أو الجهر يعلمه الله، وما كان فى الجهر يعلمه الرسول ويعلمه المؤمنون، وعلى حسب هذه الأعمال يجزى الله، ويضع المحسنين، والمقصرين، والمسيئين، كل منهم فى منزلة، ويجزيه الجزاء الذي هو أهل له.. وعلى ما يظهر من هذه الأعمال الرسول وللمؤمنين، يكون قرب العاملين أو بعدهم من رسول الله ومن المؤمنين، ويكون حسابهم معهم، من موالاة أو معاداة..
هذا فى الدنيا، فإذا كانت الآخرة كشف الغطاء عن أعمال العاملين، خيرها وشرها، وجوزوا عليها بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا.(6/890)
قوله تعالى: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
الإرجاء: التأخير والانتظار،.. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته، أي أخرته.. ومرجون لأمر الله، أي مؤخرون ومنظرون لما يقضى به الله فيهم.
قيل نزلت هذه الآية فى الثلاثة الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وهم من الأنصار، وكانوا قد تخلفوا فى غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر، ولم يكن هذا التخلف عن نفاق. ولكن عن توان وفتور، وتردد.. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك تلقاه المنافقون بأعذارهم، فقبلها منهم، وتركهم لحسابهم مع الله.. وأما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا الرسول فيما قالوا إذ قالوا: «والله يا رسول الله مالنا من عذر نعتذر به» وكانوا حين تخلّفوا عن رسول الله قد استشعروا الندم. فأوثقوا أنفسهم بسوارى «1» المسجد، وأقسموا ألا يطلقوا أنفسهم منها، حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقهم، فلما رجع الرسول، وأخبر خبرهم، قال: «وأنا أقسم لا أكون أول من حلّهم إلّا أن أومر فيهم بأمر» . فلما نزل قوله تعالى:
«وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلّهم.. ونهى رسول الله المسلمين عن مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم.. حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأقاموا على ذلك خمسين ليلة، ثم نزل قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» فكان ذلك إيذانا بقبول توبتهم.
هذا مما أجمع عليه المفسّرون..
غير أن لنا فى الآية رأيا آخر، وهو أنها تكشف عن جانب من رحمة
__________
(1) السواري: جمع سارية. وهى عمود المسجد.(6/891)
الله بعباده، وتفضله على المذنبين العصاة منهم، وهم الذين لم يتوبوا إلى الله، ولم ينزعوا عما اقترفوا من إثم.. فهؤلاء مذنبون عصاة، ينتظرون حكم الله فيهم، إن شاء أخذهم بذنوبهم فعذّبهم، وإن شاء عاد بفضله عليهم، فعفا عنهم، هكذا كرما منه وفضلا.. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) ولا يردّ على هذا، بأنّ ذلك مما يبطل عمل العاملين، ويسوّى بين المحسنين والمسيئين، كما أنه يناقض قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .
ونقول: إن الله سبحانه وتعالى بإحسانه إلى المسيئين، وتجاوزه عن سيئاتهم لا يجور على عمل المحسنين، ولا ينقص من إحسانهم شيئا، بل إنه سبحانه يوفّيهم أجرهم غير منقوص، كما يقول سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
أما التسوية بين المحسنين والمسيئين: فليست واقعة على إطلاقها.. وذلك:
أولا: أن المحسن مجزىّ بإحسانه، بلا شك، كما يقول سبحانه:
«وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .. أما المسيء فهو فى منزلة بين منزلتين: إما أن يأخذه الله بذنبه، وهذا هو الوجه الذي يطلّ عليه من سوء عمله، وإما أن يتجاوز الله عنه، ويعود بفضله عليه، وهذا هو الوجه الذي يطلع عليه من رحمة ربّه! وثانيا: أنه ليس إحسان المحسن وحده هو الذي يدخله الجنة، وإنما قبل ذلك كلّه، هو شموله برحمة الله، كما فى الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» .. رحمة الله التي وسعت كلّ شىء.. تنال البر والفاجر.(6/892)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
وثالثا: ليس المحسنون والمسيئون على سواء من رحمة الله.. فالمحسنون أقرب إليها، وأكثر تعرضا لها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» . والمسيئون وإن يعدوا عن رحمة الله، فليس ذلك بالذي يحجبهم عنها، ويحرم بعض المسيئين منهم حظهم منها، وذلك لمشيئة الله فيهم، وإرادته بهم.. كما يقول سبحانه: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» .
وأما قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .. فهو الميزان الذي يوزن به عمل كل عامل، وسعى كل ساع.. ومع هذا، فإن الله يضاعف للمحسنين إحسانهم، وأنه سبحانه إذ يرى المحسن عمله لا يقف به عند هذا العمل، بل يفضل عليه بأضعاف ما عمل..
وكذلك المسيء، إذا كان لا يقدم على الله إلا بما سعى، وما حصّل من سيئات، فإنه ليس من حرج على فضل الله أن يتجاوز عنه.. ليرى آثار رحمة الله فيه.. وذلك رهن بمشيئة الله وتقديره.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. يقضى بعلم، ويحكم بحكمة.. والله سبحانه وتعالى يقول على لسان المسيح عليه السلام:
«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ..» .
الآيات: (107- 110) [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)(6/893)
التفسير: الضّرار: المضارّة، وطلب إلحاق الضرر بالغير، والإرصاد:
الترقب والتربص، والانتظار.. وشفا جرف: أي حافة الجرف وشفيره..
والجرف: رأس الهاوية المطلّ على منحدرها.. والهارى: المنهار..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .
قرأ أهل المدينة «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» بغير واو العطف، وذلك على الاستئناف وابتداء عرض وجه آخر من وجوه المنافقين..
وقرىء بالعطف، وهو القراءة المشهورة وعليها تنتظم وجوه المنافقين فى سلك واحد، على تقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا..
- وقوله تعالى: «ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ» .. المنصوبات المتعاطفة هنا هى مفعول لأجله، تكشف عن السبب الذي لأجله بنى هذا المسجد، وهو للمضارة، لا للنفع، وللكفر لا للإيمان، ولإيواء من حارب الله ورسوله، لا لدعوة من آمن بالله ورسوله..
قيل إن هذا المسجد بناه جماعة من المنافقين، من بنى غنم بن عوف، حسدا لبنى عمهم عمرو بن عوف، الذين كانوا قد بنوا مسجد قباء، ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّى فيه، فأجابهم، وصلى المسلمون معه..
فكان أول مسجد بنى فى الإسلام..(6/894)
وحين أتم بنو غنم بناء هذا المسجد إلى جوار مسجد قباء، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يدعونه أن يصلى فى مسجدهم هذا، وكان النبىّ يتهيأ لغزوة تبوك، فقال لهم: «إنى على جناح سفر، فلو قدمنا أتيناكم، إن شاء الله، فصلينا لكم فيه» .. فلما انصرف الرسول من تبوك، نزلت عليه هذه الآية وهو فى طريق العودة إلى المدينة..
وقد فضح الله فى هذه الآية نفاق هؤلاء المنافقين، وكشف عن تدبيرهم السيّء.. فإنهم ما بنوا هذا المسجد ليكون بيتا من بيوت الله، وإنما بنوه مضارّة بمسجد قباء، حتى لا يعمر بالمصلين، وليكون مأوى يأوى إليه المنافقون، ويدارون نفاقهم بالاجتماع فيه، والاستظلال بظلّه، ثم ليفرقوا بين المؤمنين، حيث لا تجتمع جماعتهم فى مكان واحد، بل يتوزعهم المسجدان المتجاوران، فيقلّ بذلك جمعهم، وتصغر فى الأعين جماعتهم، الأمر الذي يخالف ما يدعو إليه الإسلام من جمع المسلمين فى صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، لتتوحد مشاعرهم، وتمتلىء العيون مهابة وإجلالا لهم.. ثم إنهم بنوا هذا المسجد ليكون راية منصوبة لأهل النفاق والضلال، حيث لا يخطئهم أن يجدوا فيه- فى أي وقت- من هم على شاكلتهم فى نفاقهم وضلالهم..
- قوله تعالى: «وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. المنافقون هكذا دائما يتخذون أيمانهم جنّة يحتمون بها من نظرات الاتهام التي يرمون بها، أو يقدّرون أنهم يرمون بها من كل عين تنظر إليهم.. وهؤلاء الذين فضحهم الله وأخزاهم بما كشف من سوء تدبيرهم، يحلفون للرسول وللمؤمنين أنهم لا يريدون بهذا المسجد لذى بنوه إلا ما يراد من بناء المساجد وعبادة الله فيها.. وقد كذبهم الله سبحانه بقوله: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. وصدق الله العظيم، وكذب المنافقون، ولعنوا..(6/895)
هذا وقد أمر الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعض أصحابه بهدم هذا البنيان، فهدموه..
قوله تعالى: «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» .
هذا نهى للنبىّ الكريم أن يلمّ بهذا المسجد، أو أن يتلبّث عنده، فإنه وإن أخذ سمت المساجد، وسمّى اسمها، فلن يشفع له ذلك فى أن يكون على طهر المساجد وقدسيتها، لما وسمه به المنافقون من دنس ورجس.. فكما يظهر المنافقون فى سمت الآدميين، ويأخذون مظاهر الناس.. ثم لم يكن لهم من الإنسانية نصيب إلا هذا السّمت الظاهر، أما حقيقتهم فإنهم دنس ورجس- كذلك كان شأن البنيّة التي بنوها، وأطلقوا عليها اسم المسجد.. إنها لا تمثل من المسجد إلا وجهه الظاهر، أما باطنها فكفر ونفاق وضلال! - وفى قوله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» تنويه بمسجد قباء، وتكريم له، ورفع لقدره، وقدر الذين بنوه، والذين يلقون الله فيه- بقدر ما هو إزراء بأصحاب مسجد الضرار، وتشنيع عليهم، وعلى هذا البناء الذي رفعوه فهدمه الله عليهم..
والمراد بالرجال الذين يحبّون أن يتطهروا، هم الذين يلقون الله فى الصلاة فى هذا المسجد.. فهى صلاة مقبولة، فى مكان طاهر تؤدى فيه عبادة خالصة لله، من شأنها أن تطهّر أهلها، الذين يداومون عليها، ويقيمونها بقلوب مؤمنة، خالية من الرياء والنفاق..(6/896)
قوله تعالى: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
قرىء أفمن أسس بنيانه «ببناء الفعل للمجهول» ، كما قرئ «أُسِّسَ» فى الموضعين، جمع أسّ، بمعنى الأصل والأساس..
والآية تعرض المسجدين، مسجد قباء، ومسجد الضرار، فى وضع يواجه فيه أحدهما الآخر.. فيكشف ذلك عن مدى ما بينهما من تفاوت.. هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج.. هذا طيب، أطيب الطيب، وهذا خبيث، أخبث الخبث..
والضدّ إذا قرن بضدّه، زاد كل منهما فى الصفة الغالبة عليه زيادة لا ترى إلا حيث يتقابل مع ضده.. فيزداد الحسن حسنا وروعة، ويزداد القبيح شناعة وقبحا.. وبضدها تتميز الأشياء- كما يقولون! - وفى قوله تعالى: «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» تصوير للعاقبة التي ينتهى إليها هذا المسجد- مسجد الضرار- بأهله الذين بنوه، وأنه إذ بنوه على ضلال ونفاق وزيف، فهو بناء على خواء.. على شفا جرف هار، وأنه إذ ينهار فسينهار بهم فى نار جهنم، فهم بهذا قد ظلموا أنفسهم: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
وقوله تعالى: «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
نفى القرآن فى هذه الآية عن مسجد الضرار، كلّ ما تتسم به المساجد، حتى اسمه، فلم يعد مسجدا بعد أن فضحه الإسلام، وفضح أهله، وكشف عن(6/897)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
الوجه الذي قام عليه، والغاية التي بنى من أجلها.. فهو الآن «بنيان» مجرد بناء من حجر وطين.. لا يناله حتى شرف هذا الاسم الزائف الذي أعطوه إياه.
وسيظل هذا البناء ريبة فى قلوب الذين بنوه، أي مبعث شك، وارتياب ونفاق، قد علق ذلك كله بقلوبهم، وتمكن منها، لا يستطيعون فكاكا منه، إلا بعد أن تتقطع قلوبهم.. وهذا لا يكون إلا إذا ماتوا، وماتت الريبة معهم! ..
- وفى قوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ» إشارة إلى أن الريبة قد استقرت فى قلوبهم، فاحتوتها هذه القلوب، وصارت ظرفا حاويا لها.
الآيتان: (111- 112) [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
التفسير: ليس الإيمان مجرد نطق باللسان، وتصديق بالقلب، وإنما هو- مع هذا- عمل بالجوارح، وابتلاء فى الأموال والأنفس.. فمن صدّق قلبه ما نطق به، ومن صدق عمله ما صدّق به قلبه، فذلك هو المؤمن، الذي يقبله الله فى المؤمنين..(6/898)
وبين الله والمؤمنين بالله، عقد عقده معهم، وعهد عاهدهم عليه.. وهو أنه- سبحانه- اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ولهم عنده فى مقابل ذلك الجنة! وما تلك الأنفس، وهذه الأموال التي اشتراها الله من المؤمنين؟ إنها من الله، وإلى الله..!
ولكن شاء فضل الله أن يجعل لعباده ملكية هذه الأنفس، وتلك الأموال، وأن يشتريها منهم، وأن يعوضهم عليها! وقدّمت الأنفس على الأموال هنا على خلاف المواضع كلها التي جاء فيها ذكر الأموال والأنفس مجتمعين فى القرآن.. ففى جميع المواضع ما عدا هذا الموضع قدمت الأموال على الأنفس! فما سرّ هذا؟ أو قل ما أسرار هذا؟
ونقول- والله أعلم- إن بعض السر فى هذا هو أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يطلب الأنفس والأموال فى هذا المقام، على حين أنه فى جميع المواضع التي ذكرت فيها الأنفس والأموال فى القرآن الكريم- كانت مبذولة من المسلمين، أو مطلوبا منهم بذلها..! ولاختلاف المقام اختلف النظم.. ففى شراء الله سبحانه وتعالى ما يشترى من المؤمنين يقدم الأنفس على الأموال لأنها عند الله أكرم وأعز من المال، على حين أن المال عند الناس أعز من الأنفس، إذ يتقاتلون من أجله، مخاطرين بأنفسهم ويقتلون أنفسهم فى سبيله! وفى اختلاف النظم هنا إلفات للناس إلى ما ذهلوا عنه من أمر أنفسهم، إذ استرخصوها إلى جانب المال، على حين أنها شىء كريم عزيز عند الله.
- وفى قوله تعالى: «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يكون له يد ظاهرة على عدوه، وبلاء مؤثّر فيه، وأنه(6/899)
قبل أن يقتل لا بد أن يقتل من عدوه واحدا أو أكثر، حتى لا يذهب دمه هدرا، وحتى بوهن العدو ويضعف من شوكته، ويكتب بدمه حرفا من كلمة النصر التي كتبها الله للمؤمنين..
- وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» ؟ هو توكيد لما وعد الله المؤمنين الذين باعوه أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، فهذا الوعد حق لا مرية فيه- كما جاء به القرآن والتوراة والإنجيل.
فذلك هو وعد الله للمؤمنين المجاهدين، فيما جاءت به الكتب السماوية المنزلة من رب العالمين.. «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» ؟ وهل يخلف الله وعده، أو ينقض عهده؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
هذا وليس بيع الأنفس والأموال لله مرادا به بذلهما فى القتال فى سبيل الله ثم الوقوف بهما عند تلك الغاية وحدها.. فإذا لم يكن بين يدى المؤمن قتال ومجاهدة للعدو، فهناك ميدان فسيح للجهاد فى سبيل الله فى غير ميدان القتال، فمجاهدة النفس والوقوف بها عند حدود الله، هو جهاد مبرور فى سبيل الله..
والعبادات بأنواعها، وأداؤها على وجهها جهاد فى سبيل الله، والسعى فى تحصيل الرزق من وجوهه المشروعة، جهاد فى سبيل الله.. والبر بالفقراء، والإحسان إلى اليتامى.. هو جهاد فى سبيل الله.
وإذا كانت الآية الكريمة قد خصّت القتال فى سبيل الله بالذكر هنا، فليس ذلك إلا تنويها يفضل الجهاد فى ميدان القتال، إذ يمثل الصورة الكاملة التي يبذل فيها المرء كل ما يملك، ويقدم لله فيها كل ما معه من نفس ومال..
على خلاف أبواب الجهاد كلها، فإنه يبذل بعضا من كلّ، ويقدم لله بعضا ويستبقى بعضا.(6/900)
وقوله تعالى: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
هو مباركة من الله سبحانه وتعالى لأولئك المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم له- مباركة بهذه الصفقة التي عقدوها مع الله، وتبشير لهم بالربح العظيم، والمغنم الجزيل الذي وراءها.. إنها الجنة التي وعدهم الله بها وإنها الرضوان من رب العالمين.. وذلك هو الفوز العظيم..
قوله تعالى: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» .
تلك هى صفات المؤمنين الذين يؤهلهم إيمانهم لأن يبايعوا الله، وأن يعقدوا معه هذه الصفقة الرابحة، وأن يظفروا بهذا المغنم العظيم..
فقوله تعالى: «التَّائِبُونَ» صفة للمؤمنين فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» والتقدير «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» الذين هم التائبون العابدون ...
الآية» .
والتائبون: هم الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، وتابوا إلى الله من قريب.. والعابدون: هم الذين يقرّون بالعبودية لله، ويعبدونه مخلصين العبادة له وحده.. والحامدون: هم الذين يحمدون الله على الضراء حمد هم إياه على السّرّاء.. يقولون كلّ من عند ربنا، وكل ما هو من عنده فهو- سبحانه- المحمود، الذي يستأهل وحده الحمد، ويستوجب الرضا فى(6/901)
السراء والضراء.. والسائحون: هم الصائمون.. وفى الحديث «سياحة أمّتى الصيام» .
والراكعون الساجدون: هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤدون ما افترض الله عليهم منها..
والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: هم الذين يدعون إلى الخير، وينهون عن الشر.. وقد جاء العطف بينهما لأنهما وجهان لأمر واحد، فمن أمر بمعروف فهو ناه عن منكر، ومن نهى عن منكر فهو آمر بمعروف.
والحافظون لحدود الله: أي القائمون على ما أمر الله به، والمجتنبون ما نهى الله عنه..
فتلك هى صفات المؤمن فى أعلى منازله، وأشرف مراتبه، وأكمل أحواله.
وكل صفة من هذه الصفات لا تتحقق فى المؤمن على كما لها إلا إذا وفّاها حقّها، وأداها على الوجه المطلوب أداؤه عليها، وعندئذ يحقّ له أن يوصف بها، ويدخل فى أهلها.
وفى الجمع بين هذه الصفات، دون أن يقوم بينها حرف عطف.. ما يشير إلى أنها جميعا بمنزلة صفة واحدة.. وأنه لا تتحقق أية صفة منها إلا إذا تحققت جميعا.. أو بمعنى آخر أن تحقيق أية صفة منها داعية لتحقيق الصفات كلها..
فالتائب، إذا صحّت توبته، وحقق مضمونها، كان عابدا، حامدا، سائحا، راكعا، ساجدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حافظا لحدود الله.
والعابد، إذا عبد الله كما ينبغى أن يعبد، كان تائبا، حامدا، سائحا،(6/902)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
راكعا ساجدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حافظا لحدود الله.
وهكذا فى كل صفة من تلك الصفات، إذا تحلّى المؤمن بواحدة منها، كانت الصفات الأخرى من حليته!.
وواضح أن هذه الصفات إنما تعطى ثمرتها فى ظل الإيمان بالله، فإذا لم يكن الإيمان قائما عليها، فلا ثمرة لأىّ منها.. ولهذا جاءت هذه الصفات خاصة بالمؤمنين، مقصورة عليهم.
قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» أي وبشّر أصحاب هذه الصفات، الذين هم المؤمنون بالله، الذين حققوا صفة الإيمان، واستحقوا أن يجزوا جزاء المؤمنين الذين باعوا الله أنفسهم وأموالهم، فى مقابل ما وعدهم الله به، بأن لهم الجنة، وهنأهم بهذا البيع الربيح بقوله: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
فالذين يتصفون بتلك الصفات، هم من الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم، ولهم ما للمجاهدين الذين يقاتلون فى سبيل الله، وما وعدهم الله من رضوان وجنة وفوز عظيم.. ذلك أن المؤمن الذي يحقق تلك الصفات فى نفسه إنما حققها لأنه رصد نفسه وماله فى سبيل الله، وفى ابتغاء مرضاته.
الآيات: (113- 116) [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)(6/903)
التفسير: الأوّاه: كثير التأوه والتوجّع..
وقوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» .
هو استبعاد أن يكون من النبي والمؤمنين استغفار وترحّم للمشركين، ولو كانوا من أهليهم وذوى قرابتهم، إذا تبيّن لهم أنهم من أهل الكفر والضلال..
فالمشركون أعداء لله، حرب على الله، والمؤمنون أولياء لله.. ولن تجتمع الولاية لله.. والولاية لأعداء الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (22: المجادلة) والاستغفار للمشركين والترحم عليهم- ولو كانوا أمواتا- يتدسس منه على شعور المؤمن شىء من الرضا عن حالهم التي كانوا عليها من الشرك والضلال، لأن الاستغفار لهم إنما ينبعث عن عاطفة الرحمة بهم والإشفاق عليهم، فى ذوات أنفسهم، وما تلبست به تلك الذوات من كفر وضلال.. وهذا من شأنه أن يدخل؟؟؟ على مشاعر المؤمن فى إيمانه، ويبعده عن الاحتفاظ به نقيّا خالصا من كل شائبة..(6/904)
وقد نهى الله سبحانه، النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يصلى على من مات من المشركين أو أن يقوم على قبره.. فقال تعالى: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» (84: التوبة) .
- وفى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» بيان إلى أن النهى عن الاستغفار للمشركين إنما هو من بعد أن يتحقق أنهم ماتوا على الشرك، وأنهم أصبحوا فى أصحاب النار.. وهؤلاء هم الذين بلغتهم الدعوة الإسلامية من مشركى العرب، ثم لم يستجيبوا لها، ومالوا على شركهم الذين كانوا عليه!.
قوله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» .
هو إجابة عن سؤال وقع، أو هو متوقّع أن يقع، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» والسؤال الذي يقع بعد الاستماع إلى هذه الآية: وكيف استغفر إبراهيم لأبيه، وقد كان أبوه من المشركين؟
وفى القرآن الكريم يقول الله تعالى على لسان إبراهيم: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (83- 86: الشعراء)(6/905)
فكيف يستغفر إبراهيم- خليل الرحمن وأبو الأنبياء- لأبيه وهو من المشركين؟
والجواب، قد جاءت به هذه الآية: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» ..
فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع فى أن يهديه الله إلى الإيمان..
يشير إلى هذا، ذلك الحوار الذي سجله القرآن الكريم بين إبراهيم وأبيه..
يقول الله تعالى:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» (41- 47: مريم) فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع فى أن يستجيب له، وأن يسلك معه الطريق إلى مواقع الهدى والإيمان..
- «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» .. وهذا البيان إنما انكشف لإبراهيم بعد أن مات أبوه، وهو على ما هو عليه من شرك..
وهنا انقطع رجاء إبراهيم فى هداية أبيه.. فأمسك لسانه وقلبه عن الولاء له.(6/906)
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» - إشارة إلى أن إبراهيم مع ما فى قلبه من حنان ورقة وما تفيض به نفسه من مشاعر حسّاسة مرهفة، تتأثر تأثّرا قويا بما يلقاها من وقائع الحياة- فإنه مع هذا- قهر فى نفسه كل عاطفة نحو أبيه، وتبرأ منه، إيثارا لولائه لله، ولدين الله..
فإبراهيم هنا هو القدوة والأسوة فى أعلى مستوياتها، للولاء لله، والإخلاص لدين الله.. فلا حساب عنده لعاطفة قرابة تدخل شيئا من الضيم على ولائه لربّه، وإخلاصه لدينه..
قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
فى هذا ما يكشف عن لطف الله ورحمته بعباده، وأنه- سبحانه- لا يأخذهم بالعقاب، ولا ينزلهم منازل الضّالين، إلا بعد أن يبيّن لهم الطريق الذي يسيرون عليه، وما يأخذون أو يدعون من الأمور..
أما ما يقع من العباد مما لم يكن قد جاءهم أمر الله فيه، فهو معفوّ عنه عند الله، ولو كان مما نهى الله عنه بعد أن وقع منهم..
والآية تدفع عن صدور المسلمين ما وقع فيها من حسرة وندم على ما وقع منهم من استغفار لمن مات من أهليهم وأصدقائهم على الشرك، قبل أن يجىء النهى عن الاستغفار لهم.. فلا شىء عليهم فى هذا، لأنهم لم يفعلوا أمرا كان واقعا تحت الحظر، ولم يأتوا منكرا نهاهم الله عنه..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن العلم هو الأساس الذي ينبغى أن تقوم عليه تصرفات العباد، وأن تنضبط عليه أعمالهم، وأن كل عمل لا يستند إلى علم ومعرفة هو لغو لا حساب له، ولا اعتداد به..(6/907)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
وفى هذا دعوة إلى العلم الذي يسبق كل عمل يعالجه الإنسان، فمن عمل بلا علم ضلّ سعيه، وبطل عمله.
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .
وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها. إذ قد دعت الآيات السابقة إلى قطع علائق المودة والموالاة بين المؤمنين وبين من لهم بهم صلة من المشركين.. وهذه الآية تشدّ المؤمنين بالله إليه، وتقيم وجوههم له، دون التفات إلى غيره، إذ أن له وجده- سبحانه- ملك السموات والأرض، وإليه أمر الحياة والموت..
لا يملك أحد معه شيئا من نفع أو ضر، ومن موت أو حياة.. فمن جعل ولاءه لغير الله فقد ضلّ وخسر، وليس له من دون الله ناصر ينصره، أو ولىّ يعينه ويشدّ أزره.
الآيات: (117- 119) [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)(6/908)
التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .
اللام فى «لَقَدْ» هى اللام الواقعة، فى جواب قسم مقدر.. وهذا القسم لتوكيد التوبة، ووقوعها وقوعا تاما كاملا، لم يبق معها ذنب، أو معصية..
فهى توبة يخرج بعدها من وقعت عليه معافى من كل سوء، مبرأ من كل مأخذ..
والزيغ: الانحراف عن طريق الحق، والميل إلى الباطل..
وذكر النبىّ هنا فى التوبة- وهو صلوات الله وسلامه عليه لم يقع منه- وحاشاه- شىء، فى هذا تكريم للمهاجرين والأنصار وتشريف لهم، بنظمهم مع هذا الكوكب الدرّىّ الوضيء.. فى ساحة رضوان الله ومغفرته.. وقد قرأ الرّضا علىّ بن موسى: «لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار..
الذين اتبعوه فى ساعة العسرة..»
ويجوز أن يكون المعنى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ» أي لقد غفر له كل هنة تمسّ مقام النبوّة، ليظلّ النبىّ هكذا فى مقامه العظيم من ربّه.. وقد أمر الله سبحانه النبىّ بالاستغفار من ذنوبه بقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» ..
وغفر للنبى الكريم ما تقدم من ذنبه وما تأخر فى قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» .
فليست ذنوب النبىّ- صلى الله عليه وسلم- ذنوبا بالمعنى الذي يفهم من كلمة ذنب بالنسبة لغير النبىّ من الناس.. وقد قيل: «سيئات المقربين حسنات الأبرار» .. فكيف بالنبيّ الكريم؟
وقد عدّ الله سبحانه وتعالى إذن النبىّ المنافقين الذين جاءوه معتذرين-(6/909)
عدّ ذلك ذنبا، عفا الله عنه.. وهو أمر لو وقع من غير النبىّ لما كان موضعا لمؤاخذة أو لوم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» . (43: التوبة) وفى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» إشارة إلى ما كان من لطف الله بالمؤمنين فى غزوة تبوك، وأن شدّة هذه الغزوة، والظروف التي دعى فيها المسلمون إلى الجهاد قد عرضت بعض المؤمنين لامتحان عسر، ضاقت به صدورهم، وتلجلجت معه نياتهم، واضطربت عزائمهم، ولكنّ الله سبحانه ربط على قلوبهم، وأمسك بهم على طريق الحقّ، فمضوا على طريق الجهاد.
روى عن الحسن البصري: «أن العشرة من المسلمين فى تلك الغزوة كانوا يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب غيره.. وكان الشعير المسوّس والنمر المدوّد، والإهالة السّنخة (أي الزيت المتغير طعمه وريحه) طعامهم.. وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من النميرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ النمرة فلاكها (أي أدارها فى فمه) حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه، فيمصّها، ثم يشرب عليها جرعة ماء، حتى تأنى على آخرهم، فلا يبقى من النمرة إلا النّواة!!.»
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ما يكشف عن فضل الله على النبىّ ومن تبعه من المهاجرين والأنصار.. وأنه سبحانه، لرأفته بهم، ورحمته لهم، قد أخذ بيد من كاد يسقط منهم، وينزل عن هذا المنزل الكريم الذي أحلّ الله فيه المهاجرين والأنصار، واختصّهم به، فهم أبدا فى ظلال رأفته ورحمته.. وحسبهم بهذا سلاما وأمنا، وحسبهم به شرفا وفضلا.
قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ(6/910)
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» عطفت هذه الآية على ما قبلها، فشملت بهذا توبة الله التي تابها على النبىّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة- شملت هذه التوبة الثلاثة الذين خلّفوا، وقد أشرنا إلى قصتهم من قبل.
وفى عطف الثلاثة الذين خلّفوا على النبىّ والمهاجرين والأنصار تكريم لهم، وتنويه بتوبتهم، وأنها توبة مقبولة، محيت بها كل الآثار التي علقت بهم من تخلّفهم عن النبىّ.. وبهذا حقّ لهم أن يكونوا فيمن تاب الله عليهم:
النبىّ والمهاجرين والأنصار.. وهم درجات عند الله..
وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» إشارة إلى ما وقع فى نفوس هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا من ندم وحسرة.
لقد ضاقت عليهم الأرض على سعتها، بل وضاقت عليهم أنفسهم، فلم تحتملهم، ولم تجد القرار والسّكن إليهم، وهذا يعنى ثقل عما كانوا يعانونه من ندم وألم، ولهذا كانت توبتهم نصوحا صادقة، لا تنتكس بهم على أعقابهم أبدا..
وقد حذف جواب الشرط هنا، إذ دلّ عليه قوله تعالى: «وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» .. أي أنهم حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه- لجئوا إلى الله، وفرّوا إليه تائبين مستغفرين..(6/911)
والظن هنا بمعنى اليقين، أي أنهم أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه..
ولو كان ظنهم غير واقع موقع اليقين، لما كان منهم هذا الندم القاتل، وتلك الحسرة المميتة! - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» .. نلحظ من العطف بالحرف «ثُمَّ» الذي يفيد التراخي.. أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يمتحنهم بهذا البلاء الذي هم فيه، وأن يدعهم مع هذا الهمّ الذي ركبهم، حتى يكون فى هذا تصفية لنفوسهم وتمكين لتوبتهم- فلم ينزل القرآن بالعفو عنهم وقبول توبتهم إلا بعد مدة قيل إنها بلغت خمسين يوما.. فهذه الخمسون يوما التي قضاها الثلاثة الذين خلّفوا كانت أشبه ببوتقة صهرت فيها نفوسهم، وصفّيت مما كان قد علق بها من خبث ووضر!.
ولو جاءت التوبة عليهم قبل أن يدخلوا فى هذه التجربة ويعيشوا فيها تلك الأيام والليالى، لما وجدوا أنفسهم على تلك الحال التي استقبلوها بها بعد هذا الزمن المتراخى، وبعد تلك التجربة القاسية، التي كشفت عن هذا المعدن الكريم لتلك النفوس الكريمة، ولولا ذلك لحطمتها المحنة وأكلتها نار التجربة.
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» إشارة إلى أن التوبة النصوح لا تكون إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى إليها.. وأنه إن لم يوفقهم الله سبحانه إلى هذا الموقف، ويربط على قلوبهم فيه، لم يكن منهم هذا الصبر على البلاء، ولا احتمال هذا المكروه الذي وقعوا فيه.. وهذا هو معنى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» أي قبلهم الله وتاب عليهم، فكانوا من التائبين.
والتوبة: أصلها من التّوب، والرجوع، يقال تاب إلى الله يتوب: أي رجع عن معصيته إليه.(6/912)
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قد جاء فى الآية السابقة ذكر الثلاثة الذين خلّفوا، وأن الله قد تاب عليهم، وعفا عنهم، وأنزلهم منازل رضوانه، وجعلهم معلما من معالم الثبات مع الحق والولاء له..
فأجرى لهم فى القرآن الكريم ذكرا، وجعل لهم فى العالمين قدرا..
وذلك كله بسبب أنهم أقاموا أنفسهم على كلمة الصدق، فلم يكذبوا على رسول الله، ولم يجيئوا إليه بأعذار ملفقة، بل جاءوا إليه يقولون قولة الحق على أنفسهم!.
فقالوا: يا رسول الله.. إننا لا عذر لنا فى تخلفنا عن الجهاد معك، فخذ لله ولك من أنفسنا وأموالنا ما تشاء! فكانت ثمرة صدقهم، هو هذا الذي انتهى إليه أمرهم..
فالدعوة إلى الصدق هنا وإلى التمسك به، دعوة تجد بين يديها المثل الواقع للخير العظيم الذي يناله الصادقون بصدقهم.. وإن احتمل الصادقون فى سبيل كلمة الحق شيئا من الأذى والضرّ، فى أول الأمر، فإن العاقبة دائما لهم، وهى عاقبة طيبة، مسعدة.. تهيىء لصاحبها الفوز والفلاح فى الدنيا والآخرة..(6/913)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
الآيات: (120- 122) [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 122]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
التفسير: قوله تعالى: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ..»
هو إنكار من الله سبحانه وتعالى على من يتخلّفون عن رسول الله، وهو فى طريقه إلى الجهاد ولقاء العدوّ- ينكر الله عليهم تخلّفهم هذا، وقعودهم عن اللحاق برسوله، والانتظام فى ركب المجاهدين.. وفى الإنكار أمر ملزم لهم أن يكونوا مع رسول الله حيث يكون، ومن لم يستجب لهذا الأمر فهو على خلاف لله ورسوله، ومشاقة لله ورسوله، يلقى جزاء المخالفين، وينزل منازل الظالمين، ويصلى فى الآخرة ما يصلاه الكفار والمنافقون من عذاب السعير..
وقد خصّ أهل المدينة ومن حولهم بالذّكر هنا لأنهم مع رسول الله، وبين يديه، وبمحضر ومشهد منه، فكيف يسوغ لهم أن يروا النبي قائما على أمر يعالج منه حملا ثقيلا، ثم يقفون موقف المتفرج، لا يشاركونه فيما يعمل، ولا يحملون عنه بعض ما يحمل؟ إن ذلك وإن لم يقض به الدين قضت به المروءة وأوجبته حقوق الجار على الجار! فكيف وهو أمر أمرهم الله به، ووعدهم الجزاء العظيم عليه، وتوعدهم بالعقاب الأليم على النكوص عنه؟(6/914)
وكيف بهنأ لمسلم طعام أو يسوغ له شراب، وهو يرى النبي يخوض غمرات القتال، ثم يضنّ بنفسه عن أن تأخذ مكانها فى المجاهدين، والمستشهدين، أهناك عند المؤمن بالله شىء أعزّ عليه من النبىّ، ونفس أكرم عليه من نفسه؟
والله سبحانه وتعالى يقول: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .
- وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً، يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
الإشارة هنا بقوله تعالى «ذلك» مشار بها إلى ما تقدم فى صدر الآية من الإنكار على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، وأن يؤثروا أنفسهم على نفسه، ويضنّوا بها على معاناة الجهاد، وحمل أعباء القتال، فهذا الإنكار عليهم إنما هو بسبب أنهم سيغبنون أنفسهم، ويحرمونها ما أعدّ الله المجاهدين من أجر عظيم، لكل عمل يعملونه فى سبيل الله، ولكل ضرّ أو أذى يصيبهم وهم على طريق الجهاد.. فلا يصيبهم ظمأ، ولا يمسّهم تعب، ولا تنالهم مخمصة (أي جوع) .. إلا كتبه الله لهم وأجزل لهم المثوبة عليه.. كذلك لا ينالون من عدوّ نيلا، ولا يصيبونه بوهن أو ضعف، إلا كتب لهم به عمل صالح، وعدّ لهم قربة عند الله، يدخلون بها مداخل المحسنين.. و «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
قوله تعالى: «وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
هو عطف على ما سبق من الأعمال الصالحة التي تكتب للمجاهدين، وتسجّل فى سجلّ أعمالهم.. فأية نفقة- ولو كانت صغيرة- تكتب لهم،(6/915)
وأي خطوة يخطونها، ويقطعون بها واديا أو يجتازون مفازة، يكتبها الله لهم، ويضيفها إلى حسابهم.. وذلك «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ما يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى ينزل المجاهد منازل رضوانه، ويستضيفه فى ساحة كرمه، منذ أن يبدأ فى التهيؤ للجهاد إلى أن يعود إلى منزله الذي خرج منه، أو يستشهد فى سبيل الله.. وأن كل خطوة من خطواته وهو على طريق الجهاد، وكل حركة، أو لفتة، أو إشارة منه، هى مما يعدّ عند الله فى باب الإحسان، وذلك للمجاهد خاصة من دون الناس جميعا، حتى إذا آب المجاهد من جهاده كان سجل أعماله كلّه حسنات.. «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أما السيئات، فلا سيئات، إذ قد تجاوز الله عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» (16: الأحقاف) .
قوله تعالى: «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن الآيتين السابقتين قد جاء فيهما إنكار على المتخلفين عن رسول الله، وأمر ملزم لهم بالجهاد معه، كما جاء فيهما عرض كاشف لما اختصّ الله سبحانه وتعالى به المجاهدين من أجر كريم، وثواب عظيم، لا يناله غيرهم، ولا يبلغه سواهم- وقد كان ذلك داعيا إلى تحريك أشواق المسلمين إلى بلوغ هذه الغابة، واللحاق بأهلها، وذلك لا يكون(6/916)
إلا بالانتظام فى ركب المجاهدين، وهذا من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا على طريق الجهاد، وفى ميدان القتال، الأمر الذي لو وقع بصفة دائمة لأخلّ بنظام المجتمع، وعطّل كثيرا من جوانب الحياة، وأخلى ميادينها من العاملين فيها..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» أي جميعا.
فذلك أمر- كما عرفنا- يدخل الخلل على نظام الحياة فى المجتمع، وعلى المجاهدين أنفسهم، إذا لم يكن من ورائهم من يعمل فيما يهيىء لهم حاجاتهم، من مؤن، وسلاح، وعتاد.
ولكن كيف السبيل إلى صرف بعض المسلمين عن وجهتهم إلى القتال، وكلهم يؤثر أن يكون فى هذا الميدان، ابتغاء مرضاة الله؟
لقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن فتح لهم جبهة جديدة من جهات الجهاد.. إذ يقول الله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» ..
فهناك نفر كالنفر إلى الجهاد، وهو النّفر إلى التفقه فى الدّين، والتعرف على أحكام الشريعة.. ففى النفر إلى الجهاد يقول الله تعالى. «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا» وفى النفر إلى العلم يقول لله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» .
فطلب العلم فريضة على كل مسلم كفريضة الجهاد، سواء بسواء.. فإذا كان الجهاد بالسيف فكذلك يكون الجهاد فى ميدان العلم، والتفقه فى الدين. إنه يدفع عن القلوب غشاوات الجهل والضلال، ويمكنّ لدعوة لإسلام أن تأخذ مكانها من العقول والقلوب، فتمكن لها فى أهلها، وتقيمهم منها على مودة وإخاء، فيزكو نيتها الطيب فيهم، وتؤتى مبادئها أكلها المبارك لأيديهم.(6/917)
فالتفقّه فى الشريعة، ومطالعة آياتها المعجزة، والوقوف على ما فيها من روائع الحكمة، وأسرار الوجود- هو الذي يقيم فى نفس المسلم إيمانا صحيحا، ومعتقدا سليما متمكنا، يهيىء للمجتمع الإسلامى، الإنسان المؤمن الذي يجاهد فى سبيله، ويستشهد من أجل حمايته، ودفع يد المعتدين عليه..
وليس معنى النّفر هنا شدّ الرحال، وقطع الفيافي والقفار، بل إن معناه شدّ العزائم، وتوقّد الهمم، واستجماع النفوس، وإخلاص النيّات، والتجرد لتلقّى العلم، والصبر على معاناة الدرس والنظر..
ذلك أن تحصيل العلم، وقطف ثمراته، ليس بالأمر الهيّن، الذي يقع لأى يد تمتد إليه، ويستجيب لأى عين تطمح إليه، وتطمع فيه- وإنما هو كالجهاد فى ميدان القتال، حيث لا يكتب النصر للمجاهدين إلا بركوب الأخطار، وملاقاة الأهوال، ومصادمة الموت..
ومن هنا تعادلت كفّة العلماء مع كفة المجاهدين.. كما ورد فى الحديث:
«يوزن مداد العلماء بدم الشهداء» ..!
وليس النفر محدودا بالنّفر إلى الجهاد فى سبيل الله، ولا بالنفر لطلب العلم، وإنما هو أيضا ينسحب إلى كل ميدان من ميادين العمل والكفاح..
فحيثما كانت مشقة ومعاناة يحملها لإنسان فى صبر وعزم، فى مجال العمل الصالح النافع له ولغيره، فهو نفر إلى الجهاد، وصاحبه فى حساب المجاهدين! وعلى هذا نفهم الآية الكريمة على أنها دعوة للمجتمع الإسلامى أن يملأ كل ميادين العمل فى الحياة، وأن يأخذ كلّ مسلم المكان المناسب له، وأن يعمل فى الميدان الذي يمكن أن يعطى فيه أفضل ما تجود به ملكاته وقدراته، العقلية، أو الجسدية.. وشرط واحد هو الذي ينبغى أن يكون عليه العامل ليكون مجاهدا، هو أن يخلص لعمله، وأن يعطيه كل جهده، وأن يبذل له(6/918)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
كل حوله وحيلته، فى غير فتور، أو تهاون أو تقصير.. وإلا كان ذلك نفاقا، وكان خيانة، سواء بسواء، كالنفاق مع الله، والخيانة لرسول الله، وللمؤمنين..
ونلمح هذا المعنى الذي ألمعنا إليه هنا فى قوله تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا» .. فالتفقّه ليس مجرّد العلم السطحى، بل هو العلم المتفحص المتمكن، الذي ينفذ إلى أعماق الأشياء، ويقع على الصميم منها..
فهذا هو العلم، أو الفقه، الذي يرفع صاحبه إلى مقام المجاهدين..
وكذلك العمل، إن لم يبلغ به العامل درجة تبلغ حدّ الكمال، للقدرة المتاحة له، وللوسائل التي بين يديه، لم يكن ليتوازن أبدا مع درجة الجهاد فى سبيل الله، ولا مع منزلة التفقه فى دين الله، ولم يكن للعامل أن ينتظم فى سلك المجاهدين، والمتفقهين.. إن العامل الذي يستأهل أن يكون مجاهدا فى سبيل الله حقّا، هو من فقه فى عمله، وعرف أسرار صنعته.. وبغير هذا لن يجىء منه الإحسان فى عمله، والإتقان لصنعته.. والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» .. وقد أشرنا إلى ما للعلم من أثر فى الإيمان بالله، عند تفسير قوله تعالى «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (لآية: 97) من هذه السورة.
الآيات: (123- 127) [سورة التوبة (9) : الآيات 123 الى 127]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)(6/919)
التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، أنكرت على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، وقد حمل إليهم هذا الإنكار أمرا ملزما بالجهاد مع رسول الله، وهذا لا يكون إلّا فى مجتمع بدين كلّه بالإسلام، حتى يقع الأمر بالجهاد موقعه، ويصادف أهله..
لهذا جاءت تلك الآية داعية إلى قتال الكفار الذين يحيطون بالمسلمين، ويكونون أجساما غريبة فى هذا الجسد الكبير..
وتنقية هذا الجسد الإسلامى من الأجسام الغريبة التي تعيش فيه، وحمايته من الآفات الخبيثة التي تقف على حدوده- أمر ضرورى لسلامة هذا الجسد، ووقايته من عوارض التصدّع والتشقق.
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» - لفت لأنظار المسلمين إلى حماية أنفسهم من خطر العدوّ المساكن لهم، أو الملاصق لمجنمعهم، وذلك لا يكون إلا بأن يدخل هذا العدو فى الإسلام، وبصبح بعضا منه، أو أن يقاتله المسلمون حتى يقتلعوا شوكته، أو يوهنوا قوته، فلا يكون يوما من الأيام(6/920)
قادرا على مواجهتهم بالضرّ، أو مبادأتهم بالعدوان، وذلك من شأنه أن يعطى المجتمع الإسلامى أمنا وسلاما واستقرارا فى مواطنه، الأمر الذي يتيح لكل فرد فيه أن يعمل، وأن يحسن العمل فيما هو مهيأ له، وراغب فيه..
- وفى قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» .. تنبيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلمون فيما بينهم وبين الكافرين، فلا بغى ولا عدوان، ولا مجاوزة للحدّ المطلوب لحماية الدعوة الإسلامية، ودفع كيد الكائدين لها..
فإذا تحقق ذلك، فليس وراءه شىء يطلبه المسلمون لذات أنفسهم، أو لانتقام شخصى. بل يجب أن تكون تقوى الله هى الدستور الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم فى حربهم لعدوهم.. فلا يعرضوا لامرأة، ولا لطفل، ولا لشيخ، بأذى ولا يتبعوا هاربا، ولا يقضوا على جريح، ولا يمثّلوا بقتيل، ولا يقطعوا شجرا ولا زرعا، ولا يحرقوا دورا، ولا يقتلوا حيوانا.. فليس فى هذا كله عدوّ لهم، وإنما عدوهم هو الذي حمل السلاح، وقاتلهم به، فإذا ألقى السلاح، أو عجز عن حمله والقتال به، فشأنه شأن الصبيان والنساء، لا سبيل إلى العدوان عليه.
وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً.. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» .
فى هذا إشارة إلى تلك الأجسام الغريبة الفاسدة التي تعيش فى كيان المجتمع الإسلامى، وأنه إذا كان للمسلمين عدو ظاهر يعرفون وجهه، ويأخذون حذرهم منه، ويعملون على قهره وخضد شوكته.. فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن عدوّ خفىّ يندسّ فيهم، بل إن عليهم أن ينتبهوا إلى هذا العدوّ، وأن يرصدوا تحركاته، وأن يضربوه الضربة القاضية، كلمّا أطلّ برأسه من جحره.(6/921)
وهذه الأجسام الغريبة الفاسدة التي تعيش فى كيان المجتمع الإسلامى، هى جماعة من المنافقين..
وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً» هو علامة مميزة من علامات النفاق، وعرض ظاهر من أعراضه..
فالشّك فى آيات الله، والتشكيك فيما تحمل من هدى، ومن خير، ومن نور- هو كفر يستره نفاق، وهو نفاق يصرّح عن كفر! فإذا قال قائل هذه الكلمة الضالّة: «أيّكم زادته هذه إيمانا» - إذا قالها فيما بينه وبين نفسه، فإلى الله حسابه، وعليه عقابه، أما إذا قالها فبلغت أسماع المسلمين، فذلك كيد يكيد به للإسلام، وحرب خفيّة بالكلمة المضلّلة يطعن بها فى صدورهم.. فهو بهذا محارب يلقاه المسلمون بما يلقون به المحاربين من أعدائهم.
وفى قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» ردّ مفحم للمنافقين، وتكذيب فاضح لنفاقهم، وكفرهم بآيات الله، وضلال أبصارهم وبصائرهم عن الهدى والنور الذي تحمله آيات الله بين يديها.. فالذين آمنوا، تزيدهم آيات الله إيمانا مع إيمانهم، بما يطالعون فيها من وجوه جديدة تتجلّى فيها آيات الله، وتشعّ منها ألوان مضيئة كاشفة عن عظمة الخالق، وجلاله، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته.. فكل آية جديدة يلقاها المسلمون، وكل سورة جديدة تطلع عليهم من عند الله، هى خير جديد يضاف إلى ما بين أيديهم من خير، وهو نور جديد يمدّ به ما عندهم من نور.. ولهذا فهم يستبشرون بكل آية تنزل عليهم، لأنها تزودهم بزاد جديد من الإيمان والتقوى، وتسير بهم خطوات واسعة إلى الله، تدنيهم من رحمته، وتقربهم من رضوانه..(6/922)
وفى قوله تعالى: «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» .
بيان لما يحصّله المنافقون والذين فى قلوبهم مرض، من آيات الله التي تنزل من السماء هدى ورحمة للعالمين، فهى إنما تزيدهم عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال، وفسادا إلى فساد.. إنهم أشبه بالهوامّ والحشرات التي يجرفها الغيث الهاطل، ويغرقها السيل المندفع، على حين يحيا به كل كائن حىّ، ويهشّ له ويهنأ به كل ذى حياة.. وإنهم لأشبه بالخفافيش يأخذ ضوء الشمس على أبصارها، فتكتحل منه بالعمى، على حين تكتحل الأشياء كلها بهذه الآية المبصرة من آيات الله بالهدى والنور! قوله تعالى: «أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ» هو تقريع وتوبيخ لهؤلاء المنافقين الذين يقفون مواقف الخزي والفضيحة بين يدى آيات الله، مرة أو مرتين كل عام، حيث يفضح القرآن منهم فى كلّ مرة، مخزية من مخزياتهم، ويكشف المسلمون موقفا لئيما من مواقفهم.. ثم لا يأخذون من هذا عبرة أو عظة، ولا يجدون فيما فضح الله من أسرارهم، وما أخرج مما فى صدورهم- آية على علم الله، وعلى وجود الله، فيؤمنوا به، ويتوبوا إليه.. بل إنهم على ما هم عليه، من كفر وضلال: «لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ» .
وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» .
وهذه حال أخرى من أحوال المنافقين مع آيات الله، حين يستمعون إليها مع من يستمع إلى آيات الله من المؤمنين..
إنهم يلقونها بالشكّ والارتياب، حتى لتكاد تفضحهم ألسنتهم بما يدور(6/923)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
فى رءوسهم، فينظر بعضهم إلى بعض، نظرات متلصصة، تبحث عن مهرب تهرب منه من بين يدى آيات الله، حتى لا ينفضح أمرهم بين يديها..
فإذا وجدوا فرصة مواتية للهرب انسلّوا، وفروا مسرعين: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» ..
وفى قوله تعالى: «صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» حكم عليهم من الله سبحانه وتعالى بأنه قد صرف قلوبهم عن الحقّ، وختم عليها أن ترى الهدى، وأن تطمئن إليه، لأنهم قوم لا يفقهون شيئا، ولا يفرقون بين نور وظلام، وهدى وضلال..
«إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا..»
الآيتان: (128- 129) [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
التفسير: بهاتين لآيتين تختم سورة التوبة- وهو ختام يلخص فى إيجاز وإعجاز مضمونها كلّه..
فقد كانت هذه السورة معركة متصلة، بين الإسلام، وبين النفاق، والشرك، والكفر.. وذلك فى محيط المجتمع العربىّ، بدوه وحضره. إذ كان هو ميدان الرسالة الإسلامية الأولى، ومنطلق رحلتها فى المجتمع الإنسانى كله، حيث كانت الأمة العربية، هى الأمة التي أرادها الله لحمل هذه الرسالة، وجعل منها الوجه الذي تظهر فيه أمارات هذا الدّين، وتتجلّى آثاره، ووكل إليها دعوة(6/924)
الناس جميعا إلى هذا الخير الذي بين يديها، ليطعموا منه كما طعموا، وليهتدوا إلى الله كما اهتدوا..
وفى قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» - إلفات للعرب إلى هذه النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليهم، وهو أنه- سبحانه- قد تخير رسوله إليهم منهم، وجعل مطلع الخير الذي يحمله، فيهم أولا.. وهذا من شأنه أن يجعل منهم القوة التي تظاهر هذا الرسول، وتقف إلى جواره، وتستظل برايته لا أن يكونوا حربا عليه، وعداوة متربصة به.. إنه منهم، وليس غريبا عليهم.. إنه يعرفهم وهم يعرفونه، ويعرفون مولده فيهم، ونسبه القريب منهم..
فكيف يلقونه بالعداوة؟ ثم كيف يحاربونه ويكيدون له، وهو الذي يحمل إليهم الخير الخالص، ويسوق إليهم الهدى والنور؟ إنهم بهذا يظلمون أنفسهم، إذ يحرمونها هذه النعمة، التي ساقها الله إليهم، على تلك اليد الكريمة التي تحيرها الله منهم، وإنهم ليخرجون على سنن العروبة وأخلاق العرب، فى الانتصار لمن كان منهم، والتعصب له، والاستجابة لدعوة الداعي حين يدعوهم.. حتى لقد كان شعارهم، بل دينهم الذي يدينون به: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، وحتى ليقول شاعرهم عنهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا
فكيف لا يستجيبون للرسول الكريم، وهو منهم، وقد جاءهم بالبرهان المبين والحجة الساطعة الدامغة؟
وفى قوله تعالى: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ.. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» إلفات للعرب أيضا إلى ما يحمل الرسول الكريم من مشاعر الحب لقومه، والحدب عليهم، بما لم يعرف إلا فى الآباء للأبناء، وحدبهم عليهم، حتى لقد حمل ذلك الحبّ وهذا الحدب النبىّ الكريم، على أن يبيت مؤرّقا مسهدا موجعا، لخلاف قومه(6/925)
عليه، وتفلّتهم من بين يديه، وهو يدعوهم إلى النجاة، وهم يلقون بأنفسهم فى مهاوى الهالكين، وحتى لقد نبه الله سبحانه النبىّ الكريم إلى أن ينظر لنفسه، وأن يتخفف من هذه الحسرات التي تملأ قلبه، وتملك مشاعره، فيقول له سبحانه: «لَعَلَّكَ باخِعٌ «1» نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (3: الشعراء) ثم يقول له: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) .
ومعنى قوله تعالى: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» أي شاقّ عليه، ومؤلم له إعناتكم له، وخلافكم عليه..
ومنه قوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» أي غلبنى وقهرنى.. فالعزة- فى أصلها- الشدة والصلابة، وفى المثل: «من عزّ بزّ» أي من غلب وقهر كان له أن يبزّ الناس، ويستولى على ما فى أيديهم..
فالنبى صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه وآلمه، إعنات قومه له، وخلافهم عليه.. والإعنات والعنت: البلاء، والمشقة، التي تضيق بها النفس، ولا تحتملها.. ومنه قوله تعالى: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» (25: النساء) .
وفى قوله تعالى: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن عطف النبي ورحمته بالناس وحدبه عليهم، ليس لقومه وحدهم، وإنما هو نفس رحيمة كريمة تتّسع للناس للمؤمنين جميعا، من كل جنس، ومن كل لون.. فهو رءوف رحيم بكل مؤمن، حريص على هداية كل نفس واستنقاذها من الضلال، والضياع! وفى وصف النبي الكريم بهاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه:
__________
(1) باخع نفسك: أي مهلكها ومفسدها.(6/926)
«رَؤُفٌ رَحِيمٌ» تكريم للرسول الكريم، ورفع لقدره عند ربه.
قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» - هو عزاء للنبى الكريم فيما لقى ويلقى من قومه، من كيد، وما يكابد من شقاقهم وخلافهم. وهو فيصل الأمر فيما بينه وبينهم..
إنه يدعوهم إلى الله، ويبسط إليهم يده بالخير.. وهذا هو المطلوب منه «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» فإن أجابوا، فقد أخذوا بحظهم من هذا الخير المسوق إليهم، وإن تولوا وأبوا، فالله غنى عنهم، ورسوله لائذ بجناب لا يضام، ومستند إلى حمى لا ينال.. إنه جناب الله، وحمى الله.. وذلك حسبه، وكفايته..
«حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» .(6/927)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
10- سورة يونس
نزولها: مكية.. باتفاق.
عدد آياتها: مائة آية، وتسع آيات.
عدد كلماتها: ألف وأربعمائة وتسع وتسعون كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف وخمسة وستون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 4) [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
التفسير: مناسبة هذه السورة لما قبلها، هى أن سورة التوبة التي سبقتها قد ختمت بقوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ..»(6/928)
وفى هذا إلفات للعرب عامة، ولقريش خاصة إلى الحقوق الإنسانية الواجبة عليهم نحو هذا الرسول. المبعوث إليهم من بينهم، ومن ذوى قرابتهم..
وهذه السورة، جاء ابتداؤها منكرا على قريش وعلى العرب تنكّرهم لهذا الرسول، ووقوفهم منه موقف المشاقة والعناد، مع ما بين يديه من آيات ربه، التي تشهد بأنه رسول رب العالمين.
فناسب لذلك أن تجىء سورة يونس، بعد سورة التوبة، إذ كانت خاتمة التوبة أشبه بسؤال، وكان بدء يونس أشبه بجواب لهذا السؤال ...
أو كانت خاتمة التوبة تقريرا لحكم، وكان بدء يونس تعقيبا على هذا الحكم.
قوله تعالى: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» .
وتبدو واضحة هنا دلالة الحروف: «الر» حيث أشير إليها بأنها آيات الكتاب الحكيم.. بمعنى أن هذا الكتاب الحكيم، وهو القرآن الكريم، قد نظم من مثل هذه الأحرف، فجاء على تلك الصورة من الإحكام والإعجاز..
وعلى هذا، تكون «الر» مبتدأ وجملة «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» خبر هذا المبتدأ.
وهنا كلام محذوف يدل عليه سياق النظم الذي سبق هذه الآية فى آخر سورة التوبة، والذي جاء بعدها فى هذه السورة.. وتقدير هذا المحذوف هو:
الر تلك هى آيات الكتاب الحكيم، الذي جاء به هذا النبي العربي.. فماذا ينكر الناس من هذا الكتاب الحكيم؟ أو يكون التقدير هكذا: الر هى تلك آيات الكتاب الحكيم، الذي جاء به النبي العربي إلى قومه فردّوه وأنكروه!(6/929)
ووصف الكتاب بالحكمة، هو الوصف اللائق به من أوصاف الكمال والجلال.. إذ الحكمة هى مجمع كل صفات الكمال.. وكل صفة من صفات الكمال لا تكون كاملة إلا إذا ازدانت بالحكمة، ووزنت بميزانها..
فلا تستغنى صفة من صفات الكمال عن الحكمة، على حين أن الحكمة مستغنية بنفسها عن كل صفة! ولهذا كان الوصف الملازم للقرآن، أو الغالب عليه هو الوصف بالحكمة.
وفى هذا يقول الله تعالى فى صفته: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» . ويقول جل شأنه: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» (44: الزخرف) ..
ويقول سبحانه: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (1: هود) .
قوله تعالى: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .
فى هذه الآية إنكار على مشركى العرب خاصة موقفهم من الرسالة الإسلامية، وشغبهم على رسولها، وعجبهم ودهشهم من أن يكون المبعوث إليهم- رسولا- من الله، رجلا منهم.. إنهم لا يتصورون أن يكون إنسان يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويولد كما يولدون، ويلد كما يلدون- لا يتصورون أن يكون مثل هذا الإنسان رسولا يوحى إليه من الله، ويتلقّى كلماته.. إنهم- لكى يقع فى تصورهم قيام رسول بين الله والناس- لا يقبلون هذا الرسول ولا يصدقونه، إلا إذا كان فى غير جلد البشر.. كأن يكون ملكا مثلا! وقد حكى القرآن تصوراتهم وأوهامهم تلك فى قوله(6/930)
تعالى: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (7: الفرقان) ولو عقلوا لعرفوا أن الملائكة لا تستقيم لهم مع الناس حياة، بل يكون ظهورهم فى الناس موضع فتنة لهم، تأخذ على ألبابهم، وتستولى على عقولهم، وتقيمهم فى الحياة مقاما مزعجا مضطربا.
ولو أنهم كانوا على شىء من النظر والرويّة، لنظروا أولا فى وجه تلك الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها، ويريدهم على أن يأخذوا منها لدنياهم وأخراهم جميعا.. إذن لعرفوا أنها دعوة إلى خير خالص، ومسيرة إلى منهل عذب مصفّى.. وإنه ليس أخسر صفقة ولا أضلّ سبيلا من إنسان يدعى إلى خير فيتأبّى عليه، وينبه إلى نار تمتد بلهيبها إليه، فيلقى بنفسه بين ضرامها..
وهذه هى دعوة الرسول إليهم، وتلك هى رسالته فيهم: «أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. إنه ينذرهم ذاء يسكن فيهم، ويغتال وجودهم. وهو هذا الشرك الذي هم عليه.. ويبشرهم برضوان الله، ونعيم جناته إذا هم تخلصوا من هذا الداء، وآمنوا بالله، واستقاموا على شريعة الله! .. فماذا ينكر العقلاء من أمر دعوة هذه أوجهها، وتلك وجهتها؟
ثم ما شأنهم وشأن هذا الذي يدعوهم إلى هذا الخير؟ وماذا يعنيهم منه إن كان بشرا أو غير بشر؟ إنهم لو عقلوا لكان همهم الأول هو الأخذ بحظهم من هذا الخير المحمول إليهم.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وأنى للصمّ أن يسمعوا؟
- وفى قوله تعالى: «قَدَمَ صِدْقٍ» مجاز مرسل، يراد به مكان صدق ومنزلة صدق.. إذ كانت القدم هى العاملة الساعية إلى كل غاية يريد الإنسان بلوغها..(6/931)
وإضافة القدم إلى الصدق، إشارة إلى الطريق الذي تسلكه هذه القدم، حتى تصل بصاحبها إلى جناب الله، وتنزل بساح رضوانه، ونعيمه، وهى طريق الحق، والصدق، وإلا كان مسعاها على الضلال، وإلى الضلال والبلاء.
والله سبحانه وتعالى يقول: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ» ؟
وقوله تعالى: «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» هو جواب عن سؤال يقتضيه هذا المقام، وينطق به لسان الحال، وهو: ماذا كان موقف الناس من تلك الدعوة التي جاءهم الرسول بها؟
والجواب الذي ينطق به الواقع هنا فى هذا الوقت هو: لقد استجاب له قليلون، وبهته وكدّبه كثيرون.
ولكن القرآن الكريم جاء بالجواب الذي يكشف عن المجرمين، ويمسك بهم وهم متلبسون بجريمتهم: «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» ..
لقد ضلّوا، وعموا..
فما أبعد ما بين دعوة الرسول ومعطياتها، وبين السّحر وشعوذته!! وفى وصف السحر بأنه سحر مبين شهادة عليهم بأن القرآن على مستوى فوق مستوى ما يعرفون من كلام، وأنه من واردات السحر المبين العظيم، الذي لا يحسنونه!! وماذا عليهم لو قالوا إن هذا القرآن من عند الله، ومن واردات السماء، إذ كان عندهم فوق مستوى البشر؟
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ..(6/932)
هو ردّ مفحم مخرس على قولهم: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .
إن الصميم من الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها، هو الإيمان بالله واتخاذه ربّا متفردا بالربوبية وحده، لا شريك له.. إنه خالقهم، وخالق كل شىء.
خلق السموات والأرض فى ستة أيام، وقام بجلاله وسلطانه على هذا الوجود الذي انفرد بخلقه، وانفرد بسلطانه عليه! فهكذا شأن كل مالك فيما ملك..
وهكذا شأن كل سلطان فيما تحت يده، أنه متسلط عليه، متصرف فيه كيف يشاء، وإلا فما استحق هذا الوصف. والله سبحانه، هو الذي يدبّر أمر الملك الذي تحت سلطانه، ويقدّر أقواته وأرزاقه، ويمسك وجوده، ويحفظ نظامه..
وليس لأحد شفاعة عنده فى أحد إلا بإذنه، فضلا وكرما منه، لمن أراد له الفضل والكرامة من عباده..
وأيّا ما كان لهذا المخلوق الذي أذن له بالشفاعة- من منزلة عند الله، فهو عبد من عباده، خاضع لمشيئته، مقرّ بعبوديته، خاشع لجلاله وعظمته!.
فما أضلّ هؤلاء الذين يتخذون من خلقه آلهة يعبدونها من دونه.. إنّهم يسقطون من عل، إذ يتخذون من المخلوقات آلهة لهم، ويدعون الخالق الذي خلقهم، وخلق ما يعبدون..
«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» (26- 29: الأنبياء)(6/933)
- وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» إشارة إلى الإله الحق، الذي ينبغى أن توجّه إليه الوجوه، وتسجد له الجباه.
- وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» تسفيه لهؤلاء الضالين، وتسخيف لأحلامهم، التي تركب الضلال، وتتنكب طريق الحق، وبين يديها صبح مشرق مبين.
قوله تعالى: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» .
هو استعراض لبعض قدرة الله، وفيه وعيد للكافرين، وأنهم ليسوا كما ظنّوا وقالوا: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (37: المؤمنون) لقد كذّبتهم أنفسهم، وغرّهم بالله الغرور..
«أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (4- 6: المطففين) «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (51- 56: الواقعة) .
فالبعث أمر حكم الله به، حكما لا مردّ له.. «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» ..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» إشارة إلى إمكانية إعادة الخلق بعد موتهم، فإن ذلك لا يعجز من خلق الخلق ابتداء، وجاء بهم على(6/934)
غير مثال سابق.. فإعادة الشيء إلى أصله بعد فساده، وانحلاله أهون- فى تقديرنا نحن البشر- من إنشائه ابتداء على غير مثال سبق.. والله سبحانه وتعالى يقول: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» (104: الأنبياء) .. ويقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
(27: الروم) ..
وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» بيان للحكمة التي من أجلها كان بعث النّاس، ورجعتهم إلى الله بعد موتهم.. وهى أن يوفّى النّاس أجورهم، وينالوا جزاء أعمالهم.. إذ الحياة الدنيا دار ابتلاء وعمل، والحياة الآخرة دار حساب وجزاء.. الدنيا مزرعة الزارعين، والآخرة حصاد الحاصدين..
ومن هنا كان من مقتضى حكمة الخالق أن يعيد النّاس بعد موتهم، ليوفّيهم جزاء أعمالهم فى الدنيا.. «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» أي بالحق والعدل، «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» أي من سائل حارّ كما يقول الله تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (43- 46: الدخان) .
«وَعَذابٌ أَلِيمٌ» أي ومع هذا الشراب من الحميم عذاب أليم، وبهذا يحتويهم العذاب من الداخل والخارج، فى بطونهم، وفى أجسادهم..
«بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» وذلك بسبب كفرهم بالله، وصدّهم عن سبيله..
والسؤال هنا:(6/935)
لم جاء قوله تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» مقيّدا الجزاء بأنه جزاء بالقسط، ولم يرد هذا القيد فى جزاء الكافرين؟ وهل يجازى أحد إلا بالقسط والعدل؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» (47: الأنبياء) .
فما جواب هذا؟
نقول- والله أعلم-: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد كان لهم من أعمالهم الصالحة ما يقيم ميزانهم، ويجعل لهم حسابا على كفّتى الميزان، كفّة الحسنات، وكفّة السيئات.. فما كان لهم من حسنات رأوه فى كفّة الحسنات، وما كان لهم منهم سيئات، رأوه فى كفّة السيئات.. لم تضع مثقال ذرة من أعمالهم، هنا، أو هناك.. فحسابهم قائم على القسط، والحق، والعدل..
وكذلك جزاؤهم.. إنه قائم على القسط، والحق، والعدل..
وليس ذلك الجزاء القائم على القسط بالذي يحجز فضل الله عنهم، أو يحول بين رحمته وبينهم.. فإن من تمام العدل أنّه أخذ المسيء بإساءته، أن يزاد للمحسن فى إحسانه، لشرف الإحسان فى ذاته، ولقدر العمل الصالح فى نفسه.
فيشرف- لذلك- بالإحسان أهله، ويكرم بالعمل الصالح ذووه.. وفى هذا يقول الحقّ جلّ وعلا: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (26: يونس) .
أما الكافرون فلا شىء لهم فى الآخرة يقام لهم ميزان به، إذ كانت كلّ أعمالهم ضلالا فى ضلال، لأن أي عمل- مع الكفر- وإن كان فى باب الصالحات، هو باطل لا وزن له، إذ لم يزكّه الإيمان.. فهو أشبه بالحيوان الطيب لحمه، الحلال أكله، يموت حتف أنفه، أو خنقا، أو غرقا..(6/936)
فيصبح خبيثا حراما! والله سبحانه وتعالى يقول: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (18: إبراهيم) ..
ويقول سبحانه: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» (39: النور) .. فأى ميزان يقام لهؤلاء الضّالّين الكافرين، وليس لهم فى كفّة الصالحات شىء يوزن؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» (103- 106: الكهف) [الجزاء الدنيوىّ.. وجزاء الآخرة] وسؤال آخر يعرض هنا، وهو:
لم كان الموت ثم البعث حتى يقع الجزاء؟ وهلّا كان الجزاء معجّلا فى هذه الدنيا حتى يكون أثره ظاهرا فى هذه الحياة، تتمثل فيه العبرة والعظة، ويقع به النفع لمن اعتبر واتعظ؟ ثمّ ما وقع هذا الجزاء المؤجّل، على هذا الإنسان الذي مات وصار رميما وترابا.. ثم يبعث بعد هذا الزمن الطويل الذي لا يعلم مداه إلا الله؟
والجواب على هذا السؤال أو تلك الأسئلة، نوجزه فيما يلى:
فأولا: لا شكّ أن هناك جزاء معجلا لكل عمل يعمله الإنسان، من(6/937)
حسن أو سيىء، فكل عمل يحمل فى كيانه الجزاء الذي يستحقه صاحبه، على أية صورة من الصور.. وليس من الحتم اللازم، بل ولا من المطلوب المستحبّ أن يكون الجزاء من جنس العمل، كمّا ونوعا وكيفا.. فقد يكون العمل ماديّا وجزاؤه روحيّا نفسيّا.. وقد يكون من نوع ما، ويكون جزاؤه مماثلا له ولكن من نوع آخر، ثم قد يكون كمّا من نوع معيّن، فيقع جزاؤه موزعا فى أنواع متعددة من الجزاء..
وفى الحياة الدنيا شواهد كثيرة لهذا.. فى جانب الأعمال الصالحة، وفى جانب الأعمال السيئة، على السواء..
ونضرب لهذا مثلا لكل جانب من هذين الجانبين:
رجل من عباد الله الصالحين، أقام نفسه على طريق الحق، والخير..
يؤدى حقوق الله، وحقوق العباد.. فيصلى، ويصوم، ويزكى، ويقول كلمة الحق ولو أصابه منها ضرّ وأذى، ولا يطفف الكيل، ولا يخسر الميزان..
هكذا سيرته وشأنه فى الحياة، وتلك سيرته مع الناس.. ثم يرى مع ذلك فى حال من ضنك العيش، وضيق الرزق، ثم قد يكون إلى ذلك مبتلى بآفة فى جسمه، أو علّة فى ولده.!
لا شك أن ظاهر الحال ينبىء هنا عن أن هذا الإنسان شقى، وأنه لم يجن من صلاحه وتقواه إلّا هذا البلاء الذي هو فيه! فأين هو الجزاء الحسن للعمل الحسن؟ وأين هى ثمرة الإحسان التي يجنيها من زرع الإحسان؟
والجواب، الذي ينطق به لسان الحال، أنه لم يجن من إحسانه غير الشوك والحسك، الذي أدمى يديه، ونزف دمه!(6/938)
ولكن الحقيقة كامنة وراء هذا الظاهر الذي تقف على حدوده الأبصار الكليلة، والبصائر المغلقة..
فلو ذهب ذاهب يفتش عن هذا الإنسان، لوجد باطن أمره على خلاف ظاهره.. وأنه وإن بدا فى مرأى العين فقيرا، فهو فى واقعة غنىّ، وأنه إن حسب فى عداد الناس شقيّا فهو عند نفسه سعيد، وأنه إن عدّ فى منازل الرجال قزما قميئا، فهو طوال عملاق، لا يقاس به أطول الرجال، وأنه إن بدا ضعيفا هزيلا، فهو قوى جبّار، يضع قدميه فوق رءوس الأقوياء والجبارين..
فهذا الإنسان الذي لا تأخذه العيون، ولا تقف عنده الأنظار- هو قلب ينبض بالرضا، ونفس تتنفس السعادة، وروح تستروح الغبطة.. يجد برد العافية يمس كل مشاعره ووجداناته، وأنسام النعيم تعطر الحياة من حوله، فيخطر فيها متراقصا كما يتراقص الفراش على أزهار الرّبا! وإن هذا الإنسان الذي لا نشبع بطنه من لقمة العيش.. هو قائم على مائدة حافلة بالطيبات من المثل الكريمة الفاضلة، يتخير منها ما يطيب له، لغذاء عواطفه ومشاعره..
وهذا الإنسان الضعيف الهزيل، الذي لا يكاد تحمله قدماه.. هو نسر يضرب بجناحيه فوق هذا العالم الترابي، محلقا فى سماوات لا حدود لها، حتى ليكاد يطاول النجوم فى أفلاكها..
أتريد لهذا شاهدا يشهد لما نقول؟
اقرأ سير الأبطال- أبطال الإنسانية الحقيقيين- الذين كانت دنياهم جنة من جنات الله على هذه الأرض.. فعرفوا طعم السعادة، ورضعوا أخلاف النعيم،(6/939)
لا فى هذه القصور الشامخة، وما تكتظّ به من أثاث ورياش، وما يموج فيها من جوار وغلمان، وما تحفل به من موائد ومطاعم، وما يساق إليها من ذهب وفضة.. ولكن فى بيوت متواضعة، تسكنها نفوس عمرتها السكينة، وتعمرها قلوب عمرها الحق والعدل والخير..
أعرفت شيئا من سيرة عمر بن الخطاب؟ وأعرفت كيف كان طعامه لقيمات جافة من خبز الشعير وإدامه قطرات من الزيت أو الخل، لا يجتمعان معا..
وهو خليفة المسلمين، ووارث ملك القياصرة، وعرش الأكاسرة؟ وأ رأيت كيف كان لباسه من المرقع الخشن، وبين يديه ما شاء من دمقس وحرير، مما جلب من صنعة الشام، والعراق، ومصر، واليمن؟ ثم أشهدت خليفة المسلمين وهو قائم فى الشمس يهنأ إبل الصدقة، ويعالج جر باها؟
لا تنظر فى هذا إلى عظمة عمر، ولا إلى زهده، وعفته، ولا إلى خوفه من ربه وخشيته ليوم لقائه، وانظر إلى عمر، وإلى السعادة الغامرة التي تملأ جوانحه، وتفيض على الناس من حوله..
إن عمر وهو يردّ شربة الماء البارد فى يوم صائف، ويرفعها عن شفتيه حين وجد نفسه تهشّ لها، وترقص طربا لاستقبالها- إنه ليجد السعادة مضاعفة حين غلب هواه، وحطّم شهوته، وقهر سلطانها.. إنه الآن ملك غير مملوك، وسيد غير مسود، وقادر غير عاجز، ومتسلط غير متسلط عليه، وحاكم غير محكوم..
وشتان بين عمر لو شرب هذا الماء، وبين عمر هذا الذي أبى على نفسه أن تشربه! هذه لغة لا يعرف مدلول ألفاظها إلّا من عانى مثل هذه التجربة وعاشها،(6/940)
ووقف من نفسه ولو مرة واحدة، إزاء شهوة غالبة، أو هوى قاهر، فاستعلى على شهوته، وأمسك بزمام هواه.. ذلك هو الذي يدرك معنى السعادة التي كان يعيش فيها عمر ومن أخذ مأخذ عمر، وسار على طريقه.. فى القناعة، والتعفف، والاستقامة..
من كلمة حكيمة لسقراط يقولها لأحد معاصريه:
«يبدو أنك تظنّ أن السعادة فى الترف والإسراف.. أما أنا فأرى أنك إذا لم تكن فى حاجة إلى شىء لكنت شبيها بالآلهة، وأنك كلما أقللت من حاجتك قدر استطاعتك كنت أقرب ما تكون إلى الآلهة» .
هذه هى السعادة الحقيقية الكاملة فعلا. السعادة التي يحصل عليها المرء بالاستعلاء على شهواته، والاستغناء عن الكثير من الضرورات التي تقيّد خطوه، وتثقل كاهله..
والناس على منازلهم من القدرة على امتلاك ناصية شهواتهم، والتحكّم فى زمام أهوائهم، فهم بين قادر متمكن، وواقف بين القدرة والعجز، وعاجز مستسلم.. وكلما كان الإنسان أقدر على قهر شهواته وردع أهوائه كلما علا وارتفع، وحلّق فوق هذا المستوي الذي يتقلب فيه الناس..
ولهذا تجد التفسير الصحيح لتلك المواقف الرائعة المذهلة، التي كان يقفها أناس لا حول لهم ولا طول، فى وجوه الجبابرة والمتسلطين من أصحاب الجاه والسلطان. فإذا هذا الجبار المتسلط، يسقط بجاهه وسلطانه، ويهوى بجبروته وسطوته بين يدى هذا الإنسان الذي ليس بين يديه شىء من جاه أو سلطان، وإنما سلطانه وقوته فيما انطوت عليه جوانحه من استقامة وصلاح..
وليس لهذه القوة الروحية، وتلك العظمة النفسية، طبقة معينة من الناس،(6/941)
ولا صفة خاصة مميزة لهم، وإنما هى لمن يطلبها، ويؤدّى من ذات نفسه الثمن المطلوب لها..
فهى تلبس الصعلوك، كما تلبس الأمير، وتكون فى الحاكم كما تكون فى المحكوم.
فهذا أعرابىّ من أجلاف البادية، يقف للحجاج طاغية زمانه، فيخرسه، ويذلّ كبرياءه، ويحطّم جبروته.
سأله الحجاج عن أخيه محمد بن يوسف الثقفي، قائلا: كيف تركته؟.
قال الأعرابى: تركته بضّا سمينا؟
قال الحجاج: لست عن هذا أسألك! قال الأعرابى: تركته ظلوما غشوما! قال الحجاج: أو ما علمت أنه أخى؟
قال الأعرابى: أتراه بك أعزّ منى بالله؟
هذه هى القوة التي لا تتخلّى عن صاحبها أبدا، ولا تخذله فى موقف من المواقف. إنها تختلط بدمه، وتسرى فى مشاعره وتسكن فى وجدانه..
وهى مصدر سعادة ورضا، يغتذى منها صاحبها أكثر وأهنأ مما يغتذى صاحب السلطان من سلطانه.
والمشاهد فى الحياة دائما هو أن أصحاب الجاه والسلطان، وأهل الجبروت والقهر، إذا استبان لهم وجه إنسان تعلوه ملامح الصلاح والتقوى، تخاضعوا بين يديه، وتخاشعوا له، وسعوا إلى مرضاته، ولم يستنكفوا أن يكونوا من ورائه، خدما يخدمونه، ويتبعون إشارته!!(6/942)
وقد استشفّ بعض الصالحين هذه الظاهرة، ووقع على السرّ الكامن فيها.. حين نظر فوجد أن الأطفال يتحكمون فى الكبار، حيث ينزل الكبار إلى مستواهم، يلاعبونهم، ويلاطفونهم، ويجدون السعادة والرضا فى خدمتهم والسهر على راحتهم..
وقد علّل ذلك بأن الطفولة أقرب عهدا بالله، وأطهر نفسا، وأصفى روحا.
فهى فى صفائها وطهارتها أقرب ما تكون إلى الملائكة، ومن هنا سخّر الله سبحانه وتعالى الكبار لخدمة الصغار.. والأخيار الصالحون أقرب ما يكونون إلى الأطفال، فى براءتهم وطهرهم.. ومن هنا كان سلطانهم على الناس، ومكانتهم فيهم أشبه بسلطان الطفولة القاهر على الآباء وغير الآباء.. إنهم أقرب إلى الله من كل عباد الله.. ومن كان من الله أقرب، سخّر له من كان من الله أبعد، ومن كان فى طاعة الله، كان الناس فى طاعته! كان أبو عبد الله التونسى فى مدينة تلمسان، مشهورا بين الناس بالصلاح والتقوى، فمرّ به يحيى بن يقان حاكم تلمسان فى خدمه وحشمه، فقيل له: هذا أبو عبد الله التونسىّ، فمسك لجام فرسه، وسلم على الشيخ، فردّ عليه السلام، وكان على الملك ثياب من فاخر الحرير، فقال يا شيخ: هذه الثياب التي أنا لابسها أتجوز لى الصلاة فيها؟
فضحك الشيخ، فقال الحاكم: ممّ تضحك؟ قال: من سخف عقلك، وجهلك بنفسك وحالك، مالك تشبيه عندى إلا بالكلب، يتمرغ فى دم الجيفة وأكلها وقذارتها، فإذا جاء يبول يرفع رجليه، حتى لا يصيبه البول! «وأنت وعاء ملىء حراما، وتسأل عن الثياب، ومظالم العباد فى عنقك؟
قالوا: فبكى الحاكم، ونزل عن فرسه، وخرج عن سلطانه من حينه، ولزم(6/943)
الشيخ، فمسكه الشيخ ثلاثة أيام، ثم جاء بحبل، فقال له: قد فرغت أيام الضيافة فقم، فاحتطب.. فكان يأتى بالحطب على رأسه، ويدخل به السوق، والناس ينظرون إليه ويبكون..» .
أفليس هذا جزاء الخير والإحسان فى الدنيا؟ أو ليس هذا السلطان المتمكن الذي يعطاه أهل الصلاح والتقوى فى هذه الدنيا، جزاء طيّبا مسعدا لهم؟ ثم أليس هذا دليلا على أن كل عمل طيّب صالح يعطى ثمرته، عاجلة طيبة، بقدر ما فيه من طيب وصلاح؟
وعلى عكس هذا الأعمال الرديئة الخبيثة.. إنها تحمل فى كيانها الجزاء الرديء الخبيث لأهلها، على قدر ما فيها من رداءة وخبث، مكيالا بمكيال!! ولا نسوق لهذا الأمثال والشواهد، فشاهد الأعمال الصالحة، وما يعود منها على أهلها من خير، يعكس الصورة المقابلة للأعمال الرديئة الخبيثة، ويعطى الحكم الواقع عليها، وهى أنها شرّ وبلاء ونقمة على أصحابها فى الدنيا. على قدر ما فيها من رداءة وخبث، سواء بسواء، وصاعا بصاع! أما لماذا الجزاء الأخروى، إذا كان الناس- أخيارا وأشرارا- قد وفّوا جزاء أعمالهم فى الدنيا، وجوزوا عليها بالخير خيرا، وبالشرّ شرا؟
ونقول: إن الإنسان- وهكذا شاء الله له- ليس مخلوقا لهذه الدنيا وحدها، وليست حياته كحياة الحيوان تنتهى على هذه الأرض بنهاية عمره فيها.
وإنما الإنسان فى منزلة هى عند الله أكرم وأشرف مما على هذه الأرض من كائنات.. إنه خليفة الله على هذه الأرض، فإذا أدّى مدة خلافته فيها، انتقل إلى عالم آخر غير هذا العالم، ونزل دارا أخرى غير تلك الدار.. هى أخلد وأبقى..(6/944)
وليس الموت الذي ينزل بالناس إلا وقفة على طريق الحياة الأبدية، واستعدادا لدخول عالم جديد، غير العالم الذي كانوا فيه. إنه أشبه شىء بالمسافر ينتقل من منطقة جبلية ثلجية إلى منطقة حارة قائظة.. إنه لا بد أن يقف على مشارف على هذه المنطقة الجديدة، فيتخفّف من ملابسه الثقيلة، وما كان معه من أدوات التدفئة..!
وبمعنى آخر.. ليس هناك بالنسبة للإنسان موت بالمعنى الذي يقع على النفوس من كلمة «موت» ، كما تموت الدواب والطيور والحشرات.. وإنما هى حياة على أتم ما تكون الحياة، وإن اختلف لونها وطعمها، كما تختلف طعوم الحياة وألوانها عند الإنسان، حين ينتقل نقلة بعيدة من قارة إلى قارة مثلا، على بعد فى التشبيه، واختلاف فى التمثيل..
واستمع إلى قول الرسول الكريم، وتلخيصه فى هذه الكلمات الرائعة المعجزة لقصة الحياة، والموت، أو قل- بمعنى أصح- قصة الحياة، وما بعد الحياة.. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
«النّاس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا» ! فليست هذه الحياة التي يحياها الإنسان فى هذه الدنيا إلا أحلاما وأضغاث أحلام بالقياس إلى الموت، وما بعد الموت.. هناك يجد الناس وجودهم، وتلبسهم الحياة الحقيقية الكاملة..
وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فى كثير من آياته، فى معرض عرضه للدنيا والآخرة.
فيقول سبحانه وتعالى: «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64: العنكبوت)(6/945)
ويقول جلّ وعلا: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (20: الحديد) ويقول سبحانه: «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» (17: الأعلى) ويقول تبارك وتعالى: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» (30: النحل) ويقول سبحانه: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (26: الرعد) وإذن، فهناك حياة آخرة! وإذا كانت هناك حياة آخرة، فمن الطبيعي أن ينتقل إليها الإنسان بما حصّل فى حياته الأولى، وما جمع من خير أو شر، وما عمل من حسن أو قبيح.. فانتقال الإنسان من هذه الدنيا، لا يقطعه عما كان له فيها من عمل..
بل إن عمله كلّه سيصحبه إلى عالمه الجديد، كمن ينتقل من بيت إلى بيت، ومن بلد إلى بلد، نقلة إقامة واستقرار.. إنه يحمل كل ما فى داره الأولى إلى داره الثانية.. غاية ما هناك من فرق، هو أنه لا يتكلف لذلك جهدا ولا مشقة، بل سيجد كل ما عمل قد سبقه إلى هناك! إلى داره الجديدة، وإلى عالمه الجديد! وأرانا بهذا قد أجبنا على سؤال سألناه آنفا، وهو:
ما وقع هذا الجزاء المؤجل، على الإنسان الذي مات وصار رميما وترابا ثم يبعث بعد هذا الزمن الطويل الذي لا يعلم إلا الله مداه؟
لقد عرفنا أن ليس هناك فترة انقطاع بالموت فى حياة الإنسان الممتدة من(6/946)
الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة.. بل إن الموت فى واقعه هو حياة للإنسان، هو صحوة من نوم، وانتباه من غفلة، وانتقال من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم.!
وقد أنكر كثير من الناس هذا الموت المسلّط على الإنسان، وعدّه عقوبة صارمة تنزل بالناس، فتسوّى بين الأخيار والأشرار.
فيقول أحد شعراء هذا المذهب:
إن يك الموت قصاصا ... أي ذنب للطّهاره
وإذا كان ثوابا.... ... أىّ فضل للدّعاره
وإذا كان وما فيه ... جزاء أو خساره
فلم الأسماء: إثم وصلاح؟
لست أدرى! ونقول: ليس الموت فى ذاته قصاصا أو ثوابا.. وإنما هو موقف تتحول به أحوال الناس، على حسب ما لهم عند الله من ثواب أو عقاب، بما كان لهم فى الحياة الأولى من أعمال، تلائم العالم الجديد الذي نقلوا إليه، أو لا تلائمه..
فإن كانت مما يتلاءم مع العالم العلوي الذي نقلوا إليه نعموا بها، وسعدوا، وإن كانت مما لا تتفق وطبيعة هذا العالم شقوا بها، وابتلوا بالحياة معها.. فلكل عالم جوّه الذي تطيب فيه مغارسه، وتروج فيه عملته.. وهذا العالم العلوى لا تقبل فيه إلا الأعمال الطيبة الصالحة، ولا ينعم فيه إلا الطيبون الصالحون..(6/947)
أما الخبيث المرذل، فهو مردود على أهله، يطعمون من خبثه، ويتقلبون على شوكه! فالأعمال التي يعملها الناس فى حياتهم الدنيا، هى زادهم الذي يطعمون منه فى الآخرة، فإذا كان ما عملوه صالحا، وجدوا الحياة الطيّبة معه، حيث يتلاءم مع الدار الجديدة التي نقلوا إليها، والتي لا يقبل فيها إلا ما كان طيبا..
أما الرديء الخبيث فهو ردّ على أهله، وبلاء على أصحابه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (34- 35: التوبة) .. فهذا الذهب الذي اكتنزه المكتنزون، وبخلوا به، فلم ينفقوا منه فى سبيل الله- هذا الذهب، قد تحوّل إلى أداة من أدوات العذاب لأهله.. إنّه عملهم السيّء، قد انتظرهم هناك! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (10: النساء) ..
فهو نفس الشيء.. عمل سيىء حصّلوه فى الدنيا.. فانتظرهم هناك..
فى الآخرة..
إن العاقل- وبصرف النظر عن الدّين- يغرس فى مغارس كثيرة قد لا تعطيه أي ثمر فى حياته، وإنما يجنيه أبناؤه من بعده.. وهو مع هذا لا يضنّ على هذا الغرس بمال أو جهد..
وإن العاقل الرشيد ليرى أن دنياه هذه لا يمكن أن تتسع لمغارسه، وأنه لا بد من حياة وراء هذه الحياة يغرس لها ليجنى هناك بيديه ثمر ما غرس.(6/948)
وقد جعلت شريعة الإسلام للناس أن يحيوا حياتين معا.. الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، وأن يعملوا لهما جميعا، بلا إفراط ولا تفريط، فلا تطغى الدنيا على الآخرة، ولا تجور الآخرة على الدنيا، فكان مطلبهم من الله قولهم: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» (201: البقرة) .. فهذا هو عنوان الشريعة الإسلامية، وهذا هو منهج المؤمنين بها.. يعملون للدنيا، ويعملون للآخرة: «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» (134: النساء) .
يقول الراغب الأصفهانى:
«لم ينكر أمر المعاد والنشأة الأخرى إلّا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير فى مبدئهم ومنشئهم شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات.
«وأما من كان سويّا ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار، وأفضل ذوى الإرادة والاختيار الناظر فى العواقب، وهو الإنسان.. فيعلم أن النظر فى العواقب من خاصية الإنسان، وأن لم يجعل الله تعالى هذه الخاصية له، إلا لأمر جعله له فى العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا» .
ثم يقول الراغب:
«فلو لم يكن للإنسان غاية ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة المملوءة نصبا وهمّا وحزنا، ولا يكون بعدها حال مغبوطة- لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!»(6/949)
وربما سأل بعض الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، فقالوا: ماذا لو وقع الجزاء بين الناس فى الدنيا؟ فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يسوّى حساب الناس فى هذه الحياة، ويوفّى كل عامل جزاء عمله.. المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة؟
ونحن نسأل: على أىّ وجه يسوّى هذا الحساب؟ .. أهكذا مثلا؟:
الفقير ينال نصيبه من الغنى؟
والمريض يلبس ثوب العافية؟
والمقتول يعود إلى الحياة ويقتل قاتله؟
والمظلوم ينتقم ممن ظلمه؟
وهكذا..
أليس كذلك تكون تسوية الحساب؟ وأليس على هذا الوجه أو قريب منه يقع الجزاء ويكون القصاص؟
فأى حياة إذن تكون هذه الحياة؟ إنها ليست الحياة التي يصلح فيها شأن الناس، ويتحرك فيها وجودهم! إن الناس فى حياة كهذه الحياة يبدون وكأنهم لعب.. بلا إرادة، ولا تفكير.. كلهم على سمت واحد.. لا فرق بين إنسان وإنسان..
فلا غنىّ ولا فقير، ولا صحيح ولا مريض، ولا جميل ولا دميم، ولا قوى ولا ضعيف! إنه لكى يكون الحساب هنا عادلا، يجب أن يكونوا كائنا واحدا..
أشبه برقم عددىّ يتكرر.. أما وهم أكوان.. كل منهم عالم قائم بذاته، له وجوده، وله مشاعره، وله سعيه- فإن التسوية بينهم فى الحياة، هى(6/950)
اليد المخرّبة، التي تفسد هذا الجهاز الذي يدفع بعجلة الحياة الإنسانية، ويحركها فى كل اتجاه!.
وانظر ماذا يكون الحال، لو وجد المحسن جزاء إحسانه حاضرا «فوريّا» ؟
إنه- والحال كذلك- يتحول من محسن، يقدر الإحسان، ويحترم الخلق الفاضل، ويعشق الخير- يتحول إلى تاجر، يبيع الإحسان بالدراهم والدنانير!! إنه- والأمر كذلك- لا يرى الخير خيرا، ولا الفضيلة فضيلة، وإنما يراها سلعا تباع وتشترى.. وبهذا يتحول الإنسان من إنسان إلى حيوان لا وجدان له، ولا ضمير معه! وكذلك المسيء، الذي يرتكب المنكرات.. من قتل، وسرقة، واعتداء على الناس، واستباحة دمائهم وأموالهم.. إنه لو وجد عقابه عاجلا «فوريّا» لما أقدم على شىء من هذا، لأنه يعلم أن عين السماء تراه، وأن يدها لا تقصر عنه، وأنه لو كان عقابها معجلا، لبادره العقاب بمجرد أن يفرغ من جرمه، وقبل أن يبرح مسرح جريمته! أفترى إنسانا يقدم على قتل إنسان وعين رجل الشرطة إليه، والبندقية مصوبة نحوه؟ أترى إنسانا يسرق إنسانا وهو يرى الشرطىّ يمد يده ليقبض عليه؟ إن ذلك لا يكون أبدا..
وهذا معناه ألا تقع أية جريمة فى الحياة.. فلا بغى ولا عدوان، ولا إثم ولا منكر! وإذن.. فلا قصاص! ثم ما الحياة الإنسانية، وما طعمها، إذا هى خلت من الشرور؟ إنها لن(6/951)
تكون حينئذ حياة الناس، ولا دنيا البشر.. بل هى حياة الملائكة، أو عالم الجهاد.. وليس الناس ملائكة ولا جمادا.. وإنما هم بشر.. فيهم المحسن والمسيء، ومنهم الطيب وفيهم الخبيث.. والإنسان ذاته يحسن ويسىء، وبطيب ويخبث.. وليس فى الناس الطيب الخالص، ولا الخبيث المحض، وإنما الناس هذا وذاك، والإنسان من هذا ومن ذاك! وقد يبدو لسائل أن يسأل: إنك تقول: إن مجازاة المحسن على إحسانه بالأسلوب «الفورىّ» فى الدنيا يجعل منه تاجرا يتجر بالفضائل، ويجعل من تلك الفضائل سلعا.. وفى ذلك إزراء بالفضائل وإنزال من قدرها..
أفلا يكون هذا المعنى قائما مع الجزاء المؤجل ذاته؟ وما الفرق بين أن يلقى المحسن جزاء إحسانه اليوم، أو غدا، أو بعد غد؟
أليس الذي يلقاه فى الدنيا، أو الذي يلقاه فى الآخرة من جزاء على إحسانه، هو ثمن لهذا الإحسان؟
إنه هنا فى الدنيا، يلقى الحسنة بالحسنة والخير بالخير.. ولكنه هناك فى الآخرة، يلقى الحسنة بعشر أمثالها، وبأكثر من عشر أمثالها، ويلقى الخير مضاعفا أضعافا كثيرة.. فأى الجزاءين يكون فيه الإنسان تاجرا يتجر فى الفضائل ويتعامل بها فى جشع ونهم؟ أذلك الذي يباع فيه الشيء بمثله، أو ذاك الذي يباع فيه بعشرات أمثاله؟
ونقول: إن هذا التقدير قائم على حساب غير دقيق.. ذلك أن الجزاء الفورىّ، هو مناولة يد بيد، ليس فيه مخاطرة كالتى تكون فى بيع العاجل بالآجل.. وكون الآجل أضعافا مضاعفة للعاجل لا يرفع عنه خطر المخاطرة، وخاصة ذلك الأجل الطويل، الذي يمتدّ أزمانا لا يعرف المرء مداها، والذي(6/952)
تقع للمرء فيه أحداث مذهلة لا يمكن التتبؤ بعواقبها.. وخاصة أنه حساب يقتضى المرء عنه حسابه بعد الموت، وبعد البعث من الموت!! إن الإيمان وحده الذي يكفل للجزاء الآجل قيمته، ويجعل له وجودا يتعامل الإنسان على حسابه.. وبغير هذا الإيمان لا يمكن أن يقبل عاقل بيع درهم عاجل بقناطير مقنطرة آجلة، لأنه لا محصّل لها بعد هذا الأجل الطويل وبعد هذه الأحداث العجيبة، إلا إذا كان هناك إيمان وثيق بالبعث وبالجزاء!! وانظر فى المعاملات المالية، أيام اضطرابات السلام، وتوقعات الحرب..
إن عمليات البيوع المؤجلة كلها تتوقف، وليس هناك من تعامل بين الناس إلا بالسلعة الحاضرة والثمن المقبوض، يدا بيد، حيث يفقد الناس الثقة فيما ستلده الأيام، إذا وقعت الحرب! وقليل جدا هم أولئك الذين يتعاملون فى هذه الحال بالبيع المؤجل، وإن بلغت الأرباح فى هذه البيوع عشرات الأضعاف.. إن هؤلاء قلة مغامرون بمعنى الكلمة.. لكنهم على أية حال لا يتعاملون إلا فى أضيق الحدود، وبأقل جزء من أموالهم..
وليس كذلك المؤمنون الذين يعملون ليوم الجزاء.. إنهم يتعاملون وهم على ثقة بأنهم يعقدون مع الله صفقة رابحة، مؤكدة النتائج، محققة الوقوع..
«فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ.. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. وهم لا يتعاملون فى أضيق الحدود، ولا بالقليل مما فى أيديهم، بل يتعاملون بلا حد ولا قيد، حتى لقد يخرج الواحد منهم عن ماله كله، وحتى لقد يبيع نفسه، ويقدمها قربانا لله، وبالاستشهاد فى سبيل الله!(6/953)
والجزاء المؤجل- ثوابا أو عقابا- إنما يتعامل به العقلاء الذين يحكمهم عقلهم، أكثر مما تتحكم فيهم شهواتهم..
فالطفل يعطيك كل ما معه حتى ملابسه، فى سبيل قطعة من الحلوى، لأن قطعة الحلوى هذه، صالحة لأن تؤكل فى الحال..!
والصبىّ.. غير الطفل.. إنه لا تستبد به شهوة الحلوى الحاضرة كل هذا الاستبداد.. فهو يساوم وينازع فيما يأخذ ويعطى! وهكذا، كلما درج الإنسان فى مدارج الرشد، رجع إلى عقله، وأطال النظر والتقدير فيما يعود عليه من ربح أوفر، فى العاجل أو فى الآجل! فإذا جاء الناس إلى مجال العمل لما بعد الموت.. كثر المتردّدون، وقل العاملون..
وإنك لو أتيح لك أن تتفحص أمر هؤلاء وهؤلاء، لوجدت أن أولئك الذين آثروا العاجل على الآجل، هم دون من آثروا الآجل على العاجل- ووجدتهم دونهم عقلا وتقديرا للأمور.. إنهم ما زالوا فى دور الطفولة، وإن كانوا فى صورة الرجال! إن عقول الماديين لم تستسغ تأجيل الحساب والجزاء إلى حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا، بل جعلته حسابا موصولا بهذه الحياة الدنيا.. فكان مذهب التناسخ «تناسخ الأرواح» الذي يؤمن فيه أصحابه بأن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، فتنال جزاءها فيه.. فإن كانت خيّرة حلّت فى جسد تجد فيه راحة ونعيما، وإن كانت آثمة حلت فى جسد تلقى فيه بلاء ونكالا..
والقائلون بالتناسخ، ينكرون أن تكون هناك حياة آخرة، يلقى فيها الإنسان جزاء.. ولكن لا بد من جزاء حتى يعتدل ميزان العدل، ويطمئن(6/954)
المحسنون إلى إحسانهم، ويخشى المسيئون جرائر سيئاتهم- وإذن فليكن هذا الجزاء على تلك الصورة التي صورها القائلون بالتناسخ، فجعلوا الجزاء واقعا فى هذه الدنيا، وعلى المسرح الأرضى بمشهد ومرأى من الناس! والقائلون بالتناسخ يقولون: إن النفس باقية خالدة.. وإن الأبدان التي تحلّ فيها النّفس، واحدا بعد واحد، شبيهة بالأعوام أو الأيام فى حياة الفرد الواحد! وهم يقولون: إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس، تعانى العذاب وتتمتع بالثواب، جزاء وفاقا لما وقع منها فى حياة ماضية.. من رذيلة أو فضيلة.. إذ يستحيل على فاعل فعل صغير أو كبير.. خيّرا أو شرّ يرا.. أن يمضى بغير أثر.. إن كل شىء لا بد أن يظهر له أثر ذات يوم! وأنت ترى أن القول بالتناسخ لثواب المحسن وعقاب المسيء هو تصور خاطئ لملء هذا الفراغ الذي يجده الناس حين يقفون على حدود هذه الدنيا، ولا يلتفتون إلى حياة آخرة بعدها.. إنهم فى مجال هذه النظرة المحدودة، يرون أن أعمالا صالحة كثيرة ذهبت، ولم يجز عليها أصحابها الجزاء المناسب، وأن أعمالا سيئة منكرة قد وقعت، ولم يلق مرتكبوها ما يستحقون من عقاب- فكان القول بالتناسخ هو مما ترضّى به عقولهم، أولئك الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء.. فهو ضرب من ضروب الخداع للنفس.. إذ لا أثر له فى محيط الواقع، ولا دليل عليه بين أيدى الناس، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان! فالروح التي تلبس هذا الذي يقول التناسخ.. هل يجد فى كيانه إحساسا ما بأنها كانت يوما فى كائن آخر غيره؟ فكيف يصحّ عنده أن تنتقل بعد موته إلى كائن آخر من إنسان أو حيوان؟ ذلك ما لا يقع فى(6/955)
إحساس أي إنسان.. فكيف يتم إذن هذا التناسخ؟ وعلى أي أساس يقوم علم به، وتستند عقيدة إليه؟
هذا وقد استعجل بعض المؤمنين بيوم الآخرة، وبالجزاء فى هذا اليوم استعجلوا هذا العذاب، فلم يصبروا على هذا الموعد الذي هم على رجاء لقائه بعد الموت، وخاصة فيما يصيبهم من ظلم، وما يقع عليهم من بغى.. ولهذا قالوا يرجعة بعض من ماتوا إلى هذه الدنيا مرة أخرى، قبل البعث العام، وذلك ليلقوا على أيدى من أساءوا إليهم الجزاء الذي يستحقونه..
والشيعة الإمامية متمسكون بهذا الرأى، بل إنه دعامة من دعائم عقيدتهم، لأنهم على توقع هذه «الرجعة» ينتظرون إمامهم الغائب:
«أبو القاسم محمد بن الحسن» وهو «المهدى» عندهم، كما أنه الإمام الثاني عشر من أئمتهم.
على أن طائفة من الإمامية- وهى تدين بالرجعة- تتأول الرجعة، بأنها رجوع الدولة والأمر والنهى إلى آل البيت، وليست رجوع أعيان الأشخاص، وبعث الموتى من قبورهم قبل يوم البعث! وعلى أىّ، فإن القول بالتناسخ، أو القول بالرجعة، هو توكيد لضرورة البعث، وأن البعث أمر لا بد منه، ليسوّى فيه حساب المحسنين والمسيئين بعد هذه الدنيا.. وقد فرض العقل الإنسانىّ التناسخ فرضا، واعتسفه اعتسافا، وتقبّله، وآمن به، وليس بين يديه شاهد يشهد له، أو دليل يدلّ عليه..
وما ذلك إلا لأنه رأى الحياة الدنيا، لا تضع موازين العدل بين الناس، ولا تأخذ للمظلوم حقّه من ظالمه..(6/956)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
فإذا جاءت كتب الله، ورسل الله، تحدّث عن البعث، وتؤكد وقوعه، لتجزى كل نفس بما كسبت- كان ذلك أمرا لا ينبغى لعاقل أن يشك فيه، إذ كان مما يطلبه العقل، ويقيم له من تصوراته وخيالاته مفهوما يستريح له، ويرضى به!
(الآيات: (5- 10) [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 10]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
التفسير: قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله سبحانه، والتي ذكرت الآيات السابقة بعضا منها..(6/957)
فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالّة على قدرته، وعلمه، وحكمته..
وآثارهما فى عالمنا الأرضى واضحة مشهودة.. عليهما تقوم حياة كل كائن فى هذا الكوكب الأرضى، وينتظم نظامه.. ولو أنهما أخذا من الأرض موضعا غير موضعهما، لاختلّ نظام هذا الكوكب، وفسد أمره، وتحول إلى صورة أخرى غير صورته تلك.. لا يدرى أحد ماهيتها التي تكون عليها..
- وفى قوله تعالى: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» إشارتان:
أولاهما: أن الجعل غير الخلق.. إذ هو تدبير بعد تدبير الخلق.. فالخلق إيجاد لما هو غير موجود، والجعل تقدير وتنظيم لهذا المخلوق الذي خلق، وإقامته على الوجه الذي يحقق الحكمة من خلقه..
والخلق بالإضافة إلى الله- سبحانه- خلق متلبس بالحكمة، قائم على التقدير.. فليس هناك انفصال بين خلق الله، وبين الحكمة والتقدير لما خلق..
ولكن التعبير «بالجعل» الذي يكشف عن حكمة الخالق المودعة فى المخلوق، هو إلفات لأنظارنا إلى ما فى هذا المخلوق من آثار رحمة الله وحكمته.. ومن جهة أخرى، فإن التعبير بالجعل لا يكشف عن الحكمة من خلق المخلوق إلا من الجانب الذي يتّصل بنا، ويؤثر فى وجودنا.. ففيما كشف عنه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» .. عرض مقصور على ما يتصل بنا من خلق الشمس والقمر، أمّا مالهما من شأن أو شئون تتصل بالعوالم الأخرى، وبالكون ونظامه، فذلك ما ليس لنا علم به، وإن وقع لنا به علم، فهو علم يزيد فى معارفنا، ولا يتصل اتصالا مباشرا بمقومات حياتنا القائمة على ما تعطينا الشمس من ضوئها، والقمر من نوره.(6/958)
وثانية هاتين الإشارتين: ما فى اختلاف التعبير عن ضوء الشمس «بالضياء» ونور القمر «بالنور» هكذا: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» .
وذلك أن الضوء نور ذاتىّ، ينبعث من جسم مشعّ له، بفعل الحرارة النّاريّة المتوقّدة فى هذا الجسد.. ومن هنا كان الضوء مشتملا على حرارة، دائما.. فلا ضوء إلّا عن حرارة متوقدة، ولا حرارة إلا ومعها ضوء..
وهذا هو السرّ فى ندائه صلى الله عليه وسلم لجماعة كانت توقد نارا بقوله لهم:
«يا أهل الضوء» .. ولم يقل لهم: «يا أهل النّار» تحاشيا لهذه الكلمة التي ربما انصرفت إلى نار جهنم فمسّهم منها وعيد، أو وقع لهم منها تطيّر وتشاؤم..
فعليك صلوات الله وسلامه يا رسول الله.. ما أعظم خلقك، وما أروع أدبك.. وكيف لا يعظم خلقك وقد سوّاك ربّك فى أحسن تقويم، وحلّاك بكل كمال وجمال، فقال سبحانه فيك: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وقلت أنت فى مقام التحدّث بنعمة الله وقد رأيت ما خلع الله عليك من كمال وجمال: «أدّبنى ربّى فأحسن تأديبى» ذاكرا فضل ربك، شاكرا نعماءه؟.
والضوء والنار.. بمعنى واحد..
وضوء الشمس.. ضوء ذاتى، صادر من جسم نارى ملتهب..
أما نور القمر فهو غير ذاتىّ، لأنه صادر من جسم بارد معتم، وقع عليه ضوء الشمس، فانعكس منه على الأرض، هذا النور، الذي لا يحمل شيئا من حرارة الضوء..
والضوء يحمل مع النّور حرارة.. والنور، نور خالص، لا حرارة فيه..
الضوء متوهّج، متّقد، متماوج، مضطرب.. والنور لطيف، هادىء،(6/959)
رقيق وديع.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بالنور عن لطف الله، وسريان حكمته، فى هذا الوجود، وإلباس رحمة الله إياه، فى قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. فهو لطف ورحمة وحكمة، لا يخالطه شىء- مما يصحب الضوء، من حرارة، وتوقّد، واضطراب!! - وفى قوله تعالى: «وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ» إشارة إلى القمر، واختلاف منازله ومطالعه، على مدى أيام الشهر القمري..
- وفى قوله تعالى: «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» إلفات إلى بعض ما لهذا النظام الشمسىّ والقمري من أثر، فى ضبط الزمن، وحسابه، وتقدير أيامه، ولياليه، وشهوره، وسنيه..
وليس يبطل هذا الأثر أبدا بما وقع لأيدينا من مقاييس وموازين للزمن، إذ كل هذه الموازين وتلك المقاييس مرتبط بالشمس- خاصة- ومتصل بتعاقب الليل والنهار بين يديها، وبتقلب الفصول على مدار السنة حولها.. ولو تغيّر هذا النظام لاختلّ كل ميزان، وكل مقياس للزمن..
وفى قوله سبحانه: «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» .. إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله، لم يخلق عبثا، وإنما هو خلق قائم على حكمة وتقدير.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» (16: الأنبياء) ويقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) فهذا الوجود الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى على غير مثال سبق، هو- من غير شك- المرآة التي تتجلّى فيها قدرة الله، وعلمه وحكمته..
وهو- من غير شكّ أيضا- منزّل عند الله تعالى فى مقام الحبّ(6/960)
والإعزاز، إذ كان من آثار قدرته، وعلمه، وحكمته.. فإن ما تبدع يد الحكمة والعلم والقدرة لا يكون هملا، ولا يذهب مذهب الضّياع..
هكذا شأن كل ذى صنعة مع ما صنع.. هو ضنين به، حريص عليه..
فكيف بالصّانع الأعظم، وكيف بأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين..
الله رب العالمين..؟
فهذا الحقّ الذي خلقت به السموات والأرض، هو الذي يمسك بهذا الوجود، ويسرى فى عوالمه، ويشتمل على كل ذرّة من ذرّاته..
فبالحق خلق كل مخلوق، وبالحق قام كل موجود..
- وفى قوله تعالى: «يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» إشارة إلى أن العلم هو المفتاح الذي يفتح مغالق هذا الكون، ويكشف معالم الوجود، وأسراره.. وأن من لم يحصّل العلم والمعرفة، فلن يكون له حظّ من النظر إلى هذا السكون، ولن يمسك بسرّ من أسراره، ولن يتعرف على آية من آياته..
وقوله تعالى: «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» يشير إلى أن التقوى لا تقوم فى كيان إنسان إلا ومعها العلم.
ذلك أنه إذا نظر الناظر إلى هذا الوجود بعين العالم، وبأجهزة العلم، رأى فى اختلاف الليل والنّهار، وفى تعاقبهما لمحة مشرقة من لمحات حكمة الله، وقدرته وعلمه.. ففى هذا الاختلاف بين اللّيل والنهار ضمان وثيق لكفالة الحياة للكائنات على هذا الكوكب الأرضى.. فما كانت لتطيب الحياة أبدا، بل ولا تقوم الحياة بحال، للمخلوقات- وخاصة الإنسان- لو أن الزمن كان نهارا دائما، أو ليلا مستمرّا.. وفى هذا يقول الحق سبحانه وتعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ(6/961)
مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
(71- 73: القصص) وليست هذه هى معطيات النظر فى اختلاف الليل والنهار، بل هى معطياته فى كل نظرة ينظر بها إلى كل ما خلق الله فى السموات والأرض.. من الهباءة والذّرة، إلى الشموس والكواكب.. ففى كل ما خلق الله، لمسات من حكمته، وأقباس من علمه، ونفحات من رحمته، وآثار من قدرته..
والنّظر المتفحّص الذكىّ، هو الذي يكشف عن وجود الله، ويحدّث عن جلاله، وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر.. ومن هنا ينبعث الإيمان بالله، ويقوم الولاء له، وتتحقق التقوى للمتقين من عباده.. إن فى ذلك «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .. فلا تقوى لمن لا يعرف الله، ولا يعرف الله، من لا علم له بما أبدع الخالق وصوّر، وبما فى هذا الإبداع والتصوير من علم العليم وحكمة الحكيم، وقدرة القدير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» .. فعلى قدر ما يعلم الإنسان من صفات الخالق بقدر ما يكون إيمانه به، وخشيته له، واتقاؤه لمحارمه! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لأولئك الّذين لا يتدبّرون فى ملكوت الله، ولا يتفكرون فى خلق السموات والأرض- فلقد أهملوا استعمال ملكاتهم التي أودعها الله(6/962)
سبحانه وتعالى فيهم، وشغلوا بأنفسهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن أن يرفعوا أبصارهم إلى أبعد مما تصل إليه أيديهم، من مطلوب شهواتهم البهيمية، ولذاتهم الجسدية، فغفلوا عن آيات الله، وعموا عن النظر إلى ملكوت الله، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها.. وإنه ليس لهؤلاء اللاهين الغافلين إلا النار، لأنهم لم يكسبوا فى حياتهم الدنيا إلّا ما هو من النّار وإلى النار..
- وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ» بالعطف على قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» إشارة إلى أن هذا الذي أوقع هؤلاء الضالين فيما هم فيه، من عدم توقعهم للقاء الله، والحياة الآخرة، حتى رضوا بالحياة الدنيا، وأعطوها كل وجودهم، واطمأنوا إلى السّكن إليها- إنما كان ذلك لأنهم غفلوا عن النظر فى آيات الله، والتفكر فى ملكوت السّموات والأرض.. ولو أنهم نظروا وتدبروا لكانوا على غير ما هم عليه، ولآمنوا بالله، ولأيقنوا بلقائه، ولعملوا لهذا اللقاء، واستعدّوا له، فذلك هو شأن «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (191: آل عمران) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» هو عرض للوجه المقابل للذين عموا عن النظر فى ملكوت السموات، والأرض، فلم يؤمنوا بالله، ولم يرجوا لقاءه.. وهو وجه الذين آمنوا بالله،(6/963)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
إذ أكرمهم الله سبحانه وتعالى..، فهداهم بالإيمان إلى الأعمال الصالحة وإلى تقوى الله، والإعداد ليوم لقائه. فكان أن جزاهم ربّهم بما عملوا، جنات تجرى من تحتها الأنهار، ينعمون فيها بما يفضل الله عليهم به، من رزق كريم..
فيسبّحون بجلال الله وعظمته، وما شهدوا من روعة ملكه، ويحمدون له أن وفقهم إلى الإيمان، وهداهم إلى العمل الصالح الذي أرضاه، فرضى عنهم وأدخلهم جناته، وأذاقهم هذا النعيم الذي يتقلبون فيه..
هكذا يعيشون ألسنة تسبح الله، وتحمد له، ويتبادلون السّلام والمودة والمسرّة فيما بينهم: «إخوانا على سرر متقابلين» .. وكما استفتحوا مجالسهم بحمد الله وتنزيهه، يختمونها بالتنزيه والحمد لله ربّ العالمين..
الآيات: (11- 14) [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 14]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ»(6/964)
الطغيان: مجاوزة الحدّ فى الشر، وبلوغ الغاية فى العدوان والبغي.. ومنه الطاغية، والطاغوت..
ويعمهون: من العمه، والعمه: ما يصيب البصيرة من عمى فلا تهتدى إلى طريق الحق والخير أبدا..
والآية الكريمة تشير إلى موقف المشركين من النبىّ الكريم، وأنهم فى إمعانهم فى تكذيبه وتحدّيه، كانوا يسألون الله أن ينزل عليهم مهلكات من السماء، إن لم يكن ما جاءهم به محمد هو الحق من عند الله، وذلك ليكون مقطع الفصل فيما بينهم وبينه.. فإن يكن ما يقوله الحقّ أهلكهم الله، وأخذهم بدعائهم، وإن لم يكن حقّا لم يصبهم شىء، وافتضح أمره فيهم.. هكذا سوّلت للمشركين أنفسهم، وهكذا أعماهم ضلالهم، حتى طلبوا لأنفسهم البلاء، وتمنّوا العذاب.. ولو كانوا على شىء من العقل والحكمة لكان لهم فى مجال التمنيات ما هو أسلم وأحسن، ولقالوا مثلا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه.. ولكنها الجهالة والعمى والضلال.. «ومن يضلل الله فلا هادى له» .
قوله تعالى:
«وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» .. المراد بالناس هنا مشركو قريش، الذين طلبوا إلى الله أن يعجل لهم العذاب، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم فى آية أخرى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (53- 54: العنكبوت) والله سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب، والنبىّ صلى الله عليه وسلم فيهم،(6/965)
إكراما له، وشفاعة له فيهم.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) .
- وفى قوله تعالى: «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعجّل لهم الخير، ولا يعجّل لهم العذاب، بل يؤخره عنهم لتتاح لهم الفرصة لمراجعة أنفسهم، والاستقامة على طريق الإيمان.. فمن آمن منهم فقد أمن من العذاب فى الدنيا والآخرة، ومن استمسك بكفره وضلاله، فله خزى فى الدنيا وله فى الآخرة عذاب عظيم.. والتقدير. ولو يعجّل الله للناس الشرّ كما يعجل لهم ما يعجّل من خير، لهلكوا، ولأخذهم البلاء، دون أن تتاح لهم فرصة لمراجعة أنفسهم، وتصحيح لوضعهم المقلوب، الذي اتخذوه من دعوة الحق التي يدعون إليها.
- وفى قوله تعالى: «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لو عجّل لهم الشرّ الذي يتمنونه لأهلكهم جميعا فى لحظة خاطفة.. ولكنه سبحانه يؤخرهم لأجل معدود، ولا يأخذهم بعاجل ما يستحقون من عقاب، إكراما للنبىّ الكريم، ولمقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» (58: الكهف) .
- وفى قوله سبحانه: «فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ..»
إشارة إلى المحذوف، الذي دل عليه العطف بالفاء.. والتقدير.. ولو يعجّل الله للناس الشرّ استعجالهم بالخير، لقضى إليهم أجلهم.. ولكنا نمدّ لهم، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا منهم فى طغيانهم يتخبطون، فى بحر متلاطم الأمواج.
وهذه الآية غير مقيدة بأسباب نزولها، بل هى مطلقة، حيث يقع تحت حكمها الناس جميعا.. فقد كان من رحمة الله بالنّاس أن أمهلهم، فلم يعجّل لهم(6/966)
العقاب الذي يستحقونه بما فعلت أيديهم.. وذلك أنه- سبحانه- لو آخذ كل إنسان بذنبه عاجلا لقضى إليه أجله بعد كلّ ذنب يقع منه، ولكان الناس جميعا فى معرض الهلاك، إذ لا يسلم إنسان من أن يواقع معصية، أو يرتكب ذنبا.. وهذا من شأنه ألّا يدع لإنسان فرصة ليكفّر عن خطيئته، ويستغفر لذنبه، ويرجع إلى ربّه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ.. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» (45: فاطر) .
وإذن فهذه نعمة من نعم الله على الناس، ورحمة من الله بهم أن لم يعجّل لهم الشّرّ، وهو أخذهم بذنوبهم من غير إمهال.. وهذا من شأنه أن يكون داعية لأن يعيد الإنسان النظر إلى نفسه، وأن يصلح ما أفسد، وأن يتصالح مع ربّه فيما ارتكب من إثم، فتلك فرصة ينبغى ألا يفوته انتهازها، وهو فى عافية من أمره، وفى فسحة من أجله.
والتعبير عن التعجيل بالعقوبة، وتنفيذ حكم الله فى المذنب بإهلاكه- والتعبير عن هذا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الإنسان الذي يقع عليه هذا الحكم، فهو شر بالنسبة له، إذ يحول بينه وبين أن يجد الفرصة التي يصحح فيها موقفه، ويرجع إلى ربه.
قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى عن ضلال الإنسان، وكفره بنعم الله، وجحوده لأفضاله عليه، وإحسانه إليه.(6/967)
فالإنسان- مطلق الإنسان- هو كما وصفه الله سبحانه، فى قوله عزّ من قائل: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (19- 23: المعارج) وقوله سبحانه: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (6- 7: العلق) فالإنسان فى كيانه، هو واه ضعيف.. لأنه خلق من ضعف، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» (54: الروم) .. وكما يقول جلّ شأنه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28: النساء) .. ولكنه حين تلبسه القوة، ينسى ضعفه، ويستولى عليه الغرور، ويستبدّ به العجب والخيلاء، فإذا هو مارد جبار، وسفيه أحمق، وطائس نزق.. يحارب ربّه، ويكفر بخالقه، ويستعبد الناس، أو يتعبّد هو للناس، ولا يتعبد لربّ العالمين! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» .. نجد التعبير بالمسّ هنا مفصحا عن مدى ضعف هذا الإنسان وخوره..
وأن مجرّد مسّ الشرّ له، يكر به ويزعجه، ويفسد عليه حياته.. وإذا هو صاخ إلى الله، ضارع بين يديه.. يدعو فى كل حال يكون عليه: لجنبه، أو قاعدا، أو قائما.. فهو من لهفته وانحلال عزيمته، يدعو بكل لسان، ويستصرخ بكل جارحة..
- وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» .. نجد أن هذا الإنسان الصارخ الضارع المستسلم المستكين، حين يرفع الله عنه البلوى، ويكشف ما به من ضر، يمكر بفضل الله عليه، وينسى رحمته به..(6/968)
ويمضى فيما كان فيه من كفر وضلال.. كأن ضرّا لم يكن قد مسّه، وكأن حالا من الذّلة والاستكانة لم تكن قد لبسته، وكأن رحمة السماء لم تمدّ يدها إليه وتستنقذه من الهلاك المطبق عليه!! هكذا الإنسان، كما وصفه خالقه فى قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (83: الإسراء) وفى قوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، الذين لا يرعوون عن كفرهم، ولا ينزعون عن ضلالهم، ولا يستمعون لدعوة خير، ولا يستجيبون لرائد هدى، ورسول رحمة، لا يتعظون بما يحلّ بهم من غير، وما يلبسهم من نعم! لقد استمرءوا هذا الضلال الذي هم فيه واستحبوا العمى على الهدى: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» .
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ»
هو تهديد أيضا ووعيد للكافرين والضالين، الذين وقفوا من الدعوة النبوية هذا الموقف المتصدّى لها، أو الحائد عنها..
فلقد أخذ الله المكذبين الضالين من الأمم قبلهم بالبأساء والضرّاء حين عتوا عن رسل ربّهم، وكذّبوا بهم.. وذلك هو الجزاء الذي يجزى به الظالمون.. لا جزاء لهم غير أن يؤخذوا بنقم الله ويلقوا فى جهنّم خالدين فيها..
وها أنتم أولاء، أيها المشركون، قد خلفتم هؤلاء الأقوام، وورثتم ديارهم،(6/969)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
وسكنتم فى مساكنهم.. وقد جاءكم رسول كريم من عند الله، وقد عرفتم عاقبة الظالمين المكذبين برسل الله.. فماذا يكون منكم مع رسولكم هذا؟ إن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية.. إنه يرى ما تعملون، وسيجازيكم على أعمالكم ويأخذكم بها.. وقوله تعالى: «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» جملة حالية تكشف عن واقع القوم الذين ظلموا، وأنهم قد ظلموا وكفروا فى حال كان رسل الله فيها بينهم، يدعونهم إلى الإيمان، ويدلّونهم على الهدى.
وقوله تعالى: «وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» جملة حالية كذلك، وصاحب الحال هو ضمير الذين ظلموا فى قوله تعالى: «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» .. وهذه الحال تكشف عما فى قلوب الضالين من زيغ وضلال، وأنهم ما كانوا ليؤمنوا قبل مجىء الرسل إليهم بالبينات أو بعد مجيئهم.. ولكن الله سبحانه أرسل رسله إليهم، ليقيم الحجة عليهم، وليقع بهم عذابه، بعد أن تأتيهم آياته على يد رسله، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .
الآيات: (15- 19) [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 19]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)(6/970)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية التي قبلها لفتت المشركين إلى وضعهم الذي هم فيه، وأنهم خلائف قوم قد ظلموا، فأخذهم الله بظلمهم، وأهلكهم بذنوبهم، وأن هؤلاء المشركين، هم الآن فى وجه امتحان امتحنت به الأمم قبلهم، وهو أنه قد جاءهم رسول بآيات الله، كما جاءت الرسل من قبله إلى الأمم السابقة بآيات الله إلى أقوامهم.. فماذا سيكون من هؤلاء المشركين مع رسول الله المبعوث إليهم، ومع آيات الله التي بين يديه؟ أيكفرون به كما كفر من كان قبلهم، ويتعرضون لنقمة الله كما تعرض السابقون؟ أم يؤمنون بالله، ويتبعون الرسول، فتسلم لهم دنياهم وأخراهم جميعا..؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام منهم.. إنهم فى مواجهة تجربة وامتحان، فليأخذ العاقل منهم حذره، وليطلب النجاة والخلاص لنفسه.
وفى هذه الآية ينكشف وجه المشركين، ويظهر موقفهم من رسول الله، وهم يأخذون الطريق المعاند له، المتأبى عليه..
فناسب أن تجىء هذه الآية بعد الآية التي سبقتها.. لما بينهما من التلاحم والاتصال..(6/971)
وفى قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» ..
أولا: وصف الآيات بأنها بينات، يدلّ على أن من عنده أدنى نظر يستطيع أن يبصر وجه الحق فى هذه الآيات البينة المشرقة، وأن يهتدى بها، ولا يجادل فيها، أو يقف موقف الشك والعناد منها..
وثانيا: أن هذا القول المنكر الذي قيل للنبىّ فيه: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» لم يقله إلا الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يؤمنون بالبعث..
فهم بهذا لا يبالون بأى حديث يحدثهم به عن الآخرة، ويخرج بهم عما هم فيه من استمتاع بحياتهم الدنيا، واستفراغ كل جهدهم فيها..
وثالثا: قولهم: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» يكشف عن ضيقهم بالقرآن، وما يحدّث به عن آلهتهم، وبما يسفّه فيه من أحلامهم، ويفضح من ضلالاتهم.. فهم يريدون قرآنا يبقى على معتقداتهم، ويزكّى عاداتهم، ويحتفظ للسادة منهم بأوضاعهم.. فإن لم يكن من الممكن أن يأتى الرسول بقرآن غير هذا القرآن، فليبدل من أوضاعه، وليغير من وجهه، وليقمه على الوجه الذي يرضيهم، ويلتقى مع أهوائهم.. وهنا يلتقون مع النبي، يستجيبون له! وفى قوله تعالى: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .
أولا: أن مسألة إتيان النبىّ بقرآن غير هذا القرآن، أمر غير ممكن، بل مستحيل عليه استحالة مطلقة.. لأنّ القرآن كلام الله، منزل عليه وحيا من ربه.. فليس له- والأمر كذلك- سلطان يملك به عند الله أن ينزل عليه قرآنا غير هذا القرآن..
وفى هذا ردّ ضمنى على المشركين بأن القرآن من عند الله، وليس من عند(6/972)
محمد، إذ لو كان من عند محمد، لكان إلى يده تغييره أو تبديله.
وثانيا: مسألة التبديل، والتغيير فى القرآن، وإن كانت أمرا ممكنا فى ذاته، إذ لا يتأتّى القرآن على من يجرؤ على التبديل والتحريف فيه- وإن كان الله سبحانه وتعالى: قد حرسه من التبديل، وحفظه من التحريف، كما يقول تبارك وتعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» - نقول: إن مسألة التبديل فى القرآن، وإن كانت ممكنة فى ذاتها، فإن «محمدا» لن يفعل ذلك من تلقاء نفسه، فذلك خيانة لله فى الأمانة التي ائتمنه عليها، وعصيان له فيما أمره به فى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» .. وليس وراء العصيان لله، والخيانة لأمانته إلا العتاب الأليم والعذاب العظيم.. كما يقول سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (44- 47 الحاقة) .
وثالثا: أن الرسول، وهو من هو عند ربه، حبّا وقربا، يخاف عذاب الله، ويخشى عقابه إن هو عصاه، وخرج عن أمره، وغيّر وبدل فى كلماته..
فما لهؤلاء المشركين لا يخشون الله، ولا يخافونه، وقد عصوه هذا العصيان الحادّ بالشرك به، وبتكذيب رسوله، والآيات التي أنزلها على رسوله؟ ألا يخافون بأس الله؟ ألا يخشون عقابه؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (99: الأعراف) .
قوله تعالى: «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» .
فى هذه الآية تنبيه للمشركين، وإلفات لهم، إلى ما هم فيه من عمّى وضلال.
فلو أنهم عقلوا شيئا، لعرفوا أن «محمدا» قد عاش فيهم أربعين سنة غير قارئ(6/973)
ولا كاتب، ولا متحدث إليهم بأى حديث مما يحدثهم به الآن من كلام الله الذي أوحى به إليه، بعد هذا العمر الطويل، الذي عاش فيه مع نفسه، منقطعا إلى ربه! ولكن هكذا شاء الله لمحمد أن يكون مستقبل وحيه، ومتلّقى كلماته، ومبلّغ آياته..
ولو شاء الله غير هذا لكان، فلم يكن محمدا رسولا، ولا مبلغ رسالة، ولا مسمعا الناس هذا الذي سمعوه منه من آيات الله.
فمن نظر فى حال محمد قبل الرسالة وبعدها، ومن طالع وجوه هذه الآيات السماوية التي نزلت عليه، لم يقم عنده أدنى شك فى أن محمدا هو رسول الله، وأن ما يحدّث به عن الله هو من عند الله، ومن كلمات الله.. ذلك مع صرف النظر جانبا عما فى آيات الله نفسها من دلائل الإعجاز، التي تشهد بأنها ليست من قول بشر، وأنها من كلام رب العالمين.
قوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» .
فتراء الكذب على الله، هو اختلاق القول عليه، وتقوّل الأحاديث عنه، بإيرادها ابتداء، أو بالتبديل والتحريف فيها..
فأظلم الظالمين من يجرؤ على ركوب هذا المركب المهلك فيتقول على الله، ويفترى الأحاديث عليه..
وأظلم الظالمين من يرى آيات الله، ويستمع إليها.. ثم يكذب بها، ويصم أذنيه عنها، ويغلق عقله وقلبه دونها..(6/974)
فهذه وتلك من الجرائم التي تورد مرتكبيها موارد الهلاك والبوار: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» .
قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن افتراء المشركين على الله وتكذيبهم بآياته. الأمر الذي عدّه الله سبحانه وتعالى جريمة عظمى، توعد مجرمها بالخزي والخسران..
فقد عبد هؤلاء المشركون آلهة اتخذوها لهم من دون الله، وقالوا عنها:
«هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» وقالوا.. «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» ..
وهذا افتراء على الله.. وقد كذبهم الله وفضحهم بقوله: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟» أي أتتحدثون إلى الله بما لا يعلم الله له هذا الشأن الذي تتحدثون به عنه، لا فى السموات، ولا فى الأرض؟ إنه شىء لا وجود له.. وإذا كان لا وجود له فى علم الله، فهو غير موجود أصلا، ولا يوجد أبدا.. إنها أوهام وضلالات، لا توجد إلا فى عقولكم، وهى محض افتراء واختلاق.. تنزّه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك، أو شفيع من خلقه، فضلا عن أن يكون هذا الشريك أو الشفيع من واردات الوهم والاختلاق!.
وفى قوله تعالى: «ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» إزراء بهؤلاء المشركين، وتسخيف لأحلامهم، إذ أعطوا ولاءهم وعبوديتهم ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. وليس أخسر صفقة ولا أضلّ سعيا، ولا أحمق عقلا، ممن يتعامل مع مالا يدفع عنه ضرّا، ولا يجلب له نفعا، فإن العاقل لا يأخذ وجهة إلى عمل،(6/975)
ولا يبذل له جهدا، إلا وهو على رجاء من أن يدفع من وراء ذلك شرّا، أو يحصّل خيرا. وإلا فهو عابث لاه، يضيّع عمره ويستهلك جهده، ويهلك نفسه!.
وتقديم دفع الضرّ على جلب النفع أمر طبيعى، مركوز فى الفطرة الإنسانية، حيث يعمل الإنسان أولا على تأمين نفسه، وحراستها مما يعرّضها للهلاك، فإذا ضمن الإنسان الإبقاء على وجوده كان له أن يطلب ما يحفظ عليه هذا الوجود.. وهو جلب المنافع.. وفى مقررات الشريعة: «دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح» .
قوله تعالى: «وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، وعطفها عليها، أنها تكشف عن جناية هؤلاء المشركين على الإنسانية، وأنهم هم الدّاء الذي تسلط على الإنسانية قديما وحديثا، فأدخل على كيانها هذا الفساد، الذي يتمثل من وجودهم فى الجسد الإنسانى..
فالناس- فى أصلهم- فطرة سليمة، مستعدة للتهدّى إلى الإيمان بالله، والاستقامة على الخير والحق.. كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجّسانه» .
وكما تعرض العلل للجسم السليم كذلك تعرض الآفات والعلل للمجتمع الإنسانى، فيظهر فيه المنحرفون الذي يخرجون عن سواء الفطرة، وسرعان ما يسرى هذا الدواء، وتنتشر عدواه فى المجتمع..
ومن هنا يكون الناس على أشكال مختلفة، وأنماطا شتّى.. كل يركب طريقا، ويأخذ اتجاها..(6/976)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
ومن هنا أيضا يختلف الناس، وتختلف بهم الموارد والمشارب.. وإذا كلّ جماعة على مورد، وكل أمة على مشرب.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (118- 119: هود) .
وقد كان جديرا بهؤلاء الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى موقفهم المنحرف الذي خرجوا به على الفطرة الإنسانية، فركبوا طريق الكفر والضلال، وكان من شأنهم أن يكونوا مع الناس أمة واحدة مؤمنة بالله..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» إشارة إلى ما سبق أن قضى به الله سبحانه وتعالى من إمهال الظالمين، والعاصين، وأهل الكفر والضلال، وإنظارهم إلى يوم البعث، والجزاء- وأنه لولا ذلك القضاء الذي قضى به الله سبحانه وتعالى، لأخذ على يد كل ضالّ ومنحرف، فى هذه الحياة الدنيا، ولأوقع الجزاء عاجلا منجزا، فلا يبقى فى الناس ضال أو مفسد..
فالمراد بالكلمة التي سبقت من الله سبحانه، هى حكمه وقضاؤه، بأن يؤخّر الناس ليوم الدّين، وأن يوفّى الناس جزاء أعمالهم، فيكون منهم أهل النار، كما يقول سبحانه: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119: هود) .
الآيات: (20- 23) [سورة يونس (10) : الآيات 20 الى 23]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)(6/977)
التفسير:
قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» هو عطف على الآية قبل السابقة، وهى قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» (آية: 18) .. أما الآية (19) وهى قوله تعالى:
«وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» فهى معترضة بين الآيتين، لتكشف عن واقع هؤلاء المشركين، ولتبيّن لهم أنهم أخذوا طريقا منحرفا عن الطريق العام الذي كان من شأنهم أن يستقيموا عليه، لأنه فى الأصل، هو طريق الإنسانية كلّها.. ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم يعمون عن آيات الله، ويعشون فى ضوء صبحها المشرق الوضيء، فلا يرون فيها مقنعا لهم بأنها من عند الله، وأن الرسول الذي يتلوها عليهم هو رسول الله.. فيقولون للرسول- صلوات الله وسلامه عليه: «ائت بقرآن غير هذا أو بدله..» !
وإذ يؤبسهم الرسول من إجابة مقترحهم هذا بقوله الذي أمره الله سبحانه أن يلقاهم به: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» - تجرى الأحاديث فيما بينهم(6/978)
فى تساؤل جهول عقيم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» ؟ .. وهم يريدون بتلك الآية آية حسيّة كتلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام..
كما ذكر القرآن ذلك عنهم فى قوله تعالى: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (25: الأنبياء) .. ولو أنهم عقلوا لعرفوا أن الله سبحانه قد رفع قدرهم، وأعلى فى الناس منزلتهم، إذ جاءهم بمعجزة تخاطب عقولهم، وتتعامل مع مدركاتهم، ولم يأتهم بمعجزة تجبه حواسّهم، وتستولى على عقولهم، وتشلّ حركة تفكيرهم.. إن الله سبحانه قد ندبهم للتعامل مع هذه المعجزة العقلية، يدركون إعجازها ببصائرهم لا بأبصارهم، ويتناولون قطافها بمدركانهم لا بأيديهم، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا أطفالا لا رجالا.. وقد أنكر الله عليهم هذا الموقف، الذي وقفوه من القرآن الكريم، ورأوا أنّه غير مقنع لهم، كدليل سماوى.. فقال سبحانه وتعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
(50- 51: العنكبوت) .
والقوم لم يكونوا على غير علم بما فى آيات القرآن الكريم، وما فيها من إعجاز متحدّ لقدرة الإنس والجن.. فهم أقدر النّاس على نقد الكلام، والتعرّف تعرفا دقيقا على الفرق بين حرّ جواهره وزيفها، وجيّدها ورديئها..
ولقد بهرهم القرآن الكريم، فأخذوا به، وسجدوا- على كفرهم- لجلاله، وسطوته، وقالوا فيه: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» .. ولكنهم كانوا على عناد وكبر واستعلاء.. يأبون أن ينقادوا لبشر منهم، وأن يعطوا ولاءهم له..!
كما يقول الله تعالى على لسانهم. «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (24- 25: القمر) .(6/979)
فهذه المقترحات التي يقترحونها على النبىّ إن هى إلا تعلّات يتعلّلون بها لأنفسهم، ويرضّونها بهذه العلل، حتى لا تنزع بهم إلى الاستسلام لهذه القوة القاهرة التي تطلّ عليهم من عل، فى كلمات الله، وآيات الله.. وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا الشعور المتسلط عليهم، والذي يسوقهم إلى ركوب هذه الشاقّة، والتعلل بهذه العلل، فقال تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (14- 15: الحجر) .
وفى قوله تعالى: «فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» ردّ، وجبه لهؤلاء المشركين فيما يقترحونه على النبىّ من آيات ماديّة محسوسة، كأن يطلعهم على ما يأكلون، وما يدّخرون، وما يقدّرون لهم فى تجاراتهم وأعمالهم، من ربح أو خسارة، ونحو هذا.. فذلك ليس لبشر أن يعلمه، وإنما هو مما استأثر لله سبحانه وتعالى بعلمه.. لا يشاركه فيه أحد من خلقه.. وقد أمر الله سبحانه النبىّ أن يعلن فى الناس أنه لا يعلم من الغيب شيئا، فقال كما أمره الله سبحانه أن يقول:
«وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (188: الأعراف) .
وفى قوله تعالى: «فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين أمسكوا بأنفسهم، على هذا المرعى الوبيل من الضلال والشرك، عنادا، وجماحا.. فلينتظروا، والنبىّ منتظر معهم، وسيرون وسيرى من تسكون له عاقبة الدار.. «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» (135: الأنعام) .
قوله تعالى: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ»(6/980)
الذّوق، والتذوّق: الإحساس بطعم الشيء ومداقه، حلوا، كان أو مرّا..
والرحمة: النعمة، والخير..
والضرّاء: الضّرّ، والسوء، والشرّ..
والمسّ: لمس الشيء لمسا رقيقا..
والآية الكريمة تحدّث عن كفر «النّاس» بنعم الله، وجحودهم لأفضاله.. وأنهم إذا مسّهم الضرّ جزعوا، واستكانوا، وضعفوا.. وإن أصابهم الخير، وجرى عليهم النعيم.. طغوا، وبغوا ولبسوا جلود الأفاعى والنمور.
وفى الآية تعريض بالمشركين، وبمكرهم بآيات الله التي جاءهم بها رسول الله، هدى ورحمة، ليستنقذهم بها من ضلالهم، وليخرجهم بها من عمى الجاهلية، وسفهها، وليضفى عليهم الأمن والسلام بعد أن مزّقتهم الحروب، وعصفت بهم ريح البغي والعدوان.. وفى هذا يقول الله تعالى مذكّرا إياهم بما ساق إليهم من رحماته ونعمه، بهذه الرسالة الكريمة المباركة، وبهذا الرسول الكريم المبارك.. يقول تبارك وتعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» (103: آل عمران) .
- وفى قوله تعالى: «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا» إشارة إلى موقف المشركين من آيات الله، والمكر بها، والتعلل بالعلل الصبيانية علمها..
- وفى قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ» نذير شديد للمشركين، وأنهم إذا مكروا بآيات الله، فلن يفلتوا من عقاب الله.. إنهم يعلنون على الله حربا هم فيها المخذولون الخاسرون.. إنهم يبيّتون الشر، ويدبرون له، والله سبحانه بعلمه وقدرته مطلع على ما يبيّتون، مفسد ما يدبرون.(6/981)
قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
فى هاتين الآيتين، مظهر من مظاهر مكر الماكرين بآيات الله، وكفرهم بنعمه السابغة عليهم..
فما أكثر ما يركب الناس البحر فى ريح رخاء، تصحبهم فيه السكينة والبهجة، ثم على حين غرّة يموج بهم البحر ويضطرب، وتزمجر حولهم العواصف، وتصرخ بهم الريح فى جنون مخيف.. وإذا الهلع والفزع، وإذا الكرب الكارب، والهذيان المحموم، يشتمل على من فى جوف السفين، الذي يبدو وكأنه دودة على ظهر هذا الكون العظيم!.
ولا ملجأ من هذا الموت الفاغر فاه، ولا عاصم من هذا الهلاك المطلّ من كل مكان، إلا اللّجأ إلى الله، والاستصراخ له، والاستنجاد به.. فتتعالى صيحات الصائحين، واستغاثات المستغيثين، وضراعات المتضرعين.. فى غير اقتصاد أو انقطاع..
وتجىء رحمة الله فى إبّانها.. فتهدأ العاصفة، ويخفت صوت الريح..
وإذا البحر قد عاد ساكنا هادئا، وإذا السفين على ظهر حنون ودود، يهدهده كما تهدهد الأم رضيعها، حتى يبلغ السفين بأصحابه شاطىء الأمن(6/982)
والسّلامة، ويأخذ كل واحد من الركب وجهته، ثم لا يعود يذكر لله شيئا ممّا صنع به.. وإذا هو فى ضلاله القديم.. مشرك بالله، كافر بنعمائه! - وفى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إشارة إلى تلك النّعم التي سخّرها الله للناس، فى انتقالهم من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، على مراكب البر والبحر.. فى اختلاف أشكالها وأنواعها.
- وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» عرض لحالة من أحوال السفر التي تعرض أحيانا لراكب البحر.. وقد ذكرها القرآن الكريم هنا، ليكشف بها عن حال من أحوال الذين يكفرون بآيات الله، ويجحدون ما يسوق إليهم من نعم..
وقد جاء النظم القرآنى فى قوله تعالى: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ» بنون النسوة التي هى للعقلاء، مستعملا إياها للفلك، وهى غير عاقلة، وكان المتوقع أن يجىء التعبير هكذا: «وجرت بهم» .. وفى هذا ما يشير إلى أن الفلك، وهى تجرى فى ريح طيبة، وعلى ظهر بحر ساكن ساج، قد كان لها سلطان على هذا البحر، تغدو وتروح عليه كيف تشاء، وتتصرف كما تريد.. حتى لكأنها ذات عقل مدبّر، وإرادة نافذة.
وفى النظم القرآنى أيضا: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» ولم يجىء النظم هكذا: «وجرين بهم فى ريح طيبة» .. وذلك ليدل على أن الريح هى التي تحرك الفلك وتدفعها، فالباء هنا باء الاستعانة، التي تدخل على الأداة التي يستعان بها على العمل، كما يقال: كتبت بالقلم، وانتقلت بالقطار.. وهذا ما لا يفيده حرف الجرّ «فى» .. الذي يجعل الريح ظرفا يحتوى السفينة من جميع جهاتها، ولا يدفع بها إلى جهة ما..(6/983)
- وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» ..
اختلف النظم، فى قوله سبحانه: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ» فجاء على غير ما يقتضيه السياق.. وجىء بضمير الغائب، بدلا من ضمير الحضور.. هكذا:
«وجرين بكم» ..
فما سرّ هذا؟
تتحدث الآية الكريمة عن نعمة عامة شاملة من نعم الله، وهى تسيير الفلك فى البحر، كما يقول تعالى: «وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» (65: الحج) وكما يقول جل شأنه: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» (12- 13:
الزخرف) .
وهذه النعمة، لا يكفر بها الناس جميعا، وإنما يجحدها ويكفر بها من لا يؤمن بالله.. وهم الذين ذكرهم القرآن الكريم بضمير الغائب، بعد أن جاء التّذكير بالنعمة موجّها إلى الناس جميعا- ومنهم هؤلاء الكافرون- فى مواجهة وحضور.. وبهذا عزل الكافرون عن المجتمع الإنسانى، وأبعدوا من مقام الحضور، وحسبوا غائبين، لا وجود لهم.
- وفى قوله تعالى: «إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» .
أولا: «إذا» الفجائية هنا، تنبىء عن أن هؤلاء الكافرين، لم يمسكوا بتلك المشاعر المتجهة إلى الله، والضارعة إليه، حين مسّهم الضر فى البحر، إلا ريثما تلقى بهم الفلك إلى البرّ، حتى إذا مسّت أقدامهم اليابسة انفصلوا عن تلك المشاعر، وتخفّفوا منها، ورجعوا مسرعين إلى ما كانوا فيه من كفر وضلال وعناد.(6/984)
وثانيا: وصف البغي بأنه بغى بغير الحق، مع أن البغي لا يكون إلا عدوانا على الحق، وخروجا عليه.. فكيف يلحقه هذا الوصف، الذي يفهم منه أن هناك بغيا بحق، وبغيا بغير حق؟
ذكرنا جوابا عن مثل هذا، عند تفسير قوله تعالى: «وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» (181: آل عمران) .
والجواب هنا، هو أن وصف بغيهم بأنه بغى بغير الحق، فيه تغليظ لهذا البغي، وإلقاء مزيد من القبح على وجهه القبيح..
فالبغى فى ذاته جريمة منكرة شنعاء..
ولكنّه من أهل البغي، شىء لا يكاد ينكر عليهم، ولا يستغرب منهم.
وإذن فهو محتاج إلى أن يكون أكثر من بغى حتى ينكر عليهم، ويذمّ منهم..
فهذا البغي منهم هنا.. هو بغى على وصف خاصّ.. بغى بغير حقّ حتى عند أهل البغي أنفسهم، وهذا يعنى أنه بغى شنيع غليظ، بين صور البغي كلها.
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» نداء للناس جميعا، وإعلان لهم كلهم- برّهم وفاجرهم- بأن البغي والعدوان، والخروج على حدود الله، هو بغى وعدوان واقع عليهم، وآخذ بنواصيهم..
كما يقول سبحانه وتعالى: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» (44: الروم) وفى قوله تعالى: «مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» .. قرئ «متاع» بالنصب والرفع.. وعلى النصب- وهى القراءة المشهورة- يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف، تقديره، تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وتكون الجملة حالا من ضمير المخاطبين فى قوله تعالى: «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» .. وعلى قراءة الرفع يكون خبرا لقوله تعالى: «بَغْيُكُمْ» و «عَلى أَنْفُسِكُمْ» متعلق بالمبتدأ..(6/985)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
تهديد ووعيد لهؤلاء الباغين، وما يلقون من عذاب أليم، يوم يرجعون إلى الله، ويوفّون جزاء ما كانوا يعملون من منكرات.
الآيات: (24- 30) [سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 30]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28)
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)(6/986)
«الإنسان.. وما ينزل من السماء» التفسير:
قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ..»
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن وجه هذه الحياة الدنيا، التي ذكرت الآية السابقة تعلق الناس بمتاعها، وركوبهم مراكب البغي والطغيان فى سبيل المتاع بها.
وقد صورت الآية الكريمة هنا الحياة الدنيا فى ألوانها، وزخارفها، التي تغرى الناس بها، وتفتنهم فيها- بما نزل من السماء، فخالط نبات الأرض، فأخرج حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا، ولبست الأرض من ذلك كله حلة زاهية مختلفة الأصباغ والألوان، وبدت كأنها العروس فى ليل عرسها.. ثم إذا إعصار مجنون ملتهب، يمس هذه الجنّات المعجبة، وتلك الزروع المونقة، ويضربها بجناحيه، فإذا هى حصيد تذروه الرياح، وبباب قفر يضلّ به القطا.
- وفى قوله تعالى: «وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها» إشارة إلى تمكن أصحابها من جنى ثمارها، وتناول قطوفها.. إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضها للآفات التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر.. فإذا اجتاحتها آفة وهى على تلك الحال من الجمال والنضارة، كان ذلك أوجع وأفجع لأهلها.. كما يقول الشاعر:
إن الفجيعة فى الرياض نواضرا ... لأجلّ منها فى الرياض ذوابلا
- وفى قوله تعالى: «أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» .. «الحصيد» ما حصد من الزروع بعد نضجه.. و «تغن»(6/987)
بمعنى تكون، أو توجد، على حال من الاستقرار والثبات.. يقال غنى بالمكان، أي أقام فيه واستقرّ.
وفى إسناد الاستقرار إلى الأرض، مع أن الاستقرار إنما هو لأهلها، إشارة إلى أنها بما لبسها من حياة، وما نبض فى عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حلل وحلى. قد أصبحت كائنا حيّا، مستغنيا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف..
وفى تشبيه الحياة الدنيا، وما يلبس الناس فيها من ألوان الحياة والسلطان، وما يقع لأيديهم منها من مال ومتاع- فى تشبيه هذه الحياة بالماء الذي ينزل من السماء، فيختلط بنبات الأرض، ويلبس هذه المظاهر التي يشكلها من هذا النبات، ويصيرها جنّات وزروعا، وزهرا، وفاكهة وحبّا..
- فى هذا التشبيه إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من الآيات الدالة على علوّ متنزّله..
فالإنسان عنصر من عناصر هذه الحياة، ومادة من موادها.. إنه ماء من هذا الماء.. هكذا هو فى أصله ومادة تكوينه.. يقول تبارك وتعالى: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» (20: المرسلات) .
ويقول سبحانه: «خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً» (54: الفرقان) .. ويقول جل شأنه: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ» (5- 6: الطارق) .
هذا الإنسان الذي هو ابن الماء.. يخالط الحياة، ويتحرك فى أحشاء الوجود، وسرعان ما يصبح هذا الكائن، أو هذا الكون الذي يمشى على الأرض، وكأنه جنة قد أخذت زخرفها وازينت.. بملأ الأرض تيها وعجبا، ويمشى عليها مختالا فخورا، يكاد يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا..
وهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويختلط به نبات الأرض، وقد عرفت(6/988)
شأنه، وما يصنع من هذا النبات.. أليس هو هو الإنسان ابن الماء والطين؟ ثم أليس هذا الإنسان الذي هو محصول هذا الماء، ومنبت ذلك الطين، يصير حصيدا هشيما، كما يصير النبات ابن الماء والطين حصيدا هشيما؟
إن التطابق بين الصورتين على هذا التصوير المعجز، هو آية من آيات الله.. ليس فى مقدور بشر أن يمسك بخيط من خيوط نسجه المحكم الرائع! وهل هذا كل ما هنالك من هذا الإعجاز فى هذه الصورة؟ ومعاذ الله أن ينفد إعجاز كلامه، أو ينقطع جنى ثمره، على مدى الأزمان، وعلى كثرة الواردين والطاعمين.
انظر فى قوله تعالى: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» ..
وأكاد أدعك لتكشف عن سرّ هذا النظم، الذي جعل اختلاط نبات الأرض بالماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات.. هكذا: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» ، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنسانىّ لهذه الظاهرة..
فالماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسرى فى كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى، وهكذا نقدّر! ولكنّ عين المقدرة ترى مالا نرى، وتعلم مالا نعلم! فإن كنت تنكر هذه القدرة، أو تشك فى هذا العلم، فهات قدرتك، واستحضر علمك، وقل لى ماذا ترى هناك؟ وماذا تعلم مما بين الماء والنبات؟ ..
أيهما المختلط وأيهما المختلط به؟ وأيهما الفاعل وأيهما المفعول به؟
ودع عنك ما أنت فيه من نظر، وعلم..
وانظر فى كلمات الله تلك، وخذ العلم الحق منها.
ولن أدعك كما قلت لك.. بل سأنظر معك، وأتلقى العلم فى صحبتك!(6/989)
الماء، والنبات.. حين يلتقيان.. ماذا يحدث عند التقائهما؟ وماذا يكون من هذا اللقاء؟
وليكن فى تقديرك- قبل الإجابة على هذا التساؤل- أن المراد بالنبات هنا، هو نبات الأرض، أي بذرة النبات التي تغرس فى الأرض، لا النبات حين يكون نباتا.. فإنه فى تلك الحال، لا يكون مجرد نبات، بل هو الماء والنبات معا.. وأن لقاء قد كان بين الماء وبذرة النبات حتى أصبح نباتا، وإلا فهو بذرة، أو حبة، وليس نباتا وإذا تقرر هذا.. فلنجب على هذا السؤال: ماذا يحدث من التقاء الماء بالبذرة أو الحبة؟
البذرة أو الحبة التي تقلّبها بين يديك، ليست شيئا ميّتا- كما يبدو لنا- بل هى كائن حىّ، يحتفظ فى كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر من يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور.. وذلك لا يكون إلا بأمرين:
(أولا) : غرسها فى الأرض.. (وثانيا) وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين بهذا الماء..
هنا تبدأ الحياة الكامنة فى البذرة، أو الحبّة تتحرك، وتأخذ طريقها إلى الماء المختلط بالتراب، أعنى الطين، فتجذبه إليها، وتفتح له الطريق إلى الحياة الكامنة فيها، وتأخذ منه ما يروى ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق التي ائتمنها عليها..
فالبذرة أو النبتة إذن هى الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها..
وما الماء، وما التراب، وما الطين إلا عناصر مساعدة. فالحبة إذن هى الداعية لتلك العناصر، الطالبة للاختلاط بها.. ومن هنا جاء النظم القرآنى.. «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا.. كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ.. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» !!(6/990)
أرأيت إذن سر هذا النظم، الذي أسند الاختلاط بالماء إلى البذرة أو الحبة.. والذي لو جاء على عكس هذا، فأسند الاختلاط بالحبة إلى الماء، لكان خطأ علميا، يناقض ما كشف عنه علم الأحياء اليوم..
وهذا الذي حدثنك عنه لا يمثل إلا وجها واحدا من الصورة، هو وجه الماء والنبات..
أما الوجه الآخر، وهو الإنسان المقابل لهذا الوجه.. فهذا ما نقص عليك من أمره:
هذا الإنسان وإن كان نبتة من نبات الأرض، فإنه هو الماء الذي يبعث الحياة فى موجوداتها، ويكشف عن القوى الكامنة.. فهو- بهذا- قائم على ذلك الوصف الذي أنبأ عنه التشبيه فى قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» .. ويكون من هذا أن الحياة الدنيا هى هذا «الإنسان» .. وأنه لولا هذا الإنسان لما كانت تلك الحياة الدنيا، وما تنبض به عروقها من حياة دافقة، فى كل وجه من وجوهها..!
فالإنسان هو الحياة الدنيا.. وهو الماء الذي يثير الحياة، بل ويخلق الحياة فى كل ما على هذه الدنيا.. كما يبعث الماء الحياة فى الأحياء، بل وكما تتخلق منه الحياة، كما يقول الله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (30: الأنبياء) .
وانظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» ..(6/991)
وضع «الإنسان» أو «الناس» مكان الحياة الدنيا تجد:
أولا: الإنسان- الذي هو من الماء- والوجود الذي أقامه هذا الإنسان من عالم الموات فكان تلك الحياة الدنيا- كالماء المنزل من السماء، وما أثار فى الأرض من انطلاق الحياة الكامنة فيها..
وثانيا: الإنسان ودنياه التي صنعها بيده، ونسج خيوطها بعقله ويده- هو زرع، يبزغ، ويخضر، ويمتد، ويزهر، ويثمر، ثم يكون حصيدا هشيما، كهذا النبات الذي يملأ وجه الأرض حياة وجمالا، ثم يصير هشيما تذروه الرياح..!
وثالثا: هذا الإنسان الذي هو ابن ماء السماء.. فيه نفخة من الله ونفحة من روحه.. قد جاء إلى هذه الأرض من عل، فغيّر معالمها، وزين وجوهها.. تماما كما ينزل ماء الغيث من السماء إلى الأرض فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج..
ورابعا: الإنسان- ابن ماء السماء هذا- وإن كان علوىّ المتنزل، فإن منبته من الأرض، جاء منها، وارتفع فوق سمائها، ثم استوى عليها..
تماما كماء الغيث.. كان على الأرض، ثم كان سماء فوقها، ثم عاد إليها واختلط بها..
هذا، ولك أن تذهب إلى ما لا ينتهى، فى عد ما يؤديه إليك النظر، من مطالعة وجه الآية الكريمة، على امتداد هذه النظرة.. ثم لك أيضا بعد هذا أن تدير نظرك إلى أكثر من اتجاه غير هذا الاتجاه.. وستجد معطيات كثيرة لا تنتهى..!
قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..(6/992)
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تحدثت عن الحياة الدنيا، وكشفت عن أنها دار فناء، لا بقاء لشىء فيها، وإن زها وازدهر.. لا تبيت أحدا على جناح أمن أبدا، وإن أمكنته من كل أسباب السلطان والقوة والعزة..
فهو على طريق ينتهى به دائما إلى نهاية، هى الموت..!!
هذه هى الدار التي كشفت عنها الآية السابقة، وهى دار متاعها غرور، وظلها زائل.. لا يغتربها، ولا يثق فيها إلا من استجاب لداعى هواه، ووساوس شيطانه..
أما الدار التي تشير إليها هذه الآية: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ..»
فهى الدار الآخرة، وهى دار أمن وسلام، وخلود، يدعو إليها الله سبحانه وتعالى عباده، ويبعث فيهم رسله ليدلوهم عليها، وليكشفوا لهم معالم الطريق إليها.. فمن استجاب لدعوة الله، وصدّق برسله، واستقام على دعوتهم، كان من أهل هذه الدار، ومن أهل السلامة والأمن والنجاة، والفوز بنعيم الجنات، وبرضوان الله..!
وفى قوله تعالى: «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» إشارة إلى أنه ليس كل مدعوّ إلى هذه الدار بمستجيب للدعوة، إلا من وفقه الله، وشرح صدره لقبول هذه الدعوة، والاستجابة لها..
فالدعوة عامة.. موجهة من الله تعالى، إلى عباد الله جميعا.. ولكن من كان ممن رضى الله عنهم، وأحب أن يكون ضيفا على مائدة فضله وكرمه- جعلنا لله منهم- هشّ للدعوة وسعى حثيثا إلى جنات ربه، وأما من غلبت عليهم شقوتهم، واستبدت بهم شياطينهم- وعافانا الله من هذا البلاء- فإنهم فى صمم عن دعوة لله، لا يسمعونها ولا يستجيبون لها إذا سمعوها..(6/993)
قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
الرّهق: علوّ الشيء للشىء، وغلبته له، وتمكنه منه، بعد أن ينهكه ويرهقه.. كالمتسابقين فى الجري مثلا.. يرهق أحدهما الآخر، ويسبقه، بعد أن يجهده ويكدّه! والقتر: الغبار.. وهو هنا كناية عن الشدّة التي تصيب الإنسان، فتظهر آثارها على وجهه، فينطفئ بريقه، ويجفّ ماء الحياة منه..
وتعرض الآية الكريمة، صورة كريمة مشرقة لمن دعوا إلى دار السّلام، وأجابوا دعوة الله، وآمنوا به وبرسله، فكانوا من المحسنين، وكان جزاؤهم إحسانا بإحسان، وزيادة مضاعفة على هذا الإحسان..
وفى التعبير بالحسنى عن الإحسان: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى» ..
إشارة إلى العاقبة، وأنها العاقبة الحسنى.. فهى تدلّ على الإحسان، وعلى زمن الإحسان معا، وأنها فى الدار الآخرة، التي هى دار الجزاء الحق..
كما يقول سبحانه وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (83: القصص) .
وكما يقول سبحانه: «أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» (22- 23: الرعد) .
- وفى قوله تعالى: «وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ» تعريض بالكافرين الذين سينزل بهم هذا البلاء يوم القيامة، فيركب وجوههم الفتر، وتعلوها الذلة والهوان.
وعدم وقوع هذا بالمؤمنين المحسنين ليس جزاء لهم، وإنما هو لازم من لوازم الجزاء الحسن الذي جوزوا به، فحيث كان جزاؤهم الحسنى وزيادة،(6/994)
وكانت دارهم النعيم والرضوان، فإن القتر لا يطوف بهم، وإن الذّلة أبعد ما تكون عنهم..
فذكر هذا فى جانب المحسنين، هو تعريض بالكافرين، الذين سيرهق وجوههم القتر وتركبهم الذلة.. ثم هو- مع هذا- تذكير للمحسنين بالنعيم الذي هم فيه، والرضوان المحفوفين به، وأنهم فى عافية مما يحلّ بالكافرين من عذاب ونكال.
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
ذلك هو حساب الكافرين والمشركين وأصحاب الضلالات فى الآخرة، وذلك هو نزلهم يوم الدين.. وتلك هى دارهم يوم القيامة! - «جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها» .. كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال..
- «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» .. أي أنهم ينزلون منازل الهوان، والبلاء..
ثم هم مع هذا فى يأس قاتل، من أن تمتدّ إليهم يد تخفف عنهم ما هم فيه من عذاب ونكال.. «ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يعصمهم من هذا البلاء، ويحول بينهم وبينه.
- «كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» .. قد كسفت وجوههم، وعلتها غبرة، ترهقها قترة، حتى لكأنما غمست هذه الوجوه فى قطعة من الليل- فى ليلة حالكة السواد، لا يطلع فيها قمر، ولا يلمع فيها نجم، فكانت- لما علاها من غبرة- كأنما قدّت من هذا الليل البهيم.
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ(6/995)
أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» .
فى هاتين الآيتين عرض لبعض مشاهد يوم القيامة.. يوم يحشر الناس إلى ربّهم للحساب والجزاء.
وفى هذا المشهد، ينادى منادى الحقّ على المشركين: «مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ» .. أي الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تتحركوا حتى تحاسبوا على ما ارتكبتم من آثام..
وفى هذه الدعوة الزاجرة الصادعة ما يكشف عن وجه هؤلاء القوم، وأنهم مجرمون، قد ضبطوا متلبسين بجرمهم.. وهذه يد القصاص تمسك بهم، وتقيّدهم حيث هم، إلى أن يلقوا الجزاء الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (22- 24: الصافّات) .
وفى موقف المساءلة والحساب، فرّق بين الفريقين: العابدين والمعبودين..
فأخذ كل فريق جانبا مواجها للآخر.. «فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» أي فرقنا بينهم، وأصله من الزوال، وهو ذهاب الشيء واختفاؤه، ومنه وقت الزوال، وهو توسط الشمس فى كبد السماء، حيث يختفى ظل الأشياء فى هذا الوقت..
وقد جاء اللفظ القرآنى «زيّلنا» بدلا من اللفظ «فرقنا» .. لأن مع التفريق بقية أمل فى الاجتماع، أما التزييل، فهو غروب إلى الأبد، واختفاء لا ظهور بعده..
وفى هذا ما يزيد فى وحشة المشركين، الذين كانوا يستندون إلى من(6/996)
عبدوهم وأشركوا بهم، وكانوا يتأسّون بمشاركتهم فيما سيقع لهم، ففى هذه المشاركة عزاء لهم أي عزاء.. كما تقول الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى
وقبل أن يزايل المعبودون موقف المشركين، ينكرون ما كان بينهم من صلات عقدها المشركون معهم، على غير علم منهم.. قائلين لهم: «ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ» .. ثم يشهدون الله سبحانه وتعالى على ذلك: «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» أي إننا لا ندرى من أمركم شيئا..
و «إن» هنا هى «إنّ» المؤكدة، خفّفت.. أي إننا كنا عن عبادتكم لغافلين.
وإنكار العبودية على المشركين أنّهم عبدوهم، مع أن الله سبحانه وتعالى أعلمهم بهذا، إذ جمعهم بعابديهم- هذا الإنكار يراد به أن هذه العبادة لم تكن عن علم من المعبودين، أو عن دعوة منهم لعابديهم.. فهو تقرير لواقع الأمر، حين وقعت هذه العبادة، وذلك أنهم إنما كانوا يعبدون أصناما جامدة، وأحجارا صمّاء، لا تدرى من أمر عابديها شيئا.. أو بشرا اتخذوهم آلهة لهم بعد موتهم، كما قالت اليهود عن عزيز، وكما قالت النصارى عن المسيح.. وهذا ما يشير إليه قولهم بعد هذا «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» .
قوله تعالى: «هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» «تبلو» : من الابتلاء، وهو الاختيار للشىء، والتعرف على حقيقته..
و «أسلفت» أي ما سلف لها من عمل، وما كان لها من سعى..(6/997)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
والمعنى: أنه فى هذا الموقف، موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، تعرف كلّ نفس ما قدمت من عمل فى دنياها لآخرتها..
فهناك يرى الناس أعمالهم على حقيقتها، حيث يكشف الغطاء عن وجوهها، فيعرف الحق من الباطل، والخير من الشرّ، والهدى من الضلال.. «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ»
(6: الزلزلة) - وفى قوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» إشارة إلى ما كان يتعامل به المشركون والكافرون من ضلالات ومنكرات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.. فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف)
الآيات: (31- 36) [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 36]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)(6/998)
السمع والبصر.. ومكانهما فى الإنسان
التفسير: عرضت الآيات السابقة بعض مشاهد القيامة، ليرى الناس منها صورة مصغرة لما يقع فيها، من مساءلة، وحساب، وجزاء، وليكون لهم منها عبرة وعظة..
وهنا فى هذه الآيات.. يعاد الناس إلى حيث هم فى هذه الحياة الدنيا، وقد صحبتهم من مشاهد القيامة مشاعر، من شأنها أن تفتح عقولهم وقلوبهم لآيات الله التي تتلى عليهم، والتي تحدّثهم عن قدرة الله، وتكشف لهم آياته فيهم، وآثار أفضاله ونعمه عليهم..
وقوله تعالى: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ» .
هو عرض لبعض آيات الله، وما تحمل من دلائل قدرته، ورحمته..
فهذه أسئلة، كان ينبغى أن يوردها الإنسان على نفسه، وأن يتلقّى الجواب عليها من النظر فى نفسه، وفيما يطوله إدراكه، من النظر فى ملكوت السموات والأرض.
وإذ كان الناس فى غفلة عن أن يقفوا هذه الوقفة مع أنفسهم، وأن يصلوا إلى الحقيقة بمجهودهم الشخصي.. فقد كان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون إليهم كلماته، ويحدّثونهم بما كان ينبغى أن يحدّثوا هم أنفسهم به.
- «مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» ؟
- «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ» ؟
- «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» ؟
- «وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» ؟(6/999)
ما جواب هذه الأسئلة؟
جواب واحد، لا غير.. هو الله رب العالمين..!
وهنا أمور نحبّ أن نقف عندها:
فأولا: إسناد ملكية السمع والأبصار لله..
لم أسندت إليه سبحانه وتعالى ملكية هاتين الحاستين وحدهما.. مع أنه- سبحانه- يملك كلّ شىء؟ ولم كانت إضافتهما إلى الله بالملك، ولم تكن بالخلق، كما هو أظهر.. فقد يملك الشيء من لا يوجده ويخلقه؟
والجواب: أن السمع والبصر هما أظهر حاستين عاملتين فى الإنسان، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بهما، فإذا فقدهما، كان كومة متحركة من لحم، لا تعقل ولا تعى شيئا! فعن طريق السمع والبصر، جاءت المعرفة إلى الإنسان، وتكونت مداركه، وأخيلته، وتصوراته.. وعن طريق السمع والبصر، تتحول هذه المعرفة إلى قوى دافعة، تحرّك الإنسان، وتوجهه إلى غاياته فى الحياة..
وأما عن التعبير بملكية السمع والأبصار، لا بخلقهما، فلأن الملكية تطلق يد المالك فى التصرف فيما ملك.. ولا ينفى هذا أن يكون المالك هو الخالق، فهو يخلق ويملك ما يخلق.. وقد يخلق ويهب ما يخلق، أو يملّك ما يخلق، فيكون للمالك وحده- حينئذ- التصرف فيما ملكه! فالتعبير بملكية السمع والأبصار، يعنى أن الله سبحانه وتعالى- وإن فضل بهما على الإنسان، فهما لم يخرجا عن سلطانه، وأنهما- وهما يعملان فى الإنسان- يعملان بقدرة الخالق، وبتصريفه لهما.. وأنه- سبحانه- هو الذي يمدّهما بالقوى التي يعملان بها، ولولا هذا لبطل عملهما.. فهو- سبحانه- الذي أعطى السمع والأبصار، ما لهما من قوى عاملة، وهو القادر(6/1000)
على أن يأخذ هذه القوى، ويبطل عمل السمع والبصر، كما يقول سبحانه:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» (46: الأنعام) .
وثانيا: إفراد السّمع وجمع الأبصار.. ما دلالة هذا؟ وما السرّ الذي ينطوى عليه؟
والمتتبع لآيات الله، التي تتحدث عن السمع والبصر، يجد أن القرآن الكريم قد فرّق بين السمع والبصر، فى الصورة التي عبّربها عن كل منهما.
فأما عن السّمع.. فقد التزم فيه القرآن الكريم الإفراد مطلقا، سواء اقترن به البصر أم لم يقترن.. وسواء أجاء منكّرا، أو معرفا بأل أو بالإضافة..
ولم يقع فى القرآن مجىء السّمع جمعا فى أي حال من أحواله.. ولم يرد فى القرآن لفظ «الأسماع» أبدا..
يقول الله تعالى: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» (101: الكهف) .. ويقول سبحانه: «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» (26: الأحقاف) ويقول تعالى: «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ» (23: الجاثية) ويقول جلّ وعلا: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ» (26: الأحقاف) ويقول تبارك وتعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ» (46: الأنعام) .
ويلاحظ فى الآيات القرآنية التي ورد فيها «السمع» أنه يقترن دائما بالبصر، أو الأبصار، فإن لم يقترن بهما اقترن بحال من أحوال الإنسان التي يكون فيها فى ذهول وغفلة وشرود.. كما فى قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» (221- 223: الشعراء) وقوله سبحانه:(6/1001)
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (37: ق) .. فالقلب هنا يقوم مقام البصر، فى كشف معالم الطريق إلى الهدى والنور.. وقوله سبحانه: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» (101: الكهف) فالعيون التي فى غطاء عن ذكر الله، هى العيون التي لا تتصل معطياتها بعقل أو قلب، وهى الأبصار المعطلة التي لا تعمل! وأما عن البصر.. فقد عبّر عنه القرآن بصيغة الإفراد، وبصيغة الجمع..
وذلك فى حال إفراد البصر بالذكر دون أن يقترن به السمع.
فقد جاء البصر مفردا مثل قوله تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» (17: النجم) وقوله سبحانه: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (50: القمر) وقوله جلّ شأنه: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» (4: الملك) وجاء البصر جمعا، غير مقترن بالسمع، كقوله تعالى: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» (10: الأحزاب) وقوله سبحانه:
«فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46: الحج) .. وقوله: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (2: الحشر) .
كذلك جاء البصر جمعا مقترنا بالسّمع، مثل قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» (23: الملك) وقوله جل شأنه: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» (78: المؤمنون) وقوله سبحانه:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ» (46: الأنعام) .
وهكذا جاء وضع السمع فى كلام الله، مخالفا بينه وبين البصر.. حيث يجىء السّمع مفردا دائما، ويجىء البصر مفردا وجمعا.. وأكثر ما يجىء البصر(6/1002)
جمعا إذا اقترن بالسّمع- وقد جاء السّمع مفردا مقترنا بالبصر فى قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» (36: الإسراء) والسرّ فى هذا- والله أعلم- هو أن بين السمع والبصر اختلافا من وجوه:
فأولا: السمع طريق إلى شىء واحد، هو الصوت.. والصوت، وإن اختلف قوة وضعفا، ورقّة وخشونة.. فهو- على أي حال- شىء واحد، فى النوع، وإن اختلف فى الدرجة.
أما البصر فهو طريق إلى هذا الكون كلّه، وما فيه من عوالم وأكوان، وما فى كل عالم وكون، من ناطق وصامت، ومتحرك وثابت، وجامد وسائل.. إلى غير ذلك مما فى العالم الأرضى من كائنات، وما فى السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وكواكب ... وكلها مختلفة متغايرة.
فالبصر، بالقياس إلى السّمع، هو أبصار.. يتعامل مع ما لا يحصى من الأشياء، حتى إنه فى النظرة الواحدة يفتح عشرات القوى المبصرة، فتجىء إليه بأكثر من منظور! وثانيا: السمع، لا يستطيع أن يضبط أكثر من صوت واحد، فى حال واحدة.. وإلا اختلطت عليه الأصوات، وذاب بعضها فى بعض، وعسر على الإدراك، عزلها، وتمييزها.
والبصر.. ينقل كثيرا من المرئيات فى حال واحدة، ويحتفظ لكل مرئى بصورته، دون أن تختلط بغيرها.. وينقلها إلى الإدراك منفصلة، كما ينقلها إليه متصلة.
فهو- من هذه الجهة- أكثر من حاسّة.. إنه أبصار، وليس بصرا واحدا..(6/1003)
وثالثا: السّمع مقيّد بوجود الصوت، الذي يتعامل معه.. فإذا لم يكن هناك صوت، تعطّل السّمع، وخيم عليه صمت رهيب!.
أما البصر، فهو عامل دائما، فحيثما فتح الإنسان بصره وجد ما ينقله إليه بصره من أشياء لا تكاد تحصى.. فى أي مكان، وفى أي زمان.
فالبصر بالقياس إلى السمع هنا، هو أبصار كثيرة.. لا عدّ لها ولا حصر.
ورابعا: وأكثر من هذا كلّه- وهو فى النظم القرآنى بالمحلّ الأول- هو أن البصر يستطيع أن يمسك بالأشياء، ويقف ما شاء له الوقوف إزاءها، ويعاود النظر إليها، مرة ومرة ومرات.. ويتفحصها من جميع وجوهها..
والسمع بمعزل عن هذا، إذ لا يستطيع أن يمسك بالصوت أكثر من اللمسة العابرة التي تمرّ به.. وفى هذا يقول الله: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» (3- 4: الملك) .
ومن هنا، كان البصر، أبصارا، فى معاودته النظر إلى الأشياء، وفى تفحصها، والنظر إليها من جميع جهاتها، من قرب ومن بعد..
ومن هنا أيضا كان التفات القرآن الكريم إلى النظر، وتوجيهه إلى ملكوت السموات والأرض، وعقد صلة وثيقة بينه وبين القلب..
يقول تبارك وتعالى: «قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (101 يونس) ويقول سبحانه: «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» (99:
الأنعام) .. ويقول جل شأنه: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ» (20: العنكبوت) .. ويقول سبحانه:
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (50: الروم) .(6/1004)
وكما دعا القرآن إلى النظر فى المحسوسات، وأخذ العبرة والعظة منها، دعا إلى النظر فى المعنويات، وتدبّرها، ووصل العقل والقلب بها..
يقول سبحانه وتعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (75: المائدة) ويقول جلّ شأنه: «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً» (50: النساء) ويقول سبحانه: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» (48: الإسراء) ومن إعجاز القرآن فى هذا أيضا، أنه تحدّث عن حاسّة السّمع باعتبارين:
باعتبار أنها جارحة من الجوارح، وجهاز من الأجهزة، وظيفتها نقل الصوت، شأنها فى ذلك عند الإنسان شأنها عند الحيوان.. فهى «أذن» وهى بتعدد أصحابها «آذان» ..
وهذا ما نراه فى قوله تعالى، فى تسفيه أحلام المشركين، وإنزالهم منازل الحيوان: «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟. أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟» (195: الأعراف) .. فهذه كلها جوارح حيوانية، ركّبت فى كائنات حيوانية، لم ترتفع بعد إلى مستوى الإنسانية.. فالأذن عندهم أذن، وليست سمعا! أما إذا تحدث القرآن عن الآذان باعتبار أنها جهاز متصل بالقلب والإدراك.. فهى «سمع» وهى بتعدد أصحابها «سمع» أيضا..
أما البصر، فقد تحدّث القرآن عنه بالاعتبارين اللذين تحدث بهما عن السّمع.. فهو كعضو من أعضاء الجسم «عين، وعيون» .. وهو كجهاز متصل بالقلب، والعقل.. «بصر» و «أبصار» .
ثم تحدث القرآن عن البصر باعتبار ثالث، وهو أنه «بصيرة» .. أي ملكة تتخلّق من النظر المتأمّل، المتفحص.. «فالبصيرة» بنت «البصر» ..(6/1005)
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (2: الحشر) ويقول سبحانه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (13: آل عمران) ولهذا اشتقّ القرآن من البصر: البصيرة.. والبصائر.. والتبصرة، فقال تعالى: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»
(14: القيامة) وقال سبحانه:
«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104:
الأنعام) .. ويقول جل شأنه: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» (7- 8 ق) .
وبعد، فما أرانا بعد هذا الوقوف الطويل على ساحل هاتين الكلمتين..
«السمع والأبصار» - ما نرانا إلّا قد حسونا حسوة من هذا المورد المتدفق العذب، تنقع الصدى، ولا تشفى العليل.. وذلك هو جهد من قصر باعه، فمن كان ذا باع فليرد، وليرتو، وليرو الظّماء! فهذا مورد لا يغيض!.
قوله تعالى: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ..فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ.. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» .
الإشارة هنا: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ» إلى الناس جميعا، مؤمنهم، وكافرهم، ومشركهم.. تلفيهم إلى الإله الحق. الذي خلق فسوّى.. ثم نخلص الإشارة بعد هذا إلى الكافرين والمشركين الذين ضلّ سعيهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الضلال.. فتنخسهم نخسة موجعة بهذا الاستفهام الإنكارى:
فماذا بعد الانصراف عن الإيمان بالله، والتعبد له- ماذا بعد هذا إلا ركوب الضلال، والضرب فى المتاهات، والتعبّد لكل باطل وبهتان: «فَأَنَّى(6/1006)
تُصْرَفُونَ»
.. أي فإلى أين تذهبون؟ وإلى أي مهلكة أنتم واردون أيها الضالون؟
قوله تعالى: «كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» .
حقت: أي وجبت، وقضت، ولزمت! فهؤلاء الذين فسقوا، وخرجوا عن طريق الحق، وكفروا بالله، هم ممن حكم الله عليهم بألا يكونوا فى المؤمنين.. وذلك دون أن يقسرهم الله على الكفر، أو يسلبهم إرادتهم، أو يعطل عمل عقولهم..
وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، تحت عنوان «مشيئة الله ومشيئة الإنسان» .. «1»
قوله تعالى: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» .
الإفك: الافتراء، واختلاق الأباطيل.. وأنّى: بمعنى كيف.
وفى الآية محاجّة للمشركين، بعرض آلهتهم التي يعبدونها موضع الامتحان إزاء قدرة الله سبحانه وتعالى..
فالله سبحانه وتعالى يبدأ الخلق ثم يعيده.. فهو سبحانه خالق هذا الوجود، ومبدع هذه الأكوان.. وهو الذي أوجد الناس من عدم، وهو الذي يميتهم.. ثم هو الذي يبعثهم..
فهل فى هؤلاء المعبودين من يفعل هذا، أو بعض هذا؟
__________
(1) انظر التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الخامس- الجزء الثامن ص 263.(6/1007)
لقد قالها «النمرود» لإبراهيم، وهو يحاجّه فى ربّه، فألقمه إبراهيم حجرا.. فخرس إلى الأبد..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ..
«قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. «قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.. «قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ؟ «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (258: البقرة) .
وفى الآية جاء النظم على غير ما جاء عليه فى الآيات السابقة من سورة البقرة، حيث دعى المشركون هنا إلى أن يدعوا آلهتهم أولا، ليؤدّوا هذا الامتحان، وليأتوا بما عندهم.. فإذا ظهر عجزهم، لم يكن إلا التسليم بأن قوة غير قوتهم هى التي أوجدت هذا الخلق الذي يملأ الوجود حولهم، فإذا لم يعرفوا هذه القوة، ولم يدركوا نسبتها إلى من بيده تلك القدرة.. فليسمعوا الجواب، وليصححوا عليه أفكارهم الخاطئة، ونظراتهم الزائفة: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» ! ولكن الضالين ما زالوا على ضلالهم القديم، لم يغيرّ هذا الدرس من تفكيرهم شيئا. بل ما زالت أبصارهم متعلقة بآلهتهم، وما زالت عقولهم تنسج لهم الأباطيل والضلالات.. وهنا يسمعهم الوجود كله، إنكاره عليهم هذا الضلال، وتسفيهه هذا البهتان: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» .. أي كيف تطوع لكم أحلامكم افتراء هذه المفتريات، أمام هذه الحجة الدامغة، والبرهان المبين؟ ..
وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟(6/1008)
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»
؟ .. فهذا امتحان آخر.. يدعى فيه المشركون إلى امتحان شركائهم به..
«هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» ؟
- هذا امتحان أيسر وأهون من الامتحان السابق الذي كانت مادته النظر فى بدء الخلق وإعادته..
أما هذا الامتحان فلا بعدو أن يسأل المشركون آلهتهم عن أمر ما، ثم يطلبون إليهم النظر فيه، وكشف وجه الحق لهم عنه: «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» ؟
وهؤلاء الآلهة، صم بكم.. لا يسمعون، ولا يجيبون.. فلا هداية منهم إلى حق، ولا دعوة الى غير حق! فإذا خرست هذه الآلهة عن أن تنطق.. فكيف يتخذها العاقلون الناطقون آلهة لهم يعبدونها من دون الله؟
وإذن فقد وجب على هؤلاء العاقلين الناطقين أن يطلبوا الهداية من رب الأرباب: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» وأن يتبعوا هديه، ويأخذوا بما جاءهم منه على يد رسله. «قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» ..
وأما وقد كشف الامتحان عن هذه الحقيقة، فإن الحكم الذي يوجبه العقل هنا، هو واضح لا يحتاج الى ترداد نظر:
- «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى» ؟
جواب واحد لا سبيل إلى غيره، إلا أن يركب المرء رأسه، ويمشى عليه،(6/1009)
بدلا من رجليه..
وفى الناس كثيرون يمشون هذا المشي المقلوب، ويأخذون هذا الوضع المنكوس..
وليس يصرفهم عن هذا صيحات الإنكار التي تصيح بهم من كل ناظر إليهم:
«فَما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ؟ هذا الحكم على أنفسكم، وتريدونها على هذا الوضع الذي أنتم فيه؟
وفى التعبير عن الاهتداء بلفظ «يهدّى» - إشارة إلى أن هذا الذي يعبده المشركون من دون الله، لا يستطيع أن يهتدى من تلقاء نفسه إلى خير أو حق أبدا، فهو فى حاجة إلى من يقوده ويهديه، وحتى مع هذا، هو بطيء الخطا، لا يستجيب استجابة كاملة لمن يهديه.. وهذا ما يدل عليه لفظ «يهدّى» الذي هو بمعنى يهتدى، ولكن فيه ثقل واضطراب! قوله تعالى: «وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا.. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» الظن هنا: ضدّ اليقين، وهو ما قام على أوهام باطلة، وتصورات مريضة، وذلك هو الذي يقوم عليه تفكير المشركين، وأصحاب الضلالات، والانحرافات لا تمسك عقولهم إلا بالأوهام، ولا تتعامل إلا بالظنون! فهذا البناء الشامخ الذي يقيمونه من أوهامهم وظنونهم، لآلهتهم، وما يعلّقون عليها من آمال، هى سراب خادع، وهى أضغاث أحلام، إذا جدّ الجد، ووقعت الواقعة، لم يجد أصحابها فى أيديهم شيئا.. «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»(6/1010)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين، الذين غرسوا فى مغارس الضلال، وأقاموا بنيانهم على شفا جرف هار.. فحبطت أعمالهم، وساء مصيرهم..
الآيات: (37- 41) [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 41]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
التفسير:
قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الأحاديث السابقة كانت عرضا لبعض مظاهر قدرة الله.. وآثار رحمته، وذلك لتفتح العقول والقلوب إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الإيمان به، والانخلاع عن عبادة الأوثان والأشخاص، واتخاذهم آلهة من دون الله.. وإنه لكيلا يضلّ الناس الطريق إلى الله، بعث فيهم رسله، وأنزل معهم كتبه بالهدى والنور.(6/1011)
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة إلى عباد الله، والقرآن الكريم هو الينبوع الذي تفيض منه الرحمة، وتنبعث من آياته وكلماته الأضواء والأنوار.. ومع هذا، فقد وقف المشركون من هذا النبي الكريم، ومن الكتاب الذي أوحى إليه من ربه- وقفوا موقف العناد، والعداء له، والتكذيب به، والافتنان فى سوق الضرّ والمساءة إليه.
وهذه الآية، تدفع عن القرآن الكريم، تلك الرّميات الطئشة، التي يرمى بها المشركون بين يديه، ويقولون عنه إنّه من مفتريات «محمد» ومن منقولاته عن الأحبار والكهّان، كما ذكر ذلك عنهم فى كثير من الآيات، كقوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» (103: النحل) وقوله سبحانه: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (5: الفرقان) - وفى قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» إنكار واستبعاد أن يكون هذا القرآن من مفتريات مفتر، واختلاق مختلق.. إذ أن الافتراء والاختلاق هو تزييف للحقيقة، وتمويه للحق..
والشيء المفترى المختلق- أيّا كانت براعة المفترى، وذكاء المختلق- هو ضعيف هزيل، لا يثبت للنظر، ولا يصمد للزمن، بل سرعان ما يتعرّى ويفتضح..
وفى الإشارة إلى القرآن بقوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنُ» تنويه به، وتمجيد له، وإلفات إلى علوّ منزلته، وتفرّده بهذه المنزلة التي لا يشاركه فيها مشارك.
- وفى قوله سبحانه: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إشارة إلى استبعاد أن يكون هذا القرآن من صنعة إنسان، ومن وحي خاطره، وتلقّيات مدركاته أو أوهامه.. وأنه حتّى لو كان مفترّى- كما يتخرّص المبطلون- فإنه مع(6/1012)
هذا- فوق مستوى البشر، وأنه ليس فى مستطاع القوى البشرية كلها- متفرقة أو مجتمعة- أن تفترى مثله.. وأن من قدر أن يفترى مثله فلا بد أن يكون على صلة بقوة إلهية، تمدّه، وتعينه، على ما يفتريه، حتى يكون افتراؤه على هذا المستوي الذي يتخاضع بين يديه صدق الصادقين، وتصغر فى حضرته حقائق المحقّين! فكيف وهو الحقّ من ربّ العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد؟
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» - هو معطوف على المصدر الواقع خبرا لكان فى- قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي وما كان هذا القرآن مفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه.
والعطف بالحرف «لكن» يجعل حكم ما بعدها مغايرا ومضادّا لما قبلها.
والذي بين يدى القرآن الكريم، هى الكتب السّماوية التي تقدمته فى الزمن، وهى التوراة والإنجيل.
وتصديق القرآن الكريم للكتب السماوية السابقة، هو أنه يشهد لها بأنها من عند الله، ويؤيد الحق الذي جاءت به، من الدعوة إلى الله، والإيمان به، وبما تدعو إليه من فضائل.. فهى جميعها من مصدر واحد.. قد جمع القرآن الكريم ما تفرّق منها.. كما يقول الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) والكتاب الذي جاء القرآن الكريم مفصّلا له، هو الكتاب «الأمّ» فى اللوح المحفوظ.. الذي صدرت عنه الكتب السّماوية جميعها، فهو من تفصيل هذا الكتاب، ومن محكمه.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ(6/1013)
جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
(52: الأعراف) وكما يقول سبحانه: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» (4: الزخرف) فالقرآن الكريم موصوف هنا بخمس صفات: - أنه غير مفترى.. ولو كان مفترى- كما يقولون- فإنه مع هذا، فوق مستوى البشر! وأنه مصدّق للكتب السابقة، وشاهد بصدقها.
وأنه من تفصيل الكتاب «الأمّ» ومن ينابيعه الوضيئة الصافية.
وأنه لا ريب فيه، فلا يجد الناظر فيه، والمعايش له، ما يربيه منه، أو يقع موقع الشك واللبس عنده.
وأنه- قبل هذا كله- تنزيل من ربّ العالمين.. وكفاه بهذا كمالا وعلوّا، وإحكاما.
قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. هو تحدّ للمعاندين، المكابرين من المشركين، الذين يقولون فى القرآن الكريم: إنّه من مفتريات محمد..
صلوات الله وسلامه عليه..
وقد تحدّاهم القرآن هنا أن يأتوا بسورة من واردات الافتراء التي جاء «محمّد» بهذا القرآن منها.. فميدان الافتراء والاختلاق فسيح لا حدود له، ولا حجاز دونه..
فليجهدوا جهدهم، وليستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به، من أحبار(6/1014)
ورهبان وكهّان، ومن سحرة وشعراء وخطباء، ومن إنس وجنّ.. ثم ليأتوا- بعد هذا- لا بمثل هذا القرآن كله، ولكن بمثل سورة منه.. ولينظروا فى وجه هذا الذي جاءوا به، وليضعوه، فى مواجهة آيات القرآن الكريم، ثم ليحكموا هم على ما جاءوا به، وهم أهل لهذه الحكومة، وصيارفة معادن الكلام..
فماذا يكون الذي يحكمون به؟ إنه لا شك إدانة لهذا المولود اللقيط الذي جاءوا به، واتّهام له أنه جاء من غير رشدة.. وأنه لن يجرؤ أحد منهم أن ينسبه إليه أو يحمله بين يديه، لو صدق نفسه، واحترم عقله، واحتفظ بماء الحياء فى وجهه! قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» ..
تفضح هذه الآية الكريمة طيش هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من حماقة وجهل.. ذلك أنّهم على غير ما عليه العقلاء، من تثبتهم فى الأمور، وتعقلهم لها، وتفرسهم فى وجوهها قبل أن يحكموا عليها، وقبل أن يأخذوا بها أو يدعوها..
فهؤلاء المشركون، قد استقبلوا القرآن الكريم بالبهت والتكذيب، قبل أن يروه رؤية كاشفة، وقبل أن يستمعوا إليه استماعا واعيا.. «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ» .. وهذا ضلال مبين، وخسران عظيم، واعتداء على حق العقل فى النظر والتثبت، قبل الرأى والحكم.
وليس المراد بالعلم هنا، هو العلم بالقرآن، والإحاطة بهذا العلم الذي ضمّ عليه، بل هو العلم مطلقا، بأى شىء، ولأى شىء.
وفى هذا مبالغة فى تسفيه القوم، واستسخاف عقولهم.. حيث تغلب(6/1015)
عليهم أهواؤهم ونزعاتهم، فلا يلقون الأمور بعقولهم، ولا يزنونها بأحلامهم، وإنما يلقونها بأهوائهم المسلطة عليهم، ويزنونها بما يقع لأيديهم منها، من نفع ذاتى عاجل.. فإذا لم يستقم الأمر على ميزانهم هذا، تنكروا له، وأنكروه، من قبل أن يعلموا ما هو؟ وما الصفة التي يقوم عليها؟
- وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» - إشارة خاصة إلى القرآن الكريم، وأنه ليس من عوارض الأمور، التي يفرغ المرء من حسابه معها فى نظرة عابرة، أو لمسة طائرة.. وإنما هو آيات الله، قد أودعت فى حروفه وكلماته وآياته، أسرار هذا الوجود، ونظام هذا العالم، وملاك أمر هذا المجتمع الإنسانى، ومناهج سعيه المستقيمة.
وإذا كان هذا هو شأن القرآن الكريم، فإنه- لكى يتعرف الإنسان عليه، ويقع على بعض ما فيه من أسرار- يجب أن يقف المرء طويلا معه، وأن يعطيه ملكاته كلها، وبهذا يعرف ما هو هذا القرآن الذي يسمعه، ويدرك طعم هذا الثمر الذي يتدلّى عليه من أغصانه وأشجاره..
أما النظرة الحمقاء الشاردة العجول، أو النظرة الجامدة الباردة العمياء.
فلن تنال شيئا، ولن تبلغ غاية، تحصّل بها شيئا من هذا الخير الكثير..
وهذا هو السر أو بعض البسر- فى «لمّا» التي تفيد امتداد الزمن وتراخيه حتى يقع الحديث الذي يجىء من الفعل الوارد عليه هذه الأداة «لمّا» التي تفيد التراخي والامتداد فى الزمن المستقبل.
والصورة هنا هكذا:
إن هؤلاء المشركين من شأنهم أن يواجهوا الأمور بعواطفهم ونوازع أهوائهم، فيدفعوا كل أمر لا يلتقى مع أهوائهم، ولا يستجيب لمنازعهم..(6/1016)
هكذا شأنهم مع صغير الأمور وكبيرها، ومع قريبها وبعيدها.. فإذا جاءهم أمر تلقّوه سلفا بما تموج به صدورهم من نزعات وأهواء، فإذا جاء الأمر على وفق أهوائهم، وجرى على طريق نزعاتهم، قبلوه، واطمأنوا إليه، وإلا أنكروه، وتنكروا له! وهم مع القرآن، بادءوه بالإعراض والتكذيب قبل أن ينظروا فيه.. ومن نظر منهم إليه، نظر نظرا منحرفا، باردا.. فكذبوا بالبدهيات، كما كذبوا بما يحتاج إلى بحث ونظر، وإمعان.. «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» أي كذبوا بما لم يقع لهم منه علم أصلا، لأنهم لم ينظروا فيه، ولو نظروا لعلموا، ثم كذبوا بما لم يأتهم تأويله ولم يدركوا أسراره، لأنهم لم يطيلوا البحث ويمعنوا النظر، ولو فعلوا، لجاءهم تأويله، وانكشفت لهم بعض أسراره..
فهم على تكذيب بالقرآن أبدا.. يكذبون به قبل أن ينظروا فيه، ويكذبون به بعد أن ينظروا فيه، لأنهم يسبقون هذا النظر بمشاعر الاتهام، فإذا نظروا لم ينفعهم النظر، لأنه- كما قلنا- نظر شارد، مستخفّ بما ينظر إليه..
وقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ» هو بيان لموقف المشركين من القرآن الكريم، وتعاملهم معه..
فهم فريقان.. فريق نظر فى القرآن، وعرف وجه الحق فيه، ولكن يأبى عليه كبره وعناده أن يخرج عن مألوف عادته، وأن يتقبل الدّين الجديد ويترك مخلفات الآباء والأجداد.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فيما حكاه عن هؤلاء المشركين فى قوله سبحانه: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (33: الأنعام)(6/1017)
وفريق يبادىء القرآن بالتكذيب من قبل أن يسمع أو ينظر.. «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ.. فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» (5: فصلت) ..
هكذا أهل الزيغ والضلال.. يعمون عن الحق، ويزيغون عن الهدى، سواء منهم من عرف الحق ومن لم يعرفه.. فليس كل الذي يعرف وجه الحق يقبله أو يقبل عليه.. فما أكثر الذين يعرفون الباطل ويتعاملون معه!، وما أكثر الذين يعلمون الشر ويلقون بأنفسهم فيه!. وما أكثر الذين يرون الهوى ويتعامون عنه!، وما أكثر الذين يبصرون وجه الحق ويتنكرون له! ..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ.. ظُلْماً وَعُلُوًّا» (14: النمل) قوله تعالى: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» ..
هذا هو الموقف الذي كان على النبي أن يأخذه إزاء المشركين المعاندين المكذبين.. إنه ليس له سلطان عليهم يأخذهم به قهرا وقسرا، إلى ما يدعوهم إليه من الهدى والحق والخير الذي ساقه الله سبحانه وتعالى على يديه إليهم..
إنه ما عليه إلا أن يبلغ رسالة ربه.. وقد بلّغها.. «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) .. «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (44: الروم) .. فلكل إنسان عمله، الذي سيجزى به يوم القيامة.. من خير أو شر.. «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (164: الأنعام)(6/1018)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
الآيات: (42- 44) [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 44]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
التفسير: قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ» ..
الضمير: فى «منهم» يعود على المشركين الذين جاء ذكرهم فى الآيات السابقة، وكشف القرآن عن بعض أحوالهم ومواقفهم من الرسول الكريم، والقرآن الكريم وفى هذه الآية بيان لحال من أحوال هؤلاء المشركين.. وأن منهم من يستمعون إلى القرآن الكريم، والنبىّ يتلوه على الناس.. ولكنهم لا يفتحون لما يسمعون آذانا، ولا قلوبا، فلا يقع لهم مما يستمعون شيئا من الاستضاءة والهدى.
وقد ربط القرآن الكريم هنا بين الأذن والعقل.. للدلالة على أن ما تسمعه الأذن، مجرد سماع، دون أن يعيه الإنسان ويعقله، ليس إلا أصواتا لا مفهوم لها، وليست حاسة السمع حينئذ إلا أداة معطلة لا عمل لها.. إذ أن من عملها أن تصل الإنسان بهذا الوجود، بما يقع فيها من حكمة وموعظة حسنة.. فالأذن إذا لم يكن بينها وبين العقل والقلب اتصال وثيق لما يقع فيها من كلمات-(6/1019)
لم يكن لما تسمعه من طيّب الكلام، وحكيم القول، أثر فى مدركات الإنسان وفى سلوكه.. إذ لا يخرج هذا الكلام عن أن يكون مجرد أصوات لا مفهوم لها..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ»
(12: الحاقة) .
قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ» ..
وتلك جماعة أخرى، لها موقف آخر مع النبي، وقد سمعت القرآن، ثم جعلت تنظر فيه بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فلم تهتد إلى خير، ولم تتعرف إلى حق..
ويلاحظ هنا أن القرآن لم يصل بين النظر والعقل، أو القلب، كما فعل ذلك مع السمع، بل جعل مجرد تعطيل أداة النظر عن أداء وظيفتها، حجزا عن عن الخير، وعزلا عن الهدى..
وذلك أن النظر- كما قلنا فيما سبق- جهاز يمد الإنسان بأكثر ما يقوم عليه بناء الملكات والمشاعر والوجدانات، فى كيانه، فهو باب المعرفة الذي يطلّ منه الإنسان على هذا الوجود، ويصيد بشباكه، ما يشاء من محسوسات ومعنويات.. ومن هنا كان فى ذكر النظر، ذكر واستحضار لملكات الإنسان ومشاعره، ووجداناته.. فإذا عمى النظر أو زاغ، عميت تلك الملكات وزاغت المشاعر، واضطربت الوجدانات..
ومن جهة أخرى، فقد اختلف النظم القرآنى فى الآيتين.. هكذا.
- «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» .(6/1020)
- «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» .
فجاء الاستماع مسندا إلى الجمع، على حين جاء النظر مسندا إلى المفرد..
وفى هذا إشارة إلى أن الذي يستخدم حاسة السمع لا بد أن يدانى الذي يتحدث إليه، وأن يقترب منه بحيث يسمع ما يقول..
أما الذي يستخدم حاسة النظر، فقد ينظر من بعيد، بحيث لا يظهر لمن ينظر إليه..
وإذا كان النبي هو الذي يتلو القرآن على الناس، ليبلّغهم ما أنزل إليه من ربه، فإن ذلك من شأنه عادة أن يكون بمحضر من أعداد كثيرة من المستمعين، ولهذا جاء النظم القرآنى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» .. محدّثا عن هذا العدد الكثير، أو القليل، الذي يستمع إلى النبىّ..
وليس كذلك الحال فى مجال النظر إلى ما مع النبي من آيات ربه.. أو النظر إلى النبىّ ذاته، فى أحواله ومسلكه فى الحياة..
فإن النظر فى آيات الله، هو نظر يستقل به المرء وحده، ويورد عقله وقلبه على ما سمعه أو قرأه منها.. حتى يرى لنفسه الطريق الذي يأخذه مع تلك الآيات.. مصدقا، ومستجيبا، أو مكذبا، ومنابذا.. وكذلك النظر فى أحوال النبىّ، ودراسة شخصيته.. ولهذا جاء النظم القرآنى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» .. مشيرا إلى ما كان من بعض المشركين من نظر وتفكير، فى آيات القرآن التي استمعوا إليها.. ولكنه نظر بعيون كليلة، وتفكير بقلوب مريضة، فلم تهتد إلى حق، ولم تمسك بخير..
- وفى قوله تعالى: «مخاطبا النبىّ الكريم: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» ؟ ..
«أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ» ؟ - فى هذا إشارة إلى أن المعتقد الدينىّ لا يقوم فى(6/1021)
النفس مقاما ثابتا، ولا يقع فى القلب موقعا مطمئنّا، إلا إذا تناوله الإنسان بنفسه، ونظر فيه بعينه وقلبه، ووزنه بعقله وإدراكه،.. وهنا يكون الإيمان ويكون اليقين، حيث اهتدى إليه الإنسان بمدركاته، وجاء إليه بمحض إرادته فى غير قهر أو قسر.. أما يد القهر والقسر، فإنها لن تثبّت دينا ولن تقيم يقينا..
إن ذلك أشبه بيد تدفع إلى معدة الإنسان مباشرة طعاما من غير مضغ ولا بلع! إنه طعام لا يفيد منه الجسم أبدا، ولو كان جائعا يطلبه ويشتهيه، بل ربما قتل صاحبه، أو أفسد نظام جسده، ورماه بأكثر من داء..
ولهذا، فقد كان الإسلام صريحا واضحا، بل صارما، فى هذا الموقف..
إنه يحرّم القهر والقسر فى كل شىء، لأنه بغى وعدوان.. فإذا كان فى مجال العقيدة، فهو أكثر من بغى وعدوان إنه عدوان وبغى يصيبان الإنسان فى مقاتله! وفى هذا يقول الله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» (256: البقرة) ويقول جل شأنه للنبى الكريم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) ..
وهذا هو بعينه ما جاء فى قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟» .. «أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟» .
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
تشير الآية الكريمة إلى ما يركب الناس من عناد وضلال، وما يسوقهم إليه هذا الضلال والعناد، من الكفر بالله، والشرود عن الحق الذي جاءهم به رسله.. فإذا أخذهم الله بذنوبهم، فذلك عدل منه سبحانه وتعالى، فهو- سبحانه- إنما أذاقهم طعم ما غرسوا.. فإذا كان هذا الغرس الذي غرسوه(6/1022)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
ممّا لا تسوغه أفواههم فتلك جنايتهم على أنفسهم..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
أي وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم، إذ حادوا بها عن طريق الهدى، وعدلوا بها عن شاطىء الأمن والسلام، فأوردوها تلك الموارد المهلكة..
الآيات: (45- 52) [سورة يونس (10) : الآيات 45 الى 52]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
التفسير: غرور المشركين، وأهل الضلال، بهذه الحياة الدنيا، وانخداعهم لها، وطول أملهم فيها، هو الذي أخلى قلوبهم وعقولهم من التفكير فيما وراء هذه الحياة، فأذهبوا طيّباتهم فى هذه الحياة الدنيا وأفنوا أعمارهم فى الجري اللاهث وراء متاعها وزخرفها..(6/1023)
- وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ» إشارة إلى انكشاف أمر هذه الدنيا لأهلها، حين ينفضّ جمعهم فيها، وتنقضى آجالهم، ثم يبعثون من قبورهم، ويحشرون إلى ربّهم.. هنالك يبدو أن ما قطعوه فى دنياهم من عمر، وما ملكوه من سلطان، وما جمعوه من مال ومتاع، لم يكن ذلك كله إلا كأحلام نائم، «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ.. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» يلتقى فيها بعضهم ببعض، ويتحدث بعضهم إلى بعض.. ثم يتفرق جمعهم، وينفضّ مجلسهم..
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
هنالك ينكشف للضالين والمبطلين ما كانوا فيه من باطل وضلال، وما يلقون فى يوم جزائهم هذا من بلاء ونكال..
ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، ويلقاء الله لعملوا ليومهم هذا، ولجعلوا سعيهم قسمة بين دنياهم وآخرتهم.. ولكنهم أعطوا دنياهم كلّ شىء، ولم يجعلوا لآخرتهم أي شىء، فلما جاء اليوم الذي تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرّا، وما عملت من سوء تودّلو أن بينها وبينه أمدا بعيدا- لما جاء هذا اليوم، لم يجدوا غير الحسرة والندامة، وغير البلاء والعذاب.
قوله تعالى: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ» .
هذه الآية- إنباء بالغيب، وإرهاص بالبلاء الذي سيحيط بأهل الشرك والضلال، إنه ليس واقعا بهم فى الآخرة وحسب، بل إنه واقع بهم كذلك فى هذه الدنيا، بما يلقون فيها من ذلّ وخزى على يد المؤمنين، يوم يجىء نصر الله وتغرب دولة الشرك، ويقع المشركون ليد المؤمنين صرعى، أو أسرى.. كما حدث ذلك يوم بدر، وكما حدث يوم الفتح، ويوم حنين..(6/1024)
وهذا الذي سيراه النبي فى حياته مما يقع للمشركين من ذلّة وهوان، أو الذي سيقع لهم من ذلك بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى- هو قليل إلى كثير مما أعدّ لهم فى الآخرة من عذاب وهوان، وأنه إن أفلت بعضهم فى هذه الدنيا، ولم يعجّل له شىء من العقاب فيها، فلن يفلت من العقاب الراصد له يوم القيامة.. «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ» .. لا يعزب عنه- سبحانه- ممّا عملوا شيئا.. «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .
(49: الكهف) قوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» أي أن لكل أمة رسولا منهم، يبعثه الله فيهم، لينذرهم ويبشرهم، ويدلّهم على الطريق إلى الله، وليقيمهم فى حياتهم على صراط مستقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (24: فاطر) ..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» إشارة إلى أن من رحمة الله بعباده، أن أرسل إليهم الرسل، مبشرين ومنذرين، حتى يقيم على النّاس الحجّة ويأخذ الظالمين منهم بما كسبوا، فإذا بعث فى أمة رسول من الرّسل وبلّغ رسالة ربّه إليهم، فقد وجب عليهم الحساب، وحقّ عليهم الثواب والعقاب.. أما إذا لم يكن هناك رسول ولا رسالة، فلا حساب، ولا عقاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تبارك وتعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .
وهؤلاء المشركون، قد جاءهم رسول من عند الله، وبلّغهم رسالته المرسل بها إليهم من ربّهم.. فهم إذن محاسبون- منذ بلغتهم الرسالة- بما يعملون..
«وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» بل يجزون الجزاء المناسب لما عملوا.. جزاء وفاقا..
كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال..(6/1025)
وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. تلك هى قولة الكافرين والمشركين، التي يلقون بها كل رسول يرسل إليهم من ربّهم، وينذرهم لقاء يوم القيامة.. لا قولة لهم إلا تلك القولة المتهكمة المستهزئة: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» أخبرونا به أيها المؤمنون بهذا اليوم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ!» .
وهكذا يسوّغ الضلال لأهله هذا المنطق السقيم.. فهل يستقيم لعقل عاقل أن يكون فى الإمكان علم هذا اليوم، وكشف وقته الموقوت له؟ وهل لو قيل لهؤلاء الضالين المكذبين إنه بعد كذا وكذا من السنين، مئات أو ألوفا، أكانوا من المصدقين به؟ ألا يطالبون بدليل مادىّ محسوس عن هذا اليوم، يرونه رأى العين؟ وإن ذلك لن يكون إلا إذا وقع وكان.. فعلا! ..
وهل ينفعهم إيمان أو عمل بعد أن يقع ويجىء؟ «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (158: الأنعام) .
قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» .
إن أمر هذا اليوم لا يعلمه إلا الله.. وهو سبحانه وحده الذي يملك الكشف عنه، وليس للنبىّ ولا لغيره سلطان إلى جانب سلطان الله، ولا تقدير مع تقديره..
فالنبىّ، لا يملك لخاصّة نفسه شيئا.. إنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرّا، أو يجلب لها خيرا إلا ما شاء الله وأراد له، من دفع الضرّ عنه، وجلب الخير له..
فكيف يكون له سلطان فى مصائر النّاس، ومقادير العباد؟ «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» عند الله «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» التقوا بهذا اليوم الموعود الذي يسألون عنه الآن سؤال المنكر: «متى هو؟» .. «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ»(6/1026)
بل يمضى فيهم قدر الله، وتنفذ فيهم مشيئته فى الوقت المقدور، إذ لا مبدّل لكلماته، ولا معوّق ولا معطل لمشيئته.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
- وفى قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» - فى هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا كان الإنسان يملك النفع لنفسه، بما يعمل فى سبيل ما يعود بالنفع عليه والخير له.. فكيف يملك الضرّ لنفسه، ويسوقه إليها؟
وهل هذا مما يكون من إنسان، فضلا عن النبي الكريم؟
والجواب- والله أعلم- أن ذلك للدلالة على سلطان الله سبحانه وتعالى فى عباده، وأنه ليس لأحد منهم شىء مع سلطان الله القائم عليه، فى ذات نفسه، حتى لو أراد- متعمدا- أن يسوق إلى نفسه شرا، أو يوردها مورد الهلاك، فإن ذلك ليس إلى يده، وإنّما هو لله سبحانه وتعالى..
والضرّ لا يتكلّف له الإنسان جهدا، ولا يبذل له مالا، وحسبه أن يقف موقفا سلبيّا من الحياة، وعند ذلك يجد الضّرّ يزحف عليه من كل جهة.. على خلاف النفع، فإنه لا يحصّل إلا بجهد، ولا ينال إلا ببذل وعمل.. ومن هنا كان عجز الإنسان عن أن يملك لنفسه ضرّا- أبلغ وأظهر فى الدلالة على ضعف الإنسان وعجزه، وأنه إذا عجز عن أن يملك لنفسه ضرّا، فإنه أعجز من أن يملك لها نفعا..
قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» .
الضمير فى قوله تعالى: «عذابه» يعود إلى «الوعد» فى قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وهو يوم القيامة.. الذي يسأل عنه المجرمون هذا السؤال الإنكارى: متى هو؟. حتى لكأنهم قد عملوا له، واستعدّوا للقائه، فاستعجلوا الجزاء الحسن الذي ينتظرهم فيه!!(6/1027)
- وفى قوله تعالى: «بَياتاً أَوْ نَهاراً» إشارة إلى أن هذا اليوم لا يأتى على موعد معلوم للناس، بل إنه سيأتيهم فجأة، وعلى حين غفلة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها.. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» (187: الأعراف) .
- وفى قوله سبحانه: «ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» إشارة إلى أن هذا اليوم هو بلاء وويل للمشركين والضالين.. وكل ما فيه هو شرّ واقع بهم..
فماذا يستعجلون من هذا الشرّ، وذلك العذاب؟ إن المجرم لا يستعجل قطف ثمار ما زرع من شرّ، ولكن هؤلاء المجرمين.. حمقى جهلاء، لا يدرون ما هو واقع بهم فى هذا اليوم العصيب، فهم لذلك يستعجلونه استعجال الجزاء الحسن المحبوب.
قوله تعالى: «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟» .
«أثمّ» الهمزة للاستفهام، وثمّ حرف عطف، عطف ما بعده على كلام سابق محذوف، تقديره: أتستعجلون هذا اليوم، ثم إذا ما وقع آمنتم به؟
إن ذلك الإيمان لا ينفعكم شيئا، ولا يدفع عنكم عذاب الله الواقع بكم.. فهلّا آمنتم به الآن فى هذا الوقت، وأنتم فى سعة من أمركم، قبل أن يلقاكم هذا اليوم، وينزل بكم فيه البلاء، ويحلّ عليكم العذاب؟
- وفى قوله تعالى: «آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» استفهام إنكارىّ لإيمانهم بهذا اليوم، يوم يقع بهم. وقد كانوا فى دنياهم ينكرونه، ويبالغون فى إنكاره، ويستعجلون مجيئه، إمعانا فى الإنكار والاستهزاء، بقولهم:
«متى هو؟» .(6/1028)
و «آلآن» أصله «الآن» أي الحال والوقت، ثم دخلت عليه همزة الاستفهام. فصار «أالآن» ثم صارت الهمزتان همزة مدّ، أي: آلآن تؤمنون به بعد أن وقع؟.
قوله تعالى: «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ.. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» .
العطف بسمّ هنا. يدلّ على محذوف، تحدّث به الحال.. وهو أن المجرمين، بعد أن التقوا بهذا اليوم الذي كانوا يكذبون به، قدّموا للحساب، وقدّمت لهم آثامهم التي اقترفوها فى دنياهم، فعرفوا ما كانوا فيه من ضلال، ورأوا المصير الذي هم صائرون إليه.. فسيقوا إلى جهنم، ثم قيل لهم «ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» ..
- وفى قوله تعالى: «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» ..
وجهان:
الوجه الأول: أن يكون استفهاما مرادا به التقرير كما فى قوله تعالى:
«فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» ، وتكون «إلّا» بمعنى غير.. أي: هل تجزون غير ما كان لكم من عمل؟.
لقد عملتم السوء فكان جزاؤكم سوءا..
والوجه الثاني: أن يكون استفهاما مرادا به الخبر، وتكون «هل» بمعنى «ما» النافية.. والتقدير:
ما تجزون إلّا بما كنتم تكسبون.
وعلى كلا الوجهين، فهو نخس لهؤلاء المجرمين، وعذاب يضاف إلى عذابهم، حيث يسقون كؤوس البؤس والعذاب، محمولة، إليهم بهذا التقريع والتسفيه..(6/1029)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
الآيات: (53- 56) [سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 56]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
التفسير: الاستنباء: طلب النبأ، وهو الإخبار بأمر غائب..
إي: أداة جواب بمعنى: نعم..
يطلب المشركون من النبىّ أخبارا عن هذا اليوم، يوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، وما أعدّ الله للأخيار منهم من ثواب، وما رصد للأشرار من عقاب.. فإذا تحدث النبىّ إليهم بشىء من هذا، عقّبوا على ذلك مستهزئين ساخرين- بقولهم: «أحقّ هو» ؟ أي أهذا الذي تحدّث به هو حق وجدّ؟ أم أنك تكذب وتهزل؟ إنهم لا يصدقون بهذا اليوم، ومع هذا فهم يستنبئون عن أخباره. متى هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ وذلك كله على سبيل الاستهزاء والسخرية.
- وفى قوله تعالى: «قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ.. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ردّ على هؤلاء المشركين المكذبين، وقد أمر الله سبحانه النبىّ الكريم أن يلقى المكذبين بهذا الردّ المؤكد بالقسم، وبحرف التوكيد «إنّ» وبلام الابتداء «لحق» ، وذلك فى مقابل إنكارهم، وغفلتهم عن هذا اليوم..(6/1030)
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ليؤكد هذا الأمر ويقرره، وهو أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، وأن المشركين لن يفلتوا من العقاب الراصد لهم فيه.. لأنهم لن يعجزوا الله، ولن يجدوا لهم مهربا.
قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ.. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
هو عرض لما يلقى الظالمون يوم القيامة من بلاء، وما يساق إليهم فيه من ألوان العذاب والنكال.. وأنه لو كان للظالم كل ما فى الأرض من متاع، وكل ما يملك الناس فيها من مال وسلطان، لقدّمه فدية يفتدى به نفسه من عذاب هذا اليوم، ويخلص من أهواله، ولهان عليه أن يتجرد من كل شىء، وأن يخرج عريانا من كل هذا السلطان العريض الذي ملك به الأرض كلها، والذي كان يبيع نفسه فى الدنيا لقاء كومة من فضة، أو حفنة من ذهب..!
- وفى قوله تعالى: «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» إشارة إلى هول هذا العذاب، الذي عند رؤيته تنخلع القلوب، وتجمد المشاعر، وتسكن الجوارح، وتخرس الألسنة.. فلا يجد أحد فى مواجهة هذا العذاب قدرة على أن يفتح فما، أو يحرك لسانا، وإنما هو الكمد والحسرة يملآن كيان الإنسان، ويأخذان السبيل على كل خالجة وجارحة فيه! .. فكيف إذا ألقى فيه المجرمون، وصاروا وقود اله..
وهذا العذاب الذي ينزل بالظالمين، ليس إلّا مما قدمته أيديهم لهم، وإن الناظر إليهم وهم يقلّبون فى النار، ليخيل إليه من شدة ما هم فيه من بلاء أنهم مظلومون، وأنه ليست هناك جريمة مهما عظمت، يستحق عليها مرتكبها هذا العذاب، الذي لم تره عين، ولم يتصوره خاطر.. ومع هذا، فإن ما وقع(6/1031)
بهم من بلاء، إنما هو الجزاء العادل لما اجترحوا من سيئات، وما اقترفوا من آثام..
- وفى قوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» دفع لهذا الوهم، وتقرير لتلك الحقيقة، وهى أن ما يلقاه هؤلاء الظالمون، هو الجزاء العدل لجريمتهم، وأن الحكم الذي حكم عليهم به، هو حكم قائم على ميزان القسط والحق.. إنهم لم يظلموا فيما نزل بهم، ولا يظلمون فيما سينزل بهم من صور العذاب، بعد هذا العذاب الذي هم فيه..
قوله تعالى: «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
هو توكيد لقدرة الله، وتقرير لحقيقة البعث والحساب والجزاء.. وأن الذي له ملك السموات والأرض، لا يعجزه أن يتصرف فيهما كيف يشاء، وأن يبعث الناس بعد موتهم.. فهو- سبحانه- الذي خلقهم، وهو- سبحانه- الذي أماتهم، وهو- سبحانه- الذي يبعثهم بعد موتهم. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) .
ولكن أكثر النّاس لا يعلمون هذه الحقيقة عن الله سبحانه وتعالى، ولا عن قدرته، وحكمته، فتتفرق بهم السبل، ويعمون عن الطريق إلى الله، فلا يتعرفون إليه، ولا يؤمنون به.
قوله تعالى: «هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . ذلك هو من بعض ما لله فى ملكه.. هو الذي يحيى، وهو الذي يميت، وهو الذي يبعث الموتى من قبورهم، فيرجعون إلى ربهم، ويجزون على ما كان لهم من عمل فى الدنيا..(6/1032)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
الآيات: (57- 60) [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 60]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
التفسير:
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» .
من تدبير القرآن الكريم فى عرض الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، أنه لا يأخذ فى دعوته تلك بالأسلوب التقريرى الإلزامي، بل يقيم بين يدى ذلك الأسلوب، ومن خلفه- مشاهد من قدرة الله، وعلمه، وحكمته، هى مناط هذا الأسلوب التقريرى، ووجه البرهان عليه، وهى قوة الإلزام فيه.. وبهذا لا يجد العاقل إلا التسليم له والأخذ به.. وكذلك الشأن فى كل قضية من قضايا الدعوة الإسلامية، ومنها قضية البعث والقيامة، والحساب والجزاء..
فهو إذ يقرر حقيقة البعث والجزاء، يرى الناس وهم أحياء، شواهد منها، ويقيم بين أيديهم أدلة عليها، حتى لكأنها واقعة فعلا، ثم من خلال هذا الشعور.
ينقلهم- فى حلم كأحلام اليقظة- إلى يوم القيامة، ويقيم لهم موازين الحساب والجزاء، ويفتح للمؤمنين منهم أبواب الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، ويفتح(6/1033)
للعصاة الظالمين أبواب الجحيم، يتقلبون على جمرها، ويشربون من حميمها وغسّاقها.. ثم لا يلبث أن يوقظهم من أحلامهم تلك- المسعدة أو المزعجة- ليلقاهم بالدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.. لتجد تلك الدعوة جوابا حاضرا لمن انتفع بهذه التجربة، وأخذ منها موعظة وذكرى.. وهكذا، يسير القرآن على هذا الأسلوب، التقريرى التجريبى، مع تنويع العرض، وتجديد المشاهد، واختلاف الألوان والظلال.. حتى لا يجد المرء سبيلا للفرار من قبول هذا الحكم، أو حجة لدفعه وإنكاره..
وفى هذه الآية، مواجهة للناس جميعا، بعد تلك الرحلة التي أشرفوا فيها على مشارف القيامة، ورأوا ما رأوه من أهوالها، وما يلقى الظالمون فيها من بلاء وهوان..
وهاهم أولاء يدعون إلى ما ينجيهم من هذا البلاء، ويدفع عنهم شر ذلك اليوم وويلاته.. فيقول سبحانه:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» .
والموعظة والشفاء والرحمة، هى فى هذا القرآن الكريم، وعلى يد هذا الرسول الكريم، الذي يحمل إليهم هذا القرآن، ويبشرهم وينذرهم به..
وفى القرآن العبرة والموعظة، بما يعرض من دلائل قدرة الله، وما يكشف من آثار رحمته..
وفى القرآن الشفاء لما فى الصدور من عمّى وضلال، وذلك لما فى آياته من أضواء المعرفة التي تهدى الضالين، وترشد الحائرين، وتكشف للناس جميعا الطريق إلى الله وتدلهم عليه..(6/1034)
وفى القرآن الهدى والرحمة، لمن عرف الله وآمن به، حيث ينزل منازل المكرمين عند الله، وينال ما ينالون من فواضل رحمته، وسوابغ إحسانه ورضوانه.
قوله تعالى: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .
ذلك أنه إذا عرف الإنسان كيف يفيد من هذه الموعظة، ويتعرف إلى الله، ويبتغى مرضاته، فقد جمع الخير كله إلى يديه، وحق له أن يغتبط ويهنأ.. ولا عليه إذا فاته كل شىء، إذا هو ظفر بهذا الذي ظفر به! وهو ما ناله من فضل الله ورحمته، إذ هداه إلى الإيمان به، والعمل لطاعته.
قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» ..
هو حديث إلى هؤلاء الذين لم يأخذوا حظهم من تلك النعمة، ولم ينالوا نصيبهم من هذا الرزق الطيب الكريم، فمكروا بآيات الله، ونظروا إليها نظرا زائغا منحرفا.. وليس هذا شأنهم مع القرآن الكريم، وما تحمل آياته إليهم من هدى ورحمة، بل ذلك هو شأنهم مع كل نعمة من نعم الله، حيث يغيّرون وجهها، ويحرمون أنفسهم خيرها..
فهذه الأنعام، مثلا، قد جعلها الله رزقا حلالا خالصا لهم، ولكنهم- عن سفاهة وجهل- قد حرّموا بعضها وأحلّوا بعضها، لا لعلة واضحة، ولا لحكمة ظاهرة، وإنما هى ضلالات وحماقات، أرتهم فيها تلك الآراء الفاسدة.. وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى فيهم:
«وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما(6/1035)
كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»
(138- 139: الأنعام) .
وهكذا يفعل الضلال بأهله، حتى فى الخير المادىّ الذي بين أيديهم، وعلى أفواههم.. فكيف بهؤلاء الضالين مع هذا الخير الموعود الذي يدعوهم القرآن الكريم إليه، ويبشرهم به؟ إنهم فى هذا لأكثر ضلالا معه، وأبعد بعدا عن الانتفاع به! وإنهم إذا كانوا قد افتروا على هذه الأنعام تلك المفتريات التي تحرمهم الخير المتاح لهم منها، فلا يستغرب منهم أن يفتروا على الله هذه الآلهة التي يعبدونها من دونه، ويحرموا أنفسهم رحمته ورضوانه! والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» (28- 29: إبراهيم) .
قوله تعالى: «وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» ..
فهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، وبدّلوا نعمته كفرا- ما ظنّهم بيوم القيامة وما يلقون فيه؟ ألا يكون لما افتروه عقاب؟ ثم ألا يكون هذا العقاب عذابا ونكالا، كما كان افتراؤهم جرما غليظا، وضلالا بعيدا؟.
ونعم، إن الله لذو فضل على الناس.. ومن فضله عليهم أن أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وبعث فيهم رسله، بالهدى والرحمة.. ولكنّ كثيرا منهم كفر بتلك النعم، وأبى أن يستجيب لرسل الله، وأن يأخذ بحظه من هدى الله ورحمته.. فهل ينتظر هؤلاء الكافرون بنعم الله، الجاحدون لفضله، غير ما هم أهل له، من سوء الجزاء، وأليم العذاب؟.(6/1036)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
الآيات: (61- 64) [سورة يونس (10) : الآيات 61 الى 64]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
التفسير: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» .
الشأن: الحال المتلبسة بالإنسان، وهو يعالج أمرا من الأمور.
تفيضون فيه: أي تتداولونه بينكم، ويأخذ كلّ منكم بطرف منه، فيكثر الحديث ويفيض.
يعزب: يغيب، ويبعد.
فى هذه الآية: عرض لبعض سلطان الله، ونفاذ قدرتا وعلمه.. وأنه- سبحانه- محيط بكل شىء علما.. وأن ما يقع من الضالين والمكذبين، هو فى علم الله، يحصيه عليهم، ويجزيهم بما هم أهل له من بلاء ونكال.
وقد بدأت الآية بخطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ» .. أي أنه صلوات الله وسلامه عليه، وما يعمل(6/1037)
من عمل، مراقب من الله، ومسجل عليه كلّ ما يعمل، سواء أكان هذا العمل فى شأن من شئونه الخاصة، أو فى مجال الرسالة المبعوث بها، كتلاوة القرآن على الناس، وإسماعهم كلمات الله المنزلة عليه..
وذلك، حتى لا يظن المشركون والكافرون أنهم وحدهم هم الذين تحصى عليهم أعمالهم.. بل الله سبحانه وتعالى مطلع على الناس جميعا، وعالم بكل ما يعملون من خير أو شر.
وفى ذكر القرآن وتلاوة النبي له، إشارة إلى أنه الشأن الغالب على النبي- صلى الله عليه وسلم- وأن القرآن وتلاوة القرآن هو شغله وعمله، أما المشركون والضالون، فلهم شغل ولهم عمل، ولكنه شغل فى ضلال، وعمل فى باطل.
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» هو تعميم بعد تخصيص.. إذ ليس النبىّ وحده هو الذي يرقب الله تعالى أعماله، بل الناس جميعا مراقبون، لا يغيب من عملهم شىء عن علم الله..
- وفى قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» - هو إشارة إلى أن علم الله محيط بكل شىء، فليست هناك «مثقال ذرة» أي قدر ذرة ووزنها وثقلها- وهى ما هى فى الصغر- سواء أكانت فى الأرض أو فى السماء، وسواء أكان ما هو أصغر من الذرة أو أكبر منها- إلا وهى فى كتاب مبين عند الله.. قد علمها وأحصاها..
وفى تسلّط النفي فى قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ» على «إلّا» فى قوله سبحانه: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» فى هذا ما يفيد أن معنى يعزب،(6/1038)
هو يغيب أو يبعد، وبهذا يمكن الجمع بين «ما النافية، و «إلا» ويكون المعنى هكذا: - وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين-.
والسؤال هنا: كيف يغيب أو يبعد عن الله شىء؟
والجواب: أن هذا الغائب البعيد، هو بالإضافة إلينا، بمعنى أن ما يقع فى وهم الواهمين، وتصور المتصورين، أنه بعيد فى أغوار الأرض، أو فى أعماق أنفسنا، هو بعيد عن الله- فذلك تصور خاطئ، وفهم فاسد، لأنه فى كتاب مبين عند الله، وهذا يعنى أنه وقع فى علم الله أولا، ثم أودع فى هذا الكتاب المبين عند الله، ثانيا.. فهو واقع فى علم الله، ومسجّل فى كتاب عند الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (75: النمل) .
قوله تعالى: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
أولياء الله: هم الذين يجعلون ولاءهم لله وحده، فهم أولياء الله، والله سبحانه وتعالى وليّهم.. وقد بينهم الله سبحانه فى قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
فلا ولاية بغير الإيمان بالله.. إذ الولاء حب، وطاعة، وعبادة.. ولا حب إلا بعد معرفة، ثم إيمان.. ثم طاعة وعبادة.
ولا تتحقق الولاية لله إلا بمراقبته، واتقاء محارمه، والتوكل عليه، والرجاء فيه، وقطع كل رغبة فيما سواه.. وذلك هو الذي يحقق التقوى، التي هى ثمرة(6/1039)
الأعمال الصالحة.. فهؤلاء الأولياء هم الذين تعلقوا بالله، فجذبهم الله إليه، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه.. فأمنوا فى جنابه من كل خوف على متوقع، أو حزن على فائت «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .. فمن اتخذ الله وليا له، اتخذه الله وليا، ومن أحب الله أحبه الله، كما فى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (54: المائدة) .. ومن أحبه الله فلا تسأل عما هو فيه من غبطة وسرور، مما يتنزل عليه من ربه من سكينة، وما يفاض عليه من نفحات وبركات..
يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري: «ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه» .
فالطاعات، والمداومة عليها، هى التي تقرب العبد من ربه، فإذا قرب منه كان فى جناب حماه، وعلى بساط رحمته، لا يخاف إذا خاف الناس، ولا يجزع إذا جزع الناس. ولا يبيت على همّ إذا بات الناس على هموم: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .
وفى تعدية الخوف بحرف الجر (على) ، إشارة إلى أن الخوف إنما يكون من توقعات المستقبل، فهو مقبل لا مدبر.. ويكون المعنى لا خوف مقبل عليهم..
وفى التعبير عن الإيمان بالماضي «الَّذِينَ آمَنُوا» وعن التقوى بالمستقبل «وَكانُوا يَتَّقُونَ» - إشارة إلى أن الإيمان يسبق التقوى، التي تقوم على اتقاء محارم الله، لأن هذا الاتقاء هو من معطيات الإيمان بالله..(6/1040)
وقد دخل فعل التقوى فى حيز الفعل الماضي «كان» .. «وَكانُوا يَتَّقُونَ» فكانت التقوى أيضا مما حدث من هؤلاء المتقين، كما حدث منهم الإيمان من قبل، وإلا ما استحقوا صفة الأولياء، أولياء الله.. فالإيمان، ثم التقوى، ثم الولاية، يجىء بعضها إثر بعض، على هذا الترتيب.. فلا ولاية بغير التقوى، ولا تقوى إلا بعد الإيمان- وفى قوله تعالى: «لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
..
بيان لتلك المنن العظيمة التي امتن الله بها على أوليائه- جعلنا الله منهم- فجعل البشريات المسعدة برضا الله ورضوانه، تتنزل عليهم، بما يكشف لهم منازلهم عند الله، وما سيلقون فى نعيم جناته، من كرامة وتكريم.
والبشريات التي يبشّر بها أولياء الله فى الدنيا، كثيرة، منها ذكرهم فى الناس، بالكلمة الطيبة تقال فيهم، لحسن سيرتهم، واستقامة طريقهم، وحفظ جوارحهم من المحارم والمظالم.. إذ لا شك أن رضا الناس عن إنسان، وحسن ظنهم به، هو دليل على أنه من أهل الخير والتوفيق، وأنه على طريق الاستقامة والتقوى.. ومنها ما يملأ الله به قلوبهم من رضا وسكينة، فى السراء والضراء على السواء.. بل إن كثيرا منهم ليجد فيما يبتليه الله به من ضر، هو أمانة عنده لله، وأن أداء هذه الأمانة لله هو الصبر عليها، والرضا بها، وأن الضجر بالبلاء، والجزع منه، هو خيانة لتلك الأمانة.
روى أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.. كفّ بصره فى آخر حياته، وكان مستجاب الدعوة، فقيل له: ادع الله وأنت مستجاب الدعوة عنده أن يرد عليك بصرك؟ فأبى أن يدعو الله بردّ بصره إليه.. ولو دعا لاستجاب الله(6/1041)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
له، ولكنه وجد فى هذا العمى مشيئة الله فيه، وفى الدعاء بدفع هذا العمى عدم استسلام لهذه المشيئة، وعدم رضا بها!! وهكذا أولياء الله.. «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .
ومن البشريات التي يبشّر بها أولياء الله فى الدنيا، أنهم حين يشرفون على الموت، لا يجدون له ما يجد غيرهم من كرب وجزع. بل يستقبلونه فى غبطة ورضا، وذلك لما يرون فى ساعة الاحتضار مما لهم عند الله من فضل وإحسان.. وهذا ما يشهد له قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» (30- 31) فصلت.
وأما بشريات أولياء الله فى الآخرة، فكثيرة، تبدأ من مغادرتهم هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، وما بعد يوم القيامة، وهم فى روضات الجنات يحبرون.. ففى كل مرحلة من مراحل هذه الرحلة المسعدة، تطلع عليهم البشريات التي تزفّهم إلى الجنة، كما تزف العروس فى موكب من الفرح والبهجة.. وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12: الحديد) .
الآيات: (65- 70) [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 70]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69)
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)(6/1042)
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد ذكرت أولياء الله، وما أعدّ لهم ربهم من ثواب كريم، وأجر عظيم.
وهذه الآيات تعرض أعداء الله، والمطرودين من رحمته، وهم الذين أشركوا بالله، واتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم من دونه.
وقوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هو عزاء للنبى الكريم، مما يلقى من قومه من ضرّ وأذى.. وإن أشد ما كان يؤذى النبىّ ويسوؤه، هو خلاف قومه عليه، وتنكّبهم عن طريق الحق الذي يدعوهم إليه، وتخبطهم فى ظلمات الضلال والشرك.. فهو رءوف بهم، رحيم عليهم، حريص على هدايتهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» . (128: التوبة) ولهذا، فقد كانت آيات القرآن الكريم تتنزل عليه من ربه، تواسيه وتخفف ما به من حزن وألم.. كقوله تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) .(6/1043)
وقوله سبحانه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) .. وقوله: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (3: الشعراء) .
- فقوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هو مما كان ينزل على النبي من آيات ربه، من عزاء ومواساة، لما كان يلقى من قومه من عنت وعناد، ولما كان يقع فى نفسه من حزن عليهم أن يحرموا هذا الخير الذي ساقه الله سبحانه وتعالى على يديه إليهم.
والقول الذي كان يحزن النبي، هو شركهم بالله.. وقولهم: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» كما سيجيئ فى الآية الكريمة بعد هذا.
- وقوله تعالى: «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو تثبيت للنبى، وطمأنينة لقلبه، وأن خلاف قومه عليه لا يضره، لأنه مؤيد من ربه، رب العزة التي تذلّ لها الجبابرة، فالعزة كلها لله، وما سواه ذليل مهين.
وهو سبحانه «سميع» لما يقول هؤلاء المشركون فى الله من زور وبهتان.
«عليم» بما تموج به صدورهم من شرك وضلال. وسيجزيهم بما كسبوا.
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» .
الخرص: خرص الشيء تقديره جزافا، بالظن والتخمين، كمن ينظر إلى شيىء فيقدر كيله أو وزنه بالنظر إليه دون معيار.
والآية الكريمة تعرض بعض مظاهر سلطان الله وقدرته، وأنه- سبحانه- له ملك السموات والأرض ومن فيهن. فهو وحده الجدير بأن يمجّد ويعبد.(6/1044)
وأما الذين يتبعهم المشركون ويدعونهم آلهة من دون الله ويجعلونهم شركاء له- فإنما هم من واردات باطلهم وضلالهم، ومن مواليد ظنونهم وأوهامهم. «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» . فهذا المعتقد الذي يعتقدونه فى معبوداتهم، وتلك المشاعر التي تشدّهم إليها إنما هى مما يولّده الجهل ويصوره الضلال.
قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» .
وذلك أيضا هو بعض مظاهر قدرة الله، وآثار رحمته فى عباده، وليس لما يعبد المشركون من آلهة صورتها لهم الظنون والأوهام- شىء من هذا الذي خلق لله، وما أفاض على عباده من نعم.
فهو- سبحانه- الذي جعل الليل سكنا، يلبس الكائنات الحية، ويهيىء لها فرصة للراحة من سعيها فى النهار، حتى تجدد نشاطها، وتستعيد قوتها، لتستقبل السعى والعمل فى يوم جديد، بنشاط متجدد.
- وفى قوله تعالى «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» إشارة إلى أن ضوء النهار، هو الذي يعطى العيون قدرتها على الإبصار.. ولولا هذا الضوء لما كانت العيون مبصرة، فهو إذن المبصر، لا العيون، لأنه هو سبب أول، وهى سبب ثان.. ولهذا فهو أولى بالذكر منها فى هذا المقام.
ومن جهة أخرى فإن الضوء هو الذي ينتقل إلى حدقة العين، ويقع عليها، حاملا معه صورة المرئيات إليها.. تماما كما تقع المرئيات على المرايا.
وإذن فالنهار- أي الضوء- هو المبصر، لأنه هو الذي يبصر المرئيات(6/1045)
قبل العين، ثم ينقلها إليها.. فهو العين التي تكشف هذا الوجود للعيون أولا، ثم تنقله إليها ثانيا. وفى هذا ما يكشف عن بعض قدرة الله كما ينطق بإعجاز كلماته.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» إلفات إلى تلك الظواهر المتجلّية من قدرة الله سبحانه.. وأنها آيات دالّة على قدرة الله، وعلى تفرده بالوجود.. وأنه لن يرى هذه الآيات، ولن يتعرف على ما فيها من دلائل على قدرة الله، إلا من ألقى سمعه إلى كلمات الله، ووعى ما تلفته إليه من آيات الله المبثوثة فى هذا الكون الرحيب.. وهذا بعض السرّ فى أن جاءت فاصلة الآية: «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» بدلا مما يقتضيه ظاهر النظم، وهو أن تكون الفاصلة هكذا: «لقوم يبصرون» وذلك أن كلمات الله، إنما يتلقاها المتلقون عن طريق السّمع، وأن هذه الآيات هى: التي إذا صادفت أذنا واعية، كشفت الطريق إلى الله.
قوله تعالى: «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .
هذا هو ما يقوله المشركون عن الله: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» .. وهو الذي أشار إليه قوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» .. وكأنه بهذا إجابة عن سؤال أو تساؤل هو: ما هذا القول الذي يقوله المشركون فيحزن النبىّ؟ فكان الجواب: «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» .
وقد تأخر الجواب عن هذا السؤال، فجاء بعد تلك الآيات التي عرضت بعض مظاهر قدرة الله، وأنه سبحانه له العزة جميعا، وأنه جل شأنه، له ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه سبحانه هو الذي أقام هذا الوجود على ذلك النظام المحكم البديع، فجعل الليل سكنا، وجعل النهار مبصرا..(6/1046)
وكان هذا العرض هو الرد الذي سبق هذه الدعوى الباطلة ليدحضها قبل أن تتلفظ بها الأفواه، وليقتلها فى مهدها قبل أن ترى وجه الحياة.
وهكذا الباطل.. إنه شىء منكر، يجب أن يموت بين يدى أهله، حتى لا يقع المكروه منه على أحد غيرهم.. وإن من الحكمة أن يدفع الشر قبل وقوعه، فذلك أهون وأيسر، فى الخلاص من بلواه.. فإذا وقع كان منكرا، يجب على المؤمنين دفعه بكل قوة ممكنة لديهم..
- وفى قوله تعالى: «سبحانه» تنزيه لله، وتمجيد له، واستبعاد لأن يكون له صاحبة أو ولد.. إذ لا يطلب المرء الصاحب أو الولد إلا ليكمل نقصا فيه، والله سبحانه وتعالى، هو الكمال المطلق.. فكيف يكون له ولد، أو تكون له صاحبه؟ «هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» .. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» .
وفى قوله تعالى: «إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ؟
يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستفهام الإنكارى، والتقدير:
أأن عندكم من سلطان بهذا؟ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟
ويجوز أن يكون أسلوبا خبريا وتكون «إن» نافية، والتقدير: ما عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على الله ما لا تعلمون.
والمراد بالسلطان هنا: الحجة والبرهان..
وليس للمشركين على تلك القولة المنكرة من حجة ولا برهان، وإنما حجتهم أوهام وخيالات وظنون.
قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ(6/1047)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» .
هو حكم على تلك القولة المنكرة التي قالها المشركون إذ قالوا: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» فهذا القول افتراء وكذب على الله.. وهؤلاء الذين يفترون على الله الكذب، قد ضلّ سعيهم، فهم الخاسرون، فى أي متّجه يتجهون إليه، ولن يفلحوا أبدا.. وما يقع لهم فى هذه الدنيا من زحرفها ومتاعها، هو متاع قليل، وظلّ زائل.. ثم يرجعون إلى الله.. وهناك يلقون جزاء ما كانوا فيه من ضلال، وما افتروه من مفتريات «نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» فكفرهم بالله، وافتراؤهم على الله، هو الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وألقى بهم فى أفواه الجحيم..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
الآيات: (71- 74) [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 74]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)(6/1048)
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن ما ذكر فى الآيات السابقة عليها، كان عرضا لمقولات المشركين، المنكرة، فى الله، وافترائهم الكذب على الله بنسبة الولد إليه.. فهم آثمون ظالمون، واقعون فى معرض عذاب الله ونقمته.. فناسب أن يذكّر هؤلاء الآثمون المشركون بما أخذ الله به الظالمين قبلهم من نكال وبلاء. ليكون لهم فى ذلك عبرة، إن كانت فيهم بقية من عقل وإدراك..
قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ..
كبر عليكم مقامى: أي شق عليكم احتماله، وأصبح أكبر مما تطيقون..
فضقتم بي ذرعا، وثقل عليكم وجودى بينكم.
أجمعوا أمركم: أي اجتمعوا على رأى واحد، فى الموقف الذي تقفونه منّى.. يقال أجمع أمره على كذا، أي قرّ رأيه فيه على قرار، بعد أن كان الرأى فيه مشتتا متفرقا.. يقول الشاعر:
أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن تصهال خيل خلال ذاك رغاء أي أنهم باتوا على نية السفر فى الصباح، وأجمعوا أمرهم عليه.
«اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» : أي وجهوا حكمكم إلىّ، ولا تنظرون، أي لا تؤخروا أخذى بهذا القضاء الذي قضيتموه فى.. ومنه قوله تعالى:
«وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66: الحجر) أي وجهنا إليه ذلك الأمر، وأعلمناه به.. وقرئ «افضوا إلى» بالفاء..(6/1049)
أي أقبلوا إلى بما حكمتم به، وأجمعتم أمركم عليه..
- «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» الغمة، ما عمّ من الأمر وخفى، ولا يعرف وجهه.. ومنه الغمّة، لما يغتم له الإنسان مما يسوؤه، ومنه الغمام وهو السحاب الذي يكسو وجه السماء، ويظلل الأرض، ويحجب عنها ضوء الشمس.
والمعنى: أن نوحا عليه السلام، بعد أن استيأس من قومه، ولم يجد سبيلا إلى إصلاح أمرهم وتقويم زيغهم، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، جاءهم- وقد أجمع أمره على أن يدعهم وما هم فيه، ليلقوا المصير الذي أنذرهم من الله به- جاءهم ليطلب إليهم أن يقولوا كلمتهم الأخيرة الفاصلة فى هذا الموقف، الذي بينهم وبينه.. فقال لهم:
«يا قَوْمِ.. إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» أي إن كنتم قد استثقلتم طول حياتى معكم، وكثرة تذكيرى لكم بآيات الله، ودعوتكم إلى الإيمان به، فأنا منصرف عنكم، متوكلا على الله، معتمدا عليه..
«فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» أي هاتوا رأيكم الذي تلتقون عنده، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله.. «ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ، ثم أعلمونى بما أجمعتم عليه من أمر. وإن بدا لكم أن ترجمونى.. كما يتهامس بذلك بعضكم، ويتنادى به سفهاؤكم. وهذا ما حكاه القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» (116:
الشعراء) - إن بدا لكم ذلك فاجعلوه رأيا واحدا لكم، بعد أن تأخذوا رأى شركائكم، وليكن هذا الرأى واضحا صريحا، لا خفاء فيه، ولا تخافت ولا تهامس.. ثم افعلوا بي بعد هذا ما بدا لكم.. فإنى متوكل على الله، معتصم به..
وقد قدم التوكل على الله قبل أن يدعوهم إلى لقائه، ومواجهته بما يجتمع(6/1050)
عليه رأيهم فيه، وذلك ليتحصّن بهذه الدرع الحصينة، التي لا تنال منها قوى البشر- قبل أن يلقاهم بهذا التحدي.. «فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ.. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» ، فهو يلقاهم وقد توكل على الله، وأسلم أمره إليه، وفى هذا ما يقوى عزمه، ويثّبت قدمه عند اللقاء، فلا يجزع، ولا يرهب، إذا هم أخذوه بكل ما عندهم من قوة وكيد! قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
هو الكلمة الأخيرة من نوح إلى قومه.. وأنهم إن تولّوا عنه، وأبوا أن يأخذوا منه ما يمد به إليهم يده، فإنه لن يضارّ بهذا، لأنه لم يطلب على ما يقدم لهم أجرا، حتى إذا لم يأخذوه منه، فإنه لا ينال ذلك الأجر.. إنه لا يطلب منهم أجرا، وإنما يأخذ أجره من الله، وهو أجر عظيم، يرجح بكل ما يملكون ومالا يملكون من هذه الدنيا.. إنه ثواب الله، ورحمته ورضوانه: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (32: الزخرف) .. فإن توليتم فهذا شأنكم، ولا سلطان لى عليكم، ولا خير يفوتنى من إعراضكم عنى.. أما أنا فعلى ما أمرنى الله به، وهو أن أكون أول المسلمين، الذين أسلموا وجههم لله، وآمنوا به، وأخلصوا العبادة له وحده.
وأوّلية نوح للمسلمين.. هى أولية بالإضافة إلى مجتمعه الذي كان فيه، فهو أولهم إسلاما لله.. إذ كان هو الرسول الذي حمل رسالة الإسلام إليهم، وأول من آمن بها منهم..
قوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا.. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» .
تلك هى خاتمة ما بين نوح وقومه.. لقد كذبوه، وتولوا عنه، فوقع(6/1051)
بهم ما أنذرهم به من قبل، وأغرقهم الله بالطوفان، ونجّى نوحا ومن معه، وجعل هؤلاء الذين نجوا، خلائف فى الأرض من بعدهم.. إذ كانوا هم البقية الباقية من هؤلاء القوم الهالكين.
وقدم هنا نجاة نوح ومن معه، ووراثتهم الأرض من بعد قومهم الهالكين- قدّم ذلك على هلاك القوم، خلافا للظاهر الذي يقضى به قوله تعالى «فكذبوه» إذ المتوقع هنا هو الإجابة على هذا السؤال: ماذا كان جزاؤهم إذ كذبوه؟ وهذا سؤال يسأله المؤمنون الذين ينتظرون ما يحل بالمكذبين، فكان الجواب المنتظر هو «فأغرقناهم» ولكن الإجابة جاءت على سؤال يسأله الذين يكذبون بآيات الله، ويحادّون رسل الله.. فيقولون: وماذا جرى لنوح والمؤمنين بعد أن كذّبه قومه، وأبعدوه من بينهم؟ فجاء الجواب: لقد نصره الله ومن معه، ونجاهم، وأورثهم أرض القوم المكذبين وديارهم.. فموتوا بغيظكم أيها المكذبون، فإن رسل الله وأولياءهم المنصورون، وهم الفائزون المفلحون..
أما المكذبون فلهم الويل والخزي فى الدنيا والآخرة..
- وفى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» إلفات للمؤمنين والمكذبين جميعا، إلى ما حل بهؤلاء المنذرين الذين أنذرهم نوح، وخوفهم عذاب الله ونقمته، فأبوا أن يسمعوا له، وأن يطلبوا النجاة لأنفسهم، وأن يمسكوا بحبل الإيمان بالله، وأن يركبوا فلك النجاة بالاعتصام به.. فهلكوا.
وتلك هى عاقبة كل مكذب برسل الله، مجانب لهم، مخالف لدعوتهم التي يدعونهم إليها.. فليسمع مشركو قريش هذا، ولينتظروا ما سيحل بهم إذا هم لم يستجيبوا لرسول الله، ولم يأخذوا معه السبيل إلى الله..
قوله تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» ..(6/1052)
وليس نوح وحده هو الذي دعا دعوة الحقّ، وحمل رسالة السماء بالهدى والإيمان إلى عباد الله، بل هناك رسل كثيرون، جاءوا إلى أقوامهم بما جاء به نوح.. يحملون آيات بينات من عند الله، ولكن الناس هم الناس، والقوم هم القوم، «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» .. فلم يستجيبوا للرسل، ولم يأخذوا بالهدى الذي معهم، ولم يخلوا قلوبهم من الضلال الذي انعقد عليها وسكن فيها.. «كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» أي نختم عليها، فلا يدخل إليها شعاع من نور الحق، ولا يطلع عليها صبح اليقين.. إنها فى ظلام دامس دائم أبدا.. وفى هذا تهديد لمشركى قريش، إذ هم فى معرض أن يؤخذوا بما أخذ به قوم نوح، فقد طبع الله على قلوبهم مثل ما طبع على قلوب قوم نوح من قبلهم.
- وفى قوله تعالى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» ..
إشارتان:
الإشارة الأولى: أن هؤلاء المكذبين الضالين لم يكونوا ليؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم كل آية.. وهذا هو السر فى اختلاف النظم باستعمال فعل المستقبل، ليؤمنوا، وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل ماضيا، هكذا: فما آمنوا، ليتّسق مع قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ» فما آمنوا أو فلم يؤمنوا.. ولكن جاء النظم القرآنى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» ليدل على عدم توقع الإيمان منهم مستقبلا، ثم ليتسع الفعل المضارع لقبول لام الجحود «ليؤمنوا» .. ليؤكد عدم توقع الإمكان منهم بحال أبدا..
والإشارة الثانية: هى فى قوله تعالى: «بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» .. فالذى كذبوا به من قبل، هو الإيمان بالله، إذ كانوا قبل أن تأتيهم الرسل منكرين لله، مكذبين بوجوده.. وقد انعقدت قلوبهم على هذا، فلم يكن لدعوة(6/1053)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
الرسل لهم بالإيمان مجال للعمل فى هذه القلوب المغلقة، التي جمدت على ما انطبع فيها من ضلال وكفر..
وفى هذا تسفيه لأولئك الذين تجمّدوا على أوضاعهم التي هم فيها، ولا يتحولون عنها، ولو كانت ممسكة بهم على مراتع الجهل والضلال، وفى منازل الذلة والهوان.. وليس ذلك شأن الإنسان الذي يحمل فى كيانه عينا تنظر، وأذنا تسمع، وعقلا يدرك، وقلبا يشعر.. إن شأنه دائما يجب أن يكون مستقبلا للحياة لا مدبرا عنها، متعاملا معها، لا مستسلما لها.. فإذا جاءت دعوة جديدة- أيا كانت- لم يكن من الإنصاف لإنسانيته أن يغمض عينيه عنها، ويصم أذنيه دونها، ويحول بين عقله وقلبه أن يتصلا بها، ويتعرفا عليها..
بل إن عليه أن يستمع إلى تلك الدعوة وأن ينظر فى وجهها، فإن كانت دعوة خير استجاب لها، وانتفع بها، وجنى الثمر الطيب منها، وإلّا توقّاها، وأخذ حذره منها.. وبهذا يكون الإنسان دائما فى ميدان الحياة، مشاركا فى معاركها، آخذا بحظه من مغانمها.. أما إن أغلق كيانه على ما هو فيه، فلم يقبل خيرا، أو يدفع شرا، ظل على حال من الطفولة، لا يتحول عنه، وظلت الإنسانية- إن أخذت مأخذه- واقفة حيث هى، لا تتحرك خطوة إلى الإمام.
الآيات: (75- 82) [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 82]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)(6/1054)
التفسير: فى هذه الآيات، وما بعدها، قصة موسى، عليه السلام، وما كان بينه وبين فرعون، الذي يمثّل وجها من وجوه الطغيان والكفر..
وقد جاءه موسى يدعوه إلى الله، ويوجهه إلى ما يزكّيه ويطهره، ويقيمه على طريق الحق والإحسان، بما يقيمه الإيمان فى قلوب المؤمنين من فضائل إنسانية كريمة مشرقة، كما يقول الله تعالى لموسى بما يدعو فرعون إليه: «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» ..
ولكن فرعون يأبى إلا عنادا وكفرا، وإلا ضلالا وجهلا..
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» ..
هذا هو مجمل القضية، وخاتمة المطاف فيها..
بعث الله موسى وهرون إلى فرعون وملائه، وبين أيديهما آيات. بينات من عند الله، فأخذت فرعون العزة بالإثم، واستكبر أن يذعن لتلك الآيات وأن يجعلها داعية الإيمان له ولقومه.. «فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» ..
ثم تجىء الآيات بعد هذا مفصّلة هذا الإجمال.. تفصيلا مجملا أيضا..(6/1055)
حيث كان لهذه القصة أكثر من ذكر فى القرآن الكريم.. فيه بسط وتفصيل لها..
«فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» ..
هذا هو القول الذي استقبل به فرعون وحاشيته آيات الله حين طلعت عليهم:
- «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. قالوا ذلك فى تأكيد قاطع، حتى لكأنهم قد اختبروا هذه الآيات اختبارا علميا محققا، ثم كشف لهم العلم عن تلك الحقيقة وملئوا أيديهم بها، ونزلت من عقولهم منزل اليقين، الذي لا شك فيه: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. وهكذا شأن من يكابر فى الحق، ويعانده..
إنه- وقد زلزلت الأرض به، من قوة الحق وصدمته- يحاول جاهدا أن يقوى نفسه، ويمسك وجوده بهذه الكلمات الكاذبة المفضوحة المموهة، بهذا التوكيد القاطع، وهو فى دخيلة نفسه يرجف خوفا، ويضطرب فزعا..
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» ..
يقول موسى لفرعون منكرا عليه أن يقول فى آيات الله التي طلع بها عليه: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» - يقول له موسى: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟ ..
وهنا مقول القول محذوف.. تقديره أتقولون لهذا الحق الذي جاءكم:
«إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. أو أتقولون هذا القول المنكر.. لآيات الله لما جاءتكم؟ ..
وقد حذف مقول القول، لأنه قول منكر، يعفّ لسان العاقل عن أن(6/1056)
يتلفظ به، ولو كان على سبيل الحكاية.. وإذا كان ناقل الكفر ليس بكافر، فإن حسبه من الشناعة أن يحمل هذا الإثم، ويجريه على لسانه.. كساقى الخمر فإنه، وإن لم يشربها، هو أداة من أدواتها، وإناء من آنيتها..
وقد نزه الله موسى عليه السلام، أن ينطق بما نطق به فرعون، من زور وبهتان! ..
وفى تعدية القول إلى المقول «باللام» : «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» معدولا به عن التعدية بحرف الجر «عن» ، إذ أنهم لم يقولوا للحق بل قالوا عنه هذا القول- نقول: فى هذه التعدية سرّ من أسرار النظم القرآنى، وإعجاز من إعجازه..
فإذا كان الحق الذي جاء به موسى، حقا واضحا مشرقا، لا لبس فيه، حتى لكأنه كائن عاقل، رشيد، يستغنى عن أن يدل عليه أحد أو يكشف عن وجهه كاشف- إذا كان ذلك كذلك، فقد صح أن ينزل هذا الحق منزلة العقلاء، وأن يوجه إليه الخطاب، وأن ينكر على من يعتدى عليه هذا العدوان.. «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ» هذا القول المنكر؟ ..
فالحق فى إشراقه، وجلاله، وسلطانه، مستغن بنفسه عمن يسنده، ويشدّ أزره، فهو إذ يطلع على الناس، يطلع عليهم كائنا سويا، يتحدث إلى الناس ويتحدثون إليه.. وهذا ما يشير إليه توجيه القول من المكذبين بالحق، إلى الحق: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» كما يشير إليه مجىء الحق إليهم من غير أن يستند فى مجيئه إلى أحد إذ يقول لهم موسى «لَمَّا جاءَكُمْ» .. ولم يقل: «لما جئتكم به» ..
- وفى قوله تعالى: «أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» تعقيب يؤكد به موسى ما أنكره على فرعون من قوله عن آيات الله: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ»(6/1057)
وذلك بعد أن أنكر عليه هذا القول بقوله: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟ ..»
وقدم إنكار السحر على الإشارة إليه، لأن المطلوب أولا هو إنكار أن يكون هذا الذي جاء به موسى سحرا.. فهو ينفى السحر أصلا، أن يكون قد وقع فى هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، حين طلع عليه بآيات الله.. ثم يحدد بالإشارة هذا الشيء الذي ينفى عنه السحر، وهو آيات الله تلك.. فيقول له: «أَسِحْرٌ هذا؟» ، ولا يقول: أهذا سحر؟ لأن موسى ليس ساحرا، ولا يأتى بسحر أبدا، سواء أكان هذا الذي يشهده منه فرعون الآن أو غير الآن..
- وفى قوله تعالى: «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» هو حال من اسم الإشارة المشار به إلى آيات الله.. والمعنى أتقولون عن آيات الله هذه، إنها سحر، وأهل السحر لا يفلحون أبدا..
وفى هذا إشارة إلى أن موسى من المفلحين بما فى يديه من آيات الله، وأنه ينذر فرعون بأنه سيغلب ويهزم، إن هو تصدى لآيات الله تلك.
«قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» .
ولا يجيب فرعون على تساؤل موسى وإنكاره لقوله الذي قاله فى آيات الله.. بل يشغب هو والملأ حوله على موسى، ويصيحون فى وجهه: «أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا؟» .. وتلك هى علة الجاهلين، وداء السفهاء والحمقى.. التمسك بالقديم، وعقد القلوب عليه، وإن كان بلاء وشرا..
لأنهم أعفوا عقولهم من النظر والتفكير، ورضوا بما استقر فيها من كل غث وزيف..(6/1058)
- وفى قوله تعالى: «وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» ما يكشف عن علة أخرى من علل الضالين، وعن داء من أدوائهم، وهو الحرص على ما فى أيديهم من سلطان، ولو باعوا لذلك عقولهم، وأهلكوا فيه أنفسهم.. إنه دفاع عن جاه، ودفع عن سلطان.. لا أكثر ولا أقل.. وفى سبيل هذا يهون عندهم كل شىء، ويصغر كل شىء! - وقوله تعالى: «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» هو كلمة القوم التي يحتمون بها من وجه هذا الوافد الجديد، والذي جاء لينازعهم سلطانهم، أو ليستبد به دونهم.. «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» .. هى قولة واحدة قاطعة، لا رجوع عنها، ولا بديل منها، ولو جاءهم موسى وهرون بآيات وآيات.. إنهم لن يؤمنوا لموسى وهرون أبدا.
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ.. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» .
فى هذه الآيات، ينكشف ما كان يعتمل فى نفس فرعون، من خوف على سلطانه الذي بين يديه، والذي جاء موسى ينازعه إياه، وينزله عنه..
ذلك أنه قد رأى أن الأمر لن ينحسم بينه وبين موسى بهذه الكلمات التي صرخ بها فى وجهه، هو ومن حوله من حاشيته.. فما هذا إلا كلام، لا يكافئ الفعل الذي كان من موسى، حين ألقى عصاه، فكانت ثعبانا مبينا، فزعت له النفوس، واضطربت منه القلوب! وإن الذي ينبغى أن يواجه به هذا الموقف هو أن يحارب موسى بالسلاح الذي جاء يحاربه به، وأن يهزمه فى هذا الميدان الذي التقى معه فيه، وإلا فما زالت(6/1059)
الجولة لموسى.. الأمر الذي تأبى كبرياء فرعون أن تقبله، وأن تبيت عليه..
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» .. فهو ما زال مصرا على أن ما جاء به موسى هو سحر.. وإذن فليلقه بسحر مثله، وليجمع لذلك ما فى دولته من أساتذة السحر وأربابه..
«فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» .. وهكذا يتحدد الموقف.. وتبدأ المعركة.. ويأخذ السحرة موقف المبادرة.. إذ يفسح موسى لهم المجال، ويدعوهم إلى أن يبدءوا، ويلقوا ما معهم من سحر.
«فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ.. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ» .. ولقد ألقى السحرة ما معهم، فلما رأى موسى ما كشفوا من أسلحتهم، قال: «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» .. فذلك هو السحر، لا ما جئتكم به، كما قال فرعون من قبل: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .!
وهنا ينكشف الباطل ويتعرّى، ويبين الزيف وينفضح الضلال..
فلو كان الذي مع موسى هو السحر كما قال فرعون، فإنه لن يكسب المعركة، لأنه يحارب سحرا بسحر.. أما إن كان الذي بين يديه هو الحق فإنه غالب لا محالة.. فما يثبت الباطل للحق أبدا «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» الذين يتخذون الباطل مركبا يخوضون به فى بحار الحق.. «إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ..» .. «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
فتلك هى نهاية الصراع بين الحق والباطل.. إن الحق هو كلمة الله، وكلمة الله هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. وإحقاق الله للحق، هو فى انتصار الحق، وتمكّنه، وإجلاء الباطل من مواقعه.. «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
- وفى قوله تعالى: «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» - إشارة إلى أن الحق(6/1060)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
مستند إلى قوة غالبة، لا تهزم أبدا هى قوة الله سبحانه. وأنه مؤيد بتلك القوة، مستند إليها.. فقوله تعالى: «بكلماته» متعلق بقوله سبحانه: «يحقّ» ..
أي أنه سبحانه ينصر الحق بكلماته، وكلماته هى القوى العاملة فى هذا الوجود.
المتصرفة فيه، كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (171: النساء) .. وكما يقول جل شأنه: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (40: النحل) .
الآيات: (83- 86) [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 86]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)
التفسير:
قوله تعالى: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» .
اختلف فى العائد عليه الضمير فى قوله تعالى «مِنْ قَوْمِهِ» .، وهل يعود على قوم موسى، أو قوم فرعون؟ كما اختلف فى العائد عليه الضمير فى «ملائهم» أهم الملأ من قوم موسى، أو الملأ من قوم فرعون؟
وينبنى على هذا الاختلاف، اختلاف فى الذرية الذين آمنوا لموسى، واستجابوا لدعوته.. أهم من ذرية بنى إسرائيل أم هم من ذرية المصريين؟(6/1061)
والذي نراه- والله أعلم- أن هؤلاء الذرية هم من أبناء المصريين، ويرجّح هذا عندنا أمور، منها:
أولا: أن بنى إسرائيل كانوا قبل موسى مؤمنين بالله، على دين آبائهم إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف.. فهم ذرية أبناء يعقوب «الأسباط» الاثني عشر، وكانت رسالة موسى هى أن يخلصهم من يد فرعون، ومما كانوا يلقون من هوان وذلّ. كما يقول الله تعالى لموسى وهرون: «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» (47: طه) .
ثانيا: أن بنى إسرائيل كانوا مع موسى جميعا، فاستجابوا له، وخرجوا من مصر معه.. فلم يكن بينه وبينهم خلاف، حتى خرج بهم من مصر.
- وقوله تعالى: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ» يعنى أن الذين آمنوا له كانوا بعضا من القوم، بل ومن ذرية القوم.. وهذا يعنى أن قلة قليلة تلك التي آمنت لموسى، من هؤلاء القوم.. وهذا لا يمكن أن يحمل على قوم موسى الذين كانوا جميعا معه..
ثالثا: يذكر القرآن الكريم أن أناسا من المصريين قد استجابوا لموسى، وآمنوا بالله، ومنهم السحرة، الذين يقول القرآن عنهم: «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» (121- 126: الأعراف) .
رابعا: يذكر القرآن أنه قام من بين المصريين ممن آمن بالله على يد موسى- قام من يبشّر بالدعوة إلى الله، ويدعو إلى الإيمان به.. وقد سمّيت فى القرآن(6/1062)
سورة باسمه هى سورة «المؤمن» وتسمّى «غافر» كذلك.. وفيها يقول الله تعالى: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (الآية: 28) .. وفى هذه السورة أيضا جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا» (الآية: 29) وفى هذه السورة كذلك جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون:
«وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» (الآية: 34) وقوله سبحانه أيضا:
«وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ» (الآية: 38) .
إذن فقد كان من المصريين مؤمنون، وكان منهم دعاة من هؤلاء المؤمنين يدعون إلى الإيمان بالله.. ولكن فى حذر، وخفية.. خوفا من فرعون أن يبطش بهم..
وعلى هذا فالضمير فى «ملائهم» يعود إلى ملأ المصريين الذين آمنوا، وأنهم كانوا يخافون من فرعون، ومن قومهم أيضا.
وملاحظة هنا نحب أن نشير إليها، وهو أن الذين آمنوا لموسى، واستجابوا له كانوا «ذرية» أي من الذرية، وهم الأبناء، لا الآباء، وهذا يعنى أن الشبان هم أقرب من غيرهم إلى تقبّل الجديد، والأخذ به، سواء كان من ماديات الحياة أو معنوياتها.. وهذا يعنى أيضا أن تحركات الأمم نحو التجديد تكون إلى يد الشبان.. أما الشيوخ فقلّ أن يستجيبوا لجديد يدعون إليه.. إذ أن طول إلفهم لما هم فيه من عادات، وتقاليد، ومعتقدات، قد شدّهم إلى ما هم فيه، وربطهم به، فكان فكاكهم منه عسيرا شاقا..(6/1063)
ونجد هذا فى الدعوة الإسلامية.. فقد كان المستجيبون لها، والسابقون إلى الإيمان بالله، هم من كانوا فى مرحلة الشباب، لم يخرجوا منها بعد إلى مرحلة الشيخوخة.. كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ، وطلحة، والزبير، وأبى عبيدة، فهؤلاء كانوا أسبق الناس إلى الإسلام، وقد خلفوا النبي، وعاشوا سنين بعده! - ومعنى قوله تعالى: «عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ» أي يضطهدهم، ويعذهم، ويعرضهم بهذا العذاب لأن يفتنوا فى دينهم.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» إشارة إلى علوّ سلطانه، وأنه سلطان قائم على تراب هذه الأرض.. فهو سلطان- وإن علا- لن يبلغ أن يكون جبلا من جبال هذه الأرض، أو تلّا من تلالها: إنه بناء من تراب، على تراب! - وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» إشارة أخرى إلى إسرافه على نفسه، ومجاوزة الحدّ بها فى الظلم والجبروت.
«وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» بهذه الدعوة، وأمثالها، كان يثبّت موسى قومه، ويصبرهم على ما هم فيه من بلاء، وأن يجعلوا لله أمرهم، ويسلموا له قيادهم، وألا يأبهوا لما يأخذهم به فرعون من أذى وضرّ..
وهنا سؤال: كيف يقول لهم موسى: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» ولم يقل إن كنتم مؤمنين، مع أن الإيمان درجة فوق درجة الإسلام.. فالإسلام باللسان، والإيمان بالقلب.. ولهذا ردّ الله إيمان الأعراب، الذين قالوا آمنا.. فقال تعالى «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (14: الحجرات) .. فكيف هذا؟ .. ثم إن النظم كان يقضى(6/1064)
بأن يذكر الإيمان بدل الإسلام. إذ كان الشرط مبنيّا على الإيمان، كما يقول سبحانه على لسان موسى: «يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» فكان مقتضى النظم أن يكون الجواب: فعليه توكلوا إن كنتم مؤمنين..
كيف هذا أيضا؟
والجواب: أن القوم كانوا على درجات فى الإيمان، فمنهم المسلم المؤمن، ومنهم المسلم، غير المؤمن..
وحين أراد موسى أن يأخذ اعترافهم فى صلتهم بالله، جعل هذا الاعتراف قائما على «الإيمان» : «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» .. حتى ينظر كل منهم إلى نفسه، ويتعرف إلى حقيقة إيمانه، لأن المطلوب منه هو أن يكون مؤمنا..
وهنا يدعوهم موسى جميعا إلى التوكل على الله، إن كانوا مسلمين، فمن كان منهم مسلما إسلاما خالصا، فهو مؤمن.. وإذن فهم مسلمون، قبل أن يكونوا مؤمنين، وبالإسلام الخالص، يكونون مؤمنين..
فقول موسى عليه السلام: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» دعوة منه إلى أن يبرأ إسلامهم لله من النفاق والمداهنة.. فهو يريدهم مسلمين أوّلا، يقوم إسلامهم على اقتناع عقل، واطمئنان قلب، وإخلاص نية.. وهذا هو الإيمان..
«فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
بهذا الجواب أجاب القوم موسى إلى ما طلبه منهم، من التوكل على الله..
«فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» فلا متوجه لنا إلى غير الله.(6/1065)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
- وفى قولهم: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» دعاء منهم إلى الله ألا يعرّضهم للبلاء والضرّ على يد الطغاة الظالمين، حتى لا يكون فى ذلك ما يفتنهم عن دينهم، ويفتن الظالمين بهم أيضا، فيؤخذوا بجنايتهم على هؤلاء المظلومين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (20: الفرقان) ..
الآيات: (87- 89) [سورة يونس (10) : الآيات 87 الى 89]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
التفسير:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ، أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» البيوت هنا: هى بيوت العبادة، لا بيوت السّكنى..
والتّبوّء: يقال تبوأ المكان أي اتخذه مباءة له وسكنا، وهو من البوء، بمعنى الرجوع.. يقال: باء يبوء، أي رجع، وسمى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يرجع إليه الإنسان آخر مطافه.. فقد أوحى الله سبحانه وتعالى، إلى موسى وهرون، أن يدعوا قومهما إلى اتخاذ بيوت لعبادة الله.. يجعلونها خاصة لعبادته،(6/1066)
فلا يدخل فيها ما يدخل فى بيوت السكنى من لهو وعبث.. ذلك أن للمكان أثره فى إثارة المشاعر الطيبة والخبيثة.. فإن كان المكان طيبا أشاع فى النفس السكينة والرضا، وملأ القلب جلالا وخشوعا، وعلى عكس هذا ما يكون من المكان الخبيث.
روى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، نام وهو فى غزوة تبوك حتى طلعت عليه الشمس، ولم يدرك صلاة الصبح حتى طلعت الشمس.. فلما استيقظ قال لبلال: «ألم أقل يا بلال.. اكلأ لنا الفجر؟ فقال يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك!! فانتقل النبي من ذلك المكان غير بعيد.. ثم صلّى» فقد كره صلى الله عليه وسلم أن يصلى فى مكان أجلب عليه النوم، وفوّت عليه الصلاة فى وقتها، فاعتزله كما يعتزل الإنسان إخوان السوء..
- وفى قوله تعالى: «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» إشارة إلى أن يكون متوجه الصلاة فى هذه البيوت إلى القبلة، وهى الكعبة كما يقول بذلك كثير من المفسرين..
ولكنا نخالف هذا الرأى، ولنا على مخالفتنا إياه أكثر من دليل:
فأولا: القبلة فى اللغة ليس معناها الكعبة.. وإنما هى بمعنى الوجهة، أو الاتجاه، الذي يتجه إليه الإنسان.. وهى مشتقة من الاستقبال، لأن الإنسان فى توجهه إلى الله يستقبل الرحمة والمغفرة والرضوان..
وثانيا: فى قوله تعالى للرسول الكريم: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» فتنكير القبلة هنا دليل على أنها واحدة من كثير غيرها.. ولهذا أيضا وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: «تَرْضاها» وقد كان متّجه النبي صلى الله عليه وسلم قبل، ذلك، وقبلته، هو بيت المقدس.(6/1067)
والمراد بجعل بيوتهم قبلة، هو أن يجعلوا متوجّههم إليها حين يريدون الصلاة فيها، فتكون مقصدا لكل من يريد الصلاة منهم..
قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.. رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ..
العطف هنا «وَقالَ مُوسى» هو عطف على قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ» إذ كان معنى الوحى «القول» .. أي قال الله لموسى وأخيه هرون تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا.. وقال موسى ربنا.. فهو عطف قول على قول..
- وفى قوله تعالى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» ..
يرى أكثر المفسرين أن هذا دعاء من موسى على فرعون.. وقد تكلّفوا لهذا التخريج والتأويل، حتى يخرجوا بلام التعليل عن معناها إلى المعنى الذي أرادوه لها..
واللام هنا لام تعليل- كما هو ظاهر- وأن قول موسى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» هو علة لما طلبه موسى بعد هذا من ربه، وهو قوله:
«رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» ..
والطمس على أموالهم، هو ذهلبها من أيديهم، وغروبها عن أعينهم، والشدّ على قلوبهم، هو الختم عليها وربطها ربطا محكما، على ما انعقد فيها من كفر وضلال، فلا تقبل خيرا أبدا..
ويكون معنى الآية هكذا: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدّنيا فكفروا بنعمتك، وحاربوك بها، وكانت تلك(6/1068)
الأموال سببا فى عتوّهم وضلالهم «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» ..
فيكون سلب هذه النعم، وذهاب هذه الأموال من أيديهم، ضربا من العقاب المعجل لهم، يأخذ الله به الظالمين والضالين، الذين يكفرون بالله ورسله، فيمطرهم حجارة، أو يرسل عليهم صاعقة من السماء، أو يغرقهم.. وبهذا الذي ينزل بفرعون وملائه، من سلب النعم، وذهاب الأموال، يكون العقاب الذي يذلّ كبرياءه، ويذهب بسلطانه، ويريه سوء عمله فى الدنيا، ثم لا يكون له منه عبرة وعظة، تفتح قلبه إلى الله، وإلى الإيمان به بعد أن ختم الله على قلبه، بل إنه سيمضى على طريق الضلال والكفر هو ومن معه، حتى يروا العذاب الأليم، عذاب يوم القيامة «فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم..» .
وهذه الصورة التي يصورها القرآن الكريم لمن يطغيهم الغنى، ويفتنهم الجاه والسلطان، ويفسد عليهم تفكيرهم، ويطمس على أبصارهم وبصائرهم- هذه الصورة تقابلها صورة أخرى للمال، حين يقع فى يد من يؤمن بالله، ويلتزم حدوده، إذ المال هنا، قوة تعين على قضاء حقوق الله، وأداء ما افترض على عباده من عبادات وطاعات..
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:
«ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» (37: إبراهيم) ..
هذا، ويلاحظ ما بين النظم القرآنى فى الصورتين من اتفاق فى الأسلوب الذي جاء عليه النظم هنا وهناك.. وذلك واضح لا يحتاج إلى بيان..(6/1069)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
«قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» .
هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لموسى وهرون، بأن الله- سبحانه- قد استجاب لهما ما دعواه به، فى أمر فرعون وملائه.. وقد ذكر القرآن الكريم فى أكثر من موضع منه، ما أخذ الله به فرعون وآله من بأساء وضراء.. فقال تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) ..
وقال سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» (133. الأعراف) .
- وفى قوله تعالى: «فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما ينبغى أن يكون لهما من عبرة وعظة، فيما وقع لفرعون وملائه، وأن عليهما أن يستقيما على طريقهما المستقيم، وأن يحتملا فى سبيل الله كل ما يعرض لهما من ضر وأذى، فقد رأيا بأعينهما كيف كان عاقبة المنحرفين، الذين لا يقفون عند عبرة، ولا ينتفعون بموعظة.. إذ غطّى الجهل على أبصارهم، وران الضلال على قلوبهم، فهم لا يعلمون، ولا ينتفعون بعلم العالمين..
الآيات: (90- 92) [سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)(6/1070)
التفسير:
جاز الوادي، والنهر: أي قطعه، وبلغ جانبه الآخر.. وجاوزه: أي بعد عنه بعد أن جازه.. وتجاوز عن فعلة فلان: أي غفرها له، وتخطاها، ولم يحاسبه عليها..
العدو: العدوان والتعدّى والظلم.
«وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .
العطف هنا فى قوله تعالى «وَجاوَزْنا» يدل على معطوف عليه، محذوف، إذ جاء ذكره فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، عند عرض جوانب من تلك القصة.. وهو خروج موسى ببني إسرائيل من مصر ليلا، وخروج فرعون بجنوده وراءهم ومداناته لهم وهم فى مواجهة البحر، ثم اضطرابهم وحيرتهم وهم بين فرعون وبين البحر، ثم ضرب موسى بعصاه البحر، وانفلاق البحر، وكشفه عن طريق يبس لهم، وركوبهم هذا الطريق حتى بلغوا العدوة الأخرى منه.. ثم مجىء فرعون، وركوب هذا الطريق..
ومع هذا الإيجاز الذي أجملت فيه الآية الكريمة كل هذه الأحداث وطوتها، فإن الذي أمسكت به الآية من عناصر القصة، هو الوجه البارز منها، والملامح المميزة لها..
فهؤلاء هم بنو إسرائيل يجاوزون البحر.. وهذا هو فرعون وجنوده يلاحقونهم، ويريدون أن يمسكوا بهم قبل أن يفلتوا.. ثم إذ يرى فرعون طريقا يبسا فى البحر لا يتوقف، ولا يسأل نفسه: كيف كان هذا الطريق؟(6/1071)
وهل هناك قوة بشرية قادرة على أن تشقه هكذا بين الأمواج المتلاطمة؟
إنه لو توقف قليلا وتدبّر الأمر لعلم أنه أمام معجزة قاهرة، وأن عليه أن يراجع نفسه، وأن يؤمن بالله الذي يدعوه موسى إلى الإيمان به.. ولكنه يمضى فيركب هذا الطريق، غير ملتفت إلى شىء، إلا النقمة من بنى إسرائيل، الذين هربوا بليل، وخرجوا عن سلطانه، وأفلتوا من يده.. ثم هاهو ذا البحر يطبق عليه، ويدركه الغرق، ويطل عليه شبح الموت، فيصرخ من أعماقه طالبا الغوث والنجاة.. ثم تخطر له خاطرة يرى فى التعلق بها نجاته من هذا الموت المحقق.. إن بنى إسرائيل قد ركبوا هذا الطريق، فوصل بهم إلى شاطىء النجاة، وإن الذي فعل بهم هذا هو إلههم الذي آمنوا به، وأنه لو آمن بهذا الإله لنجّاه كما نجاهم.. هكذا فكّر وقدّر وهو فى هذا البلاء: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» لقد تخلّى عن آلهته التي كان يعبدها، إذ تخلت هى عنه فى هذه الشدة، وإنه ليؤمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل.. إنه الإله الحق، وكل آلهة غيره باطل وضلال..! هكذا يقول.. وهكذا يلقى الجواب:
«آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» ؟. الاستفهام هنا إنكارى، ينكر على فرعون هذه الدعوى، وأن إيمانه بالله غير مقبول منه، إذ جاء وقد بلغت الروح الحلقوم، وأشرفت به على العالم الآخر، فرأى الحق عيانا..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (18: النساء) .
لقد آمن فرعون، ولكنه إيمان المضطر المكره، وإنه «لا إِكْراهَ فِي(6/1072)
الدِّينِ»
، ولا حساب لمثل هذا الإيمان.. وقد كان هذا الإيمان الباطل، هو الذي طلبه موسى لفرعون من ربه فى قوله: «فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» .
وقد آمن فرعون، وآمن معه كثيرون من الغرقى من قومه، وذلك بعد أن رأوا العذاب الأليم الذي ينتظرهم يوم الحساب! فكان إيمانهم هذا لغوا باطلا.
«فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» .
الخطاب هنا لفرعون، وهو يعالج سكرات الموت، أو وهو ميت، إذ هو حىّ يسمع ويبصر كل شىء يجرى فى هذه الدنيا.. وقد تحدث الرسول صلوات الله وسلامه عليه.. إلى قتلى المشركين فى بدر، وهم فى القليب، فسأله أصحابه: أيسمع الموتى؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ما أنتم بأسمع منهم فى قبورهم» ! ونجاة فرعون ببدنه، وإلقاء البحر له جثّة هامدة متعفنة على الشاطئ، فيه عبرة لمعتبر.. فهذا الإنسان الذي كان يملأ الأرض بغيا وعدوانا، ويقول فى الناس: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» (38: القصص) ويقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (24: النازعات) . هذا الإنسان قد صار فى لحظات جثة هامدة، وكوما من لحم بارد! فأين ملكه؟ وأين سلطانه؟ وأين بطشه وجبروته؟ لقد ذهب كل ذلك عنه، وتعرّى من كل شىء كان بين يديه! «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» .
«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» .
فهذه يد القدرة القادرة، تحفظ موسى وليدا، وتحمله على اليمّ رضيعا، ثم تضعه على الشاطئ، كما تضع الأم وليدها، وهو يشق طريقه إلى الحياة..
فتتلقفه القابلة، وتصلح من شأنه، وتهيئ له أسباب الحياة فى عالمه الجديد..(6/1073)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
ثم هذه يد القدرة القادرة، تدفع بفرعون إلى اليم، وتميته فيه غرقا، وتدفنه فى أعماقه، ثم تلقى به إلى الشاطئ، جثة باردة متآكلة متعفنة..!
وهكذا يلتقى ميلاد موسى بهلاك فرعون، كما يلتقى الحق بالباطل، والنور بالظلام!
الآيات: (93- 95) [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 95]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)
التفسير:
المبوّأ: المنزل، الذي يبوء إليه الإنسان، أي يرجع إليه بعد مطافه للسعى وراء رزقه..
والآية تتحدث عن نعمة الله على بنى إسرائيل، بعد أن نجّاهم من فرعون، وأطلقهم من يده، وأخرجهم من منزل الهوان والذلة، إلى دار أمن، وسلام، واطمئنان.. فملكوا أمر أنفسهم، وعرفوا طعم الحرية، وتنسموا ريحها الطيب..(6/1074)
العلم وأسلوب تحصيله
- وفى قوله تعالى: «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ» .
اختلف المفسرون فى هذا المقطع من الآية الكريمة.. فى العلم الذي جاء إلى بنى إسرائيل، وفى الاختلاف الذي وقع بينهم..
فذهب بعضهم إلى أن العلم الذي جاءهم، وأوقع الاختلاف بينهم، هو التوراة.. ويعلّلون لهذا بأنهم كانوا قبل ذلك على حال واحدة من الضلال، فلما جاءتهم التوراة، اختلفوا، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر..
وذهب آخرون إلى أن «العلم» هو النبي صلى الله عليه وسلم، وما عرفوا من صفته فى التوراة، وأنهم كانوا على اتفاق بأن نبيا قد يظهر من العرب، وأن زمانه قد أظلّهم، فلما جاءهم ما عرفوا، تفرق رأيهم فيه واختلفوا: فكفر به أكثرهم، وآمن به قليل منهم..
والرأى عندنا.. أن يكون المراد بالعلم، هو العلم على إطلاقه..
ذلك أن العلم، وهو نعمة من نعم الله، وهدى من هداه، من شأنه أن يكون مصدر خير وهدى للناس، ولكنه- شأنه شأن كل نعمة- كثيرا ما يكون سببا فى الخلاف والتفرق.. الخلاف فى الرأى، والتفرق شيعا وأحزابا، تبعا للاختلاف فى الرأى..
وتلك حقيقة واقعة فى ماديات الحياة ومعنوياتها..
المجتمعات الفقيرة، التي تعيش على فطرتها وطبيعتها، مجتمعات متوحدة المشاعر والعواطف، متماسكة البناء.. ليس فيها طبقات ولا شيع ولا أحزاب..
كلها لون واحد، وصبغة واحدة..(6/1075)
فإذا كثر رزقها، وفاض الخير فيها، وقع التمزق، وانحلّت الروابط، وتمايز الناس طبقات، بعضها فوق بعض، وأصبح الجسد الاجتماعى أشلاء ممزقة.. كل عضو فيه منفصل عن بقية الجسد.. فهنا عيون الناس، وهناك رءوسهم.. وهنالك أيديهم.. وأرجلهم! والعلم، شأنه كهذا الشأن.. العلماء والحكماء والفلاسفة فى واد، والجهلة والعامّة فى واد.. هؤلاء فى عالم وأولئك فى عالم آخر..
ثم العلماء والحكماء والفلاسفة.. كل له رأيه، وعلمه وحكمته، وفلسفته.. كل له متجه فى تفكيره، وفى نظره إلى الوجود، وقربه، وبعده من الحقيقة.. «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» .
وبنو إسرائيل ليسوا وحدهم هم الذين يثير «العلم» خلافا بينهم، ويجعلهم أحزابا وشيعا.. بل هذا هو شأن الناس جميعا- كما قلنا- وإذن فالسؤال الوارد هنا هو:
لماذا اختصّ بنو إسرائيل بالذّكر هنا، وعرضوا فى معرض اللوم والتقريع؟
والجواب على هذا، هو أن ذلك تحذير للمسلمين من الخلاف الذي يجيئهم من واردات العلم، كما اختلف الذين من قبلهم من بعد ما جاءهم العلم.
وقد نبه النبي الكريم فى هذا، وحذر منه.. فقال صلوات الله وسلامه عليه:
«لتتّبعنّ سنن الذين من قبلكم شيرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لا تبعتموهم» .
ويقول النبي الكريم أيضا؟ وقد تنبأ بهذا الخلاف «اختلف اليهود(6/1076)
على ثلاث وسبعين فرقة، واختلف النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتختلف أمتى على إحدى وسبعين فرقة.. كلها فى النار إلا فرقة واحدة، قالوا يا رسول الله: من هى؟ قال: ما عليه أنا وأصحابى» .
وقد صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم.. فما أن ورد المسلمون موارد العلم، وأخذوا بحظهم من الحكمة والفلسفة والمنطق وغيرها، حتى أجلبوا بكل هذا الذي أخذوه، إلى كتاب الله، وخرّجوا آياته عليه، فوقع بينهم هذا الخلاف الذي عرفته الحياة، وسجله التاريخ.. فقالوا بالجبر والاختيار، وقالوا بالتنزيه والتجسيد، وقالوا بخلق القرآن، وبقدم القرآن، وقالوا بإمكان رؤية الله، وبعدم إمكان الرؤية.. وهكذا كان لهم فى كل مسألة آراء، ينقض بعضها بعضا.. وكانوا فرقا بلغت إحدى وسبعين فرقة، كما قال الرسول الكريم..
ولكن هنا سؤال أيضا:
كيف يتفق هذا، ودعوة الإسلام إلى العلم، وطلبه طلبا مفروضا فى بعض الأحيان، ومندوبا إليه فى بعض الأحيان الأخرى؟ وكيف يتفق هذا وقد رفع الإسلام من قدر العلماء، ونوّه بهم فى أكثر من موضع من القرآن الكريم، وفى أكثر من حديث من أحاديث الرسول؟
والجواب على هذا، هو أن دعوة القرآن إلى العلم وطلبه، والجدّ فى تحصيله لا يمنع من التحذير منه.. فهو سلاح ذو حدين.. إن لم يكن مع العلم تقوى وخشية من الله، قتل به صاحبه نفسه، وقتل كثيرا من الناس به..
والخلاف فى الرأى- إذا تجرد من الهوى- خلاف لا ينكره الإسلام بل يزكّيه، لأنه اجتهاد فى طلب الحقيقة، وتقليب للنظر فى التماسها، وتعاون بين المختلفين على الوصول إليها.. يحيئون إليها من طرق شتّى، وقد يلتقون(6/1077)
عندها، وقد لا يلتقون، ولكنهم جميعا ينشدونها، ويباركون من يدلّهم عليها، ويحمدون له اجتهاده وسبقه..
وقد اختلف صحابة رسول الله فيما بينهم على كثير من المسائل.. ولكن هذا الاختلاف، كان تمحيصا للرأى، وطلبا للحق، وبلوغا بالقلب والعقل إلى مقام اليقين والاطمئنان..
فهذا هو العلم الذي يدعو إليه الإسلام، ويبارك على أهله، ويفتح لأبصارهم وبصائرهم صفحات الكون كله، ينظرون فيها نظرا مطلقا غير مقيد بقيد.. وغاية ما يطلبه الإسلام من العالم هنا، هو أن يطوّف ما يطوف فى آفاق العلم، ومعه إيمانه وتقواه.. ثم يعود آخر المطاف، ومعه إيمانه وتقواه.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» - إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم، سواء كان عن طلب حقّ وهدى، أو كان جريا وراء هوى ومكر بالناس، فإن الله يعلم المحقّ من المبطل، وسيجزى كلّا بما انعقدت عليه نيته..
قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ.. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
لم يكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى شكّ مما أنزل عليه من ربه، ولم يكن يطوف به أي طائف من الشكّ أو الامتراء، أو التكذيب.. وكيف وهو يرى ملكوت السماء عيانا؟ وكيف وقد ثبّت الله قلبه، وأخلاه من كل وسواس؟. وهل يشك صاحب الرسالة فى رسالة تلقّاها من ربه، وأقرأه إياها ملك كريم من ملائكته.. يغدو ويروح إليه أياما، وشهورا، وسنين، وكيف يكون منه أثارة من شك أو تكذيب؟ وهو الذي احتمل فى سبيل(6/1078)
رسالته تلك ما لا تحتمل الجبال من ضر وأذى؟ أيكون من شكّ أو تكذيب، ممن يساوم على هذا الذي بين يديه بالمال والسلطان، فيقول: «والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك فيه ما تركته!» ..
وإذن فما تأويل ما نجد فى الآيتين الكريمتين، من هذا الحديث الموجّه إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، من التحذير من أن يكون من الممترين أو من المكذبين؟ ..
والجواب- والله أعلم- أن ذلك تعريض بأولئك الذين يكذبون بآيات الله ويمترون فيها، من المشركين، وأهل الكتاب، ثم هو تهديد لهم، ووعيد بالخيبة والخسران، إن هم لم يبادروا ويأخذوا بحظهم من هذا الخير المرسل من الله، إلى عباد الله! ..
ومن جهة أخرى، فإن خطاب النبي من ربه هذا الخطاب، يضع النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بضعه والناس جميعا على سواء بالنسبة للقرآن الكريم، وأنه ليس له فيه شىء.. إنه من عند الله، ومن كلام الله، وليس من كلام النبي، ولا من كلام أحد من البشر، وإنه علم يحمل إلى الناس فى آيات الله وكلماته. وأنه إذا كان للناس أن يشكّوا فى هذا العلم ويضعوه موضع الاختبار فليشكّوا، وانه إذا كان لهم أن يختلفوا على معطيانه فيما بينهم فليختلفوا- ولكن على شريطة أن يكون ذلك فى سبيل الاهتداء إلى الحق والتعرف على ما يملأ العقل نورا به، والقلب اطمئنانا وسكنا إليه.. وإلا فهو اختلاف يفرّق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع، كاختلاف بنى إسرائيل حين جاءهم العلم..
وإذن، فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه، والناس جميعا- هم على سواء أمام تلك الحقيقة العليا، المنزلة من السماء.. ينظرون فيها، ويتعرفون وجه(6/1079)
الحق منها، وأنه يمكن فرضا- وإن كان مستحيلا واقعا- أن يشكّ النبي فى هذا القرآن، وأن يلقى نظرة فاحصة عليه، ليتثبّت من الحقائق التي يدعى إلى الإيمان بها.. وهذا حق مشروع له، كإنسان، قبل ألا يكون نبيا..
وفى هذا- كما قلنا- ردّ مفحم على المشركين والكافرين الذين يدّعون أن هذا القرآن من عند محمد، ومن مقولاته.. إذ مستحيل فرضا وواقعا أن يشكّ إنسان فى قول صدر منه، أو يمترى ويكذّب بقول، يعرضه على الناس، ويدعوهم إلى التصديق به!! - وفى قوله تعالى: «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» .. هو دعوة لأهل الكتاب أن ينظروا فى هذا الكتاب العجيب، الذي يشكّ فيه صاحبه، وواضعه، كما يزعمون! ..
إن ذلك إغراء لهم بدراسة هذا الكتاب وتفحّصه، إذا كان كتابا شأن صاحبه معه، هو هذا الشأن.
ولا تطلب الدعوة الإسلامية إليهم وإلى غيرهم من المنكرين المكذبين أكثر من أن ينظروا فى هذا الكتاب نظر تفحص، وإمعان..
وإنهم لو فعلوا، لعرفوا أنه الحق من ربهم.. وأنه إذا كان هذا الكتاب منزّلا على محمد، هو منزل إليهم أيضا.. كما يقول الله تبارك وتعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ..» (136: البقرة) ومن جهة ثالثة، فإننا إذ نقرأ قوله تعالى، للنبى الكريم: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» - نلمح فى وجه الآية الكريمة دعوة إلى البحث والنظر، وتقليب حقائق الأمور، وعرضها(6/1080)
على العقل، ووزنها بميزانه، قبل الأخذ بها، وألّا يقبلها قبول استسلام وإذعان من غير اقتناع قائم على الدراسة والتأمل، ومهما كانت ثقة الإنسان فى مصدرها، فإن هذا لا يحرم العقل حقه من النظر فيها، نظر بحث وتفحص! ..
إن الشك- كما يقولون- هو أول مراتب اليقين..
والمراد بالشك هنا هو الشك المثمر، الذي يلقّح العقل بلقاح حب المعرفة والبحث عن الحقيقة، وارتياد مظانّها، وكشف وجهها سافرا مشرقا.. فهذا شك ولود للمعارف، يضع بين يدى صاحبه محصولا وافرا من العلم الراسخ، والحقائق الموثّقة..
أما الشك الذي يصدر عن وسواس ووهم، فهو داء، يقيم صاحبه دائما على عداء مع كل حقيقة واردة، أو علم مستحدث.. وهذا هو الشك الذي ينكره العلم، كما يبغضه الدين، ويبغض أهله..
الشك الذي تتحدث عنه الآية الكريمة فى قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هو الشك الذي يدعو العقل إلى البحث الجادّ، والنظر المدقق فى الحقيقة التي بين يديه، فلا يهدأ، ولا يستقر حتى يقع من الحقيقة على ما يملأ عقله وقلبه يقينا بها، واطمئنانا إليها.. ولقد جاء قوله تعالى بعد ذلك: «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» .. ثم جاء قوله تعالى بعد هذا.: «لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» تثبيتا لهذا اليقين الذي يقع فى القلب من النظر فى آيات الله.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» دعوة إلى تجنب الامتراء والجدل فى البحث عن الحقيقة.. فإن هذا الامتراء هو الآفة التي تمسك يد الإنسان عن أن تصل إلى حقيقة أبدا.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ» دعوة أخرى إلى تجنب التكذيب بالحقيقة حين يسفر وجهها.. فذلك من(6/1081)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
شأنه أن يحرم الإنسان ثمرة بحثه عنها، وسعيه من أجل الحصول عليها.. وفى ذلك خسران أىّ خسران..
فمراحل البحث عن الحقيقة، كما تصورها الآيتان الكريمتان.. هى ثلاث مراحل:
مرحلة الشك.. وفيها يتجه المرء بوجوده كله، إدراكا، وشعورا، ونيّة- للبحث عن الحقيقة، والعمل فى إخلاص ودأب على الوصول إليها..
ومرحلة التمحيص لما يقع فى مجال النظر، من حقائق، تمحيصا معزولا عن المراء والجدل- لمجرد الجدل..
ومرحلة الأخذ بما يؤدّى إليه النظر من البحث والتمحيص.. سلوكا وعملا.
ولا شك أن هذه هى أقوم السبل، وأعدل المناهج فى البحث عن الحقيقة في مجال العلم، والفنّ، والدين..
«والله يقول الحق وهو يهدى السبيل» ..
الآيات: (96- 103) [سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 103]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)(6/1082)
التفسير:
حقت عليهم: أي وقعت عليهم، ووجبت..
كلمة ربك: قضاؤه وحكمه الذي أوجبه وأوقعه عليهم..
والآية الكريمة تشير إلى ما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق فى عباده، يخلقهم كما يشاء، لما يشاء.. فتلك إرادته النافذة فيهم، ومشيئته الحاكمة عليهم..
وفى عباد الله، من خلقهم الله لا يقبلون الإيمان، ولا يكونون فى المؤمنين أبدا.. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» ..
وكما يقول النبي الكريم: «إن الله سبحانه خلق الخلق فقبض قبضة بيده وقال هؤلاء للجنة ولا أبالى، وقبض قبضة وقال هؤلاء للنار ولا أبالى.. رفعت الأقلام وجفّت الصحف» فقال الصحابة: «يا رسول ألا نتّكل وندع العمل بقدرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «اعملوا. فكلّ ميسّر لما خلق له.. فأهل الجنة للجنة ولها يعملون وأهل النار للنار ولها يعملون» .
«إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» إنهم لا يؤمنون أبدا إيمان اختيار ورضا،(6/1083)
ولو جاءتهم كل آية قاهرة معجزة.. إن قدرهم يمسك بهم على ما أرادهم الله له، ولن يتحولوا عنه..
أما إيمانهم عند الموت، أو عند مشاهدة أهوال يوم القيامة، فلن يحسب إيمانا، لأنه كما قلنا إيمان المكره المضطر، وإنه: «لا إكراه فى الدين» .
وهنا تثور فى النفس خواطر، وتدور فى الرءوس تساؤلات.
لم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد الله وصنعة يده.. فيكون فيهم السعيد والشقي، بقدر مقدور عليه، قبل أن يولد؟
وعلى أي أساس قامت هذه التفرقة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
فمواليد يولدون للجنة، ومواليد يولدون للنار؟
أسئلة كثيرة تدور هنا، قلّ أن يكون إنسان فى الناس- إلا من عصم الله- لم تعرض له هذه القضية- قضية القضاء والقدر- فيلقاها مواجها، أو مجانبا، أو حذرا، أو متخوفا..
فالناس جميعا مبتلون بهذه المشكلة.. وإن اختلفت موافقهم منها، وتباينت نظراتهم إليها..
وسيكون لنا موقف- إن شاء الله- مع هذه القضية، نستعرض فيه بعضا من نظرات الناظرين إليها، وما حصّلته تلك النظرات من خير أو شر.
ثم نعرض رأى «الإسلام» وموقف المسلم من هذه القضية..
قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .
«لولا» هنا بمعنى هلّا، يراد بها الاستفهام، ويراد من الاستفهام بها الحثّ والحض على فعل المستفهم عنه بعدها، والإغراء به.(6/1084)
والمعنى: هلّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟! والمراد بالقرية هنا، «مكة» .. وقد أشار إليها القرآن الكريم بهذا الاسم فى أكثر موضع، فقال تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» (13: محمد) وقال سبحانه: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) ..
وهذه مقولة المشركين من أهل مكة، يحكيها القرآن عنهم، وهم يريدون بالقريتين، مكة، والطائف..
والمفسرون مجمعون على أن هذه القرية مجرد قرية، أية قرية من تلك القرى التي أهلكها الله، ولم تؤمن كما آمنت قرية «يونس» وهى «نينوى» .
والذي نستريح إليه، ونطمئن له، هو هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، وهو أن المراد بالقرية هو «مكة» .. وقد جئنا من القرآن الكريم بما يدل على أنه يطلق عليها اسم «قرية» ، وإن كان القرآن قد ذكرها مرة بأنها أم القرى! ولنا على ذلك أيضا:
أولا: أن تنكير القرية يكاد يصرح بأنها «مكة» وأن كلمة قرية هو علم عليها، وذلك بالإشارة بدلالة الحال عليها.. والتقدير: فهلا كانت قرية اسمها مكة آمنت فنفعها إيمانها؟
ثانيا: فى قوله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» .. وفى هذا عزاء للنبى، وتسرية عنه، مما يعتمل فى نفسه من هموم على أهل هذه القرية التي يأبى عليه أهلها- وهم أهله وعشيرته- أن يستجيبوا له، وأن يأخذوا طريق النجاة الذي يدعوهم إليه.(6/1085)
وثالثا: فى قوله تعالى: «آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها» - وفى هذا الحديث عن القرية بالماضي، وهو الذي لفت أنظار المفسرين إلى أنها من القرى الغابرة- فى هذا إشارة إلى أن المراد بالقرية هى مكة.. والحديث عنها بالفعل الماضي يشير إلى أن إيمانها قد تأخر كثيرا، وأنه كان المتوقع منها أن تكون أول من يستجيب للنبى.. لأنه أحد أبنائها.. تعرفه، وتعرف نسبه فيها، ونشأته بين أبنائها، وما عهدت فيه من صدق، وأمانة، وعفة، واستقامة، مما لم تعهده فى شبابها أو شيبها.. ولأنها تملك اللسان العربي الذي التقت عليه ألسنة العرب جميعا، والذي نزل القرآن به.. فهى أقدر العرب جميعا على النظر فى المعجزة التي جاءها بها هذا النبي، فى كتاب كريم، تنزيل من رب العالمين.
فلو أن هذه القرية استجابت للنبى الكريم من يوم أن حمل إليها رسالة ربه، ودعاها إلى الإيمان به، لنفعها إيمانها، ولكانت فى ذلك الوقت، الذي تسمع فيه قول الله هذا، على حال غير حالها تلك، وعلى صفة غير صفتها هذه، التي هى عليها الآن، من كفر، وضلال..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .
فى هذا ما يسأل عنه، وهو:
ما معنى «إلا» الاستثنائية هنا؟ وأين المستثنى منه؟
ونقول إن «إلا» هنا ليست أداة استثناء، وإنما هى حرف استدراك بمعنى «لكن» .. ولما كان الاستثناء، يفيد فى مضمونه معنى الاستدراك والتعقيب على المستثنى منه فقد حسن استعمال «إلا» مكان «لكن» إذ كانت قرية يونس تكاد تكون استثناء بين القرى التي جاءها رسل الله، فكفرت، ولم يؤمن منها إلا هذه القرية. فأداة الاستثناء هنا تفيد استثناء(6/1086)
واستدراكا معا.. لفظها الاستثناء، ومعناها الاستدراك.. وذلك من خصوصيات النظم القرآنى وحده! وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: هلا أسرعت مكة إلى الإيمان بالنبي المبعوث منها وفيها، فانتفعت بهذا الإيمان قبل غيرها، لأنها أولى به، إذ كان مطلعه فى أفقها؟ ولكن الواقع أنها لم تؤمن، فحرمت هذا الخير، وأصبحت فى معرض نقمة الله وبلائه.. هذا هو موقف هذه القرية، وذلك هو حال معظم الأقوام مع أنبيائهم.. إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، فنجاهم الله من العذاب الذي أوشك أن يحل بهم، ومتعهم بما كانوا فيه، إلى أن انتهت آجالهم المقدورة لهم..
- وفى قوله تعالى: «لَمَّا آمَنُوا» إشارة إلى أن قوم يونس لم يبادروا بالاستجابة لرسولهم، بل كان منهم تلكؤ وتعلل، ولكنهم آمنوا آخر الأمر، فتداركهم الله برحمته، وشملهم بعفوه.
وانظر فى «لمّا» هذه، واستمع إلى ما يقع لأذنك من نغمها الممتد المتماوج، وما فيه من رعشة واهتزاز، تجد أنها تحكى فى دقة وروعة تلبّث القوم، وتلكاهم واضطراب خطوهم، قبل أن يؤمنوا، ويستقيموا على طريق الحق! وانظر مرة أخرى فى هذا الذي لمحته من الحرف «لمّا» وما طلع عليك به من إشارات مضيئة، كشفت لك عن حال تلك القرية، قرية يونس، وما كان من توقفها، وتلكئها، ثم استجابتها لرسولها، والإيمان بربها، والانتفاع بهذا الإيمان- تجد وجها آخر من وجوه الإعجاز القرآنى، فيما يجىء به من أنباء الغيب، وأن قريشا ستأخذ مأخذ قوم يونس، وأنهم إذ يقفون من النبي هذا الموقف العنيد العنيف، ستكون خاتمة أمرهم، الإيمان بالله، والانتفاع بهذا(6/1087)
الإيمان، كما كان الشأن فى قوم يونس.. وقد كان! فآمنت قريش، وانتفعت بإيمانها وانتفع الإسلام بهذا الإيمان.
قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .
وإذا كان قوم يونس قد آمنوا، وإذا كانت قريش ستدخل فى الإيمان.. فإن ذلك كله رهن بمشيئة الله.. فما آمن مؤمن إلا كان إيمانه عن مشيئة الله، وقدره المقدور له..
وإذن فهؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان من أهل مكة، هم ممن شاء الله لهم الإيمان، وأراد لهم الخير.. وهؤلاء الذين لا يزالون على كفرهم وضلالهم، هم ممن لم تدركهم رحمة الله بعد، وهذا منادى الحق يناديهم إلى الله، ويدعوهم إلى ظلال رحمته.. فليستجيبوا لله، وليسعوا إلى هذا الخير، وليأخذوا بحظهم منه، فقد يكونون ممن شاء الله لهم الإيمان، فتلقاهم مشيئته، وهم على الطريق إليه..
إنه مطلوب من كل إنسان أن يسعى، وأن يطلب الرزق من مظانّه..
والإيمان بالله هو أعظم الرزق وأطيبه- فإذا كان ممن أراد الله لهم الخير، أخذ حظه منه، وإلا فقد سعى سعيه، ولكن إرادة الله هى الغالبة، ومشئته هى النافذة.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» ولأصبح الناس كلهم على طريق مستقيم.. ولكن لله حكمة، فى أن فرق بين الناس، فكان منهم الصالح، والطالح، والمستقيم، والمنحرف، والمؤمن، والكافر، «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (119: هود) .
- وفى قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» - عزاء للنبى الكريم. ومواساة له عن مصابه فى قومه الذين أبوا أن يستجيبوا له، وأن يتقبلوا الخير الذي جاءهم به..(6/1088)
إنه لا إكراه فى الدين، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الدّين عقيدة، والعقيدة إيمان بالمعتقد فيه، والإيمان بالشيء لا يكون حتى يرضاه العقل، وتميل إليه النفس، ويطمئن له القلب..
وليس فى شىء من هذا مكان للإكراه، بل إن الإكراه هو الآفة التي تحجب القلب عن الإيمان، وتغتال الإيمان إذا هو وجد طريقا إلى القلب.
والأمر الثاني: أن القلوب وهى مستودع الإيمان، هى يد الله سبحانه وتعالى، إن شاء ساق إليها الإيمان، وهيأها لاستقباله، ونفعها به، فأزهر فيها وأثمر، وإن شاء صرفها عن الإيمان، وختم عليها، فلم تقبله، ولم تنتفع به.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» ..
وعلى هذا، فإنه غير مطلوب من الرسول أن يكره أحدا على الإيمان بالله.. لأنه لن يؤمن مؤمن إلا عن مشيئة الله وإرادته.. ثم لأن الإيمان عن إكراه هو زرع فى أرض مجدبة، لا تنبت زرعا ولا تطلع ثمرا.! «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (40: الرعد) .
قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» هو تعليل للإنكار الذي تضمنه الاستفهام فى الآية السابقة: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .. ذلك أنه إذا كان الإيمان رهنا بمشيئة الله، فليس يجدى بحال أبدا هذا الحرص الشديد، الذي يبدو من النبىّ، وهو يدعو أهله وقومه إلى الإيمان بالله، وإن المطلوب منه هو أن يرفع مصباح الهدى للناس، وأن يكشف لهم به الطريق إلى الله.. فمن كان ممن أراد الله لهم الهداية اهتدى، ومن كان ممن أصلّهم الله، فلا هادى له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» .
- وفى قوله تعالى: «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» .(6/1089)
الرجس: القذر، والنّجس..
ووضع الرجس فى مقابل الإيمان، إشارة إلى أن الإيمان طهر، وتزكية، وتطييب للمؤمن.. على خلاف الكفر، فإنه قذر، ونجس، ورجس، يلبس صاحبه، ويشتمل عليه، كما يلبس الجلد الجسد ويحتويه! وفى وضع الذين «لا يعقلون» ، بدل الذين «لا يؤمنون» كما يقضى بذلك السياق- إشارة أخرى إلى أن الكفر هو وليد الجهل والحمق، وعدم استعمال العقل وتوجيهه إلى تعقّل الآيات المبثوثة فى هذا الكون، الذي تتجلّى فى آفاقه آيات الخالق، المبدع، وقدرة الحكيم العليم، الخالق، المصوّر.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
«قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» جاء داعيا إلى توجيه العقل إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض، وقراءة ما سطرته يد القدرة على هذا الوجود من آيات ناطقة، تحدّث عن الخالق العظيم، وتسبّح بحمده، فى ولاء، وانقياد وخشوع! - وفى قوله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» - توكيد لما قررته الآيات السابقة، من أنه لا تؤمن نفس إلا بإذن الله.. وأن النظر فى ملكوت السموات والأرض، وإن كان مطلوبا من كل عاقل أن ينظر فى هذا الملكوت، وأن يطيل النظر فيه دارسا متفحصا، باحثا عن دلائل وجود الله، وما له فى هذا الملكوت من إبداع، وما له عليه من سلطان- هذا النظر لن يصل بصاحبه إلى الإيمان، ولن يفتح قلبه له، إلا إذا كان هذا الناظر ممن أراد الله لهم أن يكونوا مؤمنين.. أما الذين قدّر الله عليهم ألا يؤمنوا، فلن يؤمنوا، أبدا، ولو نطقت أمامهم الآيات، وأسمعتهم ما أودع الخالق فيها من بديع صنعه، ورائع حكمته وقدرته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ(6/1090)
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»
(6: البقرة) .
وهذه هى قضية القضاء والقدر.. وقد وعدنا أن نعرض لها، وسنعرض لها إن شاء الله فى سورة الكهف.
قوله تعالى: «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» هو تهديد لهؤلاء الكافرين، ووعيد لهم، بما ينتظرهم من بلاء وعذاب، وإنه كما أخذ الذين كفروا من قبلهم بالهلاك، سيؤخذون هم به.. فلينتظروا فلينظروا، وليستقبلوا ما يطلع عليهم من وراء هذا الانتظار، من نقم الله، وما تحمل إليهم من مهلكات. وما تسوق إليهم من بلاء ونكال..
قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
هو تبشير للمؤمنين، وتطمين لهم من أن يصيبهم شىء من هذا المكروه الذي سيحّل بالكافرين.. فالمؤمنون بمنجاة من هذا المكروه.. إنهم مع رسل الله، وإن الله سبحانه وتعالى لن يتخلّى عن رسله، ولن يريهم منه إلا ما يسرّهم من الأمن والعافية، والدرجات العليا عنده.. وكذلك المؤمنون الذين اتّبعوا الرسل.. إنهم معهم حيث يكونون.. فالمرء مع من أحبّ.. وفى هذا خزى للكافرين، إذ حرموا من أن ينالوا شيئا من هذا الذي ينعم فيه المؤمنون مع رسل الله.. من نصر الله وتأييده..
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الوعد الذي وعده الله رسله والمؤمنين، هو وعد حقّ لا شكّ فيه، قد أوجبه الله على نفسه، فضلا وكرما، كما يقول سبحانه وتعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
.. وكما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» . (21: المجادلة)(6/1091)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
وفى جزم الفعل «ننج» ما يكشف عن مزيد من فضل الله وكرمه وإحسانه إلى عباده المؤمنين.. ففى مجىء الفعل «ننج» مجزوما، ولا جازم له، يفتح الطريق إلى تقدير فعل أمر، ليقع هذا الفعل تحت سلطان الأمر من الله سبحانه وتعالى.. وهو أمر من الله سبحانه، إلى الله سبحانه!! والتقدير: كذلك حقّا علينا إنجاء المؤمنين.. فلننجهم إذن!! فسبحانه من ربّ كريم، يفيض على المؤمنين من عباده ما لا يفيض الأب البرّ الرحيم على صغاره، من حدبه، وعطفه، وتبسطه معهم، وتدليله لهم.!
الآيات: (104- 107) [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
التفسير:
قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .(6/1092)
المراد بالنّاس هنا هم المشركون، الذين لم يستجيبوا للرسول، وأمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. وجواب الشرط هنا جاء على غير ما يقتضيه السياق..
فالشرط وهو قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» مطلوبه أن يكون الجواب على هذا النحو.. فلا تدخلوا فى هذا الدين.. أو: فأنتم وشأنكم..
ولكن الجواب الذي جاء به القرآن الكريم، هو الجواب الذي لا يجىء إلّا من الحكيم العليم.. رب العالمين.. هكذا: «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وفى هذا الجواب تنكشف أمور:
فأولا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- متمسّك بهذا الدين، الذي يشكّ فيه هؤلاء الشاكّون، وأن شكوكهم لا تثير فى نفسه أىّ ريب فى هذا الحق الذي بين يديه.. وفى هذا ما ينبىء عن ثقة النبىّ، ويقينه، بهذا الدّين الذي يؤمن به، ويدعو إليه.
وثانيا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لن يتحول عن هذا الدّين، إلى الدّين الذي عليه هؤلاء المشركون، ولن يعبد تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله..
وثالثا: أن هذه الآلهة التي يعبدونها هى الضلال.. ولا يعبدها إلّا الضالّون، ولا يمسك بها إلّا المبطلون.. وأن آلهتهم تلك لا تملك لهم ضرّا، وأنهم لو تركوها، ونفضوا أيديهم منها، فلن تضرّهم شيئا.. أما الله سبحانه وتعالى، الذي يعبده «محمد» ويدعو إلى عبادته، فهو الذي يملك الضّرّ لهم.. إنه هو الذي يتوفّاهم، ويتولىّ حسابهم وجزاءهم على ما كان منهم من كفر وضلال.
رابعا: أنه- صلوات الله وسلامه عليه- متّبع لما أمر به، وهو أن يكون(6/1093)
من المؤمنين.. فهو من المؤمنين، لأنه مؤمن بهذا الدّين الذي أمر أن يدين به، وهم غير مؤمنين، لأنهم لا يدينون بدين الله..
قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
«الواو» هنا فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ» هى واو العطف، على تقدير أن الخبر قبلها وهو قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» هو فى معنى الأمر، أي تلقيت هذا الأمر، بأن قيل لى: كن من المؤمنين، «وأن أقم وجهك للدين حنيفا، ولا تكونن من المشركين» فجعل قول الله سبحانه وتعالى له- صلوات الله وسلامه عليه- أمرا لازما لا انفكاك له منه، وهذا أبلغ فى الدلالة على الامتثال والطاعة والولاء..
وإقامة الوجه على الأمر: فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» كناية عن الاشتغال به وحده، دون التفات إلى سواه.. ومنه قوله تعالى:
«يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» (9: يوسف) .. وذلك أن الوجه إذ يستقيم على طريق، فإنه لا يلتفت إلى طرق أخرى.. فإقامة الوجه على الدّين: توجيه الوجه إليه كله، دون أن يخطف خطفة بصر إلى غيره..
والحنيف: هو المائل عن طريق إلى طريق.. والمستقيم على دين الله، قد مال باستقامته تلك عن كل طريق، وأخذ طريق الله طريقا..
وفى التعبير بلفظ «الحنيف» بمعنى المائل عن الضلال إلى الحق، إشارة إلى أن أكثر الطرق هى طرق الضلال، وأكثر الناس هم الضالون، القائمون على هذه الطرق.. وخروج إنسان من الناس عن هذه الطرق، وميله عن الجماعات التي تسلكها، هو أمر يحتاج إلى مكابدة وعناء، كما أنه أمر ملفت للنظر، جدير بالتنويه.. فهو أشبه بالخروج على الإجماع! - وفى قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض بالمشركين،(6/1094)
وتهديد لهم، إذ كانوا على أمر محظور منهىّ عنه، يتعرض مقترفه للنقمة والبلاء..
قوله تعالى: «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ» هو تعريض أيضا بالمشركين، وتهديد لهم، وأنهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرّهم، وأنهم بهذا قد ظلموا أنفسهم، وباعوها فى سوق الضلال، بهذا النّقد الزائف، الذي لا قيمة له إذا عرض فى سوق الحق! وفى خطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه بهذا النهى، تغليظ لشناعة المنهىّ عنه، وتهويل للخطر الذي يتهدد الناس منه، وأن على كل إنسان أن يوقظ وجوده كله، حتى لا يقع فى هذا المحذور أو يدنو منه.. وكفى أن يكون المنهي عنه هو الشرك بالله، وكفى أن ينبّه النبىّ الكريم إلى هذا الخطر، وهو أعلم الناس به، وأبعدهم عنه.
قوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
إن الذي يعبده المشركون من آلهة، هو سراب خادع، ووهم باطل.. إنها لا تملك ضرّا ولا نفعا.. وإن الذي يملك الضّرّ والنفع هو الله سبحانه وتعالى وحده، لا شريك له فى هذا الوجود، ولا فيما يجرى على هذا الوجود من أمور فإذا مسّ الإنسان ضرّ- أىّ ضر- فلا يكشف هذا الضرّ عنه إلا الله..
وإن أصاب الإنسان خير- أي خير- فهو مما أراده الله، وقدّره، وأجراه له..
لا يستطيع أحد فى هذا الوجود أن يردّه، أو ينقص منه، أو يؤخر وقته المقدور فى علم الله..
وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ بهذا الحكم الذي قضى الله به فى عباده، ما يشعر بأن النبىّ- وهو من هو عند الله، قربا وحبّا- خاضع لهذا القضاء..(6/1095)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
فما يصيبه من خير هو من عند الله.. إنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا.. فكيف بمن هم ليسوا على هذه المنزلة عند الله، من قرب وحب؟
- وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» إشارة إلى أن المغفرة والرحمة من الله لعباده، هى شأنه فى خلقه.. حتى ما يقع بهم من مكروه وضرّ، هو محفوف بالمغفرة، محمول بيد الرحمة.. وحتى ما يلقى المشركون والضّالون من نقمة الله وعذابه، هو واقع تحت رحمة الله بهم ومغفرته لهم، ولولا ذلك لما تنفّسوا نفسا واحدا فى هذه الدنيا..! كما يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» (61: النحل) .
الآيتان: (108- 109) [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
التفسير:
بهاتين الآيتين تختّم السورة الكريمة، فيجىء ختامها متلاقيا مع بدئها، ويكون ما بين البدء والختام، عرضا شارحا لمضمون البدء والختام! فقد بدأت السورة هكذا: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. وفى هذا البدء إعلان عن هذا الكتاب الحكيم الذي بعث به النبىّ الكريم إلى الناس، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وينذرهم بعقابه، ويبشرهم برحمته ورضوانه، فعجبوا أن يكون ذلك الكتاب السماوىّ فى يد رجل منهم، وقال الكافرون تلك القولة المنكرة: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .(6/1096)
ثم تأخذ السورة بعد ذلك فى عرض قدرة الله، وما أبدع وصوّر فى هذا الوجود، وفيما يقع لنظر الناظرين فيه من دلائل وجود الله، وعلمه، وحكمته..
فأخذ بعض الناس بحظهم من النظر السّليم فآمنوا، وزاغت أبصار كثير منهم، فكفروا.. ثم تعرض السورة بعضا من مشاهد القيامة، وما يلقى الكافرون المكذّبون من بلاء وعذاب، وما ينال المؤمنون من نعيم ورضوان.. ثم تعود فتنقل النّاس من مشاهد القيامة إلى هذه الدنيا التي هم فيها، وتعرض لأبصارهم ما أخذ الله به الظالمين، من القرون الماضية، من بأسه ونقمته، على حين عافى المؤمنين من هذا البأس وتلك النقمة، وأولاهم عزّا ونصرا..
ثم تختتم السورة بهاتين الآيتين، بهذا الإعلان العامّ، الذي بدأت به، فتصل منه ما انقطع: «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم» وهو هذا الكتاب الحكيم، الذي جاءكم من ربكم: «فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه» إذ ارتاد الخير لها، وغرس فى مغارس الخير، وهو الذي يجنى ثمر هذا الخير، ويضمه إلى يده، لا يناله غيره.. «ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها» ، إذ عمى عن طريق الحق، وركب مركب الضلال، فإذا ورد موارد الهلاك، فلا يلومنّ إلا نفسه.. «وما أنا عليكم بوكيل» .. إذ ليس الرسول وكيلا عنهم، يعمل لهم، كما يعمل الوكيل لمن وكله عنه.. فليس أحد مغنيا عن أحد، ولا أحد موكّلا عن أحد، بل هى المسئولية الذاتية، يحملها كل إنسان عن نفسه..
إذ كان للإنسان وجوده، وكانت له ذاتيته وشخصيته، وبهذا فلا يصح أن يضع إنسان نفسه تحت وصاية أحد، أو يعفى نفسه من العمل، بإقامة وكيل عنه، لأن هذا الوكيل الذي يريد أن يقيمه، هو نفسه مطالب بالعمل لنفسه، وبتحصيل الخير لها.. حتى ولو كان رسول الله نفسه..
وفى هذا تكريم للإنسان، وتصحيح لوجوده، وتسليم بحقه الكامل فى(6/1097)
هذا الوجود، وأن عليه أن ينظر إلى نفسه وحده، وأن يأخذ لها بحظها من سعيه وعمله.. إنه إنسان رشيد عاقل، فكيف يقبل هو، أو يقبل منه أن يحلّ نفسه من إنسانيته، وعقله، ورشده، ليكون طفلا قاصرا، يفكّر له غيره، ويعمل له سواه؟ ذلك حساب مغلوط لا يقبل منه أبدا، ولو قبله هو على نفسه..!
- وفى قوله تعالى: «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» ، وفى تعدية اسم المفعول:
«وكيل» الذي هو بمعنى موكّل بحرف الاستعلاء «على» بدلا من حرف المجاوزة «عن» - فى هذا ما يشعر بأن النبي الكريم- وهو من هوّ فى مقامه الرفيع فوق الناس جميعا- ليس له أن يكون وكيلا عن أحد من الناس، وإنما كل إنسان له وعليه مسؤليته الكاملة، يحملها وحده..
وهذا- كما قلنا- تشريف للإنسان، وتكريم له.. وأن كل إنسان جدير به أن يأخذ مكانه فى الناس، وأن يعمل ما وسعه العمل، ليبلغ المكان الذي يستطيعه بعمله واجتهاده.. فالطريق أمامه مفتوح، لا يقف فى سبيله أحد! ..
قوله تعالى: «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. فذلك هو الرسول الإنسان.. إنه يحمل مسئوليته كاملة..
فيتّبع ما يوحى إليه من ربه، ويستقيم عليه.. إن ذلك هو ميدانه الذي يعمل فيه، ويدعو الناس إلى العمل فيه معه.. فمن استجاب له، قبله، وضمّه إليه، ومن أبى فما على الرسول إلا البلاغ، وليصبر الرسول حتى يحكم الله بما قضى به فى عباده، وهو خير الحاكمين.. لا يحكم إلا بالعدل، ولا يقضى إلا بالحقّ، فيجزى المحسنين بإحسانهم، ويأخذ المذنبين بذنوبهم، إن شاء، أو يعفو عنهم..!(6/1098)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
11- سورة هود
نزولها: مكية.. بإجماع..
عدد آياتها: مائة وثلاث وعشرون آية.
عدد كلماتها: ألف وتسعمائة وإحدى عشرة كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف وستمائة وخمسة أحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 5) [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
التفسير: تبدأ هذه السورة الكريمة بما بدأت به السورة التي قبلها، سورة «يونس» بذكر الكتاب الحكيم، الذي أوحى إلى الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.. فهى تصف الكتاب بالحكمة، «كتاب أحكمت آياته» وقد وصفته السورة التي قبلها بأنه كتاب حكيم: «تلك آيات الكتاب الحكيم» ثم تعطيه وصفا آخر، هو أن الحكمة التي اشتمل عليها، لم تكن حكمة مجملة مغلقة،(6/1099)
بل هى حكمة مفصلة، واضحة مشرقة، تنالها أفهام الناس جميعا، ويشارك فيها الحكماء وغير الحكماء، لأن الذي أحكمها هو الذي فصّلها.. فهو «حكيم» يملك الحكمة كلها.. «خبير» يضع كل شىء موضعه..
- وفى قوله تعالى: «الر» إشارة إلى أن هذه الكلمة، فى حروفها الثلاثة، الألف، واللام، والراء.. هى الكتاب كله، وهى الحكمة كلها..
ولكنها غير مدركة لأفهام البشر، فهى مجمل المجمل من الحكمة، وعلم مجملها ومفصّلها عند «الحكيم» وحده، وهو الحق سبحانه وتعالى.
- وفى قوله تعالى: «أُحْكِمَتْ آياتُهُ» هو تفصيل مجمل لهذه الحكمة المجملة «فى الر» .
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» هو تفصيل لمجمل هذه الحكمة المجملة، وقد فصّلها حكيم خبير.
وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» .
هو من تفصيل هذه الحكمة التي حملها هكذا الكتاب الحكيم، واشتمل عليها..
فالدعوة إلى الإيمان بالله، وإخلاص العبادة له وحده، والتحذير من عقاب الله، والتبشير بثوابه- هى مضمون هذا الكتاب الحكيم، ومحتواه!.
والضمير فى «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ» أي من الله، «نذير وبشير» ..(6/1100)
قوله تعالى: «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» .. و «تولوا» مضارع أصله تتولّوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي إن الذي أدعوكم إليه بهذا الكتاب الحكيم، هو: «ألا تعبدوا إلا الله» .. «وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» .. استغفروه مما يقع منكم من معاص، ثم توبوا إليه مما ترتكبون من آثام..
وفى العطف «بثم» إشارة إلى أن الاستغفار مطلوب دائما من كل مؤمن إذ كان الإنسان فى معرض الزلل والانحراف، وهو يعالج شئون الحياة..
أما التوبة فهى رجوع الى الله بعد أن يبعد الإنسان كثيرا عنه، بارتكاب منكر من المنكرات.. فالتوبة يكون الإنسان فيها فى مواجهة موقف محدد، يراجع فيه الإنسان نفسه، فيرجع إلى ربه من قريب، قبل أن تشطّ به الطريق، ويبعد عن ربه.. أما الاستغفار فهو دعاء متصل بين الإنسان وربه، وهذا يعنى أن الإنسان وإن اجتهد فى الطاعة، وأخلص فى العبادة، وبالغ فى تحرّى الاستقامة لا يسلم أبدا من أن تقع منه هنات وزلات.. وإذن فهو على شعور بالنقص دائما، وفى مداومة الاستغفار، التجاء إلى الله أن يطهره، وأن يمحو ما علق به من ذنوب! - وفى قوله تعالى: «يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» بيان لثمرة الإيمان بالله، ودوام الاتصال بالاستغفار والتوبة، ففى ذلك ضمان لسلامة الإنسان، وإمساك به على طريق الحق والخير، فيكون بذلك محفوفا برحمة الله، مستوجبا لرضاه، قرير العين، مطمئن القلب، بالاستظلال بظله، فيعيش عمره(6/1101)
المقدور له فى هذه الدنيا، سعيدا هانئا، يجنى أطيب الثمرات، لما غرس، من خير، وما قدم من إحسان.. فهو بهذا ممتّع متاعا حسنا والضمير فى قوله تعالى: «فَضْلَهُ» .. يعود إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون معناه: أن الله سبحانه وتعالى يجزى أهل الفضل والإحسان، فضلا من فضله وإحسانا من إحسانه.. كذلك يمكن أن يعود هذا الضمير إلى الإنسان، صاحب هذا الفضل، بمعنى أنه سيجد فضله الذي قدمه حاضرا بين يديه، قد ادخره الله سبحانه وتعالى له، وبارك عليه، وثمّره، ونمّاه له.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» دعوة للمعاندين والسّادرين فى غيّهم وضلالهم، أن يستمعوا إلى الرسول، وأن يستجيبوا له، وإلا فهم فى مواجهة بلاء، وعذاب، يوم القيامة..
وفى خوف النبي عليهم من عذاب هذا اليوم ما يشعر بحرص النبي على هدايتهم، وإشفاقه عليهم، من هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه..
«فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير» وفى وصف اليوم بأنه «كبير» إشارة إلى ما فيه من أهوال ثقال، وأن كل لحظة، فيه لثقلها على النفس، تعدل أياما وسنين.. هكذا لحظات الشدائد والمحن، تمر ثقيلة بطيئة، يحسبها الذين يعيشونها دهرا طويلا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» (27: الإنسان) .
قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .(6/1102)
يثنون صدورهم: أي يطبقونها، ويطوونها على ما بداخلها من شر، وزور، وبهتان..
يستغشون ثيابهم: أي يلبسونها، ويتخذونها غشاء لهم..
«ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه» .. هذا تقرير لواقع المشركين وأصحاب الضلالات، مع أنفسهم، إذ لما فى صدورهم من منكرات الأمور، وعوارها، يحاولون جاهدين أن يخفوا هذا المنكر الذي ضمّت عليه صدورهم، ويداروا هذا العوار الذي إن ظهر للناس فاحت منه ريح خبيثة، تفضحهم وتخزيهم بين الناس.. فهم أبدا على حذر وحرص، من أن يطلع أحد على هذا الفعل الفاضح الذي اتخذوا له من صدورهم مسرحا يتحرك عليه، ويعيش فيه..
فالأسلوب هنا خبرى، يقرر حقيقة واقعة، وهى أن هؤلاء أصحاب منكرات، يطوون عليها صدورهم حتى لا يطلع عليها أحد، وقد بلغ بهم سوء ظنهم بالله، وجهلهم بما له من صفات الكمال، أنهم يظنون بهذا الفعل أنهم يحولون بين الله تعالى، وبين أن يعلم ما هم عليه من منكر..
- وفى قوله تعالى: «أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» هو ردّ على سوء فهمهم لكمالات الله، وجهلهم بنفوذ علمه وسلطانه إلى كل ذرّة فى هذا الوجود.. وأنهم مقهورون تحت سلطان هذا العلم، لن يستطيعوا أن يخفوا منه شيئا، ولو مزجوه بلحمهم وخلطوه بدمهم.. فهم حين يستغشون ثيابهم ليستروا بها عوراتهم، لا يسترونها عن الله، كما لا يسترون عنه، ما أطبقوا عليه صدورهم من عورات ومنكرات: «إنه عليم بذات الصدور» أي بما فى داخلها، وما أطبقت عليه، فكيف بالصدور نفسها؟
وذات الصدور، حقيقتها.. وعلم الله سبحانه وتعالى بها، هو علم كامل، إذ هو سبحانه الذي خلقها، وأودع ما فيها من قوى، فكيف يدخل عليها شىء ثم يخفى عن الخالق سبحانه؟ «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ؟.(6/1103)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
الآيات: (6- 11) [سورة هود (11) : الآيات 6 الى 11]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
التفسير:
مناسبة قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة كشفت عن سوء ظن المشركين والمنافقين بالله، وجهلهم بما له من علم، وقدرة، وأنه- سبحانه- يعلم سرّهم وجهرهم، ويطلع على ما طووا عليه صدورهم من ضلال وإلحاد..
وفى هذه الآية والآية التي بعدها، يكشف سبحانه وتعالى عن بعض مظاهر علمه وقدرته، فيقول سبحانه:(6/1104)
«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
والدابة كل مادب على الأرض من كائنات حيّة.. من الحشرات والهوامّ..
إلى الإنسان.. واختصاص دوابّ الأرض بالذكر، لأنها هى التي تشاركنا الحياة على هذه الأرض، وهى التي تقع لحواسنا ومدركاتنا. وهى التي تحتاج إلى ما يمسك عليها حياتها، من طعام وشراب، ومأوى.. ونحو هذا..
فكل ما على الأرض من كائنات، ومنها الإنسان- مكفول له رزقه من الله.. فهو- سبحانه- الذي خلقه، وهو- سبحانه- الذي يقدر رزقه، ويسوقه إليه من فضله وكرمه..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» إشارة إلى أن الله- سبحانه- قد أوجب ذلك على نفسه، حتى لكأن كل حى له عند الله- سبحانه وتعالى- حق يطالب به.. وذلك من كرم الكريم، ورحمة الرحيم..
وإذا كان فى الناس من يوجب على نفسه ما لا يجب من أفعال الخير، كما يقول الشاعر:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل
- نقول إذا كان فى الناس من يوجب على نفسه ما لا يجب، من فضل وإحسان، فكيف برب الناس، ملك الناس، إله الناس.. من لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص بكثرة العطاء نعمه؟ وكيف بمن خلق هذه الأحياء.. ألا يضمن حياتها، ويمسك وجودها؟ إن الخلق لا تظهر حكمته، ولا تتجلى آثاره، إلا إذا قام معه ما يضمن بقاءه، ويحفظ الحياة التي أودعها الخالق فيه، وإلا كانت عملية الخلق عبثا، يتنزه الله سبحانه وتعالى عنه..(6/1105)
وفى قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» إشارة إلى تمكن علم الله، وإحاطته بالموجودات، وأنه يعلمها علم تفصيل لا علم إجمال وحسب، فيعلم الكائنات، فردا فردا، مستقرها فى أصلاب آبائها، ويعلم مستودعها فى أرحام أمهاتها.. فهى قبل أن تكون كائنا فى هذا الوجود، ودابة من دواب هذه الأرض، كان علم الله قائما عليها، وعنايته موكّلة بها، حتى إذا أودعها رحم الأم ظهر الأرض، كان على الله رزقها وكفالتها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» (98: الأنعام) .
قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .
هو استعراض أيضا لبعض مظاهر قدرة الله.. فهو- سبحانه- الذي خلق السموات والأرض فى ستة أيام.
وقد أشرنا من قبل إلى أن هذا الزمن الذي خلقت فيه السموات والأرض، إنما هو الوعاء الزمنى، الذي يتمّ فيه خلق هذين الكائنين واستواء خلقهما، ونضجه، شأنهما فى هذا شأن أي مخلوق..
فكما يتم خلق الجنين الإنسانى- مثلا- فى تسعة أشهر، تمّ خلق السموات والأرض فى ستة أيام.. فالسموات والأرض أشبه بالكائنات الحية فى الخلق، كان لهما عند الله سبحانه أجل استوفيا فيه خلقهما.
أما القول بأن الله سبحانه قد شغل بخلق السموات والأرض ستة أيام، ثم استراح فى اليوم السابع، فهو مما تحدّثت به التوراة التي عبث بها بنو إسرائيل..(6/1106)
وقوله تعالى: «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» إشارة إلى أن خلق السموات والأرض جاء متأخرا عن خلق الماء وهذا ما ينبغى أن نقف عنده، ولا نسأل عما وراءه، فذلك مما لا تدركه مدركاتنا، وهو مما ينبغى أن نؤمن به إيمان تسليم وتصديق، دون أن نبحث أو نسأل عن العرش ما هو؟ وأين هو؟ فالسؤال عن مثل هذا مضلّة، والبحث فيه عناء.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» .
(85: الإسراء) وقوله تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» .. الابتلاء الاختيار، ولام التعليل متعلقة بقوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ، أي وخلقكم أيها الناس وجعلكم خلائف فى الأرض، ومكّن لكم فيها بما أودع فيكم من عقل، وما سخر لكم من مخلوقات، ليتبين من ذلك كيف تعملون، وكيف تكون خلافتكم فيما استخلفكم الله فيه.. ولولا هذا ما كان لكم وجود، ولا كان منكم هذا الذي أنتم عليه، من إيمان وكفر، وهدى، وضلال..
وفى قصر الابتلاء والمفاضلة فيما ابتلوا فيه، على الأعمال الحسنة- إشارة إلى ما يجب أن يكون من الناس، وهو العمل فى ميدان الإحسان وحده، والتنافس بينهم فى هذا المجال.. ففى ذلك ينبغى أن يتنافس المتنافسون.
- وفى قوله تعالى: «وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» إشارة إلى ما كشف عنه هذا الابتلاء والامتحان.. فقد كشف عن بعض نفوس خبيثة، وعقول فاسدة، وقلوب مريضة، لم تتعرف إلى الله، ولم تهتد إليه، ولم تستمع لدعاة الداعين إلى الإيمان بالله، وباليوم الآخر.. فإذا استمعوا إلى شىء من كلام الله، يحدثهم بأنهم مبعوثون بعد موتهم، أنكروا هذا القول، وقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..(6/1107)
يقولون ذلك على القطع والتوكيد، حتى لكانّ لهم عليه برهانا مبينا، أو حجة بالغة.
قوله تعالى: «وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
الأمة: الجماعة من الناس، على مشرب واحد.. فهم قطعة من المجتمع الإنسانى.
والأمة: القطعة من الزمن، كما فى قوله تعالى: «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (45: يوسف) .
والأمة: الحال المقتطعة من أحوال الناس، كما فى قوله سبحانه: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» (22: الزخرف) أي على حال.
يحبسه: يؤخره.. وحاق بهم: أي أحاط بهم، واشتمل عليهم.
وهذا أيضا مما تكشّف عنه الابتلاء الذي ابتلى به الناس، إذ خلقهم الله وأقامهم على هذه الأرض.. فقد كان فى الناس من كذبوا بآيات الله ورسل الله، واليوم الآخر.. وكان منهم من بالغ فى هذا التكذيب، وبلغ الغاية فى السفاهة والحمق.. فهم إذا أنذروا بالعذاب يوم القيامة قالوا: متى هو؟ وإذا أنذروا بالعذاب والهلاك فى الدنيا قالوا: ما يحبسه؟ يقولون ذلك فى تحدّ وعناد، وإصرار على الكفر والتكذيب، بهذا الوعيد الذي توعدهم الله به..
ولو عقلوا ما استعجلوا هذا البلاء، ولأخذوا أنفسهم بما ينجيهم منه.
وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» أي أنه لو وقع بهم هذا العذاب فلن يدفع عنهم، ولن يكون لهم فيه إلا البلاء والهلاك.. فما بالهم- قاتلهم الله- يستعجلون ما فيه دمارهم وهلاكهم؟(6/1108)
قوله تعالى: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ» .
هو عرض كاشف لحال الإنسان، وموقفه من نعم الله ونقمه..
فهو إذا أذاقه الله سبحانه وتعالى طعم نعمة من نعمه، وذلك من رحمة الله به، وإحسانه إليه- سكن إليها واطمأن بها، وشغله الاستمتاع بها عن ذكر الله، بل وعن الإيمان بالله..!
فإذا نزع الله سبحانه وتعالى منه هذه النعمة- وذلك بسبب ما كان منه من انحراف عن الله، ليكون له من ذلك نخسة تذكره بالله- إذا فعل الله سبحانه وتعالى ذلك به، يئس من رحمة الله، وكفر به وبآلائه، ولم يعد يذكر شيئا مما كان لله عليه من فضل.. فإذا عاد الله بفضله عليه، وأذاقه من رحمته، لم يذكر الله، وإنما يذكر نفسه، ويشغل عن الله بالفرحة، بزوال هذا البلاء الذي كان فيه، ويستعلى على الناس تيها وفخرا.
وفى التعبير عن النعم بالرحمة، إشارة إلى أنها من فيض رحمة الله على عباده..
وفى التعبير عن زوال النعمة بالنزع، إشارة إلى أن هذه النعمة كانت ثوبا ستر الله به من أنعم عليه بها، فلما لم يؤدّ ما لهذا النعمة من واجب الشكر لله عليها، واتّخذ منها سلاحا يحارب به الله، ومطية يمتطيها إلى تخطى حدوده- انتزع الله هذا الثوب الذي كان يستره به، وأخذه بقوله سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) .
وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» - هو استثناء من هذا الحكم العام الواقع على الإنسان فى جنسه كله،(6/1109)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
وهو أنه إذا أنعم الله عليه بطر، واستكبر، وكفر.. وإن مسته ضراء، جزع ويئس، وازداد كفرا، وإن عادت عليه النعمة، عاد سيرته الأولى معها..
كفرانا وطغيانا.. هذا هو الشأن الغالب فى الناس.. «إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات» فإنهم يستقبلون نعم الله بالحمد والشكر، ويتقبلون امتحان الله لهم حين يمسهم بضر- بالتسليم والصبر.. «أولئك لهم مغفرة وأجر كبير» .. لهم مغفرة لذنوبهم بما صبروا على المكروه، ولهم أجر عظيم على ما كانوا فيه من طاعات وأعمال صالحة، مع هذه النعم التي أنعمها الله عليهم.
الآيات: (12- 16) [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 16]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
التفسير:
قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ.. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» .(6/1110)
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، التي استفتحت بها السورة الكريمة، قد ذكرت القرآن الكريم، وأنه كتاب أحكمت آياته، ثم فصّلت من لدن حكيم خبير، وأنه مع ما فى هذا الكتاب من علوّ، وإشراق، فقد مكر المشركون به، وجعلوا يكيدون له، ويسخرون من النبي الكريم الذي يدعوهم به إلى الله، ويقولون عن هذا القرآن: إنه سحر، وعن النبي:
إنه ساحر، وشاعر، ومجنون- فناسب أن يذكر بعد هذا ما كان يجد النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- فى صدره من ضيق وحرج، من بهت قومه له، وسخريتهم به، وخلافهم عليه.. فجاء قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ» - جاء كاشفا للنبى عن تلك الحال التي يعانيها، ويجد من آثارها فى نفسه، همّا وقلقا، واستثقالا من مواجهة قومه بما يكرهون من عيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، ووعيدهم بالعذاب الهون فى الآخرة..
كقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» (98: الأنبياء) ، وكقوله سبحانه: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» (10- 13:
المزمل) فكان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يجد حرجا من أن يلقى قومه بمثل هذه الحرب السافرة، التي تزيد من حنقهم عليه، وعداوتهم له، وقطع ما بينه وبينهم من أواصر المودة والقربى.. إنه- صلوات الله وسلامه عليه- حريص على امتثال أمر ربه، بتبليغ ما أنزل إليه من كلماته، ثم هو حريص على أن يشدّ قومه إليه، وألا يدع حبال القربى تتقطع بينهم وبينه..! فكان من هذا وذاك فى ضيق وحرج! - وفى قوله تعالى «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ.. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى(6/1111)
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ»
- فى هذا عزاء للنبى، وتسرية له، وتثبيت لفؤاده على طريق دعوته..
وترك النبي لبعض ما يوحى إليه، هو إمساكه دون مواجهة المشركين به، وذلك فيما يسوؤهم فى آلهتهم، أو فى أنفسهم، أو فيهما معا..
أما ما يضيق به صدر النبي فهو ما يرمونه به من كذب، وما يقترحون عليه من مقترحات، بأن يأتيهم بآيات مادية، تجابه حواسهم.. كأن ينزّل عليه كنز، أو يجىء معه ملك من السماء، يشهد له بأن الكتاب الذي معه، هو من عند الله! - وقد جاء قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ردّا على المشركين، وعلى مقترحاتهم التي يقترحونها، وأن الرسول الذي جاءهم، إنما رسالته فيهم هو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وينذر الذين لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر.. «والله على كل شىء وكيل» أي قائم على كل شىء.. لا يملك أحد معه شيئا.. فليس للنبى أن يغيّر أو يبدّل فيما أمره الله بتبليغه إلى الناس، ولو كان فيه ما يسفّه أحلامهم، ويكشف ضلالهم.
قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» .
هو حكاية لمقولة من مقولات المشركين فى القرآن الكريم، مما يضيق به صدر النبي، ويألم منه.. وهو قولهم إن هذا القرآن حديث افتراه محمد على الله، ونسبه إليه، وما هو إلا من أساطير الأولين، اكتتبها، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبي الكريم أن يلقاهم متحديّا أن يأتوا «بعشر سور مثله مفتريات» .. أي إذا كان هذا القرآن من مفتريات «محمد»(6/1112)
- وكذبوا وخرسوا- فإن فى عالم الافتراء متسعا لمن شاء أن يتعامل معه، ويحمل من معطياته ما يشاء.. فليفتروا عشر سور من مثل هذا القرآن، فى بيانه لعجز، وآياته المشرقة، وفى تعاليمه الحكيمة، ووصاياه الرشيدة..
ثم إن لهم أن يستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به، من أحبار وكهان، ومن شعراء وخطباء، ومن قصّاص ومحدّثين.. فهذه هى الدنيا كلها، وهؤلاء هم أهلها جميعا، فليقّلبوا وجوه الأرض كلها، وليجمعوا إليهم أهل العلم جميعا.. ثم ليأنوا بعشر سور مثله مفتريات.. فإنهم إن فعلوا- وهيهات- فقد صحّ قولهم فى القرآن إنه مفترى، وصدق حكمهم عليه بأنه من عمل محمد، ولا نسبة له إلى الله..
أما إن عجزوا، بعد أن يجهدوا جهدهم، ويبلوا بلاءهم، ويدعوا من استطاعوا، فليحكموا هم على أنفسهم بأنهم هم المفترون، وأنهم هم الكاذبون، فيما قالوه فى القرآن الكريم.. وليعلموا أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله، ومن عند الله.. فهل يرجعون بعد هذا عن غيّهم وضلالهم، ويذعنون للحق الذي فضح نوره ما قد علا وجوههم من خزى وذلّة، بين يدى هذا الامتحان الذي خرّوا فيه صرعى لأول جولة، فى ميدان التحدّى؟
والضمير فى قوله تعالى «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» يعود إلى من يدعوهم المشركون، من الأعوان والأنصار، ويستعينون بهم فى افتراء عشر سور من مثل هذا القرآن.. وفى هذا إشارة إلى أن المشركين أنفسهم لا يستطيعون أن يردوا هذا المورد، ولا أن تحدثهم أنفسهم بالوقوف أمام القرآن الكريم فقد عرفوه، وعرفوا علوّ منزلة، وأنه أبعد من أن تطوله يد إنسان..
وإذن، فهم إذا اتجهوا إلى التحدّى فلن يتجهوا إلى أنفسهم، إذ قد فرغ حسابهم معها من أول لقاء مع القرآن.. وأنه إذا كان سبيل إلى لقاء(6/1113)
هذا التحدّى، فليكن بالبحث عن قوة أخرى غيرهم.. فليبحثوا عنها..
فإن استجابت لهم تلك القوة، أو القوى، فليأتوا بما حصلوا عليه منها، وليلقوا به بين يدى القرآن! - وفى قوله تعالى: «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ» إشارة إلى أن القرآن الكريم نزل محمّلا بعلم الله.. أي يحمل علم الله، وإذا كان هذا شأنه، فكيف تقوم قوة فى هذا الوجود، تتحدّى هذا العلم، وتقف له..
«قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» (88: الإسراء) ويمكن أن يحمل قوله تعالى: «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ» على معنى أنه أنزل عن علم من الله، وأن ما أوحى به جبريل إلى النبي، كان بأمر الله سبحانه وبعلمه.
- وفى قوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» تحريض للمشركين على أن ينتهزوا هذه الفرصة، وأن يستسلموا للقرآن الكريم، وأن يعطوه أيديهم كما يعطى الأسير يده لمن صرعه فى ميدان القتال! قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
البخس: النقص، والخسران فى الميزان أو المكيال، وفى كل ما هو مطلوب أداؤه من حقوق.. حبط ما صنعوا: أي بطل وفسد.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّ المشركين، وقد أعجزهم العجز عن أن يثبتوا فى هذا الامتحان بين يدى القرآن- لم يكن أمامهم إلا أحد طريقين..
فإما أن يستسلموا للقرآن، ويسلموا له، ويؤمنوا به، وبالله الذي أنزله،(6/1114)
وبالرسول الذي أنزل عليه.. وبهذا يدخلون فى عداد المؤمنين، ويعملون عمل المؤمنين للدنيا والآخرة معا..
وإما أن يظلوا على ما هم فيه من شرك وضلال، فيعيشوا لدنياهم، ويعملوا لها، غير ملتفتين إلى ماوراء هذه الدنيا، ولا منتظرين حسابا ولا جزاء.. إنهم إن فعلوا، فلهم ما أرادوا، فليعملوا للدنيا، وليقطفوا من ثمارها ما تغرس أيديهم، فلن يحرمهم الله ثمرة عملهم فيها.. ولن يعجل الله لهم العذاب، ولن يأخذهم بذنوبهم فى هذه الدنيا.. فإذا كان يوم القيامة، وبعثوا من القبور، وسيقوا إلى الحساب والجزاء.. فهنالك يرون سوء مصيرهم، وأنهم قد جاءوا إلى هذا اليوم مفلسين، لأنهم لم يعملوا له عملا.. وإنه «ليس لهم فى الآخرة إلا النار» ..
أما ما عملوه فى الدنيا فهو باطل وقبض الريح، حتى ما كان لهم من أعمال تحسب من الصالحات فى أعمال المؤمنين، هى أعمال باطلة، لأنها لم تستند إلى الإيمان بالله، ولم تعمل لحساب الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» (20: الأحقاف) وفى الإشارة إلى هؤلاء المشركين بقوله تعالى: «أُولئِكَ» مواجهة لهم بهذا الحكم الذي حكم به عليهم، وهو حكم يساقون به إلى النار، فيجدون مسّ لهيبها قبل أن يغمسوا فيها..!(6/1115)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
الآيات: (17- 24) [سورة هود (11) : الآيات 17 الى 24]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
التفسير:
قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .
البيّنة: الحجة، والدليل الموصل إلى ما يتبينه الإنسان من أمور.. فهى من البيان، وهو الظهور، وقد سمّى الرسول بيّنة، لأنه يبين للناس طريق الحق(6/1116)
والخير.. وفى هذا يقول الله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» .
المرية: الشك والارتياب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنّها تعرض صورة لأهل الإيمان، وما فى نفوسهم من استعداد لتقبّله، والاستجابة له، بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة لأهل الزيغ والضلال، ومن فى قلوبهم مرض..
والبيّنة هنا هى الاستبصار الذي يتعرف به الإنسان إلى الحق، مستهديا إليه بعقله، فيتعرف إلى الله، ويؤمن به، ولا دليل معه، سوى عقله، الذي ينظر به فى هذا الوجود، فيطلعه على أن لهذا الكون وللنظام الممسك به، إلها قديرا، عليما حكيما..
وكثير من الناس تعرفوا على الله، وآمنوا به، عن هذا الطريق، طريق النظر الشخصي، المنقطع عن دعوات الأنبياء، وتوجيهات الرسل.. ففى الإنسان فطرة، ومعه عقل من شأنهما أن يهدياه إلى الله، وأن يكشفا له الطريق إليه، لو أنه ظل محتفظا بسلامة فطرته، حارسا عقله من دوافع الهوى، ونزغات الشيطان..
- وفى قوله تعالى: «وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» - ضميران:
الضمير الأول، فى «يتلوه» وهو يعود إلى البيّنة، بمعنى أنها برهان ودليل، أو بمعنى أنها نور من عند الله، يضىء القلوب، وينير البصائر..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» (22: الزمر) ..
ويكون معنى «يتلوه» : أي يجىء بعده، أي بعد هذا النور، أو هذا(6/1117)
البرهان، أو هذا الدليل- يجىء شاهد يؤكّد صدق هذا البرهان، ويدعم هذا الدليل، ويلقى إلى هذا النور نورا.. أما هذا الشاهد، فهو القرآن الكريم، وما فيه من دلائل الإعجاز التي من شأنها أن تفتح القلوب للإيمان بالله..
والضمير الثاني، فى قوله تعالى: «منه» ويعود إلى الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر سبحانه، فى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ..» والشاهد، هو القرآن الكريم، كما قلنا من قبل.
ويكون المعنى على هذا: أيستوى من كان على نور من ربّه، بما أودع الله سبحانه وتعالى، فيه، من فطرة سليمة، فينظر إلى هذا الوجود ببصيرة مبصرة، وقلب سليم، حتى يعرف ربّه، ويؤمن به، مستهديا إلى هذا الإيمان عن طريق التدبّر والنظر.. ثم يزداد معرفة، ويزداد إيمانا واطمئنانا، حين يلتقى برسول الله، ويستمع إلى كلمات الله، فيجد منها شاهدا مبينا يشهد بصدق ما وقع لنظره وما اهتدى إليه بعقله، من التعرف على الله والإيمان به- أيستوى من هذا شأنه ومن ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فلم يهده نظره إلى الإيمان، إذ كان أعمى، ولم يستجب لمن يقوده إليه؟ شتان ما بين النور والظلام، والحق والباطل..
- وفى قوله تعالى: «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً» .
الضمير فى «قبله» يعود إلى الشاهد، وهو القرآن الكريم..
والمعنى أن من قبل هذا القرآن كان كتاب موسى، وكان هذا الكتاب «إماما» ، أي متقدما فى الكتب السماوية «ورحمة» لما حمل إلى الناس من هدى ونور.. فليس هذا الكتاب الذي جاء به محمد من ربّه حدثا لم يقع فى الناس، بل لقد سبقته كتب جاءت من عند الله.. فكيف ينكر هؤلاء الضالّون أن يأتى إنسان بكتاب من عند الله؟ وكيف يقولون هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم، منكرا متوعدا فقال تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا(6/1118)
ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ»
(91: الأنعام) .
فإذا لم يكن فى الكتاب الذي جاء به محمد ما يرون فى وجهه أنه من عند الله- عمى منهم، وكفرا وعنادا- فليكن لهم فى واقع التاريخ ما يمسك بهم عن المكابرة، أن يقولوا ما أنزل الله على بشر من شىء.. فذلك إنكار لواقع محسوس، حيث هؤلاء الرسل الذين ذكرهم التاريخ، وحيث هذه الكتب السماوية التي يدين بها ألوف البشر.. وهذه التوراة.. كتاب موسى، وهؤلاء هم اليهود الذين يدينون بها.. فكيف يسمح لعاقل عقله أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شىء..؟
- فى قوله تعالى: «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» ..
الإشارة هنا بأولئك، موجهة إلى المذكورين فى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» .. وقد استخدم القرآن الكريم، الاسم الموصول «من» بلفظه أولا، فأفرد العائد إليه، ثم استخدمه بمعناه ثانيا، فجمع العائد إليه..
وفى الإفراد، والجمع، إعجاز من إعجاز القرآن..
ذلك أن الإيمان بالله، عن طريق الاستدلال العقلي، وعن النظر فى ملكوت السموات والأرض، ثم عن الاستماع إلى آيات الله، وتفهم ما فيها من حق وخير- هذا الإيمان لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان عن معاناة ذاتية، ونظر شخصى.. بحيث يرى الإنسان مواقع الهدى بنفسه، ويتبيّن وجه الحقّ بعقله.. وهنا يفتح قلبه للإيمان، وينزله منزلا مطمئنّا فيه، لأن إيمانه حينئذ قد جاء إليه عن طريق نظره، وإدراكه، واستدلاله، لا عن تلقين، أو محاكاة..(6/1119)
هذا هو الموقف الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان فى طريق التعرف على الله والإيمان به.. إنه يبدو وكأنه يقف وحده، لا ينظر إلى غيره مقلدا، أو متابعا..
ولكنّ الواقع أن أعدادا كثيرة من الناس تقف مثل هذا الموقف، تتهدّى إلى الله بنظرها، وتتعرف إليه بعقلها، وتؤمن به بقلبها.. فهم إذ جاءوا إلى الإيمان، جاء إليه كل واحد منهم باستعداده الخاص، وبتقديره الذاتي الشخصي.. ثم هم إذا دخلوا فى الإيمان كانوا أعدادا كثيرة.. «أولئك يؤمنون به» .. أي أولئك الذين هم على بينة من ربهم، يؤمنون بهذا القرآن، لأنه يلتقى مع نظرتهم السليمة التي نظروا بها فى ملكوت السموات والأرض.. فهم- والأمر كذلك- أفراد حين ينظرون فى ملكوت السموات والأرض، وفى دلائل الإيمان ودعوات الهدى.. وهم جماعات كثيرة، حين يدخلون فى دين الله، ويصبحون فى المؤمنين.. «أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة.. أولئك يؤمنون به» ..
فهو- أي المؤمن- وحده، حين يتلقى الإيمان، ويتقبله.. ثم هو واحد فى جماعات كثيرة تلقت الإيمان وتقبلته!! وفى قوله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» هو تهديد لأولئك الذين يقفون من القرآن الكريم موقف المستهزئين المكذبين.. فالنّار موعدهم التي يلتقون عندها بعد أن يقطعوا مرحلة عمرهم، وهم يتخبطون فى هذا الضلال والظلام..
والأحزاب، جمع حزب، وهم طوائف الضالين، من كل بيت، ومن(6/1120)
كل قبيلة، إذ ألّف بينهم الضلال، فجمع أحزابهم التي تحزبت، واجتمعت على الوقوف فى وجه الدعوة التي يدعو إليها رسول الله..
- وفى قوله تعالى: «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ.. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» ..
تثبيت للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وشدّ لأزره، وربط على قلبه، وهو فى مواجهة هذه الموجات العاتية الصاخبة، من الضلال..
وليس النبىّ بالذي يرتاب أو يشكّ فيما بين يديه من آيات ربه، ولكن الذي يحتاج إليه وهو فى هذه المعركة، هو أن يمدّ من ربه بما يزيده يقينا، وثباتا.. ولهذا جاء بعد ذلك، قوله تعالى: «إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» والنبىّ على يقين من الكتاب الذي معه، وبأنه الحق من ربه، ولكن المعركة المحتدمة بينه وبين تلك القوى العاتية تحتاج إلى أمداد سماوية يمده بها الله، فتكون أشبه بجنود السماء فى معركة بدر، التي أمده الله بها، وجعلها بشرى له وللمؤمنين، واطمئنانا لقلبه وقلب المقاتلين: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» (10: الأنفال) .. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» مشيرا إلى كثافة هذا الظلام المنعقد من الكفر والضلال حول دائرة النور والإيمان! ..
فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- محتاج فى هذا الموقف إلى أمداد من ربه، تثبت فؤاده، وتربط على قلبه، حتى يصمد فى هذه المعركة المحتدمة، ويصبر على ما يساق إليه من مكاره..
قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى(6/1121)
رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ.. أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ»
..
الأشهاد: جمع شاهد، أو شهيد، مثل صاحب وأصحاب، ومثل شريف وأشراف..
والمراد بهم هنا، الأنبياء، الذين يشهدون على أقوامهم..
والاستفهام هنا مراد به النفي.. وقد جاء فى صيغة الاستفهام، ليكون أبلغ فى تقرير النفي، ذلك أن هذا الاستفهام يستدعى جوابا، الأمر الذي يلفت السامعين إلى البحث عن هذا الجواب، وتفرس وجوه الظالمين جميعا، وتقليب أحوالهم، لتقع العين على من هم أظلم ممن افترى على الله الكذب..
ثم إذا دارت العين فى كل مدار، وتطلعت فى كل أفق، ثم لم تجد أحدا أظلم من هؤلاء الظالمين الذين افتروا على الله الكذب- كان الجواب بالنفي:
لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب!! وحين يتقرر ذلك، يجىء التعقيب على السؤال وجوابه.. «أولئك يعرضون على ربّهم» أي هؤلاء الذين تقرر أنهم أظلم الظالمين، لأنهم افتروا على الله الكذب «أولئك يعرضون على ربّهم» وقد أشير إليهم بأداة الإشارة «أولئك» بعد أن تحددت صفتهم، وعرفت وجوههم، ليكونوا بمعزل عن المجتمع الإنسانىّ كلّه، وحتى لا يصيب أحدا شىء من هذا البلاء الذي يحلّ بهم! فالإشارة إليهم، إلفات إلى ذواتهم، حتى يبتعد الناس عنهم، ويحذروا الدنوّ منهم، لئلا يؤخذوا معهم، ويساقوا مساقهم.
والعرض على الله، هو عرض شامل للناس جميعا.. ولكنّ إفراد هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، بالعرض، وحدهم.. يشير إلى أنّهم سيعرضون عرضا خاصا، فى ذلك المكان الذي عزلوا فيه عن الناس جميعا..(6/1122)
- «وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ» .. الأشهاد، هم الرسل، الذين يحضرون عرض هؤلاء المفترين، على ربّهم. ويشهدون عليهم بما كان منهم، من تكذيب بالله، وافتراء عليه، بما كانوا ينسبون إليه سبحانه من صاحبة وولد.. فكل نبى شهيد على من بعث فيهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» (89: النحل) .
ويقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) .
وشهادة الرسل على هؤلاء المفترين على الله، هى شهادة تخزى هؤلاء المكذبين المفترين، وتبهتهم، وتدينهم بين يدى الله، وتقيم أسباب الحكم عليهم بالعذاب الأليم.. وفى هذا مضاعفة لآلامهم، حتى لكأن هذه الشهادات قيود وأغلال تمسك بهم أن يفلتوا من العذاب.
وفى إشارة الرسل إليهم بقولهم: «أُولئِكَ» تأكيد لذوات هؤلاء المجرمين، وإحكام للدائرة المطبقة عليهم، فلا يفلت منهم أحد، ولا يدحل عليهم من ليس منهم.. فهم وحدهم فى هذا المكان المنعزل، وفى ذلك المنزل السوء..
- «ألا لعنة الله على الظالمين» .. قد يكون هذا تعقيبا من الرسل بعد أن أدّوا الشهادة على هؤلاء الظالمين من أقوامهم، الذين كذبوهم، وآذوهم.. أو قد يكون تعقيبا من النّظّارة جميعا، من الخلائق التي شهدت هذا العرض، من الناس والملائكة..
وفى وصفهم «بالظالمين» ، بدلا من «الكاذبين» الذي يقتضيه سياق النظم، إشارة إلى أنهم لم يكونوا كاذبين وحسب، بل كانوا متجاوزين الحدود(6/1123)
فى الكذب، مبالغين فيه، غير مقتصدين، أو واقفين به عند حدّ.. لقد كذبوا على الله، وكذبوا على أنفسهم، وكذبوا على الناس، وقلبوا وجوه الحقائق قلبا منكرا، فكانوا بهذا كاذبين وظالمين معا.
قوله: «الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» - هو بيان شارح لظلم هؤلاء الظالمين، وافتراء هؤلاء المفترين.. إنهم يصدّون عن سبيل الله.. يصدّون أنفسهم عن الإيمان، ويصدّون غيرهم عن أن يؤمنوا، ويقعدون لهم بكل سبيل، وإنهم ليريدون أن تكون سبيل الله معوجّة، بما يدخلون على الحق من ضلال، وبما يفترون عليه من كذب..
وإنهم آخر الأمر ليكفرون بالله وباليوم الآخر.. وتلك هى حصيلتهم التي حصلوها فى الدنيا، وجاءوا يحملونها على ظهورهم فى الآخرة.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ.. يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ.. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ.. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .
أي إن هؤلاء الظالمين، الذين بلغ ظلمهم ما بلغ من الشناعة والفحش، والذين كان تعجيل العذاب لهم، يأخذهم بظلمهم فى الدنيا، أمرا تستدعيه الحال- هؤلاء لم يعجّل الله لهم العذاب فى الدنيا، لا لأن قوة تعصمهم من الله، أو تردّ عنهم بأسه- تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. فما كانوا «معجزين فى الأرض» أي ما كانوا ليعجزوا لله عن أن يأخذهم بالبلاء والهلاك، كما أخذ الظالمين من قبلهم، وما كان لهم من أولياء يدفعون بأس الله عنهم، ولكنه سبحانه أخّرهم إلى يوم القيامة، حيث أن عقاب الدنيا، لا يستوفى منهم ما هم أهل له من بلاء ونكال.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ(6/1124)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ»
(42- 43: إبراهيم) - وفى قوله تعالى: «يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» إشارة إلى عذاب الآخرة الذي سيلقونه، وأنه أضعاف مضاعفة لعذاب الدنيا الذي حلّ بالظالمين قبلهم، وأنهم إذا كانوا قد أفلتوا فى الدنيا من عذاب الله، فإنه سيضاف إلى عذابهم فى الآخرة، ويضاعف لهم العذاب.
- وفى قوله تعالى: «ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ» تعليل لما هم فيه فى هذا اليوم من بلاء عظيم، إذ أنهم فى دنياهم قد عطلّوا حواسّهم، فلم ينتفعوا بها فى الاستماع إلى آيات الله، أو فى النظر إلى ملكوت السموات والأرض، وما يتجلّى فيه من آيات الخلاق المبدع العظيم! - وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ»
تعقيب على تلك المحاكمة التي أدين فيها هؤلاء الظالمون..
إنهم قد خسروا أنفسهم، وأوردوها هذا المورد الوبيل. أمّا ما كان بين أيديهم من مفتريات وأباطيل، فقد صفرت أيديهم منه، ولم يبق لهم إلا ما أعقب من الحسرة والندامة! قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» لا جرم: أي لا شكّ ولا ريب..
والمعنى أنه لا جدال، ولا شكّ فى نظر أي عاقل ينظر فى أحوال هؤلاء الظالمين، وما جنوا على أنفسهم- أنهم هم أخسر الناس صفقة، إذ اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
فكما أنهم كانوا بفعلهم المنكر أظلم الظالمين، كذلك هم يوم توفّى كلّ نفس ما كسبت، وينال كل عامل جزاء ما عمل- هم أخسر الخاسرين فى(6/1125)
هذا اليوم، يوم الجزاء.
قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» أخبتوا إلى ربهم: الإخبات: الولاء والخضوع، وأرض خبيت أي مطمئنة مستوية..
والمعنى أنه إذا كانت النار مثوى الظالمين، فإن الجنة هى دار المتقين، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأسلموا أنفسهم لله، وأخلصوا له الولاء والطاعة، واستقبلوا آيات الله فى غير عناد واستكبار، ونظروا إليها بغير استعلاء وازدراء، فعرفوا أنها الحقّ، فاتبعوه.
وفى المقابلة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر..
فهناك شقاء، وبلاء، ونكال، وهنا نعيم، ورحمة، ورضوان.. ولكلّ منزلة أهلها، والعمل هو الذي يضع كل إنسان موضعه.
قوله تعالى: «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ» هو عرض للفريقين معا- الذين كفروا، والذين آمنوا.. أصحاب النار، وأصحاب الجنة- فى هذه الصورة الحسيّة، التي يراها الناس رأى العين، والتي تمثل حال كلّ منهما فى وضوح وجلاء..
فالذين كفروا يرون صورتهم على صفحة مرآة، لا تتحرك عليها إلا أشباح آدميين، معطوبين، مصابين بآفات العمى والصمم..
وإن الذي ينظر فى هذه الأشباح المتحركة على تلك الصفحة، يرى عالما يضرب فى نيه وضلال، ويتخبط فى ظلام وضباب.!(6/1126)
فالأعمى.. إذا دعا لا يجد لدعائه من يسمع ويستجيب! .. وهو لا يملك غير الدعاء..
والأصمّ.. إذا أشار، لا يجد من يبصر إشارته، ويترجم مضمونها..
وهو لا يملك غير الإشارة.. فهذا هو عالم الضّالين والكافرين.. هم بين أعمى، لا يجد من الصمّ الذين بين يديه، من يستمع له.. وبين أصمّ، لا يجد من العمى الذين معه من يستجيب لإشارته.. فكل منهم ضالّ يحتاج إلى من يهديه، ويسدّ النقص الذي فيه، فكيف إذا كانوا كلّهم عميا وصمّا؟
أما الذين آمنوا.. فهم عالم نابض بالحياة، مستكمل كل أسباب الوجود الكريم.. فهم بين سامع ومبصر، وسميع وبصير.. ليس فى عالمهم مئوف فى حاسّتيه هاتين.. وإنما هم متفاوتون فى درجات السّمع والبصر.. فإذا كان فيهم السامع، فإن فيهم من هو أرهف سمعا، وهو «السميع» ، وإذا كان فيهم من هو مبصر، فإن فيهم من هو أحد بصرا وهو «البصير» ..
وبهذا يكمّل بعضهم بعضا، ويصبحون آخر الأمر جهازا سليما كاملا، للمسموعات، والمبصرات جميعا.. يلتفطون كل مسموع، ويتبادلون المعرفة فيما سمعوا، ويكشفون كل منظور، ويتعاطون العلم لكل ما أبصروا واستبصروا! - وفى قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» استفهام يراد به تقرير النفي..
أي لا يستوى الفريقان أبدا.
«ومثلا» : تمييز.. أي هل يستوى هذان الفريقان من جهة المماثلة بينهما، والموازنة بين قدريهما؟
- وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» تحريض لذوى الألباب أن يقفوا عند(6/1127)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
هذا المثل، وأن ينظروا إلى ما فيه من عبرة واعتبار! .. فعلى ضوء هذا المثل ينكشف الفرق بين المؤمنين والكافرين!
الآيات: (25- 31) [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» ..
مناسبة هذه القصّة، لما قبلها أنها تعرض من الماضي صورة للصراع بين(6/1128)
الحق والباطل، وبين المحقّين والمبطلين، بعد أن عرضت الآيات السابقة موقفا قائما بين النبىّ وقومه، وما يدعوهم إليه من هدى وخير، وما يلقونه به من صدّ وتكذيب! وفى ذكر أخبار الأولين، وما فى تلك الأخبار من مواقف مشابهة للأحداث الجارية التي يعيش فيها الناس يومهم هذا، تذكير لهم بتلك الحقيقة التي تقررت بحكم الواقع، وهى أن النصر دائما للمؤمنين، وأن الخزي والهوان دائما على المكذبين الكافرين..
وقصة نوح وقومه، هى أولى الأحداث الإنسانية، التي اصطدم فيها رسول من رسل الله بقومه.. ثم تجىء بعد هذا قصص مشابهة لها، يجىء بها القرآن مرتبة ترتيبا زمنيا، حسب وقوعها.. قصة «عاد» ونبيّهم «هود» وقصة «ثمود» ونبيّهم «صالح» .. وهكذا.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وعيسى.
فهذا نوح- عليه السلام- يلقى قومه برسالة ربه، منذرا إياهم بالعذاب الأليم، إن هم لم يستجيبوا له، ويؤمنوا بالله رب العالمين.. ومبشرا لهم بالجنة والرضوان إن هم آمنوا بالله، وأخلصوا دينه له.. «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» وهذا أول صوت نسمعه من نوح، يؤذّن به فى قومه، فى هذه القصة..
ولا شك أن هناك أحداثا كثيرة، طواها النظم القرآنى، ولم يذكرها، إذ هى مما يفهم بداهة.. كمجىء نوح إلى قومه، ودعوته لهم، وشرحه لرسالته فيهم.. ومن قبل ذلك، كان إعلام الله سبحانه وتعالى إيّاه باختياره للنبوة، واصطفائه بالرسالة، ثم تلقيه مضمون هذه الرسالة.. وهكذا..
وفى قول نوح لقومه: «إنى لكم نذير مبين. ألّا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم» هو تلخيص لمضمون رسالته، وضبط لمحتواها.. فهو نذير بليغ، يحذرهم عذاب الآخرة..(6/1129)
- والضمير فى قوله تعالى: «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى.. وهو- جلّ شأنه- وإن يكن لم يجر ذكره فى اللفظ، فهو مذكور على كل حال، وفى كل زمان، ومكان، وفى هذا إشارة إلى أن ما فيه الضالون من غفلة عن الله، وشرود عن ذكره، هو أمر خارج عن مقتضى الطبيعة الإنسانية السليمة الرشيدة..
قوله تعالى: «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» .
هذا هو الجواب الذي استقبله نوح من قومه، ردّا على دعوته إياهم، إلى الإيمان بالله..
«ما نراك إلا بشرا مثلنا» .. فهذا هو ما رابهم من أمر نوح ومن دعوته..
إنه بشر مثلهم.. وليس لبشر- كما قدّروا ضلالا وجهلا- أن يكون أهلا للسفارة بين الله والناس! وقد كان الأولى بهم أن ينظروا أولا فى وجه الدعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، قبل أن ينظروا فى وجه هذا الرسول.. فإذا كانت دعوة فيها خيرهم ورشدهم، كان من الحكمة والرأى، أن يقبلوها، ولا ينظروا فيما وراءها..
وإلا كان لهم أن يقفوا منها الموقف الذي يدلّهم عليه العقل والرأى..
- وقوله تعالى: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» هو إشارة إلى مدخل من مداخل الريب والشك عندهم، فى أمر نوح وفى دعوته، وهو أن الذين استجابوا لنوح، هم من ضعفة القوم والمرذولين فيهم، والرّذل من كل شىء هو الخسيس منه..(6/1130)
فالذين استجابوا لدعوة نوح، كانوا من الذين لم تقم لهم فى مجتمعهم رياسة، أو تقع لأيديهم سلطة، يخشون عليها من هذا الطارق الجديد، الذي يطرقهم بتلك الدعوة، التي يخشى منها أرباب الجاه والسلطان، أن تكون سببا فى تغيّر الأحوال التي اطمأنوا إليها، وشدّوا أيديهم عليها..
وهكذا، يكون الموقف دائما فى مواجهة كل جديد، يطلع على الناس..
فأصحاب الجاه والسيادة والسلطان، يتصدّون له، ويقفون فى وجهه، لأنه غالبا لا يطلع عليهم إلا بما يبدّل من أحوالهم، ويغيّر من أوضاعهم.. أما من لا سلطان لهم ولا جاه، فإنهم يستقبلون الجديد، وينظرون فيه نظرا غير محجوز بهذه الحواجز التي يقيمها المال والجاه والسلطان، بين أهله وبين كل جديد..
- وفى قولهم: «بادِيَ الرَّأْيِ» إشارة إلى أن الذين انبعوا نوحا هم- فى نظر أصحاب السيادة والسلطان- من أراذل القوم، الذين لا يخفى أمرهم على أحد، ولا يحتاج التعرف عليهم إلى بحث ونظر، بل إن النظرة الأولى تحدّث عنهم، وتمسك بهم! فلا خلاف بين القوم على منزلتهم الاجتماعية فيهم، وأنهم بحكم فقرهم وضعفهم، موضوعون فى أدنى درجات السّلّم الاجتماعى! هكذا ينظر إليهم القوم، وهكذا يحكمون عليهم..
- وفى قوله تعالى: «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» تأكيد للرأى الذي رآه القوم فى نوح وفيمن اتبعه، وأنه لا فضل لنوح والذين معه على القوم، فكيف يدعونهم إلى متابعتهم، والتابع من شأنه أن يكون دون المتبوع ووراءه.. فهل يعقل- والأمر كذلك- أن يكون نوح ومن معه متبوعين، ويكون القوم أتباعا لهم؟
ثم لا يكتفى القوم بهذا، بل يرمون نوحا ومن اتبعه بالكذب والبهتان(6/1131)
على الله.. والظن هنا يقين.. بدأ عند القوم ظنّا، ثم استحال مع الجدل والعناد، يقينا..
قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.. أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» .
البيّنة: الحجة والبرهان والدليل، الذي به يتبين الإنسان موقفه من الأمر الذي معه..
والرحمة: النعمة التي أنعم الله بها عليه، وهى التعرف على الله، والإيمان به..
عمّيت عليكم: أي خفى عليكم أمرها، وعميت أبصاركم عنها..
أنلزمكموها: أصلها أنلزمكم إياها.. والإلزام بالأمر: الحمل عليه بالقهر والقوة..
و «ها» فى قوله تعالى: «أنلزمكموها» ضمير بعود إلى الرحمة، وهى الإيمان بالله.
وفى هذا الردّ الذي ردّ به نوح على قومه إشارة إلى أن المعتقد الديني لا يكون عن قهر وإكراه، وإنما هو أمر لا يتمّ إلا عن اقتناع، وقبول، ورضا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
وقد أشرنا من قبل إلى معنى البينة عند تفسير قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» (الآية 17 من هذه السورة) وقلنا إن البينة هى الفطرة السليمة المركوزة فى كيان الإنسان، والتي يجد منها صاحبها الدليل الذي يدلّه على الله سبحانه وتعالى، من غير أن يرد عليه وارد من الخارج، يدلّه على الله.. فإذا جاء هذا الوارد، كان رحمة وفضلا من الله سبحانه، إلى ما أودع الله فى الإنسان من فطرة سليمة.، وعقل مدرك مبصر.(6/1132)
قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» .
ومن حجّة نوح على قومه، أنه إذ يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه، وإذ يحتمل فى سبيل ذلك ما يحتمل من جهد وبلاء- أنه لا يسألهم أجرا على هذا العمل، الذي يحتمل من أجله ما يحتمل من عناء، وإنما هو حسبة لله.. ولو أن نوحا كان يبغى بما يدعوهم إليه أجرا منهم، أو نفعا ذاتيا له، لكان لهم أن يظنّوا به الظنون، وأن يرتابوا فى أمره، وفى هذا الإلحاح الّذى يلحّ به عليهم، رغم ما يجبهونه من تكذيب، وما يرمونه به من ضرّ..
وإذ كان الأمر كذلك، فإنه مقيم على دعوته، ممسك بمن استجاب له من قومه، وإن كانوا كما يقولون فيهم، إنهم أراذلهم! .. ذلك أن القوم جميعا مدعوون إلى الله، ولا يأخذ الداعي أجرا من المدعوّين، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء.. أصحاب جاه وسلطان، أم مجردين من كل جاه وسلطان..
فالباب مفتوح، لكل من يريد الدخول إلى ساحة الله، ومن دخلها مستجيبا لدعوة الله، فإنه من غير المقبول أو المعقول أن يطرد بعد أن أجاب.. فهؤلاء الذين آمنوا هم فى طريقهم إلى الله، ولن يطردهم ويردّهم من دعاهم إليه..
ولكنّ القوم فى جهل وضلال، لا يرون حتى هذه البديهيّات من الأمور.
قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ.. أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .
أي إن الجماعة الذين آمنوا قد أصبحوا فى ضيافة الله، فكيف أعتدى على ضيوف الله؟ وكيف أطردهم من ساحته وقد تحصّنوا به، ونزلوا فى حماه؟(6/1133)
أفلا يحمى الله- سبحانه وتعالى- ضيوفه؟ أفلا يأخذ على يد من يعتدى على من كان فى ضيافته، ومن احتمى فى حماه؟ إن ذلك ما لا بد أن يكون.. فلله سبحانه وتعالى غيرة على حرماته أن تنتهك.. فهل إذا انتهك نوح حرمة الله، وطرد المتحرمين بهذه الحرمة، ثم أخذه الله ببأسه.. أفي القوم من ينصر نوحا ويدفع عنه بأس الله إن جاءه؟ .. ذلك محال..
وإذن فلن يطرد نوح من آمن بالله، ولن يخلى مكانهم لهؤلاء السادة الذين يأبون أن يكونوا هم وهؤلاء «الأرذلون» على مائدة واحدة، ولو كانت مائدة الله، الممدودة لعباد الله!! قوله تعالى: «وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ.. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» .
إنه ليس بين يدى نوح ما يقدّمه لهؤلاء القوم، الذين يقدّرون خطواتهم التي يخطونها نحو أمر من الأمور، بقدر ما يمكّن لهم هذا الأمر من سلطان، وما يكثّر فى أيديهم من أموال..
إنه ليس معه شىء يغريهم به، ويشدّهم إليه نحو هذه الدعوة التي يدعوهم إليها..
إنّه ليس عنده خزائن الله، حتى يملأ أيديهم منها.. فذلك إلى الله وحده..
وإنه لا يعلم الغيب، حتى يكشف لهم عن مسالك الطرق التي يأخذونها إلى غايات النجاح والفلاح، وإنه ليس ملكا من السماء، يملك من القوى ما لا يملكون.. إنه بشر مثلهم!!(6/1134)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
وإنه ليس له أن يحكم فى أمر هؤلاء الذين يحقرونهم، ويزدرونهم ويرون أنهم ليسوا أهلا لأن يلبسوا فضلا، أو يسبقوا إلى خير.. الله أعلم بما فى أنفسهم، وما استكنّ فى قلوبهم، من إيمان أو نفاق.. فإن الحكم عليهم من جهة نوح بما استكنّ فى سرائرهم، هو ظلم، لأنه حكم بغير بينة، إذ لا يعلم ما فى السرائر إلا الله..
فهذا هو نوح، الذي يدعوهم إلى الله.. إنه بشر مثلهم، وإنه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا.. فإن قبلوه على ما هو عليه، وآمنوا بالله، فذلك من حظّهم..
وإن أبوا عليه، وخالفوه.. فلهم ما شاءوا.. «أنلزمكموها وأنتم لها كارهون» إنه لا إكراه فى الدين..!
الآيات: (32- 35) [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
التفسير: قوله تعالى: «قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. إنه بهذا اللقاء الذي يفيض بالجفاء، والضجر- يلتقى القوم بنوح، فيلقون إليه بهذه الكلمات المتهجّمة المتوعدة:(6/1135)
«يا نوح: قد جادلتنا فأكثرت جدالنا» .. وإنه لجدل عقيم، قد تصدّعت له الرءوس.. فأعفنا من جدلك هذا، وهيّا ائتنا بما تعدنا من العذاب، إن كنت من الصادقين!! هكذا منطق السفهاء والحمقى، مع دعاة الخير، وقادة الناس إلى الهدى والرشاد! تطاول، وسفاهة، وسخرية، واستهزاء.. ثم تحدّ وقاح لما أنذروا به من عذاب الله.. إنهم ينكرون أن يكون نوح على صلة بالله، ويرون ما أنذرهم به ليس إلا من مفترياته على الله.. فليأت بهذا العذاب إن كان من الصادقين.
وفى لطف ووداعة ولين، وتواضع، يلقى هذا التحدي.. فيقول ما حكاه القرآن عنه، فى قوله تعالى:
: «قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» .
فذلك ليس أمره إلى يدى، وإنما أمره إلى الله، ينزله بكم حيث شاء علمه، وقضت إرادته.. ولستم بالذين يعجزون الله، أو يجدون مهربا من وجه العذاب الذي يأخذكم به، حين يشاء!: «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
وليس لى كذلك أمر هدايتكم وإرشادكم، والانتقال بكم من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان.. فذلك أمره إلى الله وحده.. فإن كان الله سبحانه وتعالى قد أراد بكم ألّا تبصروا من عمى، وألا تهتدوا من ضلال، فذلك شأنه فيكم، وحكمه عليكم، وأنتم مربوبون له، وهو ربكم، وإليه مرجعكم.. إن شاء عذّبكم، وإن شاء عفا عنكم..(6/1136)
وفى قصر الحديث معهم على الإغواء، وهو الإضلال، دون الحديث عن الهداية والإرشاد إلى الإيمان- إشارة إلى أنّهم لن يكونوا إلا هكذا، وأن الله سبحانه وتعالى، قد أخبر أنهم لن يؤمنوا، كما قال تعالى بعد ذلك: «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» ..
- وفى قوله: «إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ» مع أنه ينصح لهم فعلا، إشارة لى أنه لو أراد معاودة النصح، ومراجعتهم فى موقفهم، بعد أن قطعوا عليه لطريق بقولهم: «يا نوح.. قد جادلتنا فأكثرت جدالنا» - إنه إن أراد أن يجدّد النصح ويعاوده، فلن ينفعهم ذلك، إن كان الله قد أراد لهم الضلال وكتب عليهم الكفر.
قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» - هو حديث إلى المشركين من قريش وأحزابهم، وفضح لما يدور فى خواطرهم، ويتردد فى صدورهم، ويتحرك على شفاههم من اتهام للنبىّ بأنه افترى هذا الحديث الذي تحدّث به عن نوح وقومه، أو أنه افترى هذا القرآن الذي يحدثهم به، وأنه ليس وحيا من عند الله، كما يقول..
وقد ردّ الله عليهم بقوله للنبىّ: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» أي إن يكن ما جئت به هو اختلاق وكذب، فهو جريمة منكرة، وإثم غليظ.. ولكن تبعة هذا الجرم علىّ وحدي، إن يكن ما جئت به مفترى على الله.. وليس عليكم منه شىء، وإنما عليكم تبعة هذا الجرم الذي أنتم فيه، وهو الكفر بالله.. وأنا برىء مما أجرمتم، وممّا يصيبكم منه من عذاب عظيم.
وقد جاءت هذه الآية فى ثنايا قصة «نوح» ليلتفت إليها المشركون، وكأنّها قصتهم.. ثم لينتبهوا إلى ما سيجيئ بعدها.. من أخذ الله سبحانه وتعالى للظالمين والمكذبين.(6/1137)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
الآيات: (36- 39) [سورة هود (11) : الآيات 36 الى 39]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
التفسير:
: «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» .
هذا عزاء وتسرية عن نوح.. من ربّه، بعد أن جابهه قومه بالقطيعة والتحدّى، بقولهم: «قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. فقد لبث فيهم نوح.. كما يحدّث القرآن الكريم.. ألف سنة إلّا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله، فما استقاموا له، ولا لانت قلوبهم القاسية! «فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» .. والابتئاس: الحزن، والألم، أي لا تحزن ولا تتألم، لما يلقونك به من بهت وتكذيب، فقد عاقبهم الله أشدّ عقاب، وهو أنه أمسك بهم على الكفر، وحجزهم عن أن يكونوا من المهتدين المؤمنين! «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» .. وهذا عقاب آخر معجّل لهم فى الدنيا.. «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» .
وقوله تعالى: «بِأَعْيُنِنا» أي تحت رعايتنا وعنايتنا، وبتوفيقنا وتوجيهنا..(6/1138)
وقوله تعالى: «وَوَحْيِنا» أي بإرشادنا لك، بما نوحيه إليك من أمر السفينة، وكيف تصنعها، وعلى أي وجه وصورة تقيمها..
- وفى قوله تعالى: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» .. إشارة إلى شدّة نقمة الله على هؤلاء المكذبين الضّالين، واستبعاد لكل شفيع يشفع لهم، كما فى قوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» (11- المزمل) وقوله سبحانه: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» (11: المدثر) .
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» حكم قاطع لا مردّ له..
: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» .
امتثل نوح أمر ربّه، وأخذ بصنع السفينة كما أمره الله، وكما أرشده ووجهه.. وكان كلّما مرّ عليه «ملأ» أي جماعة من قومه وهو يعمل فى السفينة، هزئوا منه وأسمعوه ما يؤذيه من قوارص الكلم، وقالوا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ» (9: القمر) .. ولكنّ نوحا يعلم ماوراء هذا الأمر الذي هو قائم عليه.. إنه النجاة له، والهلاك للقوم الظالمين.. فهم إن سخروا منه اليوم، فإنه سيسخر منهم عدا، حين ينكشف لهم الأمر. ويحلّ بهم البلاء. «إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ» .(6/1139)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
الآيات: (40- 44) [سورة هود (11) : الآيات 40 الى 44]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
التفسير:
قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا» هو غاية لقوله تعالى: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ» أي وظل نوح يصنع الفلك، وينتظر أمر ربه فيما صنع، حتى جاءه أمر الله، وقد فار التنور حين اتصل الماء النابع من الأرض بالنار الموقدة فى التنور.. والتنور: هو مستوقد النار.
«قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» هذه هى شحنة السفينة التي صنعها نوح..
قد أركب فيها من كل صنف من أصناف الحيوان زوجين، ذكرا وأنثى..
ثم أهله، إلّا من سبق عليه قضاء الله منهم، فلم يستجب له، ولم يؤمن بالله..
ثم من آمن من قومه: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» «وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .
فباسم الله تجرى على هذا الماء، وباسم الله تستقر على اليابسة، بعد أن يأذن الله للماء أن يغيض، وللأرض أن تستقبل السفينة. فالله سبحانه هو المسيّر لها، وهو(6/1140)
الممسك بها. «إن ربى لغفور» يتجاوز عن سيئات من يبسط له يده بالتوبة «رحيم» لا يؤاخذ الناس بظلم الظالمين منهم: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (45: فاطر) .
قوله تعالى: «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» .
وهكذا يفرّق الضلال بين الابن وأبيه.. حتى ليأبى الولد وهو بين يدى هذا البلاء المحيط به، أن يستجيب لأبيه، وأن يستمع له.. فيخرج عن أمره، وهو يدعوه إلى ما فيه سلامته ونجاته.. وهكذا يوفّى كلّ من الأب والابن جزاء ما كسب.. فينجو الأب بإيمانه، ويهلك الابن الكافر بكفره..
قوله تعالى: «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
لقد دارت السفينة دورتها، وبلغت المدى المقدور لها، وأذن الله سبحانه وتعالى لها أن تستقر على اليابسة..
- «وقيل يا أرض ابلعي ماءك» .. والقائل هو الله سبحانه وتعالى، وعدم ذكره، إشارة إلى أن المقام يحدّث عنه، والحال ينطق به.. إذ لا يسمع الأرض غيره، ولا يأمر السماء فتمتثل أمره، سواه! وإقلاع السماء: هنا، أن تكفّ عن إنزال الماء المتدفق من أبوابها، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ» ..
والجودىّ: قيل هو جبل بالموصل، وقيل هو كل أرض صلبة مستوية..(6/1141)
- قوله تعالى: «وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .. القائل هنا يمكن أن يكون الله سبحانه وتعالى، أو أن يكون نوح ومن كان معه فى السفينة، ويجوز أن يكون قول كل إنسان يعلم من أمر القوم ما كان منهم من ضلال، وعناد! وهنا أمور نحب أن نقف عندها:
أولا: قد تحدّث المفسّرون أحاديث كثيرة عن السفينة، وأوصافها، وطولها، وعرضها.. وهذا ما لم يحدّث به القرآن، تصريحا أو تلميحا.. فلنحترم صمت القرآن، ويكفى أن نعلم أنها سفينة حملت ما أمر الله نوحا أن يحمله فيها، من أناس وأنعام.
وثانيا: صنوف الحيوان التي حملتها السفينة.. فقد جلب إليها المفسّرون كلّ شارد ووارد من حيوان الأرض.. من دوابّ، وأنعام، وطيور، وزواحف.. مما لا يمكن أن يرى فى أكبر حدائق الحيوان فى العالم..
وهذا أمر غير متصوّر.. اللهم إلا أن تكون السفينة كوكبا آخر، غير الكوكب الأرضى.. نقل إليه ما على ظهر الأرض من أحياء! والذي يعقل، هو أن يكون نوح قد حمل معه بعض الحيوانات الأليفة، التي ينتفع بها الإنسان، مما يركب، أو يحمل عليه، أو يؤكل لحمه ويشرب لبنه، مما لا يتجاوز بعض ما يقتنيه الإنسان ويربيه، مقتصرا منه على ذكر وأنثى، من كل نوع، حتى تتوالد، وتكثر، وتستبقى نسلها، شأنه فى هذا شأن أسرة تعتزل ناحية من الحياة، فتأخذ معها كل ما يصلح لحياتها فى الموطن الجديد المنعزل..
أما أن يحمل نوح فى سفينته كل حىّ، من الأسود والنمور والذئاب والضباع، والثعلبين والحيات، والفئران والعقارب، وغير هذا مما تحمل الأرض- فهذا(6/1142)
ما لا يتصور أن تحمله سفينة، كما أنه ضرب من العبث، بل وإنه لمن الضلال والضياع أن يصحب الإنسان هذه الحيوانات المهلكة..
وثالثا: ما وصف به الماء الذي كانت تجرى عليه السفينة- وأنها تجرى فى موج كالجبال- هذا الوصف قد أثار عند المحدّثين تساؤلات كثيرة- خاصة عند من ينكرون أن الطوفان كان عامّا شمل الأرض كلها- فيقول قائلهم: وأين هى الأمواج التي تكون كالجبال؟ ثم ما داعيتها إذا كان المراد هو إغراق جماعة ضلّت طريقها إلى الله؟ ألا يكفى أن يكون سيلا جارفا ينزل بهم، ويقضى عليهم؟
والجواب: أن تشبيه الأمواج بالجبال لا يعنى أن تكون مثل الجبال حجما وعلوا، سواء بسواء، بل يكفى أن يكون هناك وصف مشترك بينهما..
وفى الأمواج ما يرتفع إلى علو يبدو وكأنه فوق صفحة الماء هضاب وجبال على ظهر الأرض.. فالأمواج العالية، هى جبال فوق سطح الماء، وإن لم تبلغ الجبال التي على ظهر الأرض.. ضخامة وارتفاعا..
فإذا نظرنا إلى «الطوفان» باعتبار أنه كان ظاهرة من ظواهر الطبيعة، وثورة من ثوراتها العاتية، كان لنا أن نرى هذه الصورة التي رسمها القرآن، أمرا ممكنا، إذ يقع كثير من الطوفانات فى العالم بفعل الأعاصير العاتية، فتجتاح المدن، ويرتفع الماء، إلى عشرات الأمتار فوق سطح البحر.. فكيف إذا كان طوفان نوح هذا، ظاهرة فريدة بين تلك الظاهرات؟ إنه معجزة قاهرة متحدية.. لن يقع مثلها، ولن يتكرر أبدا! ..
رابعا: هذا الطوفان.. هل كان محليا، شمل المنطقة التي كان يعيش فيها نوح وقومه.. أم تجاوزها فشمل اليابسة كلها، بحيث لم يكن هناك شبر منها لم يغطّه الماء؟(6/1143)
إننا نميل كثيرا إلى القول بأنه كان طوفانا محليا.. إذ ليست هناك حكمة ظاهرة لأن تتغير معالم الأرض، وتتحول كلها إلى محيط يشتمل عليها.. وإنه ليكفى- لكى تقوم المعجزة، وتؤدى الغرض منها- أن تحدث ثورة من ثورات الطبيعة فى هذا المكان، فيغرق اليابسة ومن عليها، ويهلك الحرث والنسل..
وخامسا: ابن نوح.. اختلف المفسرون فى نسبته إلى نوح.. وهل هو ابنه، أو ابن زوجه من رجل غيره.. ويجيئون إلى ذلك بقراءة من يقرأ «ابنه» :
«ابنها» .. هكذا: «ونادى نوح ابنها» .. ويؤيدون هذا بأن نوحا قال:
«إن ابني من أهلى» ولم يقل «إنه منى» ! بمعنى أنه من زوجه، إذ كانت زوجة الرجل أهله، التي أقام منها أهله ونسله.. وكأنهم بهذا إنما يستكثرون أن يكون ابن نبى من الأنبياء كافرا، خارجا على سلطان أبيه، وأن الله سبحانه وتعالى لم يكرم هذا النبىّ، فيحفظ ابنه من الضلال، ويقيمه على طريق الهدى! وهذه كلها مما حكات- وأكاد أقول إنها ضروب من اللهو- ينبغى أن ننزه القرآن الكريم عنها..!
وماذا يقول نوح لكى يكشف عن وجه ابنه، أكثر من أن يقول: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» ؟ وهل ليس ابن الإنسان من أهله؟
بل وماذا يقول الذين يقولون هذه الشناعات- ماذا يقولون فى قول الله تعالى: «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» بل ماذا يكون من أب نحو ابنه من حنوّ وإشفاق، ومن جزع وحزن، أكثر مما فعل نوح مع ابنه هذا؟. لقد هتف به أن يركب السفينة معه، وذلك حين تفقّده فلم يجده بين أهله الراكبين فيها.. ثم لقد برّح به الحزن، واشتد عليه الألم بعد أن هلك هذا الابن، وكان من المغرقين- فجعل نوح بندب ابنه ويبكيه، ويطلب من الله العزاء والسلوان الذي حكاه القرآن(6/1144)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
بقوله: «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي؟ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ! وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ!» فبهذا القلب الحزين الذي يتمرق أسى وحسرة يناجى نوح ربه، وكأنه يعاتبه أو يراجعه فيما قضى به سبحانه وتعالى فى هذا الابن العاقّ! أفبعد هذا يقال فى ابن نوح قول غير أنه ابنه؟ اللهم إلا أن تفقد الألفاظ مدلولها، وتتحول إلى ألغاز وطلاسم! وهنا يحتاج الأمر إلى منجّمين..
لا مفسرين لقرآن كريم، بلسان عربى مبين.
الآيات: (45- 49) [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
التفسير:
الذين شكّوا فى نسبة ابن نوح إليه، وقالوا إنه ابن زوجته.. لا أدرى كيف(6/1145)
قبلوا على أنفسهم هذا القول، وبين أيديهم أكثر من شاهد يشهد ببنوة هذا الابن إلى نوح، بنوّة حقيقية لا لبس فيها.. وأنه إذا كان من الممكن حمل الألفاظ على غير محاملها، ونقلها من الحقيقة إلى المجاز، فإنه من غير الممكن أن يكون ذلك بالنسبة للعواطف الإنسانية، التي تحكمها صلات النسب، كالبنوّة، والأبوة، والأخوة ونحوها، والتي تحتل عاطفة الأبوة المكان المكين منها؟.
فهذا «نوح» لا ينسى ابنه الغارق، مع أنه كان من المخالفين له، الخارجين على طاعته، المكذبين له، الكافرين بالله.. ولكنها عاطفة الأبوة المتأججة، التي لا يطفىء وقدتها ما يكون من الأبناء من عقوق، وما يكون فيهم من انحراف، واعوجاج! وإن الابن ليكون على حال من السوء والسّفه، حتى ليلفظه المجتمع كله.. ولكن عاطفة واحدة تظل ملتحمة به، متّسعة لقبوله على ما هو عليه، أيّا كان هذا الذي هو عليه.. من سوء وسفه.. تلك هى عاطفة الأبوة.. الممثلة فى الأبوين معا.. الأب والأم..
فكيف يسوغ بعد هذا لقائل أن يقول فى ابن نوح إنه ليس ابنا حقيقيا له؟ لقد كانت امرأة نوح من الجبهة المناوئة له، الخارجة على دعوته، الكافرة بالله، وقد أغرقها الله مع من أغرق من قوم نوح، فلم يأس عليها نوح، بل ولم يلتفت إليها، وقد جرفها التيار، واحتواها الموج.. فكيف يأسى على ابنها ويمسك به، ويشدّه إليه؟ ثم كيف يعود إلى ربه باكيا متوجعا، يطلب العزاء والسلوان.؟
«وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» - وفى قول نوح: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» إشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى، لنوح: «احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ(6/1146)
إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ»
.. فقد كان نوح يعلم أن من أهله من حقّ عليه القول بأنه من المغرقين، ولكن عاطفة الأبوة قد حجبت عنه رؤية ابنه أن يكون فى هؤلاء الغرقى، ولهذا ظل ممسكا به إلى أن حال بينهما الموج فكان من المغرقين..
ومع أن نوحا على يقين بأن ابنه قد هلك، ولا سبيل إلى أن يلقاه حيّا فى هذه الدنيا- فإن ما به من لذعة الألم، وحرقة الأسى، قد حمله على أن يشكو إلى ربه هذا الذي يجده.. ليسمع من ربه كلمة يبرّد بها صدره، ويطفىء لهيب النار المشتعلة فيه..
وقد عاد الله سبحانه وتعالى على «نوح» بفضله، فناجاه وواساه، ووقف به على الحد الذي يجب أن يلتزمه نوح مع أمر ربه، وعلمه، وحكمته.
«قالَ يا نُوحُ.. إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ.. فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» ..
- وفى قوله تعالى: «يا نُوحُ» عزاء جميل، ومواساة كريمة من ربّ كريم.. إذ ناداه الحقّ جلّ وعلا باسمه، كما يدعو الحبيب حبيبه، ويناجى الخليل خليله.. «يا نوح» ! - وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» إشارة إلى أن هذا الابن ليس من أهل «نوح» الذين ينسبون إليه نسبة ولاء، وطاعة.. إن أهله هم المؤمنون به..
ولهذا كشف الله سبحانه وتعالى لنوح عن السبب الذي من أجله لم يكن ابنه من أهله، فقال سبحانه: «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» أي إنه عمل من غير الأعمال الصالحة، التي يتقبلها الله، وما كان لنوح أن يمسك بين يديه عملا غير صالح..
وسمّى الابن «عملا» لأنه غرس من غرس أبيه، وثمرة من زرعه..(6/1147)
ولكن هذا الابن كان غريبا، غرس فى منبت سوء، هى أمّه. فجاء ثمرة معطوبة فاسدة! - وفى قوله تعالى: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» - ما يسأل عنه:
إذ كيف ينهاه الله سبحانه وتعالى عن أن يسأله ما ليس له به علم؟ وهل يسأل الإنسان إلا عن الذي ليس له به علم؟ والجواب: أن المراد بالعلم هنا، العلم الذي لا يقع فى متناول العقل البشرى، لأنه علم فوق مستوى هذا العقل، وقد استأثر به الله سبحانه وتعالى وحده..
فالنهى الواقع على السؤال عما لا يعلم نوح، هو نهى واقع على العلم الإلهى الذي لا يدركه نوح، ولا يتّسع له عقله..!
وفى قصة موسى والعبد الصالح ما يشير إلى شىء من هذا، فقد سأل موسى العبد الصالح أن يعلّمه شيئا من هذا العلم الذي وهبه الله العبد الصالح، واختصه به، وذلك فى قوله تعالى: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً..» ولهذا قال له موسى: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» ؟ وكان جواب العبد الصالح له: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» ؟ إنه علم تحار أمامه العقول، وتزيغ به الأبصار.. لأنه علم فوق مستواها، وأكبر مما تحتمل.. كالضوء الباهر تحدّق فيه العين، فيحجبها ضوءه عن أن ترى شيئا، حتى لكأنها فى ظلام دامس مطبق! ولهذا جاء قوله تعالى لنوح: «إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» منبها له إلى أن هناك علما لا يعلمه نوح، ولا يحتمل وقعه على مدركاته.. فليعلم(6/1148)
أن له علما، وأن لله سبحانه وتعالى علما فوق هذا العلم، لا تناله الأفهام، ولا تدركه العقول..
وقد علم نوح أين يقف به علمه.. فقال:
«قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
فهو يستعيذ بالله أن يجهل حدّ ما بين المخلوق والخالق، فيجاوز هذا الحد، فيكون ظالما لنفسه، معتديا على حدود الله.. ولهذا، فقد عرف أن ما كان منه من سؤال عن ابنه، وعن حكمة الله فى إغراقه مع المغرقين- هو أمر جاوز به الحدّ الذي ينبغى أن يقف عنده مع الله، فجاء إلى الله تائبا مستغفرا..
فتلّقاه الله سبحانه بالقبول والمغفرة..
فقال سبحانه:
«قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» .
ولقد هبط نوح إلى الأرض، يصحبه السلام والبركة من الله: «اهبط بسلام منّا وبركات عليك، وعلى أمم ممن معك» .. وقد أخذ الذين كانوا مع نوح حظهم من هذا السلام وتلك البركة، فكانوا جميعا محفوفين بالسلام والبركة من رب العالمين..
- وفى قوله تعالى: «وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» - إشارة إلى أن من مواليد هؤلاء الذين كانوا مع نوح ستنشأ أمم كثيرة، وأن هذه الأمم التي ستنشأ من ذرّية هؤلاء القوم المؤمنين، لن يكونوا على شاكلة واحدة، بل سيكون منهم المؤمنون الذين يمسّهم السلام، وتحفّهم البركة من الله،(6/1149)
وهم أمم، ويكون منهم الذين يتخلّون عن نصيبهم من السلام، ويتعرّون عن حظهم من البركة، فيكفرون بالله، فيمتعهم الله فى الدنيا هذا المتاع القليل، ثم يلقون العذاب الأليم فى الآخرة، جزاء كفرهم بالله..! وهم أمم أيضا.
وفى هذا إشارة إلى نوح وابنه.. وأن نوحا إذا كان ممن ألبسهم الله لباس السلام والبركة، فإن ذلك ليس مما يرثه الأبناء عن الآباء.. وأن المؤمن قد يكون من ذريته المؤمن والكافر.. كما أن الكافر قد يكون من ذريته الكافر والمؤمن.. وفى هذا إشارة ثالثة إلى أن للإنسان إرادة، وله سعى وعمل، وأنه بإرادته وسعيه وعمله، يأخذ الطريق الذي يريده، ويخرج به عن حكم الوراثة، الذي إن تسلط على جميع الكائنات الحية، وألزم الخلف منها طريق السلف، فإنه لن يتسلط على الإنسان، ذى العقل، والإدراك، والإرادة..
هذا، ومن إعجاز الصياغة فى النظم القرآنى، أنك تقرأ قوله تعالى: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» - فتجد هذا النغم الموسيقى الهادر، فى وقار وسكينة وجلال، أشبه بأنفاس الموج، وقد أخذت تهدأ بعد انحسار العاصفة! ففى الآية الكريمة سبعة عشر ميما، موزّعة بين حروفها، هذا التوزيع الذي يقيم منها ذلك النغم الرائع، الذي يصحب السفينة فى عودتها إلى موطن السلامة والأمن، وكأنه أهازيج النصر، ينشدها العائدون من أرض المعركة، بعد قتال ضار مرير! قوله تعالى: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا.. فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» .(6/1150)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
الخطاب هنا للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وأنباء الغيب المشار إليها، هى ما ذكره القرآن الكريم من قصة نوح، وهى من الأنباء التي غاب عن النبىّ وعن قومه العلم بها، وإن كان عند أهل الكتاب علم بها.. فهو غيب نسبىّ.. وليس غيبا مطلقا.. ثم إن ما عند أهل الكتاب هو حق مختلط بباطل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى وصفه لقصص القرآن:
«إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (62: آل عمران) .
- وفى قوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» إشارة ملفتة للنبى إلى مضمون هذه القصة ومحتواها، وهى أنه كما كانت العاقبة لنوح ومن آمن معه، فكذلك ستكون العاقبة للنبى ومن آمن معه، ويكون البلاء والوبال على المكذبين الكافرين، كما كان ذلك جزاء قوم نوح..
والأمر يحتاج إلى صبر على المكروه، فإن وراء هذا المكروه الذي يجده النبي والمؤمنون، فرجا، وسلامة، وأمنا.
الآيات: (50- 60) [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)(6/1151)
التفسير: تعرض هذه الآيات قصة أخرى من قصص الصّراع بين الحق والباطل.. كما عرضت الآيات السابقة قصّة من قصص هذا الصراع.. ليكون فى ذلك مزيد من العبر والعظات، يتمثلها النبىّ ومن آمن معه، من جهة- فيجدون فيها عزاء لهم، وصبرا على ما يلقون من عنت وعناد، كما يتمثّلها الكافرون والمشركون من أهل مكة- من جهة أخرى- فيجد أهل النظر فيها دعوة مجدّدة إلى الإيمان بالله، واللّحاق بركب المؤمنين، قبل أن يحل بهم ما يحلّ بالمكذبين من بلاء ووبال..
قوله تعالى:
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» .
تلك هى دعوة هود إلى قومه: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» وهى دعوة كلّ نبى إلى قومه.. الإيمان بالله، وإخلاص العبودية له وحده.(6/1152)
- وفى قوله تعالى: «أَخاهُمْ هُوداً» . إشارة إلى أن «هودا» ليس غريبا عن القوم، وإنما هو منهم، وأخ لهم، كما أن «محمدا» هو من قريش، وأخ، وابن أخ لهم..
- وفى قوله تعالى: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» كشف لهذا الباطل والضلال الذي يمسك به القوم، ويعيشون فيه.. إنه من مفترياتهم التي ولدتها أوهامهم وأهواؤهم.
«يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ» ..
والدعوة إلى الله، دعوة خالصة لله، لا يطلب الداعون- وخاصة الأنبياء- أجرا عليها، فالله سبحانه وتعالى هو الذي دعاهم إلى حمل هذه الدعوة، وهو سبحانه، الذي يتولى جزاءهم، ويوفّيهم أجرهم..
وقوله: «فطرنى» أي أنشأنى من عدم، وأخرجنى من الأرض كما تخرج النبتة، فينفطر لها (أي ينشق) أديمها حتى ترى النور، وتتنفس أنفاس الحياة..
وفى هذا ما يكشف عن قدرة الله، وآثار رحمته فى هذا الإنسان، الذي كان نطفة.. ثم إذا هو خصيم مبين! «وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .
المدرار: الكثير المتتابع، وأصله من درّ للّبن، إذا اجتمع فى الضرع، وغزر..(6/1153)
والمدرار الذي يرسله الله من السماء: هو الغيث الذي تحيا به الأرض، وتخرج به الحبّ والنبات، والذي به تطيب حياة النّاس، ويكثر فيهم الخير، وتقوى به أيديهم على أن تطول الكثير مما يشاءون من أسباب القوة، والحياة، والسلطان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ» .
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» تحذير لهم من أن يرفضوا هذه الدعوة المباركة، التي تصلهم بالله، وتفتح لهم أبواب رحمته، وتسوق إليهم غيوث رزقه.. فإن هم أعرضوا وتولّوا فقد أجرموا فى حقّ أنفسهم، وجنوا عليها..
- وقوله تعالى: «مجرمين» حال من الفاعل، وهو الواو فى تتولوا.. أي لا تعرضوا عن الاستجابة لى، محمّلين بهذا الجرم الذي أنتم فيه، والذي لا يخلصكم منه إلا الاستجابة لما أدعوكم إليه، والإيمان بالله.
«قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» .
البيّنة: البرهان، والدليل.. اعتراك: أي أصابك، وأصله من العور، والعوار، وهو آفة تعرض للشىء فتفسده، ومنه اعتوره بالسيف، أي ضربه به، فأفسد بعض أعضائه، أو أفسد كيانه كلّه.. ومنه العور، وهو عمى إحدى العينين.
والردّ الذي ردّ به القوم على «هود» - عليه السلام- هو الذي يلقى به المكابرون المعاندون كلّ دعوة حق.
إنهم يطلبون بيّنة من «هود» وإلّا فإنهم لا يأخذون بأية دعوة قوليّة،(6/1154)
ولو كانت تحمل الخير خالصا مطلقا.. «ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» .
والبينة التي يطلبونها، هى آية ماديّة، تقهرهم، وتضطرهم اضطرارا إلى الإيمان.. ولو أنه جاءهم بكل آية ما آمنوا، لأنهم غير مستعدّين للإيمان..
فإن المستعدّ للإيمان، وتقبّل الخير، لا يحتاج إلى دليل يظاهره، ولا إلى بيّنة تشهد له، وحسب الإيمان بالله، ما يحمل فى ذاته من أمارات الفلاح، وما يسوق بين يديه من عافية ورزق كريم! ولكن العناد كثيرا ما يفسد على المرء رأيه، ويقطع عليه الطريق إلى الخير..
لا لشىء إلا لأنه مدعوّ إليه من إنسان مثله، ومحمول له على يد واحد من أبناء جنسه! - «وما نحن لك بمؤمنين» . كأنهم إنما يؤمنون لحساب «هود» وكأن إيمانهم- إذا آمنوا- مما يكسب هودا سلطانا عليهم، ويقيم له دولة فيهم..
فهم لهذا يضنّون عليه بالاستجابة له، ولو كان فى ذلك تفويت للخير الكثير الذي يقع لأيديهم من الإيمان.. إذ يرون- فى تصورهم الباطل هذا- أن ما يصيبهم من خير- إن كان فى دعوة هود خير- هو دون ما يصيب هودا نفسه، إذا هم آمنوا له.. فليكن منهم هذا الإعراض عنه، حتى لا يستحدث بإيمانهم له مكانا عاليا فيهم.. وهكذا يفعل الجهل، والحسد.. بالناس! - وقوله تعالى: «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» - هو قول منهم فى مقابل القول الذي قاله «هود» لهم.. فالأمر فى نظرهم لا يعدو أن يكون كلاما فى كلام، وأنه إذا كان لهود أن يقول ما قاله لهم، فليقولوا هم له، وليرموه بالضلال كما رماهم هو بالضلال.. «إن نقول إلّا اعتراك بعض آلهتنا بسوء» أي ليس لنا ردّ على قولك إلا هذا القول، وهو أنك قد أصبت فى(6/1155)
عقلك بخبل أو جنون، من بعض آلهتنا التي تطاولت عليها، ودعوتنا إلى ترك عبادتها.. فخذ منها الجزاء الذي تستحقه! «قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ» أي إنى أشهد الله عليكم، بأنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، كما أشهدكم أنى برىء من هذا الشرك الذي أنتم فيه، ومن التعامل مع هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله..
«فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
كيدونى: أي كيدوا لى، وخذونى بما تستطيعون من كيد، والكيد:
إعمال الحيلة، وإحكام التدبير، لما يراد من الأمور.. ويستعمل الكيد غالبا فى الشر..
ثم لا تنظرون: أي لا تتوانوا فى إعمال كيدكم لى، والمبادرة به.
وهكذا ينتهى الموقف بين هود وقومه، كما انتهى إليه الأمر بين نوح وقومه، وكما انتهى إليه أمر كل نبى مع قومه.. القطيعة، والترامي بالنّذر، وانتظار كلّ لمفعول ما أنذر به صاحبه.
إنى أشهد الله عليكم بما بلغتكم من رسالته إليكم، وأشهدكم أننى برىء مما تعبدون من دونه من أصنام.. وهأنذا بين أيديكم، أنتم وآلهتكم، فكيدوا إلى كيدكم، وعجلوا به. «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» فأنا من توكلى عليه فى قوة، وفى منعة. «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» أي ما من دابة تدب على هذه الأرض إلا والله سبحانه وتعالى، مستول على أمرها، ومالك التصرف فيها: لا تتحرك حركة ولا تتنفس نفسا إلا بإذنه، وبعلمه.(6/1156)
وإذا كان ذلك هو سلطان الإله الذي أعبده وأتوكل عليه، فإنى لن أعبأ بكم ولا بآلهتكم.. «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي إن الإله الذي أعبده، أمره واضح، وسلطانه قاهر، وحكمه نافذ، وأثره فى الوجود لا يخفى على ذى نظر.. فالطريق إليه مستقيم واضح، لمن طلب التعرف عليه، والإيمان به.
وفى قوله «رَبِّي وَرَبِّكُمْ» مع أنهم لا يعترفون بربّه ربّا لهم، هو تقرير لأمر واقع، وحقيقة ملزمة، لا فكاك لأحد منها، رضى أو لم يرض، آمن أو لم يؤمن.. ولهذا فإنه بعد أن قرر هذه الحقيقة، عاد فخصّ نفسه بالإيمان بها وحده، ولم يدخلهم معه فى الإيمان، فقال: «إن ربى على صراط مستقيم» .
قوله تعالى:
«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» .
أي فإن آمنتم بالإله الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، فقد اهتديتم، ورشدتم، وإن تتولّوا فلا متعلّق لكم بي.. «فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم» .. «وما على الرسول إلا البلاغ» .. ولستم أنتم عباد الله وحدكم، بل إن لله عبادا كثيرين، يؤمنون به، ويقدرونه حق قدره، يجيئون بعدكم، ويقيمهم الله خلفاء بعدكم على هذه الأرض، وإنكم لن تضرّوا الله شيئا، ولن تنقصوا أو تزيدوا من ملكه شيئا، ذهبتم أو بقيتم، كفرتم أو آمنتم.. «إن ربّى على كل شىء حفيظ» أي مالك كل شىء، حفيظ على كل شىء، لا يستطيع مخلوق أن يغيّر أو يبدّل فى ملكه ذرة من ذرات هذا الوجود.
قوله تعالى:
«وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» ..
الأمر: الحكم، والقضاء الذي قضى به على هؤلاء القوم الظالمين،(6/1157)
وهو الهلاك.. سمّى أمرا، لأنه قضاء نافذ لا يردّ، فكلّ ما قضى الله سبحانه وتعالى به، هو أمر، واجب تنفيذه على من وقع عليه، طوعا أو كرها..
«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) .
وقد كان هذا الأمر الذي وقع على «عاد» هو ما رماهم الله سبحانه وتعالى به من مهلكات حملتها إليهم ريح صرصر عاتية.. وفى هذا يقول سبحانه:
«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) .
وكرر فعل النجاة، لأن الله نجّى «هودا» ومن معه من هذا البلاء فى الدنيا، ومن العذاب فى الآخرة، وذلك بما ساق إليهم من رحمته فهداهم إلى الإيمان، وصرفهم عن الكفر، وعزلهم عن القوم الكافرين، فى الدنيا، والآخرة، على حين هلك الظالمون مهلكين.. مهلكا فى الدنيا، ومهلكا فى الآخرة..
قوله تعالى:
«وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» .
فى الإشارة إلى جمع العقلاء بتلك، إشارة إلى أنهم ليسوا جمعا، وليسوا عقلاء.. ذلك أنهم قد صاروا ترابا فى التراب، لم يبق من آثارهم إلا تلك الأطلال المتداعية، التي يمرّ عليها أهل مكة فى تجارتهم إلى الشام.. فلا يجدون إلا خرابا مخيفا، يحدّث عن انقلاب حلّ فى هذه المواطن، فمسخ طبيعة كل شىء فيها.. أرضها، وسمائها وجوها.. فلا تنبت الأرض شيئا، حتى الشوك، ولا تحمل السماء شيئا.. حتى السحاب الجهام، ولا يتحرك بين أرضها وسمائها ريح.. حتى السّموم!(6/1158)
فتلك هى ديار القوم، وهذا هو حصيد ما زرعوا.. فلينظر المشركون من أهل مكة ماذا حلّ بديار الظالمين، ولينتظروا ماذا يحلّ بهم هم، إن ظلوا على ما هم عليه من كفر وعناد.
- وفى قوله تعالى: «جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» إجابة عن سؤال هو: ماذا كان من أهل تلك الديار حتى حلّ بهم هذا المسخ؟ فكان الجواب: «جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كلّ جبّار عنيد» ! والجبار العنيد، هو كل رأس من رءوس الكفرة والمشركين، الذين يتولّون كبر الحرب التي يعلنها أعداء الله، على رسل الله.
- وفى قوله تعالى: «وَعَصَوْا رُسُلَهُ» ما يسأل عنه؟
كيف جاء النظم القرآنى، محدّثا عن أنهم عصوا رسل الله، مع أنهم لم يعصوا إلا رسولهم «هودا» الذي أرسل إليهم؟
والجواب: أن رسل الله على طريق واحد، يقومون على أداء رسالة واحدة.. هى الدعوة إلى الله سبحانه، والإيمان به، وبكتبه، ورسله، واليوم الآخر..
فهم- من جهة- بمنزلة رسول واحد، يتجدد مع الزمن فى صورة من ظهر منهم من الرسل.. وهم- من جهة أخرى- رسل كثيرون يجىء بعضهم إثر بعض فى صورة رسول.. إذ لا يختلف أحد منهم عن صاحبه فى مفهوم الرسول، وفى مضمون رسالته ومحتواها..
فهم رسل فى رسول، وهم رسول فى رسل! قوله تعالى: «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ» .
أي أن هؤلاء القوم لم يتركوا وراءهم فى هذه الدنيا خيرا يذكرون به،(6/1159)
ولم يخلّفوا أثرا طيبا ينتفع به الناس بعدهم.. وإنما الذي تركوه هو ما يشهد عليهم بالبغي والضلال، والفساد فى الأرض.. فكل من يمر بديارهم، أو يستمع إلى أخبارهم، لا يجد منهم إلا ريحا خبيثة، تجعله ينفر منها، ويلعن الجهة التي صدرت عنها.. «وأتبعوا فى هذه الدنيا لعنة» أي تبعتهم اللعنات بعد أن تركوا هذه الدنيا، وذلك هو بعض ما غرسوا فيها من شر، إذ لم تكن لهم صالحة فيما غرسوا..
راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ... ولا تعطّلت الأعياد والجمع
وكذلك شأنهم فى الآخرة.. فإن أهل الإيمان، إذ يرون ما ساق إليهم إيمانهم من نعيم ورضوان، يجدون لذة إلى لذة فى أن يذكروا أهل الكفر، وما ركبوا فى دنياهم من ضلال، وأن يرموهم باللعنة إذ فوّتوا على أنفسهم هذا المقام الكريم، وباعوها فى الدنيا بثمن بخس رذل! وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ.. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» (44: الأعراف) - وفى قوله تعالى: «أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ..»
تشهير بالقوم، وإذاعة لجريمتهم فى الناس، واستدعاء لكل ذى سمع ونظر، أن يشهد هؤلاء القوم، وينظر إليهم وهم متلبسون بهذا الجرم الغليظ، فلا يقول فيهم إلا ما يسوءهم ويخزيهم.
وفى تكرار حرف الاستفتاح «ألا» وفى ذكر «قوم هود» بعد ذكر «عاد» .. فى هذا كله تأكيد لذواتهم، التي توجّه إليها هذه اللعنات، والتي تعرض فى معرض التشهير، والتجريم، حتى لا يقع أىّ لبس فى أنهم هم المقصودون بهذا، وحتى لا يختلط أمرهم بغيرهم.. فإن التهمة خطيرة، والحساب(6/1160)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
عسير، والمصير سيّىء، بالغ الغاية فى السوء.. فكان من الحكمة التي يدعو إليها مقتضى الحال أن ينبّه على هذا الخطر، وأن تقوم إلى جانب هذا التنبيه مؤكدات له، أشبه بتلك الإشارات الضوئية الحمراء، التي تظهر فى مواطن الخطر، منبهة إليه، محذرة منه، قائلة بلسان الحال.. هنا «خطر» !! فخذ حذرك منه! وإلا فأنت وما جنت يدك!
الآيات: (61- 68) [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)(6/1161)
التفسير:
فى هذه الآيات عرض لقصة نبىّ آخر من أنبياء الله، هو «صالح» عليه السلام، وقد بعثه الله إلى «قومه ثمود» .. وكانوا يسكنون «الحجر» بين المدينة والشام.
ولم يكن موقفهم من هذا النبي الكريم بأحسن من موقف من سبقوهم من أهل الضلال والعناد.. قوم نوح، وقوم هود..
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» .. والعطف هنا عطف قصة على قصة، وحدث على حدث.. وقد نصب «أخاهم» بفعل محذوف، تقديره: أرسلنا، أو بعثنا.
وهو أخو القوم.. أي منهم.. نسبا، وموطنا، ولغة.
«قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. فهذا مجمل كل دعوة دعا بها نبىّ قومه.. الإيمان بالله، والانخلاع عن كل معبود سواه.. من بشر، أو حجر! «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» .. أي هو وحده- سبحانه- المستحق للألوهية، المستوجب للربوبية.. لأنه- سبحانه- هو الخالق الذي أوجد الناس من عدم.. «هو أنشأكم من الأرض» أي خلقكم من تراب هذه الأرض، وأنبتكم منها، كما ينبت الزرع، وينمو، وينضر، ويزهر، ويثمر.. كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) ..
«واستعمركم فيها» أي هيأ لكم أسباب الحياة فيها، ومكن لكم من عمرانها، فعمر تموها بإقامة المدن، وغرس الحدائق، وزرع النبات والحبّ، وتسخير الدواب والأنعام.. كما يقول تبارك وتعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ(6/1162)
سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ»
(80- 81: النحل) فذلكم مما لله فى عباده.. خلقهم، ورزقهم، وأمدهم بأنعام وبنين وجنات وعيون.. فهل فى شرع العقلاء ما يقضى بالولاء لغيره، والتعبد لسواه؟
«فَاسْتَغْفِرُوهُ.. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ.. إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» .
ومع أن كثيرا من الناس فى غفلة عن الله، وفى عمى وضلال عن السبيل المستقيم إليه فإنه- سبحانه وتعالى- يبسط لعباده يد المغفرة والقبول، ويبعث للضالين رسلا من عنده، يدعونهم إليه، ويذكرونهم بآلائه ونعمه، ويهتفون بهم: «أن استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه» ..
والاستغفار، هو طلب المغفرة: مما كان منهم من كفر وضلال، قبل أن يهتدوا ويرشدوا، ويؤمنوا بالله..
والتوبة، هى الرجوع إلى الله، بعد الشرود عنه، وذلك فى حال الإيمان، حيث يقع المرء فى معصية، فيبعد بها عن الله، فيكون رجوعه إليه سبحانه بالتوبة عما وقع فيه..
ولهذا جاء العطف «بثم» .. لأنها تعطف مرحلة على مرحلة قبلها..
مرحلة الإيمان، على مرحلة ما قبل الإيمان، وهذا إشعار بأن كلّا منهما من عالم غير عالم الآخر.. وشتّان بين الإيمان والكفر، والنور والظلام! «قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا» .
بهذا السّفه، كان ردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي دعاهم إليها(6/1163)
صالح، عليه السلام.. لقد أنكروه حين سمعوا هذه الدعوة منه، وتغيرت فى الحال حاله عندهم، وشاهت صورته فى أعينهم. فلقد كان عندهم الرجل المرجوّا لكل ملمّة، المدعوّ لكل معضلة، المؤمّل لكل طالب خير، ومرتاد فلاح ورشاد.. ولكنه الآن- وقد دعاهم إلى هذه الدعوة- قد صار فى نظرهم إنسانا غير هذا الإنسان الذي عرفوه!. «يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا» أي كنت مرجوّا للخير والفلاح قبل أن تدعونا إلى هذا الذي تدعونا إليه.. أما الآن فلا رجاء فيك، ولا خير يؤمّل منك.
أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟» أي ما هذا الذي جئتنا به؟ وكيف طوّعت لك نفسك أن تقول هذا القول المنكر؟ وإذا لم نعبد ما كان يعبد آباؤنا، فمن نعبد؟ أنعبد إلهك الذي تدعونا إليه؟
«وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» !. فكيف نترك ما نحن عليه من يقين، قد اطمأنت قلوبنا به، وسكنت نفوسنا إليه- إلى هذا المعبود الجديد الذي تحدثنا عنه، ولم نعرفه، ولم نتعامل معه من قبل؟ أذلك مما يقول به عاقل، ويرضى به العقلاء؟
قوله تعالى:
«قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» .
البينة. البرهان، والدليل، والحجة.
والتخسير: الخسران بعد الخسران..
إن صالحا- عليه السلام- لعلى هدى من ربه، وعلى يقين من إيمانه به، وإنها لرحمة من رحمات ربه، أن هداه إلى الحق، وشرح صدره للإيمان..
وإنه- لهذا- لن يعصى الله، ولن يخرج عن طاعته، وامتثال أمره،(6/1164)
فذلك بعض ما يوجبه عليه ولاؤه لمن خلقه، ورزقه، وهداه إلى الإيمان، وإلا كان مستحقّا للانتقام، والعقاب.. وإنه لن يجد ناصرا ينصره، ويدفع عنه ما يريد الله به! وشتّان بين ما يدعوهم إليه صالح، مما فيه رشدهم وخيرهم، وما يدعونه هم إليه، مما يعرضه لنقمة الله وعذابه..
- وفى قوله تعالى: «فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» إشارة إلى أنه إذا أخذ برأى قومه، وخرج عن طاعة الله، ووقع تحت نقمته، ثم دعاهم إلى نصرته من دون الله، فلن يكون له منهم إلا بلاء إلى بلاء، وخسران إلى خسران! لأنه إنما ينتصر بمخذولين، واقعين تحت النقمة والبلاء، فلن يقدموا له- إن قدموا شيئا- إلا ما عندهم من بلاء وعذاب! «فما تزيدوننى غير تخسير» .
قوله تعالى:
«وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» .
وبين يدى تلك الدعوة، التي دعا بها صالح قومه إلى الإيمان بالله، أقام لهم آية متحدية من آيات الله، تشهد له بأنه رسول الله.. فهذه ناقة الله. قد نصبها الله لهم آية، ورفعها لأعينهم، ليشهدوا منها ما لم يشهدوا من النّياق التي عرفوها.. إنها ناقة على صفة عجيبة.. إنها آية من آيات الله، ولهذا جاء وصفها بأنها «ناقة الله» ، أي آيته إليهم.. فليأخذوا منها الشاهد الذي يشهد بقدرة الله، ويحدّث عن علمه، وحكمته، ومن ثمّ يقوم لهم منها دليل آخر على صدق الرسول، الذي جاءهم يدعوهم إلى الله.. فليصدقوه وليؤمنوا به، وليدعوا الناقة تأكل فى أرض الله- شأنها فى هذا شأنهم، ولها فى الأرض مالهم، لأنها ناقة الله، والأرض أرض الله، وهم عبيد الله، والأرض التي يعيشون عليها(6/1165)
أرض الله.. وإذن فليدعوا ناقة لله تأخذ رزقها من أرض الله، ولا يمسّوها بسوء! فإن اعتدوا عليها، وخالفوا أمر الله فيها، فلينتظروا العذاب القريب الذي سيحل بهم! ولقد كان من سفه القوم، وجهلهم، وغلبة الشّقوة عليهم، أن تخطت نظرتهم إلى الناقة، كل شىء فيها، مما يكشف لهم الطريق إلى الله، وإلى الإيمان به- ووقفوا عند العذاب، الذي أنذروا به منها، إذا هم عرضوا لها بسوء- فعملوا على كشف هذه الآية منها، واستحلابها من ضرعها! وذلك لأنهم كانوا على تكذيب بكل ما حدّثهم به «صالح» عنها، وإنهم لكى يقيموا البرهان على كذبه، استعجلوا العذاب الذي أنذرهم به إن هم مسّوها بسوء.
فما هو إلا أن يعقروا الناقة حتى يأتيهم هذا العذاب، إن كان هناك عذاب، وإلا فقد افتضح أمر صالح، وظهر كذبه! وقد فعلوها! «فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا يا صالح: ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين» (77: الأعراف) .
وهكذا يلعب الأطفال بالنار، فتقع بهم الواقعة، ويحلّ بهم العذاب الذي لا مردّ له! قوله تعالى:
«فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» .
وتلك آية أخرى.. إنها العذاب الذي سيأخذهم الله به، بعد ثلاثة أيام..
وفى توقيت وقوع العذاب بثلاثة أيام:
أولا: أن يظلوا خلال تلك المدة واقعين تحت وطأة تلك الخواطر المزعجة المقلقة، بين التصديق والتكذيب، وكانوا كلما مضت لحظة من الزمن ازداد قلقهم واضطرابهم، انتظارا لما يطلع به عليهم هذا الوعيد، فى اليوم الثالث من تلك الأيام التي أقتت لهلاكهم.(6/1166)
وثانيا: حصر الأجل المضروب لهلاكهم بثلاثة أيام، هو غاية ما يمكن أن يقع فى النفس موقع الاهتمام له والالتفات إليه.. ولو امتد الزمن إلى أكثر من هذا لما التفتت إليه النفوس هذا الالتفات الذي يشدها إليه، ويقيمها على همّ وقلق من لقائه.. ولو قصر الزمن إلى ما دون ذلك لقصرت فترة العذاب النفسي الذي عالجه القوم قبل أن يهلكوا..
فهذه الأيام الثلاثة التي عاشها القوم قبل أن يحلّ بهم الهلاك قد أقتت بحكمة الحكيم العليم، فكانت بوتقة عذاب، تجرّع منها القوم جرعات الموت قبل أن يحل بهم الموت..!
لقد شخصت أبصار القوم إلى هذه الأيام الثلاثة وما يطلع عليهم فى أعقابها.
وقد طلع عليهم منها الويل والبلاء:
«فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منّا ومن خزى يؤمئذ إن ربك هو القوى العزيز» .. لقد نجى الله صالحا والذين آمنوا معه، إذ عزلهم عن القوم الظالمين، وما رماهم به من مهلكات، فهو- سبحانه- الذي لا يعجزه ما يعتزّ به الظالمون من قوة وسلطان، وما يعتصمون به من قلاع وحصون..
«وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها.. أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» .
والصيحة التي أخذ بها القوم، هى صيحة الحق، وهو صوت العذاب الذي نزل عليهم، فرجفت بهم الأرض منه، «فأصبحوا فى ديارهم جاثمين» ..
أي جمد الدم فى عروقهم، من رجفة الصيحة، فلم يتحرك أحد منهم حركة، ولم يتنفس نفسا! إنها صيحة تحمل فى كيانها صاعقة، أقرب مثل إليها الرعد المحمل بالصواعق المهلكة.. وهكذا صاروا جثثا هامدة، وتحولت ديارهم إلى(6/1167)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
صمت مطبق.. لا حسّ ولا نفس بها.. حتى لكأن لم تكن فيها حياة من قبل «كأن لم يغنوا فيها» أي كأن لم تكن فيها إقامة، وسكن! لقد ذهب كل أثر من آثارهم إلا هذا الخراب الذي اشتمل على كل شىء كان هناك.
- وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» هو صدى مردد لما شيّع به قوم هود من قبل، «ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود» .. وقد بينا من قبل ما فى هذا الدعاء الذي أعقب هلاكهم..
أما الناقة، وما يقول المفسرون فى أوصافها، فقد عرضنا لها من قبل عند تفسير قصة صالح فى سورة الأعراف..
وحسبنا أن نذكر هنا أنها آية من آيات الله، وضعت بين يدى القوم، لتكون امتحانا لهم وابتلاء.. وليس من الحتم اللازم أن تكون على صفات جسدية خاصة، تخرج بها عن طبيعة النياق.. يل يكفى أن تكون مجرد ناقة، امتحنوا بامتثال أمر الله فيها، وهو تركها تأكل فى أرض الله، وألّا يمسوها بسوء، فإن امتثلوا أمر الله نجوا، وإلا هلكوا.
وهى فى هذا تشبه الشجرة التي نهى الله آدم عن أن يأكل منها.. ولم تكن هذه الشجرة إلا واحدة من أشجار الجنة، ولم يكن النهى عنها إلا امتحانا وابتلاء..
الآيات: (69- 76) [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)(6/1168)
التفسير:
وهذه قصة إبراهيم عليه السلام، وقد ضمت إلى قصة لوط، إذ كانت دعوتهما واحدة، وكان قوما هما متجاورين متقاربين، ديارا ونسبا، وزمنا..
إذ كان لوط- كما يقول المؤرخون- ابن أخى إبراهيم..
«وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» ..
الرسل هنا، هم ملائكة الرحمن، جاءوا إلى إبراهيم فى صورة بشريّة.
والبشرى التي جاءوه بها، هى ما بشر به من الولد، بعد أن بلغ من الكبر عتيّا، ويمكن أن تكون البشرى ما حمله الملائكة إليه من أمر ربه بهلاك قوم لوط.. إذ لا شك أن فى هذا انتصارا للحق، وخزيا وخذلانا لأهل الضلال والزيغ، وذلك مما يفرح له المؤمنون، وتنشرح به صدورهم..
«ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله» .
والعجل الحنيذ: السّمين الذي نضج شيّا بالنار.(6/1169)
- وفى قوله تعالى: «قالَ سَلامٌ» إشارة إلى أن إبراهيم قد أخذ بمجىء هؤلاء الرسل، وأنهم ظهروا فجأة فى بيته، فلم يدر من أين جاءوا.. فأنكرهم ولكنه لم يردّهم، وإنما ردّ عليهم تحيتهم ردّا خاطفا، متجمّلا، يحمل أمارات الاستفهام والتعجب والإنكار، والخوف.. «قالوا سلاما، قال.. سلام!» وإلى هذا يشير قوله تعالى فى آية أخرى: «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» (25: الذاريات) .. ويقول سبحانه فى آية أخرى كذلك: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (51- 53: الحجر) ..
فكان التبشير بالغلام على كبر ويأس، هو الذي يذهب بكل ما وقع فى نفس إبراهيم من خوف ووجل، سواء أكان وجلا عارضا من ظهور الملائكة له على تلك الصورة، أم وجلا سكن فى نفسه من فوات الأوان لإنجاب ولد! قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ» .
ولقد تكشف لإبراهيم من القوم ما قوّى ظنونه فيهم، وأنهم على حال لا تبعث على الطمأنينة من جهتهم، فها هو ذا يقدّم لهم ما يقدّم للضيّفان، فلا يأبهون له، ولا يمدون أيديهم إليه.! وهنا تتحرك دواعى الشك فى نفسه، وتسرى رعشة الخوف فى كيانه، ولكنه يغالب خوفه، ويمسك به فى صدره- كما يقول سبحانه- «وأوجس منهم خيفة» أي وجد فى نفسه خوفا..
فيسأل القوم سؤال المنكر المستريب: «ألا تأكلون؟» (27: الذاريات) - «قالوا لا تخف» إنا رسل ربك.. «إنا أرسلنا إلى قوم لوط» .. فيسكن لذلك روع إبراهيم، وتطمئن نفسه، ويعلم أنهم رسل الله، قد أرسلوا بالهلاك(6/1170)
لقوم لوط.. إنهم لم يرسلوا إلى لوط، وإنما أرسلوا إلى قوم لوط، وليس لقوم لوط عند الله إلّا البلاء والهلاك..!
قوله تعالى: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» .
قائمة: أي كانت واقفة ترقب ما يكون بين إبراهيم وهؤلاء الضيفان الذين جاءوا إليه على تلك الصورة التي أخافته.. فلما سمعت منهم أنهم رسل الله ذهب عنها الرّوع، ولم تملك نفسها من إظهار الفرحة بهؤلاء الرسل الكرام الذين حلّوا بهم ضيوفا.. فضحكت..
وفى هذا ما يكشف عن طبيعة حبّ الاستطلاع عند المرأة، وأنها لا تملك نفسها من أن تتعرف إلى كل ما يدور حولها، مما يتصل بها أو لا يتصل بها.
هذا ويذهب بعض المفسرين فى تأويل كلمة «فضحكت» إلى أنها بمعنى «حاضت» ، وجاءوا لذلك بشاهد من اللغة، وجدوه فى قول الشاعر:
وضحك الأرانب فوق الصّفا ... كمثل دم الجوف يوم اللّقا
ومع أن الشاهد- إن صح- فإنه لا يدل على أكثر من أن استعمال الضحك بمعنى الحيض هو استعمال شاذ غير مألوف، وحمل القرآن الكريم على هذا الشاذ مما لا يليق ببيانه وبلاغته- ونقول مع هذا، فإن فى قول امرأة إبراهيم: «يا ويلتى أألد وأنا عجوز» منكرة أن تلد بعد أن جاوزت من اليأس- ما يبعد حمل لفظ الضحك على الحيض، لأنها لو كانت قد حاضت لما(6/1171)
واجهت ما بشّرها به رسل الله بهذا الإنكار الصريح! «يا ويلتى.. أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا.. إنّ هذا لشىء عجيب؟» .
وإسحق الذي بشرت به، هو ابنها.. أما يعقوب، فهو ابن ابنها إسحق.. وفى هذا توكيد لهذه البشرى، وأن ابنها هذا الذي بشرت به، سيولد له ولد هو يعقوب، وأن هذا الحفيد، هو أشبه بمولود ثان لها! «قالوا أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت..
إنه حميد مجيد» .
إنه أمر من أمر الله.. ومشيئة له.. فهل فى أمر الله إذا كان على غير ما يألف الناس- ما يثير العجب والدّهش؟ «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» (82: يس) .
- وفى قوله تعالى: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» تطمين لها، وتوكيد لهذه البشرى التي بشرت بها، وأنها رحمة من الله وبركة، على أهل هذا البيت الذين اختصهم الله برحمته وبركاته.. وإذ كانوا كذلك، فإن ما يتلقونه من الله من فضل لا يكون موضع عجب، وإن جاء على غير ما يعهد الناس، فإن لله سبحانه فى أوليائه ألطافا، لا ينالها غيرهم، ممن لم ينزلوا منازل رحمته ورضوانه! وأهل البيت: منصوب على الاختصاص.. ويجوز أن يكون منصوبا بالنداء: أي يا أهل البيت..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» إشارة إلى أنه- سبحانه- يحمد لعباده الصالحين ما يتقربون به إليه من طاعات وقربات، فيجزيهم على ذلك الجزاء الأوفى، ويرفعهم إلى منازل العزة والمجادة والشرف..(6/1172)
وإبراهيم عليه السلام، ممن أعطى الله كيانه كله، فأسلم له وجوده ظاهرا وباطنا.. فاستحق أن يحمد، ويمجّد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك.
«إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب» .
والأوّاه: كثير التأوه والشّكاة إلى الله، من تقصيره فى حقّه، والعجز عن الوفاء ببعض شكره.. وهذا شعور أهل التقوى.. لا يرضيهم من أنفسهم ما يقدمون من طاعات وقربات، وإن اجتهدوا، وبالغوا فى الاجتهاد.. إنهم دائما على شعور بأنهم مقصّرون فى حق الله.
والمنيب: الراجع إلى الله، التائب إليه..
وقد وصف الله سبحانه وتعالى إبراهيم بثلاث صفات: «إن إبراهيم لحليم.. أوّاه.. منيب» .. وهى صفات كلهن الكمال كله، والحسن جميعه..
وحسبه شرفا ورفعة أن يحلّيه ربه بصفة من صفاته سبحانه، وهى صفة «الحليم» تلك الصفة التي تزين الوجود كله، وتجمع الإحسان جميعه، وفى الأثر:
«الحلم سيد الأخلاق» .. فكيف إذا كان من حلم الحليم، الله رب العالمين؟
ولهذا قدّم على الصفات التي أضفاها الله سبحانه على إبراهيم، من التأوّه، والإنابة.
والآية التي جاءت قبل هذه الآية وهى قوله تعالى: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ» هى من سياق القصة، وقد جاء قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» وصفا كاشفا لإبراهيم، معترضا بين حدثين: تبشيره بالولد، ومجادلته فى قوم لوط.. وذلك ليأخذ كل حدث منهما بنصيبه من إبراهيم، وما اشتمل عليه من خلق كريم..(6/1173)
فهو أولا، قد استحق البشرى بهذا الولد، لأنه من أهل الله، وأنه حليم، أوّاه، منيب.
وهو ثانيا.. يسأل الله أن يلطف بقوم لوط، وأن يدفع عنهم هذا البلاء الموجّه إليهم.. لأنه حليم أواه منيب.. فهو إذ يرى فضل الله عليه، ورحمته به، يريد أن يكون للناس من حوله نصيب، من هذا الفضل، وحظ من تلك الرحمة..
ولكن لله سبحانه وتعالى حكمة فى عباده.. يختص برحمته من يشاء..
- وفى قوله سبحانه: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ» وفى جعل جواب «لمّا» فعلا مضارعا بدلا من الفعل الماضي الذي يقتضيه السياق- فى هذا إمساك بإبراهيم، وهو فى موقف المجادلة ليتلقّى وهو فى هذا الموقف، الأمر الذي وجهه إليه ربه، بالإعراض عما هو فيه، من مجادلة عن هؤلاء القوم، ودفاع عن جرمهم، وهذا ما جاء فى قوله تعالى:
«يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» .
والتقدير: فلما ذهب عن إبراهيم الروع، أي الخوف، وجاءته البشرى، ها هو ذا يجادلنا فى قوم لوط!! وفى هذا إنكار على إبراهيم أن يقف فى هذا الموقف، فيجادل عن قوم قد بلغوا من السوء ما أنكرته الأرض عليهم.
ثم لا يكاد إبراهيم يأخذ فى المجادلة حتى يجيئه أمر الله: «يا إبراهيم.. أعرض عن هذا» .
ولو جاء جواب «لمّا» فعلا ماضيا هكذا «جادلنا» لما كان لهذا الأمر،(6/1174)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
فى قوله تعالى: «يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» - هذا الوقع الصادع على نفس إبراهيم، ولأفلت من يده ما كان ممسكا به من المجادلة.. لأنه كان قد جادل فعلا، وانتهى الأمر! أمّا فى هذه الحالة، فهو لا يزال يسأل ربه العفو والرحمة لهؤلاء القوم، ولا تزال الكلمات على شفتيه.. فإذا سمع أمر الله بالإعراض عن هذا، أمسك لسانه وابتلع ما كان يجرى عليه من كلمات! وفى التعبير عن مراجعة إبراهيم ربّه فى قوم لوط بالجدل، وتسميته جدلا، إشارة إلى أن ما كان من إبراهيم، هو مجرد جدل، وأن الجدل لا يثمر ثمرا نافعا، ولا يبلغ بصاحبه غاية..
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان من إبراهيم فى هذا المقام، فقال تعالى: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» (31- 32: العنكبوت) .
وأنت ترى أن إبراهيم كان مجادلا للملائكة، ولم يكن مجادلا لله..
ولكنهم إذ كانوا رسل الله، والأمناء على ما أرسلوا به، فقد جعل جدله للملائكة، جدلا لله سبحانه وتعالى، وفى هذا تكريم لرسل الله، وإضافة لهم إلى الله رب العالمين.
الآيات: (77- 83) [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)(6/1175)
التفسير:
وتتصل أحداث قصة إبراهيم، بأحداث قصة لوط.. وينتقل المشهد من بين يدى إبراهيم إلى يدى لوط، وإذا هو وجها لوجه مع هؤلاء الرسل الذين يحملون الهلاك إلى قومه..
وكما كان لقاء الملائكة لإبراهيم لقاء مفاجئا، أثار فى نفسه ريبة، وأوقع فى قلبه خوفا، كذلك كان لقاؤهم للوط.. لقاء مباغتا له، ولكنه لم يلتفت إلى هؤلاء الوافدين عليه إلا من جهة واحدة، كانت هى همّه، ومبعث خوفه وقلقه، وهى أن يحمى هؤلاء الضيوف من عدوان قومه عليهم، وفضحه فيهم..
فقد طلع عليه الملائكة فى صورة سويّة من صور البشر.. فيهم الشباب، والنضارة، والجمال، وتلك هى مغريات قومه بهم.. وإنه ليرى عن غيب ما سيكون من قومه، إذا هم رأوا هؤلاء الضيوف الذين نزلوا بساحته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:(6/1176)
«وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ» .
سىء بهم: أي ساءه وآلمه نزولهم عنده، واحتماؤهم به.
وضاق بهم ذرعا: أي أحسّ العجز عن حمايتهم، لأنه يتصدّى وحده لقومه جميعا.. وأصل الذرع من الذراع التي يعملها الإنسان فى تناول الأشياء..
ثم استعملت استعمالا مجازيا فى الدلالة على قدرة الإنسان أو عجزه، حسب طول ذراعه أو قصرها.
والإحساس بالمسئولية الملقاة على لوط لحماية ضيوفه، هو الذي آلمه وأوجعه، وضيّق مسالك النجاة بهم فى وجهه، فقال: «هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ» أي يوم قاس، شديد الوقع على النفس، لما سيطلع عليه فيه من أحداث مزلزلة، توقعه فى هذا المأزق، وتفتح بينه وبين قومه مجالا فسيحا للصراع بين جبهتين غير متكافئتين! «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي.. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» .
ولقد وقع ما توقعه لوط.. وها هى ذى العاصفة تدور حول بيته، وتحطّم الأبواب.. فيقتحم القوم عليه الدار، وقد جاءوا سراعا من كل جهة، يتسابقون لإدراك هذا الصيد، قبل أن يفلت من أيديهم! «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» أي يسرعون إليه فى خفّة وطيش.
وانظر كيف تبلغ السفاهة بالقوم.. إنهم ليأتون الفاحشة فى غير مبالاة، ولا ستر من حياء! يأتونها جهرة وفى صورة جماعية، دون أن يجد أحدهم حرجا(6/1177)
أو استحياء! وهذا غاية التدلّى والإسفاف فى عالم الإنسان، إلى درجة لا ينزل إليها كثير من عالم الحيوان.. حيث تأبى على بعض الحيوان طبيعته أن يتصل بأنثاه على مرأى من بنى جنسه! بله اتصاله بذكر! الأمر الذي لم تعرفه الكائنات الحيّة، إلا فى هذا الصنف الرّذل الخسيس من الناس! - وفى قوله تعالى: «وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» عرض لسيرة هؤلاء القوم، وفضح لمخازيهم، وأن هذا الذي جاءوا إليه ليس ابن يومه، وإنما هو داء تعاطاه القوم من قبل، فكان طبيعة غلبت عليهم، حتى لقد صار عادة مألوفة عندهم، وأمرا مستقرا فيهم، ليس فيه ما يثير أي إحساس عندهم بالخزي أو الاستحياء..
وقد عبّر القرآن عن هذا المنكر الذي يتعاطونه بالوصف المناسب له، دون أن يذكر اسمه، تقزّزا له، وصيانة للأفواه أن تتلفظ به، وللأسماع أن يقع عليها..
ومن جهة أخرى، فقد جاء القرآن بوصفه جمعا.. هكذا: «السيئات» للدلالة على أنه منكر غليظ مركّب، وأنه ليس سيئة، بل هو سيئات، وليس منكرا، بل هو منكرات! - وفى قوله تعالى: «يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» دعوة لهم إلى أن يكون أربهم وشهوتهم للنساء.. لا للرجال، فذلك هو الوضع الطبيعىّ للحياة الإنسانية.. فهو- عليه السلام- يدعوهم إلى التزوج ببناته، وإلى التعفف بالزواج بالمرأة والاتصال بها، حتى يعفّوا عن ارتكاب هذا المنكر، والاتصال بالرجال..
وفى هذا يقول الله تعالى على لسان لوط لهم: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (28- 29 العنكبوت) .(6/1178)
ويقول سبحانه فى موضع آخر على لسان لوط أيضا: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» (165- 166: الشعراء) .
- قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» ..
والسؤال هنا: هل كان القوم مؤمنين بالله حتى يذكّرهم لوط باسمه تعالى، ويدعوهم إلى تقواه؟
والجواب: أنهم لو كانوا مؤمنين بالله، لما استعلن فيهم هذا المنكر على تلك الصورة التي سجّلها القرآن عليهم.. فإن الإيمان بالله يردّ الإنسان عن كثير من المنكر، ويقيم بين النّاس وازعا يزعهم من أن يخرجوا هذا الخروج السافر عن إنسانيتهم، وأن يتدلّوا هذا التدلّى المسفّ إلى مادون الحيوان.
فذكر الله هنا، إنما هو تخويف لهم، وتهديد بقوة الله، إن لم يتقوه، ويستقيموا على طريق المؤمنين.. وفى هذا تجاهل لإنكارهم الله والإيمان به، إذ لا معتبر لهذا الإنكار فى وجه الدلائل القائمة بين أيديهم على وجود الله، وكمال قدرته.
«قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ» .
لقد أنكر القوم على «لوط» ما دعاهم إليه من التزوج بالنساء، ومنهن بناته اللائي عرضهنّ عليهم، وذلك ليكون اتصالهم بالنساء صارفا لهم عن إتيانهم هذا المنكر مع الرجال! وقد جاء إنكارهم هذا فى صورة فريدة من الدناءة والخسّة والتجرّد من الحياء..(6/1179)
- «لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ» أي إنك لم تعرض علينا أمرا جديدا لتصرفنا عما نطلب.. فأنت تعلم مالنا فى بناتك من حق، وأننا نملك التزوج بهنّ من غير اعتراض.. فالتزوج بالنساء أمر متفق عليه بيننا وبينك، كما هو متفق عليه بين الناس جميعا.. ولكن ماذا عندك لنا فى هذا الذي نطلبه من الضيوف؟ «وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ» ! فهل فى بناتك أو بنات غيرك ما يحقق لنا هذا الذي نريده؟
ولا يجد لوط لهذه السفاهة جوابا، ولا يرى لهذا السوء الذي يراد بضيوفه مردّا..
«قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» !! وماذا يفعل لوط أمام هؤلاء القوم، الذين ركبوا رءوسهم، فانقلبت فى أعينهم أوضاع الأشياء، وتغيرت معالمها؟ إنه لو كانت بين يديه قوة لأخذ على أيديهم بها، ولعاملهم معاملة الكلاب المسعورة.. ولكن أنّى له القوة، وهو وحده، والقوم جميعا حرب عليه.. حتى امرأته!! كما أنه ليس هناك من يستعين به على هؤلاء القوم، ويطلب غياثه واللّياذ به، حتى يضمن الحماية لضيفه النازلين فى حماه؟
وهنا تجىء نجدة السماء، وتفتح للوط أبواب حصن حصين يأوى إليه، على حين تنزل على القوم صواعق الهلاك، فتأنى عليهم فى لحظة خاطفة! ومن عجب أن تطلع على «لوط» هذه القوى الرهيبة من موطن الضعف الذي كان يريد الدفاع عنه، والحماية له.. الضّيف الذين ظن أنهم وقعوا لقمة سائغة لأيدى هؤلاء القوم الآثمين، هم مطلع هذه النجدة! «قالُوا يا لُوطُ.. إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ.. لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ.. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ(6/1180)
مِنَ اللَّيْلِ.. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.. إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ.. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.. أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» .
لقد كشف الرسل عن أنفسهم للوط، فعرف، من هم؟ وما الأمر الذي جاءوا له؟ إنهم رسل الله، وقد جاءوا إليه بالمهلكات لقومه، وليخرجوه من بين هؤلاء القوم، حتى لا يقع عليه مكروه من البلاء الذي سيحلّ بهم.
- «إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» وإذ كنّا كذلك، فإنهم «لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ» ولن يستطيعوا أن يخلصوا إلينا، وينتزعونا من يدك..
- «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» ..
سرى، وأسرى، أي سار ليلا.. والقطع من الليل، هى البقية منه، قبيل دخول النهار.
والأمر الذي توجه به الملائكة إلى لوط، هو أن يخرج بأهله فى بقية من الليل، أي قبل أن يطلع الصباح، وألا يلتفت هو ومن معه إلى الوراء، حيث القرية التي خلفوها وراء ظهورهم..
وفى النهى عن الالتفات إلى تلك القرية ومن فيها، إشارة إلى أنها دار إثم، ومباءة فسق، ينبغى أن يقطع المؤمن كل مشاعره نحوها، فلا يتبعها بصره، ولا يلقى عليها نظرة وداع.. وهكذا ينبغى أن يكون شأن المؤمن مع كل منكر..
أن يعتزله، ويعتزل مواطنه، والمتعاملين به.. فلا يحوم حوله، ولا يمرّ بداره، ولا يتصل بأهله.. فإن المنكر مرض خبيث، يعلق داؤه بكل من يدنو منه..
أو يتنفس فى الجو الذي تفوح عفونته فيه! .. ولهذا فقد أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم المسلمين حين مرّوا بديار ثمود، وهم فى طريقهم إلى تبوك- أمرهم(6/1181)
أن يجدّوا فى السير، وألا يلتفتوا إلى هذه المواطن، وأن يغلقوا حواسهم عنها، حتى لا يدخل عليهم شىء منها.. شأنهم فى هذا شأن من يمرّ بجثث متعفنة، تهب منها ريح خبيثة، فيسدّ أنفه، وينطلق مسرعا حتى يبرحها.. وفى هذا درس عملىّ للتشنيع على المنكر وأهله.
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا امْرَأَتَكَ» إشارة إنى أن امرأة لوط لا تملك من أمرها ألّا تلتفت، بل هى مقهورة على الالتفات، والخروج عن هذا النهى، وذلك لما أراد الله لها من هلاك.. «إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» .. لأنها كانت مع القوم بمشاعرها وعواطفها، ولهذا التفتت إليهم، وخالفت أمر الله. بألا يلتفت أحد ممن خرج مع لوط من أهله.. ولم تفرّ منهم كما يفرّ المرء من بلاء طلع عليه، أو مكروه أحاط به، فكان أن أخذها الله بما أخذ به هؤلاء القوم الآثمين.. إنها منهم، وحقّ عليها ما حق عليهم: «إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» .
- «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.. أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» .. وفى هذا تطمين للوط، وأن ما بينه وبين القوم سينتهى مع مطلع هذا الصبح من ليلته تلك.. ثم هو من جهة أخرى حثّ للوط على أن يبادر الصبح قبل أن يطلع عليه، وأن يخرج من القرية ومعه بقية من الليل، حتى يبتعد عن القرية قبل أن يقع هذا الانفجار المهول، مع أول خيوط من ضوء الصبح.. «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟» فهذا استفهام تقريرى، بمعنى ألا ترى أن الصبح قريب.. فهيّا أسرع، وخذ أهبتك للخروج من هذه القرية، قبل أن يدركك الصبح، وتقع الواقعة! «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ.. وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» .
أي ولما جاء الصبح الموعود، وقع أمرنا الذي قضينا فيه بهلاك هذه القرية، فجعلنا عاليها سافلها، أي قلبناها رأسا على عقب، فذهبت كلّ معالمها، وأمطرنا(6/1182)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
على أهلها حجارة من سجيل، أي من صوّان أملس.. «مَنْضُودٍ» أي منتظم، كما تنتظم الحبات فى العقد.!
وهى حجارة.. «مُسَوَّمَةً» أي معلمة، وموسومة بسمات خاصة، «عِنْدَ رَبِّكَ» أي قد أعدّها الله سبحانه وتعالى، لهلاك الظالمين، أينما كانوا، وحيثما وجدوا..
- وفى قوله تعالى: «وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» .. تهديد لمشركى قريش، وتلويح بهذه الحجارة المرصودة لهلاك الكافرين والمحادّين لله- تلويح بها فى وجوه هؤلاء المشركين من أهل مكة وأنها قريبة منهم، وأنّهم على وشك أن يمطروا بها، وأن يصيروا هم وقريتهم إلى هذا المصير الذي انتهى إليه قوم لوط وقريتهم.
الآيات: (84- 88) [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 88]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)(6/1183)
التفسير:
وموقف شعيب مع قومه، هو موقف نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، مع أقوامهم.. دعوة منه لهم إلى الله، وإلى الإيمان به، والاستقامة على صراطه المستقيم.. وخلاف منهم عليه، وتنكّر لما كانوا يعرفونه منه، من خلق ودين! وأنبياء الله- صلوات الله وسلامه عليهم جميعا- كانوا عند أقوامهم قبل دعوتهم إلى الله، بالمنزلة العالية من الاحترام والتقدير، لحسن سيرتهم، واستقامة سلوكهم، فلما أعلنوا فيهم أنهم رسل الله، وأنهم يحملون إليهم كلمته، شغبوا عليهم، وأنكروا منهم ما كانوا يعرفون.. حسدا، وبغيا..
فهذا صالح- عليه السلام-، يقول له قومه: «يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا» وهذا شعيب- عليه السلام- يقول قومه له: «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» !! وهذا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- يقول له الحق تبارك وتعالى عن قومه: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..
وهكذا الأنبياء جميعا.. هم صفوة الله المصطفون من عباده.. يأخذون مكان الصدارة فى أقوامهم، وينزلون منهم منازل الإعزاز والإكبار، فى كمال الخلق، وحسن السيرة، حتى إذا آذنوهم بأنهم رسل الله إليهم، أنكروا منهم ما عرفوا، وأصبح ما كان بالأمس حبّا وإكبارا، عداوة وطعنا وتسفيها.(6/1184)
ومدين: على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام.. وقد نسب إليها القوم الذين كانوا يعيشون فيها، وهم قوم شعيب! ودعوة شعيب إلى قومه، هى دعوة كل نبى، جاء ليصحح عقيدة قومه التي لعبت بها الأهواء، وأفسدها الجهل والسفه..
فهو يدعوهم إلى الإيمان بالله، وترك ما بين أيديهم من معبودات غيره:
«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. تلك هى مفتتح دعوته، بل وخاتمتها.. فالإيمان بالله، وإفراده بالألوهية، هو الفلك الذي تدور حوله تعاليم الأنبياء، وهو الينبوع الذي ترتوى منه قلوب المؤمنين، والمغترس الذي تغتذى منه وجداناتهم ومشاعرهم، والمصباح الذي تستضىء به أبصارهم، وتهتدى به بصائرهم.. فإذا عرف المرء ربه وآمن به، عرف الطريق إلى كل خير، وتفتح قلبه لاستقبال كل رشاد..
ولهذا فقد جاءت دعوة شعيب لقومه، بألّا ينقصوا المكيال والميزان- بعد دعوتهم إلى الإيمان بالله: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ» .. وذلك أنهم لو آمنوا بالله لكان تقبلهم لدعوته تلك، أمرا مقبولا عندهم، لا يراجعونه فيه..
وفى قوله: «إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ.. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» تحريض لهم على الإيمان بالله، وإغراء لهم باستنقاذ أنفسهم من الهلاك، لأنه يتوسم فيهم الخير، ويضنّ بهم أن يكونوا من أهل الشقوة والبلاء فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. ويصحّ أن يكون قوله: «إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» مرادا به أنهم فى حال من الرخاء والنعمة وسعة الرزق، بحيث لا تضطرهم الحاجة إلى الخيانة فى الكيل والميزان. والرأى الأول أولى.
وفى وصف العذاب بأنه عذاب يوم محيط، إشارة إلى شناعة هذا العذاب(6/1185)
وأنه عذاب لا يفلت منه من حقّ عليه، ووقع تحت حكمه..
«وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» القسط، والقسطاس: العدل.. والبخس: النقص، واغتيال الحقوق..
وبخس الشيء: عدم أدائه على وجهه كاملا..
ولا تعثوا فى الأرض: عاث، يعيث عيثا، أي ضرب فيها من غير مبالاة، فيكون من ذلك التخبط والفساد.. ولهذا لا يستعمل هذا الفعل إلا مقترنا بالفساد.. تأكيدا له، واستخراجا لمحتواه ومضمونه.
وفى إعادة لوط دعوته إلى قومه بالوفاء بالكيل والميزان، توكيد لهذه الدعوة وتقرير لها، فهو قد نهاهم أولا عن إتيان هذا الفعل المنكر، ثم دعاهم إلى إتيان ما ينبغى لهم إتيانه، بعد أن ينتهوا عما نهوا عنه.. وهو أن يوفوا المكيال والميزان، وبهذا يجىء المطلوب منهم على وجهه كاملا.. فقد ينتهى المرء عن الشيء المكروه، ولكنه لا يفعل المحبوب الذي يقابله.. وذلك وقوف منه عند منتصف الطريق إلى الغاية المدعوّ إليها من بلوغ الخير.. وهو موقف سلبى، لا ترضاه الحياة منه.. وإنه لحسن أن ينتهى الإنسان عن الشر، ولكنه ليس بالحسن أن يكون أداة معطلة عن فعل الخير..
هذا، ولم يكرر شعيب دعوته لقومه إلى الإيمان بالله، لأنه جاءهم بها من أول الأمر، أمرا لازما: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ثم جاءهم بها فى دعوة تطبيقية لها، فى قوله تعالى بعد ذلك:
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» أي أن ما تدخرونه عند الله من أجر، وما تستبقونه عنده مما يفوتكم من حظوظ الدنيا، هو خير لكم، وأبقى.. وإنكم لتعلمون هذا إن كنتم مؤمنين بالله،(6/1186)
وما له من سلطان وحكم فى عباده.. ولست عليكم رقيبا، يحفظ عليكم أعمالكم، ويحاسبكم عليها، إنما ذلك إلى الله وحده.. وإنما أنا نذير مبين، أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
«قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» .
وبهذا المنطق السفيه، يردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي يدعوهم إليها نبى كريم، بلسان عفّ، وبأسلوب يفيض رقّة وحنانا ومودة..
«يا شُعَيْبُ» !؟ هكذا فى جفاء وغلظة، ينادونه باسمه مجردا، دون أن يضيفوه إليهم بنسب، كأن يقولوا: يا أخانا، أو يا أبانا، أو يا ابننا.. أو نحو هذا.. ثم يتبعون هذا قولهم فى استهزاء وسخرية: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» ؟ وهم يريدون بالصلاة، الدّين الذي يدين به، إذ كانت صلاته التي يرونها منه، هى المظهر العملي لهذا الدين.!
يعنون بهذا أن الدين الذي يدين به ويدعوهم إليه- هو الذي حمل شعيبا على أن يدعوهم إلى ترك ما كان يعبد آباؤهم من آلهة، وإلى ترك التصرف فى أموالهم، والتسلط عليها حسب ما يشاءون؟ أفهذا دين يدين به العقلاء؟ وأي دين هذا الذي يخرج الناس عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم؟ وأي دين هذا الذي يدخل على الإنسان فيما بينه وبين ما فى يديه من مال، فلا يدعه يتصرف فيه كما يشاء.. ويشترى بالأسلوب الذي يرضاه، ويبيع بالوجه الذي يعجبه؟
فما للدين ولهذا؟ فليزن المرء بالميزان الذي يحقق له الربح، وليكل بالمكيال الذي يضاعف من ربحه! فذلك حقّنا فى أموالنا! ولا ندرى كيف ساغ لشعيب هذا الدين الذي يذهب به هذا المذهب المجانب للصواب، والمجافى للعقل، وهو- فيما نعلم- الحليم الرشيد؟ أفهذا يكون من حليم رشيد؟(6/1187)
هكذا كان منطق القوم مع تلك الدعوة الكريمة، ومع هذا النبي الكريم.. يسخرون منه، ويسفّهونه، ويستحمقونه، وهم- على ما كانوا يعهدون منه- الحليم الرشيد.. «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» .
والحليم: من الحلم، وهو العقل.. وهو ضد السفاهة، والجهل..
كما يقول الشاعر:
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جنّا إذا ما نجهل
والرشيد، ذو الرشد، وهو الكامل العقل..
وكذلك كان شعيب عليه السلام، غاية فى كمال العقل. وسلامة الإدراك.
«قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ.. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .
وبمنطق الحليم الرشيد، يردّ شعيب على قومه: «يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً؟» .
أي إذا كان هذا ظنكم بي، وتقديركم للدعوة التي أدعوكم إليها، فكيف يكون الحال لوأننى كنت على بينة من ربّى، وعلى نور وهدى منه، وأن ذلك رزق حسن رزقنى الله إياه، وأنا أدعوكم إلى مشاركتى فى هذا الرزق الحسن- كيف يكون الحال إذن لو فاتكم حظكم من هذا الخير الذي أرتاده لكم وأوردكم موارده؟ .. إننى لا أبغى من وراء هذا الذي أدعوكم إليه إلا خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم، وما أريد أن أصرفكم عن هذا الذي أنها كم عنه لأخلفكم عليه، وأستأثر به دونكم.. فما أنتم عليه إلا الضلال، وإلا الهلاك، الذي ليس للعاقل إلا اجتنابه، والفرار منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى(6/1188)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
- «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» .. أي لا أريد بدعوتكم إلى ترك عبادة الأصنام، أن أعبدها، وأستخلص عبادتها لى من دونكم.. وما أبغى بدعوتكم إلى الوزن بالقسطاس، والكيل بالعدل، أن أعود أنا فأخسر المكيال والميزان، وأستأثر بهذا الربح الحرام الذي كان يعود إليكم، من تلاعبكم بالمكاييل والموازين.. كلا «ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» ..
يقال: خلفه، وخالفه: أي جاء خلفه، وأخذ مكانه الذي كان فيه.
- «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» أي هذا هو كل الذي أبغيه مما أدعوكم إليه، ما أريد به إلا الإصلاح، إصلاح أمركم، وإقامة ما أنتم فيه من زيغ وعوج، وذلك فى حدود ما أقدر عليه. وهو النصح لكم، وليس لى أن أكرهكم على شىء ولو كان فى يدى السلطان القاهر..
- «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» فإذا وفّقت إلى بلوغ هذه الغاية التي أريدها.
أو إلى شىء منها، فذلك بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.. وليس ذلك من عملى، فما أنا إلا زارع يزرع، والله سبحانه هو الذي ينبت الزرع، ويخرج الحبّ والثمر..
- «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. أي أننى معتمد على الله، مستند إليه فى سعيى وعملى، وراجع إليه فيما أسعى وأعمل.. فهو سبحانه الذي يملك كل شىء.. ويملك منّى ما لا أملك من نفسى.
الآيات: (89- 95) [سورة هود (11) : الآيات 89 الى 95]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)(6/1189)
التفسير:
«وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» .
لا يجر منّكم: أي لا يحملنّكم على كسب الجرم، وإتيان المنكر..
والشقاق: الخلاف عن عناد.. وفى هذه الآية يتابع شعيب- عليه السلام- النصح لقومه.. وفى كل مرة يدعوهم إليه بتلك الكلمة الودود: «يا قَوْمِ» أي يا أهلى، ويا أحبابى. «لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي» أي لا يكن عنادكم لى، وخلافكم علىّ، سببا فى ارتكاب هذا الجرم الغليظ فى حق أنفسكم، فتقتلوا أنفسكم بأيديكم! إن امتناعكم عن الاستجابة لى، وعن قبول الخير الذي أبسط به يدى إليكم، هو جريمة تقترفونها فى حق أنفسكم، وتتعرضون لأن(6/1190)
يصيبكم من الله ما أصاب الظالمين من قبلكم.. قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط الذين لم يبعد الزمن كثيرا بينكم وبين ما حلّ بهم من عذاب الله ونقمته..
وقد جاءت قصص هؤلاء الأقوام فى القرآن الكريم حسب ترتيبها الزمنى.. قوم نوح، ثم قوم هود، ثم قوم صالح، ثم قوم إبراهيم وقوم لوط، ثم قوم شعيب، ثم موسى وقومه.. ولم يكن التزام القرآن لهذا الترتيب متابعة لمنطق التاريخ فى تسجيل الأحداث، وإنما لغاية أبعد من هذا وأعمق.. هى ما ينكشف من تسلسل الأحداث على هذا الترتيب، من تطوّر الإنسانية، وانتقالها من طور الطفولة، إلى أطوار الصبا، والمراهقة، والشباب.. حتى تبلغ تمامها عند التقائها بالرسالة الإسلامية «1» على يد خاتم المرسلين «محمد» عليه صلوات الله وسلامه.
«وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» .. أي فإن استمعتم نصحى، واستجبتم لى، فأقبلوا على الله مستغفرين تائبين.. «إِنَّ رَبِّي» الذي أدعوكم إليه «رحيم» بعباده، «ودود» لهم- بما يضفى عليهم من رحمته، وفضله، ورضوانه! وفى العدول عن لفظ «ربكم» الذي يقتضيه النظم- إلى قوله: «ربى» تحريض لهم على مشاركته فى الانتساب إلى هذا الرب الرحيم الودود، ربّ شعيب الذي أضاف نفسه إليه، ونال مانال من رحمته وودّه.. أما إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» فهى إضافة قهر وإلزام، رضوا بذلك أم لم يرضوا، آمنوا به أو لم يؤمنوا.. والمطلوب منهم
__________
(1) اقرأ فى هذا دراستنا لهذه القضية فى كتابنا «إعجاز القرآن» - الجزء الثاني.(6/1191)
هو أن يضيفوا هم أنفسهم إلى الله، وأن يؤمنوا به، حتى ينالوا رحمته وودّه وبغير هذا، فإنهم مطرودون من رحمة الله، مبعدون من ودّه.. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» (96: مريم) .
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» .
«يا شُعَيْبُ!» هكذا، وفى كل مرة، ينادونه باسمه مجردا.. فى جفاء..
وغلظة.. على حين أنه يناديهم أبدا بيا قوم، متوددا متلطفا! وشتان بين أدب النبوة، ومنطق السفهاء! - «ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» .. أي إنك تخلط فى كلامك، وتأتى بالمحال من القول، فلا نفقه ما تقول، ولا نرى له مدخلا إلى عقولنا.. وإنا إذ نزنك بنا نجدك ضعيف الرأى، طائش الحلم، «وَلَوْلا رَهْطُكَ» أي قرابتك وأهلك الأدنون، «لَرَجَمْناكَ» إذ لا يحق للسفيه الأحمق أن يعيش بين العقلاء! «وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» إذ كانت تلك صفتك، وهذا هذيانك فينا..!
«قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .
إن شعيبا ينتسب إلى الله، ويخلى يده من كل نسب إلى أهل وقرابة..
فكيف يبقون عليه من أجل رعايتهم لأهله، ولا يجعلون لنسبته إلى الله حسابا عندهم؟ «يا قَوْمِ.. أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ» وقد جئتكم من عنده، أدعوكم إليه باسمه، وأحمل إليكم رسالته؟ .. ولكن هكذا أنتم فى جهلكم وضلالكم، قد نظرتم إلى أهلى، وقدّرتموهم قدرهم، ولم تنظروا إلى الله،(6/1192)
سبحانه، ولم تقدروه قدره «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» أي جعلتموه من وراء ظهوركم، لا تنظرون إليه، ولا تعملون له حسابا «إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» أي عالم، محيط علمه بكل ما تعملون، ولن تفلتوا من عقابه وعذابه..
«وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» هذه هى خاتمة المطاف فيما بين شعيب وقومه.. إنه يتركهم وشأنهم، بعد أن بلّغهم رسالة ربه، وبالغ فى إبلاغها إياهم.. «اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» أي اعملوا على ما أنتم مقيمون فيه من كفر وضلال.. «إِنِّي عامِلٌ» على ما أنا عليه، مما تعلمونه منّى وتنكرونه علىّ.. «سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» فسينجلى لكم الأمر، ويتكشف لكم الحال عن عملكم وعملى، وسيطلع عليكم من عملكم عذاب يخزيكم، ويؤمئذ تعلمون من هو الكاذب، ومن كان فى ضلال مبين.. أما متى ذلك؟ فعلمه عند ربّى، ولكنه آت لا ريب فيه، فانتظروا يومكم هذا «وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» ..
وقد جاء النظم القرآنى بلفظ «رقيب» بدل «مرتقب» الذي يقتضيه النظم ليدلّ على أن شعيبا فى المكان الذي يشرف منه على هؤلاء القوم، وهم المنزل الدّون الذي يلقون فيه العذاب المهين! إنه رقيب، يقوم على مرقب عال، كما يقوم القاضي على منصة القضاء.
«وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» ..
وحين جاء أمر الله، ودنت ساعة القصاص من هؤلاء القوم الضالين، نجّى الله شعيبا والذين آمنوا معه، وحملهم على جناح رحمته، إلى مرفأ الأمن والسّلام..(6/1193)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
«وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» فكان العذاب الذي أخذوا به هو «الصيحة» التي رجفت بها الأرض من تحتهم، فجمد الدم فى عروقهم، خوفا وفزعا.. فلم يتنفس أحد منهم بعدها نفسا..
وهذه الصيحة هى التي أهلك الله بها قوم صالح، كما يقول سبحانه فى هذه السورة:
«وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» (الآية 67) .. ولهذا جاء قوله تعالى:
«كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها.. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ» .. فهو موقف واحد، ومصير واحد.. موقف على مرتع الإثم والضلال، ومصير إلى الهلاك والبلاء فى الدنيا، وإلى النار وعذاب السعير فى الآخرة..
الآيات: (96- 109) [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 108]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)(6/1194)
التفسير:
هكذا تختم قصص هذا الصراع، بقصة موسى مع فرعون.. ولا تذكر تفاصيل هذه القصة، بل تجىء فى هذا العرض الموجز، المعجز، الذي يجمع- على إيجازه- كلّ مضمون القصة، ويكشف عن الملامح البارزة فيها، أما من أراد التفاصيل. ففى غير موضع من القرآن الكريم يجد ذكرا لهذه القصة، وفى كل موضع، يقع على مضمون القصة كاملا، ثم يجد بين يديه حدثا من أحداثها التي تتشكل منها.. وهكذا يلتقى قارئ القرآن آخر الأمر بقصة موسى وفرعون كاملة، فى مجريات أحداثها، ومواقف أشخاصها.. وإن التقى بها أكثر من مرة فى معارض مختلفة الشكل، متفقة المضمون..
كما سنبين ذلك فى مبحث «التكرار فى القصص القرآنى» ..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» ..(6/1195)
والآيات التي أرسل بها موسى هنا، هى الآيات المادية، التي أراها لفرعون، معجزات متحدية، تشهد له أنه رسول من ربّ العالمين، وهى تسع آيات، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» (101- 102: الإسراء) والآيات التسع هى: العصا، ويده التي كان يدخلها فى جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ.. فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» (31- 22: القصص) ..
ثم خمس الآيات التي ذكرها الله تعالى فى قوله: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» (133:
الأعراف) ..
أما الآيتان الأخريان، فهما: أخذهم بالسنين المجدبة، والنقص فى الثمرات، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) ..
أما السلطان المبين، فهو ما كان لموسى بهذه الآيات، من قوة قاهرة على فرعون، إذ أعجزه بها، وأخزاه، ثم ساقه قدره، فكان من المغرقين! ..
- وفى قوله تعالى: «فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ»(6/1196)
إشارة إلى ما كان من فرعون وملائه عند لقاء تلك المعجزات، وأنهم كفروا بها، واتبعوا فرعون فى خلافه على موسى.. ولم يكن اتّباعهم فرعون ليدنيهم من خير، أو يمكن لهم من هدى.. فما دعاهم فرعون إلا إلى ضلال، وما ساقهم إلا إلى هلاك.. إنه أمر بالفحشاء، ودعوة إلى بلاء! ..
«يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. إنه إمامهم فى الآخرة، كما كان إمامهم فى الدنيا.. وهو إمام ضال، لا يتبعه إلا ضالون.. وهكذا من يلقى رمامه إلى غيره، من غير نظر إليه، أو تدبّر فى أمره.. «وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» أي بئس هذا المورد الذي ورده القوم.. إنه النار وكفى بالواردين إليها ضياعا، وبلاء! وفى التعبير عن ورودهم النار- بالفعل الماضي، مع أنهم لم يردوها بعد، إشارة إلى أن ورودهم إياها أمر محقق، وأن أعمالهم التي تلبسوا بها فى هذه الدنيا، من كفر وضلال، هى المركب الذي يسير بهم إلى النار.. فهم- والأمر كذلك- سائرون إلى النار، موقوفون عليها، لا مورد لهم سواها.
«وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» .. الإشارة هنا إلى الدنيا، ولم تذكر، استخفافا بها، وامتهانا لها، لا من حيث أنها دنيا، بل لأنها دنياهم هم التي لم يحسنوا العمل فيها، ولم يخرجوا منها بزاد طيب يتزودون به ليوم القيامة.. وإلا فهى دار طيبة لمن أحسن العمل، وغرس فى مغارس الخير والإحسان..
واللعنة التي أتبعتهم فى هذه الدنيا، هى ما يرميهم به الناس بعدهم، من لعنات،(6/1197)
حيث تذكر سيرتهم، فلا يرى فيها الناس إلّا عوجا، وزيغا، وفسادا فى الأرض.. وكذلك شأنهم فى الآخرة، حيث يراهم المؤمنون، وقد وردوا هذا المورد الوبيل، وباعوا آخرتهم بهذا الثمن البخس الذي باعوها به فى دنياهم، من متاع زائل، وسلطان زائف! فيرمون باللّعنات.. «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» ..
«بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ» .. الرفد: العطاء بعد العطاء، ويستعمل فى مواضع الخير، والإحسان.. وقد استعمل هنا فى العذاب والبلاء، ليدلّ على أن ما يرفدون به، هو اللعنة، وأنها هى الإحسان الذي يمكن أن يحسن به إليهم، إذ لا عطاء لهم إلا من هذا المورد الذي وردوه، وليس فيه ما يعطى إلا النكال والسوء! «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ» الإشارة هنا إلى هذا القصص الذي قصه الله فى هذه الآيات، الكريمة.. والخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه، والقرى: هى قرى أولئك الأقوام الذين أهلكهم الله، وصبّ عليهم نقمته، بعد أن ساق إليهم رحمته على يد رسله فردّوها، وآذوا المرسلين إليهم بها..
«مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ» أي من هذه القرى ما هو «قائم» أي باق لم تضع كل معالمه بعد، ومنها ما هو «حصيد» قد اندثر، وذهبت معالمه.. وقد شبهّت القرى بالزرع، لما فيها من حياة، ولما تتعرّض له هذه الحياة من صور التبدّل والتحول.. فتخضرّ، وتورق، وتزهر، وتثمر.. ثم تنضج، وتحصد..
وهكذا تلبس القرى من صور الحياة ما يلبس الزرع من تلك الصور!(6/1198)
«وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» أي أن أهل هذه القرى، الذين أهلكهم الله، لم يكن إهلاكهم بظلم من الله لهم، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم، بحجزها عن الخير، وسوقها إلى هذا البلاء الذي أخذهم الله به..
«فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» .. أي أن آلهتهم، لم تردّ عنهم بأس الله إذ جاءهم، ولم تمدّ إليهم يدا تستنقذهم من هذا البلاء الذي هم فيه.
«وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ» أي أن هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله لم تزدهم إلا خسرانا إلى خسران، وعذابا إلى عذاب، وحسرة إلى حسرة، وذلك حين ينادونهم فلا يسمعون لهم، ويستصرخونهم، فلا يخفّون إليهم..
وهنا يرون أنهم كانوا مخدوعين بهم، وأن تلك الآلهة هى التي خدعتهم وأضلتهم.. حتى إذا جدّ الجدّ تبرءوا منهم، وضلّوا عنهم.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا.. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» (167: البقرة) .. والتتبيب، والتباب: الخسران، والبلاء.
«وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» أي مثل هذا الأخذ بالهلاك والعذاب، يأخذ الله القرى الظالمة.. وفى هذا تهديد للمشركين من قريش، وتلويح لهم ولقريتهم، بهذا المصير الذي صارت إليه القرى الظالمة وأهلها..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ.. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» .. الإشارة هنا إلى هذه الأحداث التي مرت بتلك(6/1199)
القرى الظالمة، وما حلّ بها وبأهلها من سوء.. ففى هذا عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، أي آمن بالله، وباليوم الآخر، وعمل لنفسه من أجل هذا اليوم، حتى لا يقع تحت طائلة العذاب الذي أعده الله للظالمين، المكذبين بالله، وبهذا اليوم.. وهو يوم يجتمع له الناس جميعا، بعد أن يبعثهم الله من قبورهم، وهو يوم مشهود، يشهده الناس جميعا، ويرون ما يقع فيه من أهوال، وهو يوم عظيم.. للأحداث العظيمة التي تقع فيه.
«وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ» .. أي إن هذا اليوم آت لا ريب فيه، وإن تأخيره إنما هو لاستيفاء الأجل الذي قدّره الله لهذا اليوم.
«يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» أي يوم يأتى هذا اليوم، ويعرض فيه الناس على ربّهم، لا تملك نفس من أمرها شيئا، فلا تنطق بكلمة حتى يؤذن لها من الله سبحانه.. وذلك لهول الموقف، الذي تخمد فيه الأنفاس، وتخرس الألسنة.. وهم بين شقىّ وسعيد.. شقى بما حمل على ظهره من أوزار، وما قدم بين يديه من سيئات.. وسعيد بما جاء به إلى ربّه من عمل صالح يزكّيّه إيمان بالله، وبهذا اليوم الذي هو فيه.
«فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ» .. وتلك هى حال من أحوال الذين غلبت عليهم شقوتهم، وأدانهم الدّيان فى هذا اليوم المشهود.. وذلك هو بعض ما يكون لهم فى هذا اليوم، وما يشهده أهل الموقف منهم.. «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ» ..
وفى تقديم «الزفير» وهو دفع النفس إلى الخارج، على «الشهيق» الذي هو أخذ النّفس إلى داخل الجوف.. وذلك على خلاف ما تتنفس الكائنات الحية، حيث تأخذ الهواء شهيقا، ثم تدفع به إلى الخارج زفيرا.. فى هذا(6/1200)
ما يكشف عن تلك الحال السيئة التي يعانيها هؤلاء الذين شقوا.. إنهم لا يتنفّسون كما يتنفّس النّاس، فيأخذون الهواء شهيقا، ويتنفسون أنفاس الحياة منه، ثم يلقونه زفيرا، بعد أن يأخذ الجسم حاجته منه.. كلا، وإنما همّهم كلّه هو أن يلقوا بهذا الهواء الذي تغلى به صدورهم، فهم فى «زفير» متصل متقطع.. وأما الشهيق فهو نار تلظّى، لا يكاد أحدهم يأخذ جرعة منه حتى يردّها زفيرا.. ثم يعيدها شهيقا.. وهكذا: يتنفّسون نارا، من داخل صدورهم، ومن خارجها على السواء..
«خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ.. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» أي أنهم يظلّون فى هذا العذاب أبدا، لا يتحولون عنه، «ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» .. والسماوات باقية، والأرض باقية.. فحياتهم فى النّار مرتبطة ببقاء السماوات والأرض.. فهل عندهم من حيلة ليبدّلوا هذا النظام القائم؟ فليحاولوا إذن.. ولينطحوا هذا الصخر.. إن كان فيهم بقية من قدرة على أن يحرّكوا رؤسهم! «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» لا يملك أحد معه شيئا، ولا يستطيع أحد أن ينقض من حكمه شيئا..!
«وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» ..
العطاء غير المجذوذ: أي غير الناقص.. أي عطاء كاملا، ونعمة سابغة، لا يدخل عليها ما يكدر صفوها، أو يذهب بشىء من لذاذاتها التي وجدوها فى أنفسهم لها..
وهنا سؤال.. وهو: ماذا يراد بقوله تعالى: «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» ؟ وهل هو استثناء داخل على تأييد الخلود فى النار أو فى الجنة، الذي يفهم من قوله تعالى:(6/1201)
«خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» ؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول فى أصحاب الجنة: «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (21- 22: التوبة) ؟ ويقول سبحانه فى أصحاب النار: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (64- 65: الأحزاب) ؟
ما تأويل هذا؟ وقد جاء الخلود مؤكدا بالتأبيد، لأصحاب النار فى النار، ولأصحاب الجنة فى الجنة؟
والجواب- والله أعلم- أنه لما كان قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» يشعر بأن هذا الخلود، هو خلود قائم على حال واحدة، لا تتحول فيه بأهل الجنة أو النار الأحوال، ولما كان مثل هذا الخلود المطّرد على وجه واحد، هو شبيه بالعدم، لا يجد فيه المنعّم طعم النعيم، ولا يذوق منه المعذّب آلام العذاب، بعد أن يدوم ويتّصل على هذه الصورة المطردة- لما كان ذلك مما يمكن أن يفهم من قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» - فقد جاء قوله سبحانه: «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» استثناء من مفهوم الخلود المطّرد، الذي يقع تحت مشيئة الله، فتجرى عليه أحكام التبديل، والتحويل، الذي هو سنّة الله فى خلقه، كما يقول الحقّ جلّ وعلا: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29: الرحمن) .
وعلى هذا، فإن خلود أهل الجنة فى الجنة، وخلود أهل النار فى النّار ليس على صورة واحدة، لا تتغير أبدا، ولا تنتهى أبدا.. إذ لو كان ذلك لكان معناه المشاركة لله سبحانه فى دوامه الأبدى، المنزّه عن التحول والتبدّل..
ولكن خلود أهل الجنة وأهل النار، إنما هو خلود يصحبه تنقّل من حال(6/1202)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
إلى حال، على مدى الأزمان الطويلة، فتلبس أهل الجنة أحوال وصور، كما تلبس أهل النار أحوال وصور.. فى رحلة طويلة على سفينة الكون السابحة فى رحاب هذا الوجود..!
ومن يدرى.. فلعله يكون لأهل الجنة وأهل النار انتقال من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم.. هكذا فى دورات وأطوار «مادامت السموات والأرض» أي مادام هذا النظام السماوي والأرضى قائما، وهو نظام واقع تحت حكم التبدل والتحول، كما يقول سبحانه «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) كما أنه واقع تحت حكم الزوال والفناء، كما يقول جل شأنه: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .
الآيات: (109- 115) [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 115]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)(6/1203)
التفسير:
بعد هذا العرض الذي حشرت فيه الآيات القرآنية الكريمة الناس إلى ربهم، وساقتهم إلى موقف الحساب والجزاء بين يديه، وسيق أهل النار إلى النار، وعذابها وبلائها، وزفّ أهل الجنة إلى الجنة، وطيباتها ونعيمها- عادت الآيات لتلقى النبىّ الكريم، بما وجد فى مشاعره من تلك المشاهد التي شهدها ليوم القيامة، وهو أنّ للظالمين يوما عبوسا قمطريرا، وأن العاقبة للمتقين.. فيقول له الحقّ تبارك وتعالى:
«فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ.. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ» ..
والمرية: الشكّ والارتياب.. وما بالنبيّ الكريم شكّ ولا ارتياب، فى أنّ ما يعبده قومه هو الضلال المودي بأهله، والمورد لهم موارد الهلاك والبلاء..
ولكن هذا النهى، هو تأكيد لما فى قلب النبىّ من إيمان بربّه، وتثبيت له على الطريق الذي هو قائم عليه، وإن لقى فيه مالقى من ضرّ وأذى! وفى الإشارة إلى المشركين من قريش بقوله تعالى: «هؤلاء» دون ذكرهم، هو تهوين لشأنهم، واستخفاف بقدرهم، إذ كانوا على هذا السخف والضلال، وإذ كانوا بحيث يعطون مقودهم لأحجار ينحتونها بأيديهم، ثم يقيمونها آلهة وأربابا عليهم! والآباء المذكورون فى قوله تعالى: «ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ» ..(6/1204)
قد يراد بهم آباؤهم الأبعدون، من قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين- الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن كفرهم وضلالهم.. وقد يراد بهم آباؤهم الأولون، من قريش! فالناس هم الناس، والأجيال اللاحقة غرس الأجيال السابقة.
وعلى أىّ فالنّسب متصل إلى أن تضمه تلك الدائرة الكبرى التي تضم هؤلاء الآباء، قريبهم، وبعيدهم، جميعا، وتجمعهم على طريق واحد، هو طريق الكفر والضلال.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم سيوفّون نصيبهم من العذاب، كاملا لا ينقص منه شىء..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» .
الكتاب هنا، هو التوراة.. وهو الذي نزل على موسى، كما نزل القرآن على محمد- عليهما السلام- وقد اختلف بنو إسرائيل فى كتابهم هذا، وتغايرت أنظارهم عليه، وكثر جدلهم فيه، فكانوا فرقا وأشياعا، يكفّر بعضهم بعضا.. وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (19: آل عمران) ويقول سبحانه: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (213:
البقرة) .
- وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» ..(6/1205)
الكلمة هى كلمة الله بأن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، وألّا يعجل لهم العذاب فى الدنيا، وهذا ما يسير إليه قوله تعالى: «وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» (14: الشورى) فلولا هذه الكلمة «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» وأخذ الله الظالمين منهم بما أخذ به الظالمين من الأمم السّالفة قبلهم، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، يلقون عنده جزاء الظالمين.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» .. الضمير فى:
«إنهم» يعود إلى أهل الكتاب المعاصرين للنبىّ، وهم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين اختلفوا فيه، وقد أشار إليهم قوله تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» فآباؤهم قد اختلفوا فى كتابهم هذا، وتفرقوا شيعا وأحزابا، وأبناؤهم الذين أورثوا هذا الكتاب من بعدهم، فى ريب منه وفى شك فيه، إذ أورثهم هذا الخلاف الذي وقع بين آبائهم فى الكتاب- حيرة، وقلقا، واضطرابا، حيث يجدون لكل أمر جاءهم به الكتاب أكثر من وجه من وجوه الرأى، وأكثر من مذهب من مذاهب الخلاف، فتتفرق بهم السبل، وتزيغ الأبصار، وتضل العقول.. فلا يكون لهم من نظرهم فى الكتاب إلا الارتياب والشك.
«وإن كلّا لمّا ليوفّينهم ربّك أعمالهم إنه بما يعملون خبير» .. أي وإن كلّا من الآباء الذين اختلفوا فى الكتاب، والأبناء الذين ورثوا هذا الكتاب وارتابوا فيه- إن كلّا من هؤلاء وأولئك ليوفينهم ربك أعمالهم، ويجزى كلّا ما هو أهل له.. «إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .. يزن عمل كل واحد بميزان العليم الخبير، ويجازيه عليه جزاء القادر القاهر.(6/1206)
ووصف الله سبحانه وتعالى هنا بأنه «خبير» ، لأن هذه الصفة هى المناسبة للمقام، إذ كان الخلاف الذي كان بين الآباء فى الكتاب، والريب الذي فى صدور أبنائهم منه، لا يكشفه، ولا يعلم الحق من الباطل فيه، إلا عليم خبير.
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» تحذير لأصحاب القرآن الكريم من أن يختلفوا فيه، فيضلّوا كما ضل اليهود قبلهم، ثم لا يقف الأمر عند هذا، بل يورّثون أبناءهم من بعدهم الشّك والريب فى القرآن، كما ورّث اليهود أبناءهم من بعدهم الشكوك والرّيب. فى التوراة، الأمر الذي أو هى صلتهم بها، وجرّأهم على التلاعب بأحكامها، وتبديل كلماتها وتحريف نصوصها.. فكانوا كما وصفهم الله سبحانه بقوله: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46:
النساء) .. وهذه هى صفات من لا يثق فيما بين يديه من الأمر الذي يشغل به..
وقد وصفهم الله سبحانه كذلك فى موضع آخر بقوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155: النساء) .. إنه إيمان لا ينزل من القلب مكان الاطمئنان، واليقين، وإنما هو إيمان سطحى.. له ظاهر وباطن، أشبه بظاهر المنافق وباطنه! «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
فهذا هو الذي ينبغى أن يكون عليه النبىّ والمؤمنون معه إزاء القرآن الكريم.. وهو الاستقامة على وجه واحد فيه، والوقوف به عند مفاهيمه التي تنطق بها كلماته، دون الالتواء بها، والجدل العقيم فيها.. حتى لا يقع فيه(6/1207)
خلاف، ولا يختلف فيه المسلمون، مثل هذا الاختلاف الذي أفسد على اليهود دينهم..
والأمر للنبىّ الكريم هنا، هو توكيد لهذا الأمر بالنسبة إلى المؤمنين..
فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مستقيم استقامة مطلقة كما أمر الله مع الكتاب الذي أنزله الله عليه، فإذا جاءه الأمر بعد هذا بالاستقامة، فإنما ليرى المؤمنين أن أمر الاستقامة مع القرآن الكريم، يحتاج إلى احتراس شديد، ورقابة دائمة، حتى يحتفظ المؤمن بهذا الوضع المستقيم، مع كتاب الله. وإلا انحرف وضلّ.. وأن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مع ما هو عليه من استقامة مع كتاب ربّه، فإنه قد نبّه إلى هذا، وأمر به، فكيف بغيره من المؤمنين؟
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَطْغَوْا» تأكيد للأمر بالاستقامة على كتاب الله، كما أمر الله.. والطغيان هو مجاوزة حدّ الاعتدال فى أي أمر من الأمور، والخروج به عن الوضع السليم الذي ينبغى أن يوضع فيه.
والمراد بالطغيان هنا، الطغيان فى الاختلاف فى كتاب الله، ومجاوزة الحدّ فيه، وهذا يعنى أن الاختلاف فى ذاته أمر لا حرج منه، بل إنه أمر لا بدّ منه، إذ كان من شأن النّاس أن ينظروا إلى الأمور بعقولهم، ويزنوها بمدركاتهم..
وبعيد أن تتلاقى عقولهم وأن تتعادل موازينهم، على حد سواء.. فكان الاختلاف بينهم أمرا لا يمكن اجتنابه، بل لا يمكن أن تقوم حياتهم بغيره.
ولكن الذي لا يحمد من أمر هذا الاختلاف، هو أن يكون عن هوّى جامح، لا يراد منه البحث عن الحقيقة، بل غايته المراء والإعنات، وذلك هو طغيان، وعدوان على الحقيقة، وتضييع لها..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» إشارة مضيئة مشرقة، إلى أن الاختلاف ينبغى أن يكون عن نظر باحث، وبصيرة نافذة، ابتغاء التعرف(6/1208)
على الحق.. وبهذا يكون اختلاف وجهات النظر بين المختلفين، أضواء مسلطة من كل جهة، على الطريق الموصل إلى الحق، والكاشف عنه..
قوله تعالى: «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» .
- «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أي لا تميلوا إليهم، ولا تتبعوا سبيلهم، ولا تأمنوا جانبهم.
وهو نهى عام عن موالاة الظالمين، ومناصرتهم، واتباع سبيلهم.. ومن الذين ظلموا، أولئك الذين يتأولون كتاب الله حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، فيضلّون ويضلون غيرهم..
قوله تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» .
طرفا النهار: أوله، وآخره.. وهما الصبح، والمساء.
وزلفّا من الليل. الزّلف: جمع زلفى، مثل قربى وقرب.. لفظا ومعنى، ومنه قوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي أدنيت إليهم، وقرّبت لهم بحيث ينالونها..
والمراد بالزلف من الليل، أوقات قريبة من الليل.. أي ما يقرب من طرفى النهار، وفيها صلاة الصبح التي هى مدانية لأول النهار، وفيها صلاتا المغرب والعشاء، وهما مدانيتان لآخر النهار.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» إشارة إلى أن فى إقامة الصّلاة حسنات يكتسبها المرء منها، فتذهب بالسيئات التي تقع منه.. وفى التعبير عن الصلاة بالحسنات، إشارة إلى أن الصلاة إذا أديت على وجهها كانت حسنات خالصة..(6/1209)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
- وفى قوله تعالى: «ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» .. الإشارة إلى ما حدّثت به الآيات السابقة، من الاستقامة مع كتاب الله كما أمر الله، واجتناب الظالمين، وعدم الركون إليهم، وإقامة الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل- فهذه كلها عظات، بالغات، ينتفع بها الذاكرون، أي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه..
- وفى قوله تعالى: «وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى أن التزام الطاعات، واجتناب المنهيات أمر يحتاج إلى معاناة وصبر، وأنّها تكاليف لا يقدر على الوفاء بها إلا من وطّن نفسه على الصّبر.. وفى هذا يقول الحقّ تبارك وتعالى فى شأن الصّلاة: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (132: طه) وبهذا يستحق الإنسان الجزاء الحسن على ما احتمل من مشقة.. فالله سبحانه لا يضيع أجر العاملين، الذين يعملون فى مواطن الخير والإحسان!
الآيات: (116- 119) [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)(6/1210)
التفسير:
قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة جاءت آمرة بمعروف، وناهية عن منكر، ومنبّهة إلى أن فيما أمرت به ونهت عنه، ذكرى لمن يعقل، ولا يغفل عن مواقع العبرة والعظة.
ولما كان فى طبيعة الناس الغفلة عن مواقع الخير، وهم لهذا يحتاجون دائما إلى من يقوم فيهم مذكّرا لهم، آمرا بالخير، ناهيا عن المنكر- فقد جاء قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ»
- ناعيا على الأمم السالفة التي أهلكها الله سبحانه بظلمها وضلالها، أنها لم يكن فيها دعاة خير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقفون بجوار أنبيائهم، يشدون أزرهم، ويشيعون فى الناس دعوتهم، ويسدون على السفهاء نوافذ العدوان على الأنبياء وأتباع الأنبياء.
- وفى قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ» إنكار لما كان عليه أهل القرون الماضية، من فقدان أهل الخير بينهم، ودعاة الإصلاح فيهم.. وتحريض للمسلمين ألا يكونوا كهؤلاء الأقوام، بل يقوم من بينهم دعاة هدى وإصلاح، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (104: آل عمران) ، وبهذا تقوى جبهة المؤمنين، ويشتد ركن الإيمان، وينفتح للناس الطريق إلى الهدى، والنجاة من عذاب الله.
- وقوله تعالى «أُولُوا بَقِيَّةٍ» أي أصحاب دين وإيمان، يعملون لما يبقى لهم عند الله فى الآخرة، ومنه قوله تعالى: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ» أي ما يبقى لكم(6/1211)
عند الله.. فأصحاب البقية، هم العقلاء الراشدون، الذين لا تلهيهم دنياهم عن آخرتهم..
وقوله تعالى: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ» هو استثناء من النفي الواقع على أهل القرون الغابرة.. فقد كان فيهم جماعات قليلة استجابوا لدعوة الله، وآمنوا به، ودعوا إلى الله، كما كان من الرجل الصالح من قوم فرعون.. أما كثرتهم فكانت تموج فى غيّها وضلالها، فلم يكن لأصحاب الدعوات فيهم من يسمع أو يجيب، إذ كانت تضيع أصواتهم وسط هذه الأمواج الهادرة من الغى والضلال.. وقد نجى الله سبحانه هؤلاء القلة المؤمنين، من هذا البلاء الذي أخذ به أقوامهم، الذين قاموا على ما هم فيه من ضلال..
قوله تعالى: «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ» ..
إشارة إلى أن أهل المنكر قد غلبوا على أهل الخير والصلاح فيهم، فلم يلتفتوا إليهم، ولم ينتفعوا بنصحهم، فمضوا على ما هم فيه من ضلال، وغرقوا فيه من إلى أذقانهم، وأترفوا فيه، أي جعلوه نعيمهم فى الدنيا، وحظهم منها..
- «وَكانُوا مُجْرِمِينَ» أي كانوا أهل إجرام وفجور، وبغى وعدوان.. ولذلك أهلكهم الله.. ولو استقاموا على طريق الحق، ما نزل بهم ما نزل من نقم الله عليهم.. كما يقول سبحانه بعد ذلك:
«وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ» .. أي أن الله سبحانه، إنما أهلك القرى التي أهلكها بسبب ما كان من أهلها من ظلم وكفر وضلال.. وقد جرت سنة الله ألّا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما يقول سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) .(6/1212)
قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ..
أي أن ما حلّ بالظالمين من هلاك هو قدر من قدر الله الواقع بهم، وأنه- سبحانه- لو شاء لهداهم إلى الحقّ، ولعافاهم من هذا البلاء.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» أي على حال واحدة من الإيمان، أو الكفر، ومن الهدى، أو الضلال.. فليس ذلك بعزيز على الله.. ولكنه- سبحانه- خالف بينهم، فجعلهم مؤمنين وكافرين، ومهتدين وضالين. كما يقول سبحانه:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) ..
- وفى قوله تعالى: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» إشارة إلى أن هذا الاختلاف فى الناس أمر لازم اقتضته حكمة الله، وجعلته سنّة قائمة فيهم..
فكما اختلفوا فى صورهم وأشكالهم، وفى ألسنتهم وألوانهم، وفى أممهم وأوطانهم، وفى وجوه أعمالهم وأرزاقهم- اختلفوا كذلك فى معتقدهم فى الله، فمنهم الكافرون، ومنهم المؤمنون، ومنهم أصحاب النار، وأصحاب الجنة، «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» ممن ألف بين قلوبهم من المؤمنين، فكانوا كيانا واحدا، فى اتساق خطوهم على طريق الخير والهدى.. فكانوا كيانا واحدا، وجسدا واحدا تنتظمه مشاعر واحدة.. وقليل ما هم..
- وفى قوله تعالى: «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» توكيد لهذا الحكم الذي حكم الله به على العباد.. وأنهم هكذا خلقوا مختلفين..
- «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» أي وجبت كلمة ربك- وحقت، وجاءت على تمامها وكمالها، لا استثناء فيها، وهى(6/1213)
أن يملأ جهنم من الجنة والناس.. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا مفرّ من أن يكون لجهنم أهلها من الناس، ولها يعملون، وليصيروا إليها.. وبغير هذا لا يتحقق لكلمة الله التمام.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
الناس.. وهذا الاختلاف فى حظوظ الحياة الاختلاف بين الناس، أمر لازم لانتظام حياتهم.. فلو كانوا على حال سواء فى كل شىء، لما كانوا إلا كتلة متضخمة اللحم، ليس فيها عين تنظر، أو أذن تسمع، أو أنف يشم، أو يد تبطش، أو رجل تمشى، أو رأس يفكر..
إلى غير ذلك من الأجهزة العاملة فى كيان الإنسان.. والتي بها صار الإنسان إنسانا، بل بها صار الكائن الحىّ.. ذا حياة عاملة.. معطية وآخذة..
وهكذا الناس.. هم هذا الإنسان فى صورة مكبرة.. بعضهم يأخذ مكان الرأس، وبعضهم يأخذ مكان العين، أو الأنف، أو الأذن، أو اليد، أو الرجل وبهذا يقوم الجسد الاجتماعى بوظائفه العاملة فى الحياة حيث تأخذ كل جماعة فيه مكانها المناسب فى هذا الجسد، كما تأخذ أعضاء الجسد فى الإنسان مكانها فيه.. سواء بسواء! والسؤال هنا هو:
لماذا يكون بعض الناس رأسا، وبعضهم قدما، أو إصبعا، أو عينا؟
ونقول: إن تلك هى مشيئة الخالق فى خلقه.. فكما خلق سبحانه الإنسان ووضع أعضاءه فيه بهذا النظام وعلى تلك الصورة- كذلك جعل الله سبحانه المجتمع الإنسانى موزعا فى الوجود على هذا النظام.. بعضهم رأس، وبعضهم ذنب، وبعضهم قلب، وبعضهم عقل، وبعضهم أبيض، وبعضهم أسود..(6/1214)
وهكذا.. ليملئوا كل فراغ على الأرض، ويسلكوا كل سبيل فيها.. فيكون منهم الزارع والصانع، والتاجر، وراكب البحر، وساكن الفلاة، وصاحب القصر، وصاحب الكوخ! تلك هى مشيئة الله فى عباده، وإرادته النافذة فيهم، وحكمته المقدّرة لكل شىء قدره! يقول الجاحظ فى تعليل هذا الاختلاف بين الناس، وتباين حظوظهم فى هذه الدنيا: «اعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم! «ولم يحبّ أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم! «لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة، وكانوا مخيّرين فى الأمور المتفقة والمختلفة، لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفى هذا ذهاب العيش، وبطلان المصلحة، والبوار والتّواء «1» ..
ثم يقول الجاحظ:
«ولو لم يكونوا- أي الناس- مسخرين بالأسباب، مرتهنين بالعلل، لرغبوا عن الحجامة أجمعين، وعن البيطرة، والقصابة والدباغة «2» ولكن كل صنف من الناس مزيّن عندهم ما هم فيه، وممهل عليهم..
«فالحائك إذا رأى تقصيرا من صاحبه أو سوء خدمة، أو خرقا، قال
__________
(1) البوار: الفساد» والتواء: الهلاك.
(2) القصابة: الجزارة.. وهذه الصناعات التي ذكرها الجاحظ كانت محتقرة عند العرب.(6/1215)
له- على سبيل الذم: يا حجام! والحجام لو رأى تقصيرا من صاحبه، قال له:
يا حائك!! ثم يقول:
«ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبيلا للاتفاق والائتلاف، لما جعل واحدا قصيرا، وآخر طويلا، وواحدا حسنا، والآخر قبيحا، وواحدا غنيا وآخر فقيرا، وواحدا عاقلا وآخر مجنونا، وواحدا ذكيا وآخر غبيا..
ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختيار يطيعون، وبالطاعة يسعدون..
«ففرق بينهم ليجمعهم، وأحب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المثوبة، فسبحانه وتعالى، ما أحسن ما أبلى وأولى، وأحكم ما صنع، وأتقن ما دبر! ثم يمضى الجاحظ فيقول:
«لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار الحياكة لبقينا عراة، ولو رغبوا أجمعهم عن كدّ البناء لبقينا بالعراء، ولو رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات، ولبطل أصل المعاش.. فسخرهم على غير إكراه، ورغبهم من غير دعاء.
ثم يقول:
«ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم، لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها ومن البلاد إلا أعدلها، ومن الأمصار إلا أوسطها.. ولو كان ذلك لتناحروا على طلب الواسط «1» ، وتشاجروا على البلاد العليا، ولما وسعهم بلد، ولما تم بينهم صلح!
__________
(1) الواسط: أي الوسط من كل شىء، وهو أحسنه وأعدله.(6/1216)
فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة! «وكيف لا يكون ذلك كذلك، وأنت لو حركت ساكنى الآجام إلى الفيافي، وساكنى السهل إلى الجبال، وساكنى الجبال إلى البحار، وساكنى الوبر إلى المدر، لأذاب قلوبهم الهمّ، ولأتى عليهم فرط النزاع! «ولولا اختلاف الأسباب، لتنازعوا بلدة واحدة، واسما واحدا وكنية واحدة! «فقد صاروا- كما ترى مع اختيار الأشياء المختلفة- إلى الأسماء القبيحة، والألقاب السمجة.. والأسماء مبذولة، والصناعات مباحة، والمتاجر مطلقة، ووجوه الطرق مخلاة! «ولكنها مطلقة فى الظاهر، مقسمة فى الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبره الحكيم العليم من ذلك.
«فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمى ابنه محمدا، وحبب إلى آخر أن يسمى ابنه شيطانا، وحبب إلى آخر أن يسميه عبد الله، وحبب إلى آخر أن يسميه حمارا.
«لأن الناس لو لم يخالف بين عللهم فى اختلاف الأسماء، لجاز أن يجتمعوا على شىء واحد. وكان فى ذلك بطلان العلامات، وفساد المعاملات! ثم يختم الجاحظ هذه القضية بقوله:
«وأنت إذا رأيت ألوانهم، وشمائلهم، واختلاف صورهم، وسمعت لغاتهم ونغمهم، علمت أن طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة، على حسب أمورهم الظاهرة (أي أنها مختلفة فى صورها وأشكالها كاختلاف أحوالهم الظاهرة) .
وقد حرصنا أن ننقل كلمات الجاحظ فى هذه القضية، لأن الجاحظ لم(6/1217)
ينظر إلى هذه القضية من خلال العقيدة الدينية، ولم يقمها على مقررات النصوص القرآنية، بل نظر إليها نظرا قائما على واقع الحياة، وما ينطق به هذا الواقع الذي هو التطبيق العملي لما قررته الشريعة، ونطقت به كلمات الله..
فالاختلاف بين الناس على هذا الوجه الذي يشمل ماديات حيلتهم ومعنوياتها جميعا، هو سنة الله فى خلقه، وحكمه الواقع عليهم، بحيث لا انفكاك لهم منه أبدا.!
- فقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» .. هو القانون السماوي الذي يحكم أوضاع الناس فى هذه الدنيا.. حيث لا تستقيم حياتهم، ولا ينتظم أمرهم إلا بهذا الاختلاف الواقع بينهم، والذي لو ارتفع من دنياهم لجمدوا فى أماكنهم، كما يجمد الدم فى جسد فارقته الحياة، وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الناس بخير ما تباينوا (أي اختلفوا) ، فإذا تساووا هلكوا» .
والاختلاف الذي تشير إليه الآية الكريمة، ويحدّث به الرسول الكريم ليس بالاختلاف الذي يفرق بين الناس، ويعزل بعضهم عن بعض ويضع بعضهم فى مكان السادة، على حين يضع بعضهم الآخر فى منزلة العبيد.. كلا، إنما هو اختلاف فى المنازع والمشارب، وفى الملكات والحظوظ، كما يختلف الإخوة الأشقاء، فى منازعهم ومشاربهم، وفى ملكاتهم، وحظوظهم من الحياة.. بحيث لا يجعل هذا الاختلاف بينهم ميزة لأحدهم على الآخر، فى الحقوق والواجبات، المنوطة بالإنسان، من حيث هو إنسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. فهذا الاختلاف بين الناس، الذي جعلهم شعوبا وقبائل، هو سبب التعارف بينهم، وهو الذي يعطى كل(6/1218)
أمة أو شعب أو قبيلة، السّمة التي تعرف بها، وتكون معلما من المعالم الدالة عليها.. تماما كالاختلاف بين الأفراد، الذي به يعرف لكل فرد ذاتيته وشخصيته، بحيث لا يكون الناس جميعا على وجه واحد، لا يختلف فيه إنسان عن إنسان.
وقول الرسول الكريم: «الناس سواسية كأسنان المشط» مكمل لقوله صلوات الله وسلامه عليه: «الناس بخير ما تباينوا» .. فهم على سواء فى المعنى الإنسانى الذي يجمعهم، وهم فى الوقت نفسه أفراد متمايزون، لكل فرد وجوده الخاص، وذاتيته المشخّصة له، وعالمه المتفرّد به..
وعلى هذا المفهوم للإنسان، قامت أحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها..
فهى تتعامل مع الإنسان باعتبارين.. باعتبار أنه فرد له ذاتيته وله عالمه الخاص الذي يعيش فيه، وباعتبار أنه عضو فى مجتمع، أشبه بالعضو فى الجسد..
وهذا النظر الذي تنظر به الشريعة الإسلامية إلى الإنسان، وتعامله به على أساسه، هو الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، حيث كانت له حياة يعيش بها فى الناس، وحيث كانت له ذاتية يعرف بها بينهم.
فالحياة تتعامل مع الإنسان بوجهيه معا.. وجهه الشخصي الفردى، ووجهه العضوى الاجتماعى.. فتستقبله الحياة فردا.. تعطيه وتأخذ منه، وتستقبله فى مجتمعه الأسرى، والقبلىّ، والشعبي، والأممى، والإنسانى عامة.. فتعطيه، وتأخذ منه أيضا.!
والحياة، فى كلتا الحالين، ترى الإنسان بكل مشخصاته، لم يفتقد شيئا من عناصر وجوده الذاتي، ولو ألقى به فى محيط العالم الإنسانى كله.. تراه مرة كما يبدو من خلال عين «المصورة» إذا كان بمفرده فى مجال هذه العين، وتراه مرة أخرى كما يبدو من خلال هذه العين، وقد وقع فى مجالها ملايين البشر!(6/1219)
وكذلك شأن الإنسان مع الحياة ومع الناس.. إنه يرى نفسه من خلال نظرتين.. نظرة لا يرى منها إلا نفسه هو، ووجوده هو، ونظرة يرى منها نفسه، عضوا- كبيرا أو صغيرا- فى المجتمع..
فتعاليم الإسلام تعترف اعترافا كاملا واضحا بذاتية الإنسان وبفرديته، وتفسح لهذا الجانب من الإنسان مكانا بارزا فى تشريعاتها وأحكامها.. فالإنسان فى نظر الإسلام- من هذه الجهة- عالم صغير، له فلكه الذي يدور فيه، وله مشاعره التي يحيا بها، وعواطفه التي يعيش فيها، وضميره الذي يحتكم إليه.
ومن جهة أخرى، فإن الشريعة الإسلامية، لا تقف بالإنسان عند هذا الشأن من شئونه، بل تلقاه عضوا فى المجتمع الإنسانى كله، من أضيق حدوده، فى مجتمع الأسرة، إلى غاية مداه، فى الإنسانية جميعها، بل إنها تتجاوز هذا إلى المجتمع الحيواني، بل إلى الوجود كله.. فهى تدعو الإنسان إلى أن يكون نغما منسجما مع هذا اللحن الخالد، الذي يشترك فيه الكون كله، معبّرا به عن جلال الخالق العظيم وقدرته، وعلمه، وحكمته.. وإنه لمن الشقاء الذي ليس بعده شقاء، أن يكون الإنسان صوتا [نشازا] فى هذا اللّحن الكونى الرائع..
إنه سينفصل حينئذ عن الوجود.. ثم لا يكون له وجود! وأرانا قد بعدنا عن موضوعنا الذي تحدثت عنه الآية الكريمة: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» .. ولكن عذرنا فى هذا، هو أن قضية الاختلاف بين الناس، ليست قضية ذات وجه واحد، قائم على هذا الاختلاف الظاهر بين الأفراد، بل هى قضية- كما قلنا- ذات وجهين: وجه ظاهر يقوم عليه هذا الاختلاف الذي تشهده الحياة بين الناس والناس، ووجه خفّى، تضيع فى ثناياه وجوه هذا الاختلاف، فيبدو الناس جميعا كيانا واحدا، وجسدا واحدا.. الأمر الذي(6/1220)
ينقض حكم هذا الظاهر المشاهد، ويوقع بعض الناس فى حيرة، وبلبلة حينما يقصرون نظرهم على هذا الاختلاف القائم بين الناس والناس، ولا يرون ما وراءه من تلاحم، وتجاوب، وائتلاف: فيخيّل إليهم أن الوجود الإنسانى وجود يحكمه الاضطراب، ويسوده القلق، ويستولى عليه الفساد، بسبب هذا الاختلاف، الذي يبدو وكأنه لا يجتمع معه شمل، ولا يستقر به حال! ومن واقع هذه النظرة إلى ظاهر الحياة الإنسانية، وما يطفو على سطحها من اختلاف بين الناس- حاول الكثير من الفلاسفة والمصلحين أن يعالجوا هذا الاختلاف بين الناس، وأن يعملوا على صوغهم صياغة جديدة، تجعل من مجموعهم إنسانا واحدا، مكررا.. فإن لم يكن ذلك فلا أقلّ من أن يقسّموا إلى مجموعات، كل مجموعة منها تحوى أعدادا من الناس، على هيئة واحدة، لا خلاف بين إنسان وإنسان فيها..
ومن أجل هذا، وقع فى تفكير بعض الفلاسفة ما عرف بالمدن الفاضلة، التي صوّر فيها الناس على هيئة جسد بشرى.. تمثل فيه كل جماعة من الناس، عضوا من أعضائه.. فهناك من يمثلون الرأس، وهناك من يمثلون الأيدى، أو الأرجل، وهكذا.. كما نرى ذلك فى مدينة أفلاطون فى الغرب، ومدينة الفارابي فى الشرق! وإلى جانب هذه المدن الفاضلة التي ارتسمت فى أذهان الفلاسفة، ولم يقدّر لها أن تخرج إلى عالم الواقع- إلى جانب هذا قامت محاولات كثيرة، ودعوات متعددة فى القديم والحديث، يراد بها المساواة بين الناس، مساواة مطلقة، وخاصة فيما يتصل بالملكيّة الخاصة، فكانت تلك الدعوات التي ظهرت فى المجتمعات البشرية والتي تحمل إلى الناس فوضى الإباحة المطلقة لكل شىء فى المال، والنساء، والزرع، والضرع، وكل ما يكون للناس فيه حاجة..(6/1221)
وطبيعى أن هذه الدعوة قد أغرّت عامة الناس على الاندفاع وراءها فى هوس مجنون إذ فتحت أمامهم أبوابا فسيحة يدخلون منها إلى ما يشتهون..
وينالون من قريب كل ما يحبون.. ولكن سرعان ما اصطدم الناس بالواقع، بعد أن صحوا من هذا الحلم الجميل، وأفاقوا من تلك الهلوسة المحمومة.
فلم يروا بين أيديهم إلا سرابا خادعا يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا..
ذلك أن الناس فى ظل هذه الدعوة، تستولى عليهم مشاعر الأثرة والأنانية، التي تحملهم على أن يأخذوا دون أن يعطوا، وأن يحصدوا من غير أن يزرعوا.. وهذا من شأنه أن يحيل الخصب جدبا، والعامر خرابا.. ثم ينتهى الأمر أخيرا إلى استبداد الأقوياء بالضعفاء، استبدادا دونه ما يجرى فى الغابة بين عالم الحيوان! يأكل قويّهم ضعيفهم فى غير شفقة أو مرحمة، ثم تجىء الخاتمة المفجعة، فإذا كلهم مأكول بيد الضياع والفناء.. وحسبنا أن نذكر هنا ما كان من دعوة «مزدك» ودعوة «بابك الخرّمى» .. فقد كانتا أشبه بإعصار عات لفّ الناس فى كيانه، وحملهم على جناحه، ثم ألقى بهم من حالق.. فكانوا فى الهالكين! الاختلاف إذن بين الناس، ووضع كل إنسان موضعه فى الحياة، حسب استعداده، هو الذي يمكّن للمجتمع الإنسانى أن يحيا حياة خصبة، تملأ هذه الدنيا خيرا يسعد به الناس جميعا، ويتساقون كئوسهم فيما بينهم..
وغاية ما هو مطلوب هنا- كى تطيب للناس حياتهم، وينتظم خطوهم فى موكب الحضارة والمدنية- هو أن تقوى بينهم مشاعر الأخوة الإنسانية، وتؤلّف بين قلوبهم عواطف التراحم، والتوادّ، حتى يتخففوا من دواعى الأثرة والأنانية.. وهذا ما جاءت له الشرائع السماوية، وما قامت من أجله(6/1222)
القوانين الوضعية، وعملت له دعوات القادة والمصلحين فى كل زمان، وفى كل مجتمع صالح رشيد.
ونستمع إلى قوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (32: الزخرف) .
نستمع إلى كلمات ربّ العالمين هذه فنجد فى قوله تعالى: «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» ما يكشف عن هذا السرّ العظيم الذي تحدّث به بعض أسرار هذه الآية الكريمة.. فالناس بحكم هذا الاختلاف القائم بينهم، وبحسب استعدادهم الفطري، وحكم ظروفهم وأحوالهم- هم جميعا مسخّرون.. أي يخدم بعضهم بعضا، ليس فيهم خادم ومخدوم.. بل كلّهم يخدم ويخدم، ويستوى فى هذا العالم والجاهل، والزارع، والصانع، والقوىّ والضعيف، والحاكم والمحكوم.. إنهم جميعا أشبه بالآلة الميكانيكية، لا تكون آلة عاملة، ذات قوة محركة، إلا إذا عمل كل جزء من أجزائها.. أيّا كان وضعه فيها، وأيّا كانت قيمته الذاتية بين أجزائها.. بل أنهم أشبه بالجسد الإنسانى فى تجاوب أعضائه جميعا فى العمل على كل ما من شأنه أن يحفظ عليه حياته، ويوفر له أمنه وسعادته.
لقد عرف الناس هذه الحقيقة منذ كان لهم وجود اجتماعي، بل إن هذا الوجود الاجتماعى نفسه إنما دعتهم إليه حاجة بعضهم إلى بعض، وخدمة بعضهم لبعض.. وهذا ما يشير إليه قول الشاعر العربي.
الناس للناس من بدو ومن حضر ... بعض لبعض- وإن لم يشعروا- خدم(6/1223)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
فلولا حاجة الناس بعضهم إلى بعض لما اجتمع بعضهم إلى بعض:
ونرتّل قول الحق جلّ وعلا: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» - فنجد أن هذا الاختلاف بين الناس، هو حكم لازم لا انفكاك لهم منه، إلّا أن يخرجوا عن طبيعتهم البشرية، ويتحولوا إلى عالم الحيوان.. هبوطا، أو عالم الملائكة.. صعودا..
أما وهم فى عالم البشر فلن يكونوا إلا هذا الكون الذي هم فيه.. لكل إنسان مكانه فى الجسد الاجتماعى، كما لكل عضو موضعه من جسد الكائن الحىّ.
- وفى قوله تعالى: «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» تأكيد لهذا المعنى، وتقرير له..
إذ كان هذا الاختلاف بينهم ليس أمرا طارئا عليهم، وإنما هو سنّة الخالق فيهم، حكمته التي اقتضت أن تخالف بينهم، ليكون فى هذا الاختلاف نظام حياتهم، وانتظام معيشتهم!
الآيات: (120- 123) [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)(6/1224)
التفسير:
قوله تعالى: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ» الخطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أي وكلّ هذا الذي نقصّ عليك من أنباء الرسل وأقوامهم، إنما لتجد منه ما يثّبت فؤادك، ويمدّك باليقين والعزم، حيث تجد إخوانك الرسل وقد استقبلهم أقوامهم بالسّفه، ورموهم بالأذى.. فإذا أنت أوذيت من قومك فقد أوذى الرسل قبلك من أقوامهم! «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» (34: الأنعام) ..
قوله تعالى: «وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ» .. الإشارة «هذه» إلى أنباء الرسل، أي وجاءك فى هذه الأنباء «الحقّ» ، أي الحق من أخبارها، فهى الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: «وموعظة وذكرى للمؤمنين» أي وفيما جاءك من تلك الأنباء موعظة وذكرى للمؤمنين، الذين يصدّقونك، ويؤمنون بما نزل عليك.. فهم الذين يجدون العبرة والموعظة فى هذا القصص.
أما الذين لا يؤمنون فإنهم يمرّون عليها وهم عنها معرضون..
قوله تعالى: «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» .
العطف هنا على المفهوم من قوله تعالى: «وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» أي إن المؤمنين سيجدون فى هذه الأنباء التي جاء بها القرآن عن الرسل وأقوامهم- ما يزيدهم إيمانا إلى إيمان، فقل للذين آمنوا استقيموا على طريقكم، وأبشروا بالرحمة والرضوان من ربكم، وقل للذين لا يؤمنون اعملوا ما بدا لكم أن تعملوه وأنتم على ما أنتم عليه من كفر وضلال.(6/1225)
إنّا عاملون على ما نحن عليه من إيمان.. وانتظروا ثمرة ما تعملون، إنا منتظرون ثمرة ما نعمل.. وسترون ما يطلع عليكم من أعمالكم من بلاء ووبال..
قوله تعالى: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .
بهذه الآية الكريمة تختم السورة، جاعلة لله سبحانه وتعالى وحده غيب ما فى السموات والأرض.. إذ قد استأثر- سبحانه- بعلم كل ما هو غائب عنّا..
ومناسبة هذا الختام للسورة، هى أنها اشتملت على كثير من أنباء الغيب التي ذكرت فى قصص الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب.. عليهم السلام.. وهى أنباء إن يكن عند أهل الكتاب بعض منها، إلا أن كثيرا مما جاء به القرآن الكريم لم يكن عندهم به علم، والذي كان لهم به علم، هو خليط من الصدق والكذب، ومزيج من الواقع والخيال..
أما الذي جاء به القرآن فهو الحقّ المطلق، والصدق المصفّى..
ثم إن هذا القصص كان غيبا بالنسبة للعرب، والذي كان عندهم منه هو أوهام وظنون تلقوها من أهل الكتاب شبه أحاج بعيدة عن الحق، وفى هذا يقول الله تعالى: فى هذه السورة: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (الآية 49: هود) .
- قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» أي إن مصائر الأمور كلها راجعة إليه سبحانه.. فهو- سبحانه- الذي يرسل الأمور، فتجرى فى قدرها المقدور لها، ثم تستقرّ آخر الأمر عند الغاية التي أرادها الله لها.. فهو سبحانه(6/1226)
الذي يجريها، وهو سبحانه، الذي يرسيها.. «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» وإذ كان ذلك هو الله رب العالمين، فهو المستحق وحده لأن يعبد، وأن يعتمد عليه، وأن يعلم المرء زمامه إليه «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» .. فالعبادة هى الزاد الذي يتزود به الإنسان فى طريقه إلى ربّه.. فإذا عبده العابد، وأخلص له العبادة، قويت صلته به، واطمأن قلبه إليه، فتوكل عليه، وأسلم إليه أمره..
- «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .. إنه رقيب على كل شىء، عالم بكل شىء، لا تخفى على الله خافية فى الأرض ولا فى السماء.. فهو- سبحانه- يحصى علينا أعمالنا، حسنها، وسيئها، ويحاسبنا عليها، ويجزينا بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا. «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) وهكذا تبدأ السورة بتوجيه الخطاب إلى النبىّ الكريم، وإلفاته إلى الكتاب، الذي نزل إليه من ربّه: «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» ثم هى تنتهى بخطاب النبىّ أيضا.. ودعوته إلى عبادة ربّه، الذي أنزل عليه هذا الكتاب، والتوكل عليه.. إذ هو أعرف الناس بربّه، وأولاهم بعبادته والتوكل عليه..
وهو سبحانه رقيب على كل شىء، عالم بكل شىء- يرى المحسنين والمسيئين- ويجزى كلّا بما كسب.. «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(6/1227)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
12- سورة يوسف
نزولها: نزلت بمكة، فهى مكية- باتفاق.
عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية.. بلا خلاف عدد كلماتها: ألف وسبعمائة وست وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف ومائة وستة وستون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)(6/1228)
التفسير:
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ..
بدأت هذه السورة بما بدأت به السورتان- يونس، وهود- قبلها، وكما بدأت به السورتان- إبراهيم والحجر بعدها.. لقد بدأت خمستها بهذه الأحرف الثلاثة: (ألف.. لام.. راء) .. هكذا:
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» .. (يونس) «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .. (هود) «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. (يوسف) «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (إبراهيم) «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» .. (الحجر) ويلاحظ:
أولا: ذكر الكتاب، أو آيات الكتاب بعد هذه الأحرف.. وهذا يشير إلى ما بين هذه الأحرف وهذا الكتاب، وآيات الكتاب، من صلات..
وقد أشرنا إلى هذا فى أول سورة «هود» وقلنا: إن هذه الأحرف تشير إلى متشابه القرآن، وأن أوائل السور التي من هذا القبيل هى الآيات المتشابهات التي أشار إليها قوله تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» وأن غيرها من آيات القرآن محكم ومفصل..
وثانيا: أنه إذا ذكر «الكتاب» لم يشر إليه، وأنه إذا ذكرت «آيات الكتاب» أشير إليها بحرف الإشارة «تلك» :
وهذا يشير إلى أن القرآن الكريم نسج واحد، وأنّه معجزة متحدّية،(6/1229)
سواء باعتباره كلّا لا يتجزأ، بحيث ينظر إليه من المبدأ إلى الختام، نظرة يلتقى فيها متشابهه مع محكمه، ومجمله مع مفصله، وقصصه مع أحكامه وآدابه.. أو باعتباره آيات تعرض أحداثا ومواقف، وتحدث عن أدلة وشواهد، وتكشف عن أسرار ومغيبات..
وثالثا: فى ذكر الكتاب، والتزام هذا الذكر بعد تلك الأحرف، تحريض على العلم، ودعوة إلى التعلم، وأن من شأن من يتعامل مع القرآن الكريم أن يكون من أهل العلم، الذي مارس الكتابة، ودرس الكتب..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» (43: العنكبوت) .
ولا شك أن هذه اللفتة من القرآن الكريم، إلى قوم أميين، وأمة أمّية، تحمل فى طياتها دعوة إلى هؤلاء الأميين أن يخرجوا من تلك الأمية، وأن ينزعوا عنهم لباس الجهل والجاهلية، وأن يأخذوا بأسباب الحضارة التي لا تقوم إلا على ركائز العلم والمعرفة! ولعلّ فى عرض هذه الأحرف المتقطعة: ألف..
لام.. راء.. وغيرها من الحروف التي بدأت بها بعض السور- لعل فى هذا أول درس عملىّ يقدمه القرآن، ويفتح به الطريق إلى تعليم الكتابة والقراءة، إذ كانت تلك الأحرف هى أول ما عرف العربىّ الأمىّ من أجزاء الكلمة، وعرف منها أن الكلمات التي ينطق بها ليست مركّبات مصمتة، وإنما هى قوالب، يتشكل من كل مجموعة منها بناء، هو الكلمة، كما يتشكل من الكلمات نظام، يتألف منه الكلام، الذي يتعامل به الناس فى لغة التخاطب، وفى نظم القصيد، أو إنشاء الخطبة.. فكما يتعلم المبتدئ القراءة والكتابة بتعلم الحروف الهجائية التي تبنى منها الكلمات، كذلك يتعلم العرب الأميون من هذه الأحرف المقطعة كيف(6/1230)
يشكّلون من هذه الأحرف الكلمات التي ينطقونها، ويصورون منها صورا تكتب وتقرأ.
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ..
فى وصف الكتاب هنا بأنه مبين، توكيد لوصفه بأنه «حكيم» وبأنه «كتاب أحكمت آياته» . إذ أن الحكمة لا تكون حكمة، والحكيم لا تتم حكمته، حتى تخرج تلك الحكمة على صورة واضحة مشرقة، يرى الناس على وجهها أضواء المعرفة، وإلا كانت حكمة مضمرة، لا ينتفع بها، أشبه باللئالئ فى أصدافها، أو فى أغوار الماء! فالمبين، مبين وحكيم معا.
«إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
ومن بيان القرآن، الذي يكشف عن الحكمة المشتمل عليها، أنه جاء إلى من يخاطبهم باللسان الذي يحسنون التفاهم به، وهو اللسان العربي..
ولو جاءهم بغير هذا اللسان، لما عقلوا منه شيئا، ولما انتفعوا به، ولأفلت من أيديهم كلّ ما اشتمل عليه من حكمة..
وإنه ليس بالحكيم من يخاطب النّاس بالأسلوب الذي لا يفهموته، وباللغة التي لا يحسنون الفهم عنها.. إنه حينئذ لا يجد أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له، ولا عقلا يتجاوب معه.. إنه يكون فى واد والناس فى واد، إذ يحدثهم بأصوات لا مفهوم لها عندهم.
ولهذا، فقد كان من مقتضيات البلاغة، ومن بلاغة البليغ مراعاة مقتضى الحال، فلكل مقام مقال- كما يقولون، فلا يخاطب الجاهل خطاب العالم، ولا العالم خطاب الجاهل، ولا البدوىّ بمفاهيم الحضرىّ، ولا الحضرىّ بمفاهيم البدوىّ.. وإلا فقدت اللغة قيمتها، وضاعت معالمها، وأصبحت أشبه بالنقد الزائف، الذي ينكره الناس، ولا يتعاملون به.(6/1231)
وفى الحديث الشريف كما روى البخاري: «كلّموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون.. أتريدون أن يكدّب الله ورسوله؟» .
والمراد بمخاطبة الناس يما يعرفون، أي بما تبلغه مدركاتهم، ويقع منها موقع الفهم.. والمراد بتكذيب الله، هو اختلاط الأمر على الناس، حين يتحدث إليهم علماؤهم أحاديث لا يفهمونها على وجهها الصحيح، فيتلقون منهم وجوها من الكلام، فيتصورونها تصورا خاطئا، وإذا كل وجه يبدو لهم منها ينكر وجه صاحبه، فيقع التضارب والاختلاف، وتنشأ من هذا مفاهيم خاطئة، يناقض بعضها بعضها، وكلها تحدث عن الله، فيقع لذلك الشك، والارتياب ثم التكذيب، والكفر!! ومن تمام البيان فى الرسالة الإسلامية أن صرف الله الرسول عن قول الشعر وعن أن يكون شاعرا.. فقال تعالى: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» (69: يس) وذلك أن الشعر يحمل فى أسلوبه مضامين كثيرة، لما يعتمد عليه من تصورات وتخيلات، ولما يقوم عليه نظمه من صور الكنايات والرمز، والإيماء، وغير ذلك، مما تتولد من الصورة الواحدة منه.. صور.. الأمر الذي لا يستقيم مع رسالة سماوية، غايتها إقامة الناس على طريق واحد مستقيم لا عوج فيه، ولا خلاف عليه.. وهذا ما يشير إليه ويؤكده قوله تعالى فى التعقيب على قوله سبحانه: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» ..
إذ يقول جل شأنه: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» أي إن هذا القرآن ذكر، ومن شأن الذكر أن يلقى العقل لقاء صريحا واضحا، حتى يأخذ عنه العبرة والموعظة، صريحة واضحة.. وهذا القرآن هو قرآن مبين.. أي واضح البيان لا لبس فيه ولا خفاء.
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» .(6/1232)
الضمير «نحن» هو لله سبحانه وتعالى.. وفيه استدعاء للرسول، ومداناة له من ربّه، وتكريم لذاته بهذا الحديث الذي يتلقاه من ربه من غير واسطة.. «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» .. وهذا على خلاف لو جاء النظم هكذا:
«الله يقص عليك» ..
والقصّ تتبع الأثر، والتعرف على صاحبه. وقصّ الأخبار، تتبعها والكشف عنها..
وأحسن القصص، أصدقه حديثا، وأشرفه غاية، وأكرمه مقصدا، وأقومه طريقا..
ولا نذهب مذهب القائلين بأن التفضيل هنا على غير حقيقته، بمعنى أنه ليس هناك مفضل ومفضل عليه، باعتبار أن لا حسن فى قصص غير قصص القرآن، وأن القصص القرآنى هو الحسن، وهو الأحسن.. بل نقول إن التفضيل على حقيقته..
ونقول: إن القصص القرآنى وإن كان الغاية فى الحسن والكمال، فإن ذلك لا يمنع أن يكون فى القصص غير القرآنى، مما ألّفه المؤلفون، وقصّنّه القاصّون، سواء ما كان من نسيج الواقع، أو من شباك الخيال، وسواء ما كان على ألسنة الناس أم على ألسنة البهائم والطير- إن ذلك لا يمنع أن يكون فى هذا القصص ما هو حسن يتأدب به، وتؤخذ منه العبرة والموعظة.. وليس ذلك بالذي ينزل من قدر القصص القرآنى، أو يزحمه فى منزلته العالية التي انفرد بها، بل إن ذلك من شأنه أن يكشف عن جوهر القصص القرآنى، ويبين عن شرفه وعلوّ منزلته، حين يوزن بميزان الحسن، ويوضع فى الكفّة المقابلة للقصص القرآنى، فيرجح القرآن كلّ ما عرف من قصص حسن، والشأن فى هذا، شأن البيان القرآنى كلّه، مع البلاغة العربية وبيانها.. فإن(6/1233)
اللغة العربية ببيانها المبين، وببلاغتها البالغة غاية الحسن والروعة، هى التي كشفت عن إعجاز القرآن، وألقت بيديها مستسلمة بين يدى بيانه وبلاغته! ..
إن فضل الشيء، وعظم قدره، إنما يتبيّن بالقياس إلى الشيء الذي فضّل عليه.. فالناس ينظرون إلى قيمة الفاضل من خلال نظرتهم إلى قدر المفضول.
ألم تر أن السيف يزرى بقدره ... إذا قيل هذا السيف خير من العصا؟
إنه لا يشهد لبطولة البطل إلا من كان يلبس ثوب البطولة، بحيث يرى الناس من مواقفه فى ميادينها أنه بطل مشهود له، فإذا صرعه بطل آخر، كان ذلك شهادة لهذا البطل أنه بطل الميدان، وفارس المعركة..!
- وفى قوله تعالى: «بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» - إشارة إلى ما اشتمل عليه القرآن الكريم من قصص، وأنه مع نزول القرآن الكريم على النبىّ الكريم، نزل هذا القصص، الذي كان بعضا منه، ومعجزة من إعجازه، ودرسا من دروسه.. فالباء فى قوله تعالى: «بما» تفيد التبعيض.
- وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» .. المراد بالغفلة هنا عدم الالتفات إلى الشيء والاهتمام له، إذ لم يكن من النبي قبل نزول القرآن عليه، التفات إلى هذا القصص أو اشتغال به.
قوله تعالى: «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» .
«إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى «نَقُصُّ عَلَيْكَ» وفى تعلّق الظرف إذ بالفعل «نقص» إشارة إلى أن هذا القصص ليس على شاكلة ما يروى القصّاص من أخبار الماضين، فهم يتبعون آثارها، إذ لم(6/1234)
يكونوا من شهودها.. أما هذا القصص، فهو من شهود علم الله، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.. وإنما سمّى قصصا بالنسبة لمن يتلقونه، بعد أن مضى الزمن به.
- وقوله: «إِنِّي رَأَيْتُ» أي رؤيا فى المنام.. أي أن يوسف- عليه السلام- رأى فى منامه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر.. رآهم جميعا ساجدين له.
ولم يكشف يعقوب ليوسف- عليهما السلام- عن تأويل هذه الرؤيا، بل أراه منها أنها تنبىء عن خير عظيم يناله، ومنزلة عالية يبلغها.. وذلك فى قوله:
«قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ» لقد نهاه عن أن يتحدث بهذه الرؤيا إلى إخوته، فإنها توحى إليهم بأنه سيكون له من إخوته الأحد عشر ما كان من تلك الكواكب فى موقفها منه، ساجدة له، متخاضعة بين يديه.. وذلك من شأنه أن يبعث الحسد والغيرة فى نفوسهم منه، ويفتح للشيطان طريقا للدخول بينه وبينهم، فيغريهم به، ويسلطهم عليه..
أما تأويل هذه الرؤيا، فقد وقع بعد ذلك بزمن بعيد، طويت فى أثنائه أحداث كثيرة، وقعت ليوسف، حتى استقر به المقام فى مصر، وأصبح متصرفا فى شئونها المالية، ثم جاء إليه أبوه، وأمه، وإخوته الأحد عشر، ودخلوا عليه الباب ساجدين.. وفى هذا يقول الله تعالى فى آخر السورة:
«وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» (الآية: 100) .
وفى الحديث عن الكواكب والشمس والقمر بضمير العقلاء «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» إشارة إلى إحساسه بها وهو يراها فى منامه، إذ كانت تتصرف(6/1235)
تصرف العقلاء فتسجد له، وتظهر له الولاء والتعظيم، وهذا لا يكون إلا من فعل العقلاء!. إنها تلبس صورة أبويه وإخوته.. فهى بشر فى صورة كواكب! قوله تعالى: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. هو من تمام كلام يعقوب فى تأويل رؤيا يوسف، أي كما بدأ الله بلطفه بك، وتكريمه إياك صغيرا، فإنه سيتولاك برعايته، ويفيض عليك من نعمه كبيرا، فيجتبيك، أي يختارك ويصطفيك للرسالة والنبوّة، «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» أي يكشف لبصيرتك خفايا الأمور وعواقبها فيما تشتمل عليه الأحاديث المتشابهة، وهى التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون فى العلم، كالرؤى المناميّة ونحوها.. وقد بينا ذلك فى تفسير الآية الكريمة: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» (7: آل عمران) وقد جاء فى السورة حدثان، كشف فيهما يوسف عن المضمون الذي اختفى وراء الصورة التي جاءا عليها فى الرؤيا المنامية، كما سنرى ذلك بعد، فى رؤيا صاحبيه فى السجن، وفى رؤيا فرعون.
- وفى قوله تعالى: «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» إشارة إلى أنه سبحانه سيختاره للنبوة، وهذا هو تمام النعمة، وكما لها لمن أنعم الله عليهم من عباده، وكذلك سيكون إخوته «آل يعقوب» أنبياء، كما كان أبواهم إبراهيم وإسحق نبيّين..!
- «إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» أي بعلمه سبحانه يعلم أولياءه المستحقين لاصطفائه، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام)(6/1236)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
وبحكمته، تنفذ مشيئته، فيما قضى به علمه.. فيدبّر الأسباب، الموصلة للمقدور الذي قدّره «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ.. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (100: يوسف)
الآيات: (7- 14) [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 14]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
التفسير:
قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» السائلون: هم الذين سألوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، عما وقع بين يوسف وإخوته من أحداث، وهؤلاء السائلون إما أن يكونوا اليهود، أو أهل مكة، بإيعاز من اليهود.. ويجوز أن يكون السائلون هم الذين يطلبون العلم بأخبار الماضين ويبحثون عنها.. فهم يسألون أبدا من يجدون عنده علما بها..
والمعنى: لقد كان فيما وقع من احداث بين يوسف وإخوته آيات لمن(6/1237)
سألوا عن أخبارهم.. إما سؤال امتحان للنبىّ، وتحدّ له..
وإما سؤل تعلّم واستزادة من معرفة، وها هوذا القرآن قد جاء بالحق لمن يطلب العلم ويرتاد المعرفة.. أما من أراد الامتحان والتحدي فلن تزيده هذه الآيات إلا ضلالا، وإلّا عمى إلى عمى..
والسؤال هنا: كيف يجىء القرآن الكريم بهذا الحكم: «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» ، ولم يكن قد ذكر شيئا عن يوسف وإخوته؟ أليس من المنطق أن يكون هذا الحكم فى أعقاب القصّة؟
ونعم إنه المنطق.. ولكنه منطق البشر، الذين لا يحكمون على أفعالهم إلا بعد أن ينكشف لهم وجهها، وتأخذ مكانها فى واقع الحياة بينهم.. أما الله سبحانه وتعالى، فعلمه محيط بكل شىء، فما لم يقع منه فى نظرنا، هو واقع فى علم الله، وما سيقع بعد آلاف السنين وملايينها هو واقع فى هذا العلم الشامل الكامل..
فقصّة يوسف قبل أن يعرضها القرآن الكريم، هى واقعة فى علم الله الأزلىّ على الصورة التي ذكرها القرآن، فكان حكمه عليها حكما على أمر واقع!.
وهذه شهادة من شهادات كثيرة، تشهد بأن منزّلّ القرآن هو عالم الغيب والشهادة، وأنه ما كان لبشر أن يجد الشعور الذي يملى عليه هذا الحكم، الذي يسبق الحدث قبل أن يحدّث به، ويستوفى عرضه، ويضبط آثاره فى الناس!.
قوله تعالى: «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
«إذ» ظرف، يتعلق بالفعل «كان» فى قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي(6/1238)
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ»
أي أن هذا الظرف من حياتهم يحوى آيات وعظات.. وهو ظرف يبدأ من قولهم لأبيهم: «يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» ثم يستمر إلى أن تنتهى القصّة..
وتبدأ القصة، بهذا الحديث الذي يديرونه بينهم، ويأخذون فيه على أبيهم أنه يؤثر عليهم «يوسف» ويختصّه بالمزيد من عطفه وحبّه، هو وأخوه الشقيق له.. فقد كان يوسف وأخ له من أمّ، وكان الإخوة العشرة الآخرون من أمّ.!
فكيف يستأثر هذان الأخوان بحبّ أبيهم دونهم، وهم عصبة، أي جماعة كبيرة، لها شأنها واعتبارها؟ وكيف يفضّل الأب الاثنين على العشرة؟ إن ذلك أمر غير مستساغ، وتقدير غير سليم! وبخاصة فى بيئة بدويّة تعتز بكثرة العدد، وتأخذ مكانها فى مجتمعنا، بما لها من رجال أكثر مما لها من أموال..
هكذا بدا لهم الأمر خارجا على غير مألوف الحياة عندهم، فكان منهم هذا الموقف، الذي انتهى بهم إلى أن يقولوا فى أبيهم: «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» أي إنّه قد انحرف برأيه فى أبنائه وفى موقفه منهم، عن سواء السبيل، فضلّ ضلالا مبينا..
«اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» .
وقد امتدّ بهم هذا الحديث الذي أداروه بينهم، عن يوسف وأخيه، وإيثار أبيهما لهما بحبّه ورعايته، حتى انتهى بهم ذلك إلى القول بقتل يوسف، أو إلقائه فى أرض بعيدة عنهم، والتطويح به فى مجهل من مجاهلها، حتى يغيب عن وجه أبيه، فلا يراه أبدا، وبهذا يخلو لهم وجه أبيهم، أي يخلص لهم وجهه، فلا يلتفت إلى غيرهم، وهذا كناية عن تعلّق أبيهم بهم، حيث لا يصرفه(6/1239)
صارف عنهم، وقد كان من قبل متجها بكيانه كلّه إلى يوسف وأخيه..
- وفى قولهم: «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» إشارة إلى استقرار أمرهم مع أبيهم، وسكون العواصف التي يثيرها بينهم وبينه هذا الإيثار الذي يختصّ به ولديه الصغيرين هذين.
وبهذا ينصلح شأن تلك الأسرة التي تكاد تقوّض أركانها بهذا الوضع القائم فيها.. هكذا فكّروا وقدّروا!! «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» .
وهذا رأى رآه أحدهم فى هذا الأمر الذي دبّروه، وهو ألّا يقتلوا «يوسف» بل يكتفوا بإبعاده عن أبيهم. وأن يلقوه أرضا، ويطوّحوا به بعيدا عنه.. وذلك بأن يلقوه فى غيابة الجبّ، فيلتقطه بعض المسافرين، الذين يمرّون بهذا الجبّ ليستقوا من مائه، ثم يحملونه معهم إلى البلد الذي هم ذاهبون إليه..
والجبّ: البئر الواسعة الفوّهة القليلة الغور.. والسيارة: الجماعة المسافرون، وسمّوا سيّارة لأن دأبهم السير، والانتقال من مكان إلى مكان.
قوله تعالى: «قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» استفهام إنكارى، يدل على أنه قد كانت بينهم وبين أبيهم مواقف من قبل هذا الموقف، طلبوا إليه فيها أن يصحبوا معهم يوسف إلى حيث يسرحون بأغنامهم، فأبى عليهم ذلك، متعلّلا بالخوف عليه من أن يصيبه مكروه..(6/1240)
وفى قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ» تأكيد لإنكارهم على أبيهم هذا الموقف.. فهو لا يأمنهم عليه، حتى لكأنه يتهمهم بتدبير الشرّ له، والعدوان عليه، إذا هم انفردوا به.. وهم ينكرون عليه هذا، ويدفعون عن أنفسهم تلك التهمة بالإنكار على أبيهم أن يكونوا متهمين عنده فى مشاعرهم نحو أخيهم..
وكيف، وهم له ناصحون؟ أي مرشدون، يرعونه، وينصحون له، إذ كان صغيرا، يحتاج إلى من يرشد وينصح؟
«أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .
وهكذا يجىء طلبهم الذي أرادوه من أبيهم، بعد هذا الإنكار الذي واجهوه به، وبعد هذا العتاب الذي عتبوه عليه- يجىء طلبهم هذا مباشرة، دون أن يدعوا لأبيهم فرصة للرد عليهم وتوضيح الأمر لهم، بتقدير أن الأمر واضح، وأن ليس لأبيهم عذر يعتذر به إليهم، وأنه ليس بمقبول عندهم أي عذر منه فى اتهامهم بأخيهم، وعدم النصح له منهم، وإنه لا يردّ إليهم اعتبارهم، ولا يدفع هذه التهمة عنهم إلا بأن يرسله معهم: «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً» أي فى غير تردد أو انتظار.. فذلك هو الذي يقطع الشك عندهم فى اتهام أبيهم لهم!! وإلا فهو الاتهام، والشك المريب!! وهذا ما لا يرضونه من أبيهم، ولا يقبلونه لأنفسهم!! - وفى قولهم: «يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» إغراء لأبيهم على هذا الأمر الذي أرادوه عليه، وجذب له إلى تلك المصيدة التي نصبوها له! فهو بإجابتهم إلى هذا الطلب يحقق أمرين: أولا: ردّ اعتبارهم عنده، بدفع الشكوك التي ساورتهم من جهة اتهامه إياهم فى نصحهم لأخيهم، وسلامة قلوبهم له.. وثانيا: إتاحة الفرصة ليوسف، ليأخذ حظه مما يأخذه الصبيان(6/1241)
أمثاله، من الانطلاق إلى الخلاء، لاهيا، لاعبا.. فى رعاية من يحفظه، ويدفع عنه كل مكروه.
يقال: رتعت الماشية، أي رعت فى مرعى خصيب، والمرتع: المرعى الخصيب..
وقرىء: «يرتعى» من الرّعى.. أي يرعى معنا، ويلعب.
«قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» .
لقد سلّم لهم أبوهم بما طلبوه، ولكنه أظهر لهم بعض مخاوفه، إذا هو أجابهم إلى ما طلبوا.. فهو يحزن لبعد يوسف عنه، ولو ليوم أو بعض يوم..
إذ كان سلوته، وأنسه.. ثم هو يخشى أن يصيبه مكروه إذا هم غفلوا عنه، فيعدو عليه ذئب من تلك الذئاب المتربّصة لصيد تناله من إنسان أو حيوان فى هذه الفلاة التي يرعون فيها!.
وقد أخذ أبناء يعقوب من ردّ أبيهم حجّتهم عليه، فيما فعلوا بيوسف:
فأولا: فى قوله: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» .. كشف لهم أبوهم عن حبّه ليوسف وتعلّقه به، فزاد ذلك من موجدتهم عليه، ومن حسدهم ليوسف، وشدّ عزمهم على ما بيّتوه له من شر! وثانيا: فى قوله: «وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» قد وضع بين أيديهم السلاح الذي يستعملونه فى تنفيذ أمرهم الذي دبّروه، وليكون لهم منه ما يصدّق ظنون أبيهم ومخاوفه فيما ظنّه وتخوّفه.. فكانت قصّة الذئب التي جاءوا أباهم بها، هى من وحي هذه الظنون وتلك المخاوف التي أعلنها أبوهم لهم.(6/1242)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
«قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» .
إنهم التقطوا من أبيهم كلمة «الذئب» وجعلوها العدوّ المتربص بهم، وأنهم سيأخذون حذرهم منه، وهم عشرة رجال، وإنه لن يستطيع أن ينال شيئا منهم..
وإنهم فى تلك اللحظة ليتمثل لهم الذئب الذي سيقودونه إلى أبيهم متهما بأكل يوسف: «لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» .. هكذا يقولونها «أَكَلَهُ الذِّئْبُ» ولا يقولون: اقترب منه، أو جرحه! بل يجعلون «يوسف» طعاما مأكولا للذئب قبل أن ينتزعوه من بين يدى أبيهم!! ومن جهة أخرى فإنهم لم يردّوا على قول أبيهم: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» .. فذلك مما لا يحبّون سماعه من أبيهم، ولا يريدون أن يجعلوه حديثا معادا، يتأكد به ما ليوسف فى قلب أبيه من حب خاص، فوق حب الوالد لولده!
الآيات: (15- 23) [سورة يوسف (12) : الآيات 15 الى 22]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)(6/1243)
التفسير:
قوله تعالى: «فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ» .
جواب لمّا محذوف دلّ عليه المعطوف عليه بعده، وهو قوله تعالى:
«وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
والمعنى: أنهم حين انطلقوا بيوسف بعد أن أخذوه من أبيهم، وأجمعوا رأيهم على أن يضعوه فى الجبّ، وأن يتركوه لمصيره، كانت عناية الله معه، فحفظه الله من الشرّ الذي دفعوا به إليه.. ثم صحبته عناية الله وحفّت به ألطافه.. وأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه سيلتقى بإخوته يوما، وأنه سيخبرهم بهذا الذي كان منهم دون أن يعرفوه.. وهذا ما تحقق حين ملك يوسف أمر مصر، وجاءه إخوته يمتارون من خيرات مصر، حين حلّ الجدب بأرضهم، كما سيجيئ ذلك فى ختام هذه القصة.
«وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» .
وهكذا الباطل يفضح نفسه، ويخزى أهله..!(6/1244)
- «وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ» وتلك أول أمارة من أمارات الكذب الذي جاءوا به.. إنهم جاءوا ملففين فى ظلام اللّيل، خوفا من أن يفضحهم ضوء النهار، ويمزّق هذا القناع الزائف المموه بتلك الدموع الكاذبة، التي بلّلوا بها خدودهم.
إن العين إذا التقت بالعين كشفت عن كثير من خفايا النفس، وقرأت ما لا يصرّح به اللسان، ولا تبوح به الكلمات.. ولهذا يجرؤ الإنسان على أن يقول فى الظلام، ما لم يكن يقوله فى النور، حين تلتقى العين بالعين!! إنه يخبط خبط عشواء، ويرمى بالكلام فى غير مبالاة! إن العين هى حاسّة الحياء، وموطن الاستحياء.. ولا ينكشف ذلك لها إلا وهى مبصرة.. ولهذا، فإن أصحاب الحياء يضعون أيديهم على أعينهم، حين يرون ما يستحيا منه، أو ينطقون بكلمة تخدش الحياء..
ثم كان البكاء فضيحة أخرى لهم.. إنّه تباك وليس بكاء.. إنه أصوات ليس فيها حرقة الكبد، وزفرة الصدر الكليم! والاذن قادرة على أن تميز التباكي من البكاء، وتفرق بينهما! وفد عرف يعقوب هذه القصّة الملفقة من أول لقاء ببنيه، ولأول كلمة سمعها منهم! - وفى قولهم: «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» فضيحة ثالثة، تفضح هذا الباطل، وتكشف عن هذا الزور.. إنهم يتهمون أباهم- مقدّما- بأنه لن يقبل شهادتهم تلك، لأنهم هم- فى الواقع- لا يقبلونها فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولو أنهم كانوا صادقين حقّا لما وقع فى تصوّرهم هذا، ولما توقعوه قبل أن يقع.. إنهم اتهموا أنفسهم بقولهم: «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» .. اتهموها قبل أن يتهمهم أبوهم.. وهكذا شأن كل متّهم.. إنه يتهم(6/1245)
نفسه قبل أن يتهمه أحد.. فهو يطوف دائما حول جريمته إن لم يكن بجسده، فبمشاعره، وهمس خواطره.
«وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» .
والدم الذي جاءوا به، هو دليل رابع على أن القصة ملفّقة.. فماذا يحملهم على حمل هذا الدم إلى أبيهم.؟ أليسوا هم أولياء هذا الدم وأهله؟ وهل يجد ولىّ الدم قدرة من نفسه على حمل إصبع، أو عين، أو رأس، من ابنه أو أخيه المقتول، ثم يطوف بها، ويقلبها بين يديه، ويعرضها على الأنظار؟ ذلك مالا يكون، لو أن الذئب كان حقّا هو الذي عدّا على يوسف وأكله! وإذا كان لا بد من مجىء شاهد من هذا القتيل، فإن الدم لا يقوم شاهدا أبدا، إذ ما أيسر أن يحصل الإنسان على الدم الذي يريد.. من إنسان، أو حيوان بل ومن نفسه أيضا.. فليكن الشاهد إذن، رأسه، أو رجله، أو يده.. إذ من غير المعقول أن يأتى الذئب على كل أجزاء ضحيته.. وخاصة إذا كان غلاما فى سن يوسف، الذي قيل إنه كان فى العاشرة أو أكثر من عمره! ويقرر علم الإجرام، أن المجرم، مهما كان ذكيا حذرا، لا بد من أن يترك أثرا يدل عليه، وأن يقع فى تدبيره خلل ما، يكون مفتاحا للكشف عنه! قيل إن القميص الذي جاءوا به ملطخا بالدم، كان سليما لم يمسّه الذئب المزعوم، بظفر أو ناب!! قالوا: ولهذا عجب يعقوب من هذا، وقال متهكما:
«تا الله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا.. أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!؟
- وفى قوله تعالى: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» اتهام صريح من يعقوب لبنيه، وأن ذلك الأمر الذي فعلوه إنما هو مما سوّلته لهم أنفسهم، أي زينته لهم، وأغرتهم به.. ولكنه لا يملك شيئا يفعله إزاء هذه المحنة، إلا الصبر:(6/1246)
«فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» .. فذلك هو عزاؤه عن مصابه فى ابنه، وفى بنيه أيضا! «وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» .. أي إنه سبحانه وتعالى هو الذي يمدّه بالعون على احتمال ما حملت إليه هذه القصة الملفقة من أنباء تصف هذه الفاجعة، وتصور تلك المأساة.
«وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ» .
وتطوى الأحداث على عجل، وينتقل المشهد فى سرعة خاطفة، إلى حيث يوسف فى الجبّ، يعانى ما يعانى من وحشة، وخوف، وجوع..!
وهنا تلوح «سيّارة» أي جماعة من المسافرين، يمرّون بالجبّ ويحطّون رحالهم على مقربة منه، ليستقوا، ولتستقى دوابّهم، ثم ليتزودوا بما يقدرون على حمله من الماء..
- «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ» .. هكذا جاءت السيارة كما قدّر أبناء يعقوب..
لأن الجبّ على طريق يصل بين الشام ومصر، ويكثر عليه مرور القوافل المسافرة.. وفى مجيئها تباطؤ وثقل.. إنها على طريق طويل، قد كلّت، وأعياها السير! نجد ذلك فى الفعل «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ» .. ففى واو العطف، والتقائه بحرف الجيم الممدودة هذا اللقاء المتثاقل المتمطّى، وفى مدّة الجيم، كما يقتضيها الترتيل القرآنى- فى ذلك كلّه، ما يوحى بأن القافلة فى غفلة تامة عن هذا الإنسان الذي فى الجبّ، يعالج سكرات الموت، وهى التي يسوقها القدر إليه، لتنقذه، ولتمسك عليه حياته.. وهنا يبلغ المشهد حدّا بالغا من التأزّم، تبهر معه الأنفاس، وتضطرب القلوب، وتذهب النفوس عن الحاضر الذي تعيش فيه، لتقف وراء هذه القافلة تستحثّها، وتصرخ فيها، لتدرك هذا الذي احتواه الجبّ، واشتمل عليه الهلاك!!(6/1247)
وحطّت- القافلة- رحالها- بعد لأى- على مقربة من الجب، وجعلت تعالج فى تثاقل أمتعتها، وتسوى رحالها، وتهيىء لها منزلا آمنا تجد فيه الراحة فى ظله..
- «فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» ليرد الماء، وليستقى لهم منه.. والوارد، هو الذي يرد الماء.
- «قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ» .. لقد جاء الدلو الذي أدلاه فى الجبّ بما لم يكن يتوقع أبدا.. جاءه بالغلام الذي كان ملقى فيه..
وفى كلمات قليلة موحية معجزة، تطوى الأحداث طيا، فلا تعرض منها إلا تلك الشواهد التي تقوم منها معالم مضيئة، تتحرك بها أحداث القصة إلى نهايتها..
- «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» أي أخفوه فى أمتعتهم، وجعلوه بضاعة من بضاعتهم، يبيعونه فيما يبيعون من بضائع.. هكذا كان حكم من يقع من الآدميين حينئذ، فى يد من يظفرون به فى حرب أو سلم!.
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ» .. إشارة إلى أن هذا الذي يعملونه هو ما يقع فى علمه سبحانه وتعالى، وأنه- جل شأنه- غير غافل عما يحدث ليوسف، وفى هذا تطمين لتلك النفوس المشفقة على هذا الغلام، والتي لم تشهد عن بعد ما يكون من صنع الله به..
«وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» ..
شروه: أي باعوه، يقال: شرى الشيء أي باعه، واشتراه: أي أخذه بالثمن الذي ابتاعه به.
والثمن البخس: أي الذي فيه غبن على البائع، حيث باع الذي حقّه أن(6/1248)
يبذل فيه المال الكثير، بمال قليل.. «دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» ! ولو عرفوا قدر هذا الجوهر الكريم الذي فى أيديهم لضنّوا به، ولبالغوا فى الثمن الذي يطلبونه فيه، إن كان لا بد لهم من بيعه.. ولكنهم كانوا تجار أمتعة، لا تجار نفوس! ونقدة أموال، لا نقدة رجال!! - وفى قوله تعالى: «وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» تشنيع على جهلهم بأقدار الرجال، وعمى بصيرتهم عن الكشف عن معادن النفوس! ..
«وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
وها هو ذا يوسف ينتقل من يد إلى يد حتى يقع أخيرا ليد رجل من مصر..
وإذن فيوسف الآن فى مصر.. فهل يستقرّ به المقام فيها، أم تتناقله الأيدى من بلد إلى بلد، ومن مصر إلى مصر؟
تحدّثنا الآية الكريمة من أول الأمر أنه سوف يستقر به المقام فى مصر وأنه سيكون ابنا من أبنائها..
فالرجل الذي اشتراه من مصر، قد ضمّه إليه، واتخذه ابنا له، إذ لم يكن له ولد، ودعا امرأته إلى أن تكرمه، وتتولى تربيته، وتنشئته، على أنه ابنها..
وهكذا يجد يوسف فى مصر أهلا بدل أهله، وأبا وأمّا مكان أبيه وأمه.
وهكذا صنع الله ليوسف.. وليس هذا فحسب، فإنه سيصنع له أكثر وأكثر..
فسيمكن الله له فى الأرض، ويعلمه من تأويل الأحاديث، كما قال له أبوه من(6/1249)
قبل: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» ..
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» أي أن ما يقدّره الله سبحانه وتعالى ويقضى به، فإنه لا بد أن ينفذ، إذ هو سبحانه الغالب، لا يغلبه أحد ولا ينازعه مخلوق.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هذه الحقيقة، ولا يقدرون الله حق قدره..
وفى إضافة الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن الأمر كله لله سبحانه، وليس له شريك ينازعه الأمر فى أي شىء.. فهو سبحانه، الغالب على كلّ أمر، لا ينازعه منازع، ولا يعترض مشيئته معترض، إذ أنه ليس لأحد معه أمر.. كما يقول سبحانه: «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» ..
(123: هود) .
والآية الكريمة لم تكشف بعد عن وجه هذا الإنسان الذي ضمّ يوسف إليه، وجعله ابنا له.. إنه من مصر! ..
أمّا من هو فى مصر، وما مكانته فى قومه، فستكشف عنه أحداث القصة فيما بعد.. وفى هذا تشويق للنفوس، وإثارة لحب الاستطلاع فيها، حتى تظل شاخصة إلى هذا الرّجل، باحثة عنه، إلى أن يلقاها هذا اللقاء المثير الذي يطلع عليها به فى دست الحكم، وعلى كرسى الوزارة.. إنه عزيز مصر..
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
الحكم: الحكمة. وهى لمن آتاها الله، سلطان مبين، يملك به ما لا يملك أصحاب الملك والسلطان..
وقد استطاع يوسف- عليه السلام- أن يبلغ بتلك الحكمة هذا(6/1250)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
السلطان الذي كان له فى مصر.. فكان- وهو فى السجن- بحكمته، سيدا، تسمع كلمته، ويحتكم إليه فى المعضلات.. وبحكمته نفذ إلى خارج السجن، وأملى شروطه على فرعون مصر!! ثم بحكمته، وضع يده على مقاليد الأمور، فى مصر وتصريف مقاديرها..
والحكمة التي آتاها الله يوسف- عليه السلام- حكمة مستندة إلى علم، وليست حكمة مودعة فى صدره ينفق منها، بلا حساب أو تقدير.. وإنما هى حكمة قائمة على دراسة، ونظر، أقرب إلى الاكتساب منها إلى الفطرة.
وبهذا يجد لها صدى فى نفسه، وأثرا فى عقله وقلبه..
- وفى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى أنه- عليه السلام- كان من العاملين الذين أحسنوا العمل، فكان جزاؤه أن أوتى الحكمة، وحصّل العلم..
[يوسف.. والفتنة المتحدّية]
الآيات: (23- 29) [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)(6/1251)
التفسير:
قوله تعالى: «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» .. الواو للعطف، وهو عطف حدث على حدث..
والمراودة: المخادعة، والمخاتلة، والتدسس إلى النفس فى أسلوب من التلطف والاحتيال..
وهيت لك: هو صوت استدعاء لهذا الأمر الذي يكون بين الرجل والمرأة، وقد جاء به القرآن الكريم، على هذه الصورة التي لم تعرفها اللغة العربية فى لسانها قبل نزول القرآن.. لأنه يحدث عن حال من شأنه أن يكون سرا بين الرجل والمرأة، ولغة مفهومة لهما، لا يعرفها غيرهما.. وذلك إعجاز من إعجاز القرآن.. ودع عنك ما ذهب إليه الذاهبون من تأويلات وتخريجات لكلمة «هيت» وخذها على أنها حكاية صوت، لا على أنها من لغة التخاطب المتعامل بها فى كل مقام!! .. إنها فى مقامها هذا كلمة استدعاء.. وكفى! - وفى قوله تعالى: «الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها» إشارة إلى أنها ذات سلطان(6/1252)
عليه، وأنه ربيب نعمتها، ونزيل بيتها.. وأن لها أن تأمر وعليه أن يطيع..
ولكنها جاءته مترفقة، متلطفة.. إذ كان هذا الأمر الذي تدعوه إليه لا يجاء له بأسلوب الأمر والقهر! - وفى قوله تعالى: «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» إشارة إلى أنها هى التي تولت بنفسها الإعداد لهذا الأمر الذي دعته إليه.. فهى التي راودته عن نفسه بما ألقت إليه من كلمات، وإشارات، وتلميحات.. وهى التي غلقت الأبواب، فكانت تلك دعوة صريحة منها إليه.. ثم هى التي- حين رأت أن ذلك كله لم يدعه إليها، ولم يقرّ به منها- دعته إلى نفسها، وقالت:
«هَيْتَ لَكَ» أي هأنذا لك، فأقبل! وهذا ما لا تفعله الحرّة ذات الجاه والسلطان، إلا إذا كانت قد استبدّت بها الرغبة، ثم لم تجد من الجانب الآخر استجابة منه لها.. عندئذ تخلع عذار حيائها، وتتخلّى عن مكانتها كامرأة تطلب ولا تطلب! .. وفى كل هذا ما يحدّث عن تعفّف يوسف عليه السلام، وامتلأ كه لداعى الشهوة أمام هذه المغريات، التي تنحلّ لها عزمات الرجال، وتطيش معها أحلام ذوى الحلوم! «قالَ مَعاذَ اللَّهِ.. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» ومع كل هذا الذي ساقته المرأة إلى يوسف- عليه السلام- من جمالها، وسلطانها، ومن تلطّفها به، واستدعائها له، وعرض نفسها عليه، ومع هذا الشباب المتفجّر فيه، والدماء الحارة المتدفقة فى عروقه- فإنه اعتصم بدينه، واستمسك بمروءته، فلم يقبل هذه الدعوة الآثمة، قائلا: «مَعاذَ اللَّهِ» أي عياذا بالله، ولجأ إليه لدفع هذا المكروه عنّى..
- «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ» - أي إن هذا الفعل فوق أنه عصيان لله، وتعدّ لحدوده، هو خيانة للمروءة، وإنكار لإحسان هذا السيد الذي رباه،(6/1253)
وأحسن مثواه.. والمثوى: المأوى الذي يأوى إليه الإنسان..
- «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» .. الضمير فى «إنه» ضمير الشأن.. أي إنه فى أىّ حال وشأن لا يفلح الظالمون، الذين يعتدون على حقوق الناس، فيخونون الأمانة فيما اؤتمنوا عليه، أو يجحدون نعمة من كان له نعمة وفضل عليهم..!
«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» .
اختلف المفسرون فى معنى الهمّ الذي همّ به يوسف.. أهو همّ عزيمة، أم همّ رغبة؟ وهل هو همّ فعل، أم همّ ترك؟
وصريح اللفظ أنه- عليه السلام- همّ بها، كما همّت به.. «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها» هكذا صريح للفظ القرآنى.. فلا وجه إذا للتفرقة بين أمرين متساويين، لفظا ومعنى.. كذلك اختلف المفسّرون فى قوله تعالى: «لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» - اختلفوا فى البرهان.. أهو ملك جاءه من الله؟ أم شىء وجده فى نفسه؟ أم صورة أبيه يعقوب، وقد ظهر عاضّا على إصبعه، محذرا من هذا الخطر الذي هو مقبل عليه.. إلى غير ذلك من عشرات الصور التي صوّر فيها المفسّرون هذا البرهان.!
وهم فى هذا كلّه إنما يريدون أن يدفعوا عن مقام هذا النبي الكريم أن يطوف به طائف من السوء، أو تنحلّ عزيمته أمام أية فتنة، أو تستجيب طبيعته لأى إغراء.. فمقام النبوة هو القمة التي لا ترقى إليها الشبه، ولا يرتفع إلى سمائها هذا الدخان المتصاعد من شهوات النفوس وأهوائها، حين تشبّ فيها نيران الشهوة، ويتّقد لهيب الفتنة؟ ولكن فات هؤلاء الذين ينظرون إلى النبي هذه النظرة- ونحن ننظر إليه كما ينظرون- فاتهم أن النبي بشر(6/1254)
قبل أن يكون نبيّا.. وأنه حين يلبس ثوب النبوة لا يخلع ثوب البشرية أبدا..
وغاية ما هنالك أنها بشرية فى أعلى مستواها وأشرف منازلها..
وعلى هذا، فإن الذي نطمئن إليه، هو أن هذا البرهان كان شيئا حسيا، أو بمعنى آخر، كان حدثا وقع فى تلك اللحظة الحاسمة، فحال دون وقوع هذا الأمر، وكان صارفا عنه.. والذي لولاه لوقع! وهذا البرهان هو- والله أعلم- إشارة كانت تعلن عن قدوم العزيز إلى أهله.. إذ من المعقول جدا أن يكون للعزيز شارة من الشارات، ينبّه بها زوجه إلى أنه قادم إليها.. وذلك كرسول يتقدمه، أو نفير يعلن عنه.. أو نحو هذا..
شأن أصحاب السلطان، حين يغدون، أو يروحون، بين مجلس الحكم، ومجلسه الخاص فى أهله وولده.
وعلى هذا يكون المراد بربه هنا، هو سيده الذي ربّاه، وهو «العزيز» الذي يقول عنه: «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ» .. ويكون بذلك، الضمير فى «ربه» عائدا إلى ربه هذا.. وقد جاء على لسان يوسف أكثر من مرّة، الحديث عن السيد بلفظ الرب.. «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ» .. «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» ..
وهذا الحدث الذي كان سببا مباشرا فى الحيلولة دون وقوع المعصية، هو بالنسبة ليوسف عليه السلام برهان من ربّه، وآية من آيات فضله عليه، وحراسته له..!
فالأسباب الموصّلة إلى الأعمال الطيبة، أو الحائلة دون السيئة، هى دليل على عناية الله وتوفيقه.. كما أن الأسباب المؤدية إلى الشرّ، أو الصارفة عن الخير، دليل على خذلان الله للعبد، وتخليته وأهواء نفسه ونزغات شيطانه! فللذين التقوا بالأنبياء والرسل، وكانوا من حوارييهم وخلصائهم، إنما(6/1255)
انتصبت لهم الأسباب المسعدة التي وصلتهم بهم، ومكنت لهم من أن يقبسوا من الهدى الذي بين أيديهم! وكذلك الذين التقوا بالرسل والأنبياء، وكانوا حربا عليهم، وظلاما يحجب ضوء الهدى عن الناس- إنما اجتمعت لهم الأسباب التي وقفت بهم هذا الموقف، وساقتهم إلى هذا البلاء! فالأسباب، ألطاف من ألطاف الله، وآيات من آيات رحمته، يدنيها- سبحانه- من أوليائه، وييسرهم لها.. أو هى مزالق وعثرات يهوى إليها أعداء الله، ويتساقطون فيها.. «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (5- 10: الليل) ومجىء العزيز، أو ظهور الشّارة الدالة على مجيئه فى تلك اللحظة الحاسمة، هى آية من آيات الله، ورحمة من رحمته، ولطف من ألطافه، وحراسة قائمة على هذا النبي الكريم أن تزلّ قدمه.. وهكذا تحفّ ألطاف الله بعباده المخلصين، وتتداركهم رحمته، فى أمثال هذه الساعات الحرجة.. يقول الله تعالى فى يونس عليه السلام: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (143- 144: الصافات) .. فهذا التسبيح الذي ألهمه الله إيّاه، هو اللطف الذي أمدّه الله به، وهو حبل النجاة الذي أرسله إليه وهو فى بطن الحوت.. ويقول سبحانه فى يونس أيضا: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (48- 50: القلم) وفى هذا يقول تبارك وتعالى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ(6/1256)
الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً»
(74- 75: الإسراء) ويقول سبحانه عن رسله جميعا: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» (110: يوسف) فالرسل، والأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- مبتلون بما يبتلى به الناس من فتن، تلحّ عليهم بأهوالها، فيتلقونها بعزماتهم، ويصدّونها بإيمانهم، ويستعصمون منها بكل ما فى طاقاتهم من قوّى، حتى إذا استنفدوا كل ما فى كيانهم من صبر وبلاء، وكادوا يهزمون فى هذا الصراع المحتدم، جاءهم نصر الله، وتوافدت عليهم أمداده وألطافه، فربطت على قلوبهم، وثبتت من أقدامهم، وإذا هم فى مقامهم الرفيع الكريم، وإذا الفتن صرعى بين أيديهم، ملففة فى تراب الخزي والاندحار! وأي فضل لأنبياء الله ورسله على غيرهم من الناس، إذا هم لم يبتلوا هذا البلاء، وإذا هم لم يجاهدوا هذا الجهاد فى مواجهة الفتن ومغالبة الأهواء والشهوات؟
وأي فضل لهم إذا كانت الفتن لا تحوم حولهم، وكانت الأهواء والشهوات تتساقط من نفوسهم من غير جهد وعناء؟ وأي فضل لهم يحمدون عليه، ويستأهلون به هذا المقام العظيم الذي هم فيه، إذا لم تتحرك فيهم دواعى الشهوات، ولم تنازعهم الأهواء؟
إن الثواب- كما يقولون- على قدر المشقة..
وهذا يعنى: أن نصيب أنبياء الله، ورسله، وأوليائه من المعاناة والمشقة أكبر نصيب، وأنه يقدر ما واجهوا من بلاء وفتنة بقدر ما كان لهم من منزلة عند ربهم..
وفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى فيما امتحن به، وفيما تعرض له، من فتن وابتلاء، فى مشاعره، وعواطفه، ونوازعه.. فلقد شهد(6/1257)
أهله يتمزّقون بين يديه شيعا، ورأى أتباعه وأحبابه يعذّبون بسياط الظلم بين يديه، ويموتون تحت وطأة هذا العذاب، كما رآهم وهم يخرجون مهاجرين، فارّين من وجه هذا البلاء، مخلّفين وراءهم أهلهم وديارهم وأموالهم.. ثم رآهم فى ميدان القتال يخرون صرعى، يفدّونه بأنفسهم، وبودّه لو فدّاهم بنفسه..
وهكذا كانت حياة النبىّ ساعة بساعة، بل ولحظة لحظة، مسيرة شاقّة على درب طويل من الآلام والمحن.. وبهذا استحقّ تلك المنزلة التي استوى بها على هامة الإنسانية كلها، فكان سيد خلق الله، وخاتم رسل الله، وإمام أنبياء الله!! وعلى هذا، فإنّ لنا أن نفهم قوله تعالى: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» على أن امرأة العزيز قد همّت به، وأنه- عليه السلام- همّ بها وكاد الأمر يقع، لولا أن تداركه رحمة من ربّه، فأقام هذا السبب المادىّ حائلا دون وقوع الفاحشة..
وفى هذا تتجلّى رحمة الله بأوليائه، ورعايته لهم! ومن جهة أخرى، فإن رسل الله- صلوات الله وسلامه عليهم- ليسوا من عالم الملائكة، وإنما هم بشر، تتحرك فى كيانهم نوازع الإنسان وشهواته، وأنّهم يغالبون هذه النوازع، ويمسكون زمام تلك الشهوات، ولكن إلى مدى، هو غاية ما يبلغه احتمال البشر.. حتى إذا كان النبىّ من أنبياء الله أو الرسول من رسله فى مواجهة تجربة كهذه التجربة، التي استنفد فيها- كإنسان وكنبىّ معا- كلّ مالديه من صبر واحتمال، بشرىّ- جاءت أمداد الله، لتمد النبىّ فى هذه المعركة التي لا بد أن يكسبها، ويكتب له النصر فيها، وذلك لحساب النبوّة والرسالة، ولحساب النبىّ كنبىّ والرسول كرسول.. تماما كما جاءت أمداد السّماء لتشارك فى معركة بدر، ولتقوم إلى جانب الجهد الإنسانىّ، فى كسب أول معركة للإسلام، تلك المعركة التي كان لا بد له أن يكسبها!!(6/1258)
وقد أحسن الإمام البيضاوي، حين قال عن همّ امرأة العزيز بيوسف وهمّه هو بها: «قصدت مخالطته، وقصد مخالطتها.. والهمّ بالشيء: قصده والعزم عليه.. والمراد بهمّه عليه السلام، ميل الطبع، ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله، من يكفّ نفسه عند قيام هذا الهمّ ومشارفة الهمّ» .
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» أي بمثل هذا البرهان نجىء به إليه، لنصرف عنه «السّوء» أي الأذى، الذي تتعرض له فطرته السليمة «والفحشاء» أي المنكر الممثل فى الزّنا. «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» هو تعليل لما أراد الله بهذا النبىّ الكريم من خير، فصرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباد الله الذي اصطفاهم الله، وجعلهم خالصة له.
«وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
حين رأى يوسف برهان ربّه، وهو الشارة الدلّة على مقدم العزيز إليهما- رأته معه كذلك امرأة العزيز، فأسرعا إلى الباب المغلق دونهما، وأسرع كل منهما طالبا الخروج من المخدع، وقد كان يوسف أسرع منها، فتناولته من خلف بيدها لتسبقه، ولتنجو بنفسها، فعلقت يدها بقميصه فقدّته من دبر، أي قطعته طولا، من الخلف.. وما كاد يفتح الباب حتى كان «العزيز» معهما وجها لوجه.. وكان جوابها حاضرا، إذ كانت تعيش فى هذه المحنة أياما وليالى، وتفكر فيها وتقلّبها على جميع وجوهها واحتمالاتها.. ومن هذه الاحتمالات أن يعلم زوجها بالأمر، أو يضبطها متلبسة به.. فلما وقعت الواقعة، وجدت الجواب الذي أعدته. «قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .(6/1259)
وهكذا تتّهم، وتحكم فى التهمة، فلا تدع لزوجها فرصة للتفكير فيما ينبغى أن يواجه به هذه الموقف.. فها هوذا الحلّ حاضر بين يديه، لا يحتاج منه إلى تفكير! - وفى قولها: «مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً» إشارة إلى أن الأمر لم يجاوز حدّ الرغبة والإرادة.
- وفى قولها «بِأَهْلِكَ» بدلا من قولها «بي» لتضيف نفسها إلى العزيز، فتثير عاطفته نحوها، على حين أنها تغريه بهذا الذي اعتدى على العزيز فى أهله! «قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .
وكان ردّ يوسف على هذا الاتهام الجريء له، قوله: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» .. ففى هذه الكلمات القليلة المستغنية بصدقها عن كل قول، دفع يوسف التهمة الظالمة التي رمى بها.. وهكذا شأن أصحاب الحقّ، يجدون فى الكلمة المرسلة على طبيعتها من غير حلف أو توكيد، ما يغنى عن كل قول.. وليس كذلك شأن أصحاب الزور والبهتان.. إنهم يكثرون من الثرثرة واللغو، ويبالغون فى الأيمان الكاذبة الفاجرة، ليداروا هذا الباطل الذي يجرونه على ألسنتهم، وليبعثوا فيه شيئا من الحرارة والحياة! - قوله تعالى: «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» .. هو جملة حاليّة، جاءت مصدقة لقول يوسف: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» .. أي قال هذا القول الذي صدّقه الحال، والذي استدل به العزيز على صدق يوسف وكذبها..
وقد اختلف المفسرون فى هذا الشاهد الذي شهد.. فقالوا إنه طفل،(6/1260)
أنطقه الله، وقالوا إنه رجل من أهل العلم.. وقالوا، وقالوا! والذي نراه- والله أعلم- أن هذا الشاهد هو العزيز نفسه، وأنه إذ نظر إلى يوسف، فرأى قميصه ممزقا، أدار بينه وبين نفسه حديثا عن هذا القميص:
لم مزّق؟ ومن مزّقه؟ ولم كان ممزقا من خلف لا من أمام؟ وهل لذلك من دلالة؟ .. ثم أسلم نفسه لتفكير عميق، وفى رأسه تدور الأفكار، وتموج الخواطر.. يقلّب الأمر على جميع وجوهه، ويعرضه على كل احتمالاته.. ثم ينتهى به الرأى إلى تلك الحقيقة التي هى فيصل الأمر، ومقطع الرأى: «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. هذا ما أمسك به العزيز من الخواطر الكثيرة، والآراء المتدافعة التي كانت تتوارد عليه.. وقد أمسك أولا بالخاطر الذي يبرىء زوجه، ويدين يوسف، فذلك هو الذي كان يرجوه، ويودّ لو أن هذه الفاجعة قد أقامت له الدليل عليه! «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ..»
وإذ استراح العزيز إلى هذا الرأى، تلّفت إلى يوسف، وأخذه بعينيه، ونظر إلى القميص، فرآه قد قدّ من دبر! «فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» ..
وهكذا برئت ساحة يوسف- وهو البريء دائما- وأقبل العزيز على المرأة، لا ليدينها فى شخصها، بل ليجعل هذه التهمة قسمة مشاعة فى بنات جنسها جميعا.. «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أيتها النساء «إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» إنّ فيكنّ المكر والدهاء، وسعة الحيلة فى هذا المجال.. وإذن فلا يستغرب منك هذا، بل ولا ينكر منك، فما أنت إلّا واحدة من بنات جنسك!! فلا عليك! «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» .
- «يوسف» منادى، أي يا يوسف، والمنادى له هو العزيز، يحذّره- وإن(6/1261)
ظهرت براءته عنده- من أن يحوم حول هذا الحمى! ثم يلتفت إلى المرأة يطلب إليها أن تستغفر لهذا الذنب، وأن تطلب الصفح عن هذه الخطيئة التي كادت تقع فيها..!
وليس من الحتم اللازم أن تكون هذه المرأة مؤمنة بالله، حتى تستغفر لذنبها- كما يقول بذلك المفسرون- بل يجوز- وهو الغالب- أن تكون وثنية، تطلب الصفح والمغفرة من وثنها الذي تعبده، أو من الكاهن الذي يقوم على خدمة هذا الوثن! - وفى قوله تعالى: «إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» بدلا من قوله: إنك كنت من الخاطئات، ليخفف على نفسها وقع هذه التهمة التي واجهها بها، فلا يجعل تلك الخطيئة مقصورة على بنات جنسها وحدهن، بل يشاركهن الرجال فيها، وهو منهم.. فلا عليها إذن أن تستغفر لذنبها هذا، الذي كان الناس- من نساء ورجال- معرّضين له.. فإذا كنت قد أخطأت فما أكثر الخاطئين قبل الخاطئات! ..
وقد رأينا من قبل كيف أنه لم يواجهها بالتهمة فى شخصها، بل واجهها بها فى بنات جنسها: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» ..
وقد اتهم بعض المفسرين «العزيز» بأنه كان ناقصا فى رجولته، ولم يكن له أرب فى النساء، لأنه استقبل فعلة امرأته بهذا الاستخفاف والبرود! ..
وهذا تعليل غير صحيح.. إذ المعروف أن من كان فى رجولتهم شىء من النقص، داروه بتلك الغيرة الزائدة، المجاوزة لكل حدّ! ..
ولعل أقرب تعليل لموقف «العزيز» هذا، هو أنه كان ينظر إلى يوسف نظرته إلى ابنه، وأن ما كان من امرأته لم يكن إلا نزوة طائشة، أعمتها عن أن(6/1262)
تنظر إلى يوسف نظرة الأم إلى ولدها، وأنها سرعان ما تعود إلى رشدها وتصحح نظرتها إليه..
والذي جعلنا نميل إلى القول بأن الشاهد الذي شهد بإدانة امرأة العزيز، هو العزيز نفسه- الذي جعلنا نميل إلى هذا القول، هو ما يشهد به واقع الحال، وهو أن «العزيز» وهو صاحب هذا المقام فى قومه، ما كان له أن يفضح نفسه وأهله على الملأ، وأن يستدعى من يحتكم إليه، فى أمر شهده هو بنفسه، واطلع عليه من غير أن يدله عليه أحد! وإنه لمن السفاهة والحمق، بل والعجز، أن يعرّض العزيز مكانته، وشرفه وشرف أهله لهذه الفضيحة على الملأ.. فيصبح، وإذا هو وزوجه على ألسنة الناس، يطلقون فيهما قالة السوء، ويولدون من هذا الحدث أحداثا تنمو وتتضخم على الأيام! فكان من الحكمة إذا أن يتدبر «العزيز» أمره بنفسه، وأن يحصر الأمر فى أضيق حدوده، وأن يحسمه هذا الحسم الرشيد، فى غير صخب وضجيج.. فكان حكمه هكذا:
- «يُوسُفُ: أَعْرِضْ عَنْ هذا» ..
- «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ.. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» ..
لفتة إلى يوسف، ولفتة إليها..
ثم انتهى الأمر عند هذا الحد.. ولكن إلى حين..!
فلقد دبّر العزيز فى نفسه أمرا.. ولكن بعد أن تنتهى هذه العاصفة.. فتحيّن ليوسف فرصة يدفع به إلى السجن بها.. ولكن من غير أن يكون لامرأته- فى ظاهر الأمر- شأن يتعلق بها فى أمر يوسف وسجنه.. من قريب أو من بعيد! على ما سنرى فى أحداث القصة.. بعد..(6/1263)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
(الآيات: (30- 35) [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
التفسير:
العزيز: السيد ذو السلطان والقوة، فهو عزيز بسلطانه وقوته..
شغفها حبّا: أي ملك قلبها، واستبد به.. والشّغاف: وسط القلب.
أعتدت لهن متكأ: أي أعدّت وأحضرت، وشىء عتيد أي حاضر.. والمتكأ:(6/1264)
ما يتكأ عليه، من وساد ونحوه.. أصب إليهن: أي أميل، والصبوة الميل إلى النساء خاصة، وصبا وصبأ أي مال، ومنه الصابئة، وهم الذين مالوا مع هواهم إلى عبادة غير الله.. والصبا: ريح لطيفة، تهب فى أصائل الأيام القائظة، فتميل إليها النفوس..
قوله تعالى: «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
لأول مرة يكشف القرآن الكريم عن شخصية المرأة التي راودت يوسف عن نفسه. فيحدّث عنها بأنها امرأة العزيز، أي السيد الحاكم فى مصر، ومن هذا نعرف أن البيت الذي ضم يوسف إليه واحتواه، هو بيت حاكم مصر..
ولم يكشف القرآن من قبل عن مركز هذه المرأة الاجتماعى، لأن الأحداث كانت تجرى على المستوي المألوف فى حياة الناس، عامّتهم، وخاصتهم على السواء.. فأى بيت كان يمكن أن يضمّ يوسف إليه، وأي امرأة كان من الممكن أن تراوده عن نفسه، سواء كانت امرأة ملك أو سوقة.. إنها امرأة أيّا كان وضعها الاجتماعى! إذ لم يكن ليوسف خيار فى اختيار السيد الذي يملكه!.
أمّا حين يكون للحدث ذكر يراد به الكشف عن وقعه فى المجتمع وأثره فى الناس، فإن الأمر يختلف بالنسبة لمن يتعلق به الحدث، من حيث وضعه الاجتماعى ومكانته فى المجتمع..
فالحدث يكبر أو يصغر، وتتسع دائرته أو تضيق تبعا لمن تعلق به الحدث..! إذ يقتل الرجل من عامة الناس، دون أن يشعر الناس بهذا الحدث أو يلتفتوا إليه، على حين يصاب الحاكم أو السيد من سادة القوم، بخدش أو(6/1265)
جرح، فيكون ذلك حديث الناس فى الأندية والمحافل، ليوم أو لبضعة أيام، وربما لشهور أو سنين..
فعيون الناس وآذانهم متعلقة بأصحاب السلطان والسيادة فيهم.. يتسمّعون أخبارهم، ويرقبون أحوالهم، ويشتغلون بالحديث عنهم، فى كل ما يتصل بهم من صغير أمورهم وكبيرها.. هكذا الناس فى كل زمان ومكان..
وعلى الرغم من أن حادثة امرأة العزيز كانت فى دائرة ضيقة، لا تتعدى المرأة، ويوسف وزوجها، فإنه سرعان ما نفذت العيون من خدم القصر إلى هذا السر، ووقعت الآذان عليه، فكان همسا على الشفاه، ثم كان حديثا دائرا على الألسنة، أقرب إلى الإشاعة منه إلى الحقيقة.. وذلك لما كان من العزيز فى معالجة هذا الأمر، بحكمة، ولطف، وحذر.
والنساء هن أكثر الناس بحثا عن أسرار البيوت، وأقدرهن على فتح مغالقها وكشفها..
وها هى ذى امرأة العزيز تصبح هى وفعلتها مع يوسف، حديث الطبقة العالية فى نساء المجتمع، ممن هنّ على مداناة وقرب منها.
«وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ.. قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. هكذا يتحرك الخبر، وتتحرك معه التعليقات المناسبة له.. «قَدْ شَغَفَها حُبًّا!!» أي ملأ قلبها حبّا، واستولى عليه.. «إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ! إنها الفضيحة قد أخذت تتحرك بسرعة فى المجتمع، وإنها اليوم حديث نساء الحاشية، وما حولها، وغدا ستكون حديث البلاد كلها.. فلابد إذا من تدبير يمسك هذه الفضيحة، أو يخفف من انطلاقها، وإلّا أفلت الزمام وساءت العاقبة!(6/1266)
وفى سرعة، وحكمة، أخذت امرأة العزيز تعمل وتعمل! كما أخذ العزيز يفكر ويقدّر..
«فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ..» «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» لقد أعدت امرأة العزيز وليمة، ودعت إليها هؤلاء النسوة اللاتي تحدّثن عنها بهذا الحديث الذي عرّضن فيه بها، وجرّحنها بقوارص الكلم، وطعنّها بألسنة الاتهام! وكان من تدبيرها أنها هيأت لكل واحدة منهن متّكأ، لتسلم نفسها إليه، مسترخية، وتمسك فى يديها بسكين حادّ مرهف، تعالج به بعض الفاكهة التي بين يديها..
وهكذا أخذ النسوة مجلسهن هذا عند امرأة العزيز، وهن متكئات على المساند اللّينة، يتناولن الفاكهة بعد أن امتلأن بما قدّم لهن من شهىّ الطعام، على مائدة حفلت بكل ما لذّ وطاب منه.. وما كاد يبدأ الفتور عليهن، وهنّ مستسلمات لتلك الإغفاءة اللذيذة، التي تطوف بالمرء بعد غذاء شهىّ، يتجاذبن الأحاديث فى تكسّر وفتور أشبه بأحلام اليقظة- حتى تضرب المرأة ضربتها فتصيب منهن مقتلا! وإذا يوسف، وقد أخذ زينته، إلى ما حباه الله من جمال الصورة، وجلال النبوة، يطلع عليهنّ، وكأنه ملك نزل من السماء، لا يدرين من أين جاء، فيصحون صحوة السكران من خماره، حين يجد نفسه بين يدى ظاهرة من ظواهر الطبيعة المفاجئة المذهلة.. وإذا كيانهنّ كله يصبح عيونا معلّقة بهذه المعجزة التي طلع عليهن القدر بها! واستبدّ بهنّ الذهول، ولم(6/1267)
يعدن يدرين ماذا يمسكن فى أيديهن.. وفى حركات لا شعوريّة أعملن السكاكين فى أيديهن، فأصابت منهن ما كان من شأنه أن يصيب الفاكهة منها.. فسالت الجروح، ونزفت الدماء!! وعندئذ تنبهن إلى وجودهن..
«وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً..! إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» !! عندئذ استوثقت امرأة العزيز مما وقع فى قلوبهن من يوسف، فصرّحت يمكنون سرّها، ووجدت أن ذلك ليس مما يعيبها، إذ كان الأمر أكثر مما تحتمله هى أو غيرها من النساء، فى مواجهة هذه المعجزة التي لا قبل للنّاس أن يتحدوها.
«قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» وهكذا كان انتقام المرأة لنفسها ممن أظهرن الشماتة بها.. لقد أذاقتهن من نفس الكأس التي شربتها، فسكرن سكرتها، ووقعن أسيرات لهذا الجمال الآسر، وعشن معها بهذا الداء، يعالجنه، ويطلبن الشفاء له.. وهكذا أخرست تلك الألسنة التي كانت تذيع قالة السوء فيها، فشغلت كل واحدة منهن بهمومها، وأشجانها، مع هذا الجمال الملائكى القاهر.
أما يوسف- عليه السلام- فقد تضاعفت محنته، وتكاثرت حوله الفخاخ والشباك المنصوبة لصيده، والكيد له، ولم يكن له إلا ربّه- سبحانه وتعالى- يطلب العون منه، والحماية والصون ممّا يكاد له.
«قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» ..
إنه بين يدى كيد يكاد له، وفتنة ملحّة تتبدّى أمام ناظريه، وتجىء إليه بكل مغرياتها.. وهو- بعد- إنسان.. معه قلبه، وشبابه وشهوته(6/1268)
وإنه- فى دينه ومروءته- ليؤثر السّجن على ما يدعونه إليه من إثم..
ولكن للاحتمال طاقة، وللصبر حدّ، ولن يمسك عليه دينه، ويدفع عنه هذا البلاء الذي لا يحتمل، إلّا عون يعينه الله به، وقوة يضيفها الله إلى قوته.
«وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» .. فصرف هذا الكيد، وإبعاد تلك الفتنة من طريقه، هو الذي يصرفه عن هذا البلاء، ويعافيه من هذا الشرّ، وذلك برعاية الله سبحانه وتعالى له، وصرف السوء عنه.
«فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
ولا تسل ما تدبير الله فى هذا، فذلك من قدرة الله، ومن آياته..
«ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» .. أي ثم بدا للعزيز، مع ما شاهد من الآيات الدالة على عفّة يوسف وبراءته مما رمته امرأته به- بدا له أن يأخذه بشىء من العقاب، وأن يلقى به فى السجن، وذلك بعد أن هدأت نار الفتنة، ونسى الناس أمرها، حتى لا يقال: إن العزيز قد ألقى بيوسف فى السجن عقابا للحدث الذي كان بينه وبين امرأته.
وتعالت حكمة الله..!!
لقد كان هذا السجن هو الصّارف الذي صرف به سبحانه وتعالى هذا الكيد الذي يراد بعبد من عباده المخلصين.. فلقد عزله هذا السجن عزلا تامّا عن موطن الفتنة، وباعد بينه وبين آفاقها التي تطلع عليه منها..
ثم كان هذا السّجن الطريق الذي سلك به إلى هذا الملك الذي أراد سبحانه وتعالى أن يضعه بين يديه: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .(6/1269)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
الآيات: (36- 42) [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 42]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
التفسير:
«وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» .. والفتى هو الخادم، أو المملوك الذي فى خدمة سيده.(6/1270)
ويجوز أن يكون هذان الفتيان قد دخلا مع يوسف السّجن فى يوم واحد، إثر حدث وقع فى قصر الملك، إذ كان هذان الغلامان ممن يخدمان الملك، فحامت حولهما شبهة دفعت بهما إلى السّجن، ودفع بيوسف إليه معهما، على حساب أنه ممن علقت به تلك الشبهة، بتدبير من امرأة العزيز، وممن معها من النّسوة اللائي كنّ فى حاشيتها.. أو بتدبير من العزيز نفسه انتقاما لشرفه، الذي لاكته الألسنة زمنا.. وكانت المؤامرة التي وقعت فى قصر الملك فرصة لأخذ يوسف مع من أخذ بها.
«قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .
إنهما قد رأى كل منهما رؤيا مناميّة، وقد عرفا فى يوسف علما وحكمة، فتحدثا إليه بما رأيا، وطلبا إليه أن يكشف لهما ما تنبىء عنه رؤيا كل منهما.
- وفى قول كل منهما: «إِنِّي أَرانِي» - إشارة إلى أن كلّ واحد منهما رأى نفسه فى المنام على الصورة التي حدّثه بها.. فالرائى شخص والمرئى شخص آخر، وإن كان صورة منه.
«قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .
لم يلتفت يوسف كثيرا إلى هذه الرؤيا التي رآها صاحبا سجنه، ولم يجعل(6/1271)
بالكشف لهما عن تأويلهما، إذ كانت إحداهما تحمل الموت إلى صاحبها، على حين تحمل الأخرى لصاحبها الحياة والخلاص من السجن.. فآثر أن يتريث قليلا، ولا يكشف لهما عن هذا الجانب المحزن من الرؤيا..
ثم أخذ يحدثهما عما علّمه الله من علم، وأنه إذا كان سيكشف لهما عن تأويل رؤياهما، فذلك مما علّمه الله، الذي يؤمن به، بل إن الله سبحانه قد علّمه أكثر من تأويل الأحاديث، فهو- بما علمه الله- يستطيع أن يخبرهما عن أىّ طعام يحمل إليهما، قبل أن يأتيهما، وذلك على نحو ما كان لعيسى عليه السلام، إذ يقول لبنى إسرائيل: «وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم» (49: آل عمران) .
ويثير هذا الحديث تساؤلات كثيرة عن صاحبى السجن، تدور فى رأسيهما، وتظهر على قسمات وجهيهما.. يبحثان عن هذا «الربّ» الذي يعلّم المؤمنين به، والعابدين له، هذا العلم.. إن لهما أربابا كثيرة، فلم لم تمنحهما شيئا من هذا العلم؟ وهل ربّ يوسف هذا على غير شاكلة الأرباب التي يعرفونها ويعبدونها؟
ويراها «يوسف» فرصة سانحة، للدعوة إلى الله، وإلى هداية هذين الضالّين إلى الإيمان، فيكشف لهما عن وجه الحق، ويفتح لهما الطريق إلى ربّه الذي يعبده! - «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» .. إذن فقد كان من يوسف عمل، حتى وصل إلى ما وصل إليه، وهو أنه ترك دين قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. وإذن فإنهما إن أرادا أن يلحقا به، فليتركا ملّة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، كما ترك هو ملّة من لا يؤمن بالله، واليوم الآخر!(6/1272)
ويوسف عليه السلام لم يكن على غير دين التوحيد، فقد ولد مسلما، ابن مسلم، ابن مسلم، ابن مسلم، فهو كما فى الحديث الشريف: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» .. ولكنه يعنى بهذا أنه لم يكن مجرّد متابع لدين ورثه عن آبائه، بل إنه نظر إلى الدين الذي يدين به آباؤه، وإلى الأديان التي يدين بها الملحدون، الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فعدل عن هذه الأديان، وتركها وراءه ظهريّا، وأقبل على دين آبائه، لأنه الدين الحقّ، الذي يدين به العقلاء! «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» .
- وفى قوله: «ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ» - إشارة إلى أنه هو وآباؤه، وقد عرفوا طريق الحق، ما كان يصحّ عندهم أن يعدلا عن هذا الطريق إلى طريق الشك بالله. وذلك من فضل الله علينا، وعلى الناس الذين حمداهم إلى الإيمان، وأقامهم على طريق الحق.. «ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون» الله على ما فضل به عليهم من نعم، فإن عدم التعرف على الإله المنعم كفران بهذه النعم، يقود إلى الكفر بالمنعم ذاته.
ثم يمضى يوسف، فيشرح لهما قضيّة الألوهية بمنطق الحسّ والمشاهدة:
- «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» ؟ إن العقل يقضى لأول خاطرة، أن الواحد الذي يجتمع إليه كل ما فى يد الآخرين من سلطان، هو أولى بأن يلجأ إليه، ويلاذ به..
فالله- سبحانه- هو ربّ الأرباب، فكيف يعدل عنه إلى من هم تحت سلطانه؟ وكيف يعبدون من دونه؟ ذلك هو الضلال البعيد!(6/1273)
تلك هى القضية.. وهذا هو فيصل ما بين إله يوسف، والآلهة التي يعبدها القوم..
- «ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» .
وذلك ما كشف عنه الواقع من الآلهة التي يعبدها صاحبا السجن وقومهما..
ما يعبدون من دون الله إلا أسماء.. أي مجرد أسماء، لا مدلول لها، ولا قيمة لمسمّياتها.. هى أسماء ليس وراءها إلا خواء، وظلام.. تعلقت بها أوهام القوم، وأعطتها تصوراتهم هذه المفاهيم الخاطئة التي يتعاملون بها معها..!
- وفى قوله تعالى: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» أي أن هذه الأسماء ومسمياتها التي تختفى وراءها، لا تستند إلى حجة أو برهان، وأنها لم تقم على دعوة من العقل، أو على كتاب من عند الله.. وإنما هى من مواليد الباطل والضلال، إذ أجاءها العقل لم يجدها شيئا يقف عنده.
- «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . فالحكم بين الناس، والفصل فيما هم مختلفون فيه، فيما يعبدون- هو لله، وسيجزى كلّ عامل بما عمل.. وهو- سبحانه قد أمر ألّا يعبد غيره، وذلك فيما حمل الرسل إلى الناس من رسالات الله إلى عباده، فذلك هو الدّين الحقّ، المستقيم الذي لا عوج فيه. «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» هذه الحقيقة، فيضلّون، ويكفرون بالله، ويعبدون من دونه تلك الدّمى التي يسمونها آلهة! وإلى هنا يكون يوسف قد نفذ بدعوته إلى قلبى هذين الرجلين الضالّين، فهداهما إلى الله، وفتح لهما الطريق إلى صراطه المستقيم.. وهكذا لم ينس رسالته(6/1274)
إلى الناس وإلى هدايتهم ودعوتهم إلى الله، وهو فى سجنه هذا، يعالج المحنة، ويتجرع مرارة الظلم..
وإذ يستريح إلى أنه أدّى رسالته فى هذه الحدود الضيقة، يعود فيكشف لصاحبيه عن السرّ المحجّب وراء رؤياهما..
«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ..»
وهكذا بعد أن قال يوسف لصاحبى سجنه ما أراد أن يقوله- من الدعوة إلى الإيمان بالله، وهما مشدودان إليه بتلك الرغبة الملحة عليهما فى الاستماع إلى كلمته التي يقولها فى تأويل رؤياهما- أخذ يكشف لهما- مما أراه الله- عن تأويل هذه الرؤيا..!
- «أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ..»
ويلاحظ أنه لم يقل لكل منهما على حدة تأويل رؤياه، حتى لا يواجه الذي سيصلب بهذا الخبر المزعج، بل ألقى إليهما تأويل رؤياهما معا، ليأخذ كل منهما بنفسه ما يراه متفقا مع رؤياه..
- وفى قوله تعالى: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» توكيد لما كشف عنه من تأويل الرؤيا، وأن ذلك الذي كشف له عنهما من رؤياهما، هو أمر واقع، قضى الله به، ولا رادّ لما قضى الله! ..
قوله تعالى: «وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» ..
وحين علم يوسف من تأويل الرؤيا أن أحد صاحبى سجنه سيخلى سبيله،(6/1275)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
ويعود إلى مكانه من الملك، ساقيا لشرابه- قال له: «اذكرني عند ربك» أي تحدّث بشأنى عند الملك، واكشف له عن الكيد الذي كاد لى به النسوة حتى ألقوا بي فى السجن، فلعلّه يفكّ قيدى، ويطلق سراحى..
- وفى قوله تعالى: «ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ» إشارة إلى أن علمه بتأويل الرؤيا لم يبلغ مرتبة اليقين المطلق الذي يتلقاه وحيا من ربه، ولكنه علم مستمد من بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهو- أيّا كان- علم ذاتىّ، يراه إلى جانب ما يوحى إليه من ربّه، ظنّا غير مستيقن..
وفى غمرة الفرحة بالخلاص، نسى صاحب السجن هذا الذي نجا، ما عهد إليه به يوسف، فلم يذكره عند سيده، وهكذا نسى الناس أمره، فلبث فى السجن بضع سنين!
الآيات: (43- 49) [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)(6/1276)
التفسير:
«وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ.. يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» ..
العجاف: المهازيل، واحدتها عجفاء، وهى قليلة اللحم لضعفها وهزالها..
أفتونى: من الفتيا، وهى الكشف عن أمر خفىّ، يسأل عنه أهل الخبرة فيه..
تعبرون: عبر الأمر، سبره واختبره.. وتعبير الرؤيا: عبورها إلى ما وراءها من دلالات.. وعبر الوادي: جانبه الآخر..
ورؤيا الملك.. هى رؤيا نائم، حيث وقع له فى نومه هذا الذي رآه، وطلب إلى أهل العلم تأويله..
«قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» ..
الأضغاث: الأخلاط من كل شىء، ويجمع الغث والثمين، واحدها ضغث، ومنه قوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ» (44: ص) أي مجموعة من أعواد الحطب، وقيل سباطه نخل..
لقد رأى الملك فى منامه تلك الرؤيا التي دعا لتأويلها أهل العلم والنظر من رجال دولته، فلم ينكشف لهم منها شىء.. وقالوا هى أخلاط من الأحلام، أشبه بالهلوسة، لا تستقيم منها صورة سويّة يمكن أن يتحققها النظر، ويقع منها على(6/1277)
مفهوم، له معقول.. فكيف يجدون تأويلا لهذه الأخلاط من الأحلام، وهم لا يعلمون تأويل الأحلام ذاتها؟ إن تأويل الحلم وحلّ رموزه يحتاج إلى بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهذا أمر غير ميسور، لا يقع إلا لقلة قليلة من الناس، ثم لا يكون لهم مع ذلك القدرة على تأويل كل حلم، فكيف بأضغاث الأحلام؟
والأحلام هى من واردات العقل الباطن للإنسان، كما يقول علم النفس الحديث، أو هى من حديث النفس إلى صاحبها، وللنفوس أحاديث ذات منطق خاص بها، لا يلتقى كثيرا مع منطق الحياة، على مألوف الإنسان منها..
فحديثها فى الغالب إشارات ورموز، لا يستجلى مراميها إلا أهل البصيرة النافذة..
ولعل فى قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: «وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» .. لعل فى هذا ما يشير إلى أن المراد بالأحاديث، هو الأحلام، وهى من حديث النفوس إلى أصحابها..
ويشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه أن أبرز ما فى حياة يوسف عليه السلام، كان من منطلق الرؤيا التي رآها فى أول حياته.. والتي ذكرها القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسانه: «إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين» .. وقد أولها له أبوه.. ثم أعلمه أن الله سبحانه وتعالى سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث كما يقول سبحانه على لسان يعقوب:
«وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» .. وذلك لما رأى من ابنه يوسف هذه النفس الصافية التي تتحدث إليه هذا الحديث.. فهو بمثل الحديث الذي تحدثه به نفسه، يأخذ، وبه يعطى.! ثم كانت بعد هذا تلك المواقف التي وقفها يوسف فى تأويل الأحلام، لصاحبى سجنه، ثم للملك، وعن(6/1278)
تأويل هذا الحلم خرج من السجن، واعتلى منصب الوزارة..!
هذا، وقد جاء فى الحديث الشريف: «إن فيكم محدّثين وإن منهم عمر» أي إن فى جماعة المسلمين من يتحدث إليهم من وراء مدركاتهم بأحاديث ملهمة..
سواء أكان ذلك فى اليقظة أو فى النوم..
«وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ..»
الذي نجا منهما: هو أحد صاحبى السجن، وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا..
ادّكر: أي تذكر، وأصله اذتكر على وزن افتعل، فقلبت تاء الافتعال دالا لتقارب مخرجيهما، ثم أدغمت الذّال فى الدال، لأنها أخفّ منها، ويجوز أن يقال اذّكر، بإدغام الدال فى الذّال.
والأمّة: الجماعة من كل شىء والمراد بها هنا كتلة من الزّمن، أي زمن طويل.. ومنه قوله تعالى: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» (22: الزخرف) أي على مجموعة متضخمة من العادات والمعتقدات.
- وفى قوله تعالى: «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» إشارة إلى أنه قد عانى كثيرا من التفكير، حتى تذكر يوسف.. ففى الفعل «ادّكر» معالجة، ومعاناة، وعسر. وكذلك فى كلمة «أمّة» التي تجمع مقاطع متفرقة من الزمن! والسؤال هنا: كيف ينسى الرّجل وجه يوسف، وكيف بغيب عنه شخصه، وهو الذي كشف له عن رؤياه، وأراه منها وجه النجاة، بهذه البشرى المسعدة؟
ونقول- والله أعلم- إنه ربما كان للأيام التي قضاها الرجل فى السجن، والعذاب الذي أخذ به، والرعب الذي استولى عليه من الأهوال التي طلعت(6/1279)
عليه فى سجنه- نقول: ربما كان لذلك آثاره فى تفكير الرجل، وفى ذاكرته على وجه خاص.. فما أكثر ما تضم السجون بين جدرانها من عذاب، يرى المبتلون به شواهد من عذاب القيامة قبل أن تقوم!! «يُوسُفُ.. أَيُّهَا الصِّدِّيقُ.. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» هنا أحداث صغيرة وقعت، قبل أن يلتقى الرجل بيوسف، وقد ضرب القرآن الكريم عن ذكرها صفحا، لأنها مفهومة من السياق أولا، ولأنها لا يتعلق بذكرها فائدة، ثانيا..
فالرجل حين قال: «أنا أنبئكم بتأويله» أثار فى الناس- وخاصة الذين دعوا إلى تأويل رؤيا الملك، تساؤلات كثيرة، فكان من أقوال الناس له:
كيف تفعل أنت هذا الذي لم يستطعه العلماء وأهل الخبرة؟ ومن أين لك هذا العلم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المنكرة عليه ما قال! ثم لا بدّ أن الرجل أوضح لهم الأمر.. فقال إننى لست أنا الذي أنبئكم بتأويله، ولكن هناك فى السجن رجل يعلم ما لا تعلمون من تأويل الأحلام..
وأن هذا الرجل هو يوسف، فأرسلون إليه.. فأرسلوه إليه.
ثم إنه حين دخل على يوسف بدأه بما جاء إليه من أجله.. وقد كان من الطبيعي أن يجرى بينهما حديث وحديث، قبل أن يذكر له ما أراد منه.. ولكن اللهفة إلى إسعاف الملك بما يذهب بحيرته، صرفته عن كل شىء! - وفى قوله تعالى: «أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» إقرار من الرجل بما عرف من يوسف من صدق، فيما أوّل له ولصاحبه من رؤيا..(6/1280)
- وفى قوله: «لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ» - الرجاء هنا ليس واقعا على عودته إلى النّاس، إذ أن عودته إليهم أمر مقطوع به، غير متعلق على شىء..
وإنما وقع الرجاء هنا على محذوف تقديره: لعلى أرجع إلى الناس بما يكشف لهم عما أصابهم من بلبلة واضطراب، إزاء هذه الرؤيا التي رآها الملك، وحار العلماء والسحرة والمنجمون فى فكّ طلاسمها وحلّ رموزها..
أما الرجاء فى قوله: «لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» فهو واقع على الناس، وعلى العلم الذي يجيئهم به من يوسف عن هذه الرؤيا.. أي لعلهم يعلمون من هذا قدرك وفضلك، وأنك الصّدّيق الذي لا يتّهم، وأنهم قد اتهموك ظلما، وأودعوك السجن بغير جريرة.. أو لعلهم يعلمون ما غاب عنهم علمه من هذه الرؤيا، وأعجزهم الوصول إليه.
«قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» الدأب: المستمر، المتصل، فى جدّ ومثابرة.
شداد: أي فيها شدة، وقسوة، وجدب.
تحصنون: أي تحفظون.. ومنه الحصن، لأنه يحفظ من فيه، والحصان، والمحصنة، لأنها تحفظ نفسها من الإثم.. والحصان «بالكسر» لأنه يحفظ راكبه، ويمنحه قوة على عدوّه..
يغاث الناس: أي ينزل عليهم الغيث، وهو المطر، الذي يحمل إليهم الحياة، ويمدّهم بالخصب والنماء.
يعصرون: أي يصنعون الخمر من الأعناب، التي تزدهر وتثمر فى هذا العام.(6/1281)
بهذا التأويل كشف يوسف عن مضمون رؤيا الملك ومحتواها، وأنها تنبىء عن الأحداث المقبلة التي ستجرى على مصر خلال أربعة عشر عاما آتية! فالأعوام السبعة المقبلة، هى أعوام خصب وزرع وثمر..
والأعوام السبعة التي بعدها، أعوام جدب وقحط، لا تنبت زرعا، ولا تطلع ثمرا..
ولم يكتف يوسف بتأويل الرؤيا، بل أعطى التدبير الحكيم الذي ينبغى أن يقوم إلى جانب مدلولها.. وبهذا كشف للناس عن موهبة سياسية نادرة، وأطلعهم منه على بصيرة نافذة، فى الإمساك بدفّة السفينة فى متلاطم الأمواج، ليبلغ بها مرفأ الأمان والسلامة.
فكان أن نصح لهم بأن يجدّوا الجدّ كله خلال السنوات السبع المقبلة، فى زرع كل ما استطاعوا زرعه من الحبّ، الذي هو عماد الغذاء للناس.. ثم أن يمسكوا هذا الذي يجيئهم مما زرعوا، دون أن يأخذوا شيئا منه، إلا قليلا مما يأكلون.. ثم أن يدعوا هذا الذي احتفظوا به فى سنابله حتى لا يناله السّوس، أو يمسّه العطب! ومن هذا الذي ادخروه فى سنوات الرخاء والخصب، يكون غذاؤهم فى سنوات الشدة والجدب! ذلك هو التدبير أحكم التدبير، لملاقاة هذه السنوات السبع العجاف التي ستطلع على الناس، بعد سبع سنين من الخصب والرخاء..
- وفى قوله: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ» دعوة إلى التزام القصد والاعتدال خلال سنوات الخصب، وأن على الناس فيها أن يأخذوا القليل مما يحتاجون إليه، وأن يعيشوا فى حال أشبه بحال الحرب.. وبذلك يمكن أن يواجهوا هذه(6/1282)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
المحنة المقبلة عليهم، وأن يخرجوا منها سالمين، وإلا فإنهم إن نسوا فى خصبهم أيام الجدب المقبلة عليهم، هلكوا جميعا.. إنهم مقدمون على حرب قاسية مع الجدب والقحط، فإذا لم يستعدوا لهذه الحرب هلكوا بيد الجوع والحرمان.
- وفى قوله: «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» إجابة على سؤال يتردد فى خواطر الناس.. وهو: ماذا سيكون عليه الحال بعد هذه السّنوات المجدبة؟ وهل يجىء بعدها الخصب الذي اعتادوه، أم أنها ستكون سنة تجمع بين الخصب والجدب؟ فكان هذا الذي بشّرهم به، وأراهم منه طريق النجاة، فسيحا، رحيبا: «عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون» ..
إنه عام فيه خير كثير، يذهب بكل ما عانى الناس من بلاء وشدة خلال هذه السنوات الأربع عشرة! وفى هذا ما يشدّ عزمات الناس، ويمسك بهم على طريق الصبر والاحتمال، حيث تتوارد عليهم الحياة فى شدتها ولينها، وضرّائها وسرائها..
الآيات: (50- 52) [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)(6/1283)
التفسير:
ما خطبكن: أي ما شأنكن.. حاش لله: أي تنزيها لله.. وحاشا:
فعل استثناء يعزل ما بعده عن الحكم الواقع على ما قبله..
حصحص الحق: أي انكشف، وظهر، وتمحّص.
«وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ» .. لقد وقع ما تأول به يوسف حلم الملك موقع اليقين من الملك، ورأي ما كان قد رآه مناما أمرا واقعا بين يديه، ورأى فى يوسف الأمل الذي طلع عليه من حيث لا ينتظر، مادّا يده إليه بحبل الخلاص والنجاة، فهتف فيمن حوله: «ائتوني به» !! ولم يقل: ائتوني بيوسف، استعجالا لإحضاره، واختصارا للوقت الذي يضيع فى النطق باسمه، مكتفيا بالإشارة إليه بضميره! - «فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» لقد انتهز يوسف الفرصة السانحة له، وقد أصبح مطلوبا من الملك، لا طالبا له، ومرغوبا لا راغبا، فأراد أن يملى شروطه، ولم تنسه فرحة الخلاص من السجن بعد هذه السنين الطويلة التي قضاها بين جدرانه- لم ينسه ذلك أن يبدأ أولا بمحو هذه التهمة التي علقت به، وأن يقيم الملك على رأى صحيح فيه، وأن يعلم علم اليقين من هو هذا الإنسان الذي رمى بهذا البهتان، وقذف بهذا المنكر؟
فهناك واقعة لا يمكن إنكارها، إذ كانت بمشهد من عدد كثير من النسوة، كما كان أثرها المادي مما لا يخفى، وربما لا يزال بعضه باقيا إلى يومه هذا.. «النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» .. ما بالهن فعلن هذا الفعل؟ وفى(6/1284)
أية مناسبة حدث هذا لهن؟ ففى الإجابة عن هذا السؤال ما يكشف عن الكيد الذي كدن له به! «قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ» ؟.
وسأل الملك عن أمر هؤلاء النسوة، فلما أخبر به، دعاهن إليه، وسألهنّ:
«ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ ويوسف لم يقل إنهن راودته عن نفسه، بل اكتفى بذكر الحادثة، ولم يذكر مدلولها، وذلك أدب من أدب النبوة الذي يأبى عليه أن يذكر كلمة السوء، وأن يفضح الحرائر! ولكن الملك قالها لهن صريحة: «ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ لقد ملك يوسف عليه مشاعر الحب والإجلال، وساءه أن يلقى هذا الإنسان الكريم ما لقى من هذا الاتهام الشنيع، وهو العفّ الطاهر، التقىّ النقىّ، فأراد أن ينتقم له، وأن يعرض هؤلاء النسوة على الملأ فى مقام الخزي والفضيحة!.
ولم تجد النسوة فى يوسف ما يقلنه فيه، دفاعا عن أنفسهن، ولم تكن غير كلمة الحق كلمة يمكن أن تنطق بها ألسنتهن، إزاء هذه الشمس التي ملأ نورها الآفاق من حولهن، حتى إن الملك نفسه ليستضىء بضوئها، ويستهدى بهديها.. فكان جوابهن إقرارا منهن ليوسف بالعفة والطهارة..
«قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» أي تنزيها لله عن كلّ نقص، وكما ننزّه الله عن كل عيب ونقص، ننزه يوسف عن كل منكر وقبيح! «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» .
ولم تقل النسوة: ما رأينا عليه من سوء وإنما قلن هذا القول: «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» تأكيدا لطهره وعفّته، فإنهنّ لم يرين منه ما يسوء ولم يعلمن من أمره ما يشين.. سواء أكان ذلك معهن، أو مع غيرهن.(6/1285)
وتتلفت الأنظار هنا إلى امرأت العزيز، وتصغى الآذان إلى ما تقول فى هذا المقام، وهى رأس هذا الأمر كله..فماذا قالت امرأت العزيز؟.
«قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» لقد قهرها الحق، فأقرت على نفسها بمشهد من هذا الملأ:
«أنا راودته عن نفسه» .. فقد ظهر الحق، ولم يعد ثمة سبيل إلى إخفائه.
«أنا راودته عن نفسه» : تقولها هكذا صريحة مؤكّدة «أنا راودته عن نفسه» ! ولم تكتف بهذا العرض الذي تعرض فيه نفسها فى معرض الاتهام الصريح المؤكد، بل تستحضر يوسف الذي لا يزال فى سجنه، وتستدعى صورته التي لا تزال تملأ خيالها فنقول: «وإنه لمن الصادقين» .. أي إننى لكاذبة فيها تقوّلته عليه، وإنه لصادق فيه نفى هذا الاتهام عنه.. وفى قول يوسف:
«فاسأله ما بال النسوة» دون أن يشير إلى امرأة العزيز- أدب عال لا يصدر إلا ممن تأدب بأدب السماء، من أنبياء الله ورسله.
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» أي إنّى أقرر ذلك، وأشهد به على نفسى فى غير مواجهة، وذلك ليعلم أنّى لم أكذب عليه فى غيبته، حيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ودفع ما أتقوّله عليه.
وفى قولها: «ذلك ليعلم أنّى لم أخنه بالغيب» اعتذار منها ليوسف، وتودّد إليه، وفتح لباب الصفح والمغفرة بينها وبينه.
- وفى قولها: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» تعليق على ما كان منها من كيد وخيانة ليوسف، وأن هذا التدبير السيّء قد فضحه الله، وأخزى أهله.. وهكذا كل باطل لا بد أن تكشف الأيام زيفه، وتفضح وجهه المطلى بالزور والبهتان.. وفى هذا ما يدلّ على حسرتها على ما كان(6/1286)
منها فى حق هذا الإنسان العظيم، الذي لم يكن له من ذنب، إلا أن الله سبحانه صوّره فأحسن صورته، وأكمل خلقه! هذا، ويجوز أن يكون هذا القول من يوسف عليه السلام، وأنه قاله بعد أن علم بإقرار النسوة، وشهادة امرأة العزيز على نفسها، قاله معلّقا ومعلّلا لهذا الطلب الذي طلبه من الملك، وهو أن يسأل النسوة اللّاتى قطعن أيديهنّ.
وبهذا ينكشف له واقع الأمر، وقد انكشف هذا الواقع عن براءة يوسف مما رمى به، وبهذا يعلم العزيز أن يوسف لم يخنه فى غيبته وأنه كان أمينا على حرماته، وأنه لو كان خائنا له أو لغيره ما هداه الله إلى كشف هذه الحقائق التي كشف عنها، لأن هذا لا يكون إلا عن بصيرة استضاءت بنور الله، واهتدت بهذا النور، والله لا يهدى كيد الخائنين، ولا ينجح لهم أمرا، ولا يجعل لهم نورّا: «ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور» .
ونحن نميل إلى القول بأن قوله تعالى: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. نميل إلى القول بأن هذا هو من حديث يوسف إلى نفسه، تعليقا على ما انكشف للملك من أمر النسوة، وما ظهر من براءته.
وذلك لأنه قد جرى فى هاتين الآيتين، ذكر الله سبحانه وتعالى، ووصفه بصفات الكمال، كقوله: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» ..
وقوله: «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. وهذا لا يصدر إلا من إنسان مؤمن بالله إيمانا مشرقا متمكنا.. وامرأة العزيز، لم تكن- فى غالب الظن- مؤمنة.. وأنه إذا كانت مصر قد عرفت التوحيد فى فترة من(6/1287)
تاريخها الفرعوني، فإنها فى فترات كثيرة كانت تعبد أنواعا من الآلهة تتخذها من عالم الحيوان، أو الكواكب، وغير ذلك..
ثم إن مصر فى هذه الفترة بالذات، التي عاصرت يوسف عليه السلام، كانت على غير دين التوحيد، حيث رأينا يوسف فى سجنه يدعو صاحبيه إلى الإيمان بالله، ويكشف لهما عن زيف الآلهة التي يعبدونها من دون الله، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانه: «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» والله أعلم.
تم بعون الله الجزء الثاني عشر، ويليه الجزء الثالث عشر، إن شاء الله(6/1288)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة الجزاء الدنيوي.. وجزاء الآخرة 937 الإنسان.. وما ينزل من السماء 987 السمع والبصر.. ومكانهما فى الإنسان 999 العلم.. وأسلوب تحصيله 1075 الناس.. وهذا الاختلاف فى حظوظ الحياة 1214 يوسف.. والفتنة المتحدية 1251(6/1289)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
[الجزء السابع]
[تتمة سورة يوسف]
(الآيات: (53- 57) [سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 57]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
. التفسير:
قوله تعالى: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» . يجوز أن يكون هذا قد جرى على لسان امرأة العزيز، فى موقفها من يوسف، بعد أن أعلنت على الملأ أنها كانت كاذبة فيما تقوّلته عليه، وأنه كان صادقا فيما قاله عنها، وأنها هى التي راودته عن نفسه ولم يراودها هو عن نفسها.. وهى هنا تؤكد القول بأنها متهمة، وأنها لا تجد ما تبرئ به نفسها من هذا الذنب الذي ارتكبته فى حق يوسف.. إنها قد ضعفت أمام نفسها التي سوّلت لها هذا المنكر.. وإنها ليست إلّا بشرا، من شأنها أن تخطىء وتأثم، وأنها ليست فى عصمة من الخطأ.. «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» ..
هكذا النفس البشرية، تهفو إلى السوء، وتدعو صاحبها إليه «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» أي إلا ما أراد الله دفعه من السوء، لمن رحمهم من عباده، وحفهم بألطافه..(7/3)
فالاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» متعلق بالسوء.. بمعنى أن النفس تأمر بالسوء وتدفع إليه، وأن الناس تبع لما تأمرهم به أنفسهم، فيأتون كل ما تسوّل لهم به، إلّا ما أراد الله دفعه عنهم من سوء، رحمة منه، ولطفا بعباده! وهذا بعض السرّ فى كلمة «ما» التي لغير العاقل.
وهذا يعنى أن الناس جميعا- بلا استثناء- واقعون تحت سلطان أنفسهم، وأن هذا السلطان غالب عليهم، وأن رحمة الله هى التي تعصم من تعصمه منهم من مواقعة المنكرات، واقتراف الآثام، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تقع منهم الهفوات والزلات، فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون.
«إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ففى رحمة الله ومغفرته تغسل السيئات وتمحى الذنوب.. لمن تاب إلى الله، ورجع إليه من قريب.
ويجوز أن يكون هذا من كلام يوسف، على اعتبار أن من قوله كذلك:
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» - كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وأن هذا معطوف على ذاك، ليقرر به أنه لا يبرّىء نفسه براءة مطلقة من هذا الأمر، وأنه قد كان منه رغبة، وهمّ، ولكن الله عصمه وسلّمه.. وهذا الحديث إذا كان من يوسف، فإنه يكون بينه وبين نفسه، معلّقا به على مجرى الأحداث من حوله..
قوله تعالى: «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» ..
أستخلصه لنفسى: أي أجعله خالصا لى، أصطفيه، وأستأثر به.
وهكذا يخرج يوسف من السجن إلى حيث يجلس مجلس الإمارة والسلطان، فيكون من خاصة الملك، المقربين إليه، المشاركين له فى الحكم والسلطان..!(7/4)
- «فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» .. الهاء فى «كلّمه» يجوز أن يعود إلى الملك.. أي فلما كلم الملك يوسف.
وهنا يكون كلام محذوف، تقديره، فلماء جاء يوسف كلمه الملك قائلا:
«إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» أي موضع الثقة والائتمان..
ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى يوسف، بمعنى فلما جاء يوسف وكلم الملك، ورأى فى حديثه معه عقلا راجحا، ورأيا سديدا، قال له:
«إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ..»
«قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» .
خزائن الأرض: ما تخرجه الأرض من ثمار الفاكهة والحبّ.. وسمّى ذلك خزائن الأرض، لأنها تخزنه فى كيانها إلى أن يظهره الجهد الإنسانى، ويكشف عنه، بالغرس، والسقي، وغير هذا، مما يحتاج إليه الزرع كى ينمو ويثمر..
لقد طلب يوسف أن يتولى بنفسه الوظيفة التي يحسن القيام بها، والتي كشف عن مضمونها فى تأويل رؤيا الملك.. فهو يريد أن يحقق هذا التأويل الذي تأوله، وأن ينفّذه على الصورة التي تأولها عليه.. إنه هو الطبيب الذي كشف عن الداء، وليس أحد أولى منه بمعالجة هذا الداء والطبّ له، والإشراف على المريض، حتى تزول العلة، ويذهب الداء..
- وفى قوله تعالى: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى الصفات التي تؤهله لهذا الأمر الذي ندب نفسه له، والتي بغيرها لا يتحقق النجاح، ولا يؤمن الزلل والعثار.. وأبرز تلك الصفات هنا صفتان.. هما: الحفظ، والعلم.. والحفظ(7/5)
هو الضبط، والحزم فى تنفيذ الخطّة التي رسمها العلم. فهو بعلمه قد كشف عن الداء، وعرف الدواء، وبحزمه وضبطه قادر على أن يحمل المريض على التزام ما يرسمه له من أسلوب الحياة، وما يقدّم إليه من دواء، وإن كان مرّا..
فالمشكلة التي تواجه مصر فى هذا الوقت كانت محتاجة إلى الحزم الصارم، وأخذ الناس على طريق مرسوم لا يحيدون عنه، وإلا كان الهلاك والبلاء! ..
إن مصر يومئذ كانت تستقبل سبع سنوات من الخصب والخير، ثم تستقبل بعدها سبع سنين من الجدب والقحط.. فإذا لم تعمل من يومها حسابا لغدها، وإذا لم تستبق من سنوات الخصب ما يسدّ حاجتها فى سنوات الجدب، كان فى ذلك البلاء الشامل، الذي يأتى على كل حياة فيها..
وأمر كهذا لا بد أن يكون الحزم والضبط أول خطة يختطها ولىّ الأمر مع الناس، ويأخذهم بها، وإلا فإن الناس قد ينسون فى يومهم ما هم فى حاجة إليه لغدهم، إذ النفس مولعة بحبّ العاجل، لا تلتفت كثيرا إلى المستقبل وتوقعانه، وفى ذلك ضياع لهم، حين تقع الواقعة بهم، ولم يكونوا قد أخذوا عدّتهم لها.
ومن أجل هذا، قدّم الحفظ على العلم: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» . فالصفتان، وإن كانتا مطلوبتين لمواجهة هذا الأمر هنا، إلا أن الحفظ أولى، وأهم من العلم.. إذ قد يستغنى الحفظ هنا عن العلم، ويتحقق للناس بعض الخير، أو كثير منه.. على حين أنه لو استغنى العلم عن الحفظ لما تحقق للناس، فى هذه الحال، خير أبدا، ولكان العلم مجرد حقائق مرسومة فى كلمات، أو مودعة فى كتاب.. فإذا اجتمع الحفظ والعلم، اجتمع الخير كلّه.
وفى القرآن الكريم موقف شبيه بهذا الموقف، فيما كان بين «موسى»(7/6)
و «شعيب» عليهما السلام، حين دعت ابنة شعيب أباها إلى أن يستأجر موسى ويستعمله فى تدبير شؤونه.. إذ قالت: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ.. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .. فوصفت «موسى» بالصفتين المطلوبتين فى الأمر الذي هو مطلوب له، وهو القيام على رعى أغنام شعيب، ورعايتها، وتثميرها، وهذا أمر يحتاج إلى يد قوية عاملة، ترتاد مواقع العشب، والماء، دون أن يدفعها عنها أحد.. كما أنه يحتاج إلى «الأمين» الذي يرعى هذه الأمانة التي فى يديه، وأن يعطيها من جهده، وإخلاصه، ما يعطيه لما هو فى ملكه وخاصة شئونه..
وهكذا، توضع الأمور فى نصابها، حين يوضع الرجال فى أماكنهم المناسبة لهم.. فلكلّ عمل أهله الذين يحسنونه، فإذا قام على العمل من لا يحسنه، أفسده، وأضاع الثمرة المرجوّة منه.
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
مكنّا: من التمكين، أي مكّنا له، وثبّتنا مكانه ووثقنا أمره.
يتبوأ: ينزل، ويحلّ.
والمعنى: أنه بهذا التدبير الذي كان من الله، أصبح يوسف ممكّنا فى الأرض، ذا سلطان فيها، يفعل ما يشاء، ويمضى ما يريد، غير واقع تحت سلطان أحد.. وأنه لا خوف من مثل هذا السلطان المطلق، الذي قام عليه حارسان لا يغفلان، هما الحفظ للأمانة، والعلم بمواقع الخير للناس.
- وفى قوله تعالى: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» إشارة إلى أن هذا فضل من فضل الله على هذا العبد من عباده، ساقه الله سبحانه وتعالى إليه من غير(7/7)
عمل منه.. هكذا مواقع رحمة الله، تنزل حيث يشاء الله، كما اقتضت حكمته فى خلقه: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» .
- وفى قوله سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .. إشارة إلى أن المحسنين لا يفوتهم جزاء إحسانهم أبدا..
وإذن فالنّاس جميعا فى مواقع رحمة الله.. ولكنهم- مع هذا- صنفان:
صنف محسن، يعمل الصالحات، ويغرس فى مغارس الخير، وهؤلاء قد وقع أجرهم على الله.. يجزون جزاء ما يعملون.. «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا..» (30: الكهف) ..
وصنف آخر.. يفضل الله سبحانه وتعالى عليهم، من غير عمل، فيرزقهم ويوسّع لهم فى الرزق، ويكثّر لهم من المال والبنين..
وهذا هو واقع الناس فى الحياة: عاملون لا يفوتهم أبدا ثمرة ما عملوا وأحسنوا.. وغير عاملين، قد يصيبهم الله سبحانه وتعالى برحمته، وقد يحرمهم! وإذن فالعمل، وإحسان هذا العمل، مطلوب من كل إنسان كى يضمن الجزاء الحسن عليه.. فإنه لا يفوته هذا الجزاء أبدا..
أما من لا يعمل، ولا يحسن العمل، فهو بين الإعطاء والحرمان.. فإن أعطى فذلك فضل من فضل الله، ورحمة من رحمته، وإن يحرم فعن غير ظلم، أو بخس..
قوله تعالى: «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» .
أي أنه إذا كان للنّاس أجرهم فى الدنيا، وجزاؤهم بما يعملون فيها، فإن جر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.. فإنهم يوفّون أجرهم مرتين.. فى الدنيا، ثم فى الآخرة.. وأجر الآخرة أكبر وأكرم وأهنأ.. أما غير المؤمنين،(7/8)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فإنهم لا أجر لهم فى الآخرة، إذ قد استوفوا أجرهم كله فى الدنيا، التي عملوا لها، ولم يعملوا للآخرة شيئا، لأنهم لا يؤمنون بها.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15: هود) .. وإليه يشير قوله تعالى أيضا: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» (18- 20: الإسراء) .
الآيات: (58- 62) [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
. التفسير:
ومضى الزّمن يطوى الأيام والسنين، ووقعت مجاعة فى أرض كنعان التي كان يعيش فيها يعقوب وأبناؤه.. وكانت مصر قد أخذت لمثل هذه الحال أهبتها، منذ صار أمرها إلى يد يوسف، فبعث يعقوب بنيه إلى مصر ببضاعة يبيعونها فى مصر، ويشترون بثمنها حاجتهم من الطعام..(7/9)
«وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ» .
وفى كلمة «جاء» مع حرف الواو قبلها، ما يشعر بطول الزمن وامتداده، بين فراق يوسف لأهله، واتجاههم إليه فى هذه الرحلة، كما يشعر بطول الرحلة التي قطعوها من كنعان إلى مصر..
«فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» .. لقد عرفهم ولم يعرفوه، لأنه كان صغيرا يوم ألقوا به فى غيابة الجبّ.. وقد كبر، فتغيرت ملامحه، كما أنّه كان فى حال من الأبهة والسلطان، وما يحفّ به من خدم وحرس، وما يتزيّا به من حلل، وما يتوّج به رأسه من حلى وجواهر- كل ذلك كان مما يخفى على أقرب المقربين إليه من أهله أمره، حتى لو كان عهده به فى كنعان يوما أو بعض يوم! فكيف وقد مضت سنون؟ وكيف وليس فى تصور إخوته ولا فى خيالهم أن يكون يوسف فى مصر، أو أن يكون له هذا السلطان الذي كان عهد الناس به يومذاك، إنه ميراث، ينتقل من الآباء إلى الأبناء..!
«وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» .
ولمّا جهزهم بجهازهم: أي حين أعطاهم الكيل الذي يكال لهم ببضاعتهم التي معهم.
خير المنزلين: أي خير من يكرم النازلين به، ويحفظهم فى أنفسهم وأموالهم، بما يوفر لهم من أسباب الأمن والراحة.
وليس هذا المطلب الذي طلبه يوسف من إخوته قد وقع ابتداء، بل لا بد أن يكون قد جرت بينه وبينهم أحاديث، أراهم منها أنه يجهلهم، كى يتمّ التدبير الذي دبره، وهو أن يحضروا أخاهم من أبيهم، وقد عرف من هذه الأحاديث(7/10)
أنهم إخوة لأب، وأنهم كانوا اثنى عشر أخا، تخلّف أحدهم، وهو أخوهم من أبيهم، وفقد الأخ الآخر صغيرا.. فهم الآن أحد عشر أخا.. عشرة عنده، وواحد عند أبيه! ولأمر ما طلب يوسف أن يأتوه فى المرّة الثانية بهذا الأخ الذي خلّفوه وراءهم، ليأخذ حظه من الكيل مثلهم، وقد أغراهم بهذا، بقوله: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؟» أي ألا ترون أنى أعطى كل ذى حق حقّه، ولا أبخس الناس أشياءهم، وأنى أنزلهم منازلهم، وأوفر لهم أسباب الأمن والراحة؟ .. ثم تهدّدهم بعد هذا بقوله:
«فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ» ..
أي إن لم تأتونى بأخيكم هذا، فلا كيل لكم عندى، أي لا أكيل لكم شيئا بعد هذا، إذا جئتم تطلبون كيلا جديدا..
«قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ» ..
سنراود عنه أباه: أي سنحتال عليه فى طلبه، ونترفق به فى هذا الطلب، والمراودة استدعاء للإرادة، واسترضاء لها بقبول ما يراد.. ولقد فهم «يوسف» من هذا أنّهم على خوف وإشفاق أن يطلبوا من أبيهم هذا الطلب الذي يبدو غريبا، لا مسوّغ له، كما أدركوا هم أن يوسف يشكّ فى قولهم هذا: «سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ» وأنهم إنما قالوا هذا القول عن يأس من تحققه، فأكّدوا له ذلك بقولهم «وَإِنَّا لَفاعِلُونَ» .. أي لقادرون على أن نحمل أبانا، بحسن حيلتنا، على أن يجيبنا إلى هذا الطلب «وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .(7/11)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
فتيانه: خدمه.. وبضاعتهم: ما كانوا قد حملوه معهم من أرضهم إلى مصر، ليبتاعوا به طعاما..
لقد صنع يوسف مع إخوته صنيعا آخر، يغريهم بالعودة إليه، ومعهم أخوهم لأبيهم الذي طلبه منهم.. فأمر غلمانه أن يدسّوا البضاعة التي كانوا قد جاءوا بها بين أمتعتهم، فى الكيل الذي كاله لهم، فإنهم إذا عادوا إلى أهلهم ورأوا البضاعة التي ظنوا أنهم باعوها لا تزال بين أيديهم- وجدوا فى ذلك داعية لهم إلى أن يعودوا إلى «يوسف» ليردّوا له هذه البضاعة التي أصبحت وليست من حقّهم، بل هى للعزيز الذي أعطاهم بها هذا المتاع الذي عادوا به.
- وفى قوله «لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها» أي لعلهم يتحققون من أنها هى بضاعتهم وليست بضاعة قوم آخرين غيرهم، ممن كان قد اختلط بهم من الوافدين على مصر، يمتارون كما امتاروا هم.. وإذن فهى من حق العزيز، ومن واجبهم أن يعودوا بها إليه.. لأنها ثمن ما اشتروه منه، وهذا ما يشير إليه قوله: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. أي لعلهم بهذا الإحساس يجدون الدافع الذي يدفعهم إلى المجيء إلى مصر مرة أخرى، ليردّوا الأمانة إلى أهلها، فإن لم يكن بهم حاجة إلى الميرة والطعام، دفعهم دينهم الذي يعرفه فيهم، أن يعودوا بهذه البضاعة التي ليست لهم!
الآيات: (63- 67) [سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 67]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)(7/12)
التفسير:
«فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .
هكذا دخلوا على أبيهم بهذا الحديث: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ» ! أفبعد هذا الانتظار الطويل، ومعاناة الصبر على الجوع والحرمان، انتظارا لهذا الخير الذي يجىء من مصر- أبعد هذا يطلعون على أبيهم بهذا الخبر المزعج: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ!!» ثم ما العلاقة بين أن يمنع منهم الكيل وبين طلبهم أن يرسل معهم أخاهم كى يكتالوا؟ ما شأن الأخ بهذا؟
وهل هو بضاعة يشترى بها من مصر ما يكال؟ ذلك شىء عجيب! ثم كيف يقولون: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ؟ وكيف يحفظونه، وهم يركبون هذه الطرق التي لا يأتى منها خير؟ لقد ذهبوا إلى مصر، واحتملوا هذا العناء الشديد..
ثم عادوا من غير أن يحصلوا على شىء.. فكيف كان هذا؟ وما لأحوال هذه الدنيا قد تبدّلت وتحولت، حتى لا يكون بيع أو شراء إلا بهذه التحكمات التي لا مفهوم لها؟
لا شك أن يعقوب قد لقى هذا الطلب الذي طلبه أبناؤه منه- لقيه(7/13)
بتساؤلات كثيرة، أطلعته منهم على ما كان بينهم وبين العزيز حتى لقد عادوا دون أن يكال لهم كما يكال للناس! وهنا ينكشف ليعقوب ما أخفاه عنه أبناؤه لأمر ما.. لقد كال لهم العزيز، وعاد كل منهم ومعه حمل بعير..!
وإذن فماذا أرادوا بقولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ؟
إنهم أرادوا أن يحققوا بذلك أمورا.. منها:
أولا: الاستيلاء على عواطف أبيهم، وذلك بمواجهته بهذا الخبر الذي يبعث فيه الهمّ والقلق.. ثم لقائه فجأة بهذا الخبر الهنيء المسعد.. إنهم قد اكتالوا، وجاء كل منهم بحمل بعير.. ولكنهم منعوا مستقبلا من أن يكال لهم، حتى يكون معهم أخوهم من أبيهم!! وثانيا: فى الحديث عن منع الكيل فى المستقبل إلا بتحقيق هذا الشرط، إغراء لأبيهم بالمبادرة إلى إجابة طلبهم حتى يسرعوا بالعودة إلى مصر، ليأخذوا دورهم من الميرة قبل أن تنفد! وها هو ذا يعقوب لا يزال واقعا تحت تأثير الصدمة التي صدم بها حين سمع قولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» .. وإنه الآن لحريص على ألا تفوته الفرصة المواتية لجلب الميرة، مهما كان الثمن غاليا!! وهكذا أصاب قولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» - أصاب من أبيهم ما أرادوا من تخويفه بالمستقبل، إن لم يبادر ببعثهم إلى مصر مرة أخرى ليكتالوا، وأن يذلل كل صعب لإنفاذ هذا الأمر.. فهم صادقون فى قولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» لأنه منع منهم مستقبلا إن لم يجيئوا معهم بأخيهم من أبيهم، كما قال لهم يوسف: «ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ» .. وكما قال: «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ» .. ولكن هذا الخبر حين ألقوه إلى أبيهم(7/14)
لم يحمله على المستقبل، بل حمله على الحال التي كان يعيش فيها. ويتوقع الخير الذي يحمله أبناؤه العائدون من مصر.. عندئذ يلقى يعقوب أبناءه بقوله، الذي حكاه القرآن الكريم عنه:
«قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ.. فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
لقد تمثّل له فى هذا الموقف ما كان منهم من إلحاح عليه فى طلب يوسف، ليرتع ويلعب معهم، كما يقولون، ثم جاءوا إليه عشاء يبكون، قائلين:
«يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» ! لقد تمثل له هذا الموقف، فرأى فيما يطلبه أبناؤه منه الآن صورة مشابهة تماما له، وأن الذي دبّروه ليوسف ليس ببعيد أن يدبّر مثله لأخيه! - ففى قوله: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟» - اتهام لهم بالكيد ليوسف أولا، ثم السير فى طريق الكيد لأخيه.. ثانيا.. ثم هو- مع هذا الاتهام- ينكر عليهم أن يعودوا فيكرروا فعلهم المنكر الذي فعلوه بيوسف فيفعلوه بأخيه.!
- وفى قوله: «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .. هو عزاء له، يعزّى به نفسه فى حزنه على يوسف، وذلك بتسليم الأمر لله سبحانه، والاستسلام لقدره، والرضا بمقدوره. وأنه سبحانه لو أراد حفظ يوسف لحفظه، فهو خير الحافظين، لا يقع شىء فى هذا الوجود إلا بأمره.. «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .. فما ينزل بالناس من مكروه، هو واقع بهم من ربّ رحيم، فهو رحمة بالنسبة لما هو أقسى منه وأوجع! قوله تعالى: «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا(7/15)
يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» .
لقد كان الحديث الذي جرى بينهم وبين أبيهم أول شىء استقبلوه به، وذلك لأن العيون كانت متطلعة إلى ما يحملون معهم من زاد وميرة.. فكان جوابهم لهذه العيون المتطلعة قولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ! ثم كان جوابهم عن التساؤلات الكثيرة حول أسباب هذا المنع، قولهم: «فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ» .. ثم كان قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» تزكية لهذا الطلب.
ثم بعد هذا نظروا فى أمتعتهم التي معهم، فوجدوا أن البضاعة التي كانوا قد حملوها معهم إلى مصر، والتي اعتقدوا أنها قد أصبحت فى يد العزيز، مقابل الكيل الذي كاله لهم- وجدوا أن هذه البضاعة قد ردّت إليهم: «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ» - فعجبوا لهذا، وحسبوا أن فى الأمر خطأ، أو أن العزيز ربّما بدا له ألا يأخذ منهم ثمنا لهذا الكيل الذي كاله لهم، انتظارا لعودتهم إليه فى المرة الثانية..
- «قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي» أي ماذا نريد؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا، فماذا نفعل بها؟ وكيف نصبر على ما نحن عليه من حاجة إلى الطعام؟ إنها بضاعة قد أعددناها لنشترى بها طعاما، وها هى ذى لا تزال فى أيدينا، وإنه لا سبيل إلى الانتفاع بها إلا إذا عدنا بها إلى مصر مرة أخرى، وجلبنا بها الطعام الذي نريد.!
وفى قولهم: «وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» الواو هنا للعطف على محذوف تقديره.. إذ كان ذلك كذلك، نعود إلى مصر ونمير أهلنا، أي نتزوّد لهم بالميرة، وهى الطعام، ونحفظ أخانا الذي سنأخذه معنا، والذي بغيره لا يكال لنا، ونزداد به كيل بعير، إذ سيكون(7/16)
لكل منّا حمل بعير.. «ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» أي أن العزيز لا يعطى طالب الميرة إلا فى حدود مقدّرة لكل فرد مهما كانت قيمة البضاعة التي يحملها معه! إنه لا يأخذ أكثر من حمل بعير! وانظر كيف استدعوا أخاهم من أبيهم بهذا الأسلوب اللّبق الحكيم:
«وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» .. لقد جعلوه طلبا ثانيا بعد الطلب الأول، وهو الميرة، وشدّوه إليه، بحيث لا تكون الميرة إلّا به..
فهم لم يقولوا: ونأخذ أخانا، بل قالوا: «وَنَحْفَظُ أَخانا» .. كأن أخذه أمر مفروغ منه، لا مراجعة لأبيهم فيه.. فقد سلم به لهم حكما إن لم يكن قد سلم به واقعا.. ثم جاء قولهم «وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» إغراء لأبيهم بالتسليم لهذا الأمر الذي لا بد منه، ففيه جلب الخير لهم، وهم فى وجه هذا العسر والضيق!.
وانظر إلى روعة النظم القرآنى فى تصويره لهذا الإغراء العجيب الذي جاء محمولا إلى يعقوب فى قولهم «هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» .
فهذه الواوات المتتابعة التي تجمع تلك المتعاطفات، وتقرن بعضها إلى بعض- تمثّل أروع ما يمكن أن يبلغه فنّ العرض لمجموعة من فريد اللآلئ وكريم الجواهر، تحركها يد صناع، فتجىء بها واحدة إثر أخرى، حتى لكأنها أنغام موسيقية، تؤلف لحنا! وفى اختيار حرف «الواو» من بين حروف العطف، وفى تكراره، دون مغايرة- فى هذا ما يزاوج بين هذه المتعاطفات، ويؤاخى بينها، بحيث تبدو متجمعة، وهى متفرقة- لما فى حرف «الواو» من رخاوة، ولين، حيث تصبح هذه المتعاطفات على هذا النسق، كيانا واحدا لا يمكن الفصل بين(7/17)
أجزائه.. «وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» .. إنها أمر واحد وطلب واحد! «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ.. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» .
لم يجد يعقوب بدّا من التسليم بالأمر الواقع، بعد أن أخذ عليه أبناؤه كل سبيل، للتخلص من هذا الطلب الذي طلبوه..
وإنه لكى يقيم لنفسه عذرا بين يدى تلك المخاوف التي يتخوفها على ابنه هذا، دفعهم عنه بقوله: «لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ» ! هكذا بدأهم بهذا الحكم القاطع. كما بدءوه هم بقولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ..!
ثم جاءهم مستثنيا هذا الحكم بقوله: «حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» .. أي إننى لن أرسله معكم حتى توثقوا معى عهدا وميثاقا تشهدون الله عليه، أن تعيدوه إلىّ، إلا إذا أحاط بكم مكروه، فغلبكم عليه..
فذلك مما لا حيلة لكم فيه..
وفى قوله: «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» ما يكشف عن شعور يعقوب، وأنه يتوقع مكروها يقع لابنه هذا.. تماما، كما كان ذلك شعوره حين طلب إليه أبناؤه أن يرسل يوسف معهم، فقال: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» .. وقد صدق شعوره فى كلا الحالين.. فكان للذئب قصة مع يوسف، وكان للأحداث قصة مع أخيه! - «فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» .
لقد تم الأمر إذن، وأعطى الأبناء موثقهم لأبيهم، ورضى الأب، بعد(7/18)
أن جعل الله وكيلا وشهيدا على ما كان بينه وبينهم..
«وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» .
وحين تحركت القافلة للسير إلى مصر، بأبناء يعقوب، ومعهم أخوهم المطلوب لعزيز مصر، نصح لهم أبوهم فيما نصح بقوله: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» ! والسؤال هنا:
ما حكمة هذا النصح الذي نصح لهم به؟ وماذا يكون لو دخلوا مصر من باب واحد؟ ..
لعل أظهر ما فى هذه النصيحة من حكمة هى ألا يلفتوا الأنظار إليهم، بهذا الموكب الذي ينتظم أحد عشر أخا.. فى سمت واحد، من الجمال والجلال..
فذلك من شأنه أن يدير الرءوس إليهم، وأن تدور الأحاديث عنهم، وتختلف الآراء فيهم، وليس ببعيد أن يكاد لهم من أكثر من جهة: من النساء والرجال، أو من تجار مثلهم، أو من حاشية العزيز نفسه، وقد رأت الحاشية ما كان من العزيز من تلطفه بهم، ومن كيله لهم دون أن يأخذ منهم شيئا.. فما أكثر دوافع الحسد والغيرة فى قلوب الناس، وما أكثر ما فى قلوب الناس من حسد وغيرة حول السلطان وحاشية السلطان! وأيا كان الأمر، فإنه شعور الأب الذي يتخوف على أبنائه نسمات الريح حين تهب عليهم، فكيف وهم على سفر طويل، وفى يد غربة موحشة قاسية؟
ثم كيف وقد كانت فجيعته فى يوسف لا تزال تفرى كبده!؟(7/19)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
- وفى قوله تعالى: «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» إشارة إلى أن هذا النصح الذي نصح لهم به، لا يردّ عنهم قضاء الله، ولا يدفع القدر المقدور لهم «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» ، فهو سبحانه الذي يحكم فى عباده كما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقب لقضائه «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» أي فوضت أمرى إليه، وأسلمت مقودى له «وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» أي عليه وحده ينبغى أن يكون معتمد كل معتمد، ومستند كل مستند.. أما ما سواه فلا معوّل عليه، ولا رجاء عنده، ولا عون منه.
الآيات: (68- 76) [سورة يوسف (12) : الآيات 68 الى 76]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)(7/20)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» .
فاعل الفعل «يغنى» ضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل دخلوا والتقدير: فلما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى هذا الدخول عنهم من الله من شىء، فقضاؤه نافذ لا محالة، لا يدفعه عنهم هذا التدبير الذي دبّر لهم من أبيهم!. وفى تقييد الجملة الخبرية: «ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» - فى تقييدها بظرف الدخول. فى قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا» إشارة إلى أن قضاء الله كان يترصدهم على تلك الأبواب المتفرقة التي دخلوا منها، كما أمرهم أبوهم، وأن ما كان يحذره أبوهم عليهم، وصرفهم عنه إلى حيث قدر لهم الأمن السلامة- هو الذي دفع بهم إلى حيث جرى القدر المقدور لهم، كما ستكشف عنه الأيام بعد.. فسبحان عالم الغيب والشهادة، ومن بيده ملكوت السموات والأرض.
لمحة من القضاء والقدر
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» إشارة إلى أن يعقوب، يعلم هذا حقّ العلم، وأن نصحه لأبنائه، وتحذيره إياهم أن يدخلوا من باب واحد، وأمرهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة- ما كان يغنى عنهم من أمر الله(7/21)
وقضائه شيئا، وهذا ما أشار إليه يعقوب بقوله: «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» .. ولكنّها حاجة فى نفس يعقوب قضاها، وكان واجبا عليه أن يقضى هذه الحاجة، كما كشف عنها تقديره، وتدبيره.. ذلك أن واجبا على الإنسان أن يدبّر نفسه، وأن ينظر فى شئونه وأحواله، وأن يزنها بالميزان الذي ترجح فيه كفة خيرها على شرها، حسب تقديره وتدبيره، ثم يمضى أمره ذلك على الوجه الذي قدره.. أما ما قدّره الله سبحانه وتعالى فهو محجوب عنه، لا ينكشف له حتى يقع. وهو واقع لا شكّ على ما قدّره الله سبحانه وقضى به.. سواء اتفق مع تقديره هو أم اختلف..
فالإنسان مطالب بأن يعمل، غير ناظر إلى قدر الله وقضائه، لأنه لا يعلم ولا يرى، ما قدّره الله وقضاه، ولو أنّه انتظر حتى ينكشف له القضاء، ما عمل شيئا أبدا حتى يقع القضاء، وينفذ القدر، حيث لا يكون له فى هذا سعى واجتهاد، ولكان بهذا كائنا مسلوب الإرادة، فاقد الإدراك! وهذا ما لا ينبغى أن يكون عليه الإنسان، وقد وهبه الله عقلا، وأودع فيه إرادة..!
وسنعرض لموضوع القضاء والقدر، عند تفسير قوله تعالى: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» (79: الكهف) - فى هذا اللقاء المثير الذي كان بين موسى وبين العبد الصالح..
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ» - إشارة إلى أن يعقوب يعلم هذه الحقيقة، وهى أن قضاء الله نافذ لا مردّ له، ولكنه مطالب بأن يعطى وجوده حقّه، من حيث هو إنسان عاقل مريد..
فهو ذو علم لما علّمه الله سبحانه وتعالى، وهو بهذا العلم يعمل ما يمليه عليه عقله، ويدلّه عليه نظره، متوكلا على الله، مفوضا أمره إليه، راضيا بما يأتى به قضاء الله فيه! «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هذه الحقيقة.. فهم بين(7/22)
إنسان يعمل غير ناظر أبدا إلى ما لله من سلطان فيما يعمل.. وبين إنسان لا يعمل شيئا، مستسلما لما يأتى به القدر.. وكلا الطرفين جائر، بعيد عن الطريق السّوىّ المستقيم! قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ، قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
آوى إليه أخاه. ضمّه إليه، وخلا به، وكان له أشبه بالمأوى الذي يأوى إليه الإنسان، فلا يراه أحد..
لا تبتئس: أي لا تحزن، ولا تضق ذرعا بما سيكون منهم لك، من اتهام وقذف.. وهكذا بدأ يوسف تنفيذ الخطة التي اختطها من قبل، والتي بها حمل إخوته على أن يأتوه بأخيهم من أبيهم هذا، فخلا به يوسف وأنبأه أنّه هو أخوه يوسف، وأنه لن يكشف عن نفسه لإخوته الآن، حتى يضعهم أمام التجربة التي أعدّها لهم، وأن على أخيه ألّا يجزع ولا يقع فى نفسه ما يسوؤه منهم، خلال تلك التجربة! «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» .
السّقاية: القدح الذي يستخدمه الملك لشرابه، ويستقى به..
والعير: الدوابّ التي تستخدم للحمل والركوب.
وتبدأ التجربة بأن يأمر يوسف غلمانه بأن يدسّوا القدح الذي يستخدمه لشرابه فى رحل أخيه، ثم ينادى مناديه وراء القوم وقد تحركوا للمسير نحو العودة إلى ديارهم..
وفى المناداة عليهم بقوله: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» بتوجيه النداء إلى عيرهم، دون(7/23)
المناداة عليهم بقوله: أيها الركب، مثلا- فى هذا دعوة لهم إلى أن يتوقفوا عن السير.. ولما كانت العير هى المنظور إليها عند هذا النداء، لأنها هى المتحركة، فقد حسن مخاطبتها، لأنها هى المطلوبة أولا.. فإذا وقفت كان للمنادين شأنهم مع راكبيها.. ولهذا فإنه ما إن صدر النداء: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» حتى توقفت، وما إن توقفت حتى كان الحديث إلى راكبيها: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ! «قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ..ماذا تَفْقِدُونَ؟» ..
لقد لوى الركب زمام عيرهم عن السير إلى وجهتهم، واستداروا بها نحو من يهتفون بهم، ويلقون إليهم بهذه التهمة الشنعاء: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ! فقالوا لهم، وقد أقبلوا عليهم: «ماذا تفقدون» ؟
«قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» .
لقد كان الرد بلسان الجميع: «نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ» هذا هو ما سرق وذلك ما نتهمكم بسرقته.!
أما رئيس هذا الجمع المنطلق وراء القوم، فإنه يتحدث إليهم بما يملك من سلطان، لا يملكه غيره من جماعته.. فيقول بلسانه هو: «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» .. فهو يريد أن يأخذ الأمر بالحسنى، وأن يستردّ الصّواع من آخذه، فى مقابل جعل جعله له، وهو حمل بعير من الطعام، وأنه كفيل وضامن لتحقيق هذا الوعد! «قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» ..
أي لقد علمتم من أمرنا أننا ما جئنا لنحدث فى أرضكم فسادا، وإنّما جئنا تجارا لا سراقا.. «وَما كُنَّا سارِقِينَ» لهذا الصّواع الذي تدّعونه علينا..(7/24)
«قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» .
إذن فلقد خرج الأمر عن المياسرة والمسالمة، إلى هذا التحدّى..
- «فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ» ؟ أي ما جزاء السّارق إذا كنتم كاذبين فى قولكم «وَما كُنَّا سارِقِينَ» ؟.
- «قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ» أي جزاء السارق أن يؤخذ بجرم ما سرق..
- «كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» أي هذا هو الحكم الذي ندين به من يعتدى، وهو أن نأخذه بعدوانه.. لا نقبل فيه شفاعة، ولا نعفيه من تحمّل تبعة ما جنى! «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ.. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» .
لقد جىء بالقوم إلى العزيز نفسه، حتى يكشف عن أمرهم بين يديه، ليظهر إن كانوا سارقين، أم غير سارقين.. فبدأ بالبحث عن الصّواع فى أوعيتهم، أولا، ثم بالبحث عنها فى وعاء أخيه، وذلك مبالغة فى إخفاء، التدبير الذي دبّره لهم.. «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» ! والسؤال هنا: لم كان الحديث عن «الصّواع» بضمير المذكر، ثم كان الحديث عنه هنا بضمير المؤنث» ؟
والجواب: أن الضمير المذكر يعود إلى «الصّواع» على اعتبار أنه «شىء» أو متاع ضائع من الملك.. أما الضمير المؤنث فإنه يعود إلى السّقاية، وهى «الصواع» أيضا، ولكن العزيز ذكره باسم السقاية، كما يقول الله تعالى: «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» ثم تدور تلك(7/25)
السقاية دورتها وتعود إلى العزيز مرة أخرى «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» ..
فهو الذي جعلها فى وعاء أخيه، ثم هو الذي استخرجها من وعاء أخيه.
قوله تعالى: «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ» .
الكيد التدبير المحكم، وفى نسبة الكيد والتدبير إلى الله سبحانه وتعالى إشارة إلى ألطافه بيوسف، ورعايته وتولّيه له، وأنه سبحانه هو الذي يدبّر هذا التدبير المحكم، وأنه بمثل هذا التدبير الذي دبّره له، بلغ ما بلغ من منازل العزة والسيادة.. وتسمية تدبير الله كيدا، تقريب لمفهومه المتعارف بين الناس، وذلك أنه إذا كان التدبير محكما، تتشعب مسالكه، وتتباعد أسبابه- ثم تلتقى جميعها آخر الأمر، فتقع على الهدف المراد- كان هذا التدبير كيدا، وإلى هذا يشير قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً» (15- 16: الطارق) .
قوله تعالى: «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» أي أنه ما كان يقع فى تقديره أبدا أن يدخل أخاه فى سلطان الملك، فيصبح رجلا من رجال دولته.. ولكن بمشيئة الله وتقديره، كان هذا الذي لم يكن متصوّرا، ووقع ذلك الذي لم يكن متوقعا.
قوله تعالى: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» أي بيدنا الملك، فنهب ما نشاء لعبادنا المخلصين من برّ وإحسان، ومن علم ومعرفة!.
قوله تعالى: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن ما بلغه يوسف من علم، هو علم قليل، لا يوازن ذرة من علمنا.. وأن هذا العلم الذي معه، والذي بلغ به هذه المكانة فى الناس- هذا العلم فوقه درجات كثيرة من العلم.. وفوق هذه الدرجات درجات.. وهكذا حتى تصبّ جميعها فى محيط العلم الإلهى الذي لا حدود له..(7/26)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
الآيات: (77- 83) [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 83]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
التفسير:
قوله تعالى: «قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» .
لقد سقط فى أيديهم، وأمسكت التهمة بهم، ووقع أخوهم لأبيهم فى شباكها.. ولم يكن لهم ما يقولونه إزاء هذا الواقع الصريح، إلا أن يلقوا باللأئمة على أخيهم هذا، وأن ينسبوه إلى السوء، وأن ما وقع منه لم يكن(7/27)
بالمستبعد عنه.. إنه يسلك فى هذا مسلكا كان لأخ له من قبل.. هو يوسف! فهما ينتسبان إلى أم غير أمهم أو أمهاتهم.. ومن هنا كان منهما هذا المنكر الذي لم يعرفه آل يعقوب! وماذا سرق يوسف؟.
إنهم لا يزالون يذكرون إيثار أبيهم إياه بحبه وعطفه.. «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا» .
فهل يرون فى هذا سرقة من يوسف لحب أبيهم؟ وهل يرون أن يوسف قد أخذ منهم ما ليس له!؟
إذن.. فهو سارق؟ ربما كان ذلك هو الذي عدوّه سرقة! «فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ» .. أي تلقى يوسف منهم هذه التهمة، فأسرّها فى نفسه، ولم يسألهم عنها، ولم يكشف لهم عن وجه يوسف الذي ألقوا إليه بهذه التهمة.
«قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» قال ذلك بينه وبين نفسه. أي أنهم كانوا معتدين عليه، ظالمين له.. والله أعلم بهذا الوصف الذي وصفوه به، حين رموه بالسرقة.
قوله تعالى: «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ..»
هنا يجيئون إلى يوسف عن طريق الرجاء والاستعطاف، بعد أن جاءوا إليه منكرين متحدّين.. فقد ظهر أنهم سارقون، وهذا المسروق قد وجد فى أمتعتهم! ..
- «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً» فهم لا يستشفعون له، وإنما(7/28)
يستشفعون لأبيه الذي بلغ من الكبر عتيّا، فلا يحتمل هذه الصدمة التي تصدمه بفقد ابنه هذا..
- «فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ.. إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فخذ بجريرته أحدنا، ليلقى العقاب الذي ستعاقبه به.. وهذا منك إحسان بأبيه، وإكرام لشيخوخته، وأنت- كما رأينا من أفعالك- محسن، تفيض يداك بالخير والمعروف لكل من يرد عليك.
«قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ.. إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ» أي عياذا بالله أن نبرىء مذنبا وندين بريئا، فنأخذ البريء بذنب المسيء..
إن ذلك ظلم، لا يلتقى أبدا مع الإحسان الذي تدعوننى باسمه.
«فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ.. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .
استيئسوا: وجدوا اليأس، وانتهى أمرهم إليه.
خلصوا نجيّا: أي خلصوا إلى بعضهم، وانعزلوا عن أعين الناس، يديرون الحديث بينهم فى سرّ.. وأصل النجوة: المكان المرتفع، حيث يعتصم به، ويلجأ إليه.. بعيدا عن الناس.
أي وحين يئس القوم من أن يستردوا أخاهم، وأن يقيموا أحدهم مقامه فى التهمة التي أخذ بها- أخذوا مكانا منعزلا، بعيدا عن الناس، وجعلوا يتدبرون فيه أمرهم، والأسلوب الذي يواجهون به هذا الموقف المتأزم.
- «قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ» ..
والموثق الذي أخذه أبوهم عليهم هو ما جاء فى قوله تعالى: «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ(7/29)
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ»
..
فكيف تلقون أباكم الآن؟ وكيف تواجهونه بهذا الخبر؟ وهل نسيتم ما كان منكم من يوسف من قبل؟ إنكم إن تكونوا قد نسيتم فإن أباكم لم ينس.. ولقد اتهمكم اتهاما صريحا به، إذ قال: «لقد سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ! - «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. فهذا هو الموقف الذي سيتخذه كبيرهم.. إنه لن يبرح هذه الأرض- أرض مصر- ولن يغادرها، لأنه لا يستطيع أن يلقى أباه، وأن يجد العذر الذي يعتذر به إليه! .. وإنه لمقيم هنا إلى أن يعلم أن أباه قد علم الأمر وتحققه، فغفر له، وأذن له بالعودة.. أو ينتظر حكم الله فيه، وتبرئة ساحته مما حدث..
«ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» .
أي أما أنتم، فعودوا إلى أبيكم، وأخبروه الخبر، كما وقع على مرأى منكم ومسمع.. فذلك أمر قضى الله به، وليس لنا بما قضى الله به حيلة، وقد أعطينا الموثق، ولم نكن ندرى ماوراء الغيب «وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ولو كنا ندرى ما وقع لما أعطينا أبانا ما أعطينا من ميثاق.
«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» ..
ثم قولوا لأبيكم: إن كنت لا تصدق ما نقول، فاسأل أهل القرية التي كنا فيها، أي مصر، فإن عزّ عليك ذلك، ولم تجد فى نفسك القدرة على السّفر لترى بعينك ما حدّثناك به، فهناك الركب الذي كان معنا من أبناء كنعان، الذين أقبلوا معنا من مصر بعد أن أخذوا حاجتهم منها كما أخذنا.. هؤلاء هم(7/30)
قريبون منك فاسألهم.. ثم إننا- قبل هذا، أو بعد هذا- لصادقون، فيما حدثناك به..
وانظر إلى موقفهم هنا، وقد جاءوا إلى أبيهم بالصدق كله، وإلى موقفهم من قبل مع يوسف، وقد جاءوا إلى أبيهم بالكذب كله! إنهم هنا يجدون لكلمة الحقّ مساغا فى أفواههم، وقوة على ألسنتهم..
فيقيمون عليها الأدلة البعيدة والقريبة.. ثم لا يكتفون بهذا، بل يجزمون بصدقهم، ويؤكدونه، وإنهم لهذا فى غنى عن أن يشهد لهم أحد بصدقهم، «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .
أما هم هناك، فإنهم قد حملوا شاهد الزور بين أيديهم.. قميصا ملطخا بالدّم الكذب، ودموعا متلصّصة، تتخذ من الليل ستارا تستر به زيفها.. ثم كلمات مستخزية متخاذلة، تمشى على استحياء، فى رعشة واضطراب: «يا أَبانا.. إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ.. وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا.. فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ.. وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» !! إن هذا القول كان أولى بهم أن يقولوه فى المرة الثانية، وهم صادقون..
إذ كانت منهم فعلة أولى، افتضح فيها أمرهم، ووقع منهم أبوهم على ما فعلوه بيوسف، حين ألقوه فى الجب وادعوا أن الذئب أكله.. فإذا جاءوا اليوم يقولون عن ابنه الآخر، إنه سرق، وإن العزيز قد أخذه رهينة عنده- كان اتهامه لهم بالكذب أقرب شىء يقع فى نفسه.. وكان ظاهر الحال يقضى بأن يقولوا: «ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» ولكنهم إذ كانوا صادقين حقّا، فإنهم لم يلتفتوا إلى ظاهر الحال، ولم ينظروا إلى وراء، بل واجهوا أباهم بالحق الصّراح الذي بين أيديهم..! فقالوا: «إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما(7/31)
عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ
.. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» ..
«قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ! هى نفس المواجهة التي واجههم بها، حين جاءوه يلقون إليه بالخبر المفجع فى «يوسف» .. إنهم متهمون عنده فى الحالين.. لأنه كان يتوقع منهم أن يسيئوه فى يوسف، وفى أخيه.. ففى يوسف يقول لهم: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» ..
وعن ابنه الآخر يقول لهم: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟» .
وهكذا يأخذهم بحدسه فيهم، وظنّه بهم، وقد صدقه حدسه فى الأولى، وتحقق ظنه فى الثانية، فوقع المكروه فى كلا الحالين.
«فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» أي فصبر جميل على هذا المكروه، هو الدواء الذي لا دواء غيره.
«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» .. لقد وقع فى نفس يعقوب أن محنته فى بنيه- يوسف، وأخيه، وكبير أبنائه- قاربت أن تزول، وأن بوارق الأمل أخذت تلوح له فى الأفق، وأن إيمانه بربّه، ورجاءه فى رحمته لن يخذلاه أبدا، ولن يسلماه إلا إلى السلامة والعافية..
ولهذا فهو على رجاء بأن الله- سبحانه- سيلطف به، وسيجمع شمله المبدّد، ويعيد إليه أبناءه الذين لعبت بهم يد الأحداث.. «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» .(7/32)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
الآيات: (84- 87) [سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 87]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
التفسير:
«وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» .
لقد انصرف يعقوب عن الحديث مع أبنائه فى شأن أخيهم الذي قالوا عنه إنه سرق، وإنه فى يد العزيز بمصر.. وأسلم نفسه إلى ما يعتمل فى كيانه من حسرة وأسى على مصيبته فى يوسف.. إنه قد عرف- على سبيل الظنّ أو اليقين- أن أخا يوسف فى مصر، أما يوسف، فإنه لا يعلم المصير الذي صار إليه.. أحىّ هو أو ميت؟ وإذا كان حيّا فكيف يحيا؟ وأىّ بلاد الله احتوته؟
ذلك هو الذي يزعجه، ويؤرقه! فلو أن يوسف قد مات لكان لحزنه عليه نهاية.. ولكنه يعلم يقينا أن القصّة التي جاء بها إليه أبناؤه فى شأنه، كانت مكذوبة ملفقة، وأن ذئبا لم يأكله.. فهو حىّ ميت.. يطلع عليه فى كل لحظة بهذه الصورة العجيبة، فتهيج لذلك أحزانه، ويشتد كربه، وتسرح به الظنون(7/33)
فى كل أفق، باحثا عن يوسف.. ثم يعود آخر المطاف ولا شىء معه، إلّا هذه الزّفرات التي تنطلق من صدره، فترسم على لسانه هذا النغم الحزين: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» !! وهكذا تهجم لوعات الأسى والحسرة على هذا الشيخ الكبير، حتى لقد ابيضّت عيناه من الحزن الدفين، الذي أبى على عينيه أن تبللهما قطرات الدموع، وأن تطفئ النار المشتعلة فيهما، حتى أتت على فحمة سوادهما، وأحالته رمادا! «فهو كظيم» أي يكظم حزنه، ويحبسه فى صدره.. وذلك هو الحزن أفدح الحزن، وأشدّه قسوة.. يقول الشاعر «البارودى» :
فزعت إلى الدموع فلم تجبنى ... وفقد الدّمع عند الحزن داء
وما قصّرت فى جزع ولكن ... إذا غلب الأسى ذهب البكاء
«قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» .
ومع هذه الهموم وتلك الأحزان، التي يعالجها الشيخ الضعيف فى نفسه، ويمسكها فى كيانه، فإنه لم يسلم من اللّوم، الذي يزيد من آلامه، ويضاعف من أحزانه.. فإذا غفل عن نفسه لحظة وجرت على لسانه كلمة يهتف فيها بيوسف، تحركت الغيرة فى صدر أبنائه، وسلقوه بألسنة حداد.. إنه لم ينس يوسف، ولن ينساه، وإنه لا يزال يعيش مع ذكراه، منصرفا إليه بوجوده كلّه، غير ملتفت إلى أحد سواه! ومن كلمات العتب واللوم التي يسمعها يعقوب من أبنائه كلما جرى ذكر يوسف على لسانه- قولهم هذا، الذي حكاه القرآن عنهم: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» ..
والحرض: الشيء الذي استحالت طبيعته وتغيرت معالمه.(7/34)
والمعنى: أنك لا تزال هكذا فى هذا الوسواس المزعج حتى تفسد وتختلّ، أو تهلك وتموت.. وهو خبر يراد به اللوم والتقريع..
والفعل «تَفْتَؤُا» من أفعال الاستمرار، ولا يستعمل إلا مصحوبا بالنفي، وقد حذف هنا حرف النفي «لا» لدلالة المقام عليه.. أو أن الفعل «تفتأ» ضمّن معنى الفعل «تستمرّ» الذي لا يصحبه النفي، وقد جاء فى قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى
- جاء الفعل أبرح متضمنا معنى فعل الاستمرار، فلم يصحبه نفى.
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .
البثّ: الهمّ، والكرب، الذي يغلب صاحبه، فلا يتسع له صدره، فيصرّح به، ويلقيه خارج صدره.. وأصل البثّ الانتشار، يقال: بث الحديث:
أي أذاعه ونشره، ومنه قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» أي المنتشر فى الفضاء.
- وفى قوله تعالى: َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
إشارة إلى أنه إذ يشكو إلى الله ما به فإنما يشكو إلى رب رحيم، يضرع إليه فى الكروب، وتبسط له الأيدى فى الملمات، وتتجه الوجوه إليه فى الشدائد!! ولمن إذا يشكو الموجوعون؟ وإلى من يستصرخ المستصرخون؟ إذا لم يكن بدّ من الشكوى والاستصراخ؟
أهناك غير الله من يرجى لدفع الضر وكشف البلاء؟
إن اللّجأ إلى الله والهتاف به، والشكوى إليه، والتوجع له، هو من دلائل الإيمان به، والثقة فيه، وإظهار العبودية له والافتقار إليه..(7/35)
وإنها لعبادة أىّ عبادة، تلك الأكفّ الضارعة إلى الله، وهذه الألسنة الشاكية له، وتلك العيون المتطلعة إليه، ترقب العافية منه، وتنتظر مواطر الخير من غيوث رحمته..
ولهذا، فلقد كان مما أمر الله به عباده أن يدعوه دائما.. فى السراء وفى الضرّاء، وأن يكشفوا بين يديه أحوالهم، وهو الذي يعلم سرهم ونجواهم، وأن يجتهدوا فى الطلب، وهو الذي قدّر كل شىء، وكتب لهم ما هو لهم.. ولكن هذا منهم هو عبادة له، وتسبيح بحمده.. وفى هذا يقول سبحانه.. «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» (55: الأعراف) .. ويقول سبحانه: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» (90: الأنبياء) .
ويقول سبحانه: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (60:
غافر) ..
ذلك ما يعلمه يعقوب من موقفه من ربه، ومن تضرعه إليه، وشكاته له، إنه يعلم من الله، أي مما لله من صفات الكمال والجلال ما لا يعلمه أبناؤه..
ولو علموا من الله ما علم لما كان منهم هذا اللوم له.
«يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» .
ولعلم يعقوب بربّه، وما عنده من رحمة واسعة، وفضل عظيم، فإنه يدعو أبناءه إلى أن يؤمنوا بالله إيمانه به، ويعرفوه معرفته له، ويطمعوا فى فضله ورحمته طمعه فيهما، وأن ينطلقوا هنا وهناك ليتحسسوا من يوسف وأخيه أي ليبحثوا عنهما، ويتنسموا ريحهما، وألا يدخل عليهم شىء من اليأس من روح الله «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» الذين لا يعرفون الله،(7/36)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
ولا يقدرونه قدره.. أما المؤمنون فهم أبدا على رجاء من رحمة الله، وعلى ترقب لفضله، وتوقّع لغوثه.. ويوم ينقطع رجاء العبد من ربه، فذلك شاهد على انقطاع الصلة بينه وبينه، وعلى فراغ القلب من أية ذرّة من ذرات الإيمان به! روى أن بعض الصالحين كان يقول: «إن لى إلى الله حاجة أدعوه لها منذ أربعين عاما، ما استجابها لى، ولا يئست من دعائه..»
- وفى قوله «فتحسسوا» إشارة إلى البحث المعتمد على التحسس بالمشاعر والحدس، لا على النظر المادىّ، إذ كان الأمر خفيّا، لا يرى الرائي منه شيئا..
إنه فى البحث عنه أشبه بمن يتحسس طريقه فى الظلام الدامس، حيث يبطل عمل العينين، ويكون الاعتماد على الحدس والتظنّي..
وفى تعدية الفعل بحرف الجر من، وهو فعل متعدّ بنفسه، إشارة إلى أنهم يتبعون آثار يوسف وأخيه أثرا أثرا، ويتحسسونها خطوة خطوة.. فحرف الجر «من» دال على التبعيض فى هذا التركيب.
وروح الله: نفحات رحمته، وأنسام لطفه، التي بها تستروح النفوس، وتنتعش الأرواح..
الآيات: (88- 92) [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 92]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)(7/37)
التفسير:
كان لا بد لأبناء يعقوب أن يعودوا إلى مصر مرة أخرى، لا للميرة وحدها- إن كانوا يريدون الميرة- ولكن استجابة لدعوة أبيهم لهم، أن يذهبوا فى وجوه الأرض، ليتحسسوا من يوسف وأخيه.. وإذا كانت مصر هى الوجه البارز، الذي عرفوه وخبروه، ثم هى البلد الذي فيه أحد أخويهم المطلوب البحث عنهما، هذا إلى الأخ الأكبر، الذي لا يزال ينتظر فى مصر- إذ كانت مصر كذلك، فقد جعلوا وجهتهم إليها..
وهناك دخلوا على العزيز يستعطفونه، ويعاودون الحديث معه فى شأن أخيهم الذي اتّهم بالسرقة، وأخذه العزيز كسارق.!
«قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» بما أصابنا فى أخينا الذي حبسته عندك، وحرمت والده الشيخ الكبير النظر إليه..
«وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» أي بضاعتنا التي جئنا بها هى بضاعة متحركة بين أيدينا من الأنعام: من إبل، وغنم وحمير، ونحوها..
يقال: أزجى الشيء يزجيه، أي دفعه وحرّكه.. كما فى قوله تعالى:
«رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ» (66: الإسراء) وقوله سبحانه:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ» .. ويجوز أن تكون البضاعة المزجاة، بمعنى الرديئة، التي يدفعها الناس ولا يقبلون عليها، زهدا فيها.
- «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» أي اجعل الكيل وافيا على ما عودتنا من قبل.(7/38)
والسؤال هنا:
كيف يدعونه إلى أن يوفى لهم الكيل، وهم يعلمون أنه لم ينقص الكيل أبدا، كما شاهدوا ذلك بأعينهم، وكما قال هو لهم: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ؟» فكيف يدعونه إلى هذا؟ أفلا يكون ذلك اتهاما منهم لعدالته؟
ثم ألا يكون ذلك استثارة لمشاعر النفور منهم والبغضة لهم، وهم فى مقام يطلبون فيه عطفه، ويستميحون معروفه ونائله؟ .. فكيف يتفق هذا وذاك؟
والجواب: أنهم لم يريدوا بقولهم هذا: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» دعوة له أن يعطيهم حقّهم، وألا يبخسهم منه شيئا.. وإنما هم بهذا يطلبون أكثر مما لهم، إذ كانت البضاعة التي بين أيديهم ليست من الأشياء التي يعزّ وجودها فى مصر، وتشتد الرغبة فيها، مما يجلب إليها من مصنوعات البلاد الأخرى.. وإنما كان الذي معهم أشتات من الأنعام، ساقوها بين أيديهم، وهم فى الطريق إلى مصر..
ولخوفهم من أن يردّها العزيز، ولا يقبلها بضاعة يكيل لهم بها، قدّموا لذلك الضرّ الذي مسهم، «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ثم قدموا إليه البضاعة التي معهم، وكأنهم يعتذرون إليه من تقديمها، إذ لم يكن عندهم غيرها «وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» .. فإذا جاء بعد هذا قولهم: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» كان معناه فاقبلها منا، واجعلها بضاعة غير مبخوسة عندك، واجعل لكل منا حمل بعير، كما عودتنا، فإن لم يكن ذلك فى مقابل هذه البضاعة، فاجعله فضلا منك وإحسانا..
«فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ..»
«وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا..»
«إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ..»(7/39)
لقد ألف القوم يوسف، وألفهم، وأخذ منهم وأعطى.. حتى لقد كادوا يسألونه: من أنت؟ وما لك تؤثرنا بقربك، وتختصنا بالحديث إليك؟ وما اهتمامك بأهلنا، وبمن خلّفنا وراءنا حتّى تحملنا على أن نحضر لك أخانا الذي تخلف عنا، ثم ها هو ذا يصبح رهينة بين يديك؟
هذه الأسئلة، وكثير غيرها، كانت تدور بين القوم، ويتناجون بها أفرادا وجماعات.. ثم لا يجدون عليها الجواب الذي يستريحون إليه، حتى جاءهم الخبر اليقين! «قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟» وما كاد يوسف يقول هذا لهم حتى أطلّ عليهم الجواب الذي كان تائها فى رءوسهم:
«قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟» - «قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
لقد جلس لهم يوسف مجلس الإمارة، وأجلس أخاه إلى جانبه.. ثم استدعاهم إليه، على تلك الحال التي جاءوا بها.. وهم لم يعتادوا من قبل أن يروا أحدا يشاركه مجلسه.. فلما أخبروه بخبرهم، وبالضرّ الذي مسهم ومس أهلهم، وبالبضاعة المزجاة التي قدموها ليكتالوا بها، وطلبوا إليه أن يقبلها منهم، وأن يحسن الكيل لهم بها- لمّا فعلوا ذلك، لم يجبهم إلى شىء من هذا، بل فاجأهم بقوله:
«هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟» .
إنه سؤال العارف المتجاهل.. يريد بسؤاله هذا عتابا لا لوما، واستئناسا لا استيحاشا، واعتذارا لهم قبل أن يعتذروا، إذ أضاف ما فعلوه بيوسف وأخيه(7/40)
إلى ما كان منهم من جهل، ولو علموا، ما وقعوا فيما فعلوا، فهم معذورون إذ كانوا جاهلين! وهكذا بسط لهم جناح الصفح والمغفرة.. حتى لقد رأوا فى تلك المداعبة والملاطفة وجه الأخوة الحانية. يطلّ عليهم، طاويا تلك السنين التي غبرت!! وتحول الشك عندهم إلى يقين.. فقالوا بصوت واحد: «أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» ؟ ونعم إنه ليوسف.. يقولونها هكذا بصيغة التوكيد!! «قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» : ثم أراهم يوسف أن هذا الذي يرونه ولا يكادون يصدّقونه، هو من فضل الله عليه، وأنه سبحانه قد أحسن جزاءه، إذ كان ممن ابتلاهم فصبروا، وممن مكّن لهم فاتّقوا وأحسنوا: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
«قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» .
وماذا يقولون غير هذا؟ وقد فعلوا بيوسف ما فعلوا به صغيرا، ثم ما رموه به بعد سنين طويلة من انقطاع أخباره عنهم.. حين قالوا للعزيز «يوسف» :
«إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ؟
لقد أدانوا أنفسهم، وأقروا بالخطيئة. فقالوا: «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» مؤكدين هذا الإقرار. ومستشهدين له، بهذا الفضل الذي فضله به الله عليهم، واختصه به دونهم: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» .
وإنهم لم يرتضوا الحكم الذي حكمه عليهم يوسف بقوله: «إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» إذ رأوا أن هذا صفح كريم منه، وتسامح أخوىّ لقيهم به..
أما واقع أمرهم فإنهم كانوا خاطئين، بل وغارقين إلى آذانهم فى الخطيئة!! «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
وهكذا يأبى عليه فضله وإحسانه، وبرّه بأهله، إلا أن يؤكد الصفح والمغفرة(7/41)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
بل ويطلب لهم من الله الرحمة والغفران «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» أي لا لوم عليكم، ولا مذمّة منذ اليوم، فقد بلغ الأمر بي وبكم غايته، وانتهى إلى تلك النهاية المسعدة، التي تستوجب منا جميعا حمد الله وشكره. «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ! لقد غفر هو لهم ما كان منهم معه سابقا ولا حقا..
وإن رحمة الله لأوسع وأرحب، فلن يحرمهم الله سبحانه مغفرته ورحمته..
وكيف! «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ؟
الآيات: (93- 98) [سورة يوسف (12) : الآيات 93 الى 98]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
التفسير:
وما أن كشف يوسف لأخوته عن وجهه، وأراهم منه الصفح والمغفرة، حتى التفت بوجوده كلّه إلى أبيه الذي أضرّ به الحزن عليه، وعلاه الكبر، ومسّه الوهن والضعف!(7/42)
«اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» !
[قميص يوسف.. ما هو؟]
وأي قميص هذا الذي أعطاه يوسف إخوته، ودعاهم إلى أن يلقوه على وجه أبيه، فيعيد إليه بصره الذي ذهب؟
تكثر الروايات، حول هذا القميص، حتى لتنسبه إحدى هذه الروايات إلى إبراهيم عليه السلام، وتحدّث بأنه كان قميصا جاء به جبريل من الجنة وألبسه إبراهيم حين ألقى به فى النار، فلم تمسّه بسوء، وكانت بردا وسلاما عليه.. فجعل إبراهيم هذا القميص ميراثا فى ذريته.. أعطاه إسحق، ثم أعطاه إسحق يعقوب، ثم ألبسه يعقوب يوسف، ثم ها هو ذا يدفع به يوسف إلى إخوته ليلقوه على وجه أبيه، فتتشكل منه معجزة تعيد إليه البصر المفقود! ويمكن أن يكون هذا، إذا كان مستنده كتاب الله، أو حديث رسول الله.
وأما وليس فى القرآن الكريم، ولا حديث رسول الله الأمين، شاهد لهذا، فإنه من الخير أن يتخفف العقل من هذه الغيبيات القائمة على الرجم بالغيب، وأن يأخذ الأمور على ظاهرها المكشوفة له..
ومن جهة أخرى، فإن القرآن الكريم يحدّث عن القميص الذي كان يلبسه يوسف، حين خرج به إخوته ثم ألقوه فى غيابة الجبّ- هذا القميص قد انتزعه منه إخوته، وجاءوا به إلى أبيهم عشاء يبكون، وقد لطخوه بالدم مدّعين أن الذئب قد أكله، فكيف يكون مع يوسف القميص الذي يردّ فى أصله إلى إبراهيم عليه السلام؟(7/43)
فليكن القميص إذن واحدا من الأقمصة التي كان يلبسها يوسف، والتي علق بها بعض عرقه، فكان فيها ريحه..
أمّا كيف يجد يعقوب ريح يوسف فى هذا القميص، على هذا المدى البعيد، الذي أحد طرفيه مصر، والطرف الآخر فى الشام؟. فهذا السؤال يرد على أي قميص.. سواء أكان القميص الذي يقال إنه قميص إبراهيم أم أي قميص آخر غيره!.
والذي علينا أن نصدّقه هو أن يعقوب وجد ريح يوسف، وهو فى مصر، ويعقوب فى الشام!.
أما هذه الريح التي وجدها يعقوب، فهى إما أن تكون ريحا شمّها بأنفه على الحقيقة، كما تشمّ أرواح الأشياء، ذات الريح.. وإما أن تكون الريح هذه مشاعر وخواطر، مثّلت له يوسف قريبا منه، مقبلا إليه، أشبه بالطيف الزائر فى المنام، أو الخاطر المسعد فى أحلام اليقظة.. وذلك كلّه من ألطاف الله بيعقوب، ومن إشراقات النفس الصافية، وانطلاقات الروح من كثافة المادة، وقيود الجسد!.
ونحن فى حياتنا اليومية كثيرا ما يقع لنا فى أحلام اليقظة شىء مثل هذا أو قريب منه، فنتمثل شخصا لم نره منذ زمن بعيد، فإذا بنا بعد قليل نلتقى به! أو يرد على خاطرنا فيقع كما ورد! .. فكيف بنبىّ كريم من أنبياء الله فى إشراق روحه، وصفاء نفسه؟
وأما كيف كان لهذا القميص أن يعيد إلى يعقوب بصره بمجرد أن ألقى عليه.. فلهذا أكثر من قول يقال هنا..
فلك أن تقول إنه آية من آيات الله، أجراها الله سبحانه وتعالى بين يدى نبيّين كريمين.. يعقوب ويوسف! أو قل هى معجزة جعلها الله سبحانه(7/44)
ليوسف- عليه السلام- وآذنه بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان يوسف: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» .. فهو يعلم من الله، ما يحمل هذا القميص فى طياته من أسرار أودعها الله فيه! ولك أن تقول: إن ذلك لم يكن أمرا معجزا، وإنه جاء جاريا على سنن الطبيعة ومألوف الحياة.. وأن الذي ذهب ببصر يعقوب هو شدة الحزن، وأن الذي أعاد إليه بصره الذاهب هو شدة الفرح..! وأن قول يوسف الذي أنبأ به عن ارتداد بصر أبيه إليه بعد أن يلقى القميص على وجهه- هذا القول هو لمحة كاشفة من لمحاته المشرقة، عرف بها تأويل هذا الأمر.. تماما كموقفه من تأويل الأحاديث والأحلام! «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» فصلت العير: أي بدأت رحلتها، بعد أن شدّت رحالها، وأصل الفعل يدل على الانفصال عن الشيء.. ومنه الفصيل، وهو ابن الناقة، يفصل عنها بعد أن يستغنى عن لبنها.. ومن ذلك قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» أي حمله وفطامه.. والعير: الحمير.. وهى جمع، واحدها عير، مثل:
سقف وسقف، وأصل العير، عير على وزن فعل، مثل: سقف.. استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فسكنت الياء، وسبقها ضمة، فقلبت الضمة كسرة، لتناسب الياء، فصارت العير، على وزن فعل، مثل حلم.
تفنّدون. أي تهزءون وتسخرون بي، وتنسبوننى إلى الخرف، والأفن وضعف الرأى.
«قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» لقد وقع ما كان يحذره، ولم يسلم من تفنيد المفنّدين، ولوم اللائمين، ممن(7/45)
سمعوا منه هذا القول، من أهله وجيرانه.. ولم يكن فيهم بنوه، الذين كانوا يومئذ ما زالوا فى طريقهم إليه من مصر..
والمراد بالضلال القديم هنا، ما عرف منه من حبّ شديد ليوسف، وتعلق بالغ به، حتى لقد حسب هذا ضلالا عن طريق القصد والاعتدال فى الحبّ.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان أبناء يعقوب: «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. فإلى هذا الضلال يشير أولئك الذين قالوا له: «إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» «فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ولقد صدّق الله- سبحانه- ظنون يعقوب، فوقع ما توقعه، وجاء البشير بريح يوسف محمّلة فى قميصه، فلما ألقى القميص على وجهه ارتدّ بصيرا، كما تنبأ بذلك يوسف.
وفى غمرة هذا الفرح الكبير، لم ينس يعقوب أن يردّ اعتباره عند هؤلاء الذين فنّدوه ورموه بالضلال.. فقال لائما مؤنبا: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ! أي إنّى كنت على رجاء من رحمة ربّى، وعلى طمع فى فضله.. ولهذا لم أيأس من روحه، ولم ينقطع رجائى فى فضله، وأن ألتقى بيوسف الذي حجبته الأقدار عنّى خلال هذا الزمن الطويل؟
- وفى قوله: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما سبق أن قاله لهم حين قالوا له: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» فكان ردّه عليهم: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
..(7/46)
«قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» هو نفس الموقف الذي وقفوه بين يدى يوسف، حين قالوا له: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» .. إنه الاعتراف بالذنب، وطلب الصفح والمغفرة..
ولقد لقيهم يوسف بالصفح والمغفرة، من غير مهل ولا إبطاء، فقال:
«لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» أما أبوهم يعقوب، فإنه لم يلقهم بهذا الصفح وتلك المغفرة من فوره، بل جعل ذلك وعدا مستقبلا، يجىء على تراخ من الزمن.. «قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» .. ولم يقل سأستغفر لكم ربى! وقد أخذ بعض العلماء من هذا الاختلاف بين موقف يوسف من إخوته، وموقف أبيه يعقوب منهم- أخذ من هذا شاهدا على أن الشباب أسمح نفسا بما فى أيديهم، من الشيوخ الذين يغلب عليهم الحرص على كل ما عندهم، ليكون لهم من ذلك قوة تمسك عليهم البقية الباقية من قواهم الواهية..
والذي نذهب إليه لتعليل هذا الاختلاف فى الموقفين، أن يعقوب، فى هذا الموقف أب، وهو بهذا يملك من أبنائه ما لا يملكه الأخ من إخوته..
إنه يملك التأنيب، والتأديب.. أما الأخ فلا يملك من إخوته هذا الذي يملكه منهم أبوهم..
ومن أجل هذا فقد استعمل يعقوب حقّه فى تأنيب بنيه وتأديبهم، فأمسك عنهم صفحه ومغفرته، إلى حين، ولم ير من الحكمة أن يجيبهم إلى طلبهم فى الحال. وأن يخلى مشاعرهم من القلق والهمّ. بل رأى أن يريهم أن(7/47)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
هذا الطلب موضع نظره، وأنه سوف يحققه لهم فى الوقت المناسب! وفى هذا ما فيه من درس بالغ فى التربية والتأديب.
فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
أما يوسف، فهو فى مواجهة إخوة له، وهم أكبر منه سنّا.. فلم يكن بدّ من أن يبادرهم بالصفح والمغفرة، بعد أن أخذ بحقّه منهم، وأجراهم هذا الشوط الطويل، حتى كادت تنقطع منهم الأنفاس، فى غدوهم ورواحهم إلى مصر، وإتيانهم بأخيهم من أبيهم، ثم فى هذا التدبير الذي جعل منه يوسف مدخلا لاتهام أخيه بالسرقة، وأخذه بما سرق، ووضع إخوته فى هذا الموقف الحرج!
الآيات: (99- 101) [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 101]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
التفسير:
آوى إليه أبويه: ضمهما إليه، وكان مأوى لهما..(7/48)
نزغ الشيطان: أي أفسد الشيطان، والنزغ، والزيغ، بمعنى..
«فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ» .. هناك أحداث كثيرة طويت، ولم يجر لها ذكر هنا، إذ لم يكن لها أثر ظاهر فى مضمون القصة..
وها نحن أولاء نرى يعقوب وبنيه فى مصر، بعد أن كانوا منذ لحظة فى أرض كنعان، نراهم فى موقف استغفار واسترضاء من جهة، وموقف تأنيب وتأديب من جهة أخرى..
وها هو ذا يوسف يلقى أبويه وإخوته، ويضمهم إليه، ويفتح لهم الطريق إلى مصر وينزلهم فيها منزل الأمن والسلامة.. «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» .. ثم يرفع أبويه على العرش، ويدعوهم جميعا إلى مشاركته مجلس السلطان والحكم، فيدخلون عليه، ويؤدون له تحية الملك والسلطان، وينزلون على حكم العرف السائد فى مصر، عند لقاء الملوك، فيخرّون له ساجدين..
وإذ يشهد يوسف هذا الموقف، تتمثل له فى الحال رؤياه التي رآها فى صغره، والتي عرضها على أبيه قائلا: «يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» .. وهنا يقول يوسف لأبيه: «يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ.. قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» أي قد تحققت كما رأيتها فى المنام..
أمي، وأبى، وإخوتى الأحد عشر.. «أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» ..
«وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ» .. فمن إحسان الله إلى يوسف أن حقق له هذه الرؤيا، وأن أخرجه من السجن، وأن جمع بينه وبين أهله، فجاء بهم من البدو، وأنزلهم الحضر.
- وفى قوله: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا أحكم تدبير الأسباب الموصلة إليه، فجاء بها على غير ما يقدر العباد، ثم أراهم من عواقبها غير ما يتوقعون..(7/49)
فمن كان يقع فى تقديره أن تلك الأحداث التي بدأت بها قصة يوسف من إلقائه فى الجب، إلى وقوعه فى يد جماعة من التجار، إلى بيعه لرجل من مصر، إلى كيد امرأة العزيز له، وتآمرها مع جماعة النسوة عليه، إلى إلقائه فى السجن بضع سنين- من كان يقع فى تقديره أن هذه الأحداث ينسج من خيوطها عرش، ويصاغ من حصاها تاج، ويولد من تصارعها ملك يجلس على هذا العرش، ويتوّج بهذا التاج؟ إن ذلك لا يكون إلا من تدبير حكيم خبير، يمسك الأسباب بلطفه، فإذا هى طوع مشيئته، ورهن إرادته، فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويجعل من المكروه محبوبا، ومن المحبوب مكروها: «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (216: البقرة) : «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19: النساء) - وفى قوله: «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» إشارة إلى أن لطف الله سبحانه وتعالى، وتدبيره المحكم لما يريد، إنما هو عن علم العليم، وحكمة الحكيم، لا يشاركه أحد فى علمه وحكمته، فبعلمه المحيط بكل شىء، تتولد الأسباب والمسببات، وبحكمته البالغة، تقدّر الأمور، وتحكم فى أسبابها.. وذلك هو اللطف فى كماله وتمامه، فلا يقع شىء فى ملك الله إلا كان اللطف سداه ولحمته!.
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ.. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
بهذه الابتهالات وتلك التسابيح، يستقبل يوسف هذه النعم التي أنعم الله(7/50)
بها عليه.. فيحدّث بنعمة ربّه، ويسبّحه بها، ويحمده عليها، ويستزيده من فضله، بأن يتم تلك النعمة عليه، وأن يتوفاه على دين الإسلام، وأن يلحقه بالصالحين من عباده.. فذلك هو الذي يجعل لتلك النعم مساغا فى فمه، وطعما هنيئا فى حياته!.
وإلى هنا تنتهى قصة «يوسف» التي كانت السورة كلها تقريبا معرضا لها، وحديثا عنها..
ويلاحظ أنّ قصّة «يوسف» - على خلاف القصص القرآنى كلّه- جاءت فى معرض واحد، لم يذكر معها غيرها من قصص الأنبياء، ولم تذكر هى فى معرض آخر، ولم يجر عن يوسف حديث فى غير هذه السورة، اللهم إلا أن يذكر اسمه مع جماعة الأنبياء، ذكرا لا يراد منه إلا تعداد أسمائهم، أو مجرد الإشارة إلى قصته، للعبرة والعظة!.
ولعلّ الحكمة فى هذا هى أن هذه القصة تعتبر حدثا واحدا، هو رحلة عبر الزمن، للإنسان من مولده إلى مماته، وعلى طريق هذه الرحلة تقوم سدود، وتهبّ أعاصير، ولكن يد اللطف والقدرة تبلغ بهذا الإنسان مأمنه، وتخرجه من تلك التجربة التي عانى فيها الشدائد والأهوال- جوهرا صافيا، وإنسانا عظيما يمسك بكلتا يديه خير الدنيا والآخرة جميعا..
ولو أن هذه القصّة صنع بها ما فى القصص القرآنى، فعرضت فى أكثر من معرض لتمزقت وحدة الشخصية التي هى العمود الفقرى للقصة.
ومن جهة أخرى، فإن القصة وقد اصطبغت من أولها بلون الدم ثم كان ختامها الأمن والسلامة- فقد كان مما يتفق وتطلعات النفوس أن تجىء القصّة هكذا كيانا واحدا، يجمع بين بدئها وختامها.
ومع هذا، فلو جاء بها القرآن على نسق القصص القرآنية الأخرى،(7/51)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
فعرضها فى أكثر من معرض لما أخلّ ذلك بشىء من مقوماتها.. ولكن هكذا جاء بها القرآن، فكان ذلك شاهدا من شهوده الكثيرة على امتلاكه ناصية البيان، وتمكنه غاية التمكن من فنون القول! فيجىء بالقصة فى معارض مختلفة، فإذا هى كيان واحد، وخلق سوىّ، ينبض بالحياة، ويفيض بالجمال والجلال.. ثم يجىء بالقصة فى معرض واحد، فإذا هى مائدة تجمع شهى الطعام، وتؤلف بين مختلف الطعوم، فإذا الوارد عليها، والطاعم منها آخذ بحظه من كل طعام، متذوق من كل لون.. حتى إذا قارب حدّ الشبع وجد على لسانه حلاوة هذا الختام الذي انتهت به أحداث القصة..
فسبحان من هذا كلامه، و «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.. قَيِّماً..»
الآيات: (102- 107) [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 107]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)(7/52)
التفسير:
بدأت السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. بقوله تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» .. ثم ما كاد النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يفتح قلبه لتلقّى ما يوحى إليه من ربّه من قصص، حتى وجد نفسه مع قصة يوسف عليه السلام، فصغا بقلبه، وروحه إليها..
وفى نغم علوىّ، وبيان ربانىّ، جرت أحداث القصة، وترددت أصداؤها فى كيان الرسول الكريم، وانسكب نميرها فى وجدانه، قطرة قطرة، حتى إذا بلغت نهايتها، كان قد ارتوى، وانتعش، ووجد برد الراحة فى هذه الواحة الظليلة التي يستروح فيها أرواح العافية، بعد أن أضناه السير، وأضرت به لفحات السّموم، التي تهب عليه من المشركين، من سفهاء قريش وحمقاها! ففى أفياء هذه الواحة الظليلة، وعلى خطوات هذه الرحلة الطويلة يستعرض الرسول الكريم ما يجرى بينه وبين قومه وأهله، وما يكيدون له من كيد، وما يرمونه من ضرّ، لا لشىء إلّا لأنه يدعوهم إلى الخير، ويمدّ إليهم يده بالهدى- فيرى أن أخا له من أنبياء الله، قد كيد له هذا الكيد العظيم، من إخوته، وطرح به فى مطارح الهلاك، بيد أبناء أبيه، فلطف الله به ونجّاه من تلك الكروب، ثم مكّن له فى الأرض، وبسط يده وسلطانه على هؤلاء الذين مكروا به، وكادوا له! وتلك هى عاقبة الصّابرين المتقين! فليهنأ النبىّ الكريم إذن ولينظر ما يفتح الله له من رحمة، وما يسوق إليه من فضل.. فإن العاقبة له، والخزي والخذلان على الكافرين! وإنه ما يكاد الرسول الكريم يمسك بأطراف هذه القصة، ويردّد النظر فيها، حتى يجد الرفيق الذي يصحبه، ويقيم نظره على تلك القصّة، ويشير له إلى مواقع العبرة والعظة منها.. وإذا كلمات الله تلقاه بهذا الخطاب الذي يلفته إلى(7/53)
ذاته، ويذكّره بأن ذلك الحديث كلّه إنما هو حديث إليه، ومناجاة له من ربّه، يجد فيها ريح العافية، وبرد العزاء.
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ» .. فهذا الذي سمعته أيها النبىّ من قصة يوسف، هو من أنباء الغيب، التي أوحى الله بها إليك، ليثبّت بها فؤادك، ويربط بها على قلبك! - «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» .. أي أن النبىّ الكريم لم يكن بمشهد من هذه الأحداث، حتى يعلمها، ولم يكن يتلو كتابا من قبل، حتى يقع عليها: «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (49: هود) .
والذين أجمعوا أمرهم، وهم يمكرون، هم إخوة يوسف، الذين قالوا:
«لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» .. فهذا ما أجمعوا أمرهم عليه، وهذا هو مكرهم الذي مكروه.. ولم يكن النبىّ بمشهد من هذا.
«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» - هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له لما يلقى من قومه من كيد ومكر.. فهكذا النّاس، يغلب شرّهم خيرهم، ويطغى سفهاؤهم وجهالهم على العقلاء والراشدين فيهم.. وإنه مهما حرص النبىّ على هداية الناس، ومهما اجتهد فى طلبهم إليه، وشدّهم نحوه فإن أكثرهم على خلاف وإباء! ..
فإذا كان فى بيت النبوة وفى سلالات الأنبياء، ينبت مثل هذا الشرّ، ويقع مثل هذا الذي وقع بين يوسف وإخوته- فليس بالمستغرب، ولا من غير المتوقع أن يرى النبىّ فى أهله، وقومه، من يكيدون له، ويبغون الشرّ به!(7/54)
«وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» - هو تقريع، وتسفيه، لهؤلاء الحمقى السّفهاء الذين يتنكرون لحملة الهدى إليهم، ودعاة الخير فيهم، وهم لم يطلبوا منهم على ذلك أجرا، ولا يريدون جزاء ولا شكورا..
فلو أن النبىّ الكريم، كان يطلب من قومه أجرا على هذا الذي يقدّمه لهم من خير، لكان لهم وجه فى ردّه والتأبى عليه، وإن كان الذي بين يديه لا يستكثر عليه أي أجر وإن غلا، وأي ثمن وإن عظم.. ولكنه، إذ كان ولا شىء من متاع هذه الدنيا يوفّى ثمنه، أو يؤدى أجره، فقد جعله الله سبحانه- فضلا منه وكرما- رحمة مهداة إلى عباده.. وهل يقدّر لضوء الشمس ثمن؟ أو للروح التي تلبس الأجساد قيمة؟ ذاك من هذا سواء بسواء! «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» .
وليست هذه الآيات البينات التي يطلع بها الرسول على قومه، ويؤذّن بها فيهم- ليست إلا بعض آيات الله الكثيرة المبثوثة فى هذا الوجود.. فما أكثر تلك الآيات التي بين يدى النّاس، وتحت أبصارهم، لو أنهم نظروا فى هذا الوجود، وفتحوا عقولهم وقلوبهم له..
وإن العاقل ليهتدى إلى الله، ويتعرف إليه، من غير أن يدلّه على ذلك دليل، أو يرشده مرشد، لو أنه أحسن توجيه أجهزته التي أودعها الله فيه، على هذا الوجود الذي حوله، بل على نفسه ذاتها.. «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (21: الذاريات) .. «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» (5- 7: الطارق) .
ولكن- مع هذا ومع ما يعلم الله سبحانه وتعالى من غفلة النّاس عن تلك الآيات الكونية- فإنه- سبحانه- قد بعث فيهم من أنفسهم هداة يهدونهم إلى الحق، ويكشفون لهم معالم الطريق إلى الله، من غير أجر..(7/55)
فمكروا بآيات الله، وكذبوا رسله.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) ..
«وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ..»
وهذا صنف آخر من الناس.. فإنه إذا كان أكثر الناس لا يؤمنون بالله، ولا يستجيبون لدعوة الداعي الذي يدعوهم إليه، فإن كثيرا منهم كذلك يؤمنون بالله، ولكنهم لا يخلصون إيمانهم له، ولا يقيمون هذا الإيمان على وجهه الصحيح.. فهم مؤمنون، وغير مؤمنين.. يؤمنون بالله، وبغير الله، فيجعلون مع الله آلهة أخرى، أو شفعاء يتقربون بهم إليه، مثل مشركى قريش، الذين يقولون عن أصنامهم التي يعبدونها: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) .. فهذا شرك بالله، لا يصح معه إيمان مؤمن.
«أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
الغاشية: هى التي تهجم على الناس، وتشتمل عليهم، ولا تستعمل إلا فى مقام الضرّ والأذى..
البغتة: المباغتة والمفاجئة..
والمعنى، أفيأمن هؤلاء المشركون من قريش، الذين كذبوا رسول الله، وآذوه- أفيأمنون أن يأخذهم الله ببأسه، وأن تغشاهم سحابة من عذابه، فتهلكهم كما أهلكت الظالمين قبلهم؟ وإذا أمنوا هذا، أفيأمنون أن تأتيهم الساعة فجأة، وهم غافلون عنها، لم يعملوا حسابا لها؟.
ماذا يكون موقفهم يومئذ؟ وهل يلقون إلا الخزي والهوان، والعذاب الأليم؟ ..(7/56)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
والاستفهام هنا إنكارى، إذ ينكر على هؤلاء المشركين، موقفهم هذا، الذين بعدوا به عن طريق الهدى، وركبوا فيه طريق الضلال، فهم- وهذه حالهم- فى معرض الهلاك فى الدنيا، بنقمة من نقم الله تأخذهم بغتة، فإن لم يعجل لهم الله البلاء فى الدنيا ضاعف لهم العذاب فى الآخرة، «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» .
الآيات: (108- 111) [سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 111]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
. التفسير:
بهذه الآيات تختم سورة يوسف.. فيؤذّن النبىّ الكريم فى قومه بقوله تعالى:(7/57)
«قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
فالسبيل التي استقام عليها النبىّ بأمر ربه، ودعا الناس إلى أن يأخذوا خطوهم عليها وراءه- هذه السبيل، هى سبيله، لا يحيد عنها، ولا يلتفت إلى غيرها..
وإنه ليدعو إلى الله على هدى ونور من ربه، فقد أبصر الحق، واستيقنه، وعرف الخير وطعم منه.. فهو يدعو الناس إليه، ليأخذوا حظهم من فضل ربهم، ولينزلوا منازل رحمته ورضوانه.. فمن اتبع الرسول، فقد عرف هذا الحق، وطعم من ذلك الخير، فكان على هدى وبصيرة..
- قوله «وَسُبْحانَ اللَّهِ» معطوف على مقول القول: «هذِهِ سَبِيلِي» أي قل هذه سبيلى، وقل سبحان الله، أي تنزيها لله عن الأنداد والشركاء..
وقل «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى..
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» ..
وهذا ردّ على المشركين الذين ينكرون على النبىّ أن يؤذّن فيهم بكلمات الله، وأن يدعوهم إلى الله بما أوحى إليه من ربه.. فقد صورت لهم أوهامهم المضلّة، أن الرسول الذي يبعثه الله، ينبغى أن يكون على غير شاكلة الناس، كأن يكون ملكا من السماء، أو نحو هذا..
ولو أنهم نظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، والتفتوا إلى ما حولهم، لرأوا أن رسل الله جميعا كانوا من البشر، وكانوا من أقوامهم، وبلسانهم.. «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (4: إبراهيم) .
- وفى قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْقُرى» إشارة إلى تلك القرى، التي يرى المشركون من قريش مخلّفات من عمروها قبلهم من عاد وثمود.. وإلى هذه(7/58)
القرى يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (27: الأحقاف) ..
قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» .. هو إلفات لمشركى قريش، إلى تلك القرى التي يمرون عليها فى طريقهم إلى الشام مع رحلة الصيف.. فليقفوا قليلا على أطلالها، وليروا كيف كانت عاقبة الذين كذبوا برسل الله.. ولقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فما عصمتهم قوتهم، من بأس الله إذ جاءهم، وما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله من شىء! قوله تعالى: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» .. إنها العبرة التي يستخلصها العقلاء من الوقوف على أطلال هذه القرى الظالم أهلها.. وإنها لتنطق بأن الحياة الدنيا متاع زائل، وزخرف حائل، وأن الدار الآخرة خير وأبقى، للذين اتقوا ربهم، وتزودوا لتلك الدار بالعمل الصالح والتقوى..
وفى قوله: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين الضّالين، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا! فلقد عطلوا عقولهم، فلم يهتدوا بها إلى خير، ولم يتعرفوا بها على حق.. فخسروا الدنيا والآخرة.. ذلك هو الخسران المبين.
«حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» ..
استيئس: واجه اليأس، ووقع فى تصوره أن لا ملجأ، ولا نجاة، وذلك فى لقاء الأحداث، ومصادمة الشدائد..
كذبوا: أي كذب عليهم، إذ لم يتحقق لهم ما وعدوا به إلى أن بلغ بهم الحال إلى هذا اليأس..(7/59)
- وقوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» ..
حتّى حرف غاية لما قبله..
وهنا كلام محذوف هو الغاية التي يشير إليها هذا الحرف.. والتقدير:
أن مهمة الرسل هى الوقوف فى وجه هذا الظلام الزاحف، والتصدّى لتلك القوى العاتية من قوى الشرّ والعدوان، وأنهم مطالبون بأن يثبتوا، ويصبروا، ويصابروا. فإن نصر الله آت لا ريب فيه.. وهكذا يظل الرسل فى متلاطم الشدائد والمحن، حتى لقد يدخل اليأس عليهم، وتغيم الحياة فى أعينهم، ويغمّ عليهم طريق النجاة، ويخيل إليهم أن النصر أبعد ما يكون منهم- عندئذ تهب ريح النصر، وتطلع عليهم تباشير الصباح، فتطوى جحافل الظلام، وتطارد فلوله..
وإذا دولة الباطل قد ذهبت، وذهبت آثارها، وإذا راية الحق قد علت، وخفقت أعلامها..
وفى هذا تسلية للنبىّ الكريم، وشحد لعزيمته، وتثبيت لقدمه، وتطمين لقلبه، وتأكيد للوعد الذي وعد به من ربّه فى قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) هذا، وليس فى استيئاس الرسل، وفى إطافة الظنون بهم، وبأنهم قد كذبوا- ليس فى هذا ما ينقص من قدر الرّسل، أو يشكك فى كمال إيمانهم بربهم، واستيقانهم من صدق وعده.. فهم على يقين راسخ بما وعدهم الله به، ولكن هناك مواقف حادّة من الضيق، وأحوال بالغة من الشدّة، تأخذ على الإنسان تقديره وتدبيره، وتمثّل له الحقائق المحسوسة التي عايشها، ونزلت من عقله منزل اليقين، وقد قلبت أوضاعها، وتبدّلت حقائقها- عندئذ وللحظة(7/60)
عابرة عبور الطيف، يخون الإنسان يقينه، ويفلت منه زمام أمره.. ثم يعود إلى موقفه، أشدّ تثبتا، وأقوى يقينا، وأرسخ قدما.. إنها سحابة صيف، تغشى وجه الشمس، ثم لا تلبث حتى تزول، وتسفر الشمس عن وجه أبهى بهاء، وأضوأ ضوءا، وأصفى صفاء مما كانت عليه قبل أن تمر بها تلك السحابة العابرة..
فتلك الحال التي تمثل الرسل فى هذا الموقف، هى القمة التي تنتهى عندها طاقة الاحتمال البشرى، فى مصادمة الأحداث، ومدافعة الأهوال والشدائد..
وهى قمة لا يبلغها إلا أولو العزم من رسل الله.. حيث تون الخطوة التالية بعدها انخلاعا من عالم البشر، إلى العالم العلوىّ، وعندها تهبّ ريح النصر، وتجىء أمداد السماء.! وفى هذا ابتلاء للرسل، واستخلاص لكل ما عندهم من مذخور.. من قوى الصبر والعزم والإيمان..
- قوله تعالى: «فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» - إشارة إلى أن نصر الله الذي يحقق به لرسله ما وعدهم به، يحمل معه من الهلاك والبلاء للقوم المجرمين.. فإن هذا النصر إنما يمشى على جثث أعداء الرسل، الذين حاربوهم هذه الحرب القاسية، ودفعوا بهم إلى تلك المآزق الحرجة، حتى لكادوا يفتنونهم فى دينهم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (32: التوبة) «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.. ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» الضمير فى «قصصهم» يعود إلى الرسل المذكورين فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» ففى قصص الرسل، وفى الصراع الذي يدور بينهم وبين السفهاء والضالين من أقوامهم- فى هذا القصص عبرة لأولى الأبصار، وذوى الفطنة والرأى.. حيث ينجلى الموقف دائما عن إظهار دين الله، وإعلاء كلمته، وانتصار(7/61)
رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، على حين يقع البلاء والخزي والخذلان بالذين كذبوا رسل الله وآذوهم، وصدّوا الناس عن سبيل الله..
- قوله تعالى: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى» أي هذا القصص الذي يقصه الله تعالى على نبيّه الكريم، من أنباء الرسل، لم يكن حديثا ملفقا، أو مفترى ولكنه كلام ربّ العالمين، قد تلقاه النبىّ وحيا من ربّه، فجاء مصدّقا لما سبقه من الكتب السماوية، مفصّلا كلّ ما كان مجملا فيها، حاملا الهدى والرحمة لمن يؤمنون به، ويهتدون بهديه، ويستقون من موارده.
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» معطوف على قوله تعالى: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى» وهو عطف يفيد الاستدراك، ويجعل ما بعد «لكن» مخالفا لما قبلها فى الحكم الواقع على المعطوف عليه.
- وفى قوله تعالى: «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» - فى التعبير بالفعل المستقبل «يُؤْمِنُونَ» بدل الفعل الماضي «آمنوا» ، مع أن الهدى والرحمة لا يقعان إلا بعد الإيمان- فى هذا إشارة إلى أن الهدى والرحمة أمران ذاتيان، ثابتان فى هذا الكتاب، يجدهما كل من اتصل به وأخذ عنه، وتعامل معه، على امتداد الزمان، فلا يقطع الماضي ما له من آثار فى المستقبل، ولا ينضب معين الهدي والرحمة، على كثرة الواردين.. فهو أبدا مصدر هدى ورحمة للذين يؤمنون به، لا لمن آمنوا به وحدهم، وسبقوا إلى الإيمان.. فللّاحقين حظهم من هداه ورحمته، مثل ما للسابقين، سواء بسواء.. وإنما تختلف حظوظ الناس بحسب استعدادهم لتقبل الهدى، واستئهال الرحمة.. فكتاب الله. هو هو، وآياته.. هى هى، والهدى المشّع منه.. هو هو، والرحمة المحملة معه.. هى هى..
لا اختلاف مع الزمن فى شىء من هذا، ولا تحوّل أو تبدّل فى كلمات الله وآياته.. وإنما الذي يختلف ويتبدل ويتحول، هم الناس، وعقول الناس، وقلوب الناس!(7/62)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
13- سورة الرعد
نزولها: مكية: عند ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير..
وقال الحسن وعكرمة وقتادة: إنها مدنية.
وقد أخذ بالقول بمكيتها: الإمام النسفي، والفيروزبادى فى بصائر ذوى التمييز، وقال الزمخشري: «مختلف فيها» . أما الإمام البيضاوي فاعتبرها مدنية.. والراجح عندنا أنها مكية.. وذلك لنظمها الذي يبدو عليه الطابع المكي، ولمضامين آياتها التي تعرض آيات الله الدالة على قدرته فيما أبدع وصوّر فى هذا الوجود.. وذلك هو الغالب على القرآن المكي.
عدد آياتها: سبع وأربعون على الراجح، وقيل ثلاث، وأربعون وقيل أربع وأربعون، وقيل خمس وأربعون..
عدد كلماتها: ثمانمائة وخمس وستون كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة حرف، وستة أحرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 4) [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)(7/63)
التفسير:
هذه السورة «مكية» - وقيل إنها «مدنية» وسورة «يوسف» التي قبلها «مكية» باتفاق، ومع هذا فقد كان بدء هذه السورة متلاقيا مع ختام السورة التي قبلها، وهذا يرجح القول القائل بأنها مكية.
فقد ختمت سورة «يوسف» بالآية الكريمة: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
والآية- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- تنفى عن القرآن الكريم أن بكون قد شابه شىء من الكذب أو الشك، إذ كان مصدّقا لما تقدمه من الكتب السماوية، شاهدا لها بأنها من عند الله.
وقوله تعالى: «المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» - هو توكيد لنفى الشّبه والرّيب عن القرآن الكريم، وتقرير بأنه الحقّ من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
والإشارة «بتلك» مشار بها إلى «المر» .. تلك الحروف المقطعة..
أي أنه من تلك الحروف وأمثالها من حروف الهجاء، قد نظمت آيات القرآن(7/64)
الكريم، فكان منها هذا النظم البديع، وهذا البيان المبين، الذي أفخم البلغاء، وأعجز العالمين..
وفى الإشارة إلى آيات الكتاب، بعد ذكرها فى قوله تعالى: «المر» - فى هذه الإشارة تنويه بهذا الكتاب، وعرض له فى معرض التحدي، بهذه الأحرف التي نظمت منها كلماته، ونضّدت آياته..
- وفى قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» قصر للحق المطلق على آيات هذا الكتاب، فآيات هذا الكتاب هى الحق، ولا حقّ وراءها، لأنها كلمات الله.. وكلام الله صفة من صفاته..
وقد جاء القصر هنا بتعريف الخبر «الحق» .. ولو جاء منكرا- كما هو مألوف لما وقع القصر-: فإنه شتان بين قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» وبين أن يقال: «والذي أنزل إليك من ربك حق» .
قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. أي ومع هذا الحق المبين، وتلك الآيات المشرقة الوضيئة، فإن أكثر الناس لا يهتدون بها إلى الحق، ولا يتهدّون بها إلى التعرف على الله.
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» .
وإذا لم يكن للناس عقول تعقل هذه الآيات التي حملها رسول الله إليهم فى هذا الكتاب المبين.. أفلا كانت لهم أعين تنظر فى هذا الوجود الذي أوجده الله سبحانه وتعالى من عدم، وأقامه على هذا النظام البديع؟
وإذا لم يكن لهم نظر ينظرون به فى هذا الملكوت، أفليست لهم آذان(7/65)
يسمعون بها، هذا النداء الإلهى الذي يناديهم به الحق جل وعلا، ليستيقظوا من نومهم، ولينتبهوا من غفلتهم؟
ألا من كانت له أذنان فليسمع!! وألا من كانت له عينان فلينظر!! وألا من كان له قلب فليخشع! - «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» أي ترونها مرفوعة هكذا بغير عمد، فقوله تعالى: «تَرَوْنَها» إما أن يكون صفة لعمد، ويكون المعنى:
أن الله سبحانه قد رفع السموات بغير عمد مرئية لنا، وإما أن يكون حالا من السموات.
- «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أي بسط سلطانه على هذا الوجود.
- «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» أي أخضعهما لسلطانه، وأجراهما حسب أمره وتقديره.
- «كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» أي يدور فى فلك محدود، فى زمن محدود.
- «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» أي يقدر لكل شىء قدره، كما يقول سبحانه: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) - «يُفَصِّلُ الْآياتِ» يبينها ويوضحها، ويأتى بها آية آية. ولم يأت بها جملة واحدة، وذلك لتنكشف للناس، ولتتضح لهم معالم الحق منها.
- «لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» أي لعلكم ترون فى هذا الوجود، وفى الآيات المفصلة المبثوثة فيه، ما يدعوكم إلى الإيمان بالله، فإذا آمنتم بالله آمنتم بلقائه، وعملتم لهذا اللقاء حسابه، وأيقنتم أنكم مجزيون على ما تعملون من خير أو شر.
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» بدلا من قوله «تؤمنون» إشارة إلى أن هذا الإيمان الذي يجىء عن طريق النظر والتأمل فى آيات الله(7/66)
الكلامية أو الكونية أو هما معا- هذا الإيمان، هو الإيمان الكامل، الذي يصل إلى مرتبة اليقين.
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .
ومن مظاهر قدرة الله، تلك الآيات الكونية المفصلة، فهو سبحانه:
- «الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ» أي بسطها وذللها.
- «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ» أي جبالا راسية، ثابتة، مستقرة، كما ترسو السفن على المرافيء الآمنة.
- «وَأَنْهاراً» أي وأجرى فى هذه الأرض التي بسطها أنهارا.
- «وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» أي وجعل من كل ثمرة زوجين اثنين، ذكرا وأنثى.. فالثمرة- أىّ ثمرة- لا تكون إلا بالتقاء الذكر والأنثى، على أية صورة من صورة الالتقاء، سواء فى ذلك عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان.. فكل مولود هو ثمرة هذا اللقاء، كل ثمرة هى المولود الذي تولّد من الذكر والأنثى! - «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» أي يلبس الليل النهار، ويجعله غشاء له، يجلّله، ويغطّيه.
- «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .. ففى كل هذا، آيات ودلائل، على وجود الخالق، وعلى قدرته، وعلمه.. ولكن هذه الآيات لا تنكشف إلا لمن وجّه إليها بصره، وأعمل فيها فكره.. أما من أعرض عنها، وأغلق عقله وقلبه دونها، فإنه لا يرى من هذه الآيات إلا عوالم جامدة صماء، لا تنطق بشىء، ولا تحدّث عن شىء!(7/67)
قوله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .
أي فى هذه الأرض، وفى أية رقعة محدودة منها، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
- «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ» أي يجاور بعضها بعضا، ولكنها تختلف وجوها، وتتباين صورا وأشكالا.. فبعضها جديب، وبعضها خصيب، وقطع منها مياه، وقطع أخرى يابسة، وجوانب منها عشب وزروع، وجوانب أخرى حدائق وبساتين.
- «وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ» أي من قطع الأرض، جنات من أعناب.
- «وَزَرْعٌ» أي ومن قطع الأرض كذلك، زرع، من حبوب وغيرها.
- «وَنَخِيلٌ» أي ومن هذه القطع أيضا: نخيل.
- «صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» أي هذه النخيل بعضها «صنوان» أي كل نخلتين يخرجان من أصل واحد، أشبه بالتوائم فى عالم الإنسان.. «وَغَيْرُ صِنْوانٍ» أي كل نخلة قائمة بذاتها.. «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ» أي كل هذه الأنواع من النخيل يسقى بماء واحد، هو هذا الماء الذي تروى منه الكائنات الحيّة، من نبات وإنسان وحيوان.. ومع هذا فقد اختلفت ألوان ثمارها، وتعددت طعومها، ومذاقاتها، فكان بعضها أفضل من بعض، فى طعامه ومذاقه: «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» .
- «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» أي إن فى هذه الآيات المبثوثة فى كل مكان لآيات ودلائل تشهد بقدرة الخالق، وتحدث عن علمه وحكمته، ولكن ذلك لا يقع إلا لمن كان لهم عقول، تفرق بين المحسوسات، إذ كانت(7/68)
تلك الآيات من الظهور والبيان، بحيث لا تخفى على أي إنسان له مسكة من عقل.. فكل إنسان احتفظ بإنسانيته قادر على أن يوجّه عقله إلى تلك الآيات، وينتفع بها فى التعرف على خالقه..
ولا بد من وقفة هنا، مع أسلوب هذا العرض المعجز لآيات الله..
فقد جاء العرض على أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي تلتقى مع العقل فى جميع مستوياته، وعلى مختلف أنماط تفكيره..
فقد بدأ العرض بالسماوات، مجملة من غير تفصيل.. هكذا.. «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» وفى السموات، وفى هذا الملكوت الذي يقصر الطرف عنه، ويضيق الخيال عن تصوّره، منطلق لجميع العقول، ومسبح لكل المدركات.
وهيهات أن يكون إنسان، لم يرفع بصره إلى هذا الملكوت، ولم يسرح بخياله مع شموسه وأقماره وكواكبه، ونجومه! ثم يمسك القرآن- بعد هذا العرض العام للعالم العلوي- بظاهرتين بارزتين من مظاهر هذا العالم، وهما الشمس، والقمر، ففيهما مجال لنظر الناظرين، وتدبر المتدبرين.. ذلك أنه إذا غفل الإنسان الغافل الجهول، عن الوقوف على ما فى السموات من آيات بيّنات، تحدّث عن قدرة القدير، وحكمة الحكيم، وعلم العليم- فإنه لن يستطيع- ولو حاول- أن يغمض عينيه عن الشمس والقمر، اللذين يملآن عليه وجوده.. وفى هذا يقول سبحانه:
«وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» ثم يتحرك العرض إلى مستوى دون هذا المستوي.. فينتقل العرض من السماء إلى الأرض. وذلك لأنه إذا كان فى الناس- وكثير ما هم- من لا يرى(7/69)
فى ملكوت السموات، وما فيهن، من شمس وقمر، ونجوم، فلينظر إلى هذه الأرض التي يدبّ عليها، فيقول سبحانه:
«وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ..
«وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً..
«وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..
«يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ..»
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وهنا على هذه الأرض معارض مختلفة، تتفاوت فيها أنظار الناظرين..
فبعض الأنظار تقف على حدود النظرة الملقاة على هذه الأرض، فلا ترى إلا آفاقا فسيحة ممتدة تتحرك عليها أشياء، أشبه بالأطياف، لا تتبيّن العين منها شيئا.. على حين تنفذ بعض الأنظار إلى مدارج النّمال وأفاحيص القطا.
فترى فيها من عظمة القدرة، وجلال العلم، وروعة الحكمة، ما يملأ القلب خشوعا، وولاء، وحمدا للخلّاق العظيم.. رب العالمين..
فهذه الأرض المبسوطة على امتداد البصر.. تقف عندها بعض الأنظار ولا تتجاوزها.. وهذه الجبال الراسية عليها.. هى أبرز ما على هذه الأرض..
تعلق بها الأنظار، وتمسك بها..
ثم هذه الثمار.. التي هى معاش الإنسان.. إن لم يلتفت إليها ببصره، ألجأته الحاجة إلى أن يسعى إليها بقدمه، ويقلّب وجوه الأرض باحثا عنها بيده! وهذا الليل الذي يغشى النهار ويلبسه، ويحيل بياضه سوادا، ونوره ظلاما- هذا الليل يشدّ الأبصار شدّا إليه، لتتلمّس طريقها فيه، وترصد المخاوف التي تطلع عليها منه..(7/70)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
وهكذا، إذا استطاع الإنسان أن يفلت من النظر إلى واحدة من تلك الموجودات، لم يستطع أن يفلت من أخرى.. فإن لم يجىء إليها اختيارا أجاءته إليها اضطرارا..
ثم لا يقف الأمر عند هذا..
فهناك معارض بين يدى الإنسان، وتحت قدميه..
«وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ..
«وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ..
«وَزَرْعٌ..
«وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ.. يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ..»
ففى هذا معارض متعددة.. يعيش فيها الإنسان بكيانه كلّه، ويلقاها بحواسّه جميعا.. البصر، والشمّ، والذوق، واللمس.. شأنه فى هذا شأن الحيوان..
فإذا لم يكن وراء هذه الحواس عقلا يدرك، فقد خرج الإنسان من عالم البشر إلى عالم الحيوان، ولم يكن أهلا للخطاب، والتكليف! تلك هى دعوة الإسلام للعقل، كى يتعرف على الله، ويسلك سبيله إليه، بالنظر فى ملكوته، والتدبّر فيما أبدع وصوّر.. وإن العقل- على أي مستوى- لن يخطئه الطريق إلى الله، إذا هو وقف بين يدى تلك الآيات، متجردا من الأهواء الفاسدة، والموروثات الضالة، وأعطى لنفسه الحقّ فى الاستقلال بعقله، والإصغاء إلى صوت ضميره..
الآيات: (5- 7) [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)(7/71)
التفسير:
من أبرز الأمور التي ضلّت عنها أبصار المشركين، وزاغت عنها عقولهم، ولم يمسكوا بخيط من خيوطها، وهم يدورون بأبصارهم فى هذا الوجود- أمر البعث، الذي لم يتصوروه، ولم يجدوا له مساغا فى عقولهم، فأنكروه أشدّ الإنكار، ورأوا أنه مما يستحيل وقوعه.. إذ كيف يبعث الإنسان بعد أن يموت، ويتحول إلى تراب فى هذا التراب؟ تلك هى مضلّتهم، ومثار الوسوسة والبلبلة التي تضطرب فى عقولهم، من أمر البعث.. فلو أنّهم سلّموا بالبعث، لنازع هذا التسليم، بل وانتزعه من عقولهم، هذا الفهم السقيم لقدرة الله، التي يبدو لأنظارهم الكليلة منها، أنها أعجز من أن تعيد الحياة فى هذا التراب الهامد، وتبعث الموتى من قبورهم على الحال التي كانوا عليها، بعد أن أبلاهم البلى، وأكلهم التراب! ولهذا كان ذلك منهم مثارا للعجب والدّهش، من ذوى العقول، وأصحاب النظر والفهم.. وفى هذا يقول الله تعالى لنبيّه الكريم:
«وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» ..
أي إن ترد- أن تعجب وتدهش وإن أحببت أن تسمع من القول ما يثير العجب والدهش، فاستمع لهذا القول الذي يقوله هؤلاء المشركون: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟»(7/72)
وقد جاء هذا القول منهم فى صورة هذا الاستفهام الإنكارى، للإشارة إلى أنه كان سؤالا مردّدا بينهم، يلقى به بعضهم إلى بعض، فى تساؤل منكر، وفى استفهام خبيث: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ولا يجدون جوابا لهذا إلا زرّ العيون، أو زمّ الشّفاه، أو ليّ الألسنة.. تحدّث بما فى قلوب القوم من سخرية واستهزاء! «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ، أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
وهذا هو الردّ المفحم على هذه السخرية، وذلك الاستهزاء..
إنهم كفرة بالله.. وليس للكافرين عند الله إلا النّار، يجرّون إليها كما تجرّ الحمر المستنفرة، قد أخذ صائدها بمقودها.. «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (48: القمر) .
وفى تكرار الإشارة إليهم.. «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ.. وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ.. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» - فى هذا التكرار، فضح لهم على رءوس الأشهاد، وشدّ للوثاق الممسك بهم من أعناقهم، حتى لا يفلتوا وحتّى لكأن كل إشارة من تلك الإشارات الثلاث، طوق من حديد، يطوّقون به.. وإن ذلك لسمة من السّمات الدّالة عليهم بين أهل المحشر، فليس ثمّة شك فى أمرهم، أو فى التعرف على ذواتهم، وقد وسموا بتلك السمات الفاضحة.
وفى الإشارة إليهم بأن الأغلال فى أعناقهم، وبأنهم أصحاب النار، مع أنهم لم يبعثوا بعد، ولم يساقوا إلى جهنم بعد- حكم قاطع من الله عليهم بهذا، ولكنه مؤجل التنفيذ إلى يوم البعث..!(7/73)
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ.. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» .
المثلات: جمع مثلة، وهى الحدث الذي يقع فيكون مثلا مضروبا، فى شناعته، وسوء وقعه، حيث يستحضره الناس عند كل أمر، تبدو فيه ملامح لهذا الحدث، فيكون ذكره مغنيا عن كل وصف.
والواو فى قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» للاستئناف، بخبر جديد من أخبار هؤلاء المكذبين بيوم البعث..
- وفى قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» - إشارة إلى أنهم لم يقفوا عند حدّ الكفر بالله، وإنكار يوم البعث، بل جاوزوا هذا إلى التحدّى، إمعانا فى الكفر، ومبالغة فى الإنكار، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم:
«وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) .. وهذا من غباوتهم وحمقهم وسفههم.. ولو أنهم كانوا على شىء من العقل والإدراك، لكان لهم فى باب الأمانىّ الطيبة متسع، ولما رموا بأنفسهم فى هذا الوجه المهلك، الذي إن جاء على غير ما قدّروا، كان لهم فيه البلاء المبين، والعذاب الأليم.. وما لهم لو قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه، واشرح صدورنا له؟ .. فإن كان حقّا أخذوا بحظهم منه، وعافاهم الله من البلاء.. وإن كان غير حقّ لم يخسروا شيئا؟ ولكنه الضلال الذي يستحوذ على أهله، فيدفع بهم إلى كل مهلكة، وما لهم لو أخذوا بقول الرجل المؤمن من آل فرعون: «وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (28: غافر) - وفى قوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ» - الجملة هنا حالية، وهى فاضحة لغباوة هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من ضلال وسفه..(7/74)
ذلك أنهم يستعجلون العذاب، وقد وقع هذا العذاب فعلا بكثير من الأمم التي سبقتهم، والتي كانت على مثل هذا الضلال الذي هم فيه.. فلو أنهم كانوا على شىء من العقل والإدراك لكان لهم فى المثلات التي حلّت بالأمم الماضية عبرة زاجرة، وعظة بالغة.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ وأنّى للسفهاء أن يرشدوا؟
- وقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» عرض لسعة رحمة الله، ومغفرته لعباده.. فهو يمهلهم، ويستأنى بهم، ويدعوهم إليه، ويفتح لهم باب التوبة والقبول، فإذا استجابوا له، ورجعوا إليه، قبلهم، وتجاوز عن سيئاتهم، وعدل بهم عن طريق الضلال إلى الهدى، وعن النار وأهوالها، إلى الجنة ونعيمها.. فهذا من رحمة الله بعباده، ولو شاء لعجّل لهم العذاب، ولأخذهم بما كسبوا: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) ..
وإذا كانت تلك هى رحمة الله، وذلك هو لطفه بعباده، فإن مع هذه الرحمة وذلك اللطف بالذين يرجون رحمته، عقاب راصد، عذاب شديد للذين يحاربون الله، ويحادّون رسله، وينأون بأنفسهم عن مواقع رحمته ومغفرته..
وذلك هو حكم الله فى عباده.. «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (26- 27 يونس) «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» ومن منكرات هؤلاء الكافرين، أنهم يغمضون أعينهم ويصمّون(7/75)
آذانهم عن آيات الله وكلماته، فلا يرون فيها شواهد صدقها، وصدق الرسول الذي جاءهم بها، بل يتصايحون بهذا القول المنكر: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟» .. والآية التي يريدونها، هى آية مادية من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» وقد تلقى الرسول من ربه هذا الرد المفحم لهم.. «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) .
فهذه الآية التي يقترحونها هنا هى واحدة من تلك الآيات، وهى قولة من أقوالهم التي كانوا يردّدونها فيما بينهم.. وقد ردّ الله عليهم بقوله:
- «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» وفى هذا التفات للنبىّ الكريم، وخطاب كريم له من ربّه، يواسيه، ويخفف ما به من ضيق، لهذا العنت الذي يلقاه من قومه..
- «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» هو الرسول الذي يرسله الله إليهم، ليدعوهم إليه، ويسلك بهم مسالك الخير والهدى.. فتلك هى وظيفة الرسول فى قومه كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» (119: البقرة) وفى تقديم قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» على قوله سبحانه: «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» تهديد ووعيد لهؤلاء المعاندين، الذين لجّ بهم العناد، واستبدّ بهم الضلال، فركبوا رءوسهم، ولم يعد ثمّة وجه لهم إلا أن ترفع فى وجوههم راية الإنذار، وأن يساق إليهم ريح من لفح جهنم!(7/76)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
الآيات: (8- 15) [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 15]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
التفسير:
تعود الآيات مرة أخرى إلى استعراض قدرة الله، بعد هذه الوقفة الفاضحة للمشركين، ولمقولاتهم المنكرة، التي يستقبلون بها آيات الله، ويلقون بها رسول الله.(7/77)
وفى هذا الاستعراض تنكشف مظاهر كثيرة لقدرة الله سبحانه وتعالى، وتمكّن سلطانه فى هذا الوجود، وإحاطة علمه بكل شىء فيه..
«اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» تغيض الأرحام: أي تضع ما فيها من حمل.. يقال غاض ماء البئر، أي ذهب وجفّ..
فهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وسعة علمه.. فهو سبحانه يعلم ما تحمل كلّ أنثى، وما تضع من مواليد وما يتخلّق فى الأرحام من أجنّة..
وفى التعبير عن وضع الحمل بالغيض، إشارة إلى أن الرحم حين يشتمل على الجنين، إنما يحمل فى كيانه حياة، بها تزهو الحياة وتعمر الدنيا، كالماء الذي به تحيا الأرض، وتزدهر وتثمر.. فإذا سكن الجنين إلى الرحم، زاد الرحم ونما، وامتلأ، وإذا ولد الجنين، غاض الرحم، وانكمش..
وقدّم غيض الأرحام على زيادتها، لأن ملاحظة الغيض للرحم أظهر للعين، حيث يبدو فى تمام الحمل على صورة واضحة، ثم إذا وضع الجنين تبدل الحال.
- وفى قوله تعالى: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» إشارة إلى أن هذا العلم الإلهى، علم قائم على حكمة، وعلى تقدير وتدبير، وليس علما جزافا، فهو مع إحاطته بكل شىء، ضابط لكل شىء، ومقدّر لكل أمر قدّره.. وهذا هو الفرق بين علم الله، وعلم العالمين، فإذا كان فى العالمين من يعلم ما فى الرحم..
فإنه لا يعلم ما فى الأرحام جميعها فى هذه الدنيا كلها، ولو احتشد لذلك العلماء، وتوفروا له بكل ما وضع العلم فى أيديهم من وسائل.. ولو فرض أنهم علموا(7/78)
ما فى الأرحام الآدميين جميعا- وهذا هو المحال- فأنّى لهم أن يعلموا ما فى عالم الحيوان؟. «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ» .
وفى إحاطة علم الله تعالى بالحمل الذي تحمله كل أنثى إشارة إلى نفوذ علم الله إلى خفايا الأمور، وأنه سبحانه يتولى هذه الأجنّة، إيجادا، وحفظا، داخل الأرحام وخارجها.
فعلم الله سبحانه وتعالى علم شامل، كامل، لأنه علم الخالق، المبدع، المصور.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذا.
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» .. فذلك هو علم الله سبحانه، علم شامل كامل.. يعلم ما بطن وما ظهر، وما كان غائبا عن حواسنا، وما كان مشهودا لها.. فهو سبحانه «الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» الكبير الذي وسع كرسيّه السموات والأرض، «المتعال» الذي علا بسلطانه على كل ذى سلطان، وبعلمه على كل ذى علم.
«سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» .
فالله سبحانه، فى كبريائه، وفى علوّه، محيط بكل صغيرة وكبيرة فى الوجود..
يتساوى لديه فى ذلك بعيد الأمور وقريبها، خفيها وظاهرها، إذ لا قرب ولا بعد عند من احتوى الوجود كله، ولا خفاء ولا ظهور لدى من ملك الأمر جميعه: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (3: الحديد) .
فمن أسرّ القول كمن جهر به.. الله يعلم سرّه، علمه لجهره: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (13- 14: الملك) .(7/79)
ومن تدثّر بالليل واستتر به عن العيون، كمن هو سارب: أي متحرك، بالنهار.. الله يراه فى ظلمة الليل، كما يراه فى ضوء النهار.. «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .
«لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ..» .
أي إن لهذا الإنسان الذي يسرّ القول ويخافت به، أو يظهره ويجهر به، أو يحتجب عن الأنظار فى ظلمة الليل أو يتحرك بين الناس فى وضح النهار- هذا الإنسان موكّل به من قبل الله، جند يحفظونه، ويحرسونه، ويرصدون كلّ نفس يتنفّسه، وكلّ خاطر يخطر له، أو طرفة عين يطرفها، أو خفقة قلب يخفقها.. إنه حيث كان، وعلى أي حال كان، هو تحت هذه المراقبة التي لا تغفل، وبين هذه الحراسة التي لا تنام.. فأنّى له أن يخلص إلى نفسه، أو يخلو إلى وجوده، دون أن ترقبه هذه العيون الراصدة المتعقبة له؟
- وفى قوله تعالى «مُعَقِّباتٌ» إشارة إلى أن هؤلاء الجند، يرون الإنسان من حيث لا يراهم، وأنهم أشبه بمن يتبع الإنسان من وراء عقبه، دون أن يراه أو يحسّ به، وهم- مع هذا- بين يدى الإنسان ومن خلفه.
- وقوله تعالى: «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» .. أمر الله هنا، معناه تقديره، وحكمه، كما يقول سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) والمعنى: أنهم يحفظونه بما أمروا به من تقدير الله، وحكمه، وقضائه فى عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (2: النحل) .. وقوله سبحانه: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (52: الشورى) وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» فى هذه الآية الكريمة أمور:(7/80)
- ففى قوله تعالى فى أول الآية: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ما يشعر بأن الإنسان واقع تحت قوى خفية مسلطة عليه من الله، وأنه مقهور مغلوب على أمره بحكم هذه القوى الخفية المتعقبة له..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ما يدفع هذا الشعور، الذي يقع فى نفس الإنسان، من تعقب هذه القوى الخفية له.. فالإنسان ذو إرادة عاملة، يجدها دائما معه، ولا يجد لهذه القوى الخفيّة أثرا ماديا يحول بينه وبين ما يريد.. فهذه القوى إنما هى أشبه بالآلات المصورة، أو المسجّلة.. تصور ما يقع، وتسجّل ما يحدث، دون أن تتدخل فى مجريات الوقائع أو الأحداث.. فالإنسان هو الذي يجريها كما يشاء، ويحدثها كما يريد!.
ومعنى هذا، أن الناس عموما هم الذين يكتبون أقدارهم، ويشكلون وجودهم، ويختارون الطريق الذي يسيرون فيه!.
وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» هو إطلاق لإرادة الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى منح الإنسان حرّية الحركة والعمل حيث يشاء، وكما يريد، حسب تفكيره وتقديره، وأن ما يفعله يمضيه الله سبحانه وتعالى له: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» .. فالناس يبذرون الحب.. والله سبحانه وتعالى يعطيهم ثمر ما بذروا.. إن حلوا، وإن مرّا..
وفى تعليق تغيير أحوال الناس بتغيّر ما بأنفسهم، إشارة إلى أن النفس الإنسانية هى جهاز التفكير، والتقدير، ومركز الإرادة والتوجيه، وأنها(7/81)
هى السلطان الآمر للإنسان، والموجّه لكل أعماله وأقواله، فإذا غيّرت النفس اتجاه مسيرها، تغيّر تبعا لذلك سير الإنسان فى الحياة.
وفى إضافة التغيير إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن إرادة الله سبحانه وتعالى هى التي أجرت هذا التغيير، الذي أحدثه الإنسان، كما أنها هى التي حركت إرادة الإنسان نحو هذا التغيير..
ومعنى هذا، أن إرادة الله سبحانه وتعالى، إرادة شاملة، تدخل فى محيطها كل إرادة، فلا إرادة لمريد، إلا تبع لهذه الإرادة.. وأن إرادة الإنسان إرادة متحركة عاملة، فى محيط إرادة الله العامة الشاملة.. ولكنها لا تخرج فى تحركها وعملها عن إرادة الله..! وفى هذا يقول الله سبحانه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» (4: الروم) ويقول سبحانه: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (29: التكوير) .
قوله تعالى: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» - هو تقرير لشمول الإرادة الإلهية وعمومها، وأنها إرادة نافذة ماضية، وأن إرادة الناس لا تتحدّى إرادة الله، ولا تحول بينها وبين أن تمضى ما قضت به، وليس للنّاس فيما يقضى به الله ويريده من ولىّ ينصرهم، ويدفع ما يريد الله بهم من سوء.
هذا، مع أن للإنسان إرادته، ومشيئته، التي يجدها، ويملك أموره بها، دون أن تعطل إرادة الله العامة الشاملة إرادته، أو تكرهه على أمر لا يريده، فإن تعطلت إرادته، أو وقعت تحت سلطان قاهر لها، رفع عنه التكليف..
أو بمعنى آخر زالت عنه فى تلك الحال صفة الإنسان، المريد المختار..
وقد عرضنا لبحث هذه القضية، من قبل، فى مبحث خاص، تحت(7/82)
عنوان: (مشيئة الله، ومشيئة الإنسان) عند تفسيرنا لقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» (111: الأنعام) .. «1»
قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» - هو عرض لمظهر آخر من مظاهر قدرة الله وهو أنه سبحانه وتعالى، هو الذي ينشىء هذه السحب الثقال، المحملة بالماء الغزير، ويسيّرها فى جوّ السماء، كما يسير السّفن على الماء، وأنه سبحانه يرسل من بين تلك السّحب بروقاً لامعة، هى إشارة سماوية تشير إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث تنطلق تلك الشرارات النارية الملتهبة، من هذا الماء الذي تحمله السحب..!
- وفى قوله تعالى: «خَوْفاً وَطَمَعاً» إشارة إلى أن هذه البروق الراعدة تثير فى النفوس مشاعر مختلفة مختلطة.. فيخافها بعض الناس، ويخشى أن تكون صواعق مرسلة بالهلاك، كما يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك «وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ» .. على حين يرجوها بعض الناس، وينتظر الغيث الهاطل من ورائها..
وإلى هذا المعنى ذهب أبو الطيب المتنبّى حين يقول:
فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى ... يرجى الحيا منها وتخشى الصّواعق
قوله تعالى: «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» ..
المحال: الحول، والطول، والقوة.
والمعنى: أن هذا الرّعد الذي ينطلق من السّحب، مدويّا هذا الدوىّ
__________
(1) انظر ص: 262 من الكتاب الرابع- تفسير الجزء الثامن.(7/83)
الذي يملأ الآفاق، هو صوت منطلق فى الوجود، بين يدى تلك السحب المحملة بالغيث، ينادى بحمد الله، ويهتف بكل موجود أن يصحو من نومه، ويفيق من غفلته، ليستقبل هذه الرحمة المرسلة بحمد الله، والشكران له، على ما ساق إلى عباده من نعم! وفى جعل «الرَّعْدُ» مسبّحا بحمد الله إشارة إلى أن الرّعد دائما يصحبه المطر، وهذا يعنى أنه يبشر بتلك النعمة، ويزفّ إلى من يسمعون هذا الصوت، أن رحمة الله قريب منهم، إذ كان من شأن الرعد أن يتبعه المطر دائما.. وليس كذلك البرق، الذي قد يصحبه مطر، وقد لا يصحبه، وهو الذي يسمّى البرق الخلّب، أي الذي يخدع، حيث يوعد بأن وراءه مطرا، ثم يخلف هذا الوعد..
وليست الإشارة إلى تسبيح الرعد، إلا إلفاتا للإنسان، ودعوة له إلى أن يسبّح ربه ويحمده، وإلّا، فإنّ كل شىء يسبح بحمد الله دائما، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .
وقوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» معطوف على قوله تعالى «الرَّعْدُ» أي يسبح الرعد بحمد الله، وتسبّح الملائكة من خيفته، أي من خوف ربّهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ» (50: النحل) ..
- قوله تعالى: «وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» .. الضمير «هم» يراد به المشركون بالله، الذين لا يرجون رحمة الله، ولا يخشون عذابه.
فلا يحمدون الله على تلك النعم التي أفاضها عليهم، مع أن هذه النعم ذاتها تسبّح الله وتحمده، أن جعلها رسول خير للنّاس، ومصدر حياة لهم..(7/84)
فكيف لا يحمدها، ولا يشكر لله من أجلها، من كانت حياتهم معلقة بها، ووجودهم رهن بوجودها؟ أليس ذلك ضلالا وسفها وكفرا؟ وبلى.. إنه الضلال والسفه والكفر! ثم إذا كان الملائكة، وهم ما هم عند الله.. يخافون ربّهم، ويسبحون بحمده، ويشكرون له، فكيف بهؤلاء المشركين الضالّين.. لا يخشون الله، ولا يخافون بأسه وعقابه؟ لقد غرّهم بالله الغرور.. إنّهم يجادلون فى الله، جدال من ينكره، ويجحد نعمه، ويستخفّ ببأسه! وهو سبحانه آخذ بناصيتهم.. إنه ذو الحول والطول، شديد العقاب.. لن يفلتوا منه، ولن يخلصوا من عقابه.
«لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» ..
فى هذا تسفيه لهؤلاء السفهاء الذين يصرفون وجوههم عن الله، فلا يدعونه، ولا يلجئون إليه، وهو الحقّ الذي إذا دعى سمع، وإذا سئل أجاب، وأعطى.. ولكنهم يدعون من دونه من لا يسمع ولا يجيب! «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (5: الأحقاف) .
- وفى قوله تعالى: «لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ» .
تصوير كاشف لهذا الضلال الذي عليه هؤلاء المشركون، وهم يمدّون أيديهم إلى تلك الدّمى التي عبدوها من دون الله، وعلّقوا آمالهم بها، وانتظروا الخير الذي يرجونه منها.. إنهم لن ينالوا شيئا.. إنهم مع آلهتهم تلك كمن يبسط يده إلى الماء، يدعوه إليه أن ينتقل من حيث هو، حتى يبلغ فاه، ويرتوى(7/85)
منه! وهيهات.. فإن الماء لا يسمع له، ولا يستجيب لدعائه.. «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» .. إنه دعاء لا يجد له أذنا تسمع، أو عقلا يعقل، أو لسانا ينطق! والسؤال هنا:
كيف كانت المعبودات التي يتخذها المشركون آلهة لهم من دون الله- مقابلة فى هذا التشبيه للماء.. مع أن الماء فيه حياة ونفع لمن يتصل به! ويحسن أورد إليه؟ .. فهل فى هذه المعبودات شىء، مما فى الماء من خير ونفع، حتى يقع الشبه بينها وبين الماء؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن المنظور إليه فى هذا التشبيه، هو العابدون لا المعبودون، وهؤلاء المشركون الضّالون، لا المعبودات التي يعبدونها.. وذلك أنهم فى هذا التشبيه ينكشف سفههم وضلالهم، وحماقتهم، وأنهم والماء قريب منهم، والظمأ يشوى أحشاءهم، لا يعرفون- لجهلهم وسفههم كيف ينالون منه حاجتهم، فيبسطون أيديهم إلى الماء، ويهتفون به أن يدنو منهم، ويدخل أفواههم..!
والحاجة- كما يقولون- تفتق الحيلة، وحاجة القوم إلى الماء شديدة، والوصول إليه، والارتواء منه سهل ميسور، يتهدّى إليه الحيوان بفطرته، ولكنّ القوم قد أفسدوا فطرتهم، وعطّلوا عقولهم، فلم يكن لهم ما للحيوان الأعجم من حيلة! ولو كان المشبّه به، المقابل للمعبودات، شيئا غير مرغوب ومطلوب، لما وقف القوم منه هذا الموقف الحريص المتلهف، ولما اشتد بهم الكرب، واستبدّت بهم الحسرة، حين طال وقوفهم عليه، ثم لم ينالوا شيئا منه! ومن جهة أخرى.. فإن من بين هذه المعبودات التي يتخذها المشركون(7/86)
آلهة لهم من دون الله، ما فيه نفع وخير، كالملائكة، وبعض الصّالحين، الذين قيل إن ودّا وسواع، ويغوث، ويعوق، كانوا من صالحى العرب، فلما ماتوا صنعوا لهم التماثيل، وأطلقوا عليها أسماءهم، ثم عبدوهم..
فالملائكة، وهؤلاء الصّالحون من عباد الله، ممن عبدهم الناس، أو اتخذوهم شفعاء لهم عنده- هم أشبه بهذا الماء، الذي فيه رىّ وحياة، وأنّ من يسلك سبيلهم، ويتأسّى بهم، ويرد موارد التقوى التي وردوها- يجد الرىّ لروحه، والحياة لقلبه.. ولكن المشركين لم يحسنوا التعامل معهم، والانتفاع بهم، فهلكوا، وطريق النجاة دان منهم، ماثل أمام أعينهم! قوله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» ..
هو قهر للمشركين وإذلال لهم، وأنّهم من حيث لا يريدون، ولا يدرون، هم منقادون لله، خاضعون له، إذ كانوا تحت سلطانه القاهر، وإرادته النافذة..
فهم إذ لم يعبدوا الله اختيارا وولاء، عبدوه كرها واضطرارا.. وأنفهم فى الرّغام، ومصيرهم إلى النار، لأنهم عصوا الله، وكفروا به، وأبوا أن يعطوه ولاءهم مختارين! وليس هذا شأن المشركين وحدهم.. بل إن الوجود كلّه، فى سماواته وأرضه، وما فى سماواته وأرضه، ساجد لله، خاضع لعزته وجبروته، منقاد لإرادته ومشيئته.. فالمراد بالسجود هنا، الخضوع والانقياد «طَوْعاً وَكَرْهاً» !.
والوجود كلّه- ما عدا الإنسان- يسجد لله، ويخضع لإرادته، وينقاد لمشيئته «طوعا» من غير تردد، إذ لم يكن فيها- كما نعلم- كائن ذو إرادة، تضعه أمام أوامر الله ونواهيه بين الإقدام والإحجام، وبين الامتثال،(7/87)
والعصيان.. فيطيع وهو مريد، ويعصى وهو مريد.. الأمر الذي ليس لكائن غير الإنسان.. وفى هذا يقول تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) .
أما الإنسان، فهو الكائن المريد، الذي تقوم فى كيانه قوة موجهة، هى التي تذهب به يمينا أو شمالا، وتقيمه على أمر الله، أو تخرج به عنه.. فإذا استجاب لأمر الله، واتبع سبيله كان نغما متجاوبا مع هذا الوجود المنقاد لله طوعا وإذا لم يستجب لله، وخرج عن طريق الحق الذي دعاه إليه، كان نغما شاذا، ثم كان فى الوقت نفسه منقادا لله «كرها» .. لأنه واقع تحت سلطان الله، منقاد لمشيئته.. فما على هذا الإنسان الجهول لو انقاد لله طوعا، كما هو منقاد كرها؟
- وفى قوله تعالى: «وَظِلالُهُمْ» إشارة إلى أن ظلال هذه الكائنات، - ومنها الإنسان- منقادة لله سبحانه وتعالى، ساجدة لجلاله وعظمته.. فحيثما وقعت أشعة الشمس على كائن من الكائنات، وقع ظلّه على الأرض.. فكان ذلك منه سجودا لله، وولاء له.. إنه لا يملك الظل إلا أن يقع على الأرض.
وقوله تعالى: «بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» .
الغدوّ: جمع غدو، مؤنثه غدوة.. وأصله غدوو.. على وزن فعول فأدغمت الواو فى الواو.. والغدو، والغدوة، أول النهار..
والآصال: جمع أصل، والأصل: جميع أصيل.. مثل نذير ونذر.. والأصيل آخر النهار..
وفى قصر سجود الظلال على الغدو والآصال، عرض واضح لسجود هذه الظلال، حيث تكون ظلال الأشياء فى أول النهار وآخره ظاهرة ممتدة، يبدو(7/88)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
فيها ظل الشيء أضعاف أصله، ثم ينكمش رويدا رويدا، حتى يقع تحت قدميه عند الزوال، ثم يبدأ فى الطول شيئا فشيئا، حتى يعود كما بدأ أول النهار، فى طوله وامتداده، أضعافا مضاعفة. إنها دورة كاملة للظل على الأرض، أشبه بدورة الأفلاك فى مداراتها..
وأقرب شىء إلى الإنسان، وألصق الأشباه به، هو ظلّه.. وهذا الظلّ يسجد لله.. فإذا كان الإنسان مؤمنا سجد، وسجد معه ظله.. وإذا كان كافرا يأبى السجود لله، فإنه ساجد لله- كرها- بظله هذا الذي يسجد لله غدوة وأصيلا، وما بين الغدوة والأصيل.. فهل يستطيع أن يحول بين ظله وبين أن يسجد لله؟ فليجرب إذن.. وسيجد أنه كما لا يملك أن يمنع ظله من السجود لله، والانقياد لله، فإنه لا يملك نفسه من الانقياد لله، والخضوع لسلطانه القائم عليه، فى كل حركة يتحركها، أو نفس يتنفسه.. وليجرّب مرة أخرى إن كان يستطيع الخروج عن سلطان الله! وهل يستطيع مثلا أن يعيد نفسه إلى الشباب إن كان شيخا؟ وهل يستطيع أن يدفع عن نفسه عادية الجوع إذا امتنع عن الطعام يوما أو أياما؟ وهل يستطيع أن يغلب النوم فلا ينام أبدا؟ ثم أيستطيع أن يفرّ من الموت الذي هو ملاقيه يوما؟ أليست هذه، وآلاف غيرها من الضرورات القاهرة التي تتحكم فى الإنسان، وتأخذه من مقوده- أليست من مظاهر الخضوع لله، طوعا وكرها؟ وبلى! وإن الله سبحانه وتعالى ليقول:
«يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (33: الرحمن)
الآيات: (16- 18) [سورة الرعد (13) : الآيات 16 الى 18]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)(7/89)
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة بعض مظاهر قدرة الله، وقوة سلطانه، وسعة علمه، ثم ختمت هذه المشاهد بهذا الحكم الذي ألزم الوجود كلّه، الانقياد لله، والولاء له، طوعا أو كرها- جاءت هذه الآيات تخاطب العقل، وتدعوه إلى الله، وتضرب له الأمثال الحسية، ليقيم من منطقها طريقه الذي يستقيم عليه، فى التهدّى إلى الحقّ، والإيمان بالله، وإفراده بالألوهية، ونبذ الشركاء والأنداد، التي إذا قايسها العقل بالله، كانت ضلالا وكانت هباء! ..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟» ..
هذا سؤال ينبغى للعاقل أن يسأله، وأن يجيب عليه! .. فإن هذا الوجود(7/90)
فى سماواته وأرضه، لا بد له من خالق قد خلقه، وأجرى نظامه على هذا الترتيب المحكم البديع.. فإذا لم يسأل المرء نفسه هذا السؤال، ولم تثر فى نفسه داعية له، فها هو ذا السؤال يملأ سمعه.. فماذا يكون الجواب؟ ومن ضاع منه الجواب بين سحب الجهل والضلال المنعقد على عقله وقلبه.. فهذا هو الجواب حاضر عتيد..
«قُلِ اللَّهُ!» .. وهذا الجواب هو من بديهية العقل، كما أن السؤال من بديهية العقل أيضا.. وعلى هذا، فإنه حكم لازم، وقضاء قاطع لا مردّ له..
وإذن فليكن الحساب والجزاء على هذا الحكم الذي لم يلتزمه المشركون، ولم يأخذوا أنفسهم به..
«قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ؟.
والاستفهام هنا إنكارىّ، يضع المشركين فى قفص الاتهام، والإدانة..
إذ كيف لا يعطون ولاءهم لله، ولا يخلصون له عبادتهم، وهو خالق السموات والأرض، على حين يجعلون ولاءهم وعباداتهم لتلك المخلوقات التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، والتي هى خلق من خلق الله، تدين له بالولاء، كما دان له كل مخلوق؟ إنهم يسوّون فى هذا بين المتناقضات، ويقولون إن الأعمى والبصير سواء، وإن الظلمات والنور متعادلان، وإن الباطل والحق متشابهان.. وإن المخلوق والخالق سيان! وهذا منطق أحمق سفيه، لا يقبله إلّا من عميت بصيرته، وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة! ..
«أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟» هذا استفهام إنكارى أيضا، يسأل فيه المشركون عن تلك الآلهة التي عبدوها من دون الله،(7/91)
أو جعلوها شركاء لله.. أهذه الآلهة تخلق كما يخلق الله؟ وهل لها فى هذا الوجود شىء خلقته، حتى يكون لهؤلاء المشركين وجه من العذر حين ينظرون- إن كان لهم نظر- فيرون أن لهذه الآلهة خلقا خلقته، وعندئذ يتشابه الخلق عليهم فلا يفرقون بين ما خلق الله، وما خلق غير الله، أذلك ما يقع عليه نظرنا إلى هذا الوجود؟ وهل يستطيع مشرك أن يمسك بنظره مخلوقا واحدا لهذه الآلهة المعبودة لهم؟ «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» (73: الحج) فكيف يستوى من يخلق ومن لا يخلق؟ «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ؟.»
- «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .. لم يبق إذن إلا الصيرورة إلى هذا الحكم، الذي لا حكم غيره، وهو أن الله هو الخالق لكل شىء.. وأنه «الواحد» المتفرد بالخلق «القهار» الذي له كل مخلوق، ويخضع لسلطانه كل موجود.. عظيم أو صغير.. فى السماء، أو فى الأرض.. «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؟ ..» (78: النساء) قوله تعالى:
«أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ... »
بقدرها: أي بحجمها، ومقدارها..
الزبد: الرغوة التي تتكون من السائل حين يضرب بعضه ببعض، كما يظهر ذلك فى لعاب البعير حين يهدر ويرغو، أو لعاب الإنسان حين يثور، ويرمى بالكلام فى اندفاع وقوة(7/92)
والرابى: المرتفع، ومنه الربوة، وهى المكان المرتفع.. وهذا مثل آخر ضربه الله سبحانه وتعالى للباطل والحق، وأنهما أمران مختلفان، اختلاف الأعمى والبصير، والظلمات والنور..
الحق والباطل.. دولة ودولة
فهذا الماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية- كلّ على قدر ما نزل من ماء- فيحمل معه فى جريانه واندفاعه، غثاء ورغوة وزبدا، فيختلط بالماء، ويعكر صفوه، حتى ليبدو لعين الغرّ الجاهل أن ما يراه هو غثاء وزبد، وأن لا شىء وراء هذا.. ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ أن بطن الوادي ملىء بالماء، مترع بالخير، وإن هذا الزبد إن هو إلا سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، ولا يبقى إلا ما ينفع الناس من ماء تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون، وإذا هو حياة يردها الناس فتمسك حياتهم، وحياة كل حىّ! ..
هذه صورة واقعة فى الحياة، يراها الناس جميعا.. باديهم وحاضرهم، جاهلهم وعالمهم..
وهناك صورة أخرى تشبه تلك الصورة، قد لا يشهدها إلا أهل العلم والصناعة، ولكنها على كل حال صورة لا تغيب عن المجتمع الإنسانى أبدا، وهى تلك المعادن التي تسلط عليها النار، فتنصهر، وتتحول إلى مادة سائلة، أشبه بالماء، حيث يستطيع الصانع أن يشكل منها ما يشاء من آنية، وحلىّ! ..
فهذه المعادن حين تنصهر تحت حرارة النار، يعلو سطحها زبد أشبه بالزبد الذي يعلو سطح الماء المندفع بقوة الجريان من السيل المتدفق، وإن هذه الرغوة التي تعلوا وجه المعدن المنصهر هى خبث يلقى به بعيدا عن جوهر المعدن حتى(7/93)
يخلص للطرق والصقل، ويصبح آنية نافعة، أو حلية ثمينة معجبة..
- «كذلك يضرب الحق والباطل» أي يضرب بعضهما ببعض، فى هذا الصدام الذي بين أولياء الحق، وأتباع الباطل، فينشأ من هذا الضرب، وذاك الصراع «زبد» .. «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً» أي يرمى به بعيدا، فى جفاء وكره.. «وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» أي ما ينفع الناس من الماء، ومن المعادن هو الذي يبقى، ويعيش مع الناس- ويكون سببا فى حياتهم.. كالماء، أو سببا فى تمكنهم من أسباب الحياة، ورفهها ونعيمها كالمعادن التي تصاغ منها الآنية والحلىّ..
فالصراع الذي يقع بين الحق والباطل، يثير فى الحياة غبارا، ودخانا، يعكر من صفو الحياة حتى ليبدو لأول نظرة أن غير هذا الصراع أولى بالناس، ولكن تلك هى سنة الحياة، إذ كان من شأن الباطل دائما أن يتحكك بالحق وأن يعترض سبيله، وكان على الحق أن يعمل على الخلاص منه، حتى يصفر وجهه، ويتمكن الناس من الانتفاع به.. تماما كما ينتفعون بالماء بعد أن يدور دورته، ويخلص من الزبد الذي علق به!!.
والذين يشهدون الصراع الدائر بين الحق والباطل، ويرصدون مواقع القتال بينهما، وما يقع من انتصارات وهزائم- هؤلاء قد يرون للباطل دولة، دونها دولة الحق، ويرون للمبطلين، صولة، دونها صولة المحقّين، ومن أجل هذا نجد كثيرا من الناس يضيقون بالحق ذرعا، ولا يصبرون على المكاره فى سبيل الانتصار له والدّفاع عنه.. وهؤلاء قد فاتهم أن هذه المكاره التي تحفّ بالحق، هى الثمن الذي يؤديه أصحاب المثل العليا، والنزعات الطيبة لما يجنون من ثمرات مباركة، هى غذاء الأرواح، وزاد القلوب، وهى التي تلد الرجال، وتربىّ للإنسانية قادتها الراشدين، وزعماءها المصلحين..(7/94)
فليس بمنكور أن يهزم الحق فى معاركه مع الباطل.. فالحق والباطل فى صراع متلاحم لا ينتهى أبدا.. فينتصر هذا مرة، وينتصر ذاك أخرى، حتى يظل هذا الصراع دائما، لا تنقطع موارده، ولا تنطفىء ناره.. ولو كان النصر لأحدهما على الآخر ضربة لازب، لانتهى الصراع القائم فى هذا الوجود من من أول معركة، ولكانت الحياة وجها واحدا.. حقا أو باطلا.. ولو كان هذا لسكن ريح الحياة، ولخمدت جذوة الكفاح التي تدفع موكب الحياة فى قوه وانطلاق، فيتولد من هذا الاندفاع كل ما أقام الإنسان على هذه الأرض من مدنية وعمران..
إن الحياة فى هذا الكوكب الأرضى محكومة بهذا الصراع الأبدى، بين قوى الخير والشر، والحق والباطل.. فى ميزان، تتراجح كفتاه، وتضطربان هكذا أبدا..
وهزيمة الحق فى أروع مظاهره، وأكمل كمالاته، ليست بالتي تنقص من قدره، أو تقلل خطره، أو تحمل أتباعه على الشك فيه، أو الجفوة له.. فالحق وإن بدا أنه خسر المعركة فى بعض معاركه مع الباطل، فإن هذا لا يعنى أنه هزم، وأسلم يده للباطل وأهله.. وإنما ينهزم الحق حين تنهزم مبادئه فى نفس أهله، وتخف موازينه عندهم.. فذلك هو ميدان المعركة بين الحق والباطل..
فما دامت قلوب أهل الحق عامرة به، وما دامت أرواحهم متعلقة بالحياة معه والعيش فى ظله، فإنه لن يهزم أبدا، ولو خسر معاركه فى ميدان الحرب والقتال، وفيما يتقاتل من أجله الناس، من متاع الدنيا وزخرفها..
يقول الفيلسوف «جون ستيوارت» : إن من السخافة أن يتوهم المرء أن الحق لا لشىء سوى أنه حق- يشتمل على قوة غريزية، ليست موجودة فى الباطل، من شأنها أن تمكن الحق من التغلب على ضروب العقاب والتنكيل ...(7/95)
إذ الحقيقة الواقعة أن مقدارا كافيا من العقوبات القانونية أو الظلم الاجتماعى جديرة بأن تحول دون انتشار الحق! ..
ثم يقول الفيلسوف:
«ولكن الفضيلة الصادقة التي يتميز بها الحق، هى أنه يمكن إخماده، مرة، ومرتين، ومرّات، غير أنه لا بد- على مدى الدهور- من أن يظهر أناس يعاودون استكشافه المرة بعد الأخرى، حتى يوافق ظهوره فى إحدى المرات ظروفا ملائمة، فيفلت من الاضطهاد، ويجمع من الأنصار ما يمكنه من الثبات» يريد هذا الفيلسوف أن يقول: «إن للحق أصولا مستقرة فى ضمير الإنسانية، وأن هذه الأصول، وإن حجبتها قوى الشرّ والبغي، وغامت على شمسها سحب الضلال والزيغ، فإنّ جوهرها النقىّ لا يناله من ذلك شىء، بل يظل هكذا على نقائه، وصفائه، وكرمه، حتى تجىء الظروف المناسبة، التي تجلّى عن وجه الحقّ ما غشيه من ضباب، وما خيّم عليه من ظلام.. وذلك إما بقوة تنبعث من كيان الحق، كما تنبعث الحرارة من الشمس، فتبدّد السحب والغيوم، وإما بأن تنحلّ قوى الباطل من تلقاء نفسها، فيذبل عوده، وتجفّ أوراقه، كما تموت نبتة السوء، وتصبح هشيما تذروه الرياح.. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» .
والحق دائما ثقيل الوطأة على الناس، إلا من رزقهم- سبحانه- الإيمان الوثيق، والعزم القوىّ، وأمدّهم بأمداد لا تنفد من الصبر على المكاره، والقدرة على احتمال الشدائد، إذ الحق- فى حقيقته- مغالبة لأهواء النفس، وقهر لنزعاتها، وإيثار للآخرة على الدنيا، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان فى حرب متصلة مع نفسه، وما فيها من أهواء ونزعات، حتى إذا أقامها على الحق(7/96)
وصالحها عليه، وأسلم زمامها له- كان عليه أن يواجه الناس، وأن يجاهد فى سبيل الحق الذي عرفه، وآمن به، فيكون حربا على المنكر، بقلبه ولسانه ويده، جميعا..
ومن هنا كان الصبر قرين الحق فى كلّ دعوة يدعو إليها الإسلام، فى مجال الخير والإحسان، وفى كل ما من شأنه أن يقيم الإنسان والإنسانية على صراط مستقيم..
ففى الدعوة إلى الصفح والمغفرة، ودفع السيئة بالحسنة، يكون الصبر هنا عدّة من يمتثلون هذه الدعوة، ويقدرون على الوفاء بها، وإلّا لو دخلوا المعركة بغير هذه العدة- عدة الصبر- لا يحلّ عزمهم، ولم يكن لهم من سبيل إلى احتمال تبعات هذه الدعوة.. فكان قوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (34- 35: فصلت) - جامعا بين الدعوة إلى الصفح والمغفرة، وبين الصبر، الذي بغيره لا يمكن حمل النفس على هذا المكروه عندها، وهو دفع السيئة بالحسنة..
وفى تنبيه الإنسان إلى الخطر الذي يطلّ عليه من تسلط أهوائه، وساوس شيطانه، يقول الله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» لا يستثنى سبحانه أحدا من الصيرورة إلى هذا المصير: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» .
هذا، وللحق أصول ثابتة فى الحياة، هى الروح السّارية فى هذا الوجود، وهى الغالبة لكل باطل، حيث يكون له زبد ورغاء عند تشبثه بالحق، وتعلقه بذاتيته، كما تتعلق النباتات الطفيلية بأصول الأشجار الكريمة.. يقول سبحانه وتعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.. تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. ويقول(7/97)
جلّ شأنه: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» (38- 39: الدخان) .. فعلى هذا الخالق بالحق قامت السموات والأرض وما فيهما من موجودات.. والحق هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، وكفي بالوجود أن ينتسب إلى هذا النسب الكريم، ليهزم كل باطل، ويقضى على كل ضلال.. ومن هنا كان دائما النصر للحق، ولأتباع الحق..
والهزيمة دائما للباطل وأهل الباطل.. «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» ..
«لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى» - جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير:
الحسنى للذين استجابوا لربهم.. أي إن للذين استجابوا لربهم، وآمنوا به، واتبعوا سبيله، - العاقبة الحسنى، والجزاء الحسن.. «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ..» فهؤلاء هم الزبد والغثاء، ليس لهم فى الآخرة إلا النار لا يجدون عنها مصرفا، ولو كان لهم ملك ما فى الأرض جميعا، ومثله مضافا إليه، لقدموه فدية من هول هذا العذاب.. وهيهات! ..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة كانت مثلا مضروبا للحق والباطل وأنهما كثيرا ما يقع بينهما صراع، وقد يعلو الباطل على الحق فى بعض المواقف، كما يعلو الزبد صفحة الماء المتدافع من مسيل الوادي.. ولكنه لا يلبث أن يذهب هباء، ويبقى ما ينفع الناس.. كذلك الذين استجابوا لله وآمنوا به، والذين لم يستجيبوا له، واتخذوا من دونه شركاء.. فالذين استجابوا لله هم أشبه بالماء.. والذين لم يستجيبوا لله هم هذا الزبد.. وإذا كان ذلك كذلك، كان لكل من الفريقين حسابه، وجزاؤه عند الله.. فكما لا يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الزبد ولا الماء.. كذلك لا يستوى(7/98)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
الكافرون والمؤمنون.. أولئك أصحاب النار، وهؤلاء أصحاب الجنة:
«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (20: الحشر) .
الآيات: (19- 24) [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
التفسير:
قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى ذكر فى الآيات السابقة، الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والزبد وما ينفع الناس.. وهى أمور متضادّة، كتضاد الشر والخير، والضلال والهدى.. كذلك الذين نظروا فى آيات الله فعرفوا أنها الحق من الله، وأنها تنزيل من حكيم خبير،(7/99)
والذين عميت أبصارهم عن هذه الآيات، فلم يروا منها شيئا يهديهم إلى الله- هما عالمان متضادان.. هؤلاء مبصرون، وأولئك عمى لا يبصرون! والاستفهام فى الآية الكريمة مراد به التقريع والتسفيه لأهل الشرك والضلال، الذين عميت بصائرهم عن التهدّى إلى الحق، على ضوء ما تلا عليهم الرسول الكريم من آيات الله..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» هو تنويه بالمؤمنين الذين قادتهم عقولهم إلى الحق، فعرفوا الله، وآمنوا به، كما أنه تعريض بالمشركين واتهام لهم بالسّفه، والغفلة، وأنهم ليسوا من أصحاب العقول العاملة المبصرة! قوله تعالى: «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ» هو صفة لأولى الألباب، أصحاب العقول المبصرة، والبصائر المدركة..
وعهد الله الذي يوفون به، هو كل عهد يقطعونه على أنفسهم لله، أو للنّاس، وقد جعلوا الله كفيلا عليهم فيما أعطوا من عهد.. فالمؤمنون بالله حقّا هم الذين إذا أعطوا مثل هذا العهد من أنفسهم، برّوا به ووفوا، وأبى عليهم إيمانهم، وولاؤهم لله أن يعطوا عهدا باسمه، ثم يغدروا به وينقضوه، فذلك مما لا يتفق مع الولاء لله، والإكبار لذاته، فضلا عن أنه حطّة بالكرامة الإنسانية، وإزراء بقدر الإنسان، وإسقاط لمروءته. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (91: النحل) وأما الميثاق الذي لا ينقضونه، فهو الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على أبناء آدم وهم فى عالم الأرواح، كما يقول سبحانه وتعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (172: الأعراف) وهذا الميثاق الذي أخذه الله على أبناء آدم، هو(7/100)
ما أودع فيهم من فطرة سليمة، من شأنها أن تتهدّى إلى الله، وتعرف طريقها إليه، وتؤمن به، لو أنها تركت وشأنها، دون أن يدخل عليها ما يفسدها، من وساوس الشيطان، وغوايات المغوين، وضلالات المضلّين.
وهذا ما يشير إليه قول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه هما اللذان يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسّانه» ثم بعد هذا الميثاق، جاء ميثاق آخر يؤكده، ويذكّر به، وهو دعوة الرسول لهم إلى الإيمان بالله، وأخذه الميثاق عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» (7: المائدة) فنعمة الله هنا هى الرسول الذي جاءهم بكتاب الله إليهم، والميثاق هو ما أخذه الرسول عليهم عند بيعتهم له على الإيمان، حين قالوا:
«سمعنا وأطعنا» وإلى هذين الميثاقين- ميثاق الله، وميثاق الرسول- يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (8: الحديد) .. ففى هذه الآية ينكر الله سبحانه وتعالى على المتوقفين عن الإيمان، أو المعرضين عنه، هذا الموقف..
إذ ما كان لهم أن يترددوا فى الإيمان بالله، أو يعرضوا عن الإيمان به، ورسول الله يدعوهم إلى الله، ويذكرهم به، ويقدم لهم بين يديه كتابا من عنده.. هذا إلى الميثاق الذي أخذه الله عليهم من قبل وهم فى عالم الأرواح، وهذا الميثاق هو الفطرة المودعة فيهم، وهى وحدها كانت كافية لأن يتعرفوا إلى الله ويؤمنوا به، إن كانت هذه الفطرة قد بقيت سليمة فيهم، مهيأة لقبول الإيمان: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي إن كنتم ما زلتم على فطرتكم التي فطركم الله عليها.(7/101)
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» هو بيان لصفات أخرى من صفات المؤمنين، بعد أن تأكد إيمانهم بالله، ووفاؤهم بعهوده ومواثيقه.. فقد مدحهم الله سبحانه وتعالى بأنهم «يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» والذي أمر الله- سبحانه- به أن يوصل، هو الإيمان.. فهم بإيمانهم بالله بعد أن أصبحوا فى عالم الأشباح، وصاروا أهلا للتكليف- هم بهذا قد وصلوه بإيمانهم الذي كان منهم وهم فى عالم الأرواح.. وهذا ما أمر الله به أن يوصل، إذ كانت دعوة الرسل إلى الإيمان بالله، دعوة إلى وصل هذا الإيمان، بإيمان الفطرة المستكنّ فيها.
ولهذا ذمّ الله سبحانه الكافرين بأنهم قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، فخانوا بهذا، عهد الله، ونقضوا ميثاقه، وفى هذا يقول الحق جل وعلا: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (26- 27 البقرة) .. ويقول سبحانه: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»
(25: الرعد) فالكافرون قد نقضوا عهد الله الذي معهم، بعد أن جاءهم رسله ليوثّقوه، ويذكّروا به، وهم بهذا الكفر قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهو أن يصلوا إيمان الفطرة المركوز فيهم، بإيمان الدعوة على يد الرسل.. وهم بهذا الكفر قد أصبحوا أدوات هدم، وإفساد، فى كيان المجتمع الإنسانى. كما يقول سبحانه:(7/102)
«وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» .
- وقوله تعالى: «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» بيان لبعض صفات أخرى للمؤمنين، وهى أنهم يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب يوم القيامة، إذا جاءوا إلى هذا اليوم بما لا يرضى الله من سيئات ومنكرات، ولهذا، فهم يتجنبون السوء، ويجانبون المنكر، خشية لله، وخوفا من سوء الحساب، يوم الحساب! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» هو أيضا بيان للصفات المكملة لتلك الأوصاف التي ينبغى أن تكون للمؤمنين بالله.. إيمانا حقا..
فهم يصبرون ابتغاء وجه ربهم.. يصبرون على ما أصابهم من ضر، وما مسّهم من أذى، وما نزل بهم من مكروه، يرجون بهذا، الجزاء الحسن من الله على رضاهم بالمكروه، وصبرهم على الضر، إذ كان ذلك تسليما منهم بقضاء الله، وإيمانا بحقه سبحانه وتعالى فى ملكه، يفعل ما يشاء، لا معقّب لحكمه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» (155: 156 البقرة) ففى الصبر على المكاره، تسليم لله سبحانه وتعالى بما قضى به، وطمع فى رحمته ولطفه «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (87: يوسف) وفى هذا يقول الرسول الكريم: «حفّت الجنة بالمكاره» إذ كان فى استقامة الإنسان على طاعة الله، قهر لأهواء النفس، ومغالبة للشهوات..
- وفى قوله تعالى: «ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى أن متوجههم فى احتمال الضر، والصبر على المكروه، إنما هو من أجل الظفر برضا الله عنهم..(7/103)
إذ كان ذلك هو مبتغاهم من احتمال المكاره، والوفاء بالتكاليف الشرعية، من عبادات، ومعاملات وغيرها.. فالمراد بوجه ربهم هنا، هو إقباله- سبحانه وتعالى عليهم- وقبوله لهم..
- وفى قوله تعالى: «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» - هو عطف خاص على عام، إذ كان الصبر جامعا لجميع التكاليف الشرعية، ومنها إقامة الصلاة، والإنفاق فى السر والعلن، ودفع السيئة بالحسنة.. فهذه كلها مما لا يقوم بالوفاء بها إلا من رزقه الله الصبر والاحتمال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الصلاة: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (122: طه) وما يشير إليه قوله سبحانه عن درء السيئة بالحسنة: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (34- 35: فصلت) ..
فالصبر هو ملاك كل طاعة، وميزان كل إيمان، وعقد كل عقيدة..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» - جاء جامعا بين الحق والصبر، إذ أنه لا يقوم حق إلا قام من ورائه الصبر.. إذ أنّ أكل حق يترصّد له الباطل، ويزحمه الضلال.. وتجلية الحق، ودفع الباطل عنه، يحتاج إلى مدد عظيم من الصبر والمصابرة..
- قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» الإشارة هنا ترجع إلى أولى الألباب، الذين عرفوا الله وآمنوا به، واتصفوا بتلك الأوصاف الكريمة التي عرضتها الآيات السابقة.. فهؤلاء لهم عقبى الدار.
والعقبى: العاقبة.. وعاقبة كل أمر خاتمته، وغايته..(7/104)
والدار هنا: هى دار الدنيا..
«وعُقْبَى الدَّارِ» أي الخاتمة التي ختمت بها هذه الدار، وهى عمل كل عامل فيها، فمن عمل خيرا كانت عاقبته خيرا، ومن عمل سوءا كانت عاقبته بلاء ونكالا..
ولهذا جاء قوله تعالى: «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» بإضافة العاقبة لهم، ولم يجعلها عليهم، بمعنى أن هذه العاقبة مما يملكه الإنسان ويحرص على اقتنائه، إذا كان خيرا.. على حين أن العاقبة إذا كانت شرا، نفر منها الإنسان، وحاول أن يفلت منها، ويوليها ظهره، ولكها تحمل عليه حملا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» .
(286: البقرة) .
قوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» - هو بدل من قوله تعالى: «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» .. أي أن عقبى الدار هذه هى «جَنَّاتُ عَدْنٍ» حيث تنتهى بالمؤمنين حياتهم الدنيا عند جنات عدن.. «يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» أي أن هذه الجنات التي يجدها المؤمنون عند انقطاع حياتهم الدنيا، هى لهم، مفتحة أبوابها، يدخلونها هم، ومن كان صالحا لدخولها من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وفى هذا أنس لهم جميعا، حيث يجتمع شملهم، ويكمل نعيمهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ «1» مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (21: الطور)
__________
(1) ما ألتناهم: أي: ما نقصناهم. [.....](7/105)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
- وفى قوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ.. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» .
بيان لما يدخل على المؤمنين من مسرّات، وهم فى جنات النعيم.. إذ يحيّون فيها من ملائكة الرحمن، تحية ترحيب وتكريم: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» وهم لا يدخلون عليهم من باب واحد، بل من أبواب كثيرة.. من يمين وشمال، وأمام، وخلف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» (44: الأحزاب) وقوله سبحانه: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً، وَسَلاماً» (75: الفرقان) .
- وفى قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» من غير وصله بما قبله، إشارة إلى أن دخول الملائكة عليهم، هو فى ذاته سلام وأمن، وهو تحية حيّة ولو لم ينطقوا بها.. ولهذا لم يجىء اللفظ القرآنى: يقولون «سلام عليكم» بل جاء هكذا:
«سَلامٌ عَلَيْكُمْ» ..
وفى قوله تعالى: «بِما صَبَرْتُمْ» إشارة إلى أن الصّبر هو المطية الذّلول التي بلغت بالمؤمنين هذا المنزل الكريم، ونقلتهم من عالم الفناء إلى عالم البقاء والخلود فى جنّات النعيم.. «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» أي فنعم عقبى الدار الدنيا، هذه الدار.. دار الآخرة..
الآيات: (25- 29) [سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 29]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)(7/106)
التفسير:
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» - هو بيان للوجه الآخر من وجهى الإنسانية، وهو وجه الكافرين، والمشركين والمنافقين.. الذين نقضوا عهد الله الذي أخذه عليهم الرسول، من بعد الميثاق الذي واثقهم الله عليه، وهم فى عالم الأرواح.. وقد أشرنا إلى شرح هذه الآية من قبل: (الآية 21 من هذه السورة) .
قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» - مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه لما كانت الحياة الدنيا ومتاعها مما يفتن الناس، ويفسد عليهم فطرتهم، ويحجب عنهم وجه الحق، فيضل كثير منهم طريقه إلى الله.. لمّا كان هذا هو شأن الدنيا مع الناس، فقد جاء قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» منبها هؤلاء الضالّين المتكالبين على الدنيا، إلى أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، وأن الأرزاق بيد الله سبحانه- يبسطها لمن يشاء، ويقدرها أي يقبضها، ويمسكها عمن يشاء، وأنّ تخبطهم فى طرق الضلال، وركوبهم مراكب النفاق لا ينفعهم فى شىء، ولا ينيلهم من الدنيا إلا ما قدّره الله لهم..(7/107)
- وفى قوله تعالى: «وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا» - هو تشنيع على الضالّين، واستخفاف بهم، وتسفيه لأحلامهم، إذ كان زخرف الحياة الدنيا، وهذا المتاع الزائل الذي وقع لهم منها- هو مبتغى مسعاهم فيها، ومبلغ حظهم منها، فإذا وقع لهم منها شىء طاروا به فرحا، ولو اغتال ذلك إنسانيتهم، وطمس على عقولهم وقلوبهم..
«أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى.. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» (16: البقرة) .
- قوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» إشارة إلى أن الحياة الدنيا هى مزرعة للآخرة، يتزود فيها الناس ليوم الفصل.. فمن كان زاده التقوى، ربح، وسعد، وفاز بنعيم الجنة ورضوان الله، ومن تزوّد بالذنوب والآثام، فقد خاب، وتعس، وكان لجهنم حطبا.
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» .
هو بيان لتعلّات الكافرين والضالّين، الذين يدعون إلى الإيمان بالله، وتقرع أسماعهم كلمات الله، فلا يصيخون إليها، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم لها، بل يركبون رءوسهم، ويتنادون فيما بينهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟» حتى لكأن هذه الآية التي يقترحونها هى اليد التي تشدّهم إلى الإيمان، وتفتح آذانهم وقلوبهم إلى الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» (146: الأعراف) .(7/108)
- وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» ..
هو ردّ على تعلّات هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا..
إذ أنهم لم يكونوا ممن أرادهم الله سبحانه للإيمان، ودعاهم إليه، لما علم من فساد طبيعتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»
(23: الأنفال) .. أما أهل الإيمان، فقد دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، ويسّر لهم الإيمان به، إذ كانوا على فطرة قابلة للخير، مستجيبة للحق، متهدّيه إلى الإيمان، والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» (17: محمد) ويقول سبحانه: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» (77: مريم) .
قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» - هو بدل من قوله تعالى «مَنْ أَنابَ» يعنى أنه سبحانه يهدى من أناب إليه من عباده، أي رجع إليه، ووجه وجهه إلى رحابه..
وهؤلاء هم المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول واطمأنت قلوبهم بذكر الله..
- وفى قوله تعالى: «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» إشارة إلى أن من علامات أهل الإيمان، أنهم إذا ذكروا الله، أو ذكّروا به، اطمأنت قلوبهم، واشتملت عليهم السكينة، وغشيهم الأمن والسلام..
- وفى قوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» توكيد لهذا الخبر الذي تضمنه قوله تعالى «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ..»
وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» هو توكيد لقوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» .. حيث أن ذكر الله يقيم الإنسان على الإيمان بالله، ويمسك به فى مجال العمل الصالح، فيحيا(7/109)
حياة طيبة، يجد فيها الأمن والسكينة، فإذا كانت الآخرة، وجد ما عمل من صالحات حاضرا، فيسعد به ويهنأ.
والطوبى: مؤنث أطيب، وهو الحسن الجميل من كل شىء..
والمآب: المرجع، والمراد به يوم القيامة..
[ذكر الله.. واطمئنان القلوب به]
«أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» ..
وذكر الله هو تذكره، فى استحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وكل ما له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال.. فإذا ذكر الإنسان ربّه، واستحضر جلاله وعظمته، كان من هذا الذكر فى ظلّ ظليل، من جلال الله وعظمته، وفى حمّى لا ينال من حياطته، ورعايته، وفى عزة تصغر أمامها عزة كل عزيز فى هذه الدنيا، إذ كان معتصمه هو الله القوىّ العزيز! «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (101: آل عمران) .
فالذى يذكر الله وهو موقن به، طامع فى رحمته، معتصم بجلاله، محتّم بحماه، لائد بفضله، عائد به، من هموم الدنيا، ومن ظلم الظالمين، وبغى الباغين- يجد ربا قريبا منه، سامعا دعاءه مستجيبا له، قال تعالى: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» .. وقال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» .. وقال جل شأنه «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186: البقرة) .
وليس ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، هو هذا الذكر الذي تردّده الألسنة ترديدا آليا، دون أن يكون منبعثا من القلب، دافئا بحرارة الإيمان،(7/110)
منطلقا بقوة اليقين- فمثل هذا الذكر لا يعدو أن يكون أصواتا مرددة، أشبه بالجثث الهامدة.. لا روح فيه، ولا معقول له.. ومن هنا تكون آفته، فلا يطمئن به قلب، ولا ينشرح به صدر..
أما الذكر الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.» ثم يؤكده بقوله: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» فهو الذكر الذي ينبعث عن إيمان، فتهتزّ له المشاعر، وتدفأ به الصدور، وتطمئن به القلوب.. ولهذا قدّم سبحانه الإيمان على الذكر.. حتى يكون للذكر أصل يرجع إليه، ومنطق بنطق منه، وهو الإيمان.. فإذا ذكر المؤمن بالله ربّه، غرّدت فى نفسه بلابل البهجة، وزغردت فى صدره عرائس الرضا، واستولت عليه حال من الشجا الممزوج بالنشوة، حتى ليكاد يكون كلّه عاطفة ترفّ بجناحي الصبابة والوجد، وتحلّق فى سماوات عالية، مشرقة بنور الحق، معطرة بأريج الصفاء والطهر.
ولا يكون الذكر لله ذكرا يثمر هذه الثمرة، التي يطمئن بها القلب، إلا إذا انبعث من قلب عارف بالله، مدرك لما ينبغى له سبحانه، من صفات الكمال والجلال، فذلك هو الذي يفيض على القلب خشية عند ذكر الله، وهو الذي يستثير مشاعر الولاء لله، والإخبات له، فتقشعر الجلود، وتدمع العيون..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» (2: الأنفال) .. وقوله سبحانه: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» (34- 35 الحج) وقوله جلّ شأنه «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» .. (23: الزمر)(7/111)
فإذا ذكر المؤمن ربه، وقد تلبست به تلك الحال، واستولت عليه هذه المشاعر، قرب من الله، ودنا من مواقع رحمته، وأحسّ برد السكينة يغمر قلبه، ووجد ريح الأمن والطمأنينة تهبّ عليه، معطرة الأنفاس، زاكية الأرواح.
إن الإنسان إذ يذكر حدثا من الأحداث، أو يستحضر صورة شخص من الأشخاص، له به علقة حب أو بعض، فإنه يجد فى كيانه لهذا الذكر، ولذاك الاستحضار ما يهزّ كيانه، ويثير عواطفه، ويهيج أشجانه، أو يبعث مخاوفه..
وإلى هذا المعنى يشير الشاعر العربي فى مدح أحد الخلفاء.. إذ يقول:
خليفة الله إن الجود أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع
إن أخلف الغيث لم تخلف مواطره ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
والشاهد هنا فى قوله: «أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع» فهو يريد أن يقول:
إنه إذا نزل به ضيق، أو كربه كرب، وجرى ذكر الخليفة فى خاطره، كان له من هذا سعة من ضيق، وخلاص من كرب، وراحة من عناء وهمّ.
ويروى أن قيس بن الملوح (مجنون ليلى) وهو فى زحمة الحجيج بمنى، سمع إنسانا يهتف بمن اسمها ليلى، بل لعله عرف المجنون، فأراد أن يهيج لواعجه، ويحرك أشجانه، فهتف بهذا الاسم، كأنه يستدعى ابنة أو زوجا له..
وأيّا ما كان، فقد أثار هذا النداء بيا «ليلى» ثائرة المجنون، وحرك بلابل أشجانه، وعرته حال من الصبابة والوجد. كان وصفه لها فى هذين البيتين، تصويرا لبعض ما استطاع أن يمسك به من مشاعره.. يقول المجنون:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيّج أشجان الفؤاد وما يدرى(7/112)
دعا باسم «ليلى» غيرها فكأنما ... أهاج «بليلى» طائرا كان فى صدرى!
هذا بعض ما تثير ذكريات الأحداث، وتذكّر الأشخاص، فى مجال الخير والشر، وفى مقام الحبّ والبغض.. فكيف يكون الحال عند من يذكر الله، ويستحضر جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما ينبغى له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال؟
إن الذاكر لله على تلك الصفة يجد نفسه فى حضرة مالك الملك، القائم على هذا الوجود، والمصرّف لكل موجود.. وإذا هو فى هذا المقام ذاهل عن كل ما عدا الله، مستخفّ بكل ما سواه، موقن بأن ما هو فيه من خير أو شر، هو مما قضى الله به، وأنه لا يكشف الضرّ إلا هو سبحانه، ولا يسوق الخير إلا هو جل شأنه، فوعى قوله سبحانه: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (17: الأنعام) وأخذ من ثمراتها الطيبة المباركة، زادا طيبا مباركا، فيه الشبع من كل جوع، والرىّ من كلّ ظمأ، والشفاء من كل داء.
فإذا ذكر الإنسان ربّه هذا الذكر الذي يدنيه من ربه، والذي يشهد منه ما يشهد من جلال الله، وعظمته، وقدرته، ارتفع عن هذا العالم الترابىّ، واستصغر كل شىء فيه، فلا يأسى على فائت، ولا يطير فرحا، ولا يأشر بطرا، بما يقع ليديه من حطام هذه الدنيا.. وهذا هو الاطمئنان الذي يسكن به القلب وتقرّ العين.. حيث لا حزن، ولا جزع، ولا خوف!! «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» ..
ذلك أن الداء الذي يغتال أمن الناس، ويقضّ مضاجعهم- هو ما يدخل عليهم من هموم الدنيا، وما يشغلهم من توقعات الأمور فيها.. وإنه لا دواء(7/113)
لهذا الداء إلا باللّجأ إلى الله، والفزع إليه، وذلك بذكره، وتذكّر سلطانه المبسوط على هذا الوجود، وأمره القائم على كل موجود.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .
- وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» . وفى التعبير عن الإيمان بالفعل الماضي «آمنوا» وعن الاطمئنان بفعل المستقبل..
«تطمئن» - فى هذا إشارة إلى أن الإيمان حال لا يتحول عنها المؤمن، وأنه لا بوصف بالإيمان إلا إذا كان مؤمنا.. على خلاف الاطمئنان، فإنه غير ملازم للمؤمن فى كل حال، وإنما يقع الاطمئنان عند ذكّر الله، وكلما ذكر المؤمن ربه، حين تعرض له عوارض الفلق والجزع.
وهنا، نود أن نشير إلى أن ذكر الله الذي يمنح القلب اطمئنانا وأمنا، يحسن أن يكون منظورا فيه إلى صفة من صفات الله، المناسبة لتلك الحال العارضة، التي أزعجت الطمأنينة عن القلب، وأطارت السكينة والأمن من الجوانح..!
فإذا كان الإنسان فى مواجهة مرض، مثلا.. فى نفسه، أو نفس من يحب. ذكر الله الرحمن الرحيم، وذكر قدرته على كشف هذا الضر، ورفع هذا السوء! وإذا كان فى يد سلطان جائر، أو عدوّ متسلط قاهر، ذكر الله القوىّ القاهر، الجبار المنتقم.. فأراه ذلك ضآلة هذا السلطان، وصغر شأن هذا العدو..
وهكذا يذكر للذاكر ربّه، فيرى فى وجهه الكريم، الصفة التي يتجلّى بها عليه، فإذا هى السكن لجوارحه، والدواء لدائه، والطمأنينة لقلبه.. وهذا(7/114)
ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (180: الأعراف) فبالاسم الذي ندعو الله به، يتجلّى به الله- سبحانه- علينا، فنرى فى سنا وجهه الكريم، غيوث رحمته، ومواطر فضله ورضوانه.
ولعله من المناسب أن نذكر هنا قول الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (152: البقرة) : فالله سبحانه وتعالى لا ينسى، حتى يذكر فيذكر..
بل هو جل شأنه يذكرنا دائما، ذكرناه أو لم نذكره.. ولكن المراد بذكره لنا هنا إذا ذكرناه، هو أننا إذا ذكرناه وجدناه سبحانه حاضرا فى قلوبنا وعقولنا.. وأننا إذا لم نذكره، فهو سبحانه حاضر كذلك، ولكن هذا الحضور لا نحسّ به، ولا ننأثر له.
فإذا ذكر المؤمن ربّه، وجد ربه تجاهه.. وكأنه بتفلّته عن ذكر ربه قد بعد عن الله، فإذا ذكر ربّه، وأشرق عليه بنوره السنىّ البهىّ.. وفى الحديث القدسي: «من تقرب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلىّ ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة» ..
فذكر الله، وامتلاء القلب بهذا الذكر، يفيض على الذاكر أنوارا من جلال الله وبهائه، وإذا هو فى حمّى عزيز لا ينال، وفى ضمان وثيق من أن يهون أو يذلّ لغير الله الواحد القهار..
وأسمى الذكر وأكمله، هو ذكر العارفين بالله، معرفة يطلعون منها على ما يملأ قلوبهم جلالا وخشية لله، حيث يشهدون من كمالات الله ما لا يشهده إلا المقربون، الذي رضى الله عنهم ورضوا عنه.. كما يقول سبحانه وتعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» .. فهذا الودّ إنما يناله أولئك الذين يذكرون الله فيذكرهم لله، ويعرفونه فيعرفهم.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(7/115)
رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا»
.. فهذا الذكر المستبصر، هو الذي يضىء الطريق الذي يسلكه الذاكر إلى ربه، فيرى على ضوء هذا النور، قدرة الخالق وجلاله، وعظمته، فيخشع قلبه وتسكن وساوسه.
فالذكر- كما قلنا- ليس مجرد كلمات يرددها اللسان، وإنما هو نبضات قلب معمور بالإيمان بالله، وخفقات وجدان ريّان بالرجاء فى الله، والطمع فى فضله وإحسانه، وذلك بعد أن يعرف المرء ربّه، ويعرف ما ينبغى له سبحانه من كمالات..
والرجاء الذي يقوم على غير إيمان، ويستند إلى غير طاعة، هو مكر بالله، وخداع للنفس، وعدوان على سنن الحياة التي أقام الله عباده عليها، فجعل لكل عامل عمله، ولكل غارس ثمرة ما غرس!.
وحسن أن يحسن العبد ظنه بربه، بل وأن يبالغ ما شاء فى هذا الظن، ولكن شريطة أن يكون ذلك الظن نابعا من الإيمان بالله، ومستندا على ما يجد العبد من شواهد القرب من ربه.. فهنا يحق له أن يتمنى على ربه، وأن يدلّ دلال المحبوب مع محبوبه.. وفى الحديث الشريف: «ربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه» .. وفى الخبر الثابت أن البراء بن مالك (وهو أخو أنس بن مالك) كان ممن يقسم على الله فيبرّ الله قسمه، وكان المسلمون إذا اشتدت عليهم الحرب فى قتال المشركين، يقولون: يا براء.. أقسم على ربك فيقسم على ربه فينتصرون!.
والدعاء، هو من ذكر الله.. حيث يوجّه الداعي وجهه إلى الله، طالبا اللجأ إليه، والمدد من إحسانه وفضله.. يقول ابن قيم الجوزية فى تفسيره المسمى:
«التفسير القيم» : إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه، والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو- أي الدعاء- ذكر وزيادة كما أن الذكر سمىّ دعاء(7/116)
لتضمنه الطلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدعاء: الحمد لله» فسمّى الحمد دعاء، وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب!.
ثم يقول ابن القيم:
«وتأمل كيف قال «تعالى» فى آية الذكر: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً» وفى آية الدعاء: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» فذكر التضرع فيهما معا، وهو التذلل والتمسكن، والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء..
وخص الذكر بالخفية لحاجة الذكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بدّ، فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها، بل تضره، لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله ومحبته له، وتأليهه له.. فإذا حصل المقصود، فالاشتغال بالوسيلة باطل! «فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحبة عن قشرها..
«وسبب هذا، عدم اقتران الخوف من الله، بحبه وإرادته (أي كونه مريدا له) .
ولهذا قال بعض السلف: «من عبد الله بالحب وحده، فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده، فهو حرورى «1» ومن عبده بالرجاء وحده، فهو مرجىء «2» ،
__________
(1) الحروري: نسبة إلى فرقة من فرق الخوارج، تعرف بالحرورية، الذين يقولون بالقدرة المطلقة للعبد.
(2) المرجئة: من الفرق الخارجة على الملة الإسلامية، وهى التي تتعلق بالرجاء من غير عمل.(7/117)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء، فهو مؤمن» .. وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة فى قوله سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ» فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه.. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف! ..
وبعد فإن ذكر الله بالقلب واللسان، هو خير زاد يتزود به الإنسان فى رحلة الحياة، وخير رفيق يؤنسه فى طريقه الموحش، حيث يجد فى جوار الله الأنس، حين يستوحش الناس، ويجد الشبع والرىّ إذا أجدب الناس، وكلب الزمان.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» .
الآيات: (30- 34) [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)(7/118)
التفسير:
قوله تعالى: «كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ..» .
خلت: أي مضت، وتركت ما كانت تشغله خاليا منها..
وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ» - تنويه بقدر النبىّ، وبشأن رسالته التي أرسل بها.. وأنها وإن تكن مسبوقة برسالات النبيين من قبله- فإنها ذات صفة خاصة، وشأن فريد، اختصت به، حتى لقد أصبحت بهذه الخصوصية، بحيث لا تشبه بالرسالات التي سبقتها، وأنه إذا أريد تشبيهها فلا مشبه لها إلا ما كان مثلها.. وإذا لم يكن هناك ما هو مثلها، شبهت بنفسها هى، «كذلك أرسلناك» أي مثل إرسالك هذا الذي لا شبيه له، أرسلناك.. «فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ» أي أرسلناك فى أمة قد مضت من قبلها أمم، وقد جرت على هذه الأمم سنة الله فى خلقه، فكان فى الماضي منها عبرة وعظة لمن يخلقها ويجىء بعدها..
وفى تعدية الفعل «أرسلناك» بحرف الجر «فى» بدل الحرف «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل دائما- إشارة إلى أن النبىّ هو من صميم هذه الأمة حتى لكأنها أشبه بالظرف الذي يحتويه زمانا، ومكانا، ومجتمعا..
فهو ليس طارئا على هذه الأمة، مستدعى إليها من خارج ذاتها.. وإنما هو فى الصميم منها..(7/119)
- وفى قوله تعالى: «لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» إشارة إلى مهمة الرسول، وأنها مهمة تبليغية، يتلو على هذه الأمة ما أوحى إليه من كتاب ربّه.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) .
- وفى قوله تعالى: «وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» تشنيع على المشركين، وتهديد لهم، وتسفيه لجهلهم العنيد.. إذ كانوا كلما تلا النبىّ كلمات ربّه ازدادوا كفرا.. هكذا حالا بعد حال..
فجملة «وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» جملة حالية، وصاحب الحال هو الضمير فى «عليهم» أي أنت تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن.. هذا شأنك، وذلك شأنهم.! فما أبعد الفرق بينك وبينهم.. أنت تسمعهم كلمات الله، وهم يسمعونك السّفه والضلال.. وأنت تمدّ لهم يدك بالبرّ والإحسان، وهم يرجمونك بالأحجار والحصى! وفى ذكر الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم «الرحمن» دون أسمائه الكريمة الأخرى، ما يشير إلى شناعة جرم هؤلاء المشركين، الذين كلما تليت عليهم آيات الله زادتهم كفرا، وضلالا، وأنهم إنما يكفرون «بالرحمن» الذي بعث فيهم رسولا منهم، يحمل بين يديه الدواء الذي يكشف عن قلوبهم ماران عليها من ضلال، ويرفع عن أبصارهم ما غشيها من ظلام..
أفذلك هو ما تستقبل به رحمة الرحمن؟ وأ هذا ما يجزى به المنعم على ما أنعم به من رحمة وهدى؟ ذلك جحود لئيم، وكفران سفيه..!
ومع هذا، فإن الرحمن الرحيم لم يعجّل لهم العذاب، ولم يقبض يده الرحيمة عنهم، بل لقد أمهلهم، ويده الكريمة بالرحمة مبسوطة لهم، ورسوله الكريم قائم فيهم، يتلو عليهم آيات ربّه، ويفتح لهم منها أبوابا واسعة من رحمة الله..(7/120)
فإن هم أبوا أن يدخلوا فى دين الله، حتى يموتوا على الكفر، فذلك من شؤمهم، ونكد حظهم.
قوله تعالى: «قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ» .
.. هذا هو موقف النبىّ، بعد أن يبلّغ رسالة ربّه.. فليكفر من يكفر.. أما هو فمؤمن بربّه، الذي لا إله إلا هو، وهو متوكل عليه، لا يلتفت إلى غيره، ولا يطمع فى ثواب إلا منه.
قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..»
هو توكيد لهذا الكفر الذي انطبع فى قلوب أولئك الكافرين، الذين كلما تليت عليهم آيات «الرحمن» لجّ بهم العناد، والضلال.. فلم يزدادوا إلا كفرا على كفر، وضلالا إلى ضلال..
فلو نزل عليهم قرآن، تخرج منه آيات مادية محسوسة، من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبىّ، فتسيّر بهذا القرآن الجبال، أو تقطع به الأرض، أو تتفجر به العيون، أو يبعث به الموتى من القبور، وينادون فيجيبون- لو نزل عليهم قرآن يرون منه رأى العين هذه الآيات، لما آمنوا، ولما أخذوا موقفا غير هذا الموقف المنحرف الضلال الذي هم فيه..
والسؤال هنا: لماذا حذف جواب «لو» فى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ... » ؟
والجواب- والله أعلم- هو أنه لما كان ضلال هؤلاء المشركين وعنادهم قد بلغ الغاية فى هذا الباب، بحيث تنطق شواهده، وتشهد وقائعه، بأن القوم ليسوا طلّاب حقيقة، وإنما هم أصحاب مماحكات وجدل- لمّا كان هذا هو شأن القوم(7/121)
وتلك هى حالهم، فقد ترك جواب «لو» الشرطية لدلالة الحال عليه، وللإشارة إلى أن الجواب محمول مع الشرط، وأنه جواب واحد لا سبيل إلى غيره، وهو أن هؤلاء المشركين بالذات، لن يؤمنوا أبدا، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» (146: الأعراف) وكما يقول سبحانه فيهم أيضا «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» . (96- 97: يونس) والتعبير بصيغة الماضي عن هذا القرآن الذي تسير به الجبال، أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، وهذا ما يشير بأن هذه الآيات لو وقعت فعلا أمامهم لم يؤمنوا بها..
ومما يشهد لهذا الرأى الذي ذهبنا إليه فى تأويل هذه الآية هو الأخبار وقد تأول المفسرون لهذه الآية كثيرا من وجوه التأويل، لم نجد فيها ما نطمئن إليه.
قوله تعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» - هو إجابة عن سؤال يرد على الخاطر بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى» وما يفهم من هذا، من أن هؤلاء المشركين لن يؤمنوا بالله أبدا.. والسؤال هو: لماذا لا يؤمن هؤلاء المشركون، بهذه الآيات التي يؤمن بها الناس؟ وماذا يحجزهم عن الإيمان، ويقيمهم على الشرك والضلال؟
وكان الجواب هو قوله تعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» أي أن الأمر كلّه لله، لا يسأل عما يفعل، وهو- سبحانه- إذ حجز هؤلاء المشركين عن الهدى، وختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلم يروا آيات الله الكونية، ولم يسمعوا آيات الله المنزلة على نبيّه، ولم يتحوّلوا عن طريق الشرك(7/122)
والكفر- فذلك مشيئته فيهم.. «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» وليس لمخلوق أن يعترض على ما أراد الخالق به! «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟» .
اليأس: هو القنوط، وفقدان الرجاء.
والاستفهام هنا تقريرى، يراد به أخذ اعتراف المؤمنين باليأس من إيمان هؤلاء المشركين، وقطع الرجاء فى أن يكونوا يوما من المؤمنين.. وأنه إذا كان عند المؤمنين بقيّة من أمل فى إيمان هؤلاء الذين اتخذوا آيات الله هزوا وسخرية، والذين كلما تليت عليهم آيات الله زادتهم كفرا على كفر، ورجسا على رجس- إذا كان عند المؤمنين بقية من أمل فى إيمان مثل هؤلاء، فليقطعوا حبل الرّجاء، وليكونوا على يأس من أن يؤمنوا.. وأنّه إذا سأل سائل منهم: لماذا لا يرجى من هؤلاء المشركين إيمان، ورسول الله فيهم، وآيات الله تتلى عليهم؟
فهذا جواب ما سألوا عنه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» وهؤلاء المشركون لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من الشرك! فإذا بقي بعد هذا من يسأل: «ولماذا لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم هم بالذات.. وقد طهّر قلوب كثير من إخوانهم الذين كانوا مشركين مثلهم فآمنوا واهتدوا؟» كان فى قوله تعالى: «أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» ، الجواب الذي لا تعقيب عليه.. فتلك هى مشيئة الله فى عباده..
«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) .. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. وهؤلاء المشركون هم ممن حقت عليهم كلمة الله.. «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟» (19: الزمر) .
ونقرأ الآية الكريمة بعد هذا.
«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..(7/123)
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً.. أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً»
..
وننظر فيها على هذا الفهم الذي فهمناها عليه، فنجد بيانا معجزا، ونظما متفردا بالجلال والروعة، والإعجاز، وإن بدأ فى النظرة الأولى أنه غير جار على مألوف النظم، الذي تتشابك أطرافه، وتتماسك مقاطعه.. حتى لقد ذهب المفسّرون فى هذا مذاهب كثيرة، كلها ليس فيها ما تقع صدى أو يشفى غليلا.. وكان أهداهم سبيلا من تأول قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ» بمعنى أفلم يعلم، وجاء بشاهد من الشعر يشهد لهذا المعنى.. وهو تأويل فاسد متهافت.. وقد استعمل القرآن فعل اليأس هذا فى مواضع كثيرة من القرآن، فلم يكن فى موضع منها ما يشهد لهذا المعنى! وكان من أشنع المقولات التي قيلت هنا، هى قول من قال: إن ييئس بمعنى يتبيّن، وأن كاتب المصحف قد خلط فسوّى رءوس السّينات فى «يتبيّن» فقرئت «ييئس» !! وهذا قول ساقط، لا يستحق أن نلتفت إليه، أو نلقى إليه بالا.. فإن القرآن الكريم لم يودع فى المصاحف إلا بعد أن أودع فى صدور الكرام الحافظين من الصحابة والتابعين.. فكان المحفوظ فى الصدور مهيمنا على ما كتب الكاتبون من كلام الله! والعجب أن يقال مثل هذا القول الشنيع فى تفسير من التفاسير المعتمدة، ولو على سبيل النقل والحكاية.. فإن فى ذلك طعنا فى صحة القرآن الكريم، ومدخلا للشك فى حفظه من التحريف.. الأمر الذي لا يطلب أعداء هذا الذين سلاحا أمضى من هذا السلاح، لطعنه طعنة فى الصميم..!!(7/124)
إن مثل هذا القول هراء، لا يصح أن يقف أحد عنده، أو ينظر إليه مجرد نظر عابر.
وتسأل: ماذا حمل المفسرين على هذا؟ ولا جواب، إلا النية الحسنة!! فهؤلاء المفسرون هم أحرص الناس على كتاب الله، وعلى توقيره، والذود عنه، وكشف مواقع الخير والهدى للناس منه..
ولكن عن نية حسنة أرادوا الدفاع عن النظم القرآنى، وإقامته على قواعد النحو التي استخلصوها من أساليب اللغة.. فكان منهم مثل هذه الزلات.. وفاتهم أن القرآن الكريم، وإن جرى على مألوف العرب فى شعرهم ونثرهم، هو- قبل هذا- أسلوب فريد، تفرد بالكمال كله، واحتوى الحسن جميعه، وإلا لما أعجز العرب، وأفحمهم، وقطع نوازع الرغبة عندهم، فى أن يعارضوه، ولو بسورة من مثله! ولا ندع الآية الكريمة، دون أن نعيد النظر إليها مرة أخرى، لنبحث عن السر فى هذا النظم الفريد الذي جاءت عليه، حتى أنه لم يكن بين مقاطعها ترابط بحرف من حروف العطف! فما سرّ هذا؟
ونقول- والله أعلم-: إن الآية الكريمة فى هذه المقاطع القليلة، قد عرضت أكثر من موقف، ولأكثر من جماعة..
فأولا: المشركون، وعنادهم، وضلالهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كل آية كانوا يقترحونها على النبي.
«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..»
فهذه جبهة المشركين.. وتلك حالهم، وهذا حكم الله فيهم.. لن يؤمنوا أبدا،(7/125)
ولو جاءهم قرآن يتلى عليهم، فتطل منه هذه الآيات الكونية المجسمة، يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» . (7: الأنعام) وثانيا: الذين يعجبون لهذا الحكم الذي حكم به على المشركين.. سواء أكانوا من المؤمنين أو من المشركين.. وهؤلاء وأولئك جميعا، يلقاهم قول الحق سبحانه وتعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» .. فلتخرس الألسنة، ولتخضع الرقاب! وثالثا: المؤمنون الذين كانوا لا يزالون على طمع فى أن يلحق بهم آباؤهم أو أبناؤهم، أو أزواجهم، أو إخوانهم، من هؤلاء المشركين- هؤلاء المؤمنون مطلوب منهم أن يريحوا أنفسهم باليأس من إيمان هؤلاء الذين يطمعون فى إيمانهم، وأن يستمعوا لقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟» ..
ورابعا: هذا اليأس الذي وقع فى نفوس كثير من المؤمنين الذين كانوا يطمعون فى أن يلحق بهم أهلوهم وإخوانهم، وأن يخرجوا من ظلام الكفر إلى الهدى والإيمان- هذا اليأس قد ترك مرارة وأسى فى نفوس المؤمنين، فكان قوله تعالى:
«أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» - كان ذلك عزاء لهم، إذ كانت تلك إرادة الله فيهم.. كما يقول سبحانه للنبى الكريم: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) وكما يقول له سبحانه:
«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وكما يقول له سبحانه أيضا: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (37: النحل) .(7/126)
وهكذا أشرفت كلمات الله من عل على الناس جميعا.. مؤمنين، ومشركين، وخاطبت كل فريق منهم الخطاب الملائم له.. وكان من مقتضى الحكمة ألا تجمع بينهما فى هذا الموقف جامعة، الأمر الذي أوجب عزل مقاطع الآية بعضها عن بعض، فلم يقم بينهما حرف عطف، إذ كان داعية الحال تقضى بأن ينزع المؤمنون من قلوبهم كل عاطفة تعطفهم على المشركين من أهليهم وذوى قرابتهم، وأن يستريحوا إلى اليأس من إيمانهم، غير آسفين على هذا المصير الذي هم صائرون إليه.. إذا أن الأمر كله لله.. وأن لو شاء الله لهدى الناس جميعا.!
أفرأيت إذن كيف كان هذا الإعجاز فى النظم؟ وكيف جاءت مقاطع الآية على هذا الوجه الذي جعل كل مقطع منها يكاد يعطى ظهره لصاحبه؟ وهل فى غير كلام الله- سبحانه وتعالى- يجىء مثل هذا النظم الذي يجعل من الكلمات شخوصا ماثلة، مائجة بالعواطف الجياشة، الملتحمة فى هذا الصراع..
من داخل ذاتها، ومن خارجها على السواء؟
فسبحان من هذا كلامه.. «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ..!
قوله تعالى: «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» - هو إرهاص بما سيلقى هؤلاء المشركون والكافرون، من بلاء فى هذه الدنيا على يد المؤمنين.
وإنه كما يئس المؤمنون من إيمان أهليهم وإخوانهم، وصبروا على تلك المصيبة فيهم، كذلك ينبغى عليهم أن يوطنوا أنفسهم على ألا يحزنوا، ولا يأسوا على ما سيحل بهؤلاء المشركين من بلاء، وما يصيبهم من قوارع، أي كوارث ونوازل، ذلك أنهم قد استوجبوا بكفرهم، هذا الخزي والبلاء فى الدنيا،(7/127)
على يد المؤمنين، الذين سينصرهم الله عليهم، ويمكّن لهم من ديارهم وأموالهم..
- وفى قوله تعالى: «تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ» إشارة إلى أن ما سيحل بالكافرين من خزى فى هذه الدنيا، هو مما كسبته أيديهم، ومما جرّه عليهم كفرهم وضلالهم..
والقوارع التي أصابت هؤلاء الكافرين كثيرة.. منها ما أصابهم به المسلمون فى غزوة بدر، وما رماهم الله سبحانه وتعالى به من خزى فى غزوة الأحزاب، حيث يقول سبحانه: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» (25: الأحزاب) ..
ثم ما كان فى فتح مكة، حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرفا على عتاة قريش وجبابرتها، وقد خشعوا بين يديه، وضرعوا له فى ذلة واستكانة، فقال:
«ما تظنون أنّى فاعل بكم» ؟ فقالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم!» فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!!» .
- وقوله تعالى: «حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» ..
إشارة إلى أن هذه القوارع التي تحل بالكافرين لا ترتفع عنهم أبدا، ما داموا فى هذه الحياة الدنيا، وما داموا فى لباس الكفر، وذلك إلى أن يأتى وعد لله وهو فتح مكة الذي وعد الله سبحانه وتعالى، النبىّ والمؤمنين به فى قوله تعالى:
«لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ» (27: الفتح) .. «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. فقد صدق الله وعده ونصر عبده.
وفتح له البلد الحرام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا..(7/128)
قوله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» - هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة كريمة له.
لما كان يصيبه من أذى، يلقى به إليه قومه، بلا مبالاة وبغير حساب.. فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ليس أول من دعا إلى الخير فلقى الأذى، ومدّ يده بالهدى، فردّ السفهاء يده.. فلقد سبقه إلى ذلك كثيرون من رسل الله، مستهم من أقوامهم البأساء والضرّاء.. ولكن الله سبحانه أملى لهؤلاء السفهاء، أي أمهلهم، وأفسح لهم فى الحياة وزينتها، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.. كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) .
- وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» .. وعيد لهؤلاء المشركين من قريش، وإلفات لهم إلى ما أخذ الله به الظالمين قبلهم: وإنه لعقاب أليم..
وبلاء محيط، يهلك الحرث والنسل..
قوله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ..» الاستفهام هنا إنكارى.. والهمزة بمعنى أىّ.. والتقدير: أىّ أحق بالعبادة، من هو قائم على كل نفس بما كسبت، فيعلم سرها وجهرها، ويجزيها على ما تعمل من خير أو شر، أم تلك الآلهة التي ولدتها الأوهام والضلالات؟.
وقد حذف المعادل لهمزة التسوية استخفافا به، وهوانا له، وتنزيها لله سبحانه أن يقارن به شىء من خلقه، أو من ضلالات خلقه. ولهذا جاء النظم القرآنى عارضا قدرة الله، وأنه القاهر فوق عباده، القائم على كل نفس بما كسبت.. ضاربا عن ذكر الآلهة التي افتراها المفترون، وعبدها المشركون الضالون..(7/129)
وقوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» هو البديل من المقابل لقوله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» فبدلا من أن يجىء النظم القرآنى هكذا: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أم تلك الأصنام الصماء الخرساء التي تعبدونها؟ - جاء قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» بدلا من هذا المقابل، الذي يعرض تلك الآلهة فى ميزان واحد مع الله سبحانه وتعالى.. وكان قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» مشيرا إلى هذا المقابل من طرف خفى، وعارضا له فى معرض الزراية والاستخفاف، كاشفا عن وجه هذه المعبودات التي يعبدونها، وأنها من صنع أيديهم، أو من مواليد أوهامهم وضلالات عقولهم..
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ!!» فهى مجهولة، أي مصنوعة، أو مختلقة.. «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» (23: النجم) .
وقوله تعالى:
«قُلْ سَمُّوهُمْ» هو تحد لهؤلاء المشركين أن يكشفوا عن وجه هذا الخزي الذي فى أيديهم، وأن يضعوا لهذه المواليد أسماء تعرف بها! فكما استولدوا هذه الآلهة من ضلالاتهم، كان عليهم أن يضعوا لكل مولود اسما!! ..
وفى مطالبتهم بتسمية آلهتهم تلك، إشارة إلى أنها أشياء غير معقولة، وغير متصوّرة، وأنها لا يمكن أن تكون لها أسماء دالة عليها.. إنها أوهام وخرافات وضلالات، فإذا أطلقت عليها أسماء، فهى إشارات عمياء، ليس بينها وبين مسمياتها صلة، من قريب أو من بعيد..
فالاسم عادة صفة من صفات المسمى، ودلالة من دلالاته.. فمن أسماء(7/130)
الله سبحانه وتعالى.. الرحمن.. الرحيم.. الخالق.. البارئ.. المصور..
السميع.. البصير.. الرازق.. القوى. العزيز.. إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى..
ومن أسماء تلك الآلهة: هبل، وودّ، وسواع، ويغوث، ونسر.. وهى جميعها لا يراد منها إلا التفرقة بين هذه الدّمى المنصوبة، ليعرف بعضها من بعض كما كانوا يفعلون ذلك فى تسمية بعض حيواناتهم، وأدواتهم..
فمطالبتهم بذكر أسماء آلهتهم تلك، هو اختبار عملىّ لهم، يضع بين أيديهم ما تكشف عنه هذه الأسماء من مسميات، هزبلة تافهة، لا يرجى منها خير، ولا يحشى منها ضر.
قوله تعالى: «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ.. أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ؟» .
هو إشارة إلى أن هذه الأسماء التي أطلقوها على آلهتهم، والتي وجدوا فى أنفسهم الجرأة على النطق بها، وهى مما لا وجود لمسمياتها- إذ أن تلك الأسماء التي أطلقوها عليها، لا صلة بينها وبين تلك المسميات، وإنما هى- كما قلنا- إشارات عمياء، أرادوا بها أن تكون مجرد رمز، أو إشارة، يميزون بها بعضها من بعض، كالأطواق والقلائد التي كانوا يميزون بها أغنامهم وكلابهم! ونفى علم الله عن هذه المعبودات، هو نفى لعلمه بها على تلك الصفة التي جعلوها لها.. وإنما يعلمها الله سبحانه وتعالى على حقيقتها التي هى لها..
- وفى قوله تعالى: «فِي الْأَرْضِ» - إشارة إلى أن هذه الآلهة التي أطلقوا عليها تلك الأسماء، هى من العالم الأرضى.. من أحجاره، أو حيواناته.
- وفى قوله تعالى: «أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ» إشارة أخرى إلى أن هذه الأسماء(7/131)
التي أطلقوها على آلهتهم، هى كلمات، لا معنى لها.. وإنما هى أصوات، تبدو فى ظاهرها كأنها كلام، أما باطنها فأجوف لا شىء فيه! قوله تعالى: «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ.. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» ..
هو الحكم المناسب لما كشف عنه الحال من هؤلاء المشركين، وما اتخذوا من دون الله من آلهة، وما جعلوا لتلك الآلهة من أسماء.. «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ» .. أي حلا فى أعينهم هذا المكر، وحسن فى عقولهم هذا الضلال، الذي صنعوه بأيديهم، وغذّوه بأوهامهم وخيالاتهم، فكان مكرا سيئا.. «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فأضلّهم الله «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» يهديه، ويرفع عن عينيه غشاوة الضلال..
- وفى قوله تعالى: «وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ» إشارة إلى أن قوة خارجة عنهم هى التي صدّتهم عن سبيل الله، وحالت بينهم وبين الهدى. وتلك القوة وإن كانت خارجة عنهم إلّا أنهم قد استدعوها بضلالهم وعنادهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (5: الصف) .
- وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أخلى بينهم وبين أهوائهم، ليضلّوا، فضلّوا..
قوله تعالى: «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» .
هذا هو جزاء المكذبين الضالّين، الذين حادّوا الله ورسوله.. «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
بما ينالهم على يد المؤمنين من هزيمة، وبما تغلى به قلوبهم أبدا من حسرة وكمد.. فالكافر همّه كله فى هذه الدنيا، وحياته كلّه محصورة فى الأيام المعدودة التي يعيشها فيها.. فهو من أجل هذا، حريص أشد الحرص(7/132)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
على كل ما فى دنياه هذه، فإذا فاته شىء منها- وما أكثر ما يفوته- استبدّ به الجزع، واستولى عليه اليأس، وملكه الحزن.. وإن أصيب بموت قريب أو حبيب- وما أكثر ما يصاب- لم يجد شيئا من ذلك العزاء، الذي يجده المؤمنون الذين يفوضون أمرهم لله، ويسلمون مصيرهم إليه، ويرجون العاقبة عنده، ويحتسبون الصبر لديه..! وهكذا الكافر فى قلق دائم، وجزع متصل، إذ لا حياة له وراء هذه الحياة، حسب تقديره وتفكيره.. فحيثما التفت، وجد العدم باسطا يديه لاحتوائه، والفناء فاغرا فاه لابتلاعه..!
- «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ»
.. وهذا عذاب لا يتوقعه الكافر، ولا يعمل حسابا له، وإنما هو عذاب يجيئه على غير انتظار، ويطلع عليه من حيث لا يحتسب..
- «وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ»
أي ليس هناك من يدفع عنهم هذا العذاب، أو يخفف عنهم من شدته وهوله..
الآيات: (35- 43) [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 43]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)(7/133)
التفسير:
قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..»
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّه وقد ذكر مصير المشركين فى الآية السابقة عليها، فى قوله تعالى: «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ»
- كان من المناسب أن يذكر فى مقابل هذا المصير المشئوم، المصير الحسن الطيّب، الذي أعدّه الله للمؤمنين المتقين من عباده، ليكون فى ذلك إثارة لأشواق المؤمنين، وتعجيل بتلك البشريات المسعدة لهم، فى حين أنه يملأ قلوب المشركين حسرة وألما، ويقطع أكبادهم كمدا وحسدا..
ومثل الشيء ما يماثله، ويشبهه، فى بعض الوجوه، لا فى كل وجه.. كما نقول مثلا: القط مثل النمر.. وهذه الفتاة مثل القمر، وهذا الطفل مثل الزهرة..
فهناك وجه شبه يجمع بين المشبّه والمشبّه به، وصفة مشتركة بينهما يلتقيان عندها.. والمثل يجمع أكثر من صورة من صور التشبيه، فهو تشبيه مركّب.(7/134)
- وفى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. إشارة إلى أن هذا العرض ليس للجنة، فى ذاتها، وإنّما هو عرض لجنّة تشبهها.. إذ أن الجنّة التي أعدها الله للمؤمنين المتقين من عباده، لا يمكن وصفها لنا، إذ لا شىء مما فى دنيانا هذه، يشبه أشياءها.. كما ورد فى الأثر: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .. فاشباه الجنة غير واقعة فى فهمنا أو تصورنا، ومن ثمّ لم يكن للكلمات التي نتعامل بها مجال، لتصوير ما لا نفهمه ولا نتصوره..
فكان الحديث عنها بعرض صورة تشبهها، هو أقرب شىء ممكن أن نتمثل فيه صورة لها..
- وقوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. مبتدأ، وخبره محذوف، موصوف، بقوله تعالى: «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .. أي هى جنة تجرى من تحتها الأنهار.. والتقدير على هذا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» مثل جنّد «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» .. فهذه الجنة التي تشبه جنة الآخرة موصوفة بصفتين.. تجرى من تحتها الأنهار.. وأكلها دائم وظلّها.. أي ثمارها دائمة لا تنقطع أبدا، كما تنقطع ثمار الدنيا، وظلّها دائم، أي مورقة مخضرة دائما، لا تتغيّر كما تتغير أشجار الدنيا على مدار الفصول..
وقوله تعالى: «تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» تأكيد للوعد لذى وعده الله المتقين بهذه الجنة فى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» فهى لهم وحدهم، على حين أن للكافرين النار.. فكل ينزل الدار التي هو أهل لها..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» .(7/135)
الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى..
والسؤال هنا: كيف كان يفرح أهل الكتاب بما أنزل على النبي؟
وإذا كانوا على تلك الصفة فلماذا لا يؤمنون به، ولا يستجيبون له؟ بل لماذا كانوا حربا عليه، وحزبا مع المشركين على الكيد له؟
والجواب على هذا من وجوه:
أولا: أن هذا كان فى أول الدعوة الإسلامية، وكان أهل الكتاب يرصدون مطلع النبىّ، وينتظرون ظهوره.. فلما ظهر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- توقعوا أن يكون مبعوثا إليهم، وإن كان من العرب، وانتظروا فى تلهف ما ينزل عليه من آيات.. وإذ كان ينزل على النبىّ من آيات الله- فى أول الدعوة- هو دعوة إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة الأصنام- فإن أهل الكتاب، لم يروا فى هذا ما يضيرهم، أو يعارض الدين الذي هم عليه.. فكانوا لذلك يستبشرون بما ينزل على النبىّ فى تلك المرحلة من الدعوة، فلما أن دكّ الإسلام حصون الشرك، وهدم معاقله، والتفت إلى أهل الكتاب، وخاصة اليهود، كان منهم هذا الموقف اللئيم المخادع الذي وقفوه من النبىّ الكريم، ورسالته..
وثانيا: أن فى القرآن الكريم ذكرا لليهود والنصارى.. وهذا الذكر منه ما هو فى مقام المدح لهم، ومنه ما هو فى مقام الذمّ لمخازيهم، والفضح لنفاقهم..
فاليهود مثلا، كانوا يسمعون ما نزل على النبىّ مثل قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» (94: يونس) وقوله تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ(7/136)
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»
(47: البقرة) كما كانوا يسمعون ما نزل من القرآن فيما كان بين موسى وفرعون، ونجاتهم على يد موسى، وغرق فرعون وجنوده، وكان هذا مما يسرّهم، وينعش نفوسهم.. فيتلّقون ما نزل من القرآن فى مثل هذا، بالقبول والرضا.. فإذا نزل من القرآن ما يفضح الجوانب الخبيثة فيهم، ويكشف عن وجوه الشر المنطوية عليه صدورهم، مثل قوله تعالى فيهم: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» 13: المائدة) .. وقوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (51- 52: النساء) - إذا سمعوا مثل هذا من كلام الله، ساءهم وأفزعهم، فأنكروه، وأنكروا على الرسول رسالته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» .. فالأحزاب هنا هم جماعات اليهود الذين كانوا حزبا على النبي مع مشركى قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب، فهم لا ينكرون كل ما جاء فى القرآن، وإنما ينكرون منه ما فضح نفاقهم، وكشف تحريفهم لكتاب الله الذي فى أيديهم..
وكذلك كان شأن النصارى.. يفرحون بالآيات التي تحدث عنهم حديثا فيه ذكر طيب لهم، كقوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (82: المائدة) ..
وكقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» (33: آل عمران) ومثل ما قصّ القرآن من سيرة مريم.. فكل هذا مما يرضاه النصارى من القرآن، ويمسكون به منه، أما ما جاء فى القرآن من(7/137)
حديث عن عيسى عليه السلام، وأنه عبد من عباد الله، وليس ابنا لله، ولا إلها مع الله، وأن من يعبده على هذا المفهوم الخاطئ، كان كافرا بالله- ساءهم ذلك وأنكروه..
وثالثا: ليس كل اليهود والنصارى وقف من الرسول الكريم، ومن كتاب الله الذي بين يديه، موقف الكفر به والتكذيب له، بل كثير منهم كان على انتظار لظهور هذا النبىّ، تحقيقا للبشريات التي بشرت بها عنه التوراة والإنجيل.. فلما جاء النبىّ لم ينكروه، بل تهيأت نفوسهم لاستقباله، واختبار ما عنده من كلمات الله.. فكانت كلما نزلت آيات من القرآن الكريم كشفت لهم دلائل جديدة تزيد من إيمانهم بالرسول، ومن تيقّنهم بصدقه..
فيفرحون لذلك ويستبشرون..
- قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» ..
هو ردّ على موقف أهل الكتاب الذين ينكرون بعض ما أنزل على النبي، وإنكار لموقفهم هذا من رسول الله، وكتاب الله..
فماذا ينكر أهل الكتاب من رسول الله ومن الكتاب الذي معه؟
إنه يعبد الله.. إلها واحدا لا شريك له..
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- بهذه الدعوة يدعو عباد الله، إلى الإيمان بالله.. إلها واحدا لا شريك له..
فماذا فى هذا الكتاب الذي بين يدى الرسول، والذي هو دستور دعوته- ماذا فيه مما يخرج عن هذه الدعوة حتى ينكره المنكرون، ويكفر به الكافرون؟
أليس أهل الكتاب مؤمنين بما فى كتبهم؟ أو ليست كتبهم من عند الله(7/138)
إله واحد؟ إن كان ذلك كذلك- فلماذا ينكرون على النبىّ دعوته، وهو إنما يدعو إلى الله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟
«قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (64: آل عمران) .
- وفى قوله تعالى: «إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» أسلوب قصر، يراد به أن الرسول لا يدعو إلا إلى الله وحده، وأنه إذا كان لأهل الكتاب دعوة إلى إله غير الله، فلا شأن له بهم، أمّا هو فإن دعوته إلى إله واحد.. لا شريك له.. وأن مآبه ومرجعه إليه.. فإذا كان فى أهل الكتاب من يرى له مرجعا إلى غير الله، فذلك رأيه، وعليه تبعته.. أما الرسول فإنه لا مرجع له إلا إلى الله..
قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ» ..
أي كهذا الذي أنت عليه أيها النبىّ، وهو التزامك بالعبوديّة لله وحده، ودعوتك الخالصة له، وإيمانك بمرجعك إليه- كهذا الذي أنت عليه جاء الكتاب الذي أنزل عليك.. فالزمه، واستقم عليه، ولا تلتفت إلى ما جاء فى غيره من الكتب السابقة إن لم يكن مطابقا له، فهو الذي أنزله الله عليك حكما عربيا.. أي حاكما بأسلوبه العربي الذي نزل به، على الكتب السماوية السابقة، ومهيمنا عليها..
فالحكم هنا بمعنى: الحاكم المهيمن، ذو السلطان..
وجاء اللفظ القرآنى «الحكم» بمعنى «الحاكم» ولم يجىء بلفظه، للإشارة(7/139)
إلى أن القرآن الكريم هو «حكم» صدر من «حاكم» حكيم، هو الله سبحانه وتعالى..
وفى وصف «الحكم» بأنه عربى، تنويه بشأن الأمة العربية، ورفع لقدرها، ولشرف لغتها التي حملت حكم الله الحكيم العليم على الإنسانية كلها، بلسان العرب، وعلى يد الرسول العربىّ..
- قوله تعالى: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ» ..
هو تعريض بما مع أهل الكتاب من ضلالات وأهواء أدخلوها على ما جاءهم به رسول الله من نور وهدى.. ثم هو من جهة أخرى توكيد لما فى يد النبىّ من حق، وأنه بهذا الحق قد علم بما فى أيدى أهل الكتاب من أهواء ومفتريات، وذلك حين التقى الحق الذي معه بالباطل الذي فى أيديهم..
وتحذير النبي من اتباع أهواء أهل الكتاب، مع العلم الذي علمه من أمرهم- هذا التحذير هو إشارة لما مع أهل الكتاب من باطل، ينبغى على كل عاقل أن يحذره، ويتوقّى الخطر الذي يتهدد من يقترب منه.. حتى النبىّ نفسه، مع ما يملك من قوى الإيمان، ومع ما يحوطه من رعاية ربه، إن اتبع أهواء هؤلاء القوم تعرض لنقمة الله، ولم يكن له من ولىّ يدفع عنه بلاء الله، أو يقيه بأسه إن جاءه!! فكيف بغير النبي من عباد الله؟ إن الخطر شديد، وإن البلاء داهم، وإنه لا عاصم من أمر الله لمن ألقى نفسه فى لجج هذا الطوفان!.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً.. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» .
فى هذه الآية ردّ على المشركين، وتحديد لموقف النبي منهم، بعد أن جاءت(7/140)
الآية السابقة عليها، فاضحة لأهواء أهل الكتاب، محذرة النبي من أن يلتفت إليهم، أو يتعامل معهم بهذه الأهواء التي بين أيديهم..
والمشركون، كانوا ينكرون على النبي أن يكون إنسانا مثلهم، يأكل كما يأكلون، ويعيش كما يعيشون.. كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم:
«وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» ..
(7: الفرقان) ..
فجاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً» ليقرر أن هؤلاء الرسل كانوا بشرا، وكان لهم ما للبشر، من أزواج وذرية.. فلست أنت أيها النبىّ بدعا من الرسل حتى ينكر منك المشركون ما أنكروا! ..
- وفى قوله تعالى: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» هو ردّ على ما كان يقترحه المشركون على النبىّ، كقولهم الذي حكاه القرآن عنهم:
«لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» (7- 8 الفرقان) وقولهم أيضا: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) ..
فالرسول لا يملك من أمر نفسه إلا ما يملك سائر الناس من أمر أنفسهم..
إنهم جميعا فى قبضة الله، وتحت سلطانه.. وليس لرسول أن يأتى بآية إلّا بما يأذن الله له به من آياته. «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» (50: العنكبوت) - وهو(7/141)
سبحانه الذي ينزلها بقدر: «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» .. فكل آية مرهونة بوقتها، شأنها فى هذا شأن المواليد التي تولد، والأحياء التي تموت.. فلا يولد مولود إلا بإذن الله، وفى الوقت الذي قدّره الله له، ولا تموت نفس إلا بإذنه، وفى الوقت الموقوت لموتها..
قوله تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» المراد بالمحو والإثبات هنا، هو ما يقع فى الوجود من آثار قدرة الله، وتصرفاته فى الموجودات، من إحياء وإماتة، ومن بناء وهدم، ومن زيادة ونقص، ونهار وليل، وزرع وحصاد.. إلى غير ذلك مما يجرى عليه نظام الوجود.. فهناك محو وإثبات، وإثبات ومحو.. وكذلك الآيات التي يحملها رسل الله إلى أقوامهم، هى واقعة تحت هذا الحكم، يمحو الله منها ما يشاء، ويبقى منها ما يشاء.. وينسخ دينا، ويقيم دينا، ويمحو شريعة ويثبت شريعة..
وهذا كله ثابت فى علم الله.. فما يقع شىء فى هذا الوجود إلا وهو واقع فى علم الله الأزلىّ.. يظهر فى وقته الموقوت له فى علم الله..
والمراد «بأم الكتاب» هو علم الله، الذي يرجع إليه كل أمر: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) قوله تعالى: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» هو وعيد لهؤلاء المشركين والكافرين جميعا، وأنهم فى معرض النقمة والبلاء، من الله، وسواء أوقع عليهم البلاء وحلّت بهم النقمة والنبىّ حىّ يرى بعض هذا ويشهده، أو يموت قبل أن يرى ما توعدهم الله به، فإن ذلك ليس من همّ النبىّ، ولا مما يشغل نفسه به، وإنما مهمته هى(7/142)
أن يبلغ رسالة ربّه، ويدع حساب المبلّغين لله سبحانه، فهو- جل شأنه- الذي يتولى حسابهم وجزاءهم.
قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» المراد بنقص الأرض، ما يطرأ عليها من تغيير وتبديل، وما يصيب الناس فى أرزاقهم وأعمارهم.. وإذا كان الذي يحدث فى الأرض من نقص يحدث إزاءه ما يقابله من زيادة، إلا أن الأمر الذي أريد الإلفات إليه هنا هو ما يحدث من نقص، فى الأموال، والأنفس، والثمرات، إذ كان ذلك هو الذي يهتمّ له الإنسان أكثر من اهتمامه لجانب الزيادة، وإذ كان المقام هنا مقام تهديد بنقم الله، حيث يرى المشركون والكافرون هذه الغير، وتلك الجوائح التي تقع هنا وهناك فى أطراف الأرض، وأنها ليست بعيدة عنهم، ولا هم بمأمن منها..
- «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ» أي أنه سبحانه إذا أراد أمرا نفذ، دون أن يعترض عليه معترض، أو يفلت منه مطلوب له: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (11: الرعد) - «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» أي أنه سبحانه وتعالى بقدرته ممسك بكل شىء، عالم بكل شىء. لا يشغله شأن عن شأن، ولا حساب أحد عن أحد، فلو أراد سبحانه حساب الناس جميعا فى طرفة عين لكان ذلك كما أراد! قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» - هو تهديد لهؤلاء المشركين والكافرين، الذين تصدّوا للنبىّ، وآذوه، وبهتوه وكذّبوا به.. وكان لهم فى هذا مكرهم وتدبيرهم.. ولكن أين يقع هذا المكر والتدبير من مكر الله(7/143)
وتدبيره؟ إنه قطرة من محيطات، وهباءة من جرم السموات والأرض! - «يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» فيحاسب ويجازى.. لا يفلت مجرم من حسابه وعقابه..
- «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» .. وعند الحساب سيرى الكفار بأعينهم لمن الفوز والظفر، وعلى من الخزي والخذلان؟
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» ..
بهذه الآية الكريمة تختم سورة «الرعد» ، فيلتقى ختامها مع بدئها: «المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. ثم يصافح هذا الختام بدء السورة التي بعدها «إبراهيم» :
«الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» ..
- فقوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» - هو جواب الكافرين على هذا الكتاب الذي جاءهم النبىّ به، والذي هو الحقّ الذي أنزل إليه من ربه..
وقوله تعالى فى أول سورة «إبراهيم» - بعد هذه السورة: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» - هو ردّ على جواب هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولم يأذن الله لهم بالخروج من تلك الظلمات..
- وقوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» إحالة للكافرين على موقف الحساب والمساءلة بين يدى الله، وهو سبحانه حكم عدل بينهم وبين(7/144)
النبيّ، عالم بما كان منه من أمانة فى تبليغ ما أمر بتبليغه من ربه، وما كان منهم من تكذيب وبهت وكفر! - وقوله تعالى: «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» معطوف على فاعل الفعل «كفى» وهو لفظ الجلالة «بالله» والباء حرف جرّ زائد.. أي كفى الله شهيدا بينى وبينكم، وكذلك من عنده علم الكتاب منكم، أي أهل العلم، فإنهم يعلمون أنى مرسل من عند الله! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» (20: الأنعام) وقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» (36: الرعد) وقوله سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» (52: القصص) وقوله جل شأنه: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» (197:
الشعراء) فعلماء بنى إسرائيل يعلمون صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله.
وإن كتمه بعضهم، وآمن به بعضهم.. وهم شهود على الكافرين المكذبين من قومهم.. «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» «وكفى بالله شهيدا»(7/145)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
14- سورة إبراهيم
نزولها: مكية بالإجماع.
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وإحدى وثمانون آية.
عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وأربع وثلاثون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 4) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
التفسير:
قوله تعالى:
«الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» ..(7/146)
الذي نقوله هنا فى «المر» هو ما قلناة من قبل فى «المر» فى سورة الرعد، وفى الحروف المقطعة، التي بدأت بها بعض سور القرآن الكريم.. وهى أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم.. وأن ما جاء فى السورة بعد من آيات الله، هو تأويل هذا المتشابه..
وعلى هذا، يكون: «الر» مبتدأ، وقوله تعالى: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ..»
خبر لهذا المبتدأ..
وقد أشرنا فى آخر سورة «الرعد» إلى أن بدء سورة «إبراهيم» هنا هو ردّ على قول المشركين والكافرين، الذي حكاه القرآن الكريم عنهم، فى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» ..
ففى قوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» - توكيد من الله سبحانه وتعالى لرسالة النبي، وأنه يحمل بين يديه كتابا أنزل إليه من ربّه، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وذلك بإذن ربه الذي يهدى من يشاء، ويضلّ من يشاء..
- وقوله تعالى: «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» بدل من «النور» ..
والتقدير لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، إلى صراط الله العزيز الحميد، ذلك الصراط، الذي هو نور تستضىء به البصائر..
وفى وصف الله سبحانه بهاتين الصفتين الكريمتين: «العزيز الحميد» تهديد للكافرين بعزة الله، وسلطانه الغالب، وتذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم بالإيمان، وأنه المستحق للحمد، والحامد لعباده المؤمنين ما يقدّمون له من طاعات وقربات.(7/147)
- وفى قوله تعالى: «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» - إشارة إلى عموم رسالة النبي الأمّىّ، وشمولها الناس جميعا..
قوله تعالى: «اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ..» - هو من عطف البيان على قوله تعالى: «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. فالعزيز الحميد، هو الله الذي له ما فى السموات وما فى الأرض، أوجدهما بقدرته وملكهما بعزته، واستولى عليهما بسلطانه..
- وفى قوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» تهديد للكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الشديد، الذي ينتظرهم يوم القيامة، من مالك الملك، الذي إليه كل شىء، وبيده كل شىء.
قوله تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» - هو كشف عن صفات أولئك الكافرين، الذين توعدهم الله بالعذاب الشديد، وتلك الصفات التي جرّتهم إلى الكفر، وأقامتهم عليه، وذلك أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأفرغوا لها جهدهم، وأذهبوا فيها طيباتهم، على حين غفلوا عن الآخرة، وزهدوا فيها، ولم يعملوا أي حساب لها.. وهم لهذا يصدّون عن سبيل الله.. يصدّون أنفسهم عن الإيمان، ويصدّون الناس كذلك عن أن يؤمنوا بالله، ويأبون إلا أن يركبوا طرق الضلال، وأن يركبها الناس معهم.
- «أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» لأنهم ضلوا، وأضلّوا، فكانت جنايتهم غليظة، وجرمهم شنيعا.
قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. هو بيان لحكمة الله فى إرسال الرسل، واختيارهم من بين أقوامهم، وذلك ليأنسوا إليهم،(7/148)
ولا يستوحشوا منهم، أو يأنفوا الانقياد لهم، إذا كانوا من قوم غير قومهم، ومن أمة غير أمتهم.
والمراد بلسان قومه، جنسهم، ولغتهم التي يتعاملون بها، إذ كان اللسان هو أداة اللغة وترجمانها.. وإذ كانت اللغة هى التي تكشف عن وجه الإنسان، وعن الأمة التي ينتمى إليها.
- وفى قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» إشارة إلى الحكمة التي من أجلها جاء الرسول إلى كل أمة، منها، وبلسانها، حتى يفهموا عنه ما يقول حين يتحدث إليهم «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ما أمره الله به.. فببيانه ينكشف لهم الطريق إلى الله، وبغير هذا البيان يظل الطريق بينهم وبين الرسول مسدودا..
- وفى قوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إشارة أخرى إلى أن هذا البيان الذي يبيّنه الرسول لقومه، ليس فيه قهر لهم، أو إلجاء واضطرار إلى الإيمان بالله.. ذلك أن الإيمان بالله، هو بيد الله، فمن شاء الله له الإيمان، آمن، ومن لم يشأ له أن يكون فى غير المؤمنين بقي على كفره، ولن ينفعه هذا البيان الذي بيّنه الرسول شيئا.. وذلك هو حكم الله فى عباده، وسنّته فى خلقه.. يبعث رسله فيهم، ويقوم الرسل بتبليغ رسالة الله إليهم، وكشف الطريق إلى الله لهم.. ومطلوب من النّاس أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم إلى دعوة الله، وأن يستجيبوا لها، فمن كانوا ممن أراد الله لهم الهدى والإيمان، اهتدوا وآمنوا، وحسب ذلك لهم من كسبهم، ومن كانوا من أهل الكفر والضلال، جمدوا على كفرهم، وظلّوا على ضلالهم، وحسب ذلك من كسبهم أيضا..
فإذا ذهبت تسأل: ما أثر هذه الرسالات التي يحملها الرسل إلى النّاس،(7/149)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
وما جدواها فيهم، وقد غلبت مشيئة الله، فكان المؤمنون مؤمنين بمشيئة الله، وكان الكافرون كافرين بمشيئته؟
إذا ذهبت تسأل هذا السؤال، جاء الجواب فى قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. العزيز الذي عزّت مشيئته، وغلبت إرادته، والحكيم الذي أقام العباد فيما أراد، ووضعهم حيث شاءت حكمته، وقضت إرادته.
وقد عرضنا مشيئة الله ومشيئة العباد فى مبحث خاص «1» .
الآيات: (5- 8) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
التفسير:
فى الآية (4) من هذه السورة، جاء قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ..
__________
(1) انظر هذا البحث ص 262 من الكتاب الرابع تفسير الجزء الثامن.(7/150)
وفى قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» .. تطبيق لهذا الحكم، الذي قضى به الله سبحانه وتعالى، وهو ألا يرسل رسولا إلا يلسان قومه..
فها هو ذا موسى، عليه السلام، وهو من بنى إسرائيل، يبعثه الله- سبحانه وتعالى- رسولا إلى قومه، ليخلصهم من فرعون.. أولا، ثم يخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى والإيمان.. ثانيا..
وأيام الله التي يذكرهم موسى بها، هى تلك الأيام التي كانت لله سبحانه وتعالى، فيها نعم ظاهرة عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وخلصهم من البلاء الذي يلقونه تحت يد فرعون.. ففى هذه النعم آيات «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» إذ لا يرى فى تلك الآيات، آثار رحمة الله، وعظيم نعمته، إلا من كان قد وطّن نفسه على احتمال الضر، والصبر على المكروه، احتسابا لله، ورجاء فى العافية، واستشوافا للرحمة والإحسان من فضله- فإذا أذن الله بالفرج، وهبّت أرواح الرحمة والعافية، اتجهت القلوب المؤمنة بالله، إلى الله بالحمد والشكر، كما اتجهت إليه من قبل بالدعاء والتضرّع.
وقوله تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» - هو ما امتثل به موسى أمر ربّه، فى قوله تعالى له: «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» - وها هو هذا يذكرهم بأيام الله ونعمه التي أفاضها عليهم فى تلك الأيام.. فيقول لهم: «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» ثم بيّن لهم ما كانوا فيه، وهم تحت يد هذا(7/151)
السلطان الجبار، من بلاء. فقال: «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» أي يسوقونكم كما تساق الأنعام، ولكن لا إلى المرعى الذي تجد عنده شبعها وريّها، بل إلى العذاب، الذي تصلون ناره، وتتقلبون على جمره..
يقال: سامه على كذا، أي حمله عليه، وأورده إياه.. وسام فلانا الأمر:
كلفه إياه ومنه السائمة، وهى الأنعام التي يسوقها الراعي إلى المرعى..
- قوله تعالى: «وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» هو بيان لبعض ما كان يأخذ به فرعون بنى إسرائيل من بلاء.. إذ يذبّح أبناءهم، ويستأصل ذراريهم، ويستحيى نساءهم، أي يبيح حرماتهن، ويعرضهن لما تستحى الحرّة منه.
وقيل: «يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» أي يستبقونهن أحياء، فلا يقتلونهن، كما يقتلون الأبناء.. وبهذا يتضاعف البلاء على الأمهات.. إذ يلدن، ثم يذبح أمام أعينهن ما يلدن.. وفى هذا موت بطيء لهن، وعذاب أليم، تحترق به قلوب الأمهات.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» - وصفا كاشفا لتلك الحال التي أخذ بها فرعون بنى إسرائيل من عذاب ونكال.
قوله تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» .. تأذّن ربكم: أي أذن، وحكم، وقضى..
وما قضى الله به هو أنه- سبحانه- يزيد الشاكرين لنعمه وأفضاله، نعما وأفضالا.. أما من كفر بالله، وبنعمه، فله عذاب شديد، وبلاء عظيم، فى الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً(7/152)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»
- أي إنّ كفر الكافرين لا يضرّ الله شيئا، كما أن إيمان المؤمنين لا ينفعه، فهو الغنى عن خلقه.. إذ كيف يخلقهم، ثم يحتاج إليهم؟
تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غنى عن عباده، ومع غناه، فإنه يتقبل من المؤمنين إيمانهم، ويحمده لهم، ويجزيهم عليه.. فضلا منه وكرما، وتنويها بشأن الطيبات من الأعمال، وتكريما للصالحين من عباده.
الآيات: (9- 17) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)(7/153)
التفسير:
قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟» - يجوز أن يكون من كلام موسى، خطابا لقومه، وتذكيرا لهم بأيام الله، وما يجرى فيها على عباده.. ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، خطابا من الله- سبحانه وتعالى- للمخاطبين من أمة النبي «محمد» صلوات الله وسلامه عليه..
والنبأ: الخبر ذو الشأن، الذي يغطّى ذكره على ما عداه من الأخبار.
وفى هذا الاستفهام: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» - تهديد للمخاطبين، وإنذار لهم بأن يصيروا إلى مثل مصير هؤلاء الأقوام، الذين كذبوا رسلهم، ومكروا بهم، إذا لم يبادر هؤلاء المخاطبون، فيصدقوا برسول الله، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه، مما فيه رشدهم وخيرهم..
وقوله تعالى: «قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» - هو بيان لقوله تعالى: «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. فالذين من قبل هؤلاء المخاطبين، هم قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وأقوام كثيرون جاءوا بعدهم، وجاءهم رسل الله.. فكانوا جميعا على طريق واحد، من العناد والضلال، والتكذيب برسل الله، والكيد لهم.(7/154)
قوله تعالى: «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» - هو بيان لنبأ هؤلاء الأقوام، وعرض لأخبارهم، وكشف لمواقفهم من رسلهم..
ويلاحظ أنهم أدرجوا جميعا فى ثوب واحد، لا فرق بين سابقهم ولاحقهم، حتى لكأنهم جماعة واحدة، التقت برسول واحد.. وذلك لما كان منهم جميعا، من خلاف على رسلهم، وإعنات لهم، ومكر بهم.. وكذلك الرسل، هم أشبه برسول واحد، إذ كانت محامل رسالتهم واحدة، وهى الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستقامة على الهدى..
فالرسل قد جاءوا إلى أقوامهم بالآيات البينات، التي تحدّث عن صدق رسالاتهم، وأنها منزلة من عند الله، وأنهم رسل الله المأمورون بتبليغها إلى من أرسلوا إليهم.
أما المرسل إليهم- على اختلاف أزمانهم وأوطانهم- فإنهم ردّوا أيديهم فى أفواههم، وقالوا: «إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ..»
تلك هى قولة أولئك الأقوام، وذلك هو ردّهم على الدعوة التي دعوا إليها من رسلهم..
- «فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ» وذلك كناية عن أنهم سدّوا على الرسل منافذ القول، فلم يدعوهم يبلغون رسالات ربهم، بل قعدوا لهم بالمرصاد، كلما همّوا بأن ينطقوا بدعوة الحق، تصدّى لهم السفهاء، والحمقى من أقوامهم، يسخرون، ويهزءون، ويلغون ويصخبون، فكأنهم بهذا قد وضعوا أيديهم على أفواه الرسل، وحالوا بينهم وبين أن ينطقوا.(7/155)
ويجوز أن يكون الضمير فى أفواههم عائدا إلى أولئك الأقوام، وأنهم حين دعاهم الرسل إلى الإيمان بالله، وضعوا أيديهم على أفواههم، وردّوا عليهم قائلين: إنا كفرنا بما أرسلتم به.. وذلك إشارة إلى أنهم رفعوا أصواتهم بهذا المنكر الذي استقبلوا به دعوة الرسل، ولم يقولوا ما قالوه فى شىء من الأدب والرفق. فإن وضع اليد على الفم وترديد الصوت من خلالها، من شأنه أن يعطى الصوت قوة ووضوحا.
ويجوز أن يكون ردّ أيديهم إلى أفواههم كناية عن أنهم استقبلوا دعوة الرسل لهم إلى الإيمان بالله، بالصمت المطبق، استخفافا بهم، واستنكافا من الحديث معهم، كما فعل ابن مسعود- شيخ ثقيف وسيدها- حين جاء النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف يدعوهم إلى الله، بعد أن يئس من قومه فى مكة، فقال له ابن مسعود: «والله لا أكلمك أبدا.. لئن كنت رسول الله كما تقول، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت كاذبا على الله، فما أنت أهل لأن أرد عليك..»
وعلى هذا التأويل، يكون قولهم: «إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» هو مما نطق به لسان الحال، وأنبأ عنهم صمتهم، وتجاهلهم لما يدعوهم إليه رسلهم، وعدّهم ذلك لغوا من القول، لا يستمع إليه، ولا يردّ على قائله! - «وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» - أي أنهم إذا حالوا بين الرسل وبين الكلام، تكلموا هم بالباطل من القول، والمنكر من الكلام، وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنّا لفى شك يبعث الريب والاتهام لكم أيها الرسل، فيما تدعوننا إليه.
قوله تعالى: «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» - أي إذا كنتم(7/156)
تشكّون فينا، فهل تشكون فى الله، وفى وجوده، وهو الذي خلق السموات والأرض؟ .. إن الشكّ فينا هو شك فى الله، إذ أن دعوتنا هى دعوة إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته.. وأنه إذا لم يكن لكم فى الآيات التي بين أيدينا ما يدعوكم إلى صدقنا، ففى هذه الآيات الكونية، وفى خلق السموات والأرض ما يدلكم على وجود الخالق، وعلى تفرده بهذا الوجود.. ومن ثمّ فليس من العقل أن تنكروا دعوتنا.. هذا إذا كانت لكم عقول تعقل وتتدبر! - وفى قوله تعالى: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو إغراء لهؤلاء المكذبين بالرسل أن يستجيبوا لله، وأن يقبلوا دعوته التي يحملها إليهم رسله، فإنه- سبحانه- لا يدعوهم إلا إلى خير.. إنه يدعوهم ليغفر لهم من ذنوبهم، وليؤخرهم إلى أجل مسمّى فلا يعجّل لهم العذاب، الذي لا بدّ هو واقع بالمكذبين فى غير مهل، إن هم أصرّوا على ما هم عليه من كفر وضلال، بعد أن جاءهم من الله هذا البلاغ المبين..
- وفى قوله تعالى: «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» إشارة إلى أن هؤلاء المدعوّين، هم كتل متضخمة من الذنوب، وأنهم لن يستجيبوا جميعا لدعوة الرسل، وإنما الذي يستجيب منهم هو بعض قليل، وهم الذين يغفر الله لهم ذنوبهم.. فالذى سيغفر من ذنوب هؤلاء الأقوام، هو بعض من هذه الذنوب.. وعلى هذا، فليبادر كل واحد منهم إلى الإيمان بالله، ليكون فيمن يغفر الله لهم، وألا يكون فى المتخلفين الضالين..
«قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .
هى قولة من فم واحد، تلقّاها القوم خلفا عن سلف: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» - فهذه أول تهمة يتهم بها الرسل من أقوامهم، وإنهم لن يكونوا(7/157)
إلّا بشرا مثلهم كما يقول تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» ! - «تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» - وتلك هى التهمة الثانية، وهى، أن الرسل يريدون أن يخرجوا بالقوم، عما كان عليه آباؤهم من ضلال وكفر.. وتلك هى قاصمة الظهر عندهم.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان قوم صالح: «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟» (62: هود) .. وبقول سبحانه على لسان أصحاب مدين:
«قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» (87: هود) .
- «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .. وبعد هذا الاتهام، يجىء التحدّى، بطلب المهلكات التي أنذروا بها، واستعجال العذاب الّذى حذّروا منه!.
والسلطان المبين. هو الحجة القاطعة، التي تسقط أمامها كل حجة! «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
ولم يكن للرسل أن يقولوا لأقوامهم غير هذا، ولا أبلغ ولا أقطع من هذا..
إنهم بشر.. مثل أقوامهم.. فما الذي فى هذا، مما ينكره المنكرون؟
وإنه الحسد لهؤلاء الرسل- وهم بشر مثلهم- أن يكونوا سفراء بين الله وبين الناس.. ولماذا يختارهم الله دونهم؟ .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان مشركى قريش فى إنكارهم على النبي أن يكون هو المصطفى لرسالة الله إليهم: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟» وقد ردّ الله عليهم بقوله سبحانه: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (31- 32: الزخرف) .(7/158)
- وفى قول الرسل: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ردّ مفحم على هؤلاء الذين ينكرون عليهم أن يكونوا رسلا من عند الله، حسدا لهم، واعتراضا على مواقع رحمة الله، أن تنزل حيث تشاء مشيئته.. فهذه رحمة الله تنزل.
بالنّاس، كما ينزل المطر، فيكون غيثا مدرارا فى موضع، وقطرات قليلة فى موضع آخر.. حسب تقدير الله، وحكمته.
- «وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي إن ما تقترحونه علينا من آيات، هو مما لا يدخل فى مضمون رسالتنا، ولا يخضع لمشيئتنا.. وإنما الآيات عند الله، وما أذن به لنا منها، قد جئناكم به..
- «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» أي إننا وقد بلغناكم ما أمرنا به، سنمضى لشأننا، متوكلين على الله، الذي عليه يتوكل المؤمنون به، ويفوّضون أمورهم إليه.
قوله تعالى: «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
هو تقرير وتوكيد لتلك الحقيقة التي أعلنها الرسل، وهى أنهم قد توكلوا على الله، وأسلموا وجوههم له.. ولم لا يتوكلون عليه وقد اصطفاهم لأكرم رسالة، وجعلهم مصابيح هدى للناس؟ لقد هداهم الله إلى الحق، وأقامهم على صراطه المستقيم.. فكيف لا يسلمون أمرهم إليه، وهو سبحانه الذي أخذ بأيديهم، فأخرجهم من تلك الظلمات المطبقة على أقوامهم؟
- وفى قوله تعالى: «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» هو بعض ما يقدمه الرسل لله، وهو الصبر على الأذى الذي يلقونه فى سبيل تبليغ رسالته..
قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ(7/159)
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» .
وإذا لم يكن فى السفاهة باللسان، والتطاول بالقول، ما يقطع الرسل عن الدعوة التي يدعون بها، فليكن التهديد بالرجم، أو الطرد من الوطن..
ذلك ما قدّره الضالون المعاندون، وهذا ما عملوا له: -- «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا» .. هكذا يقولونها فى غير حياء، حتى لكأن الرسل غرباء عن هذه الأرض، لا حق لهم فيها مثلهم..!
- «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. الملّة، الدين، والعقيدة..
وعودة الرسل إلى ملّة قومهم، إنما هو باعتبارهم خارجين عليها، بالدّين الجديد الذي يدعون إليه.. وهذا غاية فى الضلال والعناد، إذ يجيئهم الرسل بالهدى الذي يحمله الدين الجديد إليهم، فيدعون الرسل إلى أن يعودوا إلى دينهم الفاسد الذين يدينون به.!
- «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» .. وإذا كان لهؤلاء الكافرين أرض، فإن لهؤلاء الرسل ربّا.. وقد أوحى إليهم ربهم، وأخبرهم بأنه سيهلك هؤلاء الظالمين، الذين دفع بهم الظلم إلى أن يخرجوكم من أرضكم..
إنهم هم الذين سيخرجون من هذه الدنيا كلها.. إنهم لمأخوذون بنقمة الله، وإنهم لهالكون..!
- «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» فأنتم أيها الرسل الذين سيرثون هذه الأرض بعد هلاك هؤلاء الظالمين، الذين أرادوا إخراجكم منها..
- «ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» أي إنّ ذلك الجزاء الحسن وهذا النصر العظيم، إنما هو لمن خاف مقام ربّه، وخشى بأسه، فوقّره وعظّمه، واتقى حرماته، وعظم شعائره.. والرسل من هذا فى المقام الأول، ثم من اقتفى أثرهم.(7/160)
قوله تعالى: «وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
استفتحوا: أي طلبوا الفتح والنصر..
ويصحّ أن يعود الضمير على الرسل، أو على أقوامهم المكذّبين بهم..
بمعنى أن الرسل طلبوا من الله أن يحكم بينهم وبين أقوامهم، كما يقول تعالى على لسان شعيب والمؤمنين معه: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» (89: الأعراف) .. أو بمعنى أن الكافرين هم الذين طلبوا أن يأتيهم الرسل بالعذاب الذي توعدوهم به.. كما يقول الله تعالى فى مشركى قريش بعد معركة بدر: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» (19: الأنفال) .
وسواء أكان الاستفتاح من الرسل، أو من أقوامهم المكذبين لهم، فإن العاقبة واحدة، وهى الخيبة والخسران للكافرين المكذبين: «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
قوله تعالى:
«مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» .
أي بعد هذا البلاء الذي ينزل بالجبارين المعاندين المكذبين برسل الله- بعد هذا البلاء الذي ينزل بهم فى الدنيا، سيجيئهم (من ورائه) أي من بعده عذاب جهنّم، حيث يلقون الأهوال ألوانا وأشكالا.. فهناك الصديد الذي يسقاه الجبارون.. مكرهين، يتجرعونه جرعة جرعة، وقطرة قطرة..
- «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» وهو توكيد لشناعة هذا الصديد، وأنه لا يساغ الشارب أبدا، ولا يكون على أية درجة من درجات الإساغة.. وهذا أبلغ من أن يقال: «ولا يسيغه» لأن نفى الإساغة لا يقطع بأن تكون هناك درجة من درجات الإساغة فى هذا الشراب، ولكن نظرا لقلتها، فقد شملها النفي.
أما قوله تعالى: «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» فهو نفى قاطع لأى احتمال من احتمالات(7/161)
الإساغة لهذا الشراب.. وهذا مثل قوله تعالى: «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (78: النساء) .
قوله تعالى:
- «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» .. إشارة إلى أن ما يحيط بهذا الجبار العنيد يومئذ، من بلاء ونكال، هو مما تزهق به الأرواح، وأن كلّ سوط من سياط هذا العذاب الذي ينوشه من كلّ جانب، هو موت زاحف إليه، ولكنه لا يموت، بل يظل هكذا أبدا، يذوق عذاب الموت، وما هو بميت..
«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (56: النساء) وفى إفراد الضمير فى قوله تعالى: «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» بعد قوله:
«وَاسْتَفْتَحُوا» .
- فى هذا إشارة إلى أن العذاب الذي يساق إلى الكافرين، إنما يساق إليهم فردا فردا، حتى لكأن كل ما فى جهنم من بلاء ونكال، هو للفرد الواحد من أهل جهنم: «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» .. فهنا يجد هذا الجبار العنيد نفسه وقد أفرد وحده فى جهنم، يتجرع صديدها، ويحترق بنارها، ويشوى على جمرها، من غير أن يكون معه أحد، يشاركه هذا البلاء، ويقتسم معه هذا العذاب الغليظ.. وهذا ما لا تتحقق صورته لو جاء النظم القرآنى هكذا: «وخاب الجبارون المعاندون، من ورائهم جهنم ويسقون من ماء صديد، يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ومن ورائهم عذاب غليظ» .. فشتان بين نظم ونظم، وبين قول وقول، وتصوير وتصوير!(7/162)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
الآيات: (18- 23) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 23]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)
التفسير:
قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» - هو جواب عن سؤال، يقع فى نفس من يسمع أو يرى ما يحلّ(7/163)
بالكافرين من عذاب الله فى الآخرة.. فيسأل: أليس لهؤلاء الكافرين أعمال طيبة فى دنياهم، تخفف عنهم هذا العذاب، أو تصرفه عنهم؟
والجواب: إن لهم أعمالا تحسب فى الأعمال الصالحة النافعة لو أنهم كانوا مؤمنين.. أما وقد عملوا هذه الأعمال وهم على الكفر بالله، فإن كفرهم يفسد كل صالح لهم، ويخبث كل طيب كان منهم.. ذلك أنهم وقد كفروا بالله لم يكن لهم عمل يتجهون به إلى الله، ويرجون به المثوبة عنده.. فبطل بهذا كل عمل لهم..
- وفى قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» - جمع بين الذين كفروا وأعمالهم، حيث شملهم هذا الوصف: «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» .. فالذين كفروا هم وأعمالهم يوم القيامة لا يلتفت إليهم، إلا كما يلتفت إلى رماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف.. إنهم وأعمالهم ريح خبيثة تهبّ على أهل الموقف محمّلة بهذا الرماد الثائر، الذي تتأذى به العيون، وتزكم الأنوف وتنقبض منه الصدور.. ولو جاء النظم هكذا: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح، فى يوم عاصف- لو جاء هكذا، لذهب هذا المعنى الذي كشف عنه النظم القرآنى، والذي جمع بين الكافرين وأعمالهم كما تجتمع النار ومخلفاتها من رماد!! وفى تشبيه أعمال الذين كفروا بالرّماد، دون التراب مثلا، الذي هو أكثر شىء تحمله الريح- فى هذا التشبيه إشارة إلى أن الأعمال التي يجدها الكافرون بيوم القيامة، هى مخلّفات تلك الأعمال التي كانوا يعدّونها من الأعمال الصالحة..
وأنها وإن كانت صالحة فى ذاتها، إلا أن كفرهم بالله قد أكلها كما تأكل النّار الحطب، ولم يبق منها إلا هذا الرماد، الذي ذهبت به العاصفة كل مذهب..(7/164)
فلم يبق منها حتى مجرد رماد ينتفع به على أي وجه من وجوه النفع، ولكنه صار هباء معلقا فى أذيال الرياح العاصفة! فانظر كيف حمل هذا التشبيه من روعة التصوير، ودقة المطابقة بين المشبّه والمشبّه به، حتى لكأن روحا واحدة تلبس جسدين! وفى قوله تعالى: «لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ» هو من تمام التشبيه، وهو أشبه بوجه الشبه الجامع بين طرفى التشبيه.. فإنه كما لا يقدر أحد على الإمساك بهذا الرماد الذي تحمله الريح، كذلك لا يقدر الكفار على الإمساك بشىء من أعمالهم التي كانت لهم فى دنياهم.
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» - يمكن أن تكون الإشارة فيه إلى حال هؤلاء الكافرين، وما هم عليه من ضلال، وهو ضلال قد بعد بصاحبه عن طريق الهدى والنجاة..
ويمكن أن تكون الإشارة إلى أعمال الكافرين يوم القيامة، وأنها ضلّت عنهم، وغابت وراء آفاق بعيدة، لا سبيل إلى الاهتداء إليها أبدا..
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» .
الخطاب هنا للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهو بعد هذا- خطاب عام، لكل إنسان، من شأنه أن يخاطب..
فى هذه الصورة التي تعرضها الآية الكريمة لقدرة الله، وأن الله سبحانه خلق السموات والأرض، خلقا مقصودا لحكمة يعلمها الله، وليس عبثا ولهوا، وأنه سبحانه كما خلق هذا الوجود قادر على أن يهلك الناس جميعا، وأن يأتى بخلق جديد غيرهم، من جنسهم أو من غير جنسهم، وأن ذلك ليس بالعزيز على الله،(7/165)
أو المتأبّى على قدرته- نقول فى هذه الصورة يشهد الكافرون بعض مظاهر قدرة الله، بعد أن أشهدتهم الآية السابقة يوم القيامة، وموقفهم الذليل المهين فيها، وأعمالهم الضائعة التي كانت لهم فى الدنيا، فيكون لهم من ذلك واعظ يعظهم، ويفتح لهم الطريق إلى الإيمان بالله، إن كانت لهم عقول تعقل، وكان لهم مأرب فى النجاة من عذاب النار الذي شهدوه، وعاينوا أهواله..
قوله تعالى: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟» - «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» : أي انكشفوا بالعراء، وجاءوا مجردين من كل شىء.. عراة، حفاة.. لا مال، ولا ولد، ولا جاه، ولا سلطان! فهذا مشهد من مشاهد القيامة، وفيه يبرز النّاس جميعا لله، غير مستترين بشىء، لا يحتجب بعضهم عن بعض بجاه أو سلطان، أو حجّاب، وحراس، أو حصون وقصور.. إنهم جميعا عراة بالعراء..
وفى جانب من هذا المشهد يلتقى الضعفاء، وهم عامة الناس، وسوادهم- بالرؤساء، وأصحاب السيادة والسلطان، وقد كانوا قادتهم، وأصحاب الكلمة فيهم، وفى هذا اللّقاء يفزع هؤلاء المستضعفون إلى سادتهم هؤلاء، يسألونهم العون فى دفع هذا البلاء الذي أحاط بهم.. فهم كانوا مفزعهم فى الدنيا، فهلّا كانوا مفزعا لهم فى هذا اليوم العظيم؟ وبم استحقوا إذن أن يكونوا فى مكان القيادة والسيادة، إذا هم لم يكونوا لهم فى هذا الموقف؟
«إِنَّا- كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» ؟
إنه لعار على المتبوع ألا يخفّ لنجدة تابعه، وقد كنّا رعيّة لكم، وأداة طيعة فى أيديكم! فهيّا ادفعوا عنّا بعض هذا العذاب الذي نحن فيه! ويجىء الجواب: «قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ» !!(7/166)
وهو جواب ماكر خبيث، يحمل عذرا هو أقبح من ذنب! لقد ألقى هؤلاء السادة الضالّون- ألقوا بضلالهم على الله.. ولم يسألوا أنفسهم: لماذا أضلّهم الله؟ ألم يكونوا حربا على الأنبياء؟ ألم يكونوا أفواها نافخة لإطفاء كل شعلة من شعل الحق الذي حملوه إليهم..
لقد أضلهم الله لأنهم أرادوا الضلال، واستحبّوا العمى على الهدى..
«سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ» .. المحيص: المفرّ، والخلاص، وأصله الحيدة عن المكروه، يقال: حاص، يحيص حيصا، وحيوصا، أي حاد..
ويمكن أن يكون هذا من كلام الذين استكبروا، كما يمكن أن يكون من كلام الذين استضعفوا، تعقيبا على هذا اليأس الذي جاءهم من جواب المستكبرين لهم.. كما يمكن كذلك أن يكون صوتا مردّدا من هؤلاء وأولئك جميعا..!
فإن المتكبرين والمستضعفين قد أصبحوا فى قبضة العذاب، ولن يفلتوا أبدا..
سواء أجزعوا من هذا العذاب، أم صبروا له.. وهيهات الصبر على هذا البلاء المبين..!
قوله تعالى: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ.. وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ» وهذا طرف ثالث من أطراف الخصومة بين الضعفاء والمستكبرين..
فإنه حين انتهى الموقف بينهما إلى هذا اليأس القاتل.. تلفتوا جميعا إلى الشيطان، إذ كان هو الذي أغواهم، وأوقعهم فى شباكه، وكأن لسان حالهم يقول له: ما عندك لنا؟ لقد كنت أنت الذي دعوتنا إلى هذا الضلال الذي أصارنا إلى هذا المصير.. فهل تدعنا، وقد ألقيتنا فى هذا البلاء؟
ويجيئهم الجواب من الشيطان، مفحما موئسا..(7/167)
- «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ» على يد رسله وأنبيائه.. أما أنا فقد وعدتكم فأخلفتكم، ونكثت عهدى معكم، ونقضت عقدى الذي وثّقته لكم.. فذلك هو أنا، وهذا هو شأنى مع أتباعى.. وإذن فموتوا بغيظكم.. ألم يحذّركم الله منّى فى قوله تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي.. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (60- 61: يس) وفى قوله سبحانه: «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» (27: الأعراف) «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» وإن الشيطان ليس بين يديه قوة قاهرة، ملك بها أمر هؤلاء الذين أضلّهم وأوقعهم فى شباكه.. إنه أشبه بالصائد الذي ينصب شباكه للطير، ويضع فيها الحبّ فتسقط عليها، وتعلق بها، وتصبح صيدا فى يده! لقد دعاهم الشيطان إليه، وزيّن لهم الضلال وأغراهم به، فاستجابوا له، دون أن يستخدموا عقولهم التي وهبها الله لهم، ودون أن يستمعوا لكلمات الله على لسان رسله، يحذرونهم هذا العدوّ المتربص بهم، ويدعونهم إلى الفرار من وجهه، إلى حيث النجاة والسلامة، فى حمى الله ربّ العالمين.. فإذا كان هناك من يستحق اللوم فهو هم، لا الشيطان.. إن الشيطان يعمل لنفسه، ويؤدى رسالته فيهم.. أما هم فقد غفلوا عن أنفسهم، وباعوها لهذا العدوّ بيع السّماح.. بلا ثمن! «ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ» - أي ما أنا بالمستجيب لصراخكم المخفّ لنجدتكم، وكذلك أنتم، لن تستجيبوا لى، إذا استصرختكم، ولن تهبوا لخلاصى مما أنا فيه من بلاء..(7/168)
والاستصراخ هو نجدة المستغيث المستصرخ.. يقول الشاعر:
إنّا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصّراخ له قرع الظنابيب «1»
«إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ» .. أي إنى كفرت بهذا الشرك الذي جعلتمونى فيه معبودا لكم من دون الله.. ويجوز أن يكون هذا إقرارا منه بالكفر بالله من قبل، أي من قبلهم، وذلك حين دعاه الله سبحانه مع الملائكة، للسجود لآدم، فسجد الملائكة وامتنع هو، فطرده الله سبحانه، ولعنه، وأصبح من الكافرين.. فكأنه بهذا يقول لهم: إنكم تعلمون أنّى على الكفر، وقد دعوتكم فأطعتمونى، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فأنا- كما تعلمون- قد كفرت بالله الذي أشركتمونى معه فى عبادتكم له.
«إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. هو حكم من الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المتخاصمين جميعا.. من مستكبرين، ومستضعفين، وشياطين.. إنهم، جميعا ظالمون.. وليس للظالمين إلا أن يصلوا هذا العذاب الأليم الذي هم مساقون إليه..
قوله تعالى:
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.. تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» وفى الجانب الآخر من مشهد النار وأهلها هذا المشهد، تفتح أبواب الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيجدون فيها النعيم والرضوان، ويلقون فيها التحيّة والسلام.
- وفى قوله تعالى: «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى أن هذا الرضوان، وذلك النعيم الذي صار إليه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنما هو من فضل الله عليهم، ومشيئته فيهم، وليس ذلك لما كان منهم من إيمان، وعمل صالح، وحسب،
__________
(1) الظنابيب: جمع ظنبوب، وهو عظم الساق.(7/169)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
إذ أن هذا النعيم لا يعدله عمل، ولا يؤدّى حقّه إنسان.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف، إذ يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله..» قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟» قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» .
فالإيمان بالله، والعمل الصالح طريق إلى جنّة الله ورضوانه، ولكنهما لا يوصلان إليها إلّا بإذن الله، وعونه، وتوفيقه.. إنهما أشبه بالطّرقات التي يستأذن بها على ربّ الدار لدخول داره، وإنه لا يأذن إلا لمن يشاء ويرضى..!
الآيات: (24- 27) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
[الكلمة الطيبة.. والكلمة الخبيثة]
التفسير:
المراد بالاستفهام فى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا» هو الإلفات إلى هذا المثل، والوقوف عنده، وقفة تدبّر، وتذكر، واعتبار.. فالمراد(7/170)
بالاستفهام الأمر: أي انظر كيف ضرب الله مثلا.. والكلمة الطيبة، هى كل كلمة جاءت من واردات الحقّ، والخير.. والكلمة الخبيثة، ما كانت من واردات الباطل، والضلال، والشر.. وكلمة «لا إله إلا الله» هى مجمع كل كلمة طيبة.. فمن لم تسكن إلى قلبه هذه الكلمة لا يجىء منه طيب أبدا..
وضرب المثل: سوقه وعرضه.. والأصل فيه ضرب الشيء بالشيء ليخرج منهما شىء آخر، كضرب اللبن بالمخض ليخرج منه الزّبد.. ومنه الضّرب وهو عسل النحل الذي يكون من ضرب أخلاط رحيق الزهر بعضها ببعض.
والمثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى للكلمة الطيبة، هو الشجرة الطيبة:
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها..»
والشجرة الطيبة.. هى أية شجرة يحصّل منها الناس النفع، ويجنون الخير..
وأكثر الشجر الطيب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول فى تنميته وتثميره..
ولعل «النخلة» أطيب شجرة وأكرمها، وأقربها وفاء بهذه الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها تلك الشجرة الطيبة: «أَصْلُها ثابِتٌ.. وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها..»
فالنخلة أكثر الشجر ضربا فى أعماق الأرض، وأطولها امتدادا إلى أعنان السماء، وهى لهذا كانت من الأشجار المعمّرة.. ثم هى من جهة أخرى أقلّ الأشجار المثمرة حاجة إلى عناية ورعاية، وحراسة متصلة من الآفات.. فما هى إلا أن تعلق نواتها بالأرض حتى تضرب بجذورها فى أعماق الثرى، باحثة عن الماء، حتى تبلغه، وتقيم وجودها على مصدر دائم من الرىّ لا ينقطع.. وكما امتدت جذورها فى الأرض، طال فرعها فطاول السماء، باحثا عن الضوء(7/171)
الصافي، والهواء النقي، والعزلة الزاهدة.. بعيدا عن غبار الأرض، وصخبها وضوضائها.. ثم إن النخلة من جهة ثالثة أكثر الشجر المثمر جودا وعطاءا..
يؤكل ثمرها رطبا ويابسا، وعلى أصول شجره، ومختزنا، من غير أن يلحقه العطب، أو يسرع إليه التلف.. ثم من جهة رابعة.. لا شىء من النخلة إلا وفيه نفع وخير.. خوصها، وجريدها، وليفها، وعرجونها، وكربها.. فهى من أخمص قدمها إلى قمة رأسها، منافع متصلة، يمكن أن تقوم عليها وحدها حياة الإنسان، مستغنيا بها عن كل شىء.. ولعلّه من أجل هذا كانت النخلة من نبت الصحراء، حتى يكون ما فيها من ثراء وغنى، تعويضا لما فى الصحراء من جدب وفقر! ولعل فى قول رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-:
«أكرموا عماتكم النّخل فإنهن خلقن من طينة آدم» - لعل فى هذا القول ما يكشف عن وجه من وجوه الإعجاز النبوىّ، وأنه كما قال الله سبحانه وتعالى فيه: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» ، إذ يلتقى قوله هذا مع قوله تعالى: «ومَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» دالّا على الشجرة الطيبة، ومشيرا إليها..
والسؤال هنا هو: إذا كانت الشجرة الطيبة- نخلة كانت أو ما يشبهها- على تلك الصورة من الرسوخ والثبات، والعلوّ، وعلى تلك الصفة من البركة والنفع، فأين ما فى الكلمة الطيبة من هذا كله؟ وقبل هذا السؤال، سؤال آخر.. وهو: ما هى الكلمة الطيبة، التي شبهت بالشجرة الطيبة..؟
نقول: إن الكلمة الطيبة هى كل كلمة جاءت من واردات الحقّ والخير..
فكل كلمة تتسم بتلك السّمة، وتحمل ضوءة من أضواء الحق، ونفحة من نفحات الخير، هى من الكلم الطيب..
والكلم الطيب كثير: لا يكاد يحصر.. تختلف أشكاله، وتتعدد صوره، وتكثر أو تقلّ معطياته.. كما أن الشجر الطيب كثير، تتنوع ثماره، وتختلف(7/172)
طعومه وتتفاضل مذاقاته.. كما يقول الله تعالى. «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» .
وكما قلنا: إن أكثر الشجر الطيّب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول فى تنميته- نقول إن أكثر الكلم الطيب طيبا هو ما كثر خيره. واتصل عطاؤه. وقلّ الجهد المبذول فى تحصيله وفهمه.
وإذا كانت النخلة- كما قلنا- هى الشجرة التي تتمثل فيها هذه الصفات، فإننا نستطيع أن نقول إن كلمة التوحيد. هى رأس الكلام الطيب كلّه، وأطيبه جميعه..
فكلمة «لا إله إلا الله» هى الكلمة الجامعة لكل خير، المشتملة على كل هدى، الموصلة إلى كل طيب، وبغير هذه الكلمة لا تثبت للإنسان قدم على طريق الهدى، ولا يطلع له نبت فى مغارس الخير..
وليست الكلمة فى ذاتها، من حيث هى كلمة، هى التي يكون لها هذا الوصف من الطيّب، أو تكون لها تلك الأوصاف من الخبث.. وإنما الكلمة- طيبة كانت أو خبيثة- لا يظهر طيبها، أو خبثها، إلا إذا التقت بعقل الإنسان، ونفذت إلى قلبه، وسرت فى مشاعره، وسكنت إلى وجدانه- عندئذ تخرج خبأها، وتصرّح عن مكنونها، وتعطى الثمر الطيب أو الخبيث الذي كان مستودعا فى كيانها- إنها أشبه بالنواة من الشجرة، والبذرة من النبات، لا ينكشف ما بها، حتى تعلق بالأرض، وتترعرع وتنمو، ثم تزهر، وتثمر..!
وكما أنه بالتجربة والاختبار، قد عرف- مقدما- ما تعطيه نواة هذه الشجرة أو تلك من ثمر، حلو أو مرّ، إذا هى غرست فى مغارسها وتهيأت لها أسباب(7/173)
الحياة، والنمّاء، كذلك يعرف الكلام الطيب، وما بثمر من ثمر طيب، والكلام الخبيث وما يثمر من خبيث، إذا هو وقع من النفوس الموقع، الذي يهيىء له حياة، ويقيم له وجودا.
ونعود إلى كلمة التوحيد: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» .. باعتبارها الأمّ الولود لكل طيّب.. فماذا نجد فيها من ثمار طيبة؟.
ونعود فنؤكد مرة أخرى، أنّها من حيث هى كلمة، مجرد كلمة، يتلفظ بها اللسان، ثم لا يعقلها العقل، أو يمسك بها القلب، أو تنفعل بها المشاعر- هى على لسان المتلفظ بها، شبح كلمة، أو صدى صوت، لا مفهوم لها، ولا ثمرة ترجى منها.. تماما كنواة الشجرة الطيبة تلقى على حجر صلد.
أمّا إذا صادفت هذه الكلمة الطيبة المباركة، أذنا واعية، وعقلا ذاكرا، وقلبا حافظا، ومشاعر مستجيبة للخير، متجاوبة معه.. فقل ما تشاء فيما تعطى هذه الكلمة الطيبة المباركة من أكل مباركة طيبة..
فبكلمة «لا إله إلا الله» ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلام إلى النور، ومن الموت إلى الحياة.. بهذه الكلمة المباركة الطيبة يستفتح الإنسان أبواب الخير كلها، فى الأرض وفى السماء..!
وبهذه الكلمة المباركة الطيبة يرتفع الإنسان فوق هذا التراب الذي يدبّ عليه، إلى الملأ الأعلى، فإذا هو من أهل هذا الملأ، بل هو فى حضرة ربّ العزّة.. يناجيه، ويتلقّى منه ما يهنأ به، من فواضل كرمه، وسوابغ وجوده وإحسانه!.
وبهذه الكلمة المباركة الطيبة، وبهذا المقام الكريم الذي ارتفع إليه صاحبها، يشرف الإنسان من عل على هذا الوجود الأرضىّ، فيرى كل شىء فيه صغيرا.. الدنيا ومتاعها، والمال وشهوته، والسلطان وجاهه، والشباب(7/174)
وغروره، والقوّة وطغيانها.. كلّ هذا يراه المؤمن بالله، المستظل بعزته وقوته- يراه صغيرا فى عينه، هيّن القدر، ضئيل الشأن.. فى حسابه.
والكلمة- كما قلنا- مهما تكن طيبة محملة بكريم المعاني، وجميل الصفات لا تعطى شيئا من ذات نفسها، إلّا إذا صادفت النفس الطيبة التي تقبلها، والمشاعر الكريمة النبيلة التي تهشّ لها، وتتجاوب معها.. أما إذا صادفت نفسا كزّة، ووردت على مشاعر سقيمة، فإنها لا تؤثر أثرا، ولا تندّ بشىء من طيبها وحسنها.
وكذلك الكلمة الخبيثة.. لا تبيض، وتفرخ، حتى تلتقى بالنفس الخبيثة، وتخالط المشاعر الفاسدة!.
وشاهد هذا، وذاك، واقع فى الحياة.
فدعوات الرسل والمصلحين والقادة والعلماء والحكماء، ليست إلا كلمات، تحمل فى كيانها معانى الحق والخير، وترسم من مفاهيمها مناهج العدل والإحسان.. ثم تدع للناس أن يتناولوها كيف شاءوا، وأن يتعاملوا معها حسب ما أرادوا.. فمنهم من يجد فيها هداه، وصلاح أمره فى الدين والدنيا جميعا.. ومنهم من لا يقيم لها وزنا، ولا يرفع لها رأسا، ولا يمدّ نحوها يدا..
وبهذا تختلف حظوظ الناس من هذا الخير المتاح لهم.. فمنهم من يأخذ حظه كاملا، ومنهم من لا ينال شيئا.. وهكذا تتفرق السبل، بين مهتد وضال، ومستقيم ومنحرف، وسعيد وشقى.!
إن ما فى عقل الإنسان من مدركات وتصورات، وما فى كيانه من نوازع واتجاهات وميول، هو من عمل الكلمة، وإنه بقدر ما يتلقى العقل من كلمات، يكون حظه من العلم والمعرفة، وإنه بقدر ما فى هذه الكلمات من معانى الخير(7/175)
والشر، يكون اتجاه الإنسان إلى الخير أو الشر.. فالإنسان لا يعطى إلا مما عنده، والإناء لا ينضح إلا مما فيه..
والكلمات هى الرصيد الذي يملكه الإنسان، وينفق منه..
لهذا كان من تدبير الإسلام حراسة الإنسان، من أن تدخل عليه كلمات السوء، فتسكن فى كيانه، وتتحول إلى كائنات حيّة تعيش معه، وتوجه سلوكه..
يقول الرسول الكريم:
«لا يقولنّ أحدكم خبثت نفسى، ولكن ليقل لقست نفسى» ..
واللفظان معناهما واحد، وهو غثيان النفس، وتهيّؤها للقىء، ولكن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- يأخذ المسلمين بأدب الكلمة، ويحمى ألسنتهم من أن تعلق بها هذه الكلمات السيئة، فتتخلّق منها مشاعر خبيثة..
فالكلمة- فى الواقع- ليست مجرد حروف مرسومة، أو أصوات مسموعة، وإنما هى رسل هدى ورحمة وخير، أو شياطين غواية وضلال وبلاء.!
ومن أجل هذا، كان احتفاء الإسلام بالكلمة، وتقديره لها، وحسابه لآثارها ومعطياتها.. فقد عرف الإسلام للكلمة قدرها وخطرها فى تفكير الإنسان، وفى سلوكه.. إذ كانت كل ثمرات تفكيره، من مواليد الكلمة، وكان سلوكه، من وحي هذا التفكير ومتطلباته..
ومن تدبير الإسلام فى هذا، أنه جعل القرآن الكريم المائدة التي يردها المسلمون، فيتزودون من كلماته وآياته، بالترتيل، والاستماع، فرضا فى الصلاة، ونافلة فى غير الصّلاة..(7/176)
يقول الله تعالى لنبيه الكريم: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» (106: الإسراء) ويقول له سبحانه: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (4: المزمل) ويقول له جلّ شأنه: «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (78- 79: الإسراء) .
ويدعو الله سبحانه المؤمنين إلى أن يغشوا مجالس القرآن، وأن يستمعوا له فى صمت وخشوع، حتى تنفذ كلماته إلى قلوبهم، وتخالط مشاعرهم.. فيقول سبحانه: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (204: الأعراف) .
ويعرض القرآن الكريم صورة من صور الاستماع إلى آيات الله وكلماته، تتجلّى فيها قوة الكلمة الطيبة وأثرها، حين تصادف الأذن الواعية، والقلب السليم، حتّى فى عالم الجنّ، الذي من شأنه أن يزهد فى الخير، ويتكّب طرقه..
يقول الحق جلّ وعلا: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (29- 31: الأحقاف) .
وكم من الجنّ، والإنس، من سمع كلمات الله وآياته فلم يجد لها صدى فى نفسه، ولا أثرا فى وجدانه.. كما يقول سبحانه: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
(7- 8: الجاثية) .(7/177)
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ على أصحابه سورة الرحمن، حتى فرغ، قال: «ما لى أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا.. ما قرأت عليهم من مرة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلا قالوا: ولا بشىء من نعمك نكذب.. فلك الحمد» ..
ومن جهة أخرى، فإن الإسلام حذّر أهله من أن يستمعوا إلى زور الكلام وباطله، ونصح لهم أن يفرّقوا بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، فيستمعوا للطيب الحسن ويأخذوا به، ويتجنبوا الخبيث القبيح ويعرضوا عنه:
فقال تعالى: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» (17- 18: الزّمر) .. ويقول جلّ شأنه فى وصف عباده المتقين: «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» (72- 73: الفرقان) .. ويقول سبحانه: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» (55: القصص) .
فاللغو من القول، والزور من الحديث، آفة تدخل على الإنسان، وتندسّ فى مسارب تفكيره، وفى خلجات وجدانه، ثم إذ هى مع الزمن، ومع ما يرد عليها من كلمات السوء- نبتة فاسدة، لا تلبث أن تستغلظ وتستوى على سوقها، ثم تنداح وتمتد حتى تكون شجرة مشئومة تملأ كيان الإنسان، وتظلل وجوده، وتغذّى من ثمرها النكد الخبيث، ما فى الإنسان من أفكار، ومشاعر..
وإذا هذه الأفكار وتلك المشاعر أعمال وأقوال، تذيع السوء فى النّاس، وتمشى بالشرّ والفساد فيهم! وننظر فى هذه الحياة، فنجد أن كلّ ما يقع فى الناس من خير أو شر، هو فى الواقع أثر من آثار كلمة طيبة، أو كلمة خبيثة.. فكلمة واحدة ينطق بها صاحبها(7/178)
فإذا هى رحمة راحمة، تزرع المودة، وتثمر المحبّة والإخاء، فتسكن بها فتنة، وتنطفىء بها عداوة، وتحجز الناس عن حرب، لو اشتعلت نارها، لما خمدت حتى تحيل كل عامر إلى خراب، وكل حياة إلى موات..
فكم من الكلمات الطيبة، والحكم البالغة، تعيش فى الناس منذ أزمان، إذا ذكروها طلعت عليهم بوجهها المشرق الكريم، فكانت سكنا للنفوس، ودفئا للصدور، وشفاء من وساوس الشرّ، وخطرات السّوء..
وكم من كلمات خبيثة مشئومة، تعيش فى الناس، أزمانا متطاولة، فإذا ذكروها، خرجت عليهم بما فيها من شياطين، توسوس لهم بالشرّ، وترمى إليهم بمعاول الهدم والتدمير، فإذاهم نذر بلاء، ودعاة شقاق، وقذائف تدمير وتخريب.!
وهل الحرب والسلام، إلا مواليد كلمات خبيثة أوقدت حربا، أو كلمات طيبة أطفأت الحرب، وأقامت الناس على سلم وعافية؟
ونستمع مرة أخرى إلى قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» .
نستمع إلى كلمات الله هذه، وننظر إليها، فإذا هى منهج متكامل فى التربية العقلية والخلقية والروحية، بما تحقق للإنسان الذي يأخذ بهديها، ويتأدب بأدبها، من قوى مدركة للحق، ومتجاوبة مع الخير، متهدية إلى منازل الكمال والإحسان..(7/179)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
فالذى تتمثل له الكلمة الطيبة، على هذا الوجه المشرق الطيب، الذي وصفها الله سبحانه وتعالى به، ثم يجعل رصيده كلّه من الكلم الطيب، آخذا ومعطيا- الذي يسلك هذا المسلك، لن يضلّ أبدا، ولن يقع له أو منه، ما يسوء.. فهو شجرة طيبة.. أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها! والذي تتمثل له الكلمة، على هذه الصورة المخفية التي صورها الله سبحانه وتعالى بها، فإنه يرى فى الكلمة الخبيثة، وباء قاتلا، وشرّا راصدا، يهلك من يلمّ بها، ويطمئن إليها..
الآيات: (28- 34) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)(7/180)
التفسير:
قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» - الاستفهام هنا يراد به التعجب من أمر هؤلاء الضالين الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وعرضهم فى معرض الازدراء لأحلامهم، والاستخفاف بأقدارهم، والتسفيه لتصرفاتهم..
وهؤلاء الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، هم سادة قريش، وأئمة الضلال والكفر فيهم.. والنعمة التي بدلوها كفرا، هى القرآن الكريم، الذي جاءهم بالهدى، ليخرجهم من ظلام الجاهلية وضلالها، إلى نور الحق والإيمان.. فأبوا إلا أن يردّوا هذه النعمة، بل وأن يجعلوها نقمة وبلاء عليهم..
ذلك أن الجاهليين كانوا قبل البعثة المحمدية من أهل الفترة، الذين لم تبلغهم رسالة سماوية.. فهم- والحال كذلك- واقعون تحت قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .. أي أنهم كانوا غير مبتلين بالتكاليف الشرعية، وغير محاسبين على ما يكون منهم.. فهم أشبه بالصغار الذين لم يبلغوا الحلم بعد.
فلما بعث الله سبحانه وتعالى فيهم رسوله بالهدى ودين الحق، وبلّغهم الرسول ما أنزل إليه من ربّه، انقطع عذرهم، ولم يكن لهم على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين، وفى هذا يقول تبارك وتعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (165: النساء) ..
وبهذا فإن الذين لم يدخلوا فى دين الله، بعد بعثة النبي من الجاهليين، قد أصبحوا فى عداد الكافرين، إذ قد كشفت الدعوة الإسلامية عن هذا الداء(7/181)
الخبيث الذي كان مندسا فى كيانهم.. وكانت نعمة الإسلام التي لبسها من أراد الله لهم السعادة منهم. كانت هذه النعمة نقمة وبلاء على من لم يستجب لرسول الله، ولم يدخل فى دين الله.. وهكذا بدّل هؤلاء القوم نعمة الله كفرا.. إذ لبسوا بها ثوب الكفر، وكانوا قبل بعثة الرسول فيهم، على غير تلك الصفة.
ويجوز أن تكون النعمة التي بدّلها هؤلاء المشركون كفرا، هى الفطرة السليمة التي أودعها الله فيهم، فهم بفطرتهم مؤمنون، ولكنهم بما أدخلوا على هذه الفطرة من أهواء وضلالات، قد أفسدوها، فلما التقوا بالقرآن الكريم، لم تستسغه فطرتهم الفاسدة، ولم يجدوا فى هذه النعمة العظيمة التي ساقها الله إليهم ما ينتفعون به، بل نصبوا الحرب لها، وحالوا بين الناس وبينها.. فكانت تلك النعمة بلاء عليهم، ألبستهم لباس الكفر، وهى التي جاءت لتخلع عليهم خلع الإيمان.
- وفى قوله تعالى: «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» إشارة إلى أن رؤساء القوم الذين تصدّوا للدعوة الإسلامية، وحجزوا أتباعهم عنها، هم الذين أنزلوا قومهم هذا المنزل الدّون، وأوردوهم هذا المورد الوبيل..
قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» .
الأنداد: جمع ندّ، وهو المساوى، والمعادل..
والمعنى: أن من سفه هؤلاء الضالّين، المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا لرسول الله- أنهم جعلوا لله أندادا، ونظراء، عبدوهم كما يعبد المؤمن ربه، ودانوا لهم بالولاء، كما يدين المؤمن لله ربّ العالمين!(7/182)
- وفى قوله تعالى: «وَجَعَلُوا» إشارة إلى أن هذا الفعل الذي فعلوه باتخاذ آلهة لهم من دون الله، وجعلهم أندادا له- إنما هو من صنع القوم، ومن تلقيات أهوائهم، وأن ذلك كله ضلال، ما أنزل الله به من سلطان.
- وفى قوله تعالى: «لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ» إشارة أخرى إلى أنهم اتخذوا هذه الآلهة، ليفتنوا بها الناس، وليمسكوا بهم على طريق الضلال، وليكون لهم بها دعوة يجمعون الناس عليها، ويأخذون بمقودهم منها: طلبا للسيادة والسلطان.. ولهذا جاء قوله تعالى: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» متوعدا لهم بهذا المصير السيّء، الذي هو فى حقيقته، الثمرة المرّة لهذا الجاه والسلطان الذي تمتعوا به فى دنياهم، وعاشوا معه فى مواقع الضلال والكفر..
قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» .
الخلال: المخلّة، والموادّة، والمواساة، التي تكون بين الصاحب وصاحبه، والخليل وخليله..
وسمّى الصاحب خليلا، لأن كلّا من الصاحبين يتخلل صاحبه، ويدخل إلى مشاعره، ويطّلع على ما لا يطلع عليه غيره..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت وعيدا للمشركين الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، فأبوا أن يقبلوا دين الله دينا، واتخذوا من دونه آلهة ليضلّوا الناس عن سبيل الله- فجاءت هذه الآية لتلفت المؤمنين الذين استجابوا لرسول الله، وآمنوا بالله، أن يؤدوا لهذا الإيمان حقّه، إذ ليس الإيمان مجرد كلمات تقال، وإنما هو دستور عمل، وشريعة واجبات وتكاليف. وعلى رأس هذه الأعمال، وتلك الواجبات: الصلاة، والزكاة..(7/183)
فالصلاة حق الله على عباده، والزكاة حق العباد على العباد.. حق الفقراء على الأغنياء.. ولهذا جمع القرآن بين الصلاة والزكاة، فى مواضع كثيرة من القرآن، حتى لا تكاد تذكر إحداهما إلا ذكرت معها الأخرى، تصريحا أو تلميحا..
- وفى قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» - عدول عن الخطاب إلى الغيبة، إذ كان من مقتضى النظم أن يجىء الأمر هكذا: «قل لعبادى الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناكم سرا وعلانية» فما سر هذا؟
السر فى هذا- والله أعلم- هو أنه لكمال العناية بالصلاة والزكاة، جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بهما متوجها منه جل شأنه إلى عباده، الذين شرّفهم بإضافتهم إليه بقوله: «قُلْ لِعِبادِيَ» ولم يشأ سبحانه أن يقطعهم عنه، وأن يجعل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هو الذي يتولى أمرهم بقوله:
«يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وإنما جعل الرسول ناقلا خطابه إلى عباده، كما يأمرهم ربّهم به! - وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» .. اليوم هنا، هو يوم القيامة، حيث لا عمل فى هذا اليوم.. وإنما هو يوم حساب على أعمال سلفت فى الدنيا.. حيث لا شفاعة لأحد فى أحد.. «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» (41: الدخان) قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ(7/184)
وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة توعدت المشركين الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، وجعلوا لله أندادا، على حين نوهت بشأن المؤمنين، وأضافتهم إلى الله، وشرفتهم بالعبودية لله- فجاءت هذه الآية، والآيات التي بعدها لتحدّث عن قدرة الله، وجلاله، وعلمه، وفضله على عباده.. من المؤمنين، والكافرين جميعا.. وفى هذا العرض مجال لأن يراجع الكافرون أنفسهم، وأن يرجعوا إلى ربهم، بعد أن يعاينوا آثار رحمته وبدائع قدرته..
على حين يزداد المؤمنون إقبالا على الله، واجتهادا فى العبادة..
فالله سبحانه، هو الذي خلق السموات والأرض وما فيهن، وهو الذي أنزل من السماء هذا الماء الذي تتدفق به الأنهار، وتتفجر منه العيون، وتحيا عليه الزروع، وما يخرج منها من ثمر وحبّ.. وهو- سبحانه- الذي سخر الفلك، وأجراها مع الماء، وسخر الأنهار لتحمل الفلك على ظهرها.. وسخر الشمس والقمر تسخيرا منتظما، لا يتخلف أبدا، وسخر الليل والنهار، على هذا النظام البديع المحكم..
والمراد بالتسخير هنا.. التذليل، والإخضاع، والانقياد.. وذلك بإخضاع هذه المخلوقات لسنن وقوانين تحكمها، وتضبط موقفها بين المخلوقات، بحيث يمكن الإنسان إخضاع هذه المخلوقات والانتفاع بها، إذا هو عرف القوانين الكونية الممسكة بها..
- وفى قوله تعالى: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد شمل العباد بلطفه، وأنزلهم منازل إحسانه وكرمه، فأقامهم(7/185)
على خلافته فى هذه الأرض ومكنّ لهم من أسباب الحياة فيها، فبسط الأرض، وأنزل عليها من السماء ماء، وأجرى فيها الأنهار، وفجر العيون، وسخّر ما فى السموات من كواكب، ونجوم، وما فى الأرض من عوالم وكائنات. وأودع فى الإنسان عقلا، يقدر به على أن يهتدى إلى مواطن النفع من هذه الموجودات، وأن يقيم منها هذه الدنيا، التي نسج من خيوطها هذا الثوب الجميل الذي تزدان به، كما تزدان العروس فى ليلة عرسها.
هذا، وليس المراد بقوله تعالى: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» أن كل إنسان قد أوتى سؤله، واستوفى كل مطلوبه من دنياه، فهذا- وإن بدا فى ظاهره أنه خير- هو فى حقيقته آفة تغتال مطامح الإنسانية، وتقتل آمالها، وتدفن ملكاتها.. إذ لو توفرت لكل إنسان حاجته، لما جدّ وسعى، ولما تفتق عقله عن هذه العلوم والمعارف، التي كشف بها أسرار الطبيعة، وأخرج المخبوء فى صدرها، وأقام له سلطانا على هذا الكوكب الأرضى، الذي جعله الله خليفة عليه..
وإنما المراد بقوله سبحانه: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» - هو الإنسانية كلها فى مجموعها، وأن ما سخر الله لها من عوالم السموات والأرض، وما أودع فيها من قوى التفكير والتدبير، هو بمنزلة إعطاء الناس كل ما أرادوا..
فبين أيديهم كل ما يحتاجون إليه.. وليس عليهم لكى يحصلوا على ما يريدون إلا أن يعملوا، ويجدّوا فى العمل، وأن يديروا عقولهم على هذه الموجودات، وأن يلقوا بشباكهم فى كل أفق، فتجيئهم ملأى، باللئالئ والأصداف، والدرّ والحصى! وهذا يعنى أن هذه الدنيا ليست للإنسان وحده، وإنما هى للإنسانية كلها، وأن الناس فى مجموعهم أشبه بالجسد الواحد، تتعاون أعضاؤه جميعا على حفظ هذا الجسد، وصيانته، وتوفير أسباب الحياة الطيبة له..!(7/186)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
- وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» إلفات إلى هذه النعم الكثيرة التي بين أيدينا، والتي نجدها- لو التفتنا إليها- فى كل شىء يحيط بنا.. فى الهواء الذي نتنفسه، وفى الضوء الذي تكتحل به عيوننا، وفى اللقمة نجدها على جوع، وفى شربة الماء نأخذها على ظمأ، وفى نسمة عليلة نستروحها بعد لفحة الهجير.. وفى إغفاءة بعد سهر، وفى صحة بعد مرض.. وفى نجاح بعد إخفاق.. وهكذا.. نحن فى نعم دائمة لا تنقطع أبدا.. يجدها الغنى والفقير، والقوىّ والضعيف، والمريض والسليم.. وهى من الكثرة بحيث لا نلتفت إلا إلى ما نفقده منها، ولا نشعر إلا بما بعد عنّا من وجوهها.. ولهذا جاء التعبير القرآنى عن هذه النعم بلفظ المفرد «نعمة» - «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» .. بمعنى أن النعمة الواحدة من نعم الله، هى نعم كثيرة، لا تحصى، وأن أيّا منها- وإن بدا صغيرا- لا يستطيع الإنسان أن يؤدى لله حقّ شكره.. فكيف ونعم الله- لا نعمته- تلبسنا ظاهرا وباطنا؟ ومع هذا فإن الإنسان لا يحمد الله، ولا يشكر له، على ما أسبغ عليه من نعم، بل يرى دائما أنه مغبون.. ولهذا جاء وصف الله سبحانه وتعالى له بقوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» .. أي أنه يظلم نفسه بحجزها عن مواقع الهدى، وبحجبها عن مطالع الخير، فلا يرى ما لله عليه من فضل، فيكفر بالله، ويرد موارد الهالكين..
الآيات: (35- 41) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)(7/187)
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت مشركى قريش الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، فعبدوا الأصنام، واتخذوها آلهة من دون الله.. ولما كان هؤلاء المشركون هم من ذرية إبراهيم عليه السلام، الذي كان حربا على الأصنام وعبّاد الأصنام، والذي بنى هذا البيت الحرام، وأرسى قواعد البلد الحرام، فقد ناسب أن يذكّر هؤلاء المشركون بأبيهم هذا، حتى يروا فى دعوة الرسول الكريم لهم، دعوة مجددة لدين أبيهم إبراهيم، ولتسقط بهذا حجتهم التي يحاجّون بها النبي بقولهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (22: الزخرف) .. فإذا كان لهم فى آبائهم أسوة، فهذا هو إبراهيم أبوهم الأكبر، فليتأسّوا به، وليهتدوا بهديه! قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي(7/188)
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ»
هو تذكير لهؤلاء المشركين، عبّاد الأصنام من قريش، بموقف أبيهم إبراهيم من الأصنام، وأنّه- صلوات الله وسلامه عليه- دعا ربّه أن يجعل هذا البلد الحرام- مكة- بلدا آمنا، مؤمنا بالله، وأن يجنّبه أي يبعده وبنيه عن عبادة الأصنام..!
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم دعوته فى البلد الحرام، فجعله آمنا فى الجاهلية وفى الإسلام.. أما فى بنيه. فقد استجاب له فى بعضهم ولم يستجب فى بعض آخر.. فكان منهم فى الجاهلية حنفاء يعبدون الله على دين إبراهيم، كما كان منهم- وهم الأكثرون- عبّاد أصنام، مشركون بالله.
وقد أخبر الله إبراهيم بأن دعوته هذه فى بنيه، ليست مجابة على إطلاقها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (124: البقرة) .. فليس كلّ ذريّة إبراهيم ممن يتابعه، ويكون على دينه إلى يوم القيامة.. وإلا لكان ذلك ضمانا موثقا لكل من اتصل نسبه بإبراهيم أن يكون مؤمنا، وهذا من شأنه أن يرفع التكليف، والابتلاء، ويجعل مثل هذا الإيمان إيمان قهر وإلجاء. ليس للإنسان فيه كسب واختيار.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (126: البقرة) فإبراهيم- عليه السلام- إذ يدعو ربّه بما دعاه به، يعلم هذه الحقيقة، وأنه ليس كلّ بنيه إلى يوم القيامة، ممن يهدى الله.. ولهذا قال: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ(7/189)
الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ»
.. فدعا بالرزق لمن آمن، دون من لم يؤمن.. وقد أجابه الله سبحانه، بأنه لن يحرم أحدا رزقه فى هذه الدنيا، فهو سبحانه سيرزق من آمن، ومن لم يؤمن، فهذا الرزق هو متاع قليل، هو متاع الحياة الدنيا..
ولن يحرم الكافر حظّه من هذا المتاع.. أما جزاء كفره فسيلقاه فى الآخرة:
«قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ففى أبناء إبراهيم إذن.. مؤمنون، ومشركون.. هكذا كان، وهكذا يجب أن يكون، تحقيقا لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» ..
وهنا سؤال.. وهو:
لماذا ذكر إبراهيم البلد الحرام مرة منكّرا هكذا: «بَلَداً آمِناً» ومرة معرفا «البلد آمنا» ؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أنه قد كان لإبراهيم- عليه السلام- كما يحدّث التاريخ- أكثر من رحلة إلى البيت الحرام: الرحلة الأولى حين هاجر بإسماعيل وأمه، وأنزلهما هذا المنزل، وأقام هو وإسماعيل قواعد البيت الحرام.. وفى هذا الوقت لم يكن البلد الحرام قد ظهر إلى جوار البيت الحرام، وإنما كان شيئا مطويا فى عالم الغيب لم يولد بعد، ولهذا كان دعاء إبراهيم له:
«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» .. أي اجعل هذا المكان بلدا آمنا.. ثم بعد زمن، عاد إبراهيم إلى هذا المكان مرة أخرى، فوجد حول البيت الحرام قبائل قد نزلت على ماء زمزم مع إسماعيل، ومنها قبيلة جرهم التي أصهر إليها إسماعيل وتزوج منها.. ولهذا كانت دعوته الثانية لهذا البلد فى مواجهة بلد قائم فغلا، فأشار إليه إبراهيم إشارة إلى شخص قائم أمام عينيه: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» !(7/190)
قوله تعالى: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فى هذه الآية:
أولا: خطاب الأصنام خطاب العقلاء: «إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» وفى هذا ما يكشف عن سفه المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام، وخفّة أحلامهم، وأنهم يتعاملون مع هذه الأحجار كما يتعاملون مع الآدميين العقلاء..
وهذا لا يكون إلا عن سفاهة أحلام، وسخف عقول، وصغار نفوس.. إن هؤلاء الرّجال الدين يشمخون بآنافهم، ويطاولون السماء بأعناقهم، ليسوا إلا أطفالا فى مساليخ رجال.. فكما يتلهّى الأطفال بالدّمى، ويخلعون عليها من مشاعرهم، أسماء يخاطبونها بها، كما يخاطب بعضهم بعضا، كذلك يفعل هؤلاء المشركون بتلك لدّمى التي يشكلونها من الأحجار، والأخشاب، ويزينونها بالملابس والحلىّ، كما يزبن الأطفال العرائس والدّمى!! وثانيا: فى قول إبراهيم: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة إلى ما عند إبراهيم من علم بما لله فى عباده من حكمة..
وأن ذريّة إبراهيم لن تكون جميعها على طريق سواء.. فهم بين مؤمن يتبعه، وكافر يخرج عن الدين الذي دعا إليه..
وثالثا: فى قول إبراهيم: «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» تظهر عاطفة الأبوة، كما تتجلّى تلك الصفة الكريمة التي حلّى الله سبحانه وتعالى بها إبراهيم، والتي ذكرها سبحانه فى قوله: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (75: هود» .. فهو- عليه السلام- يدع العاصين من ذريته لمغفرة الله ورحمته.. وفى مغفرة الله ورحمته، متسع للعاصين، ورجاء للمذنبين.
قوله تعالى: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ(7/191)
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»
..
هو استكمال لما دعا به إبراهيم ربه لإسماعيل وذريته، إذ أسكنه فى هذا المكان القفر، وأنزله فى هذا الوادي الجديب..
فأول ما دعا به إبراهيم ربه، لإسماعيل وذريته فى هذا الموطن، هو الأمن:
«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» .. إذ كان الأمن هو ضمان الحياة، وسكن النفوس، والقلوب، وإنه لا حياة لإنسان، ولا نظام لمجتمع إلا فى ظل الأمن والسلام.. ثم كانت الدعوة الثانية بعد هذا، وهى الإيمان بالله، وذلك بعد أن يضمن الإنسان وجوده: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» .. ثم تجىء الدعوة الثالثة، التي تمسك الإيمان فى القلوب، ويمكّن له فى النفوس، وهى لقمة العيش، التي إن لم يجدها الإنسان، هلك، وطار صوابه، وذهب إيمانه.. وفى هذا يقول إبراهيم:
- «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي» أي بعض ذريتى، إذ كان ابنه الآخر وهو إسحق يعيش فى موطن غير هذا الموطن.. فإسماعيل الذي أسكنه فى هذا الوادي هو بعض ذريته، لا كلّ ذريته.. «بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» أي فى حمى بيتك المحرّم، وهذا هو السبب فى أن اختار إبراهيم لإسماعيل هذا المكان القفر المنعزل.. فإنه وإن كان قفرا جديبا، لا زرع فيه ولا ثمر، فإنه مأنوس خصيب، بنفحات الله، محفوف برحمته ورضوانه.
وحسب هذا الوادي أن يشرف بهذا الشرف العظيم، فيكون وعاء حاملا لبيت الله.. أول بيت وضع للناس! - «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» أي لكى تنتظم حياتهم، وتطمئن قلوبهم، ويؤدّوا ما فرض(7/192)
الله عليهم من فرائض، كانت دعوة إبراهيم ربّه، أن يجعل قلوب الناس تميل إلى هذا المكان، وتنجذب إليه، وتتعاطف مع ساكنيه، فيكون لهم من ذلك رزق يرزقونه من تلك الأمم التي تجىء إليهم، وتلتقى بهم..
وفى هذا إشارة إلى أن حياة الإنسان لا تنتظم إلا فى جماعة، ولا تكتمل إلا فى مجتمع، حيث كانت دعوة إبراهيم أن يعمر هذا البلد بالناس، وأن تتكاثر أعداد الوافدين عليه، وذلك خير من الزرع والخصب.. فحيث كان الناس كان الخير، وكان العمران! ..
وفى المجتمع الذي تتوافر للإنسان فيه وسائل العيش، ويجد فى كنفه الأمن والسلام- فى هذا المجتمع تخصب العواطف، وتزدهر المشاعر، وتتفتح البصائر إلى كثير من حقائق الوجود.. وهنا يجد الإنسان وجوده الذي يستطيع أن يصله بالله، وأن يوثق صلته به، حين يجد الجو الذي يسمح له بالنظر والتأمل، وهو مجتمع النفس، مطمئن القلب.. ومن هنا أيضا يستقيم للإنسان دينه، فيؤدى ما لله عليه من حقوق، لا تشغله عنها شواغل الحياة، ولا تدهله عنها مطالب العيش الملحّة، المهددة للحياة!.
- ففى قول إبراهيم: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .. تعليل كاشف عن أن إقامة الصلاة، وما معها من واجبات مفترضة على المؤمن، إنما تجىء بعد أن يجد الإنسان وجوده على هذه الأرض، ويضمن لهذا الوجود بقاء واطمئنانا..!
فالإنسان مع الحرمان الشديد، ومع الجوع المهدد بالهلاك، لا يجد العقل الذي يعقل، ولا القلب الذي يخفق خفقات الوجد والشوق..
فإذا عبد الله فى تلك الحال، عبده وهو شارد اللّب خامد الشعور.. ومثل هذه العبادة ولا يجد فيها العابد ريح ربّه، ولا ينسم أنسام جلاله، وعظمته..(7/193)
يقول الإمام الشافعي- رضى الله عنه- «لا تشاور من ليس فى بيته دقيق، فإنه مولّه العقل» .. أي لا عقل له، إذ كان فيما ركبه من هم، وما استولى عليه من مشاعر الأسى لصغاره الجياع، ما يذهب بكثير من قواه العقلية والنفسية.
ومن هنا كان هذا الدعاء: «اللهم أصلح لى دنياى التي فيها معاشى، وأصلح لى دينى الذي فيه معادى وعاقبة أمرى» كان دعاء جامعا لخير الدنيا والآخرة.
هذا وليست كثرة المال ووفرة المتاع، بالتي تقيم الإنسان دائما على طريق مستقيم مع الله، إذ كثيرا ما يكون المال ووفرته سببا فى صرف الإنسان عن طريق الحق، وركوبه طرق الغواية والضلال.. ولكن الفقر القاهر والحاجة القاسية، أكثر صرفا للإنسان عن الطريق السّوىّ.. إلا من عصم الله، وأمده بأمداد الحق والصبر.
وفى التعبير بكلمة «تهوى» إشارة إلى الدافع الذي يدفع الناس إلى هذا المكان القفر الجديب. وأن هذا الدافع لن يكون طلبا لمال أو متاع، وإنما هو إشباع لهوّى فى القلوب، وإرواء لظمأ فى النفوس، واستجابة لأشواق تهفو بالأرواح إلى هذا المكان.. وذلك لا يكون إلا استجابة لدعوة الله، وامتثالا لأمره، وتحقيقا لركن من أركان دينه.. فكانت فريضة الحجّ، هى دعوة الله إلى اجتماع المؤمنين فى هذا الوادي.. يجيئون إليه فى شوق، وحنين.. وكأنهم على ميعاد مع أمل محبوب طال انتظاره، وأمنية مسعدة، عزّ الوصول إليها.. وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» (27- 28: الحج)(7/194)
- وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» حثّ لأهل هذا الوادي وساكينه على أن يشكروا الله على هذا الفضل الذي ساقه إليهم، حتى اخضرّ واديهم المجدب، وأزهر وأثمر.. وذلك بأن يقيموا الصلاة، ويؤدوا ما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم من فرائض، كانت الصلاة عمادها.. ولهذا اقتصر على ذكرها، تنويها بها، ورفعا لقدرها، وأنها هى الدين كلّه، فإذا ضيعها المؤمن فقد ضيع كل دينه، وإذا حفظها كان ذلك داعية له بأن يحفظ كل دينه: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (45: العنكبوت) قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ..»
تشير هذه الآية إلى أن تقوى لله، وشكره، ليس بأعمال الجوارح الظاهرة وحدها، وإنما بأن يسلم الإنسان لله وجوده كلّه، ظاهرا وباطنا، وأن يخلص له العبادة.. فالله سبحانه وتعالى: يعلم ما نخفى وما نعلن.. وحساب أعمالنا عنده، بما تحمل من صدق وإخلاص.. فإذا تلبس بتلك الأعمال رياء، أو نفاق، ردّت على صاحبها، وكانت وبالا عليه..
قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» ..
هو صلاة شكر وحمد لله، يرفعها إبراهيم لربّه، على النعمة التي أنعم بها عليه، إذ وهب له الولد بعد أن كبر، وجاوز العمر الذي يطلب فيه الولد.. فوهب الله له ولدين، لا ولدا واحدا، هما إسماعيل وإسحق..
وهكذا تجىء رحمة الله من حيث لا يحتسب الناس، ولا يقدّرون..
فهذا إبراهيم الذي بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد الذي(7/195)
تقرّ به العين، قد بسط له الله سبحانه وتعالى يد رحمته، فكان له أكثر من ولد..!
وهذا الوادي الجديب، الذي كانت تمتدّ العين، فلا ترى فيه إلا مواتا، لا تهبّ عليه نسمة حياة أبد الدهر- هذا الوادي قد عاد لله بفضله عليه، فإذا هو حياة زاخرة، تحتشد فيه الأمم، وتصبّ فيه أنهار الحياة، المتدفقة بالنعم من كل أفق..
وقد شكر إبراهيم ربّه على هذه النعمة، التي جاءته على غير انتظار..،
فليشكر أهل هذا الوادي ربّهم على هذا الخير الذي يفيض به واديهم.. من غير عمل منهم! قوله تعالى: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» فيه توكيد لدعوة إبراهيم التي دعا بها ربّه فى قوله: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .. وفى هذا ما فيه من تنويه بأمر الصّلاة، واحتفاء بشأنها.. ثم هو من جهة أخرى، إشارة إلى أن أداء الصلاة على وجهها والمحافظة على أوقاتها، وإخلاص القلوب لها، وإحلاء النفس من الشواغل التي تشغل عنها.. وذلك أمر يحتاج إلى إيمان قوى، وعزيمة صادقة، يستعان عليهما بالله، ويطلب إليه سبحانه العون والتوفيق فيهما.. ولهذا جاء قول إبراهيم- «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ» صلاة ضارعة إلى الله سبحانه أن يثبت قدمه على أداء هذه الفريضة، وأن يجعله من مقيميها على وجهها..
- وفى قوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» وفى التعبير بمن التي تفيد التبعيض- إشارة إلى أن دعاءه لذريته بأن يقيموا الصلاة، لا يشمل كل ذريته، بل بعضهم، ممن دعاهم الله إلى الإيمان به، فآمنوا، وأخبتوا، وكانوا من المتقين..(7/196)
- وقوله: «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» .. هو دعاء بأن يتقبل الله منه ما يدعو به لنفسه ولذريته.. فإذا قبل الله سبحانه قوله: «وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» - كان ذلك إذنا منه سبحانه بقبول ما يدعوه به.. وكان مستجاب الدعوة عند الله.. وهذا غاية ما يطمح إليه المؤمن من رضا ربّه عليه، ولطفه به، ورحمته له..
وقد كان إبراهيم- عليه السلام- مستجاب الدعوة عند ربّه.. وكان نبينا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- دعوة مستجابة من دعوات إبراهيم، حيث دعا إبراهيم ربّه بما حكاه القرآن الكريم عنه فى قوله تعالى: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (129: البقرة) .. وفى هذا يقول النبي- صلوات الله وسلامه عليه-: «أنا دعوة إبراهيم.»
قوله تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» هو دعوة عامة، شملت المؤمنين جميعا، بعد أن بدأ إبراهيم بنفسه، ثم بوالديه..
وهذا أدب ربانىّ فى الدعاء، ينبغى أن يلتزمه المؤمن، وهو يدعو ربه..
ذلك، أن الدعاء، هو استمطار فضل من فضل الله، واستنزال رحمة من رحمته.. ومن الغبن للداعى أن يدعو بهذا الخير، ولا يأخذ نصيبه منه..
كما أنه من الأنانية والشحّ أن يحتجز الإنسان لنفسه هذا الخير المرتقب، ولا يشرك إخوانه المؤمنين فيه.. فرحمة الله واسعة، وعطاؤه جزل.. ودعوة مستجابة تسعد الناس جميعا..
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع وهو فى المسجد داعيا يدعو، فيقول: «اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا» فقال صلى الله عليه وسلم(7/197)
«لقد تحجّرت واسعا» ؟ أي ضيقت ما كان شأنه السعة، وأدخلت نفسك فى جحر، وكان بين يديك هذا الوجود الرحيب! وهنا سؤال: كيف يدعو إبراهيم لوالده بالمغفرة، وهو على ما كان عليه من كفر عنيد، وضلال مبين؟ كيف، والله سبحانه وتعالى يقول: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (113: التوبة) وقد نزلت هذه الآية فى مشركى قريش، الذين ماتوا على شركهم.. وقد كان النبىّ والمؤمنون يستغفرون لبعض هؤلاء المشركين، فلما لفتهم الله سبحانه إلى هذا، وكشف لهم عن مصير هؤلاء المشركين- أمسكوا عن الاستغفار لهم..
وكذلك كان شأن إبراهيم عليه السلام، فإنه كان يستغفر لأبيه. على ما كان منه، من جفاء وغلظة، وعلى ما لقيه منه من عناد وإصرار على الكفر..
وذلك طمعا فى أن يهديه الله، وأن يشرح صدره للإيمان، فلما كشف الله له عن مصير هذا الأب، تبرأ منه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (114: التوبة) .
وسؤال آخر: لماذا وقّت إبراهيم غفران الله له ولوالديه وللمؤمنين، بيوم القيامة.. «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ؟
والجواب على هذا، هو أن يوم الحساب، هو يوم الإنسان، لا يوم له قبله، وأنه إذا ربح هذا اليوم، وظفر فيه بالنجاة من عذاب الآخرة- وهذا لا يكون إلا بمغفرة الله له، وتجاوزه عن سيئاته- فذلك هو الفوز العظيم حقّا..
أما إذا خسر هذا اليوم، ولم يكن فيمن شملهم الله بعفوه ومغفرته، فذلك هو الخسران المبين..(7/198)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
فدعوة إبراهيم هذه مدخرة له، ولمن استجاب الله له فيهم من المؤمنين، ليوم الحساب: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» (30: آل عمران) .
الآيات: (42- 45) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 45]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ..» هو خطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ثم هو بعد هذا خطاب عام لكل من هو أهل للخطاب، من المؤمنين والمشركين.. ثم هو تهديد للمشركين، وأخذ لهم وهم متلبسون بجرمهم، وبموقفهم العنادىّ اللئيم من النبي الكريم، ومن كلمات الله سبحانه، التي حملها إليهم..
فالله سبحانه وتعالى مطلع على كل ما يعملون، عالم بكل ما انطوت عليه صدورهم، من تدبير سيىء، ومكر خبيث.. برسول الله، وآيات الله..(7/199)