وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
ولكنّ الجزء الحسن أعظم وأشمل، وإنه لأكثر قدرا، وأثقل وزنا..
فى جانب الإحسان والرضوان..
والصبر والتقوى، هما الزاد العتيد الذي يتزود به المؤمنون لاجتياز هذا الامتحان القاسي، واحتمال آلامه وشدائده.. «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» .. فإن الأمر جدّ ليس بالهزل.
الآية: (187) [سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
التفسير: الذين أوتوا الكتاب هنا، هم اليهود..
وهؤلاء اليهود كان جديرا بهم أن يكونوا فى عداد المؤمنين، بما فى أيديهم من كلمات الله، الداعية إلى الحق، الهادية إلى صراط مستقيم..
ولكنهم لم يصبروا ولم يتّقوا.. الأمر الذي لا يستمسك بدونه إيمان، ولا يبقى بغيره المؤمن فى المؤمنين! لقد نقضوا الميثاق الذي واثقهم الله به، بأن يبيّنوا للنّاس ما فى الكتاب الذي معهم من حق وخير، وألا يكتموا من هذا الحقّ والخير شيئا..
وليتهم إذ أمسكوا هذا الذي معهم من حق وخير، ومنعوه النّاس، وحجبوه عنهم- ليتهم وقفوا عند هذا، فكان لهم فى أنفسهم منه خير.(2/666)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
ولكنهم أفسدوا هذا الخير على أنفسهم وعلى الناس، فغيّروا وبدلوا، وقلبوا وجه الحق باطلا، وأحالوا عذبه ملحا أجاجا، فضلّوا وأضلوا..
إنهم- والأمر كذلك- أشبه بمن كان فى صحراء، لا شىء فيها من ماء أو طعام، وفى يديه شىء من ماء وطعام، ومعه رفقة مسافرة، لا شىء معها، وكان فى هذا ما يبلغ به وبها الغاية إلى حيث الماء والطعام، لو أنّه أظهره لها، وأشاعه فيها.. ولكن كزازة طبعه، وشحّ نفسه، وخبث طويته- كل أولئك سوّل له أن يخفى هذا الزاد بل، وأن يفسده، حتى لا ينتفع به أحد..
فهلك، وأهلك الرفقة المسافرة معه! هكذا كان شأن اليهود مع كتاب الله الذي فى أيديهم.. كتموا الحق الذي فيه، وأفسدوا الخير الذي ينطوى عليه، وقالوا للكافرين والمشركين الكذب على رسول الله، وعلى الكتاب الذي بين يديه، لقاء عرض زائل يعيشون فيه، ودنيا فانية يمسكون بها.. فهلكوا وأهلكوا، وضلّوا وأضلّوا..
وفيهم يقول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (51- 52: النساء)
الآية: (188) [سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)(2/667)
التفسير: هذه الآية أيضا تعريض باليهود، وفضح لمساويهم، ووعيد بالخزي وسوء المصير لهم.
فقد ذكر فى الآيات السابقة قولهم: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» وأنهم بهذا يمسكون المال، ويحادّون الله به..
وهنا- فى هذه الآية- يعرضون فى معرض الفرحين بما أتوا، وهذا الذي أتوه، ليس مما يحمد ويقبل، حتى يفرحوا به.. ولكن الذي فعلوه هو المنكر كلّه، وهو الشرّ كلّه.. إنهم إنما فعلوا الافتراء على الله، ونقض الميثاق الذي واثقهم به، أن يبينوا للناس ما معهم من كلمات الله، وما فيها من هدى ونور، ولم يقفوا عند هذا الحدّ من البخل والشح، فبدّلوا فى كلمات الله وغيروا، لتستجيب لمطالبهم الخسيسة، ودواعيهم الخبيثة..
هذا هو الذي فعلوه، وفرحوا به، وحسبوا أنهم بهذه المنكرات التي أفسدوا بها دينهم وأضلوا بها غيرهم- قد استطاعوا أن يفسدوا على «محمد» دعوته، وأن يغروا المشركين به، ويصرفوهم عنه! «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (26: الأنعام) ولم يقف أمرهم عند هذا المنكر، من تحريفهم لكلمات الله، بل لقد لبسوا النفاق، وظهروا به فى الناس، يظهرون لهم المودة والحب، ويضمرون العداوة والبغضاء، ويرجون لهم النصر بألسنتهم، ويتمنون لهم الهزيمة من قلوبهم..
إنهم يريدون أن ينالوا الحمد والثناء، بما لم يفعلوا مما يستحق الحمد، ويستوجب الثناء.. إنها مجرد كلمات معسولة خادعة، إن انطوت على شىء، فإنما تنطوى على الشر والسوء والفساد..
وقوله تعالى «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» هو بدل من قوله سبحانه:
«لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ... » وإعادة الفعل «تحسبن» هنا(2/668)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
لتوكيد الحكم الواقع عليهم وتقريره، وإلصاقه بهم، بعد أن طال الفصل بالمفعول الأول ومتعلقاته، بين الفعل حسب ومفعوله الثاني، حيث كان مقتضى النظم أن يجىء هكذا: «ولا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب» . فالذين يفرحون هو المفعول الأول، وبمفازة من العذاب هو المفعول الثاني..
ولكن النظم القرآنى وحده هو الذي يحقّق المعنى الذي أشرنا إليه من قبل، وهو توكيد الحكم الواقع على اليهود وتقريره وإلصاقه بهم..
«فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» الأمر الذي لا تجده متمكنا على تلك الصورة فى النظم الذي تمثلناه وطرحناه بين يدى النظم القرآنى.
وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» توكيد للحكم الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» .. إذ أن الفعل حسب فيه معنى الظنّ، الذي يقع من جهة من ينظر إلى اليهود، فيرى أنهم أصحاب دين وأهل كتاب، وأنهم فى الوقت نفسه منحرفون فى دينهم وكتابهم، وهم من أجل هذا أقرب إلى العطب منهم إلى السلامة، وأدنى إلى النار منهم إلى الجنة..
هذا هو الحكم الذي يقع فى ظن من يراهم ويطلع على أحوالهم، وهو ظنّ أقرب إلى اليقين.. ولكنّه مع هذا حكم غير قاطع، إذ لا يملك هذا الحكم القاطع فى مصائر الناس إلا مالك الملك، وصاحب الأمر.. الله ربّ العالمين.. وقد جاء حكم الله فيهم، لتصدق ظنون الناس بهم.. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» وليس العذاب وحده هو المصير الذي يصيرون إليه، ولكنه العذاب الأليم..
الآيات: (189- 195) [سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 195]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)(2/669)
التفسير: فى الآيات السابقة التي بدأت بالحديث عن أحد، والأحداث التي جرت فيها، وما تكشّف فى تلك الأحداث من وجوه المنافقين، وصبر المؤمنين، وكيد الكافرين- فى هذه الآيات طال وقوف المسلمين فى دخان هذه المعركة.. وفى التطلع إلى جوه شهدائهم الذين مثّلت بهم قريش بعد قتلهم، تشفّيا وانتقاما لقتلاهم فى «بدر» ، كما طال الوقوف أيضا فى مواجهة الكافرين والمشركين والمنافقين، الذين عرضهم القرآن الكريم وفضحهم..
وفى هذا الجوّ كانت تهبّ من الله نفحة رحمة وعزاء للمسلمين، فتلقاهم بين الفينة والفينة، وهم فى هذه المسيرة الطويلة مع أحد وأحداثها- فتهدأ أنفسهم(2/670)
وتطيب خواطرهم، وتتجه قلوبهم، وتشخص أبصارهم إلى الله، بالحمد والشكران، لما منّ الله عليهم به من الإيمان، وهداهم إليه، ولكن سرعان ما تنقلهم الآيات القرآنية إلى المعركة وجوّها، فتهتز مشاعرهم تلك المتجهة إلى الله، ثم يعودون إليها بعد أن تلقاهم آية رحمة وعزاء.. وهكذا تظل أنظار المسلمين تتقلب بين الأرض والسماء.. بين معركة أحد وأرضها، وبين رحمة الله ورضوانه..
فكان من تمام رحمة الله بالمسلمين، ورضوانه عليهم، أن ختم هذا الموقف، وأنهى تلك الأحداث، بهذه الآيات التي تتيح للمسلمين لقاء خالصا مع الله، فى آفاق سماوية عالية، بعيدة عن تراب هذه الأرض ودخانها..
ولقاء هنا مع الله، والنفوس مهتاجة، والقلوب مضطربة، من شأنه أن يحدث أثرا مضاعفا فى الاتصال بالله، وملء القلب، والنفس، ولاء وخشية لجلاله وعظمته.. وبهذا يزداد المؤمنون إيمانا بالله، ويقينا بحكمته، ورضى بحكمه، وولاء لأمره ونهيه..
وفى هذه الآيات الكريمة يتحقق هذا اللقاء، الذي يخلص منه إلى نفوس المسلمين وقلوبهم ما أراد الله بهم من خير، أشرنا إلى بعضه، الذي هو قليل من كثير!!.
ففى قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» مواجهة مشرقة بين المسلمين، وبين ملكوت السموات والأرض.. هذا الملكوت الذي هو بعض ما خلق الله، وإشارة إلى بعض مما أبدع وصور!.
وفى هذه المواجهة المطلقة، تنطلق مشاعر المؤمنين، وتتفتح قلوبهم وعقولهم، لترتوى من موارد هذا الملكوت الرحيب، وتنغب من رحيقه العذب الكريم!.(2/671)
وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» - نداء رفيق، ينبعث من الأفق الأعلى، ليقود المؤمنين الذين شخصت قلوبهم وعقولهم إلى ما لله فى السموات والأرض، لترتاد مواقع الحق والخير، فتجد فى هذا النداء الرفيق هاديا يهديها، ورفيقا يؤنسها، ويكشف لها معالم الطريق.. ففى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، آيات مبصرة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.. وإنه لكى يكون للعقل أثره وثمرته فى هذا المجال، ينبغى أن ينصرف بكل وجوده إلى هذا الملكوت، وأن يعيش فيه وله. فذلك هو الذي يفتح له مغالق الخير فيه، ويطلعه على مطالع الحق منه.. وهذا ما يتفق لأولئك «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» حيث يكون ذكر الله، واستحضار عظمته وجلاله. هو دأبهم، وحيث يكون النظر فى ملكوت السموات والأرض، ومطالعة آيات الخالق، واستجلاء روائع حكمته، هو شغلهم.. فى قيامهم وقعودهم، وفى حركتهم وسكونهم، وفى كل لمحة أو نظرة، وفى كل غدوة أو روحة.. حيث هم أبدا فى ملك الله، وحيثما كانوا أو اتجهوا فهم بين يدى ملكوت الله.. وعندئذ يطلع عليهم من آفاق الوجود هذا اللحن الموسيقى الشجىّ الذي يردّده كل موجود. «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا..»
فيتناغمون معه، بنبضات قلوبهم، وزغردة أرواحهم «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا..» «سبحانك» ما أعظم عظمتك، وما أقدر قدرتك، وما أحكم حكمتك، وما أسعد من ينعم بنعيمك، وما أهنأ من يحظى برضاك «فَقِنا عَذابَ النَّارِ» حتى لا تنزعج قلوبنا عن موارد ملكوتك ولا تطيش ألبابنا من النظر فى آيات قدرتك، وروائع حكمتك!(2/672)
وإنه حين يشهد المؤمنون ما يشهدون من جلال ملك الله، وكمال قدرته، وسعة علمه، وروعة حكمته، يتمنّون على الله أن يقيمهم على هذا المورد، لا يتحولون عنه أبدا، فهذا هو النعيم الخالد، الذي ينعم به المؤمنون فى الدنيا والآخرة.
ولجهنم أهلها، الذين يحرمون هذا النعيم، ويلقون بدله عذابا ونكالا وشقاء.. وهذا خاطر إذا خطر بقلوب المؤمنين أزعجهم وأكربهم، وزحزح عنهم هذه اللحظات المسعدة التي يعيشون فيها مع الله، ويهنئوون بالنظر فيها إلى ملكوته.. وهنا يتجسد لهم هذا المشهد الكئيب، الذي ينتظم أهل النّار فى النار، فيناجون الله، ويطلبون غوثه: «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» فإنه ليس خزى بعد هذا الخزي، ولا خذلان فوق هذا الخذلان.. حيث موارد النعيم دانية، ومنازل الرضوان مفتّحة، ثم هم يذادون عن هذا النعيم، وذلك الرضوان، ثم يساقون إلى جهنّم وعذاب السعير.
وفى قلوب واجفة، وأنفاس مبهورة مختنقة، يفرّ المؤمنون من هذه المواجهة لجهنم وأهلها، إلى حيث يلقون الله برحمته ورضوانه: «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا.. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» .. فهذا كل ما بين أيديهم أن يقدموه بين يدى رحمة الله ومغفرته، لينالوا الخلاص من هذا الهول الذي يطبق على المنافقين والكافرين، وليكونوا فى أصحاب الجنّة التي وعد المتقون.. إنهم حين سمعوا منادى الله ينادى بالإيمان ويدعوهم إليه، استجابوا لله، وآمنوا به، وبرسوله.. وهم بهذا الإيمان يطمعون فى رحمته، ويرجون أن تغفر ذنوبهم، وأن تكفّر عنهم سيئاتهم، وأن يموتوا حين يموتون(2/673)
على البر والتقوى، وأن يحشروا مع الأبرار والأتقياء.. فهم على وعد من الله، وعدوا به على لسان رسله: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (97: النحل) .. وهم يحيون أنفسهم وينعشونها بالحديث عن هذا الموعد الكريم: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ.. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. ومعاذ الله.. إن الله لا يخلف وعده..
«فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ» وفى قوله تعالى: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» إشارة صريحة إلى أن المرأة والرجل على سواء عند الله، فى الجزاء، ثوابا أو عقابا، وأنها ليست فى منزلة دون منزلة الرجل، بل هما على درجة واحدة من الأهلية واحتمال التّبعة، وحمل الأمانة.. وكيف لا يكون هذا وهما- المرأة والرجل- من خلق واحد..
فالمرأة تلد الذكر والأنثى.. والرجل يولد له الذكر والأنثى.. والذكر ولد الأنثى، والأنثى بنت الرجل.. فكيف يكون لأحدهما فضل على الآخر قائما على أصل الخلقة؟ فإن كان ثمة فضل فهو فيما يتفاضل فيه الناس، بالعمل فى مجال الخير والإحسان.
وفى قوله تعالى: «ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزونه، هو فضل عليهم من الله سبحانه وتعالى، إذ هداهم إلى الإيمان، ووفقهم للعمل الصالح، الذي أنزلهم منازل الرضا والقبول عند الله.(2/674)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
الآيتان: (196- 197) [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
التفسير: فى هذه المناجاة التي كانت تسبح فيها أرواح المؤمنين فى رحاب الله، وترفّ بها على مشارف الملأ الأعلى، يؤذّن فيهم بالعودة إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، العالم الأرضى، إذ كان لا بدّ من العودة بعد هذه الرحلة المسعدة فى عالم الروح، والحق، والنور، لأن الحياة تدعوهم إليها، ليكونوا مع النّاس، وليعيشوا فى الناس! ومع ما معهم من زاد طيب تزوّدوا به فى تلك الرحلة المسعدة، فإن ما على الأرض من مفاسد وشرور، وما فى النّاس من مفسدين وأشرار، جدير به أن يغتال هذا الزاد الطيب، وأن يحرم أصحابه منه إذا لم يحذروا.
ولهذا فقد تلقّاهم الله سبحانه وتعالى بتلك اللفتة الكريمة- تلقاهم وهم يهبطون إلى هذا العالم الأرضى، ليأخذوا حذرهم من العدوّ الراصد لهم بما فى يديه من مفاتن ومفاسد، وليظلوا هكذا محتفظين بما وقع لأيديهم من خير، فى تطوافهم بالعالم العلوي، وسبحهم فيه..
وكان قوله تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» هو اليد القويّة الرّحيمة، التي تمسك على المؤمنين إيمانهم، وتثبت على طريق الحق والخير خطوهم، فلا يغريهم ما يغدو فيه الكافرون وما يروحون، من متاع الحياة وزخرفها، وما يحصّلون فيها من مال، وما يقع لأيديهم من جاه وسلطان، فذلك كله «مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» .(2/675)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
وفى خطاب النبىّ الكريم بهذا النهى ومواجهته بالتحذير مما فيه..
ما يلقى إلى المؤمنين أن يكونوا على حذر دائم، وإشفاق متصل.. إذ كان النبىّ الكريم، وهو ما هو فى صلته بربه وخشيته منه، وفى رعاية الله له، وعصمته من الزلل- يواجه بهذا التحذير، ويلفت إلى مراقبة نفسه، وحراستها، فإن غير النبىّ من المؤمنين أولى بأن يحذر ويخشى العدوّ المتربص به، إن أراد النجاة والسلامة.
الآية: (198) [سورة آل عمران (3) : آية 198]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
التفسير: انظر إلى ألطاف الله ورحمته بالمؤمنين..
فإن الله سبحانه وتعالى إذ يواجههم بهذا التحذير الذي لو انفرد بهم وحده لأقام نظرهم على طريق الخوف والمراقبة أبدا، إن هم أرادوا الوفاء به، أو كان فى استطاعتهم أن يفوا به! - إن الله سبحانه إذ يواجههم بهذا التحذير من جهة، يلقاهم من جهة أخرى بما يشرح صدورهم، ويدفىء قلوبهم بالأمل والرجاء، فى حياة طيبة ونعيم مقيم..
وبهذا تتوازن النظرتان: نظرتهم إلى العدوّ المتربص بهم، الذي يدعوهم إلى التفلت من طريق الحق ومجانبته، إلى طريق الضلال والغواية- ثم نظرتهم إلى ربّهم، وما يدعوهم إليه من رضوانه، ونعيم جناته.. وهنا يكون لهم بين النظرتين موقف، وإلى أي الطريقين منزع! «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» .(2/676)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
فمن محصّل النظرتين، يجد المؤمنون أن ما يدعوهم إليه ربهم هو الخير، وأن ما أعد الله لهم هو الجدير بأن يحرص عليه، ويعمل العاملون له، وأن ما يسوس لهم به الشيطان، هو الضلال المهلك، والخسران المبين.
الآية: (199) [سورة آل عمران (3) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
التفسير: دعوة الحق والخير، دعوة تقوم على الفلاح والرشد، تستجيب لها النفوس الطيبة، وتتفتح لها القلوب السليمة، وتتقبلها العقول المتحررة من تلقيات الغواة والمفسدين. وإذ كان ذلك شأنها، فإنها ميراث الإنسانية كلها، وحظ مشاع فى الأمم والشعوب جميعا.
ودعوة الإسلام دعوة خالصة للحق والخير، استقبلتها النفوس الطيبة، وتداعت إليها القلوب السليمة، وعلقت بها العقول المتحررة، وسرعان ما كثر جند الله حولها، وتزاحم عباد الله على مواردها، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.
ولكن فى حسد قاتل، وفى عداوة عمياء، وقف اليهود من هذه الدعوة موقف الخصام والكيد.. فبهتوا رسول الله وكذّبوه، وافتروا على الله، فبدلوا وغيّروا فى آياته التي بين أيديهم من كتب الله..
ومع هذا، فإن قلّة قليلة منهم، وكثير غيرهم من النصارى قد خرجوا(2/677)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
عن موكب هذا الركب الضالّ، فآمنوا بالله، وصدّقوا رسوله، كما كانوا مؤمنين بالله من قبل، ومصدقين برسل الله الذين دعوهم إلى الإيمان.
وفى إيمان هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب، ما يؤنس الذين آمنوا من المشركين، ويجىء إليهم بشاهد جديد على صحة دينهم وسلامته، إن كان فيهم من يحتاج إلى هذه الشهادة أو يلتفّت إليها، بعد أن شهد ما شهد من آيات الكتاب المبين، ومعجزات كلماته.
ثم إن فى هذا الإيمان تسفيها لمن وقف من الإسلام هذا الموقف المعادى له من أهل الكتاب، إذ كان فيهم تلك الطلائع الراشدة التي عرفت الحق فيه، ووجدت الخير معه، فآمنت واهتدت، على حين ظلوا هم فى ضلالهم يعمهون.
وفى قوله تعالى: «وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ» إشارة إلى الصلة الوثيقة التي تجمع بين رسالات الرسل ودعوات الأنبياء، وأنها كلها على طريق الحق، والخير.
وفى قوله سبحانه: «لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» تعريض بعلماء اليهود وأحبارهم، وما افتروا على الله، وغيروا وبدلوا فى آياته، لقاء ثمن قليل، ومتاع زهيد!
الآية: (200) [سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
التفسير: بهذه الآية الكريمة تختم سورة «آل عمران» التي كان أبرز ألوانها هذا اللون المصبوغ بدم المجاهدين فى سبيل الله، فى أولى معارك الإسلام، وعلى امتداد الطريق الذي ساروا فيه، من أول يومهم معه، إلى يوم أحد!!(2/678)
فالمسلمون كانوا إلى يوم أحد فى مواجهة عواصف عاتية، تهبّ عليهم من كل جهة، وتطلع عليهم من كل أفق.
كانوا فى مكة قلّة مستضعفين، أخذتهم قريش بالبأساء والضرّاء، ففرّوا بدينهم وانخلعوا عن ديارهم وأهليهم فى غربة موحشة، لا يؤنسهم فيها غير دينهم، ولا يملأ عليهم حياتهم إلا آيات الله يرتلونها، ويسعدون بما تفيض عليهم من رحمة ورضوان.. وكانوا فى المدينة أعدادا قليلة، تتربص بهم قريش، وتعدّ العدة للقضاء عليهم، على حين يمكر بهم اليهود ويؤلّبون الناس على حربهم.
ثم إذا كان يوم بدر استروح المسلمون ريح النّصر، وتنفسوا أنفاس الرضا.. فلما جاءت موقعة أحد ألقت على المسلمين هموما ثقالا، وأطمعت فيهم أعداءهم، فأظهروا لهم ما كانوا يخفون من عداوة، وما كانوا يبيتون من عدوان..
وقد رأينا كيف كانت رحمة الله بالمسلمين ومواساته لهم، فيما نزل من آيات، بعد أحداث أحد.
والصبر هو زاد المؤمنين وعتادهم فى مسيرتهم إلى الله، وبلوغ مرضاته..
وبغير الصبر، وتوطين النفس على ما تكره، لا يستقيم خطو الإنسان أبدا على طريق الحق والخير، إذ كان ذلك الطريق دائما، موحشا، تعترض سالكه الحواجز والمزالق والعثرات! لهذا كانت تلك الآية الكريمة دعوة خالصة للصبر، تغرى المسلمين به، وتحرضهم عليه، وتفتح لهم طريق النجاح والفلاح بيده! «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .(2/679)
فالصبر، والمصابرة، والمرابطة، وتقوى الله، هنّ اللائي يمكّنّ للمؤمن من أن يضع قدميه على طريق النجاح والفلاح، وأن يقطع هذا الطريق إلى غايته، فيظفر برضا الله، ويفوز برضوانه.
والصبر، هو القوة التي يلقى بها المرء المكاره والشدائد، فيحتملها فى إصرار وعزم، وفى غير وهن أو ضعف.. فذلك هو الصبر الذي يدعو إليه الإسلام، ويزكيّه، كما تدعو إليه رسالات السماء، وحكمة الحكماء.. وفى هذا يقول لقمان لابنه فيما يقول القرآن الكريم عنه: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» . (17: لقمان) والمصابرة، هى التجربة الحيّة للصبر، والمحكّ الذي يظهر به معدن الصبر عند الصابرين.. فليس الصبر درجة واحدة.. بل هو- شأنه شأن كل فضيله- درجات متفاوتة، تختلف حظوظ الناس منه، كلّ حسب وثاقة إيمانه، وقوة عزيمته.
وفى المصابرة مغالبة ومصاولة، بين الإنسان وبين الشدائد والمحن، التي يريد قهرها والغلب عليها، سواء كانت تلك الشدائد والمحن ممّا يعتمل فى نفسه من أهواء ونزعات، أو مما تسوق إليه الحياة من بلاء وامتحان! والمرابطة هى الثمرة المباركة من ثمار الصبر والمصابرة.. فإذا صبر الإنسان على المكروه، ثم صابر هذا المكروه على ثقله وامتداد الزمن به، فلم يضعف ولم يضجر، أسلمه ذلك إلى «المرابطة» التي يذلّ فيها المكروه ويصبح شيئا مألوفا.. وهكذا تتحول المكاره مع الصبر والمصابرة إلى أشياء أقرب إلى نفس الإنسان، وأشكل بطبيعته، وهكذا يصبح معتادا لها، مرتبطا بها..
وبهذا يحصل على الثمرة الكبرى، وهى التقوى، التي لا تكون إلا بقهر شهوات النفس وأهوائها، وذلك هو الفلاح المبين والفوز العظيم.(2/680)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
4- سورة النساء
نزولها: نزلت بالمدينة، فهى مدنية، بلا خلاف بين العلماء.
عدد آياتها: مائة وخمس وسبعون آية.
عدد كلماتها: ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون عدد حروفها: ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا أسماؤها: المشهور أنها سورة النساء، وتسمى: سورة النساء الكبرى وتسمى سورة الطلاق: النساء الصغرى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآية الأولى [سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
التفسير: تحمل سورة النساء كثيرا من الأحكام التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الإنسانى.. بين الرجال والنساء، وبين اليتامى والأوصياء، وبين الورثة والمورّث، كما تضمنت حدودا وأحكاما فى شأن الزواج، والمهر، وقوامة الرجل على المرأة، والجهاد فى سبيل الله.. إلى كثير غير هذا، مما ضمت عليه السورة الكريمة..
والمجتمع الذي لا تتماسك فيه روابط الأخوة الإنسانية، ولا تسرى فى كيانه مشاعر الرحمة والمودة التي تنتظم أفراده، هو مجتمع هزيل العود، متداعى البناء، لا يثبت لأقلّ هزّة تمرّ به، أو يقوم فى وجه أية عاصفة تهبّ عليه!.(2/681)
ولهذا كان هذا النداء الكريم الذي بدأت به السورة الكريمة دعوتها إلى الناس جميعا- جامعا تلك المشاعر التي تربط الإنسان بالإنسان، وتضمه إليه، وتؤاخى بينه وبينه..
«يا أَيُّهَا النَّاسُ» النّاس جميعا من كلّ جنس ومن كلّ قوم.
«اتَّقُوا رَبَّكُمُ» فإن تقوى الله، ومراقبته، وملء القلب خشية له، والولاء لجلاله وعظمته- هى ملاك الأمر كله، فى إقامة الإنسان على طريق الحق والخير، وفى الوصول به إلى درجات عالية، فى منازل الكمال البشرى، المتاح للإنسان أن يصل إليه عالم البشر.
«الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» على تلك الصورة الكريمة التي تتجلّى فيها قدرة الله، وحكمته ورحمته.. فالإنسانية كلها ما ظهر منها وما سيظهر، هى ثمرة بذرة واحدة، أنبتها الله بحكمته، ونفخ فيها من روحه، فأعطت هذا الثمر الكثير، المختلف الألوان، المتعدد الطعوم، المبثوث فى كل أفق.
«وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» أي وخلق من هذه النفس، ومن مادتها وطبيعتها زوجا لهذه النفس، مقابلا لها، ومكمّلا لوجودها.
والقصّة التي تقول إن «حواء» خلقت من ضلع آدم، هى من واردات الأساطير، وقد أخذ بها معظم المفسّرين، وفهموا هذه الآية الكريمة عليها.
والآية الكريمة لا تعين على هذا الفهم، ولا تسانده.. وإنا إذ ننظر فى قوله تعالى: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» لنجد الضمير فى «منها» الذي يشير إلى النفس الواحدة، لا يقصدها باعتبارها كائنا بشريا هو «آدم» وإنما يشير إليها باعتبارها مادّة مهيأة لخلق البشر، ومن هذه المادة كان خلق آدم، ومن هذه المادة أيضا كان خلق زوجه، التي يكتمل بها وجوده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى- فى آية أخرى- «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (8: النبأ) .. وليس هذا فى خلق الإنسان وحده، بل هو التدبير الذي قدّره الله لخلق الكائنات الحية كلها، من حيوان(2/682)
ونبات.. ومن يدرى فربّما كان ذلك فى عالم الجماد أيضا، وفى هذا يقول الحق جلّ وعلاء: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (49: الذاريات) ويقول سبحانه: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (7: ق) . فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصورة التي خلق عليها آدم «وحواء» كما تحدّث الأساطير عنها؟ الذّكر أولا، ثم كان من ضلع الذّكر خلق الأنثى؟ .. ذلك ما لا مفهوم له فى علم، ولا معقول له فى عقل! إن آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الذكر والأنثى لا تفرق بينهما فى أصل الخلقة، بل تجعلهما طبيعة واحدة، كان منها الذكر والأنثى، وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» (195: آل عمران) وهذا ما نفهم عليه قوله تعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (36- 39: القيامة) ففى قوله تعالى: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» إشارة صريحة إلى أن الإنسان يحمل فى كيانه طبيعة الذكر والأنثى، أي المادة المخلّق منها الذكر والأنثى، ففى الذّكر، ذكر وأنثى وفى الأنثى أنثى وذكر..
وذلك ما يقرره العلم الحديث، ويزكيّه القرآن العظيم.
ولو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة ونقول فى خلق آدم وحواء بما تقول به الأساطير لكان علينا أن نرتفع بخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء..
فى «الإميبيا» حيث يقوم التوالد والتكاثر فيها على الانقسام فى الجرثومة الواحدة! فهل إلى هذه الجرثومة الإيميبية تمتد أنظار المفسّرين الذين قالوا ان حواء وآدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أولا ثم انقسمت على نفسها فكانت آدم وحواء ثانيا؟ إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا، وهو الذي(2/683)
نقول به، وهو أن آدم وليد دورة طويلة فى سلسلة التطور، وأنّ أول سلسلة للحياة التي تطور منها كانت «الإيميبيا» التي تتوالد بالانقسام!.
«وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» أي من هذين المخلوقين، الزوجين:
الذكر والأنثى، تكاثر الناس وانتشروا، فكانوا هذه الأمم وتلك الشعوب بقدرة القادر العظيم، وصنعة العليم الحكيم.
فهؤلاء هم الناس الذين دعاهم الله سبحانه وتعالى أن يتّقوه.. أن يتّقوا ربّهم، الذي أنشأهم وربّاهم وصنعهم بقدرته، فى أطوار درجت بهم من عالم التراب والنبات، إلى عالم النطف.. ثم إلى الإنسان المسوّى فى أحسن تقويم.
وكلمة «ربّهم» هنا تفيد معنى الرعاية والتربية التي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليها وهو فى دور الخلق والتكوين..
«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» .. وهذا نداء آخر من قبل الحق، يدعو به عباده إلى التّقوى، بعد أن ناداهم بها «ربّهم» وهم عالم الخلق والتكوين.. إنهم هنا بشر سوىّ، يعقل ويفهم، ويدرك..
يعقل أنه لم يولد هكذا إنسانا مكتمل الخلق مرة واحدة، بل تنقّل فى أطوار عديدة، تحت رعاية رحيمة، وبيد حكيمة.. ويفهم أنّه لم يخلق نفسه، كما أن أبويه لم يخلقا نفسيهما، وأن هذا الخلق الخالق عظيم فوق عالم البشر..
ويدرك بعد هذا وذاك أن هذا الخالق هو الذي تنتسب إلى صنعته المخلوقات جميعا، وأنه الإله المستحق للألوهية المنفرد بها، كما أنه الربّ المختصّ بالربوبية، المحمود وحده عليها..
ومن أجل هذا كانت تقوى الله، وخشيته، والولاء له، أمرا لازما، منوطا فى عنق الإنسان، لربّه وإلهه. وهذا نداء الحق جلّ وعلا يذكّره بهذا الواجب، ويدعوه إليه، فإن قصّر أو كفر بهذا الحق، فقد خاب وخسر!(2/684)
وفى قوله: «الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ» إيقاظ لهذا الشعور الذي يسكن كيان «الإنسان» كلّ إنسان، فيهيج فيه دواعى التطلع إلى الله والبحث عنه، والمساءلة به، فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، ففى كل إنسان داع يدعوه إلى البحث عن الله، والمساءلة عن ذاته وصفاته.
فالبحث عن الله، والسؤال عنه، والمساءلة به، أمر شغل الإنسان- كل إنسان- منذ كانت الإنسانية، ومنذ فتحت عينها على هذا الوجود، وأدارت بصرها فيه، وقلّبت وجهها بين السماء والأرض، وفيما بين السماء والأرض.
فالله- سبحانه- يملأ على الإنسان وجوده كله، ويطرق حواسّه كلّها، ويخالط مشاعره ومدركاته جميعها، فيما بثّ الله فى هذا الوجود، من روائع صنعته، وآيات خلقه، الأمر الذي لا يكون معه إنسان من الناس قادرا على الذّهول عنه، أو التفلّت منه، وحبس الحواس، والمشاعر، والمدارك، عن الاشتغال به، فلينظر المرء أىّ إنسان هو؟ إن أراد أن يكون فى الناس، أو أن يكون من الناس.
«وَالْأَرْحامَ» .. قرىء قوله تعالى: «وَالْأَرْحامَ» بالنّصب عطفا على قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» بمعنى اتقوا الله والأرحام..
وتقوى الأرحام هى من تقوى الله، فكما أن لله حقوقا، ينبغى رعايتها والحرص عليها، فكذلك الأرحام- وهم الأقارب، ومنهم الأبوان- لهم حقوق يجب رعايتها والحرص عليها، إذ كان لهما شأن فى تربية الإنسان ورعايته..
فهذا الواجب الذي يؤديه الإنسان لذوى رحمه، هو وفاء لحقوق لهم عليه، وأداء لدين أقرضوه إياه، وقد آن أوان استقضائه منه، حين قدر وعجزوا، وملك ولم يملكوا.(2/685)
وفى الجمع بين اتقاء حقوق الله، وحقوق ذوى الأرحام لفتات.. منها:
أولا: التنويه بشأن الصّلة التي تصل الإنسان بأصوله وفروعه، وأنها صلة يجب أن تقوم على التوادّ والتراحم، وأنّ فى رعايتها مرضاة لله، واستكمالا لتقواه.
ثانيا: الإلفات إلى حقوق الله، وأنها حقوق عظيمة، لا يستطيع الإنسان الوفاء ببعضها، وأن الغفلة عنها، أو التفريط فيها عدوان على الله، وكفران به وبنعمه، وأنه إذا كان فرضا لازما على الإنسان أن يبرّ أبويه، ويرعى ذوى رحمه، بدواعى الانتساب إليهم، فإن حبّه لله، ورعايته لحقوقه، بالتزام تقواه- أوجب وألزم، إذ كان نسبه إلى خالقه وربّه وإلهه هو النسب الحق الأصيل، وما سواه تبع وإضافىّ.
كذلك قرىء قوله تعالى: «وَالْأَرْحامَ» بالجرّ، عطفا على الضمير فى «به» فى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» بمعنى واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام، أي الذي هو ملء خواطركم وأفكاركم، كما هو شأنكم مع أهليكم وذوى أرحامكم. فالإنسان أكثر ما يدور على لسانه، ويجرى فى خاطره، هم أهله وقرابته، وربما شغل الإنسان بأهله عن الله، وهذا ما نبّه الله سبحانه وتعالى إليه وحذّر منه فى قوله سبحانه: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (24: التوبة) ويقول تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» (200: البقرة) .. ومع هذا فإن(2/686)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
والقراءتان- بالنصب والجرّ- يكملان بعضهما- ويكشفان عن وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، ويأخذان على الناس السبيل إلى الانحراف عن سواء السبيل، فى الجمع بين تقوى الله، وبرّ ذوى الأرحام.. فمن الناس من يلتفت بوجوده كلّه إلى الله، ويذهل عن حقّ أهله وذوى قرابته، ومن الناس من تشغله أمور أهله وذوى قرابته فيجور على حقّ الله عنده. والطريق القويم هو أن يرعى الأمرين معا، فلله حقوق يجب أن يؤديها، وللأهل حقوق ينبغى أن يرعاها، وهو ملوم إن قصّر فى حق على حساب الحق الآخر.
الآية: (2) [سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
التفسير: التطبيق العملي للتقوى بشقّيها- تقوى الله، وتقوى ذوى الأرحام- يكون أكثر ما يكون ظهورا فى رعاية حقوق الضعفاء من ذى الأرحام، وهم اليتامى، حيث يكون اليتم غالبا فى كفالة أحد أقاربه.
ولهذا كان أول اختبار عملىّ للتقوى التي دعا الله إليها فى مطلع السورة هو الدعوة إلى رعاية حقوق اليتامى، واتقاء الله فيهم، وفى أموالهم التي هى أمانة فى أيدى الأوصياء، كما أنهم هم أنفسهم أمانة فى ذمة هؤلاء الأوصياء..
فلا تبرأ ذمة الوصىّ حتى يؤدّى تلك الأمانة على وجهها الذي أمر الله أن تؤدّى عليه..
وقد خصّ الأمر الإلهى المال بالذكر، لأن أكثر ما تطمح إليه نفوس الأوصياء وتطمع فيه، هو المال، وما سواه فهو تبع له..(2/687)
فلو أن الوصىّ عفّ عن مال اليتيم، وراقب الله فيه، وبذل له من الجهد والرأى ما يبذل لماله هو- لو أنه فعل ذلك لا استقام أمره كلّه مع اليتيم، فبذل له من الحبّ والعطف، ما ينعش نفسه، ويطيّب خاطره، ويعدّل سلوكه..
والعكس صحيح، فإنه حين تمتد عين الوصىّ إلى مال اليتيم بالخيانة والغدر، فإنه لا يتحرج أبدا بعد هذا من أن يسوق البغض والكراهية لهذا اليتيم، وأن يسومه الخسف والهوان، وأن يرخى له الحبل فى طريق الضلال والفساد، حتى يخلى له الطريق لأكل ماله الذي استباح أكله، واستمرأه.
وفى قوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» أمر قاطع بأداء أموال اليتامى إليهم سليمة كاملة، سواء كان اليتيم لا يزال صغيرا تحت كفالة الوصىّ، أو بلغ رشده واستحق أن يتولىّ أمر نفسه.
وعلى هذا، فليذكر الوصىّ دائما أن مال اليتيم هو مال اليتيم، وأنه أمانة فى يده، مطالب بأن يحاسب نفسه عليها فى كل يوم، وأن يدفعها إلى اليتيم عند أي طلب.. وهذا ما يجعله فى مراجعة ومحاسبة مع نفسه أبدا، غير منتظر هذا اليوم البعيد، الذي قد يمتد إلى سنين، حين يبلغ اليتيم رشده، ويحين وقت الحساب!.
«وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» .
نهى بعد أمر.. وفى هذا النهى، وبالامتثال له، يتحقق الأمر، ويجىء الوفاء به على وجه مرضى سليم..
والخبيث، هو أكل مال اليتيم، وتضييع حقوقه، وإفساد مصالحه أو تفويتها، إهمالا وتقصيرا.. عن عمد أو غير عمد.
والطيب، هو رعاية مال اليتيم، وحسن القيام عليه، وتحرّى أعدل الوجوه لإنمائه وتثميره.(2/688)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
وتبدّل الخبيث بالطيّب، أن يسلك الوصىّ بمال اليتيم مسالك التضييع والإهمال، والاغتيال.. فيكون بذلك قد ترك الطيب الذي أمره الله به، وأخذ الخبيث الذي دعته نفسه إليه، ومال به هواه نحوه.
«وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ» .
هو بيان لبعض المداخل التي يتبدل الأوصياء فيها الخبيث بالطيب، فى شأن اليتامى الذين فى أيديهم، وذلك بأن يضيفوا أموال اليتامى إلى أموالهم، ويحسبوا أنها من بعض ما يملكون، دون أن يكون فى تقديرهم أن مال اليتيم لليتيم وحده، وأنهم أمناء عليه، حرّاس له.
«إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» .
الحوب الذنب والإثم.. والضمير فى «إنه» يعود إلى التصرف المعيب الذي يتصرفه الأوصياء فى أموال اليتامى، وإضافتها إلى أموالهم.. وذلك جور غاشم، وعدوان مبين.
الآية: (3) [سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
التفسير: الذي ينظر فى الآية الكريمة نظرة مجرّدة، تقطعها عن سابقها ولاحقها من الآيات، لا ينكشف له وجهها، ولا يستقيم له معناها.. ومن هنا كان اضطراب كثير من المفسّرين حيالها، وتخبطهم فى التوفيق بين شرطها وجوابها.(2/689)
فالشرط المشروط هنا وهو الخوف من ظلم اليتامى، أو بمعنى آخر طلب العدل والتماس الإحسان فى اليتامى- هذا الشرط معلق تحقيقه بنكاح ما طاب للأوصياء من النساء..
والأمر فى ظاهره، على النقيض من هذا الحكم الذي يجمع بين الشرط والجزاء.. فالعدل فى اليتامى لا يقوم أبدا على نكاح ما طاب للأوصياء من النساء مثنى وثلاث ورباع،، إذا أخذ على إطلاقه، بل إن ذلك ربما كان داعية إلى العدوان على اليتيم، والجور على ماله، وفاء لمطالب الزواج والأولاد الكثيرين، الذين يثمرهم هذا الزواج المتعدد.
ولكن وصل الآية بما قبلها وما بعدها من آيات، يجعلها بمكانها الصحيح من الصورة العامة التي ترسمها مجموعة الآيات الأولى، من السورة، تلك الصورة التي تدعو إلى تقوى الله فى محارمه، وتقواه فى ذوى الأرحام عامة، وفى الأيتام منهم خاصة..
وقد دعت الآية السابقة على هذه الآية- دعت الأوصياء على اليتامى أن يؤتوهم أموالهم، وأن يؤدوها إليهم كاملة، لا تفريط فيها، ولا عدوان عليها.
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى:
«وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» - يجىء قول الله هذا، تأسيسا على ما أمر به فى الآية السابقة، وتقريرا له..
فقوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا.. الآية» هو خطاب لمن استجاب لقوله سبحانه: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» أو لمن ترجى منه الاستجابة لهذا الأمر، أو هو خطاب للمؤمنين جميعا، وإلزام لهم أن(2/690)
يستجيبوا له، إن كانوا مؤمنين حقا، لأنه أصل من أصول الإيمان، ودعامة من دعائمه.
وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان من شأن المؤمنين أن يستجيبوا لهذا الأمر وأن يحققوه، فإن هناك أمرا آخر يلحق بهذا الأمر، إذا هم فعلوه، عظم أجرهم، واستقام على التقوى طريقهم، وهذا الأمر هو العدول عن زواج اليتيمات، إلى زواج غيرهن من النساء.. فذلك أبعد للشّبه، وأقطع لنوازع الطمع فى ما لهنّ.
وعلى هذا يكون المعنى هكذا..
أما وقد خفتم أيها الأوصياء على اليتامى، أن تأكلوا أموالهم بالباطل، تريدون بهذا مرضاة الله، وتبتغون رضوانه- فإن من تمام هذا الأمر أن تخافوا ظلم اليتيمات فى أنفسهن، بعد أن خفتم ظلمهن فى مالهن.. فإن كنتم على خوف من ظلمهن وتريدون أن تجنبوا أنفسكم هذا الموقف، فدعوهن لشأنهن ولا تتزوجوهنّ وهنّ فى أيديكم، لا يملكون من أمرهن شيئا، وإن لكم فى غيرهن من النساء ما تشاءون.. مثنى وثلاث ورباع، ففى هذه التوسعة لكم فى زواج أكثر من واحدة نعمة من نعم الله عليكم، ومن شكر هذه النعمة ألّا تطمح أعينكم إلى اليتيمات، وما فى الزواج بهن من حرج.
وفى قوله تعالى: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» ما يشير إلى أن اليتيمات المرغوب عن زواج الأوصياء منهن، هن الصغيرات اللاتي لا يصلحن للزواج، ولهذا كان الأمر الإرشادى بالزواج: من «ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» أي البالغات، الصالحات للزواج، اللائي تشتهين النفس.
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» دعوة إلى العدل بين(2/691)
الزوجات، والتسوية بينهن فى الحقوق والواجبات، وفى هذا ضمان لسلامة الأسرة واستقرارها، ورفع كثير من أسباب الخلاف بينها.
وإذا كانت التسوية بين الزوجات تسوية مطلقة، والعدل بينهن عدلا كاملا- أمرا غير ممكن، وإن أمكن فى حال فلن يمكن فى جميع الأحوال- إذا كان ذلك كذلك، فقد أشار الإسلام إلى الدواء الناجع لسلامة الإنسان فى دينه، فلا يظلم، وسلامته فى نفسه، فلا يقع بين مهاب العواصف من الشقاق والخلاف- هذا الدواء هو الاقتصار على زوجة واحدة والاكتفاء بها: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» .
وفى قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» إشارة إلى دواء آخر يتداوى به من يرغب فى التزوج بأكثر من زوجة! فهناك «الإماء» وهن ما ملك المرء من الجواري، فله أن يتمتع بما شاء منهن.
وفى قوله سبحانه: «ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» بيان للحكمة من الاقتصار على زوجة واحدة، أو التسرى بالإماء.
والعول: الميل، يقال عال الميزان عولا، أي مال.
والعول: الزيادة، وتحمل الزيادة هنا على الزيادة فى الظلم، أو الزيادة فى كثرة الأولاد والنفقات..
وعلى هذا يمكن أن يحمل العول هنا على هذه المعاني كلها.. الزيادة فى الظلم، والزيادة فى العيال والنفقة، ثم الحاجة والفقر! وقد يسأل سائل: أليس فى التسرى بالإماء كثرة فى العيال، وكثرة فى النفقة؟ فكيف تكون الدعوى إلى التسرى بهن، ثم يكون التعليل لذلك ما علل به وهو عدم العول؟(2/692)
والجواب على هذا، هو أن التسرّى بما ملكت اليمين، لا يزيد فى أعباء الحياة على من تسرّى بما ملكت يمينه منهن، إذ كنّ فى كفالته، قبل التسرى وبعده..
وقد أجيب عن كثرة العيال، بأن الإنسان لا يحرص على طلب الولد من أمته، ولا يتحرّج فى العزل عنها، برضاها أو بغير رضاها.
ولا بد هنا من كلمة حول تعدد الزوجات، وإباحة الإسلام له، ومقولات الذين يرجمون الإسلام بمفترياتهم عليه، فى شأن هذا التعدد.
تعدد الزوجات: ضوابطه، وحكمته
إن الذين يشغبون على الإسلام، ويشوشون عليه.. يقولون فيما يقولون عن هذا التعدد: لماذا يباح للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة، وأن يجمع بين أكثر من واحدة إلى أربع، ولا يباح للمرأة أن تتزوج أكثر من رجل، وأن تجمع بين أكثر من رجل إلى أربعة؟ أليس هذا هو العدل والمساواة.. إن كان عدل ومساواة؟
ونقول: إنه لكى ننظر إلى هذه المسألة، نظرا صحيحا مستقيما، ينبغى أن ننظر إليها من جانبيها معا.. جانب المرأة وجانب الرجل، كلّ على حدة، ثم كلّ فى مقابل الآخر:
ففى جانب المرأة نجد:
أولا: أن الطبيعة قد جعلت مواليدها من الإناث أكثر من الذكور، سواء ذلك فى عالم الإنسان، أو الحيوان والطير.. وحتى فى النبات.
وقد يكون هذا التدبير المتصل بأصل الحياة، لكى تتكاثر المواليد، وتعمر هذه الأرض، إذ كانت الإناث هى الوعاء الحامل للمواليد، وعلى قدر هذه الأوعية وكثرتها يكون النسل وكثرته.(2/693)
ثانيا: هذه الحروب- وهى سنّة من سنن الحياة البشرية- تذهب بكثير من الرجال، الأمر الذي إذا أضيف إلى سابقه قلّت به نسبة الرجال إلى النساء، إلى درجة بالغة الخطر، إن لم يكن هناك عامل آخر، يوازن هذا العامل ويقلل من خطره.
ونسأل: إذ لم يكن هناك عامل معدّل لهذا التفاوت البعيد، فى النسبة بين أعداد النساء وأعداد الرجال- فأين يذهب هذا العدد العديد من النساء، اللائي لا مقابل لهن من الرجال؟
جواب واحد لا غير لهذا السؤال: هو أن يمتن عانسات إذا تعفّفن- وقليل ما هنّ، أو يحيين حياة بهيمية، مباحات لكل رجل، إذا استجبن لغريزتهن- وما أكثرهن! أفهذا؟ أو أن تسكن المرأة إلى رجل مع أخرى غيرها أو أخريات، متحصنة فى بيت الزوجية، مستظلة تحت جناح رجل يحميها، ويغار عليها، ويخرس قالة السوء فيها؟
ثم لنسأل:
وهل مع هذه الإباحة المطلقة، وجد الرجال فرص الحياة وظروفها، مؤاتية لهم، فسكن الواحد منهم إلى أكثر من واحدة؟
إن الواقع يشهد بأن أفرادا قلة- يعدّون فى حكم الشاذ- هم الذين استعملوا حق الإباحة هذا.. أما الغالبية العظمى من الرجال فقد رغبوا عن هذا المباح، واكتفوا بامرأة واحدة، قطعوا الحياة معها.. بل وما أكثر الذين تتوفى زوجاتهم ثم لا يتزوجون بعدهن، وفيهم بقية شباب وصحة! إن التعدد- الذي أباحه الإسلام- لم يمكن على سبيل الإلزام، وإنما(2/694)
كان بابا من أبواب الرحمة، تفيد منه المرأة- غالبا- أكثر مما يستفيد منه الرجل، حين لا تجد المرأة طريقا تسكن فيه إلى رجل، إلّا مع أخرى أو أخريات، يشاركنها الحياة الزوجية معه.. فهى فى هذه الحياة- على ما بها- خير من حياتها بلا رجل! ثم نسأل أيضا:
أهناك- فى هذه الإباحة- ما يرغم المرأة على أن تشارك غيرها فى الزوج، أو يشاركها غيرها فيه؟
إن للمرأة الأولى أن تطلب الطلاق إذا تضررت من المرأة الثانية، كما أن للمرأة التي يراد لها أن تكون ثانية- لها أن ترفض الزواج من هذا الزوج..
وهكذا فى الثالثة والرابعة! ثم إن لأىّ امرأة أن تشترط عند الزواج أن تكون العصمة بيدها..
الأمر الذي يفتح لها الطريق إلى الخلاص من الزواج إذا تضررت منه! وندع المرأة.. وننظر فى جانب الرجل، فنجد:
أولا أن الرجل يحتفظ بقوته وحيويته مدة أطول من المرأة، التي تسبقه إلى الوهن والضعف، بما تعانى من الحمل، والولادة، والرضاع، والتربية.
وفى هذه الحال، قد يرى بعض الرجال أن يمسكوا بالزوجة- على ما بها- وأن يحصنوا أنفسهم، ويحفظوا دينهم ومروءتهم بزوجة أخرى.
وثانيا: قد تصاب المرأة بمرض يعجزها عن الوفاء بحاجة الزوج والقيام على شئون البيت، وهنا تبدو الحاجة إلى امرأة أخرى، تؤدى الوظيفة التي عجزت عنها صاحبتها، وعندئذ يكون من الإعنات والحرج معا أن يحجر على الرجل، فلا يجد سبيلا إلى الخروج من هذا الوضع الأليم!(2/695)
وفى إباحة الزواج للرجل بامرأة أخرى، ما يتيح له فى تلك الحال أن يفكر تفكيرا هادئا عاقلا، وأن يتخيّر لنفسه أي الأمرين أصلح له..
الزواج بامرأة أخرى أو الصبر على ما هو فيه؟ وكثيرا ما يكون الأمر الأخير هو الرأى الراجح، الذي يميل إليه، ويأخذ به فى أغلب الأحوال، رعاية للعشرة الزوجية، ووفاء لحقّ ما بين الزوجين، من ألفة ومودة.. وذلك حين يكون للرجل- بسبب هذه الإباحة- فضل، يتعزّى به، ويترضّى إنسانيته، بما كان منه من إيثار وتضحية!! بقي أن ننظر إلى هذا الموقف من جانب آخر، وهو أن يغلق فى وجه الرجل باب الخلاص من هذا الضيق، الذي يعيش فيه تحت سلطان الإلزام والقهر، دون أن يكون للإختيار، والشعور بمعاني التضحية والإيثار، مكان هنا، إزاء هذا الإلزام القاهر، الذي يحكم عليه فيه بأن يعيش مع امرأة مريضة، عاجزة، أو عقيم لا تلد! ونسأل: كيف تكون حياة الرجل فى هذا السجن الرهيب المخيف؟
بل كيف تكون حياة المرأة نفسها مع هذا الرجل، الذي يراها فى تلك الحال حكما أبديا عليه بالشقاء والبلاء؟ إن المرأة فى هذه الحال تكون أشقى من الرجل، إذ تجد نفسها أنها لعنة مفروضة على الرجل، وأنه لو كان لها الخيار فى إفساح الطريق له لما ترددت فى حلّ الرباط الذي يربطها به، ولطالبته بذلك قبل أن يطالبها هو به! ثم انظر ماذا يكون من العواطف الإنسانية، التي يوقظها هذا الشعور الذي يسيطر على الزوجين فى ظل التشريع الإسلامى الذي أباح لهما الانفصال، فى تلك الحال، كما أباح للرجل أن يتزوج بأخرى، يضمها إلى زوجه الأولى..
إن كلّا منهما يجد أنه فى سعة من أمره، وأنه يملك وجوده وإرادته، كما أنه(2/696)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
يحتفظ بمروءته وشخصيته.. فالرجل إذا احتفظ بامرأته فى حالها تلك، ولم يتزوج عليها، أرضى جوانب كثيرة من عواطفه، تعوّضه كثيرا مما يلقى من ضيق وضرر معها.. والمرأة تشعر بأنها غير مفروضة عليه، وأنه أمسك بها بمحض اختياره، وآثر ألا يضارّها بأخرى حسب إرادته وتقديره..
وأن الجانب الإنسانى فيهما هو الذي يمسك برباط الحياة الزوجية بينهما..
وإذن، فهذا التعدّد الذي يشنّع به أعداء الإسلام على الإسلام، وينادون به على الملأ أنه من الموروثات البهيمية التي ورثها الإنسان عن الحيوان- هذا التعدد هو دواء لأدواء كثيرة، فى محيط المرأة خاصة.. فى أغلب الأحيان، كما أنه شفاء لبعض العلل التي تصاب بها الحياة الزوجية فى بعض الأحيان! وهذا الدواء الذي يقدّمه الإسلام هنا ليس مفروضا فرضا لازما على كل إنسان، وفى كل حال، بل إنه- شأنه شأن كل دواء- محكوم بحكم الحاجة، وبحسب الحالة.
فمن خرج به عن هذا الحكم- حكم الدواء عند الحاجة- فقد ظلم نفسه، وجاوز حدود الله، وليس على الإسلام، ولا على شريعة الإسلام شىء من عدوانه وظلمه.
الآية: (4) [سورة النساء (4) : آية 4]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
التفسير: الصّدقات: جمع صدقة، وهى المهر.. لأنها من مادة الصّدق الذي يلزم به المرء نفسه، وينطق به عن اطمئنان ورضى.. والمهر يقدمه الرجل(2/697)
للمرأة عن رضى وطيب نفس.. ومنها الصّدقة التي يبذلها الإنسان فى مجال الإحسان من غير إلزام.
والصدقة بضمّ الدال، والصّدقة بفتحها.
وفى استعمال الأولى فى المهر، والثانية فى التصدّق إعجاز من إعجاز القرآن! فالصدقة- بالضم- أثقل نطقا من الصّدقة بالفتح.
وكذلك هما على هذا الشأن، فى مجال التطبيق العملي لهما..
فالمهر ثقيل فى قدره، ومادته، قد يتكلف له المرء كثيرا من الجهد حتى يحصل عليه، وقد يقتطع له قدرا كبيرا من ماله، الذي هو بعض نفسه.. ومن هنا كان ثقله على النفس، ثم كان ثقله على اللسان! وليس كذلك الصّدقة، فإن محملها خفيف، يؤديها الإنسان عن سعة، ويجود بها من فضل ماله، فلا يكاد يحسّ بها.. «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» .. فقد تكون الصدقة بشقّ تمرة، كما فى الحديث الشريف: «تصدّقوا ولو بشقّ تمرة» وقد تكون بالكلمة الطيبة، كما فى الحديث أيضا: «الكلمة الطيبة صدقة» .
والجامعة بين الصدقة (المهر) والصّدقة (الإحسان) أن كلّا منهما من باب البرّ والخير، وأنهما من موارد مرضاة الله ورضا الناس.
وقوله تعالى: (نِحْلَةً) أي فرضا وشريعة.
ولأن للرجال على النساء درجة، فقد أوجب الله على الرجال أن يقدّموا بين يدى المرأة عند طلب الزواج منها مهرا، تهيىء به نفسها، وتصلح به من شأنها قبل أن تجتمع إليه، وفى هذا ما يشعرها بمكانة الرجل منها. وأنه هو الذي سيحمل الجانب المادىّ عنها، فى السعى للرزق والنفقة، وهذا ما يشير إليه(2/698)
قوله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» (34: النساء) .
والمهر حقّ للزوجة، يجب أن يؤديه الرجل إليها، فإن هو صار إلى يدها ثم طابت له نفسها عن شىء منه، فذلك فضل منها، وليس على الرجل من بأس فى أن يقبله، ويتصرف فيه كما يتصرف فيما يملك.
وأقل المهر أىّ مال يدخل الفرحة على المرأة وقد يجزى عن المال العمل، كما زوّج شعيب ابنته من موسى، بالخدمة عنده سنوات معدودات.
ولا حدّ لأكثره، حسب يسار الرجل وقدرته.. إنه باب من أبواب الإحسان، ومسلك من مسالك الخير، وليس ثمة حرج فى أن يبلغ المهر من الكثرة ما يبلغ، مادام له فى مال الرجل سعة، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» (20: النساء) .
والمكروه فى المهر أن يكون عن مماكسة ومساومة بين الرجل، وزوجه، أو بينه وبين أهلها أو يكون فيه إرهاق للرجل بما لا يحتمله ماله، ولا يتسع له كسبه.
ذلك أن «المهر» ليس إلا مدخلا إلى علاقة إنسانية، وطريقا إلى رابطة نفسية، ومن أجل هذا يجب أن يكون النظر إليه من وراء هذه العلاقة وتلك الرابطة.!
وفيما قصّ الله سبحانه وتعالى من تلك الصورة الكريمة التي زوّج بها نبىّ الله «شعيب» نبىّ الله «موسى» ابنته- فى هذا ما يكشف عن أدب عال، وحكمة رائعة، ينبغى أن تكون فيها الأسوة فى هذا المقام.. يقول الله تعالى على لسان «شعيب» مخاطبا «موسى» :
«إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ(2/699)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ»
ويجيبه موسى بقوله: «ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» (27- 28 القصص) وهكذا يقضى الأمر بينهما.. فلا مساومة ولا مماكسة!!
الآية: (5) [سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
التفسير: هذا نهى يتوازن مع الأمر السابق فى قوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» .. ولكلّ من الأمر والنهى موضعه، وكلاهما يحقق مصلحة عامة، ويؤدى حقّا، ويبطل باطلا.
وقد أشرنا من قبل إلى ما يحققه قوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» .
وهنا ينهى الله سبحانه وتعالى عن أن ندع أموال السفهاء فى أيدى السفهاء، إذ كان ذلك مدعاة لإفسادهم أولا، وتضييع مصالحهم ثانيا، ورسم مثل سيئة للعبث بالمال وإهدار المنافع المنوطة به فى المجتمع، ثالثا.
لذلك ألزم الله سبحانه وتعالى المجتمع أن يتصدّى لهذه الظاهرة، وأن يقف لها فى يقظة وحزم، فلا يدع لأيدى السفهاء ما فى أيديهم من أموال يفسدونها، ويفسدون بها فى الأرض..
وفى قوله تعالى: «أَمْوالِكُمْ» بإسناد المال إلى غير أهله، وهم أولو الأمر(2/700)
فى المجتمع- فى هذا ما يعطى المال وصفا غير الوصف الذي يكون له وهو فى حوزة الأيدى التي تعبث به، وتستخف بشأنه.
فالمال- فى حقيقته- أداة من أدوات النفع، الخاص، والعام معا..
هو قوة فى يد صاحبه، يدفع به عن نفسه قسوة الحاجة، ولذعة الحرمان، ومطية يمتطيها إلى غايات كثيرة، يجنى منها الخير لنفسه، ولأهله.
ثم هو- أي المال- حركة عاملة فى المجتمع، تصبّ فيها جهود أصحاب المال، وتتلاقى على طريقها وجوههم التي يقصدون إليها فى تثمير المال وتنميته! وفى صيانة هذه القوة من عوامل الوهن والضعف، وفى تنظيم هذه الحركة وإقامتها على طريق مستقيم- فى هذا صيانة للفرد، وحياطة له من أن تضطرب حياته وتتعثر خطواته، وفى هذا أيضا، صيانة للمجتمع، وحياطة لمواطن القوة منه، والحياة فيه.
فالمال فى يد من لا يحسن التصرف فيه، ولا يرعى قدره وحرمته، هو فى تلك الحال فى يد غير أمينة عليه، وغير مستأهلة له.. ومن حق المجتمع أن ينزع هذا الحق منه، ويضعه فى يد أمينة، تحافظ عليه وترعاه لحساب السفيه حتى يرشد، أو يموت، فيكون لورثته من بعده.
وفى قوله تعالى: «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» إشارة إلى ما للمال من شأن فى الإسلام، وإلى النظرة التي ينظر بها إليه، وأنه قوام الحياة، وملاك عمرانها، ومبعث سلامة المجتمع وقوته! فالذين يتحدثون باسم الإسلام، مهوّنين من شأن المال، أو مستصغرين خطره، أو مستخفّين به وبأهله، إنما يفترون على الإسلام، وينطقون عنه زورا وبهتانا.(2/701)
وقوله تعالى: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» هو دعوة إلى من بيده مال السفيه، أن يرزقه منه، ويقضى مطالبه، من سكن وطعام وكسوة، وغير ذلك مما يضمن له حياة مستقرة، فى حدود ما يتسع له ما له، إذ أصبح ولا مال بين يديه.. فالعدل يقضى بأنه إذا حرم التصرف فيما يملك، ألا يحرم الانتفاع مما يملك! وفى قوله تعالى: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها» ما يشير إلى أن يكون الإنفاق عليهم من صميم مالهم، لا من حواشيه، بمعنى أن ينفق عليهم بالقدر الذي يسمح به ما لهم ويتسع له..
فكلمة «فيها» ظرف يحتوى المال كله، ويشتمل عليه.. ومن هذا المال كله يكون الإنفاق على السفيه.. ولهذا عدل القرآن عن التعبير بكلمة «منها» بدل «فيها» التي جاء عليها النظم القرآنى.. إذ أن «من» تفيد التبعيض بخلاف «فى» التي تفيد الإحاطة والشمول.
وقوله تعالى: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» أدب سماوىّ، يوصى به الله سبحانه الأوصياء الذين يقومون على أموال السفهاء، أن يلطفوا بهم، ويوادّوهم، ويلقوهم بالكلمة الطيبة، التي تطيب خواطرهم، وتنزع من صدورهم مرارة الألم الذي وجدوه فى انتزاع ما فى أيديهم من مال..
فالذى أخذ به هؤلاء السفهاء من انتزاع أموالهم من أيديهم، هو عدوان عليهم، اقتضته المصلحة بهم، وبالمجتمع.. وإنه لكى يطبّ الإسلام لهذا الداء، وحتى لا يعالج الداء بالداء، دعا إلى هذا الأدب الرفيع العالي، الذي تطيب به نفوس هؤلاء المرضى، وتسلّ به السخائم من قلوبهم، وذلك طب سماوى تتم به تلك العملية الجراحية فى مشاعر الإنسان ووجدانه. دون ألم!(2/702)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
الآية: (6) [سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
التفسير: فى آية سابقة حذّر الله سبحانه وتعالى من أكل مال اليتامى، أو التهاون فيه، أو التضييع له، وفى هذه الآية، يدعو سبحانه القومة على اليتامى، من أولياء وأوصياء أن يضعوهم دائما تحت التجربة والاختبار، لسياسة أموالهم، وتدبيرها بأنفسهم، وذلك بأن يشركوهم معهم فى بعض التصرفات، ويطلعوهم على طرق الأخذ والعطاء بين الناس، «حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» أي العمر الذي يصلحون فيه للزواج، وهو سن النضج والبلوغ، واستبان رشدهم، وصلاحيتهم للاستقلال بالتصرف فى أموالهم- دفعوها إليهم كاملة، وأشهدوا على ذلك أهل الثقة والأمانة.
وفى قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا» تحذير للأولياء والأوصياء على اليتامى، من أن ينزع بهم الطمع فى مال اليتيم إلى استغلاله والمبادرة باجتناء ثمرته لهم، قبل أن يخرج من أيديهم إلى أصحابه اليتامى، عند رشدهم.
وقوله تعالى: «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» دعوة للأغنياء من الأوصياء، أن يؤدوا هذا العمل حسبة لله، ليؤجروا عليه، وألا يضيعوا هذا الأجر نظير مال هم فى غنى عنه، إذ كان الله قد آتاهم من فضله ما يغنيهم عن غيرهم.(2/703)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
وليس هذا الأمر للأغنياء على سبيل الوجوب، بل هو للاستحباب والندب.. ولهذا جاء التعبير عنه بقوله تعالى: «فَلْيَسْتَعْفِفْ» ولو كان للإلزام والوجوب لكان النظم هكذا: «فليعفّ» .. لأن فى الاستعفاف تردّد ومعاودة للفعل بعد الترك، والترك بعد الفعل.. وهكذا.
الآيتان: (7- 8) [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 8]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)
التفسير: هنا يجىء ذكر الميراث، وأحكامه، بعد ذكر اليتامى، ومالهم على الأوصياء- الذين هم من أقارب المورّث غالبا- من حقوق..
فاليتم لا يكون إلا بعد موت الوالدين، وخاصة الأب، وكذلك الميراث، لا تقوم أحكامه إلا بعد موت المورّث.
وفى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.. الآية) حكم عام مجمل للميراث، وستجىء الآيات بعد ذلك بأحكامه مفصلة مخصّصة.
وقوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» هو تدبير حكيم، من لدن عليم خبير، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور..
فهذا مال ساقه القدر- على غير انتظار- لجماعة من قرابة المتوفّى،(2/704)
وهاهم أولاء يقتسمون هذا الميراث فيما بينهم، ويذهب كل واحد منهم بنصيبه منه..!
هذا جانب من الصورة التي تبدو للعين بعد موت المورّث، وعند تقسيم تركته، وهو الجانب البارز الواضح منها..
ولكن هناك جانب آخر لتلك الصورة، لا تراه إلا البصائر النافذة، ولا تشعر به إلا القلوب المتفتحة! ويضمّ هذا الجانب من الصورة أشتاتا من الناس.. الأقارب الذين لا نصيب لهم فى الميراث، واليتامى الفقراء، والمساكين.. وهؤلاء جميعا تحدّق عيونهم فى هذا الميراث، وتتلمظ شفاههم به، ويسيل لعابهم إليه.. فإذا انتهى الموقف، وانفضّ الجمع، وذهب كل وارث بنصيبه، دون أن ينال هؤلاء الواقفون على الجانب الآخر شيئا من هذا الميراث، امتلأت نفوسهم غيظا، واحترقت أكبادهم حسدا، وهذا من شأنه أن يثير العداوة والبغضاء فى الجماعة، ويوقع الشرّ بينها.
والإسلام حريص على أن يسدّ هذه الثغرات، التي تهبّ منها على المجتمع ريح الفتنة، وعواصف الفرقة! وقد جاء هنا بتدبيره الحكيم، فأعطى كل ذى حقّ حقّه، وأقام موازين العدل والإحسان بين الناس، وجمعهم جميعا على المودة والرحمة.
ومن تدبير الإسلام فى هذا أن جعل لهؤلاء الذين يحضرون قسمة الميراث من الأقارب غير الورثة، ومن اليتامى الفقراء، والمساكين- جعل لهم نصيبا من هذا الميراث.. تطيب به خواطرهم، وتسد به مفاقرهم، دون أن يكون فى ذلك ما يضير الورثة، أو يجور على حقهم فى مال مورثهم.(2/705)
فهذا المال الذي يبذلونه لمن حضر القسمة من هؤلاء المذكورين فى الآية، هو شىء قليل، متروك تقديره للورثة أنفسهم، ولداعى الخير عندهم، خاصة فى هذا المشهد الذي يذكرهم بالموت، وما وراء الموت.. الأمر الذي من شأنه أن تلين له القلوب القاسية، وتسخو فيه الأبدى الشحيحة! وانظر إلى تدبير الله، وإلى تقديره فى هذا الأمر..
(فأولا) الشرط الذي يستحق به هؤلاء المذكورون فى الآية- شيئا من التركة، هو أن يكونوا بمحضر من قسمة التركة، سواء أكان هذا الحضور واقعا أو حكما، بمعنى أن يكونوا فى مجلس القسمة، أو على علم به، لقربهم منه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ..»
(وثانيا) القدر المطلوب لهؤلاء المذكورين من مال المتوفّى هو متروك لتقدير الورثة، وما تفيض به مشاعر الخير فى نفوسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» فهذا الرزق الذي يرزقونه هو من بعض هذا المال ومن حواشيه لا من صميمه، حتى لا يتأذّى الورثة بالعدوان الجائر على نصيبهم، وهذا على خلاف ما جاء فى الدعوة إلى الإنفاق على «السفهاء» من مالهم الذي فى أيدى الأوصياء، حيث قال تعالى: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ» .
وفى قوله تعالى: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» دعوة إلى الإحسان بالقول، بعد الإحسان بالعمل.. فالكلمة الطيبة هنا تسدّ النقص الذي قد يستشعر به من يصيبهم شىء من هذا المال الذي بما يراه بعضهم قليلا إلى جانب ما ذهب به الورثة من الميراث.
وبهذا، وذاك تطيب النفوس، وتنقشع سحب العداوة، ودخان الأحقاد، بين جماعة تربطها روابط القرابة والإخاء!(2/706)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
الآيتان: (9- 10) [سورة النساء (4) : الآيات 9 الى 10]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
التفسير: وفى محضر الموت، وبمشهد من الاستبداد بمال الميت، الذي جمعه، واجتهد فى جمعه، ثم صار إلى يد غيره، وربما إلى يد من كان يبغض أو يعادى من ورثته- يتمثل للحريصين على جمع المال من كل وجه، والمترصدين له بكل سبيل، غير متحرجين ولا متأثمين- يتمثل لهم مصير هذا المال الذي ركبوا له هذه الطرق، وجنوا به تلك المآثم، فيخفّ وزنه عندهم، ويقلّ حرصهم عليه، وإلقاء أنفسهم إلى التهلكة من أجله.. وهنا تصغى الآذان للنصح، وتتفتح القلوب للعظة فيما يتصل بالمال، والتعفف فى كسبه وجمعه!.
ولا يدع القرآن هذه الفرصة تمرّ، دون أن ينتهزها، ليبلغ من القلوب الغاية التي يريدها، لحفظ حقوق اليتامى، وصيانة أموالهم، وحراستها من طمع الطامعين، وخيانة الخائنين..
لهذا جاء قوله تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ» - جاء مذكرا الأحياء بهذا الذي هم صائرون إليه هم وأموالهم، عارضا عليهم فى هذا الموقف ما يهزّ مشاعرهم، ويثير أشجانهم..
إنهم سيموتون كما مات هذا الميت الذي تقاسموا تركته، أو تقاسمها ورثته وهم يشهدون..
وإنهم سيتركون من بعدهم أطفالهم، الذين سينضمون إلى موكب الأيتام،(2/707)
كما ترك هذا الميت أطفاله، وانضموا إلى جماعة الأيتام، ممن مات آباؤهم قبله.
فليرعوا حق الله إذن، وليخشوه فى هؤلاء اليتامى الذين فى أيديهم، وليصونوهم ويصونوا أموالهم، وليعاملوهم كما يرجون أن يعامل أبناؤهم من بعدهم.
وإنه ليس هناك من صورة مثل هذه الصورة، التي يعرضها القرآن هنا، فى إثارة العواطف، وفى استجلاء العبرة والعظة، حيث يتمثل منها للحى خاتمه مطافه فى هذه الحياة، ومصير هذا المال الذي جمعه، والذي يكاد يذهب بدينه ومروءته جميعا..
وفى قوله تعالى: «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً» نداء سماوى كريم، يلتقى مع تلك المشاعر التي حركتها الصورة التي يتمثلها من يقرأ الآية الكريمة وينظر فيما يطلع عليه منها، من مشاهد الموت، وما بعد الموت.
والقول السديد، الذي تدعو إليه الآية، هو القول الذي يحمل النصح، والتوجيه، والتسديد، لليتامى، وإعدادهم إعدادا صالحا للحياة.. تماما كما يفعل الأب مع أبنائه، وإلا فهو قول غير سديد، وخيانة للأمانة التي اؤتمن الأوصياء عليها..
وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» تحذير بعد نصح، وتهديد بعد عظة.. فمن لم يفتح عينه على هذا الخطر، ويتجنب الهاوية التي بين يديه، فلا يلومنّ إلا نفسه..
إن مال اليتيم هو «نار» تحرق كل من يمدّ إليه يدا خائنة، أو يدسّه فى بطن شرهة، فمن أكل منه احترق به فى الدنيا، وصلى به عذاب جهنم فى الآخرة.(2/708)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
الآية: (11) [سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
التفسير: فى هذه الآية والآية التي بعدها بيان، لأحكام الميراث، التي أجملتها الآية (7) من هذه السورة.
والوصية التي يوصى بها الله- سبحانه- فى ميراث الأبناء، هى على سبيل الوجوب الإلزام، وإنما جاءت بلفظ «الإيصاء» لأنها تتعلق بأمر يقع بعد الموت، وهو الميراث، فهى وصية من الله، ينبغى نفاذها فى تركة المتوفّى، كما يجب نفاذ وصية الموصى بعد موته! ويؤكد وجوب هذه الوصية قوله تعالى فى خاتمة الآية: «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» .
وقوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» بيان لنصيب كل من الولد والبنت فى تركة والدهما المتوفّى.. فللذكر ضعف الأنثى، أو مثل نصيب الأنثيين.
وقوله تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ» أي إن كان المتوفّى لم يعقب ذكرا، وكانت ذريته إناثا، فإن كنّ اثنتين فأكثر، فلهما أو لهن الثلثان «وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» .(2/709)
وقوله تعالى: «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» أي ويوصيكم الله أن تفرضوا لأبوى المتوفّى، لكل واحد منهما السّدس من التركة، وذلك «إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» ذكرا كان أو أنثى..
«فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» أي إن لم يكن للمتوفّى فرع كاين أو بنت، أو ابن ابن، «وَوَرِثَهُ أَبَواهُ» أي انحصر الميراث فيهما «فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» وللأب الباقي وهو الثلثان.
«فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» اثنان فأكثر.. أشقاء، أو لأب.. ذكورا أو إناثا، «فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» أي أن نصيبها مع وجود الإخوة ينتقل من «الثلث» إلى «السّدس» ، وهذا الانتقال لصالح الأب، لأن الأخوة لا يأخذون مع وجود الأب شيئا.. وإنما هم يؤثّرون على نصيب الأم فقط، ويحجبونها حجب نقصان..
والعلة فى هذا أن الأب هو الذي من شأنه أن يرعى إخوة المتوفّى، الذين هم أبناء هذا الأب، فانتقل ما كان يمكن أن يكون لهم إلى أبيهم.
وذلك كلّه من بعد أن ينفذ فى مال المتوفّى ما أوصى به، وأن يؤدّى ما عليه من دين، ولو استغرق الدين، كل ما ترك.
وأداء الدّين مقدّم على كل شىء، يتصل بتركة المتوفّى، من وصية، أو ميراث.
هذا، ويلاحظ أن النظم القرآنى قد التزم تقديم الوصية على الدّين فى الآيات التي تضمنت أحكام المواريث، فكان يختم الحكم هكذا: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) .
ولا بد لهذا التقديم الملتزم من حكمة، فتقديم أمر حقّه التأخير، والتزام هذا التقديم فى كل مرة- أمر لا يكون إلا عن قصد وتدبير.(2/710)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
ويرى «الزمخشري» أن تقديم الوصية على الدّين هنا للإلفات إليها، والتحريض على إنفاذها، دون تهاون أو تفريط.
ذلك أن «الوصية» تبرع وإحسان بدون عوض، وإذ كانت على تلك الصفة فربما رآها الورثة بعين الاستخفاف، فلم يمضوها كما أرادها الموصى، أو لم يمضوها أصلا.. أما الدّين فهو حق للدائن، إن سكت عنه الورثة لم يسكت عنه صاحبه.
فإذا قدمت الوصية على الدين كان ذلك غير مفوّت على الدين مكانته، فى حين أن هذا التقديم يقوّى من شأن الوصية، ويلحقها بالدّين فى القوة والإلزام.
الآية: (12) [سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
فى هذه الآية تتمة أحكام المواريث، التي بينتها الآية السابقة.. فللزوج نصف ما تترك زوجته إذا لم يكن لها ولد- ذكرا أو أنثى- منه أو من غيره..
فإن كان لها ولد فله الربع، أما الزوجة فلها ربع ما ترك زوجها، إذا لم يكن له ولد، ذكرا أو أنثى، منها أو من غيرها، فإن كان له ولد فلها الثمن.. وذلك(2/711)
كلّه من بعد أن تنفذ الوصية، ويقضى الدين، إن كانت هناك وصية من المتوفّى، أو كان عليه دين.
وقد تضمنت الآية حكما آخر غير حكم الزوجين فى التوارث بينهما، وهو حكم «الكلالة» وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ» .
وقد اختلف فى «الكلالة..» فى معناها أولا، وفى متجهها ثانيا.
فقد رأى بعضهم أنها من الكلال، وهو الضعف إعباء وتعبا.. وقالوا إن صلة الورثة بالمورّث هنا صلة واهية ضعيفة.. ومن هنا حملوا «الكلالة» على من مات ولم يترك وراءه أبا أو ولدا، أو أخوة.
ورأى بعضهم أنها من الكلّ وهو الحمل والعبء، وقالوا إن الورثة هنا عبء على التركة، وأنهم أشبه بالفضوليين عليها، إذ كانوا ولا معتبر لهم فى الميراث إلا إذا لم يكن وراء الميت أحد من أصوله أو فروعه، أو فروع أصوله، وفروع فروعه وذلك أمر نادر الحدوث.
وعلى حسب اختلاف الآراء فى مفهوم «الكلالة» اختلفت الآراء كذلك فى موصوفها، وهل هو المتوفّى، أو الورثة، أو المال المورّث! وعلى أىّ فقد اتفق الفقهاء على أن «الكلالة» فى الميراث تقع فى الحال التي يتوفّى فيها المرء- ذكرا أو أنثى- من غير أن يترك وراءه أحدا من فروعه أو أصوله أو فروع فروعه، أو فروع أصوله.
وهنا يكون لذوى الأرحام نصيب مفروض فى تركة المتوفى، بعد أن كان لهم نصيب مندوب، غير محسوب، فيما يرزقونه إذا حضروا القسمة.
وقوله تعالى: «وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ» المراد بالأخ أو الأخت هنا الأخوة(2/712)
لأم، وهم من ذوى الأرحام، الذين لا نصيب لهم فى الميراث مع وجود أحد من فروع المتوفى أو أصوله، أو فروع أصوله.
وقوله سبحانه: «فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ» هو بيان للنصيب المفروض للأخ أو الأخت، من الأم، لكل واحد منهما السدس، لا فرق فى ذلك بين الذكر والأنثى، إذ هما فى الموقف ليسا ذكرا أو أنثى، وإنما هما إنسانان يراد بهما البر والإحسان، ولا فرق فى هذا بين ذكر وأنثى.. وهذا يعنى أن مكان الأخوة لأم فى كيان الأسرة، وفى دعم بنائها الأسرىّ لا معول عليه، بل ولا حساب له، لأنهما فى أسرة المتوفى كلالة- رجلا أو امرأة- أشبه بالغرباء منهما بالأقرباء! وقوله تعالى: «فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» أي أن الأخوة لأم لا يرثون فى «الكلالة» أكثر من ثلث التركة أيّا كان عددهم.. للذكر مثل حظ الأنثى.
وفى الوقوف بنصيب الأخوة لأم عند حد الثلث، لا يتجاوزونه مهما كان عددهم- فى هذا ما يسند الرأى الذي ذهبنا إليه من قبل، من أن الميراث المفروض للأخوة لأم هنا لا يعدو أن يكون ضربا من البر والصدقة، وأنه خرج من ثلث التركة لا يتجاوزها، شأنه فى هذا شأن الوصية، التي لا تتعدى ثلث التركة بحال.
وقوله تعالى: «غَيْرَ مُضَارٍّ» هو حال من الضمير فى «يوصى» الذي يعود على المتوفّى.
وهذا الحال قيد يقيّد به ما ترك الميت وراءه من وصية أو دين.. بمعنى ألا يكون المتوفى كلالة قد نظر إلى نفسه قبيل وفاته، فرأى أنه لا وارث له من فروعه وأصوله، وعندئذ حدثته نفسه أن يحدث فى تركته حدثا يفسد(2/713)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
به على إخوته لأمه نصيبهم المفروض لهم، كأن يوصى ولا رغبة له فى الوصية ولكن ليدخل الضيم على نصيب هؤلاء الأخوة، وكأن يصطنع على التركة دينا لغير دائن، لهذا الغرض نفسه..
وهذا ما نبه الله سبحانه وتعالى إليه الميت قبل أن يموت، ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التنبيه بقوله «وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ» أي هذا فرض فرضه الله للأخوة لأم، وجعله حقا لهم.. فهم- والأمر كذلك- لم يجيئوا إلى هذا الميراث متطفلين. بل هم أصحاب حق فرضه الله لهم، كما فرض لغيرهم من الورثة ما فرض..
ثم أكّد سبحانه وتعالى هذا الأمر مرة أخرى بقوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» أنه سبحانه وتعالى «عليم» بما يعمل الظالمون «حليم» لا يعجّل لهم العقاب، ولكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
الآيتان: (13- 14) [سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
التفسير: قوله تعالى: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» إشارة إلى كل ما بيّن الله سبحانه وتعالى من أحكام وما شرع من حدود، فى صيانة أموال اليتامى، وتسليمها إليهم سليمة، لم تقع فيها خيانة، أو يقع عليها اعتداء، وفى التعفف عن زواج اليتيمات، تجنبا للظلم المحتمل وقوعه عليهن، وفى المواريث وأحكامها(2/714)
وما لكل وارث من نصيب.. «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» وهذه أحكامه، أوجب على عباده أن يلتزموها، وأن يقفوا عندها لا يتجاوزونها.. «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
فهذا الجزاء الحسن، قد أعدّه الله سبحانه لمن أطاعه وأطاع رسوله، الذي حمل إليه ما أمر الله به، وما نهى عنه..
إنه جنّات تجرى من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وإنه الخلود فى هذه الجنات والعيش الدائم فى نعيمها.. وذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يقاس إليه شىء مما يعده أهل الدنيا فوزا، فيما يقع لأيديهم من مال ومتاع، ولو كان حلالا خالصا.. فكيف إذا كان مشوبا بالحرام، أو كان هو الحرام كل الحرام؟
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» .. هو كشف عن الوجه البغيض المقابل لهذا الوجه الطيب الكريم.. إنه وجه أولئك الذين لا يخشون الله، ولا يخافون عقابه، فلا يمتثلون أوامره، ولا يعملون بما يدعوهم الله ورسوله إليه.. وإنها للنار التي أعدت للكافرين، وإنه للخلود فى عذابها وهوانها.. وذلك هو الخزي المبين! وهنا ما ينبغى أن ننظر فيه، ونتأمله:
فلقد جاء الخطاب من قبل الحق جلّ وعلا لمن يطيعون الله ورسوله فى صيغة المفرد، حتى إذا دخل الجنة، انتقل الخطاب من المفرد إلى الجمع..
هكذا: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. خالِدِينَ فِيها..» فما وجه هذا؟ وما سره؟(2/715)
ونقول- والله أعلم-:
إن إفراد الخطاب فى هذه المراحل: «يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» فيه مواجهة صريحة كاملة، تضع الإنسان وحده فى مواجهة هذا الخطاب الإلهى، فيلتفت إليه بكيانه كله، حيث لا يقع فى شعوره- والحال كذلك- أن هذا الخطاب العلوي متجه إلى غيره! وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان فى وضع يحسن فيه التلقي عن الله، والانتفاع بما تلقى..
وذلك ما يقيمه على طاعة الله، ويصل به إلى مرضاته، ثم إلى الجنة التي أعدت للمتقين..
وليس الشأن كذلك إذا دخل الجنة.. إنه هنا فى حال ينعم فيها بنعيم الله، ويأنس بألطافه..
ومن تمام نعيم الله هنا، ومزيد ألطافه، أن يجد الإنسان نفسه بين لدات وإخوان، يشاركهم هذا النعيم، وتلك الألطاف، وأن ينظر هذا النعيم وتلك الألطاف التي تغمر كيانه، قد تجسدت على وجوه إخوانه، فأصبحت بشرا، وحبورا، فيزداد لذلك بشره وحبوره..
وماذا يأخذ الإنسان أو يعطى، وهو منفرد وحده فى هذه الجنات؟ إن هذا النعيم الطيب كله فيها، والملائكة والحور الذين يشرقون فيها كما تشرق الشموس- إن كل هذا لا يعرف المرء قدره، ولا يتذوق طعومه، على أكمل وجه وأتمه، إلا إذا كان له إخوان من جنسه، يألفهم ويألفونه، ويأخذ معهم ويعطى.. من كؤوس هذا النعيم..
وهذا الشعور الجماعى فى الإنسان قد عرف الله سبحانه وتعالى حاجته إليه، فأسعفه بها، وجعلها من بعض ألطافه على عباده فى جناته.. فجعل أهل الجنة فى حياة جماعية، يتلاقون، ويتعارفون ويتبادلون الطيّب من الحديث،(2/716)
والكريم الهنيء من النعيم.. فيقول سبحانه فى أصحاب الجنة: «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» (23: الطور) ويقول جل شأنه:
«وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (47:
الحجر) ويقول سبحانه: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» (55، 56: يس) .
وعن هذا الشعور كان قول أبى العلاء المعرّى:
ولو أنّى حبيت الخلد فردا ... لما أحببت فى الخلد انفرادا
وانظر إلى أصحاب النار، كيف كان الخطاب من الله- سبحانه وتعالى- مفردا، قبل النار وبعدها. خارجها وداخلها.. حيث يقول جل شأنه:
«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» .
إن الإنسان هنا يواجه وحده بهذا الوعيد من رب العالمين، حتى لكأنه هو الوحيد الذي انفرد من بين الناس بالشرود عن طريق الحق، والعصيان لله ورسوله.. ثم ها هو ذا يلقى مصيره المشئوم وحده «ناراً خالِداً فِيها» حتى لكأن جهنم قد خصصت له، وحتى لكأن عذابها مقصور عليه.
وفى هذا ما فيه من مضاعفة العذاب، النفسي، فوق العذاب الحسّى! إن المشاركة فى البلاء تخفف من شدته، وتكسر من حدته، حيث يتأسّى المصاب بغيره من المصابين، ويجد فى مصاب غيره عزاء لمصابه..
وفى هذا تقول الخنساء فى رثاء أخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى
وارجع إلى الآيتين الكريمتين الآن، ورتلهما ترتيلا، مستصحبا معك(2/717)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
هذا المعنى الذي أشرت إليه فيهما، فإنك واجد إلى هذا المعنى معانى كثيرة، أكثر شفافية وصفاء! «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ»
الآيتان: (15- 16) [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
التفسير: يجمع المفسرون على أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور.. وهى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» وأن حدّ الزنا كان فى أول الإسلام- كما يقولون- هو الإمساك للمرأة الزّانية وحبسها فى البيت، على حين أن الرجل يعنّف ويؤنّب باللسان، أو ينال بالأيدى أو النعال، حسب تقدير ولىّ الأمر! ونحن- على رأينا بألا نسخ فى القرآن- نرى أن هاتين الآيتين محكمتين وأنهما تنشئان أحكاما لمن يأتون الفاحشة- من الرجال والنساء- غير ما تضمنته آية النور من حكم الزانية والزاني.
فالآية الأولى هنا: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ(2/718)
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا»
إن هذه الآية خاصة بالنساء، إذ كان النصّ فيها صريحا بهن، وذلك بالإشارة إليهن باسم الاشارة المؤنث: «اللاتي» وبإضافتهن إلى الرجال: «مِنْ نِسائِكُمْ» وبالحديث عنهن بضمير النسوة.. «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ» .. «فأمسكوهن» .. «يتوفاهنّ» ..
«لهنّ» .. وهذا ما يقطع بأن الآية هنا خاصة بالنساء! أما الآية الثانية فهى خاصة بالرجال إذ كانت الإشارة فيها إلى المذكر، «اللذان» والضمير فى «يأتيانها» وكذلك الضمير فى «منكم» .. هذا كله نصّ صريح فى أن المشار إليهما هما من جنس الرجال، الذين يوجّه إليهم الخطاب فى الآية..
واضح إذن أن الآية الأولى فى شأن النساء، كما أن الآية الثانية فى شأن الرجال.. وهذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون. إذ لاخلاف بينهم فى هذا، ولكنهم فرقوا بين العقوبة التي تؤخذ بها المرأة الزانية، والعقوبة التي تجرى على الرجل إذا زنا! الأمر الذي لم يقع فى آية «النور» التي جاءت فسوّت بين الرجل والمرأة فى هذه الجريمة، وفى العقوبة المفروضة على كل منهما.
وإذ كان كذلك فإن لنا أن نتوقف عند هذه المفارقة بين الناسخ والمنسوخ، فى أمر يوزن بميزانين بالنسبة للرجل والمرأة، ثم يعاد هذا الأمر فيوزن بميزان واحد، تتعادل فيه كفة الرجل والمرأة على السواء! .. ففى آية النور جاء حكم الزاني والزانية مائة جلدة لكل منهما، أما فى هاتين الآيتين: فقد كان للنساء حكم، وللرجال حكم، فى العقوبة المفروضة على الزاني من الرجال، أو الزانية من النساء..
فإذا كان هناك وجه يمكن أن تحمل عليه الآيتان، بحيث ترتفع هذه(2/719)
المفارقة التي تقوم بينهما وبين آية النور، وبحيث تكون بينهما تلك العلاقة التي بين المنسوخ والناسخ له، إذا كان هناك وجه لرفع هذه المفارقة، أفلا نلتمسه، ونذهب إليه، ونأخذ به؟ فكيف وهناك أكثر من وجه؟
فأولا: «الزنا» فى صورته العامة الشائعة، التي يتعامل أهل العربية بها فى لسان اللغة، وفى لسان الشريعة، هو تلك الجريمة التي تقع بين الرجل والمرأة على غير فراش الزوجية..
وقد جاءت آية «النور» صريحة فى حكم هذه الجريمة، فقال تعالى:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (2: النور) (وثانيا) : هناك جريمتان هما من قبيل «الزنا» ولكنهما ليستا بالزنا المعروف فى لسان اللغة، أو لسان الشرع.. ولهذا فقد كان لكل منهما اسم خاص به، فى اللغة وفى الشرع أيضا، وهما: السّحاق، والّلواط..
و «السحاق» عملية جنسية، بين المرأة والمرأة.
و «اللواط» عملية جنسية، بين الرجل والرجل.
و «والزنا» عملية جنسية، بين الرجل والمرأة.
وفى هذه الصور الثلاث تكتمل العملية «الجنسية» فى أصلها، وفيما يتفرع عنها.
(وثالثا) : إذا قيل إن الآيتين السابقتين متعلقان بأحكام «الزنا» الأصلى الذي يكون بين المرأة والرجل، وأن ذلك كان فى بدء الإسلام، ثم نسختا بآية «النور» - إذا قيل ذلك، كان معناه أن كل ما ورد فى القرآن الكريم(2/720)
متعلقا بالزنا جاء خاصّا بهذا الزنا الصريح، دون أن يكون فيه شىء عن الجريمتين الأخريين: اللواط، والسحاق! وهذا أمر ما كان للقرآن أن يتركه، بحجة أنه عمل شاذ، خارج على مألوف الفطرة.. لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا لعلاج الشذوذ الإنسانى عن الفطرة السليمة، وإلا لتحيد به عن شروده وانحرافه عنها.. وهذا يعنى أنه لا بد- لكمال التشريع- من أن يشرّع القرآن لهاتين الجريمتين، ويفرض عقوبة مناسبة لهما.
(ورابعا) : أن الآيتين السابقتين صريحتان، فى أن الأولى منهما فى شأن النساء، وأن الآية الثانية فى شأن الرجال، خاصة.
وليس بين النساء والنساء إلا «السحاق» ، كما أنه ليس بين الرجال إلّا «اللواط» .
وعلى هذا، فإننا- إذ خالفنا ما كاد ينعقد إجماع الفقهاء والمفسرين- نرى أن قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ.. الآية» هو لبيان الحكم فى جريمة «السحاق» التي تكون بين المرأة والمرأة.. وأن هذا الحكم هو ما بينه الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» أي يؤذين بالحبس فى البيوت، بعد أن تثبت عليهن الجريمة بشهادة أربعة من الرجال، دون النساء، كما يتبيّن ذلك فى قوله تعالى: «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» أي أربعة منكم أيها الرجال.
وأما قوله تعالى: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما. الآية» فهو خاص بجريمة اللواط، بين الرجل والرجل.. والحكم هنا هو أخذهما بالأذى، الجسدى، أو النفسي، وذلك بعد أن يشهد عليهما أربع شهود، على نحو ما فى «السحاق»(2/721)
وإذ أخذنا بهذا الرأى، فإن علينا أن نكشف عن بعض وجوه خافية فيه..
فأولا: هذه التفرقة فى العقوبة بين «السحاق» و «اللواط» ..لماذا لم يسوّ بينهما؟ ولماذا يكون للنساء حكم، وللرجال حكم.. مع أنهما أخذوا جميعا بحكم واحد فى الزنا؟
والجواب على هذا.. هو أن كلّا من السحاق واللواط وإن كانا من باب الزنا، إلا أن لكل منهما موردا غير مورد صاحبه، فكان من الحكمة- وقد اختلف المورد- أن يختلف الحكم.
فالمرأة وهى مغرس الرجل، ومنبت النسل، قد تستطيب هذا المنكر فيحملها ذلك على أن تزهد فى الرجل، وعلى ألا تسكن إليه فى بيت، وأن تتحمل أثقال الحمل، والولادة، وتبعة الرضاع والتربية، وهذا من شأنه- إذا شاع وكثر- أن يحوّل النساء إلى رجال، وأن ينقطع النسل، وألا يعمر بيت، أو تقوم أسرة..
ولهذا كانت عقوبة المرأة على هذه الجريمة أن تحبس فى البيت، الذي كان من شأنه أن يعمر بها، وأن تقيم فيه دعائم أسرة، لو أنها اتصلت بالرجل اتصالا شرعيا بالزواج.
وقد يعترضنا هنا سؤال.. وهو: هل حبس المرأة فى البيت يمنع وقوع هذه الجريمة منها؟ والجواب: نعم، فإن فرصتها فى البيت، مع الوجوه التي تعرفها لا تتيح لها ما يتيحه الانطلاق إلى هنا وإلى هناك خارج البيت، حيث تلقى من النساء من لا ترى حرجا، ولا استحياء من أن ترتكب هذا المنكر معها، الأمر الذي لا تجده فى البيت الذي تعيش فيه مع أهلها، من أخوات، أو زوجات زوج، أو أب، أو أخ.. فالحبس فى البيت لمرتكبة هذا المنكر،(2/722)
هو أنجح علاج يصرفها عن هذه العادة، بقطع وسائلها إليها.
أما الرجل والرجل، فإن عقوبتهما من جنس فعلتهما، لما فيها من تحقير لهما وإذلال لرجولتهما، ومروءتهما، وذلك بأخذهما بالأذى المادي، أو النفسي.
(وثانيا) كان حديث القرآن عن النساء بصيغة «الجمع» .. «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» وكان حديثه عن الرجال بصيغة المثنى.. «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» فما وراء هذه التفرقة؟ ولم كان الجمع فى النساء، وكانت التثنية فى الرجال؟ ولم لم يكن الأمر على عكس هذا؟
والجواب: أن المرأة والمرأة فى جريمة «السحاق» فى وضع متساو، لا فرق فيه بين امرأة وامرأة، حين تلتقى المرأتان على هذا المنكر، فساغ لهذا أن يكون الحديث عن هذه الجريمة حديثا شاملا لجميع مرتكبات هذا المنكر، بلا تفرقة بينهن.. فالمرأة على حال واحدة مع أية امرأة تلتقى بها فى هذه الفعلة.
وليس الأمر على هذا الوجه فى «اللواط» بين الرجل والرجل.. فرجل فى وضع وآخر فى وضع.. أحد الرجلين فاعل، والآخر مفعول به.. وفرق بين الفاعل والمفعول.. ولكن بالرجلين تتم هذه الفعلة المنكرة، ومن ثمّ كان الإثم، وكان العقاب على هذا الإثم قسما مشتركا بينهما، كما كان استحضار رجلين لازما كى يمكن تصوّر هذه الجريمة، إذ لا يمكن تصور هذه الجريمة إلا مع وجود رجلين.. ذكر وذكر.
(وثالثا) فى قوله تعالى: «حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ..
يسأل عن السبيل الذي جعله الله أو يجعله لأولئك المذنبات اللاتي قضى عليهن بالحبس فى البيوت.. ما هى تلك السبيل؟ وهل جعل الله لهن فيها مخرجا؟
الذين قالوا بالنسخ فى الآيتين، وهم جمهور الفقهاء والمفسرين- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يقولون إن السبيل التي جعلها الله لهن هى الخروج بهن من(2/723)
هذا الحكم الذي قضى عليهن بالإمساك فى البيوت، وذلك بنسخ هذا الحكم وإحالته إلى الحكم الذي تضمنته آية «النور» وهو قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ... الآية» .. ويروون لهذا حديثا عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو أنه- صلوات الله وسلامه عليه- حين تلقى آية «النور» من ربه، وزايله ما غشيه من الوحى، قال لمن حضره من أصحابه:
«خذوا عنى، خذوا عنى.. قد جعل الله لهنّ سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
والسؤال هنا: هل من السبيل التي تنتظر منها هؤلاء المكروبات بابا من أبواب الطمع فى رحمة الله أن ينقلن من الحبس إلى الرجم أو الجلد؟
إن فى قوله تعالى: «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» يدا علوية رحيمة تمتدّ إليها أيدى أولئك البائسات الشقيّات، فى أمل يدفىء الصدور، ويثلج العيون! فكيف يخلفهن هذا الوعد الكريم من ربّ كريم؟ وحاش لله أن يخلف وعده.
ولا نقول فى الحديث المروي أكثر من هذا.
وأما الذين لا يقولون بالنسخ لهاتين الآيتين- ونحن منهم- فيقولون: إن السبيل التي جعلها الله لهؤلاء المذنبات، هى أن يفتح الله لهن بابا للخروج من هذا السجن، على يد من يتزوج بهن.. فالزواج هنا ينتقل بهن إلى بيت الزوجية الذي يعشن فيه عيشة غيرهن من المتزوجات، حيث يسقط عنهنّ هذا الحكم الذي وقع عليهن.
وهذه الرحمة التي يمسح الله بها دموع هؤلاء المذنبات من عباده، ويردّ بها إليهن اعتبارهن، بعد الذي نالهن من عذاب جسدى، ونفسى- هذه الرحمة هى فى مقابل تلك الرحمة التي أفاضها الله على قرنائهنّ من الرجال، الذين اقترفوا(2/724)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
جريمة اللواط.. فقد جاء بعد قوله تعالى: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما» - جاء قوله سبحانه: «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» فهذا الأمر بالإعراض عن أهل «اللواط» بعد أن يتوبا ويصلحا، وهذه السبيل التي جعلها الله لمرتكبات «السحاق» إن صلح حالهن ورغب الأزواج فيهن- هذا وتلك، هما رحمة من رحمة الله، ولطف من ألطافه، يصحب المقدور، ويخفف البلاء، ويهوّنه.. «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟» فسبحانه وسع كل شىء رحمة وعلما، يجرح ويأسو، ويحكم ويعفو.. آمنت به لا إله غيره، ولا ربّ سواه.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه فى فهم هاتين الآيتين، وحملهما على هذا الوجه الذي فهمناهما عليه، ما جاء بعدهما من قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» فذكر التوبة هنا، وأثرها فى محو السيئات، هو توكيد لقوله تعالى: «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» أي إن اللذين يأتيان الفاحشة «اللواط» من الرجال لهما مدخل إلى التوبة التي بها يتطهران من هذا الإثم، أما الزّنا فلا يطهر منه مقترفه إلا بإقامة الحدّ عليه، كما فعل «ماعز» حين ارتكب هذا المنكر، فجاء إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «طهّرنى» يا رسول الله.. وما زال يقول طهرنى يا رسول الله، والرسول الكريم يراجعه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات. فأمر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بإقامة الحدّ عليه، ورجمه، وكذلك كان الأمر مع المرأة الغامدية.
الآيتان: (17- 18) [سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)(2/725)
رأينا فى الآيتين السابقتين كيف عادت رحمة الله فمسحت دمعة البائسين من أهل المنكرات، من الرجال والنساء، بعد أن تابوا وأصلحوا..
وهنا فى هاتين الآيتين بيان للتوبة التي يقبلها الله من عباده المذنبين، والتي يلقى بها ذنوبهم بالصفح والمغفرة..
فيقول سبحانه. «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» .
والمراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق.. وهو فى مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه.. فهذا معفوّ عنه، ومحسوب من باب الخطأ.
والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى الله رجعة من قريب.. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه.. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد.. وهذا ما حمده الله سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هى ألمّت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» (1- 2: القيامة) ..
وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ(2/726)
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
(135: آل عمران) فالعلم هنا مقابل للجهالة فى قوله تعالى: «يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» ، أي أنهم لم يصرّوا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطّى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفّة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرئوا إلى الله منه.
وقد مدح الله هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه..
فقال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» .
وفى قوله تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم الله، فيهجمون عليها فى غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة.. وهكذا يقطعون العمر، فى صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات! إنها توبة لم تجىء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق.. إنه لم يثب وهو فى خيرة من أمره.. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها.. وإنما هو إذ يتوب فى ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه.. وقد فعلها فرعون من(2/727)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قبل حين أدركه الغرق، فردّه الله سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا:
«حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (90- 91: يونس) .
إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر.. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر بالله هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان بالله الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه.. هكذا فكر وقدّر!! وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى الله، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم فى الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت فى وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا.. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شىء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة.. إنها توبة غير مقبولة.
الآيات: (19- 21) [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)(2/728)
التفسير: فى مقام التوبة، والتنديم على الذنوب والآثام، والرّغب إلى الله، والهرب من المآثم- فى هذا المقام يذكّر الله سبحانه وتعالى بالنساء وما لهن من حقوق، وما فى اهتضام هذه الحقوق والعدوان عليها من إثم يفسد على المؤمنين إيمانهم، ويعرضهم لنقمة الله، وعذاب الله.
فمن ذلك، الالتواء فى معاشرة النساء، وأخذهنّ بالضرّ والأذى، للوصول من وراء ذلك إلى عرض من أعراض الدنيا، بحملهن على شراء الخلاص لأنفسهن بما يريده الأزواج منهن من ثمن.
فقد تكون المرأة غير ذات حظوة عند الرجل، وقد يكون الرجل كارها لها وهى كارهة له، ومع هذا فهو يمسكها، ولا يسرّحها بإحسان، كما أمر الله سبحانه وتعالى: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (229: البقرة) ..
وهذا الإمساك للمرأة والمضارّة لها إنما يبغى الرجل من ورائهما أن تموت وهى فى عصمته، حتى إذا ماتت ورثها. وهذا ما نهى الله عنه، وعدّه عدوانا على المرأة إذ يقول سبحانه: «لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» .. وقد ينتظر الرجل من وراء هذا الإمساك بالمرأة على كره، أن تخالعه المرأة على ما فى يدها من مهر كان أمهرها إياه، ولا تزال نفسه متطلعة إليه.. وهذا ما ينهى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» ..
والعضل الإمساك على الضرّ والأذى.
وقوله تعالى «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» هو استثناء من الإمساك الذي هو من بعض مفاهيم العضل، ففى هذه الحالة، وهى أن تأتى المرأة بفاحشة قامت عليها بيّنة- يجوز أن يمسك الرجل المرأة، تأديبا لها، فهذا الإمساك وإن(2/729)
كان عدوانا على المرأة، هو عدوان لردّ عدوان، وهو ما أجازه الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (194: البقرة) ثم هو- أي العدوان هنا- إمضاء لأمر الله تعالى فى اللائي يأتين الفاحشة من النساء.
وذلك فى قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» .
وفى قوله تعالى: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» دعوة إلى ما ينبغى أن تكون عليه حياة المرأة مع الرجل، وهو أن تعاشر بالمعروف، وأن تعامل بالإحسان، حتى وهى مأخوذة بجريرتها التي قضت عليها بالإمساك فى البيت.
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» وصية كريمة من الله، بالإحسان إلى المرأة، أيّا كانت نظرة الرجل إليها، وموقعها من قلبه.. فقد لا يجد فى عشرته معها، والسكن إليها، ما يشرح صدره، فيحمله ذلك على الضجر بها، والتبرم منها، فيسىء عشرتها، ويرميها بالأذى، حتى يحملها على أن تترضاه من مالها ليطلقها.. وهنا يلقاه قوله تعالى: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .. فيتقبل هذا المكروه، ويصبر عليه، ثم ينجلى الموقف عن غير ما كان يحسب ويقدر، وإذا المرأة التي كان يكرهها قد علقت بقلبه، وملأت حياته أنسا ومسرّة..
فإنه ما أكثر أن تجىء الأمور على غير حسابنا وتقديرنا. فما نحسبه خيرا قد يجىء من ورائه الشرّ، وما نراه مكروها قد يجىء بما نحبّ ونرضى! وفى هذه الوصاة الكريمة، تنفير من الطلاق، وتحذير من المبادرة إلى هوى النفس، الذي يدعو إلى الطلاق، على حساب أنه الخير، وقد يكون الشرّ كلّه كامنا وراءه.(2/730)
وقوله تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» .
هو استكمال «للوصاة التي أوصى الله بها الرجال بالنساء.. ألا يرثوهن كرها أو يعضلوهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن يصبروا على ما يشعرون به من ضيق أو أذى منهن، فقد يكون من وراء ذلك خير كثير..
ثم إنه إذا لم يكن بد من الفرقة والطلاق، فليكن كما أمر الله: «تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فلا يعمل الرجل على أن يستردّ مما أعطاها من مهر شيئا، وألا يحملها حملا على أن تخلص من بين يديه، وأن تفتدى نفسها من عشرته بالمال..
وليقف عند أمر الله سبحانه: «وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» إن ذلك عدوان عليها، وسلب لحق وقع فى يدها.. «أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» فذلك ما ينكره الله، ويجزى عليه جزاء الآثمين.. والبهتان: هو العدوان، وتبرير هذا العدوان بطلاء زائف من التمويه والخداع.
وفى قوله تعالى: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» إنكار بعد إنكار لأن تمتد يد إلى هذا الذي فى يد المرأة، التي أصبحت هى ومالها أمانة فى يد الزوج.. فكيف يخون الرجل أمانة من عاشره، واختلط به، وأصبح فى حال ما، بعضا منه؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» .. والإفضاء إلى الشيء الوصول إليه، والتغلغل فى صميمه.
والميثاق الغليظ: هو العهد القوىّ المؤكد، وهو ما أخذه الله على الرجال للنساء فى قوله تعالى: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .. وقد وضع الله هذا الميثاق الغليظ المؤكد فى يد المرأة. ليكون لها أن تقاضى الرجل به عند الله! وفى هذا تغليظ لهذا الميثاق الغليظ!(2/731)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
الآية: (22) [سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
التفسير: بعد أن بين الله سبحانه وتعالى ما ينبغى أن تقوم عليه الحياة بين الرجل والمرأة من توادّ وتعاطف وتراحم، وأن تصفو من الكيد، وتبرأ من الدّخل وتبييت السوء، حتى تتآلف تلك الخليلة الأولى فى الجسد الاجتماعى، وتتلاحم، وتصبح قوة عاملة فى الحياة لخيرها، ولخير المجتمع كله..
بعد هذا البيان الكاشف للحياة الزوجية، وللأسس السليمة التي ينبغى أن تقوم عليها- جاء بيان سماوى آخر يقيم الحدود بين ما يحلّ وما يحرم على الرجال من النساء، حتى إذا رغب الرجل فى الزواج من امرأة تخيرها من بين من أحل الله له منهن! وقد يبدو- فى ظاهر الأمر- أن الترتيب الطبيعي كان يقضى بأن يجىء البيان الخاص بالحلّ والحرمة أولا، ثم يجىء بعد ذلك ما يوصى به فى المعاشرة بين الزوجين، بعد أن يصبحا زوجين. هكذا يبدو الأمر فى ظاهره! ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يرفع نظرنا فوق هذا المستوي الذي ننظر منه إلى الأمور ونزنها به.
فليست مشكلة الحياة الزوجية فى التعرف على من تحلّ ومن تحرم من النساء لمن يرغب فى الزواج، فذلك أمر لا يحتاج إلى أكثر من إشارة، تخطّ خطا فاصلا بين الحلال والحرام.. بل إن الأمر لأهون من هذا.. فالحلال بينّ والحرام بينّ، والمشكلة كلها فى التزام الحلال، وتجنب الحرام..
ومشكلة الحياة الزوجية ليست الزواج، ولكن فيما بعد الزواج، وفى القدرة على الوفاء بالحقوق والواجبات فيها!(2/732)
من أجل هذا، كان هذا الإلفات الكريم من الله أولا إلى ما بعد الزواج، إذ هو ملاك الأمر كله، وعليه تبنى الحياة الزوجية، ويجنى منها الثمر الطيب المرجو فيها.
وإذن فليكن فى حساب الرجل أولا إعداد نفسه إعدادا كاملا لحمل هذه الأمانة العظيمة التي سيحملها، وليروّض نفسه مقدّما على الصبر والاحتمال، والتنازل عن كثير من حياته الخاصة، ليصل بما يقتطع من تلك الحياة حياة جديدة، تقوم بينه وبين شخص آخر، جاء يشاركه حياته، وينازعه وجوده الذاتي الفردىّ.
أما ما بعد ذلك- وهو الزواج- فأمره هين.. فالنساء كثيرات وله فيما أحلّ الله له منهن ما لا حصر له.. فليختر منهن من يشاء، ولكن الحذر الحذر كله، والمحظور المحظور جميعه، فيما بعد الزواج! وقوله تعالى: «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» بيان لأول ما يحرم على الإنسان التزوج بهن من النساء.. وهى امرأة الأب..
إذ هى بمنزلة الأم، ثم هى من جهة أخرى بمكان الأب من الاحترام والتوقير..
فكيف تقبل نفس كريمة أن تكون امرأة الأب- وهذا شأنها- زوجا بعاشرها، وتكون يده فوق يدها؟ أو حتى تكون يده مع يدها؟
وفى التعبير القرآنى عن زوجات الآباء بكلمة «ما» التي تدل على الإبهام والتنكير- ما يشير إلى أن هؤلاء الزوجات ينبغى أن يكنّ فى نظر الأبناء، وفى شعورهم شيئا مبهما غامضا، لا تتملّاه العين، ولا تتفحصه، ولا تقيم له حسابا فيما يقام من حساب بين الرجل والمرأة! إنهن- بالنسبة للأبناء- شىء محجب وراء ستر كثيفة من التحرج والتأثم، فلا يكاد يقع فى تصور الأبناء صورة سويّة لهنّ كصور النساء اللاتي يريدون الزواج بهن! وقوله تعالى: «إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» استثناء وارد على ما وقع فى الجاهلية من(2/733)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
رجال دخلوا فى الإسلام، ووقعوا فى هذا المنكر.. فإنه لا إثم عليهم الآن بعد أن صححوا وضعهم، وأخذوا بما جاء الإسلام به.
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا» تشنيع غليظ على هذا المنكر، وإلقاء بكل ما فى الفاحشة والمقت وسوء العاقبة من ثقل وبلاء على من يقارف هذا المنكر، ويركب ذلك الضلال السفيه!
الآية: (23) [سورة النساء (4) : آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
التفسير: فى هذه الآية بيان الأصناف من المحرمات على الرجال التزوج بهن، بعد أن بينت الآية التي قبلها حرمة التزوج ممن تزوج بهن الآباء.. وبيان المحرمات هنا على الوجه الآتي:
1- «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» .. أي أم الرجل، وأصولها.
2- «وبناتكم» .. أي بنت الرجل، وفروعها.
3- «وأخواتكم» أي الأخت سواء أكانت شقيقة، أم لأب، أم لأم.
4- «وعماتكم» والعمة أخت الأب.
5- «وخالاتكم» والخالة هى أخت الأم.(2/734)
6- «وبنات الأخ» أي ويحرم على الرجل بنات أخيه سواء أكان شقيقا، أم لأب، أم لأم وكذلك فروعهن.
7- «وبنات الأخت» سواء أكانت أختا شقيقة أم لأب، أم لأم، وكذلك فروعهن.
8- «وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ» أي وتحرم على الرجل المرأة التي أرضعته، فهى بالنسبة له أم، لها حرمة أمه التي ولدته، وكذلك لأصولها وفروعها، كما لأصول أمه وفروعها.. وفى الحديث الشريف: «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب» .
9- «وأخواتكم من الرضاعة» فكل من أرضعتهم المرأة هم أخوة، ولو لم تكن قد ولدتهم.. ويحرم عليهم التزوج من بعض، حرمة الأخوة من الميلاد.
10- «وأمّهات نسائكم» أي أم الزوجة.. سواء أكان معقودا على ابنتها ولم يدخل بها أم مدخولا بها.. فلها حينئذ حرمة الأم، على من تزوج ابنتها، تحرم عليه حرمة مؤبدة.
11- «وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» والربيبة: الصغيرة المربّاة فى بيت الرجل المتزوج بأمها.. ويراد بها هنا مطلق بنات الزوجة.. فإنهن يحرمن على زوج الأم، سواء تربين فى بيت الزوج أم نشأن بعيدا عنه.. وذلك بشرط أن تكون الأم مدخولا بها، أما العقد عليها فلا يحرّم زواج بناتها ممن عقد عليها ثم طلقها ولم يدخل بها..
والتعبير عن بنات الزوجة بالربائب، لأنهن على صلة مع أمّهن، وهى فى بيت زوجها.. إذ أن من شأن البنات ألا ينقطعن عن أمهن، ولو كنّ فى بيت غير بيت أبيهن.. ومن هنا كان التعبير عنهن بالربائب اللائي فى الحجور، حتى ينظر(2/735)
إليهن الرجل نظرته إلى بناته الصغيرات، فلا تمتد عينه إلى النظر إليهن نظر شهوة.
12- «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» وهن زوجات الأبناء الحقيقيين الرجل، لا الأبناء بالتبني.. فهؤلاء الأبناء بالتبني لا يحرم على مثل هذا الأب زواج من تزوج بهن أبناؤه بالتبنىّ بعد طلاقهن وانقضاء عدتهن.
وقد كان العرب فى الجاهلية، يلحقون الابن المتبنّى بالابن من الصلب فى هذا، فلما جاء الإسلام فرق بين الحالين فى قوله تعالى: «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ..» (4- 5: الأحزاب) .
وبهذا وضع الإسلام حدّا لفوضى الأنساب التي كانت شائعة فى الجاهلية، حيث يخلط الرجل من يتبّنى من أبناء الغير بأبنائه، ليكتسب بهم كثرة وقوة! 13- «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» فلا يحل الرجل أن يجمع بين الأختين فى عصمته، وله أن يتزوج الثانية بعد أن تنقطع علاقته بالأولى، بالطلاق أو الوفاة..
وذلك صيانة للعلاقة بين الأختين أن تفسدها الحياة الزوجية التي تجمعهما تحت سقف واحد، وليد رجل واحد، فتكون المرأة ضرّة أختها، كما يحدث بين زوجتى الرجل أو زوجاته، المتباعدات نسبا وقرابة.
ولهذا، فقد ألحق النبىّ الكريم بتحريم الجمع بين الأختين، الجمع بين البنت وعمتها، والبنت وخالتها، فى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح البنت على عمتها أو خالتها فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» .
وقد عفا الله عما سلف فى الجاهلية من الجمع بين هذه المحارم، قبل أن يجىء أمر الله بتحريم هذا الجمع.. «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» ..
تم الكتاب الثاني ويليه الكتاب الثالث إن شاء الله، ويبدأ بصفحة: 737(2/736)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
[الجزء الثالث]
[تتمة سورة النساء]
الآية: (24) [سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
التفسير: فى هذه الآية بيان لآخر المحرمات من النساء، وهنّ ستة عشر صنفا، منهن خمسة عشر فى الآيتين السابقتين، وصنف واحد فى هذه الآية ...
وهو: الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ.. والمحصنات هن اللاتي تحصنّ بالزّواج، وصرن فى عصمة الغير، أو تحصنّ فى بيوتهن، وملكن أنفسهن، ولم يتزوجن بعد..
فهؤلاء هنّ فى حصن يحرم على الرجل دخوله عليهن، إلا عن الطريق الشرعي بالزواج منهن، بعد أن تزول الحواجز التي كانت تحول بين الرجل وبين حلّهن له.
فإذا طلقت المرأة، المحصنة، أو مات عنها زوجها وانقضت عدتها المقدرة فى الطلاق أو فى الموت أحلّ لها من كان من غير محارمها أن يخطبها إلى نفسه، وأن يمهرها، ويتزوج بها، إذا رضيت أو رضى أهلها به زوجا.
وكذلك المرأة غير المتزوجة، هى محرمة على الرجل الذي أحلّ له الزواج منها، حتى يخطبها لنفسه، وترضى به أو يرضى به أهلها زوجا، ثم يمهرها، ويعقد عليها، عقدا صحيحا مستوفيا شروطه.
فهؤلاء المحصنات من النساء محرمات حرمة موقوتة بحواجز قائمة، فإذا زالت تلك الحواجز حلّ الزواج بهن..(3/737)
ولهذا جىء بهذا الصنف من المحرمات فى آخر المحرمات، ملحقا بصنف آخر حرّم حرمة مؤقتة، وهو الزواج من الأختين.. فإن الزواج بالثانية منهما محرم حرمة مؤقتة إلى أن تبين الأولى بطلاق أو موت، وتنقضى عدتها.
وقوله تعالى: «إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» هو استثناء وارد على حرمة المحصنات من النساء، فإن هؤلاء المحصنات محرّمات ما دمن فى حراسة الحصانة القائمة عليهن، ولكن هناك حالة ترفع هذه الحراسة عن المرأة، وتجردها من الحصانة التي كانت لها، وهى أن تقع أسيرة حرب، فتصبح ملكا لآسرها، وبهذه الملكية لا يكون لزوجها، ولا لنفسها ولا لأهلها سلطان يدفع يد مالكها عنها، فله أن ينكحها بعد أن يستبرىء رحمها بالعدّة إن كانت متزوجة، وإلا فهى حل له من أول ساعة تقع فيها ليده.. وملك اليمين من النساء كما يكون بالغنيمة فى الحرب، يكون بالشراء بالمال، أو الهبة ونحو هذا.
وقوله تعالى: «كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» هو إغراء بالحفاظ على هذه الحدود، والتزامها، كما بينها الله وجعلها عهدا وميثاقا بينه وبين المؤمنين به.. بمعنى احفظوا وارعوا ما كتب الله لكم وافترض عليكم من أحكام الزواج.
قوله تعالى:
«وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» .
هو إطلاق للقيد الوارد على المحرمات من النساء.. فما وراء هذا القيد الذي ضمّ ستة عشر صنفا من النساء، فهنّ مما أحلّ الله للرجال التزوج بهن، بشرط أن يطلب الرجل الزواج ممن يريدها، وأن يأخذ الرضا منها أو من وليتها، وأن يمهرها من ماله المهر المطلوب لها..
وفى قوله تعالى: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» تنبيه إلى أن يبتغى بهذا المال(3/738)
الذي يسوقه الرجل إلى المرأة، الإحصان والتعفف بالزواج، لا مجرد الوصول إلى المرأة وقضاء الوطر منها، فذلك مال أنفق فى حرام، واستبيح به مالا يحلّ، وأوقع صاحبه فى محظور، هو السفاح والزنا.. وكان من حق هذا المال، وهو نعمة من نعم الله، أن يصان عن أن يكون مطية لعصيان الله ومحاربته، وألّا يعدل به عن الحلال بالإحصان، إلى مواقعة الحرام وارتكاب هذا المنكر الغليظ، وهو الزنا..
قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» .
هو أمر إلزامىّ بالمهر الواجب تقديمه من الرجل إلى المرأة التي يرغب فى الزواج بها.. فهو فريضة من الله، فرضها فى مال الزواج للمرأة.. ولم يقف به الإسلام عن حد معينّ، بل تركه، حسب يسار الرجل وإعساره.. إلا أنه على أي حال لا بد من أن يكون شيئا معتبرا عند كل من الزوج والزوجة، له قدره وأثره عندهما معا، وله قيمته فى الحياة.
وفى قوله تعالى: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» دعوة إلى المياسرة بين الزوجين فى المهر، فللمرأة بعد أن يعطيها الرجل المهر المناسب لها، أن تنزل عنه أو عن بعضه له، وللرجل بعد أن يعطى المهر المطلوب منه، أن يزيد فيما أعطى، وفى هذا وذاك تبادل لعواطف المودة والمعروف بين الزوجين، الأمر الذي ينتظم به شمل الأسرة، وتقوم عليه سعادتها.
والاستمتاع المطلوب إيتاء الأجر عنه هنا، هو ما يحققه الزواج للرجل من سكن نفسى، وأنس روحى، وقرّة عين بالبنين والبنات، إلى ما يجد من إشباع لغريزته الجسدية، مع العفة والتصوّن..
«وما» في قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» .. اسم موصول،(3/739)
لغير العاقل، معدول به عن «من» التي يقع فى حيزها العقلاء، وهن النساء المرغوب فى الزواج منهن.
وفى اختيار النظم القرآنى لهذا الأسلوب إعجاز من إعجازه.. فإن ما فى كلمة «ما» من التجهيل والتفخيم، ما يلقى إلى شعور الرجال إحساسا بعظم الأمانة، التي سيحملونها بهذا الزواج الذي هم مقدمون عليه، وبأنه نعمة عظيمة من نعم الله، لمن يعرف كيف يكشف أسرارها، ويتعرف على مواقع الخير فيها..
فالمرأة عالم رحيب، أشبه بالبحر، تكمن فى أعماقه اللآلئ والدرر، كما تضطرب فى كيانه الحيتان والأخطبوطات.. والصيد فى هذا البحر يحتاج إلى مهارة وكياسة، وإلا وقع المحذور وساءت العاقبة..
هذا وقد حمل كثير من المفسرين قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» على نكاح «المتعة» وأن قوله تعالى: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» هو إشارة إلى الثمن الذي يقدمه الرجل للمرأة فى مقابل الاستمتاع بها! والآية الكريمة فى منطوقها لا تعطى هذا المفهوم، الذي فوق أنه- فى وضعه هذا- عنصر دخيل على القضية التي أمسك القرآن الكريم بجميع أطرافها هنا، وهى قضية «الزواج» وما أحل الله وما حرّم على الرجال من النساء- فوق هذا فإن هذا المفهوم يناقض قوله تعالى «فَرِيضَةً» الذي هو وصف ملازم للمهر الذي أشار إليه سبحانه بقوله: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» ..
كما أنه يناقض قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» (7: المؤمنون) والمرأة المتمتع بها ليست زوجة، لأنها لا تحسب فى الأربع المباح للرجل الإمساك بهن، ولا ترث المتمتع بها ولا يرثها، كما أنها ليست ملك يمين لمن يتمتع بها..(3/740)
وقد وقع خلاف كبير فى زواج المتعة بين أهل السنّة الذين يقولون بتحريمه، والشيعة الذين يبيحونه، ويتعاملون به.. وهذا عرض موجز لتلك القضية، وآراء المختلفين فيها.
زواج المتعة.. والرأى فيه
تعلّق إخواننا الشيعة فى حلّ زواج المتعة بقوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وقد أوّل علماؤهم قوله تعالى «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» بالمتعة، وهو أن يتمتع الرجل بالمرأة إلى أجل مسمّى، وقالوا فى مدلولها الشرعي:
«إنها (أي المتعة) عبارة عن عقد مخصوص، لرابطة زوجية إلى أجل مسمّى وبمهر معلوم، ويشترط فى العقد: الإيجاب والقبول، ويبطل عند عدم ذكر المهر والأجل..
يقول «الطبرسي» - وهو من كبار علماء الشيعة الإمامية، فى تفسيره المعروف «مجمع البيان» عند تفسير قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» - يقول: قيل إن المراد به نكاح المتعة، وهو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم، عن ابن عباس، والسّدىّ، وابن سعيد، وجماعة من التابعين.. وهو مذهب أصحابنا الإمامية، وهو الواضح.. لأن لفظ الاستمتاع والتمتع، وإن كان فى الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ، فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعيّن، لا سيما إذا أضيف إلى النساء، وعلى هذا يكون معناه: «فمتى عقدتم عليهن هذا العقد المسمّى متعة فاتوهن أجورهن» .
والشيعة إذ يذهبون هذا المذهب فى تأويل الآية الكريمة إنّما يجدون معهم إجماعا يكاد يكون تامّا من المفسرين جميعا- سنّة، ومعتزلة، وشيعة- فى تأويل الآية على هذا الوجه.. ولم نجد من المفسرين من حمل الآية على محمل آخر غير(3/741)
هذا، إلا النسفي فى تفسيره، إذ يقول فى الآية: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ.»
إنها لا تدل على حلّ المتعة، والقول بأنها نزلت فيها، وتفسير البعض لها بذلك، غلط، وهو غير مقبول، لأن نظم القرآن الكريم يأباه، حيث بيّن- سبحانه- أولا المحرمات، ثم قال عزّ شأنه «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» وفيه شرط بحسب المعنى، فيبطل تحليل الفرج وإعارته، وبهما قال الشيعة.
«ثم قال جل وعلا: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» وفيه إشارة عن كون القصد لا مجرّد قضاء الشهوة، «1» وحبّ استفراغ المنىّ، وعليه تبطل المتعة بهذا القيد، لأن مقصود المتمتع ليس إلّا ذاك، دون التأهل والاستيلاد وحماية النسب، كما أن كلمة الاستمتاع تدل على الوطء والدخول، وليس بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة..» .
وعلى هذا، فالخلاف بين الشيعة والسنة ليس فى أصل المتعة وحلّها، فهم متفقون جميعا على أنها كانت موجودة فى عهد النبىّ، ولكن الخلاف يجىء بعد هذا، فيذهب أهل السنة إلى أنها نسخت، على حين لا يقول الشيعة بهذا النسخ، ويردّون كل خبر ورد فى هذا الشأن.
وأهل السنة إذ يقولون بنسخ نكاح المتعة إنما يستندون فى هذا إلى أحاديث تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، عند من يقول بنسخ القرآن بالسنة المتواترة، ومنهم يقول إنها منسوخة بالقرآن.. كما سنرى..
فالقائلون بالنسخ بالقرآن، يذكرون هنا أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (5- 7: المؤمنون) . وفى هذا يقول الفخر الرازي: «وهذه المرأة- أي فى زواج المتعة- لا شك أنها ليست مملوكة، ولا زوجة، ويدل عليه أنها
__________
(1) قوله: «لا مجرد قضاء الشهوة» هو خبر المصدر «كون» .(3/742)
لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى: «وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ» وبالاتفاق لا توارث بينهما (وثانيا) لثبت النسب لقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وبالاتفاق لا يثبت (وثالثا) ولوجبت العدّة عليها، لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» ..
وقد ردّ الشيعة على هذا، بأن الآية التي قيل إنها ناسخة، هى سابقة فى نزولها للآية التي قيل إنها منسوخة، لأن الآية الأولى فى سورة «المؤمنون» وهى مكية، وآية المتعة فى سورة «النساء» وهي مدنية.. ولا يتقدم الناسخ على المنسوخ..
وأما ما استند إليه أهل السنة من الأحاديث التي وردت فى تحريم المتعة فهو كثير، من ذلك ما جاء فى موطأ مالك، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه:
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة» . ويروى ابن حزم فى كتابه «الناسخ والمنسوخ» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنى كنت أحللت هذه المتعة، وإن الله ورسوله قد حرماها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» .
وفى قول الرسول الكريم: «إنى كنت أحللت هذه المتعة» إشارة صريحة إلى أن حلّ هذه المتعة كان بالسنة لا بالقرآن، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أباح المتعة- وحيا من ربه- لظرف خاص، ثم حرّمها- وحيا من ربّه أيضا- بعد زوال هذا الظرف.. فقد روى البخاري، ومسلم، عن ابن مسعود، قال: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء، فقلنا ألّا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخض لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ(3/743)
وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»
.. ونكاح المرأة بالثوب أي تقديمه لها، إن كان الرجل لا يملك غيره.
وفى صحيح الترمذي: عن ابن عباس رضى الله عنه قال: إنما كانت المتعة فى أول الإسلام.. كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أن يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه حتى نزلت (الآية) :
«إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» .. قال، قال ابن عباس: «فكل زواج سواهما حرام» .
وهذا يعنى أن آية «المؤمنون» هذه نسخت ما كان أبيح بالسنّة فى أول الإسلام، ولم تنسخ آية النساء التي قيل إنها نسخت باية «المؤمنون» والتي اعترض الشيعة على القول بنسخها، لأنها متأخرة نزولا عن آية «المؤمنون» ولا ينسخ المتأخر بالمتقدم.
وذكر الفخر الرازي فى تفسيره، أن الناس لما ذكروا الأشعار فى فتيا ابن عباس فى المتعة، قال ابن عباس: قاتلهم الله، إنى ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق، لكنى قلت إنها تحلّ للمضطر، كما تحل الميتة والدم، ولحم الخنزير» .
وفى صحيح مسلم، عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: رخّص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس فى المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها» (وعام أوطاس، هو عام الفتح، وأوطاس واد بديار هوازن) .
وهذا الحديث يؤيد ما رواه ابن ماجة فى سننه عن ابن عمر، عن عمر- رضى الله عنهما- أن عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فى المتعة ثلاثا ثم حرمها، والله لا أعلم أحدا يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة، إلّا أن يأتينى بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلّها بعد إذ حرمها» .(3/744)
والشيعة يعارضون هذه الأحاديث بأحاديث أخرى تثبت جواز نكاح المتعة، والعمل به فى عهد الرسول، وفى خلافة أبى بكر، وأن عمر بن الخطاب- الخليفة الثاني- هو الذي أبطله فى الشطر الثاني من خلافته..
فقد أخرج البخاري فى صحيحه عن عمران بن الحصين، قال: نزلت آية المتعة فى كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي فى عهده) ولم ينزل قرآن يحرّمها وينهى عنها حتى مات صلى الله عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء» يريد بالرجل عمر بن الخطاب، رضى الله عنه.
وفى صحيح مسلم، عن أبى نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آت، فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا فى المتعتين «1» فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعدلهما» .
وروى ابن رشد فى كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» - عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله، رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا نهى عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقىّ» .
والشيعة إذ تأخذ بهذه الأحاديث التي تضيف إلى عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه هو الذي أبطل نكاح المتعة، وأن ذلك كان عن رأى رآه، واجتهاد اجتهده. فهم والأمر كذلك- غير محجوجين بما صنعه عمر، مادام فى أيديهم كتاب الله الذي أباح المتعة حسب تأويلهم لقوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وما صح من إجماع المسلمين على أنها كانت جائزة فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفى خلافة أبى بكر، وبعض خلافة عمر،
__________
(1) يريد متعة الحج بالعمرة، ومتعة النكاح.(3/745)
ثم ما يظاهر ذلك من أحاديث ثبت عندهم صحتها، ولم تثبت عندهم الأحاديث التي قيل إنها حرمتها..
[الآية الكريمة ومفهومها] وقد رأينا تعارض الأحاديث التي جاءت فى المتعة، والذي ذكرناه منها قليل إلى الكثير الذي أجمعت عليه كتب الأحاديث والتفسير.
والذي نريد الجواب عليه هو: هل جاء القرآن الكريم بإباحة المتعة حقا؟
وهل الآية الكريمة التي قيل إنها مستند هذه الإباحة، هى نصّ فى هذا الحكم الذي أخذوه منها، والذي يجمع عليه المفسرون، على اختلاف مذاهبهم؟ ثم كيف يكون هذا، ثم يجىء عمر بن الخطاب رضى الله عنه فينقض حكما من أحكام الله، وببطل آية من آيات كتابه؟ وكيف قبل المسلمون هذا منه وأقروه عليه؟
ندع هذا الآن.. ونجيب على الآية الكريمة: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وما فهم منها من أنها نص فى حل المتعة؟.
وننظر فى الآية الكريمة التي جاء فيها هذا المقطع: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ..
ننظر فنجد:
أولا: أن هذه الآية هى خاتمة الآيتين اللتين قبلها، والتي ذكر فيهما تحريم أصناف من النساء، لا يحلّ التزوج بهن، وفى هذه الآية تتمة لهذه الأصناف، حيث ذكر فيها صنف واحد منهن، وهن المحصنات من النساء، أي المتزوجات.(3/746)
ثانيا: بعد هذه القيود التي فرضها الله سبحانه على المحرمات من النساء، ورد حكمان:
الحكم الأول: ما كان من النساء فى ملك الإنسان من الإماء، فإنهن لا عصمة لهن فى أعراضهن لمن ملك ذواتهن.. وكان الأصل أن يعددن فى المحصنات، إذ لم يقع عليهن زواج، بإيجاب وقبول، ومهر وشاهدين، كما هو الشأن فى عقد الزواج مع الحرائر، ولكن لما كانت تلك حالهن، وهذا وضعهن فى الحياة، فقد جاء الاستثناء هنا، ليقرر هذا الواقع الذي يعشن فيه مع من ملكوا رقابهن، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» .
والحكم الثاني: هو إطلاق الإباحة- التي هى الأصل- فى التزوج بين الرجل والمرأة، وذلك بعد تجنب أولئك المحرمات اللاتي ورد ذكرهنّ وفى هذا يقول سبحانه:
«وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» والابتغاء هو طلب الزواج من أي امرأة غير اللاتي سبق ذكرهن.. والابتغاء لا يكون بالرغبة مجردة، ولكن بالرغبة ومعها المال الذي يصلح مهرا للمرأة المراد التزوج منها، والذي يهيىء لها بعد الزواج حياة صالحة تجد فيها السكن والاستقرار هى وما تثمر الزوجية من ذرية.. وبهذا المال الذي هو رزق من رزق الله ينبغى أن تطلب المرأة التي أحل التزوج بها، وأن يصان عن أن يكون أداة لطلب المتعة من المرأة، على غير ما شرع الله فى الزواج..
وثالثا: يجىء بعد هذا قول الله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» .(3/747)
فالضمير فى «به» يعود إلى المال المشار إليه فى قوله تعالى: «أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» ، والضمير فى «منهن» يعود إلى من أحل من النساء، وهن لمشار إليهن فى قوله تعالى: «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» ويكون معنى الاستمتاع هنا، طلب الزوجة، أي ومن طلبتم بهذا المال الذي فى أيديكم من هؤلاء النساء فآتوهن مهورهن، فريضة فرضها الله عليكم، ولا حرج عليكم فى أن تتياسروا فيما بينكم، بعد أداء هذا الحق، فيكون للمرأة أن تنزل عن شىء من هذا المهر، الذي صار حقا لها فى يدها، ويكون للرجل أن يزيد فى المهر بعد أن أعطى الحق الذي عليه..
فالقضية هنا قضية الزواج فى صميمها، قد جاءت آيات الله لتكشف حلالها وحرامها، وتحدّد حدودها، وتلزم الرجال بأول شىء وأهم شىء مطلوب منهم فيها وهو المهر، بعد أن تتجه رغبة الرجل إلى الزواج من المرأة التي أحلّ الله له الزواج منها، والتي ليست واحدة من أولئك المحرمات.. فليس بمعقول أبدا أن يدخل على هذه القضية، قضية المتعة، التي هى فى حقيقتها أكثر من قضية الزواج تعقيدا، وأشدّ عسرا، وأخطر أثرا- بالإشارة إليها تلك الإشارة الخفية، لو صحّ أنّ الإشارة كانت إليها، ولما عرضها هذا العرض الخاطف، بل لجعلها قضية بذاتها، ولرسم حدودها، وبيّن معالمها، وموقف كل من الرجل والمرأة فيها..
وانظر كيف كان موقف الشريعة من التزوج بالإماء، وهنّ ما هنّ فى الحياة الاجتماعية التي كانت لهنّ.
يقول الله تعالى بعد هذا مباشرة: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(3/748)
ففى الزواج من الإماء أمور:
أولها: أن الزواج بهن لا يصار إليه إلا عند قلّة المال.. على خلاف زواج المتعة، الذي لا يمنع منه كثرة المال ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، إذ لا يقصر المحلّون لزواج المتعة إباحته على المعسرين، بل هو- فى الواقع- للأغنياء قبل الفقراء.
وثانيها: أنها تتزوج كزواج الحرة، أي زواجا مطلقا زمنه، غير محدود- وذلك على خلاف المتعة التي لا تصح- كما يقول القائلون بها إلا إذا نصّ فيها على زمن معين: ساعة، أو يوما، أو شهرا، أو سنة، أو سنين!.
وثالثها: أن الأمة تحصن بالزواج، وتؤخذ بأحكامه، من طلاق، وعدّة، وإقامة حدّ، عند ثبوت الزنا: «فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» .. وهذا يعنى أنها ذات كيان شخصى، واعتبار إنسانى، بما أضفاه عليها الزواج من مكانة فى المجتمع.. على خلاف المتعة، فإنها لم تشرّع لها الشريعة شيئا، لا فى كتاب الله، ولا فى سنة رسوله، وإنما كل ما تعلق بها من أحكام، هو من عمل القائلين بها، ومن تقديرهم لها.
ورابعها: أن الزواج بالإماء- وإن أباحته الشريعة- هو أشبه بالمحظور، لا يصار إليه إلا عند العجز عن زواج الحرائر، وإلّا عند الحاجة التي يخشى معها المسلم الخطر على دينه.. «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» .
هذا هو الوجه الذي يطلّ علينا من «الإماء» ، ونحن ننظر إليهن كزوجات.
فما الوجه الذي تبرز لنا به «الحرائر» ، ونحن نرمى بأبصارنا إليهن وهن فى معرض «المتعة» ؟.(3/749)
الحقّ أن زواج المتعة- على الرغم مما رسم له أصحابه من حدود، حين قالوا بالعدّة بعد انتهاء الأجل، وحين سمّوا الجعل الذي يجعله المتمتع للمرأة، مهرا، وعلى ما قرروه من نسبة الولد إلى من علقت به المرأة منه- على الرغم من كل هذا، فإنه ينزل بالمرأة إلى أدنى درجات الإنسانية، ولا يجعل منها عند المتمتع بها أكثر من أجيرة، تبيع عرضها لمن يدفع الثمن الذي يرضيها.
وما ظنك بامرأة لا تسكن إلى بيت، ولا يكون لها عند الرجل أكثر من هذا القدر من المال الذي جعله لها نظير المتعة، فلا يلزمه لها طعام ولا كساء ولا سكن، وإنما كل الذي لها عند الرجل- على شريعة المتعاملين بها- هو المال الذي يتفق هو وهى عليه، مقابل تمتعه بها.. فأى امرأة هذه؟ وأي رابطة إنسانية بينها وبين الرجل؟ وأين ما يجده الرجل فى المرأة من سكن، ومخالطة روحية ونفسية، قبل المخالطة الجسدية؟ والله سبحانه وتعالى يذكرّ عباده بتلك النعمة الجليلة التي يجدها الرجل فى المرأة، إذ يقول: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة» .. فأين السّكن وأين المودة؟ وأين الرحمة فى زواج المتعة؟ وأين ما تجده المرأة فى رجل المتعة من قوامة عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» وكم تعاشر المرأة التي تعيش فى حياة المتعة من رجال؟ وكم تلتقى بوجوه من المتمتعين بها؟ عشرات ومئات! فهل يجد الرجل فى مثل هذه المرأة شيئا من العاطفة الإنسانية التي بين المرأة والرجل؟ وهل يجد إلا صورة من لحم ودم، أو بقية صورة من لحم ودم؟
وأين الحرمة القائمة على صيانة الأنساب وعدم اختلاطها؟ وهل لهذه العدة التي قررها أصحاب المتعة حرمة فى نفس امرأة المتعة التي تعيش مع الرجل ساعة أو ما هو أقل من ساعة؟ ذلك محال.(3/750)
ثم أين البيت الذي يقوم على زواج المتعة؟ وأين الأسرة التي يضمها هذا البيت ويحتويها؟
يقول العاملون بالزواج المتعى: إنه مع إباحة المتعة عندهم، فإن البيوت قائمة، والأسر عامرة.. ولم يحل زواج المتعة بيننا وبين الزواج الدائم الذي شرعته الشريعة الإسلامية..
ونقول: هذا شاهد على أن زواج المتعة غير معتبر عند أصحابه، وأنه إذا أشبع شهوة الجسد، وأرضى مطالبه، فإنه لم يعد منه شىء على جانب القلب والروح، بل إنه ربّما زاد القلب ظمأ، والروح تطلعا إلى «المرأة» التي تسكن إلى الرجل ويسكن إليها..
ونسأل: أكان التسرّى، وامتلاء الدور بالإماء والجواري- قبل إلغاء الرق- أكان مغنيا عن «الزواج» وداعيا إلى الزهد فيه والعزوف عنه؟
إن هذا من ذك.. سواء بسواء.
فإذا ذهبنا نسأل عن الحلال والحرام، وسألنا عن قوله تعالى: «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» لم نجد لهذه الآية المحكمة مكانا بين المسلمين مع القول بإباحة المتعة.. فإنه مع المتعة لا مجال للتعفف حتى يجد الرجال المال الذي يمكنهم من الزواج، إذ كان فى استطاعة أي رجل أن يحصل على المرأة بالمتعة، ولو برغيف، أو مادون الرغيف- كما يقرر ذلك المشرعون للمتعة- بل إن الأمر لأهون من هذا، إذا اتفقت المرأة والرجل على المتعة ولو بتمرة يلتقطها الرجل من الأرض! إن الحياة الزوجية بمعناها الذي تقرر فى الشريعة الإسلامية، هى فطرة فى الإنسان، وما جاءت الشرائع لتقررها، وإنما كل ما جاءت به الشرائع هو(3/751)
تنظيمها، وتوضيح معالمها، وحمايتها من الأمراض الوافدة عليها، والبدع الملتصقة بها.. بل إن فى كثير من أجناس الحيوان والطير ما يعقد صلته على حياة دائمة متصلة بين الذكر والأنثى، حتى لا يفرقهما إلا الموت، وحتى ليموت أحدهما أسى وحسرة بعد موت رفيقه، وشريك حياته، فلا تهنؤه حياة من بعده! وبعد..
فهل كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه- هو الذي عارض شريعة الله وحرم ما أحلّ الله من متعة؟
ولا نجد ردّا على هذا أبلغ مما ذكره الفخر الرازي فى تفسيره! يقول الرازي: «ذكر- أي عمر- هذا الكلام (أي ما قاله فى تحريم المتعة) فى خطبة، فى مجمع الصحابة، وما أنكر عليه أحد.. فالحال هنا لا يخلو. إمّا أن يقال إنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة، ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا بإباحتها ولا حرمتها فسكتوا لكونهم متوقّفين فى ذلك.. والأول- وهو علمهم بحرمة المتعة وسكوتهم- هو المطلوب، والثاني- وهو علمهم بإباحة المتعة وسكوتهم عن عمر- يوجب تكفير عمر، وتكفير الصحابة، لأن من علم أن النبىّ صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة، من غير نسخ، فهو كافر بالله، ومن صدقه عليه، مع علمه بكونه مخطئا كافرا، كان كافرا أيضا، وهذا يقتضى تكفير الأمة. وهو على ضدّ قوله تعالى:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ..
والثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة، فلهذا سكتوا، فهذا أيضا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح.
واحتياج الناس إلى معرفة الحال فى كل واحد منهما، عامة فى حق الكل،(3/752)
ومثل هذا يمتنع أن يبقى خفيا، بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عالمين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة، وجب أن يكون الحال فى المتعة كذلك..
ولما بطل هذان القسمان- الثاني والثالث- ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر لأنهم كانوا عالمين أن المتعة صارت منسوخة فى الإسلام» ..
وننتهى من هذا إلى حقيقتين، ينبغى أن نقررهما فى هذا المقام:
أولاهما: أن القرآن الكريم لم يجر فيه ذكر بإباحة المتعة، وأن الآية الكريمة، التي يستشهدون بها لهذا، وهى قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» إنما هى لتقرير حكم من أحكام الزواج الشرعي الدائم، وهذا الحكم، هو المهر الواجب لصحة عقد هذا الزواج.
وثانيتهما: أن إباحة المتعة كانت مما أباحه الرسول الكريم- بإذن ربه- فى حال خاصة، حيث كان المجاهدون من المسلمين فى حال غربة، ولم يكونوا قد اصطحبوا نساءهم معهم، فخافوا الفتنة على أنفسهم، حتى أن بعضهم طلب الإذن لهم بالخصاء، كما أشرنا إلى ذلك فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود، رضى الله عنه، وهو قوله: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ثم قرأ علينا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..
وفى هذا الحديث:
أولا: أن المسلمين لم يكونوا إلى تلك الواقعة قد أذنوا بشىء فى المتعة.
وثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رخّص لهم، وأنه لم يتل عليهم(3/753)
الآية التي قيل إنها نزلت فى المتعة، بل تلا عليهم، تلك الآية الكريمة التي تدعوهم إلى الإبقاء على العضو الذي يصل الرجل بالمرأة، وألا يحرموا أنفسهم التمتع بالنساء، وهن من الطيبات التي أحل الله لهم أن يتمتعوا بها.. فلو كانت للمتعة آية، لذكرها الرسول الكريم، ولأوضح للمسلمين مفهومها إن كانت فى حاجة إلى توضيح، وإلا لسكت الرسول حتى يأتيه أمر ربه بآية، أو وحي غير قرآنى.. فجاءه الوحى غير القرآنى، الذي أباح فيه الرسول للمسلمين المتعة فى تلك الحال، التي هى خروج على أصل التحريم لنكاح المتعة، بحكم الاضطرار فهى كما قال ابن عباس فيما روى عنه. «إنها تحل للمضطر، كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير» .
ومما يستشهد به لإباحة المتعة عن طريق السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنى كنت أحللت هذه المتعة ألا وإن الله ورسوله قد حرّماها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فقول الرسول الكريم: إنى كنت أحللت هذه المتعة» صريح فى أن هذا كان من السنة ومن عمل الرسول، وليس مما جاء به القرآن الكريم.. وفى قوله صلوات الله عليه «هذه المتعة» وفى الإشارة إليها على هذا الوجه، ما ينبىء عن سقوطها وتقذّرها. ويؤيد هذا، الحديث المروىّ عن رسول الله: «يا أيها الناس إنى أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن فليخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» فقد أشار الرسول إلى نساء المتعة بقوله: «هذه النساء» ولم يقل هؤلاء النساء لصغار شأنهن، وأنهن فى حكم شىء واحد.. وفى قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن كان عنده منهن» ولم يقل من كان عنده امرأة أو أكثر منهن، وذلك للإشارة إلى أن أنهن أشياء.. مجرد أشياء.. وفى قوله «منهن» إشارة ثالثة إلى أنهن صنف له وضع خاص فى المجتمع، وهو وضع مشين، يكنى عنه، ولا يصرّح به.(3/754)
وعلى هذا فإن المتعة أبيحت بالسنّة فى حال خاصة، فى ظرف اضطراري، وأنها قد حرمت بالسنة بعد زوال هذا الظرف، وإن إباحتها كانت لأناس مخصوصين لا يجوز أن يلحق بهم غيرهم إلى يوم القيامة، وأن عمر بن الخطاب إنما كان موقفه منها هو توكيد هذا التحريم، وقطع الطريق على أولئك الذين أرادوا أن يجعلوا تلك الخصوصية التي كانت لهؤلاء الذين أباح لهم النبىّ المتعة- منسحبة إلى غيرهم إذا دعت داعيتها، وهى الاضطرار، بالانقطاع عن الأهل، فى جهاد أو سفر أو نحوهما..
أخرج مسلم فى صحيحه، عن أبى نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكرت ذلك لجابر (بن عبد الله) ، فقال: على يدى دار هذا الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي فى حياته) فلما قام عمر (أي ولى الخلافة) قال: «إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموّا الحجّ والعمرة، وأبتّوا (أي اقطعوا) نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة» أي حكم عليه حكم الزاني المحصن، حيث كان الذين يقعون تحت هذا الحكم هم من المحصنين الذين استطاعوا أن يتزوجوا بامرأة أو أكثر، ثم كانت المتعة عندهم مطلبا آخر، من مطالب المتعة، ولهذا اعتبرها «عمر» زنا صريحا.. وقول عمر: إن الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء، هو صريح فى أن ذلك كان من خصوصيات الرسول، وأن إذنه فى حال خاصة، ولشخص أو أشخاص معينين، بما يأذن به، لا ينسحب إلى غيرهم، كما هو مقرر فى الشريعة باتفاق.
وبعد:(3/755)
فإن الكلام فى نكاح «المتعة» كثير، وهو- على أي حال- باب شرّ سدّه المسلمون، وأجمع أهل السنة جميعا على تحريمه، وإن كان لبعض الشيعة متعلّق به، وحجة عليه، لما ثبت من أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان قد أباحه فى ظرف خاص فى إحدى الغزوات التي طالت غربة المجاهدين فيها.. ثم ثبت عند أهل السنة أن الرسول حرّمه، بعد أن زالت الحال الداعية له ... فهو أشبه بالميتة التي يباح للإنسان التناول منها عند الاضطرار، وخوف الموت جوعا!.
فلو أن نكاح المتعة كان مباحا على إطلاقه لفسد نظام المجتمع، ولا نحّلت روابط الأسرة، ولما رغب الرجال عنه إلى الزواج واحتمال تبعاته! بل ولما كان من الإسلام تلك العناية البالغة، التي أولاها لقضية الزواج، التي تكاد تكون أبرز وأهم قضية عرض لها التشريع الإسلامى، فوضع الحدود الواضحة المفصلة للزواج، والطلاق، والعدة، والرضاع، والميراث، وعرضها عرضا كاشفا، فى معارض مختلفة من النظم، حتى تتأكد وتتقرر.
إن الطبيعة البشرية السليمة تعاف هذا المورد، وتأبى أن تقيم حياتها عليه.. بل إن الحياة الجاهلية لم تعرف نكاح المتعة، ولم تعترف به، وإن عرفت الزنا، وأطلقته، وغشى موردة الرجال والنساء، جهرة.. إلّا أنهم- مع هذا- كانوا يضعون «الزنا» بهذا الموضع الخسيس الذي هو له، ويعزلون النساء اللائي يحترفن هذا المنكر عن مجتمع الحرائر، ويفرضون عليهن أن يقمن على بيوتهن رايات، حتى يعرفن بها.
إن نكاح المتعة هو الزنا متسترا بظلال الحلال، وهو أشبه بالنفاق الذي يخفى وجه صاحبه وراء كلمة الإيمان، يقولها المنافق بفمه، ولا يقيمها فى قلبه..
والزّنا الصّراح خير من هذا الزّنا المتخذ اسم المتعة مجازا له.. إذ كان(3/756)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
الزاني يزنى وهو يعلم يقينا أنه يأتى فاحشة، ويواقع منكرا.. ومثل هذا قد تكون له توبة إلى الله، واحتجاز عن هذه الفاحشة.. وليس كذلك من يزنى تحت اسم «المتعة» لأنه يحلّ هذا الحرام، ويستبيح تلك الفاحشة، بهذا المدخل الذي يدخل به إليها، ويرفع عن صدره الضيق والأذى، الذي كان يجده لو أتى ما أتى من غير أن يستصحب معه هذه الكلمة المنافقة.. كلمة «المتعة» !!
الآية: (25) [سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا» .
الطول: البلوغ إلى الشيء، والتمكن منه.. يقال: طال الشيء يطوله، إذا قدر عليه. والمراد به هو القدرة على التزوج من الحرائر المحصنات، وطول اليد لمهرهن، والنفقة عليهن.
فلقد أباح الله سبحانه لمن قصرت يده عن التزوج من الحرائر، وخشى على نفسه الوقوع فى المعصية، وغشيان المنكر- أن يتزوج من الإماء، حيث مهرهن قليل، ونفقتهن يسيرة، بالنسبة للحرّة.. وذلك بعد إذن أهلهن، ومالكى رقابهن.(3/757)
وفى قوله تعالى: «فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» لمسة رقيقة رفيقة، من لمسات السماء، لتعطف القلوب على هؤلاء الفتيات، ولتفتح عليهن باب الأمل والرجاء، فى حياة كريمة، يجدنها فى آفاق الحياة الزوجية، ويخرجن بها عن دائرة العبودية، والامتهان!.
فالأمة حين تتحول إلى زوجة لرجل حرّ، تصبح فى ضمان رجل يرعاها، ويتعهد شؤونها، ويقوم على أمرها، بعد أن كانت هملا مطلقا، لا ينظر إليها إلا كما ينظر إلى متاع أو حيوان! وانظر إلى رحمة الله، وإلى تدبيره سبحانه، فى مواساة الإماء، وتحرير رقابهن.
فأولا: ما وصف به الإماء هنا، من أنهن فتيات، دون وصفهن بالإماء.. ثم إضافتهن إلى المجتمع الإسلامى، المخاطب بهذا الخطاب من رب العزة.. «فتياتكم» .. فهنّ بهذا الوصف من أبناء هذا المجتمع، ومن فتياته، ولسن من عالم غريب عنه.
وثانيا: يأتى وصفهن بالمؤمنات، فى مقابل وصف الحرائر المحصنات بهذا الوصف.. «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» فهؤلاء وأولئك جميعا- حرائر وإماء- على منزلة واحدة عند الله، فى التعرف إليه، والإيمان به.. وفى هذا المقام يكون التفاضل بين إنسان وإنسان.. فربما تبلغ الأمة بإيمانها منزلة رفيعة عند الله، تتقطع دونها أعناق كثير من الحرائر المؤمنات.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك كاشفا عن هذه الحقيقة، ومنوها عنها: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ» وبهذا الإيمان يفضل بعضكم بعضا، دون حساب للوضع الاجتماعى للحرّة أو الأمة.. ثم جاء قوله تعالى بعد ذلك: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» مؤكدا لهذه الحقيقة، وأن الإيمان بالله، والعمل بمقتضى هذا الإيمان هو الذي يحدّد درجات(3/758)
الناس عند الله، ويرفع منازلهم، إذ لا حرّ ولا عبد عند الله، الذي خلق الناس جميعا من نفس واحدة، وولّد بعضهم من بعض.
وثالثا: فى قوله تعالى: «فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» وفى إضافة الإماء إلى مالكى رقابهن وإلى من يجتمعن إليه من أقاربه- فى هذا ما يرفع الرقيق عن تلك المنزلة الدنيا التي ينزلها فى المجتمع، إلى منزلة الأهل والولد «أهلهن» .
ورابعا: ما يشير إليه قوله تعالى: «وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» من أن الأمة كالحرّة فى أنها تستحق المهر عند الزواج، وأن هذا المهر من شأنه أن يكون لها، ولكن الوضع الاجتماعى جعلها هى وما تملك ملكا لمالكها.. وهذا الوضع يبدو قلقا مضطربا أمام قوله تعالى: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» الأمر الذي يحرج مالكها عن أن يتناول حقا هو لها.. وأما وقد أذن الله له أن يتناوله- مع هذا الحرج- فإن الطريق مفتوح لردّ الحق إلى أهله فى مستقبل الأيام! وخامسا: وأكثر من هذا كله، فى صنيع الإسلام للرقيق، وفى العمل على فك رقبته- ما أباحه للأحرار من التزوج بالإماء..
فهذه الإباحة تفتح بابا واسعا لتحرير الإماء، وتخليصهن من الرق.. وذلك أن الرجل إذا تزوج بالأمة، بعد إذن مالكها، تصبح من حرماته التي يغار عليها، ويعمل جاهدا على صونها ودفع أية شائبة تحوم حولها..
والأمة المتزوجة ليست خالصة ليد من تزوج بها.. فما زالت رقبتها ملكا لغيره، له أن يبيعها لغير من تزوج بها، بما تعلق بها من حق الزوج فيها..
وهذا وضع يشين الزوج، ويسوؤه فى زوجه، ويجرح كرامته، وخاصة إذا ولدت له هذه الزوجة، أو حظيت عنده بالمحبة.. ولا سبيل لإصلاح هذا الوضع، وإعطاء الزوج حقه كاملا فى زوجته إلا أن يعتقها من هذا الرق، فيعمل كل ما وسعه العمل للحصول على المال الذي يشتريها به من مالكها..(3/759)
حتى إذا صارت إلى يده أطلقها، وحرّر رقبتها! ثم إن فى قوله تعالى: «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» - إثارة لشعور الرجل الذي تزوج بالأمة، أن يحصنها وأن يبعدها عن التبذل والامتهان، اللذين يغلبان على حياة الإماء..
فالزوجة الأمة، ليست هى الآن أمة فى الحياة الزوجية، وإنما هى زوجة، لها عند الرجل الحرّ ما للزوجة الحرة عند زوجها.. فإذا كان بعض الذين يتزوجون بالإماء يستخفّون بحرمتهنّ، ولا يجدون كبير حرج فى أن يظللن على حياتهن قبل الزواج من التبذل والامتهان- فإن فيما لفتهم الله سبحانه وتعالى إليه فى قوله جل شأنه: «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» - ما يوقظ فى نفوسهم نخوة الرجال، وغيرة الأحرار، وبسط أيديهم على أولئك الزوجات، الأمر الذي لا يستقيم إلا إذا تحررت الزوجات من الرّق وخلصت لأيديهم! هذا هو بعض تدبير الإسلام لمحاربة الرقّ، وتخليص هذه الآفة الإنسانية من جسم المجتمع البشرى.. وللإسلام أكثر من تدبير لمحاربة هذه الآفة، وسنعرض لذلك فى بحث خاص، إن شاء الله.
وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» . بيان لحكم الأمة إذا أحصنت بالزواج، ثم ثبت عليها الزّنا، وهو يقضى بأن يكون حدّها نصف حد المحصنة الحرّة! والمحصنة الحرّة إذا زنت كان حدّها الرّجم، فهل يمكن أن يكون حدّ الأمة نصف هذا الحد، وهو الرّجم؟ والرّجم مراد به الموت رجما بالحجارة، فكيف يقام نصف هذا الحدّ على الأمة؟ وهل ترجم نصف رجم، وتموت نصف موت؟ ذلك غير متصوّر!(3/760)
والذي أخذ به هنا، واستقرّ عليه العمل إجماعا، هو أن تجلد الأمة خمسين جلدة، إذ كانت الحرّة غير المحصنة تجلد مائة جلدة! وهناك أمران يمكن أن ينظر إليهما، للأخذ بهذا الحكم، والاستناد عليهما، والاستئناس بهما فى قبوله..
وأول الأمرين: أن حدّ الزنا فى القرآن الكريم هو مائة جلدة للحرّة، لا فرق فى هذا بين محصنة، وغير محصنة.. أما الحكم برجم المحصنة فقد ثبت بالسنة المطهرة.
وإذا كانت السنة المطهرة قد جاءت بعقوبة الرجم للمحصنة الحرة، ولم تتعرض للمحصنة الأمة، فيبقى الحكم القرآنى مسلطا على الأمة بإطلاقه، أي بالجلد، وبنصف المائة التي هى حد المحصنة.
وثانى الأمرين: أن فى قوله تعالى: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» إشارة إلى أن النص العامل فى عقوبة الأمة هو النص القرآنى فى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فإن كلمة «العذاب» فى حدّ الأمة، وكلمة «عذابهما» فى حدّ الحرّين، الزانيين، تجعلان العقوبة هنا من نوع العقوبة هناك، وأنها جلد لا رجم، فيه عذاب، لا موت! وأما الحكمة فى أخذ الأمة بنصف عقوبة الحرّة فى جريمة الزّنا، تلك الجريمة التي لا تختلف آثارها باختلاف الأشخاص، ووصفهم الاجتماعى- فإن الإسلام نظر إلى تلك الجريمة هنا من أفق آخر، غير الأفق الذي نظر منه إليها فى حال تجريمها، وتأثيمها.. فالزّنا هو الزّنا، والسرقة هى السّرقة، ولكن هناك ظروف مخففة للجريمة، كالإكراه، والاضطرار، ونحوهما.. والأمة واقعة تحت(3/761)
ظروف كثيرة، تجعلها تتعرض لارتكاب هذه الخطيئة أكثر من الحرة..
فهى (أولا) كانت قبل الزواج والإحصان مطلقة، تمارس هذه الجريمة دون تحرّج أو تأثّم، بل إن كثيرا من مالكى رقابهن كانوا يدفعونهنّ دفعا إلى هذا المنكر، ويكرهونهنّ عليه، لما يحصلن عليه من مال يعود آخر الأمر إلى السيد المالك..
ولهذا جاء أمر الله: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - جاء أمر الله هنا ناهيا عن الإكراه وحده.. وهذا لا يلزم الأمة أن تتعفف إذا هى لم ترد التعفف..
وهذا الوضع الذي كان للأمة قبل الزواج من التبذل والامتهان، يصطحبها إلى ما بعد الزواج، ويجعلها بمعرض الزلل، وفى مواجهة الخطيئة، بما كان لها من أصحاب وأخدان.. الأمر الذي من شأنه أن يكون عاملا مخففا للجريمة المقترفة منها فى هذا المجال.. أي بعد الزواج ومن جهة أخرى فإن يد الزوج على الأمة يد غير مطلقة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وأنه إذا كان الزوج قد المنفعة، فإن سيدها لا زال يملك الرقبة.. وهو بهذا الوضع فى الجانب الأقوى بالنسبة للأمة، ولسلطانه عليها..
وهذا من شأنه أن يرخى يد الرجل عنها، وأن يقبلها على علاتها- الأمر الذي من شأنه أن يقيم للأمة المحصنة عاملا آخر للتخفيف فى العقوبة الواردة على الزنا..
وقوله تعالى: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» إشارة إلى أن التزوج من الإماء لا يصار إليه إلا عند الضرورة، وتوقع الرجل عدم القدرة على مغالبة شهوته..(3/762)
فالعنت والإعنات: الإرهاق والضيق من أمر لا تتسع النفس لاحتماله، ولا تقدر العزيمة على الإمساك به.
فمن خشى من الرجال غير المحصنين، الذين لا يجدون فى أيديهم من المال ما ينالون به التزوج من الحرائر- من خشى منهم العنت وعدم احتمال التعفف، فإنه لا بأس من أن يتزوج من الإماء، بعد رضا مالكهن، وإيتاء المهر المطلوب لهن، مع مراقبتهن والعمل على صيانتهن من التبذل والاتصال بأخدانهنّ، حتى لا تشيع الفاحشة فى المجتمع.
وفى قوله تعالى: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» دعوة إلى الصبر واحتمال بعض العنت فى العزوبية، وترجيح جانب الإمساك عن التزوج بالإماء، على التزوج بهنّ، لما يثرن فى الحياة الزوجية، التي ينبغى أن تظللها العفة، ويحرسها التصون والشرف- من غبار الريبة، ودخان التبذل، وريح الفاحشة! وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إماءة من طرف خفى إلى تجنب التزوج بالإماء، والصبر على العزوبية، وإن لقى منها صاحبها العنت فى الحفاظ على دينه ومروءته، وإن جرّه ذلك الموقف إلى أن يلمّ ببعض اللمم، بحيث لا يدنو من الفاحشة، ولا يحوّم حولها.. فإن لم يأمن ذلك فالزواج بالإماء خير، إذ يدفع شرّا بما هو أهون منه شرا.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» (31- 32: النجم) ذلك، والقرآن الكريم إنما يخاطب هنا إنسانا مؤمنا، حريصا على دينه، متحرّيا النصح لنفسه، فى الحفاظ عليها مما يغضب ربه، ويفسد عليه دينه.. وليس الخطاب لإنسان يمكر بآيات الله، ويريد أن يتخذ من رحمة الله ولطفه بعباده،(3/763)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
طريقا إلى تزيين الحرام، وإلباسه زىّ الحلال المباح، فذلك تمويه على النفس، وخداع لها.. وإن الحلال بيّن والحرام بيّن.. وإن إغماض العين عن الحرام، وأخذه مأخذ الحلال، لن يغير من صفته، ولن يقيم للإنسان عذرا عند الله، بل إن ذلك نفاق مع الله، ونفاق مع النفس، وهو أشد من الكفر.. ضلالا، وبلاء..
إن دين المرء أمانة بينه وبين ربه.. ليس لأحد سلطان عليه فى حفظ هذه الأمانة أو تضييعها، فله أن يحفظ أو يضيّع، وحسابه بعد ذلك على الله، وهو خير الحاسبين..
الآيات: (26- 28) [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
التفسير: فى هذه الآيات الثلاث التي جاءت تعقيبا على تلك الأحكام التي شرعها الله للمسلمين، ووضع بها الحدود لما حرّم وأحلّ من النساء، ولما أباح من التزوج بالإماء لمن عجز عن التزوج بالحرائر، وخشى العنت- فى هذه الآيات الثلاث يكشف الله سبحانه وتعالى عن رحمته بالناس، فيما شرع لهم، وفضله عليهم فيما أباح لهم من طيبات، وفى هذا وذاك خير الناس وسعادتهم، إذا هم استقاموا على شرع الله، ووقفوا عند حدوده.(3/764)
وقد صدّرت الآيات الثلاث بقوله سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ» ، وفى ذلك ما يلفت النظر، ويدعو إلى التوقف والتأمل..
فإرادة الله سبحانه وتعالى، نافذة، لا مردّ لها، ولا معوق لنفاذها وإمضائها على الوجه الذي أراده..
«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وقد تعلقت بإرادة الله هنا أمور، تضمنتها الآيات الثلاث هى:
أولا: بيان الأحكام، ووضع الحدود للمسلمين بين الحلال والحرام:
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» .
ثانيا: أخذ المسلمين بالسنن التي أخذ الله بها الأمم من قبلهم، يبيّنها الله لهم ويهديهم إليها: «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .
ثالثا: التوبة على المسلمين، مما ارتكبوا من آثام وخطايا.. «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» .
رابعا: التوبة التي يريدها الله للمسلمين، يعارضها من جانب آخر، المفسدون وأصحاب الأهواء، إذ يريدون لهم الميل عن الصراط المستقيم الذي دعاهم الله إليه، وانحرافهم انحرافا حادا عنه. «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» خامسا: التخفيف عن المسلمين فيما أخذهم الله به من أحكام، حيث أنه سبحانه وتعالى يعلم ما فى الإنسان من ضعف، وما فى كيانه من قوى تنزع به إلى التخفف من أوامر الله، والتحلل من نواهيه.. «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» .
والسؤال هنا: ماذا عن هذه المتعلقات التي تعلقت بإرادة الله؟ وهل هى ماضية نافذة؟.
وهل لو كانت قد مضت ونفذت، أكان فى المسلمين المخاطبين بكلمات الله هذه، منحرف أو ضال؟(3/765)
وكيف وهذه أحكام الله بيّنة، وحدوده واضحة؟ وكيف وإرادته متجهة إلى هدايتهم والتوبة عليهم؟
والذي نحبّ أن نفهم عليه إرادة الله سبحانه وتعالى هنا، وفى غيرها من المواضع المشابهة- هو «الطلب» غير الملزم، حتى يكون للإنسان مجال للاختيار بين الاستجابة للطلب، أو التأتّى عليه، وبهذا يشعر الإنسان بوجوده الذاتي، وبالمسئولية الملقاة عليه.. وعلى هذا يكون حسابه وجزاؤه، بالخير خيرا، وبالشر شرا.. وذلك فى كل أمر للإنسان فيه إرادة وعمل.. أما حين لا يكون لما يريده الله متعلّق بعمل العبد، فهى إرادة مطلقة نافذة..
فالإرادة فى قوله سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. إرادة خالصة لله، لا متعلّق للعباد بها، لأنها تتعلق بشرع الله الذي يشرعه للمسلمين، كما شرعه لعباده من قبل على يد أنبيائه ورسله.. وعلى هذا فهى إرادة نافذة.. لأنه لا متعلّق للعباد بشرع الأحكام، وإقامة حدودها.
أما الإرادة فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» فهى إرادة طلب، ودعوة، متجهة إلى العباد، ولهم أن يستجيبوا لهذا الطلب وأن يلبّوا تلك الدعوة، أو يتوقّفوا.
فالله سبحانه، قد دعا عباده إلى التوبة، فى آيات كثيرة.. فقال تعالى:
«وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (31: النور) وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (8: التحريم) .
فمطلوب من العباد أن يتقدموا إلى الله بالتوبة، فإذا تابوا تاب الله(3/766)
عليهم.. كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» (25: الشورى) ويقول جل شأنه: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (82: طه) .
وفى الإنسان نوازع تنزع به إلى الهوى، وتدفعه إلى الخروج على الطريق المستقيم، الذي دعاه الله إليه.. وفى محيط الإنسان شياطين من الإنس والجن، توحى إليه بالشر، وتوسوس له بالسوء، فيلتقى ذلك مع أهوائه ونوازعه، وهنا يقع الصراع بين ما فى قلبه من إيمان وتقوى، وبين هذه القوى المسلطة على إيمانه وتقواه.. فيكسب المعركة أو يخسرها، حسب بلائه فيها، وبذله لها.
وبهذا يكون النصر محسوبا له، على حين تكون الهزيمة محمولة عليه.. وفى هذا يتفاوت الناس، ويختلفون منازل ودرجات عند الله، كلّ حسب عمله وبلائه.
وأمّا إرادة التخفيف عن المسلمين، فيما أخذهم الله به من أحكام، فهى من حكمة الله، ورحمته، ليس لأحد أن ينازع الله فى حكمته، أو يمسك عن عباده مواطر رحمته.. لأنه لا متعلق لأحد بهذه الإرادة، ولا مطلوب فيها لأحد.. إنها خالصة من الله، لعباد الله.
فالإرادة الإلهية، تكون تارة بمعنى الطلب، وهو أن يطلب الله سبحانه وتعالى من عباده أمرا، يدعوهم إلى تلبيته، والاستجابة له، لما فيه من خيرهم، وإسعادهم.. وهذا الطلب من الله، لا إلزام فيه، ولا قهر معه.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) .
وتارة تكون الإرادة الإلهية بمعنى القضاء والحكم، وتلك إرادة نافذة لا تردّ.. «سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (35: مريم) .. «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (22: التوبة) .(3/767)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
هذا، وينبغى أن نذكر هنا، ونحن ننظر فى صفات الله وأفعاله أنها صفات وأفعال تغاير مغايرة مطلقة كل ما يقع فى تصوراتنا لها.. إنها ذات الله، وكما لا يمكن تصور ذات الله كذلك لا يمكن تصور صفاته وأفعاله! وأما ما جاء فى القرآن من صفات الله، من سمع، وبصر، وإرادة، وعلم، وقوة، وعزة، وغيرها، وما ورد من أفعاله، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتكلّم، وغيرها- فكل ذلك محمول على طبيعة مدركاتنا وتصوراتنا، وعلى مدى ما تبلغ من إدراك وتصوّر.. وإذا كان لا بد أن يكون للإله الذي نعبده مفهوم عندنا- كان لا بدّ أن يكون له عندنا متصوّر لذاته وصفاته وأفعاله.. ولكن أي متصور نتصوره فالله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله على خلافه.. فنحن نتصور الله سميعا، بصيرا، عالما، حكيما، قديرا.. ولكن لا بجوارح، ولا بأجهزة يعمل كل جهاز منها فى محيطه..
ونتصور الله سبحانه وتعالى، يخلق، ويرزق، ويتكلم، ويحيى، ويميت، ولكن لا يمكن تصوّر كنه هذه العمليات التي تتم بها أفعاله تلك، ولا الوجوه لله تكون عليها، ولو وقع ذلك وأمكن، لكان الله محدودا يمكن ضبط صورة لذاته وصفاته وأفعاله، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
الآيتان: (29- 30) [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)(3/768)
التفسير: هذه دعوة من الله إلى عباده، ومطلوب من مطلوباته إليهم، بل قل إرادة يريدها الله منهم.. وتلك الإرادة، هى ألا يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل!.
وإذ كان «المال» هو مبتغى الناس، ورغيبتهم، فيه يتنافسون، وله يعملون ويكدحون، ومن أجله، وفى سبيله تتصادم رغباتهم، ويقع الشرّ والعدوان بينهم، فيبغى بعضهم على بعض، ويغمط بعضهم حقّ بعض، فى صور وأشكال مختلفة.. من السرقة والاغتصاب، والاحتيال، والغش والخداع، والاحتكار، إلى غير ذلك مما هو واقع فى معترك الحياة بين الناس- إذ كان ذلك كذلك فقد كثرت وصايا الإسلام إلى الناس فى «المال» وفى رسم الحدود التي تمسك به فى دائرة النفع العام والخاص، ليؤدى وظيفته كنعمة من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على عباده..
ولم تقف نظرة الإسلام إلى المال عند أفق واحد.. بل امتدت نظرته إليه فشملت جميع الآفاق التي يكون للمال مكان فيها.. فى كسب المال وفى إنفاقه.. فى يد من يملك ومن لا يملك.. فى الميراث والورثة.. فى ملك اليتامى والسفهاء، وفى يد الأولياء والأوصياء عليهم.. إلى غير ذلك من الوجوه التي يرى فيها المال واقعا فى يد فرد أو جماعة.
وفى قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» إشارة إلى أن المال مائدة ممدودة من الله سبحانه لعباده، يأكلون منها، وأن لكل إنسان حظّه من هذا المال، وأن من وقع إلى يده قدر منه على حين خلت أيدى الجماعة التي حوله، أو قصرت عن أن تنال شيئا منه، كان واجبا عليه أن يعطى مما فى يده لمن حوله، إذ من غير المستساغ أن يأكل والناس المشتركون معه على المائدة، لا يأكلون..(3/769)
وفى كلمة «أموالكم» المضافة إلى المؤمنين جميعا، وكلمة «بينكم» - الظرف المكانىّ الجامع لهم جميعا- فى هذا ما يشير إلى وحدة الملكية للمال، ووحدة الاجتماع فى المكان.. وفى هذا وذاك ما يجعل الوحدة الشعورية بالتكافل بين هذه الجماعة، أمرا واجبا، إن لم تقض به شريعة السماء، ولم يدع إليه دين الله، قضت به المروءة، ودعت إليه!.
وهذا هو البرّ الذي دعا إليه القرآن.. فقال تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (92: آل عمران) .. وقال سبحانه: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ» (177: البقرة) ومن تدبير القرآن الكريم فى هذا، أنه لم يجعل هذه المائدة المشاعة بين الناس قائمة على قانون مادىّ قهرى، إذ لا سبيل إلى قانون يحمى بنصوصه ومواده، العدوان والبغي، وتسلط الأقوياء على الضعفاء، وإلا كان عليه أن يقيم وازعا من سلطانه على رأس كل إنسان.. يمسك بيده، ويدفع بغيه وعدوانه، وذلك أمر محال، وإنما جعل الإسلام ذلك إلى مشاعر الجماعة ووجدانها، بما أيقظ فيها من نوازع الخير، ودوافع الإحسان، وبما غذّاها به من فضله وإحسانه، وبما وعدها من حسن المثوبة، وعظيم الجزاء، فى الدنيا، وفى الآخرة جميعا.. «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» .
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» (39: الروم) ..
فتلك المشاعر الحيّة، وهذه الوجدانات المتفتحة لرحمة الله، الراغبة فى حسن(3/770)
الجزاء عنده، هى الحارس الذي لا يغفل، وهى الوازع الذي يقوم حجازا بين ظلم الناس للناس، وبغى الناس على الناس.
وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» هو استثناء متصل، وليس استثناء منفصلا كما ذهب إلى ذلك الزمخشري، وأكثر المفسّرين..
فالتجارة: هى من تلك المائدة الممدودة بين الناس «أموالكم» ، بل هى الوجه الواضح من هذه المائدة، إذ كانت أكثر الأموال دائرة فى فلك التجارة، متداولة بين أيدى الناس عن طريقها..
وفى عمليات التجارة، ربح وخسارة.
وفى جانب الربح قد يحصل كثير من الناس على أموال طائلة..!
وهذه الأموال التي ربحها الرابحون هى خسارة قد خسرها آخرون! والصورة فى جانب الرّبح تبدو وكأنها أكل لأموال الناس بالباطل، ذلك الأكل الذي ورد صدر الآية الكريمة بالنهى عنه! فهل هذا المال- مال الربح فى التجارة أيا كان من الكثرة- هل هو داخل فى هذا المال المنهي عن أكله بالباطل؟ وهل يتناوله الحكم الواقع عليه؟
هذا ما استثناه الله تعالى فى قوله: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» .
فهذا المال ليس من الباطل فى شىء.. هو مال حلال، إذ جاء عن عمليات بيع وشراء، لا قهر فيها، ولا تدليس أو غشّ، بين البائعين والمشترين.
وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» دعوة إلى صيانة الأنفس وحفظها، بعد الدعوة إلى صيانة الأموال وحفظها..(3/771)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
وقدمت الدعوة إلى صيانة المال على الدعوة إلى صيانة الأنفس، لأن المال هو قوام الحياة للأنفس، ولا حياة لها بغيره، فكانت صيانته مقدمة على صيانتها! ويقع قتل النفس على صور كثيرة.
فقد يقتل الإنسان نفسه بنفسه..
وذلك بأن يعرضها للتهلكة عن عمد فى غير إحقاق حق أو إبطال باطل.
أو بأن يصرفها عن الإيمان إلى الكفر. ويحارب الله ورسوله والمؤمنين.
أو بأن يعتدى على حرمات الغير، ويستبيح أموالهم ويأكلها بالباطل، أو يستبيح دماءهم، ويزهق أرواحهم بغير حق.
فكل هذه من بعض الوجوه التي يقتل بها الإنسان نفسه.
وقد توعّد الله سبحانه من يرتكب هذا الفعل المنكر بالعذاب الأليم فى قوله سبحانه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» فما جزاء هذا العدوان وذلك الظلم إلا هذا العقاب الأليم، فإن من لا يرحم نفسه، ولا يرحم الناس، لا تناله رحمة الله، الذي أطمعنا فى رحمته، وبسط لنا يده بها.. «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» .
الآية: (31) [سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
التفسير: هذا تعقيب على مطلوبات الله من عباده، وما دعاهم إليه أو نهاهم عنه فى الآيات السابقة، فى شأن اليتامى، والنساء، وفى حفظ الأموال والدماء.(3/772)
وفى هذا التعقيب رحمة واسعة من رحمات الله بالناس، وفضل كبير من أفضاله على عباده.. ففى النّاس ضعف يعلمه الله الذي خلقهم، وقليل منهم أولئك الذين يستقيم خطوهم على طريق الله استقامة كاملة، لا يضطرب فيها خطوه، أو تزل فيها قدمه! ولو يأخذ الله النّاس على كلّ انحرافة ينحرفونها، أو زلة يزلّونها لما نجا منهم أحد، ولا دخل عند الله مداخل الإحسان والرضوان.. إنسان.
وقد جاء هذا التعقيب الكريم، من ربّ كريم، ليفتح لعباده أبواب إحسانه ورضوانه، فيدخلوا فى سعة من رحمته ورضوانه، إذا هم اجتنبوا الكبائر، وعصموا أنفسهم منها، وخافوا الله فيها..
والكبائر أولها الكفر بالله، والشرك به.
ثم يتبع ذلك أعمال الجوارح، كالقتل، والزنا، وشرب الخمر.
فإذا تجنب العبد هذه الكبائر، ثم كانت منه زلة أو سقطة فيما وراءها، كانت رحمة الله قريبة منه، تمحو ما ارتكب من صغائر، بما اجتنب من كبائر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك: «نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» .. وهذا ما أشار إليه سبحانه فى قوله:
«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» (32: النجم) فما أوسع رحمة الله وما أعظم فضله.(3/773)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
الآية: (32) [سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
التفسير: فى الآية قبل السابقة، دعا الله سبحانه وتعالى إلى صيانة الأموال، وإلى قتل الأهواء، التي تنزع بالنّاس إلى أكل أموال بعضهم بعضا بالباطل.
وإذ كان المال- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- هو القوة المحركة، للناس، كما أنه هو القوة الدافعة إلى عدوان بعضهم على بعض، فإن الإسلام قد أولى المال عناية خاصة، وحرسه وحرس الناس، من دواعى الفساد التي تدبّ إليه وإليهم، فينقلب هو إلى نقمة بعد أن كان نعمة، ويتحول الناس إلى وحوش ضاربة، بعد أن كانوا بشرا سويا، أرادهم الله لعمران الحياة، وخلافته على هذه الأرض.
وفى هذه الآية وجه آخر من الوجوه التي يكشفها الإسلام للمال، ويكشف منه الداء الذي لو لم يتنبه الناس إليه، لأفسد حياتهم، واغتال أمنهم واستقرارهم.
وهذا الوجه هو تفاوت الناس فيما يقع لأيديهم من مال، هذا التفاوت الذي قد تبعد مسافاته من بين يملك القناطير منه، ومن لا يملك شيئا.. فيكون فى الناس الغنىّ الواسع الغنى، الذي يكاد يموت كظّة وتخمة، والفقير الذي يوشك أن يموت جوعا ومسغبة.
ولا شك أن هذا وضع من شأنه أن يثير فى النفوس- نفوس الفقراء والمحرومين- مشاعر الحسرة والألم، ونوازع الضغينة والحسد، على أولئك الذين يملكون ولا يعطون، ويموتون تخمة ويضنون بلقيمات تمسك رمق أولئك الذين يموتون جوعا- الأمر الذي إذا استشرى فى الجماعة، وتسلط على(3/774)
تفكيرها وشعورها، أثار فيها عواصف الفرقة، التي قد تصل إلى التناحر والقتال! وقد جاء الإسلام إلى الأغنياء بوصاياه التي تجعل من أموالهم التي فى أيديهم حقوقا لإخوانهم الفقراء، إن قصّروا عن الوفاء بها كانوا بمعرض من نقمته وبلائه فى الدنيا، وعذابه الأليم لهم فى الآخرة.. وكان من نقم الله عليهم فى الدنيا أن يسلط عليهم الفقراء، فيفسدوا حياتهم، ولا يقيموهم فيها على جناح أمن وطمأنينة! ثم جاء الإسلام من جهة أخرى إلى الفقراء، فكانت وصاته لهم ألّا ينفسوا على الأغنياء ما فى أيديهم، وألا يحسدوهم على هذا الذي نالوه من حظوظ الدنيا، وأن يروّضوا أنفسهم على الصبر على ما قسم الله لهم، بعد أن يعملوا فى كل وجه متاح لهم من وجوه العمل، وأن يأخذا بما دعا الله عباده إليه من السّعي والجدّ لتحصيل الرزق: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» (15 الملك) .
فإذا أخذ الأغنياء بما وصّاهم الله به من رعاية حقوق الفقراء، وأخذ الفقراء، بما دعاهم الله إليه من غض أبصارهم عما فى أيدى غيرهم، مما لم تنله أيديهم- إذا أخذ هؤلاء وهؤلاء بما وصاهم الله به، التقوا جميعا لقاء الأخوة، لقاء المودة والحبّ، وصلح أمرهم جميعا، فلا يذهب الغنىّ بغناه، ولا يستبدّ به، ولا ينطوى الفقير مع فقره، ويموت به! هذا هو الوجه الذي نفهم عليه قوله تعالى: «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» . وإن كان للآية وجوه أخرى كثيرة بعيدة عن جوّ الآية، قد فهمها عليه أكثر المفسرين.
وفى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» ما يكمل الصورة التي فهمنا عليها صدر الآية.. ففى قول الله:(3/775)
«لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» هذا، دعوة إلى الكسب، وإلى السعى الجادّ فى وجوه الرزق. دعوة للرجال وللنساء معا..
فالعمل، والعمل وحده، هو وسيلة الرزق الطبيعية، ومن لا يعمل، فقد تمنّى على الله الأمانى، وفرض على الناس أن يعملوا، وهو متدثر بثوب الكسل والخمول، لينال من ثمرة عملهم، ويعيش من عرق جبينهم، وهذا عدوان على المجتمع، كما هو عدوان على نفسه وظلم لها، إذ رضى أن يكون عالة على الناس، وكائنا غريبا يعيش فيهم، كما تعيش الحشرات.. وفى ذلك إهدار لآدميته، وتضييع لكرامته!! وليس أبرّ بالإنسانية، وأرعى لكرامتها، من دعوة الإسلام تلك، إلى العمل والكسب، حتى المرأة، لم يعفها الإسلام من العمل إذا لم يكن من ورائها زوج، أو ولد، أو أخ.. يقوم بمطالبها، ويسد حاجتها..
وفى قوله تعالى: «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» تأكيد للدعوة إلى العمل، والسعى فى طلب الرزق، والأخذ بأسبابه من وجوهه المشروعة، فإذا كان ذلك، كان للإنسان أن يسأل الله العون والتوفيق، فما الرزق الذي يرزقه العاملون إلّا من فضل الله.. أما أن ينصرف الإنسان عن العمل، ولا يأخذ بأسباب الرزق، ثم يدعو الله أن يرزقه، فقد ضلّ الطريق إلى الله، وقطع بينه وبين ربّه الأسباب.
ولمحة مشرقة نلمحها فى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» وهذه اللمحة تكشف لنا عما فى كلمة «نصيب» من معطيات، تملأ القلب جلالا وروعة.
فقد جاءت كلمة «نصيب» مخالفة لما نتوقع فى هذا المقام.. حيث يأخذ الإنسان كلّ ما اكسب، لا نصيبا مما اكسب، إذ أنه كسبه كله ليده..(3/776)
فكيف تجىء كلمة «نصيب» هنا؟ وما حكمة مجيئها؟
والجواب، وهو بعض ما نستلهمه منها.. هو:
أولا: أنه إذا كان العامل يأخذه ليده كل ثمرة عمله، فذلك هو حقّه..
ولكن إذا صار هذا الحق ملكا له، فإن ملكيته له غير خالصة، إذ أن فى هذه الثمرة، أو فى هذا المال حقوقا للغير.. لذوى القربى، واليتامى، والمساكين وابن السبيل.. ثم قبل هذا كلّه حق الله، وهو الزكاة! فما يكسبه المرء من عمله ليس خالصا له، وإنما له نصيب فيه، كما لله ولعباد الله نصيب فيه أيضا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (24- 25: المعارج) وهذا ما ينبغى أن يقع فى شعور صاحب المال، وأن يتصرف فى ماله بمقتضى هذا الشعور.. وإلا كان معتديا على حقّ الله، وحق عباد الله..
وثانيا: أنه إذا أدى صاحب المال حق الله وحق الفقراء والمساكين فى ما له، كان له الحق فى أن ينفرد بنصيبه هو، وأن ينال به ما أحل الله من طيبات..
وهذا شعور ينبغى أن يستشعره الفقراء حيال الأغنياء، الذين يؤدون ما فى أموالهم من حقوق، وعلى هذا، يجب ألا ينظر الفقراء إلى الأغنياء، وما ينالون من نعم الله، نظرة حسد، أو حنق.. وإلا كانوا ظالمين معتدين!! فإن من حق العامل أن يذوق ثمرة عمله، وألا يحول بينه وبينها من لا ثمرة لهم، ممن لا يعملون، والله سبحانه يقول: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» . وما العلم إلا ثمرة من ثمار العمل.
ذلك هو حكم الله فى عباده، يأخذهم به فى الدنيا، وينزلهم عليه فى الآخرة!.(3/777)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
الآية: (33) [سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
التفسير: بيّن الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» - ما للعامل من حق فى أن يجنى ثمرة عمله، وأن ينعم بنصيبه منها، بعد أن يؤدى ما لله وما للعباد عليها من حقوق، وذلك ليستحثّ الذين لا يعملون على العمل، وعلى ألّا ينظروا إلى ما فى يد العاملين من ثمرات أعمالهم.
ولم يقف القرآن الكريم عند هذا، من إقرار حق العامل فى ثمرة عمله، بل جعل لقرابة هذا العامل، وذوى رحمه، متعلّقا بهذه الثمرة، يرثونها بعد موته..
فهم أولى الناس به، وهو أحرص الناس على نفعهم، وسوق الخير إليهم..
ولهذا جاء قوله تعالى فى هذه الآية: «وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» مقررا هذا الحق للورثة فى قريبهم الذي ترك خيرا من بعده.
والمعنى: ولكل من الرجال والنساء الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله:
«لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» .. لكل من هؤلاء الرجال والنساء جعلنا لهم موالى- أي ورثة- يرثونهم، فيما خلّفوا وراءهم من مال ومتاع، وهذا ما أشار إليه سبحانه فى آيات المواريث أول هذه السورة: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» .
والمولى يطلق على معان كثيرة، منها: القريب، والناصر، والمعين، والسيد،(3/778)
والعبد.. والمراد به هنا أقارب المرء وعصبته الذين يرثونه.
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» إشارة إلى من تربطهم بالمرء رابطة غير رابطة القرابة والدم، ممن يتبناهم الإنسان، أو يدخلهم فى حياته مدخل الأهل والأقارب، إذ شدّ يمينه بهم، واحتسبهم بعضا منه فى خيره وشرّه- هؤلاء قد يرون أن لهم حقّا فيما ترك المورّث، الذي كانوا منه، وكان منهم، وقد جاء صدر الآية الكريمة قاصرا ما ترك المورّث على قرابته، وهم مواليه:
«وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» - وفى هذا ما يصدم مشاعرهم، ويفجعهم فى آمالهم، التي كانوا يعيشون بها مع هذا الذي عقدت أيمانهم معه.
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» وما نصيبهم وقد ذهب الورثة بالميراث كلّه؟
وإنهم لا بد أن يكون لهم نصيب فيما ترك صاحبهم.. وتقدير هذا النصيب متروك للورثة، يؤدونه لهم، على أي وجه، وعلى أية صورة! ليكن مالا يطيبون به خاطرهم..
أو ليكن مودّة، وحبّا، ومخالطة..
أو ليكن مناصرة، ومعاونة فى الشدائد..
أو غير ذلك مما كان الميت يعاشرهم عليه ويؤثرهم به..
ولهذا جاء قوله تعالى: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» خطابا للموالى، الذي ورثوا مال مورثهم، بأن يعطوا هؤلاء الذين أضافهم مورّثهم إليه- شيئا مما كان يعود عليهم به هذا المورث، من مال، أو مودة، أو نحو هذا..
ولنا فى هذا المقام أن نستحضر قوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا(3/779)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً
(8: النساء) ، ففى هذا تطييب لتلك النفوس التي حضرت القسمة.. وهؤلاء الذين خالطهم المورث واختلط بهم، هم ممن حضروا القسمة، فإن لم يحسبوا فى حساب الورثة، فليكونوا فى حساب ذوى القربى ممن لا ميراث لهم.
هذا ما أجمع عليه المفسّرون فى تفسير قوله تعالى: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» ولكن الفهم الذي أستريح إليه، هو أن المراد بالذين عقدت أيمانكم، هم الأزواج والزوجات، إذ كان لهم نصيب مفروض فى الميراث، مثل ما فرض لموالى الإنسان وعصبته، ولكن كلمة «الموالي» لم تشملهن، فكان قوله تعالى «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» بيانا لحقّ الزوجين فى ميراث كل منهما لصاحبه.. وليس هناك عقد يمين أوثق من العقد الذي عقده الله بين الزوجين..
الآيتان: (34- 35) [سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
التفسير: كما فضل الله النّاس بعضهم على بعض، لحكمة أرادها وتقدير(3/780)
قدّره، كذلك فضل الله الرجال على النساء.. إذ كانوا فرعى شجرة الإنسانية..
فرع الذكورة، وفرع الأنوثة..
وهذا الفضل لا يعطى للرجال حقّ التسلط والقهر للنساه.. فهما معا يكملان الكائن الإنسانى الصالح للحياة، وواحد منهما لا حياة له، ولا بقاء، فى هذه الدنيا.. فكل منهما يناظر الآخر ويكمله.. وهذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أولا، والآخر ثانيا، كما كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى.. ولو كانا على درجة واحدة، لكانا كائنا واحدا.. ذكرا، أو أنثى! وهذا- كما قلنا- ما لا تقوم عليه حياة الكائنات الحية، ومنها- بل ومن أولها- الإنسان! وليس بعيب المرأة أو يذرى من قدرها أن تكون العدد الثاني فى العددين:
واحد، وواحد، ليكون مجموعهما اثنين، كما يقول سبحانه وتعالى:
«وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (8: النبأ) .
فقوامة الرجل على المرأة فى قوله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، هى قوامة وظيفية، يقتضيها نظام الحياة، الذي جمع بينهما، ولو لم يكن للرجل حقّ القوامة، للزم أن يكون للمرأة هذا الحق.. إذ أنه لا بد أن يكون أحدهما أولا والآخر ثانيا..
وقوله تعالى: «بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» يكشف عن المزايا التي من أجلها كان الرجل قوّاما على المرأة، ولم تكن المرأة قوّامه على الرجل..
فقد خصّ الله الرجل بمزايا تجعله أقدر على قيادة الركب الذي ينتظمه والمرأة معا، وينتظم معهما ما يثمران من بنين وبنات.
وهذه المزايا التي أعطت الرجل حقّ القوامة على المرأة- لم تقررها الشريعة إلا بعد أن نضجت فى بوتقة التجربة الإنسانية، على مدى الحياة التي(3/781)
اجتمع فيها الرجل والمرأة، منذ كان الناس، وكان الرجال والنساء! وما قررته الشريعة ليس إلا اعترافا بواقع، وتصويرا لأمر مشهود، وليس إنشاء لوضع جديد بين الرجل والمرأة.
فالرجل أقوى من المرأة عموما، وأقدر على السعى فى وجوه الحياة، وكفالة حاجات المرأة والأولاد..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» فالرجل- فى أي زمان ومكان- مطالب عرفا ووضعا وشرعا بالإنفاق على زوجه وولده..
فإذا أخلت المرأة للرجل مكان القوامة، وأسلمته زمامها، فما ذلك إلا لأن يد الرجل أقوى على الإمساك بهذا الزمام، وأقدر على الوفاء بما تقتضيه تلك القوامة من أعباء! وكما أن بين الرجال والنساء درجة فى التفاضل، كذلك بين النساء درجة أو درجات فى الفضل، فليس كل النساء على سواء، فى الخلق وحسن العشرة.
«فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ» .
فهذا هو الوجه الطيب المشرق من النساء.. صالحات، قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله.. وهذا ما يشير إليه النبي الكريم فى قوله: «خير النساء امرأت إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك فى نفسها ومالك» .
وهناك الوجه الآخر من النساء.. مكفهرّ.. غائم، يرمى بالرعد والبرق.
ومثل هذا الجوّ المضطرب، يفسد حياة الرجل، وحياة الأسرة كلها معه.
ومن حكمة الحكيم العليم ألّا يعجل بالعقوبة حتى يأخذ صاحبها بالنصح، وبالوعد، وبالوعيد، فإن ارعوى الغاوىء عن غيّه، ورجع الضالّ عن ضلاله، فلنفسه ابتغى الخير، وليده جمع ما جمع منه.(3/782)
ولهذا دعا الله سبحانه وتعالى الرجال الذين يبتلون بالمرأة المعوجّة، ألا يعجلوا بالخلاص منها، فقد يكون داؤها عارضا، وقد يكون فى بعض الدواء ما يذهب بدائها..
«وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ..»
.. إنها مراحل ثلاث، يقطعها الرجل مع المرأة التي لا يتّسق خطوها مع خطوه، ولا ينتظم شأنها مع شأنه..
العظة أولا، وإسداء النصح، بالكلمة اللينة.. وقد تقبل المرأة هذا الدواء، ويكون فيه شفاؤها، وإصلاح أمرها.. وهذا علاج نفسىّ.
ثم تجىء المرحلة الثانية لمن لم تنفعها الموعظة، ولم تؤثّر فيها الكلمة الطيبة..
وهى الهجر فى المضاجع!.
وهذا عقاب بدني ونفسى معا..
فإذا كان فى ذلك شفاؤها من دائها، عاد إليها الزوج بصفحه ومودته ورحمته..
وإلا كانت المرحلة الثالثة.. وهى الضرب! وهو عقاب بدني خالص..
وينبغى أن يكون هذا الضرب أولا وأخيرا تحت شعور التأديب والإصلاح، كما يؤدّب الأب صغاره.. فإن مال إلى التشفّي والانتقام كان عدوانا «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» .
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» رسم للطريق القويم لهذه المرحلة، وضبط لحدودها..
وفى قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» تذكير للرجال بما لله من سلطان، فى علوّه وكبريائه، وأنهم إذا بسطوا أيديهم بالبغي ومجاوزة الحدّ، كانت يد الله مبسوطة عليهم بالعقاب والانتقام!(3/783)
وفى قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» .. هو بيان للمرحلة الرابعة، التي يقطعها الزوج مع الزوجة المستعصية على العلاج.
وذلك أنه إذا انتهت المراحل الثلاث، دون أن ينصلح أمر المرأة، أصبح الأمر بين الزوجين مؤذنا بالفراق، الذي يحسم ما نشأ بينهما من اختلاف وفرقة..
ويجىء التدبير السماوي قبل عملية البتر هذه، فيستدعى اثنين من أهل الخير، أحدهما من قبل الزوجة، والآخر من جهة الزوج، ليكون لهما نظر وراء نظر كل من المرأة والرجل، وليدرسا أسباب الخلاف بينهما، وليتعرفا على موطن الداء لهذا الخلاف.. وقد يريان الداء، ويجدان له الدواء.. وبهذا يعدل عن عملية البتر هذه، ويعود للحياة الزوجية صفاؤها وإشراقها.. وإلا كان البتر هو الدواء لهذا الداء..
وفى قوله تعالى: «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما» إيقاظ لمشاعر الخير والإحسان فى الحكمين، ليكونا رسولى سلام، فى هذه السفارة التي ندبهما الله سبحانه وتعالى لها.. فإنهما إن ابتغيا الخير، وأرادا الإصلاح، كان لهما من الله عون وتوفيق، فيلتقيان على ما يصلح أمر الزوجين ويمسك عليهما ذلك الرباط الوثيق الذي وثقه الله بينهما.
وانظر فى رعاية الله سبحانه وتعالى لرباط الزوجية، وتقديره لها.. وكيف جاءت الشريعة الإسلامية بأكثر من دواء، لما يدبّ بين الزوجين من خلاف.. حتى فى الأحوال التي يستفحل فيها الداء، ويكون اليأس أقرب من الأمل فى شفائه! وانظر كيف يقع «الطلاق» بعد هذه المرحلة الطويلة، من احتمال الداء(3/784)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
واستنفاد كل وسائل العلاج.. إنه لم يقع إلا حين لم يكن من وقوعه بدّ، وإلا حين كانت الحياة الزوجية بعد هذا نقمة وبلاء، على الرجل والمرأة معا.
فالذين يحسمون الحياة الزوجية ويقطعون حبلها، لأول بادرة، وبكلمة واحدة.. لم يلتزموا شرع الله، ولم يأخذوا به.. بل هم معتدون آثمون.
والذين يأخذون على الإسلام هذه الظواهر المريضة التي يرونها فيما يقع من صور الطلاق، على هذا الوجه المجافى للشرع.. ظلمة مفترون!
الآيات: (36- 39) [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
التفسير: الآيات السابقة كانت حديثا إلى الناس، فيما يتصل بذات أنفسهم، من شئون المال، والزواج، وما يقع بين الناس من ظلم وعدوان، حين تتعارض مصالحهم، وتختلف آراؤهم، وأرزاقهم.. فيكون فيهم الغنىّ والفقير، ومن يملك الكثير مما يتجاوز حدود حاجته، ومن يملك القليل الذي لا يشبع جوعته..(3/785)
وإذ لفت الله النّاس فى تلك الآيات إلى الطريق القويم، الذي ينبغى أن يلتزموه، ويقيموا خطوهم عليه، حتى لا يقع بينهم صدام، ينتهى إلى تقطيع الأرحام، وسفك الدماء- فكان من تدبير الحكيم العليم، أن يدعوهم إليه، وأن يستحثهم إلى عبادته وطاعته. حتى تمتلىء قلوبهم إيمانا به، وخشية له، وتوقيرا لأوامره ونواهيه، وبهذا يكون لما وصّاهم به سبحانه من البر بأنفسهم، والعدل فيما بينهم، والتراحم بين أغنيائهم وفقرائهم، وأقويائهم وضعفائهم- يكون لهذا مكانه من قلوبهم، وأثره فى تصرفاتهم، وفى سلامة نوازعهم، واستقامة سلوكهم.
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .
فإذا أخذ العبد نفسه بطاعة الله ووجه إليه وجهه خالصا، قانتا، خاشعا، غير ملتفت إلى سواه، ولا ناظر إلى غيره- وجد لخشية الله سطوة تملك عليه أهواءه، ولجلاله خشية يستحى معها أن يصرف وجهه عن الله، ويسلم يده لنزواته ونزعاته.. وبهذا يجد لوصايا الله مكانا متمكنا من نفسه، يعصمه من أن ينحرف، أو يزلّ.
والدعوة إلى عبادة الله دعوة عامة، تتوجه إلى عباده جميعا،. فهم جميعا مدعوّون إلى رحابه، لينالوا رضاه، وينعموا برحمته.. وليس لأحد أن يحجز أحدا عن الله، أو يصدّه عن سبيله، بحجّة أن دعوة الله قاصرة عليه، أو على قومه، وبنى جنسه.. فذلك عدوان على الله، وكفر به، فوق أنه عدوان على الناس ومصادرة لحق مشروع لهم..
فالطريق إلى الله مفتوح لكل إنسان، يفتح قلبه لله، ويوجه وجهه إليه..
وأنه إذا كان لأحد أن يحول بين إنسان وبين غاياته التي يتغيّاها فى الحياة، أو أن يسلبه شيئا ملكه واستحوذ عليه، فليس فى مستطاع أحد أن يحول بين(3/786)
الإنسان وربّه، أو أن يمدّ يده إلى الإيمان الذي سكن قلبه فينتزعه منه، فذلك لا سلطان لأحد عليه، وإنما أمر ذلك كله إلى الإنسان نفسه، وإلى ما فى قلبه من إيمان.. إن شاء أمسك هذا الإيمان، وإن شاء أرسله! فإذا آمن الإنسان بالله، وتعبّد لله.. كان عبدا ربّانيا، يجيب دعوته، ويمتثل أمره..
وفى قوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» أمر من أمر الله، ووصاة من وصاياه، بل هو الأمر الأول، والوصاة الأولى، بعد الأمر بالإيمان به، والوصاة بعبادته وطاعته.. فالإحسان إلى الوالدين حقّ من حقوقهما على المولودين، إذ كان لهما أثر فى وجود الأبناء، وفى البلوغ بهم مبلغ الحياة.
وقوله سبحانه: «وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» .
يبين به الله سبحانه أصحاب الحقوق الواجبة على الإنسان نحوهم، إمّا لصلة قرابة تجمعهم إليه، وتجعلهم بعضا منه، أو تجعله بعضا منهم.. وإما لصلة إنسانية عامة، تلك الصلة التي تقوم على أساس أن الفرد عضو فى الجسد الاجتماعى كلّه، وأن كل عضو سليم فى هذا الجسد من واجبه أن يحمل بعض أعباء الأعضاء المريضة فيه، شأن الجسد حين تضعف فيه حاسة، أو تعجز عن العمل، فتتولى أقرب الحواس إليها، وأشكلها بها، أداء وظيفتها بوجه أو بآخر حتى يستقيم للجسد أمره..
فذوو القربى.. هم من الإنسان وهو منهم.. ولهم على الإنسان أكثر من حق.. حق القرابة، وحق الإنسانية.(3/787)
واليتامى والمساكين.. أعضاء ضعيفة فى الجسد الاجتماعى.. ولهم على الإنسان حق، هو حقّ بعض الجسد على بعض.
والجار ذو القربى، له حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإنسان على الإنسان.
والجار الجنب له حقان: حق الجوار، وحق الإنسانية..
والصاحب بالجنب، هو الصديق المرافق، الذي يجده الإنسان إلى جنبه فى شدته ورخائه.. وهذا له حق الصداقة مع حق الإنسانية.
وابن السبيل.. هو المسافر الذي يقطع الطريق بغير مركب أو زاد..
وسمّى ابن السبيل، وأضيف إليه، لأنه لا أهل له، ولا رفيق، غير الطريق الذي ركبه فى سفره.. فهو غريب، ضعيف.. له حق الضعيف على القوى، وحق الإنسان على الإنسان!.
وما ملكت أيمانكم.. وهم الأرقاء، الذين ملك غيرهم وجودهم كله، فهم أضعف الضعفاء.. وحقهم على أصحابهم أولا، ثم حقهم على المجتمع كله ثانيا..
فهؤلاء جميعا هم أصحاب حقوق على الإنسانية كلها.. يتقاضونها أولا ممن هم أقرب إليهم، وأولى بهم، من أهل، وأقارب، وجيران، وأصحاب، وسادة.
فكل إنسان فى المجتمع الإنسانى مدعوّ- فى شريعة الإسلام- إلى أداء حقوق لمجتمعه، يبدأ فيها بأبويه، ثم بذوي قرابته، ثم باليتامى والمساكين، ثم بالجيران من ذوى قرابته، ثم بالجيران ممن لا قرابة لهم، ثم الأصدقاء، ثم أبناء السبيل، ثم الأرقاء.. فإن فضل عنده فضل من عطاء، فليضعه حيث يشاء، فيما ينفع الناس ويعينهم.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» تعقيب على(3/788)
هذه الدعوة إلى البر والإحسان، والتواصل بين الناس..
وفى هذا التعقيب إشارة إلى أنه لا يتقبل هذه الدعوة الكريمة، ولا يفى بها إلّا من استشعر قلبه الأخوة، فوصل نفسه بالناس، واختلط بهم، وتحسس مواقع الآلام، ومواطن العلل فيهم.. وذلك لا يكون إلا من إنسان آمن بأنه ابن هذه الإنسانية، وأن الناس جميعا شركاء له فى هذا النسب..
أما من عزل نفسه عن الناس، وغرّه بذاته الغرور، وملكه العجب، واستبدّ به الكبر، بما آتاه الله، من مال، أو صحة، أو علم، فرأى أنه من عالم غير عالم الناس، ومن طينة غير طينتهم- فإنه لا يأخذ منهم ولا يعطى، ولا يمدّ إلى أحد يدا، ولا يقبل أن يمد إليه أحد يدا.. إن المسافة بينهم وبينه بعيدة.. إنهم أرض وهو سماء.. وأين الأرض وأين السماء؟
ولهذا كان قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» كاشفا عن هذا الصنف المتعالي المتغطرس من الناس، ذلك الصنف الذي لو وجد إنسانا تتعلق حياته على قطرة ماء لما التفت إليه، ولما مد يده نحوه بتلك القطرة، ولو كانت الأنهار تجرى من تحته! وفى هذا التعقيب إشارة إلى اليهود، إذ هم الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع الإنسانى، وعدّوا أنفسهم خلقا آخر غير خلق الناس- ونسبوا أنفسهم إلى الله نسبة لا يشاركهم فيها غيرهم، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وسمّوا شعبهم شعب الله المختار! وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ما يكشف عن تلك الإشارة التي ضمّت عليها كلمات الله فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» ..(3/789)
فهؤلاء المختالون الفخورون، الذين يبغضهم الله، هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.
فقد بخل اليهود بما عندهم من علم الكتاب، وضنّوا به، فلم يقم منهم داعية يدعو إلى دين الله، ويبشر به بين العباد، من غير اليهود.. فكتموا دين الله، وبخلوا به، مع أنه يزداد على الإنفاق والإعطاء نورا إلى نور، وألقا إلى ألق! بل وأكثر من هذا، فإنهم تواصوا بالبخل، ودعا بعضهم بعضا إليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (76: البقرة) .
وكما بخلوا بما عندهم من علم الكتاب، بخلوا بما فى أيديهم من مال، بل إن بخلهم بالمال كان مضرب المثل فى الدنيا كلها، إذ لا يعرف شعب من الشعوب استبدّ به هذا الداء مثل اليهود..
وفى قوله تعالى: يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» إشارة صريحة بعد تلك الإشارتين المضمرتين إلى اليهود، وما بخلوا به.. فقد كتموا ما أتاهم الله من فضله من كتاب، فيه هدى ورحمة للعالمين.. ولم يقفوا عند هذا، بل كتموا الدلائل والبشريات التي عرفوها فى كتابهم هذا، عن النبي محمد، وقد كانت تلك الدلائل وهذه البشريات مصباحا يضىء لهم الطريق إلى الدّين الجديد، قبل أن تلوح شعاعات فجره الوليد.. ولكنهم آثروا أن يمسكوا هذه الدلائل بين أيديهم، وأن يكتموا النّاس أمرها، وأن يترصّدوا مطلع النبيّ الجديد، ليسبقوا إليه، ويستحوزوا عليه، ويستخلصوه لهم من دون الناس..
فكان أن حرمهم الله هذا الخير، وأورد الناس جميعا موارده. غير اليهود!!(3/790)
وهكذا كان الجزاء عدلا وفاقا. مكروا فمكر الله بهم، وأرادوا حرمان الناس، فحرمهم الله.
وفى قوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» خطاب عام بالجزاء الذي سيلقاه كل كافر، وهو العذاب المهين، وأول من يقع عليه هذا الجزاء هم اليهود، الذين كفروا بمحمد وبما فى يده من كتاب الله الذي فى أيديهم خبره..
فهم المواجهون بهذا الخطاب، الذي يتناولهم أولا، ويمتد إلى غيرهم من الكافرين ثانيا..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً» .. هو عطف على قوله تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ» .. فهذا الصنف من الناس كصنف اليهود الذين غضب الله عليهم وأعدّ لهم عذابا مهينا.
فإذا كان اليهود قد بخلوا أثرة وشحّا، فهؤلاء أنفقوا مباهاة ورياء.
وإذا كان اليهود كفروا بالله واليوم الآخر عن علم، فهؤلاء كفروا بالله واليوم الآخر عن كبر وحمق..
وهؤلاء وأولئك قد استقادوا للشيطان ووضعوا أيديهم فى يده، وصحبوه إلى حيث يريد، ولن يريد لهم الشيطان إلا الضلال، ولن يوقعهم إلا فى الهلاك.
وقوله تعالى: «وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً» هو استنكار لموقفهم الذي وقفوه من الهدى والخير، ودعوة مجدّدة لهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق مما رزقهم الله.. فالله من ورائهم محيط، يحصى عليهم أعمالهم من خير أو شر، ويجزيهم على الخير خيرا وزيادة، وبالشر شرا، ويعفو عن كثير.(3/791)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
الآيات: (40- 42) [سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
التفسير: هذا حكم الله بين عباده، لا يظلمهم مثقال ذرة، بل يوفّون حسابهم عليها، فإن كانت سيئة حوسبوا بقدرها، وإن كانت حسنة جوزوا بأضعافها.. فهذا من فضل الله ورحمته بعباده، السيئة سيئة، والحسنة حسنات..
عشرة أو عشرات، أو مئات.. والله يضاعف لمن يشاء: «وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» .
وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» عرض ليوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، جزاء ما عملوا من خير أو شر.
والشهيد: هو الشاهد الذي تطلب شهادته فى أمر هو عليم به.
والأنبياء هم شهداء على أقوامهم، فيما كان منهم من قبول أو إعراض- والنبي الكريم هو شهيد على أمته.. يؤدى الشهادة فيهم بين يدى الله، ثم يكون حكم الله فيهم، بمقتضى ما شهد به النبىّ، والذي لا يشهد إلا بالحق الذي يعلمه الله.
وفى هذا اليوم، الذي يدعى فيه الشهداء، وتسمع فيه شهادتهم.. يخزى(3/792)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
الكافرون، ويبلسون، بما قدمت أيديهم، ويودّون لو كانوا ترابا فى التراب.. ولكن لا مفر لهم، وقد أحاطت بهم خطيئاتهم، وجاءت شهادة الرسل مسجلة عليهم آثامهم، ثم استنطقهم الله فنطقوا، وشهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون..
الآية: (43) [سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
[الصلاة وشارب الخمر] يكاد يجمع المفسّرون والفقهاء، على أن قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» من المنسوخ، وأن بقية الآية محكم لم ينسخ! ونحن على رأينا من أنه ليس فى القرآن نسخ، وأن كلّ آية متلوّة فيه، عاملة غير معطلة..
ولكن ماذا يقول القائلون بالنسخ فى آية متماسكة النظم، متلاحمة البناء كهذه الآية: ينسخ بعضها، ويبقى بعضها من غير نسخ؟
ثم ماذا يقولون فى فعل مسلط على أمرين بحكم واحد، ثم يسقط أحد(3/793)
الأمرين ويبقى الآخر؟ فأية قوة خارقة تدخل على هذا الفعل، فتفلت من سلطانه أحد الأمرين وتستبقى الآخر..؟
استمع إلى قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» .
فإن النهى عن مقاربة الصلاة تسلّط على حالين، حال السكر، وحال الجنابة.. وقد نصب قوله تعالى: «وَلا جُنُباً» بالعطف على قوله سبحانه:
«وَأَنْتُمْ سُكارى» الذي هو جملة حالية فى محل نصب.
فكيف ينسخ النهى عن مقاربة الصلاة حال السكر، ولا ينسخ النهى عن مقاربتها حال الجنابة، والفعل مسلط عليهما معا؟
وندع هذا، ففيه مجال للقول والجدل..
ونسأل: هل إذا أمر المسلمون بأمر إلهى، استجابوا له، واستقاموا عليه والتزموه؟ ..
المفروض هو هذا، والمطلوب هو هذا أيضا..
ولكن المفروض شىء، والواقع شىء.. والمطلوب شىء، والوفاء به شىء آخر..
إن من شأن الناس ألا يكونوا على حال واحدة أبدا.. ففيهم المطيع، وفيهم العاصي، ومنهم المستقيم، وكثير منهم المعوجّ.. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) ..
«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) .(3/794)
هكذا هم الناس.. بل هكذا هو الإنسان.. يستقيم وينحرف، ويطيع ويعصى. ومن أجل هذا قام شرع الله، وقامت حدود الله، وكان الثواب، وكان العقاب! فالمسلمون إذا نهوا عن الخمر، مثلا، كان واجبا عليهم أن يمتثلوا أمر الله، وأن ينتهوا عما نهوا عنه.. ولكن الواجب- كما قلنا- شىء، والوفاء به شىء آخر..
وقد شرب كثير من المسلمين الخمر، حتى فى الصدر الأول للإسلام، وفى عهد الخلافة الراشدة.. وقصة أبى محجن الثقفي المجاهد فى جيش سعد بن أبى وقاص معروفة.. فقد ضبط متلبسا بشربها، وأقام عليه سعد الحدّ أكثر من مرة.. ثم حبسه، ووضع القيد فى رجله.. ثم التحم المسلمون مع الروم فى معركة كاد يهزم فيها المسلمون، وعند ما رأى أبو محجن من محبسه أن الدائرة ستدور على المسلمين، احتال حتى خرج من محبسه وفك من قيوده، وركب فرس سعد، وقاتل قتالا مستبسلا عرفه له كل من شهد المعركة، وإن لم يعرف شخصه.. وانتهت الموقعة بانتصار المسلمين، كما انتهت بانتهاء أبى محجن عن شرب الخمر!! والأمر لا يحتاج فى هذا إلى شواهد.. فإن هذا المنكر- أي الخمر- لم يعتزله المسلمون جميعا، بل كان منهم فى كل عصر، وفى كل بلد، من يشرب الخمر وتأخذه سكرتها، ويغشاه خمارها، حتى لا يكاد يفيق! ونعم، الخمر كبيرة، بل وكبيرة الكبائر.. آثم من يلمّ بها، أو يعاقرها! هذا حكم لا خلاف فيه بين المسلمين..
ولكن ما حكم من يشرب الخمر من المسلمين، ثم يريد أن يؤدّى «الصلاة» ؟
أتحرم عليه الصلاة، ويحال بينه وبينها!(3/795)
إن القول بنسخ الآية- أو صدر الآية- لا يسقط عنه فريضة الصلاة، ولا يحول بينه وبينها.
فالآية الناسخة لهذه الآية هى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (90- 91: المائدة) - هذا النسخ للآية السابقة- إذا أخذ به- لا يحول بين المسلم الذي شرب الخمر وبين أن يؤدى الصلاة.
فالخمر جريمة، والصلاة قربة لله.. تلك سيئة، وهذه حسنة، ولا يمنع اقتراف السيئات من فعل الحسنات، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» (114: هود) .
وكيف يحال بين المسلم العاصي، وبين أن يفعل القربات، التي تكفّر سيئاته، وتصحح إيمانه؟
وكيف بالصلاة، وهى عماد الإسلام وملاك أمره؟
وأنّى للمسلم العاصي أن يدخل مداخل الطاعة، ويحسب فى الطائعين، بغير الصلاة، التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (45: العنكبوت) ؟
وإذ ننظر فى قوله سبحانه: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ.. إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» نجد أنه دعوة عامة للمسلمين جميعا أن يقيموا الصلاة. وأن حظ المسيئين منها أكثر من حظ المحسنين.. إذ كان المحسنون بإحسانهم، على الصحة(3/796)
والسلامة، لا تزيدهم الصلاة إلا إيمانا على إيمان، وهدى إلى هدى.. أما المسيئون.. فهم مرضى.. أصحاب آفات وعلل، ومرتكبو فواحش وآثام..
فهم أشد الناس حاجة إلى الدواء الذي يذهب بدائهم هذا، ويطهرهم من الآثام التي أحاطت بهم.. وليس غير الصلاة، مطهرة للآثام، مغفرة للذنوب، مدعاة إلى الاستقامة والتقوى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» .
إن الآية الناسخة إذن لا تنهى المسلم العاصي عن إتيان الصلاة، إذا كان مبتلى بشرب الخمر..
ولكن كيف يؤدّى الصلاة وهو معاقر الخمر، مصاب بخمارها لا يدرى ما يقول؟
هنا يأتى قوله تعالى: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» وهنا تعطى الآية حكمها فى هذه الحال.. وبهذا تكون عاملة غير منسوخة، فإن القول بنسخها- حكما لا تلاوة- يدعو إلى القول بأن شارب الخمر لا يصلى أبدا، سواء أكان يدرى ما يقول، أم لا يدرى.. وهذا مالا يقول به أحد! ونسأل:
ما داعية القول بنسخ هذه الآية؟ وما الحكمة فى ضرب بعض القرآن ببعض؟ خاصة إذا كانت الآية تعطى حكما مطلوبا، لا نجده فى الآية التي يقال إنها ناسخة لها؟
إذن فإن ذلك القول بالنسخ هنا لا مفهوم له أبدا.. بل إنه ليبدو لنا أشبه بالقتل العمد لنفس حرم الله قتلها!! فالمسلم.. الذي يتأثّم بشرب الخمر.. منهى عن إتيان الصلاة حتى يفيق إفاقة تامة من السكر، ليعلم ما يقول، ولينتفع بهذا الموقف الذي يقفه بين يدى الله.(3/797)
وهذا الانتقال السريع من الإثم إلى الطاعة، والانخلاع من متابعة الشيطان إلى ملاقاة الله- هذا الانتقال من شأنه أن يحدث فى النفس هزّة مزلزلة، وأن يثير فى كيان الإنسان انقلابا عاصفا، حين يرى تلك المفارقة العجيبة البعيدة بين الموقفين اللذين وقفهما، والذي لا يبعد أحدهما عن الآخر غير خطوة.. إنه فى هذا الموقف- أكثر من غيره- يدرك فرق ما بين الضلال والهدى، والظلام والنور، ومتابعة الشيطان، ولقاء وجه الرحمن..
إن هذا الموقف جدير به أن يحمل الإنسان- فى قوة- على مخالفة هواه، والرجوع إلى الله، رجوعا لا يلتفت بعده إلى وراء أبدا!! قوله تعالى: «وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» هو عطف على قوله سبحانه: «وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» وهما- أي المتعاطفان- واقعان تحت حكم النهى فى قوله تعالى «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ..»
فكما لا يقرب شارب الخمر الصلاة حتى يفيق ويعلم ما يقول، كذلك لا يقرب الجنب الصلاة حتى يتطهر بالاغتسال..! أي لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا.
إن شأن الصلاة عظيم، وأمرها جليل، وإذ كان هذا شأنها وذلك أمرها، فإنه يجب ألا يدخل حماها، ولا يتلبّس بها إلّا من كان أهلا لأن يلقاها، وبأنس بها، ويتجاوب معها، ويستشعر جلال الله على سنا أضوائها.. والمخمور غير أهل لهذا اللقاء.. حتى يفيق ويتخلص خماره، ويعود إليه عازب عقله ويستردّ إنسانيته التي افتقدها مع سكرته- والجنب غير أهل هذا اللقاء أيضا.. حتى يغتسل ويتطهر، وينزع عنه بهذا الاغتسال ما تلبّس به من مشاعر الحيوانية، ليعود إنسانا، كما كان من قبل أن يتلبس بما تلبس به! والجنب، والجنابة: كناية عن مباشرة النساء.(3/798)
وقوله تعالى: «إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» هو استثناء من الحكم الوارد على الجنب بألا يقرب الصّلاة حتى يغتسل.. فإن كان عابر سبيل، لا يجد ماء..
فله حكم غير هذا الحكم، ستشير إليه الآية فيما بعد.
قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» .
هذا استثناء من حكم عام، وهو الوضوء للصلاة قبل الدخول فى الصلاة..
والمستثنون من هذا الحكم هم أصحاب معاذير: افتضت رحمة الله بهم التخفيف عنهم، وأخذهم بحكم خاص، غير هذا الحكم العام الذي يجرى على من لا عذر لهم..
وأصحاب المعاذير هنا هم:
1- من كان مريضا.. أي المريض الذي يعجزه مرضه عن استعمال الماء.
2- أو من كان على سفر.. سواء أكان السفر طويلا أم قصيرا، مادام قد بعد عن أهله وبلده.
3- من انتقض وضوؤه، بخروج شىء من أحد السبيلين.. ولو كان صحيحا سليما- إذا لم يجد الماء، أو وجده وأضرّ به استعماله، وهو المشار إليه بقوله تعالى: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» .. والغائط هو المكان المنخفض، وهو كناية عن قضاء الحاجة، حيث تقضى فى مكان لا يقع تحت أعين الناس.
4- من كان جنبا.. ولو كان سليما معافى لا يضره استعمال الماء، ولكنه لا يجده.
فهؤلاء.. إذا لم يجدوا الماء أو وجدوه وأضرّ بهم استعماله، كان التيمم بديلا لهم من الماء، فى أداء الصلاة..(3/799)
فالمريض، الذي يمنعه مرضه من استعمال الماء، له التيمم مع وجود الماء، وكذلك شأن المسافر، إذا كان معه من الماء مالا يفيض عن حاجته فى طعامه وشرابه..
والتيمم معناه القصد، والاتجاه، والصعيد ما ارتفع من الأرض، وصعد.
والمراد بقوله تعالى: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» اختيار مكان طاهر من الأرض، ليمسح منه على الوجه واليدين، قبل الدخول فى الصلاة..
والإشارة إلى الصعيد، لمظنّة أنه بمنأى من الخبث والقذر، حيث يعلو عن استعمال الناس، والتلوث بالقذارات..
فليس المراد مجرّد العلوّ لاختيار المكان الذي يمسح منه، وإنما القصد أن يكون طيبا طاهرا، ولهذا جاء قوله تعالى: «صَعِيداً طَيِّباً» قيدا للصفة التي يكون عليها هذا الصعيد، وهو أن يكون طيبا، إذ قد يكون صعيدا، ولكنه ملوث بالخبث والقذر.
وهنا أمر نحبّ أن يشير إليه، وهو ما فى قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» حيث أطلق الجنابة، ولم يقيدها. إن كانت عن حلال أو حرام! وهذا يعنى أن «الزاني» جنب، وأنه حين يريد الصلاة ينبغى أن يتطهر بالاغتسال، أو التيمم، حسب الحكم الذي يقتضيه حاله، شأنه فى ذلك شأن «الجنب» الذي واقع زوجه! أما جريمة «الزنا» التي اقترفها، فلها حكمها الخاص بها.. ولا متعلق لها بفريضة الصلاة المفروضة عليه.
نقول هذا، لنشير به إلى ما سبق أن قررناه فى شأن شارب الخمر، الذي إذا أراد أن يؤدى فريضة الصلاة، فإن له أن يؤديها، ولكن بعد أن. يفيق من(3/800)
سكره ويعلم ما يقول.. تماما، كما يغتسل «الزاني» ويتطهر من الجنابة قبل الدخول فى الصلاة.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» نجد دعوة كريمة، من رب كريم، عفوّ غفور، يدعو هؤلاء المذنبين إليه.. من شاربى خمر، أو زناة، ليدخلوا فى رحابه، وليرفعوا وجوههم إليه وليخبتوا له، ساجدين راكعين..
عسى الله أن يتوب عليهم، ويغفر لهم.. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» ..
وما أوسع رحمة الله، وما أعظم فضله، إذ بسط يده بالعفو وبالمغفرة، قبل أن يسعى إليها الساعون، ويطلبها العصاة المذنبون.
هذا، ونودّ أن نلتقى بالآية الكريمة لقاء خاصّا، نستشفّ منه بعض أسرارها التي تلوّح بها من بعيد، ليكون فيها تبصرة وذكرى لأولى الألباب! ففى قوله تعالى:
«وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» - ما يسأل عنه، وهو هذا القيد الوارد على إباحة التيمم، عند عدم وجود الماء- هل هو منسحب إلى جميع أصحاب هذه الأعذار.. وهم المرضى، ومن كان على سفر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء؟
وكلّا.. فإن المريض سواء وجد الماء أو لم يجده، قد رخّص له فى التيمم، وقام مرضه فى دفع الحرج عنه مقام عدم وجود الماء.. وإلا لما كان لذكره هنا وجه.. فإن عدم وجود الماء هو عذر للصحيح أيضا، فلا وضوء عليه الصلاة، بل يجزيه التيمم، الذي هو طهارة له، والتي هى شرط للدخول فى الصلاة..
وسؤال آخر، وهو: أيلحق المسافر فى الحكم بالمريض، فيباح له التيمم،(3/801)
سواء وجد الماء أم لم يجده، أم أنه يلحق بمن ذكر بعده، وهو من جاء من الغائط أو لامس النساء.. حيث لا يباح لهما التيمم إلا عند فقدان الماء؟ هنا يطالعنا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، نلمحه فى ترتيب أصحاب هذه الأعذار المبيحة للتيمم، حيث بدأ بالأقوى عذرا، فمن دونه، وهكذا..
فالمريض.. صاحب عذر واضح فى إباحة التيمم له، بحيث لا ينتقض هذا العذر بوجود الماء.
أما المسافر.. فهو على حال دون المريض، ولكنه شبيه بالمريض فى بعض ما يحيط به من أحوال.. فهو ضعيف لانقطاعه عن أهله، ولسوء تغذيته، ولمكابدته مشاق السفر.. فهو- والحال كذلك- فى حكم المريض، وإن لم يكن مريضا، ولهذا جاء تاليا للمريض فى ترتيبه بين أصحاب الأعذار..
وعلى هذا، فإن له أن يأخذ بحكم المريض، فينتفع برخصة التيمم، مع وجود الماء، وهذا هو سرّ ذكره بين أصحاب الأعذار، ليكون السفر عذرا له، كما يكون فقدان الماء عذرا لغير المسافر.. كمن جاء من الغائط أو لامس النساء.
هذا، ولا نستطيع أن نرفع أبصارنا عن هذه الآية الكريمة دون أن نملا العين من هذا النظم العجيب الذي جاءت عليه، وهى تقرر أحكاما، وتصدر تشريعا.. الأمر الذي لا يلتفت معه كثيرا إلى الصياغة البلاغية، التي كثيرا ما تجوز على التحديد والتقنين المطلوبين لتقرير الأحكام.. ولكنه القرآن الكريم، وكلام ربّ العالمين، يجمع الحسن كلّه، ويستوفى الكمال جميعه.
والذي شدّ أبصارنا وبصائرنا من نظم هذه الآية الكريمة هو قوله تعالى: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» فقد جاء هذا المقطع من الآية الكريمة مخالفا لنسق النظم الذي جاءت عليه الآية، فيما سبقه، أو لحقه منها- فالآية تخاطب المؤمنين فى صيغة الجمع.. «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ(3/802)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً..»
وينفرد هذا المقطع: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» بأنه حديث عن الغائب المفرد.. ولو جاء على نسق النظم فى الآية كلها لجاء هكذا: «أو جئتم من الغائط» .
فما سرّ هذا؟
وأكاد أنصرف عن بيان هذا السرّ، الذي يكاد لا يكون سرّا، بعد أن يواجهه المقطع المعدول عنه، والذي كان من المتوقع أن يحلّ محلّه.. هكذا:
«أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» .. «أو جئتم من الغائط» .
ولكن لا بأس من أن نكشف هذا السرّ بعد أن انكشف، إذ لا تزال وراءه أسرار كثيرة لم تنكشف لنا، ولعلها تنكشف لمن يطلبها ويمعن النظر فيها..
ففى قوله تعالى: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ» تنكير وإخفاء وستر لهذا الذي جاء من الغائط، بعد أن كان عريانا، يباشر عملا يحبّ أن يستره ولا يطلع أحد عليه.
ثم هو من جهة أخرى احترام لحياء المخاطبين، حتى لكأنهم لا يفعلون هذا الفعل الذي هو ضرورة ملزمة لكل حىّ.. والذي هو عمل يأتيه كلّ إنسان.. ولكنه أدب الحديث، الذي يؤدّبنا الله سبحانه وتعالى به، ويطلعنا من كلماته على ما لم تعرف الحياة فى أعلى مستوياتها من أدب كهذا الأدب السماوي الكريم!
الآيات: (44- 46) [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)(3/803)
التفسير: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود. والمراد بالنصيب من الكتاب، بعضه، أي بعض التوراة، التي جاءهم بها موسى عليه السلام.
فكيف يكون اليهود قد أوتوا نصيبا من الكتاب مع أن الكتاب كله بين أيديهم؟ والله سبحانه وتعالى يقول فيهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ (20: الأنعام) ، (146: البقرة) ؟
ويقول سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (121: البقرة) .
كيف يكون هذا؟
والجواب:
أولا: أن الكتاب- وهو التوراة- الذي بين أيدى اليهود، قد حرّف وبدّل، بما أحدثوا فيه من منكرات، وبما ألقوا إليه من أهواءهم، ومختلقاتهم.. فالذى بقي فى أيديهم من التوراة، هو بعض التوراة، لا التوراة كما أنزلت عليهم.
وثانيا: أن ما بقي فى أيديهم من التوراة لم يستقيموا عليه، فما صادف من أحكامها هوى فى أنفسهم أخذوا به، وما كان على غير ما يحبّون تأوّلوا له،(3/804)
وحرفوه عن وجهه إلى الوجه الذي يريدون.. وقد نعى الله ذلك عليهم بقوله سبحانه: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (58: البقرة) .
فالذى يمسك به اليهود من التوراة هو بعض التوراة، لا التوراة.. وفى التعبير بلفظ «أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» بدلا من «آتيناهم الكتاب» إبعاد لهم عن هذا المقام الكريم، مقام الخطاب من الله رب العالمين، لأنهم- وقد فعلوا ما فعلوا من منكرات- ليسوا أهلا لأن يوجّه إليهم خطاب من الله رب العالمين.. فوجّه إليهم الخطاب مجهول الجهة التي تخاطبهم، حتى لكأنهم فى مواجهة الوجود كلّه، يطلع عليهم من كل أفق منه من يستنكر ما هم فيه من ضلال، ويحمّق موقفهم من رسل الله وكتبه.. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ» .
فكأنّ ألسنة الخلق كلّها تتنادى مشيرة إلى هذا الضلال والسّفه الذي يركب هؤلاء الحمقى السفهاء من الناس، إذ يشترون الضلالة بالهدى، والباطل بالحق، والشر بالخير.. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» (28: إبراهيم) وفى قوله تعالى: «وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ» خطاب للمسلمين، بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبىّ الكريم، وفى هذا، تكريم للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ورفع لمقامه الكريم، من أن يكون لهؤلاء الضالين، ومفترياتهم، أثر فى سلامة دينه، وصحة معتقدة، ووثاقة إيمانه بربّه، وإن كان فى ذلك ما يخشى منه على المسلمين، فى التشويش عليهم، والوسوسة بالباطل لهم.(3/805)
قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» - فضح لليهود، ولما فى قلوبهم من بغضة وشنآن للمسلمين، وأنهم هم العدوّ، الذين يكيدون لدين الله، ولرسول الله، وللمؤمنين بالله.. وفيهم يقول الله سبحانه: «وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.. قاتَلَهُمُ اللَّهُ.. أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (4: المنافقون) .. وفيهم يقول سبحانه أيضا: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» (82: المائدة) .
وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» حماية ربّانية وحراسة رحمانية للمؤمنين، مما يكيد لهم اليهود، وما يدبرّون من سوء.. فالله سبحانه وتعالى، هو ولىّ المؤمنين، يدفع عنهم هذا الكيد، ويفسده.. «وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» وإن الله سبحانه ليتولّى المؤمنين وينصرهم، إذا هم أخذوا حذرهم، وتنبهوا إلى عدوّهم، وتحصنوا من كيده ومكره، بإيمانهم بالله، واحترازهم من عدوّهم: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ..!
وقوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا.. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ» يكشف عن تلبيسات اليهود، وموارد نفاقهم.. إنهم ينافقون بالكلمة وبالعمل معا، تلتوى ألسنتهم بالكلمات فتزيلها عن معانيها التي لها، وتعبث أيديهم بالعمل فتموّهه وتزيفه، وتجعل ظاهره غير باطنه، كما يطلى المعدن الخسيس بسراب خادع من معدن كريم.
يقولون للنبىّ بأفواههم: «سمعنا» ويقولون بقلوبهم: «وعصينا» ،(3/806)
ويقولون «اسمع» بصوت مسموع، ويتبعون ذلك بصوت خافت: «غير مسمع» يدعون على النبىّ بالصم.. ويقولون: «راعنا» أي انظر إلينا..
يقولونها فى تخابث تضطرب به ألسنتهم فتخرج الكلمة مشوّهة، عليها شبهة الضلال الذي يجده السامع لكلمة «راعنا» بالتنوين، صفة من الرعونة والطيش.. وهكذا يلقون النبي والمسلمين بتلك الكلمات المنافقة، التي تلبس أثوابا من الزيف والخداع! «وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ» ! خيرا يصيبونه فى أنفسهم، إذ يستقيم بهم على طريق الخير، ويهديهم إلى سواء السبيل.. ولكن طبيعة القوم لا تعطى غير هذا الباطل، ولا تنضح إلا بهذا الزّيف المنكر من القول.. إذ «لعنهم الله بكفرهم» .. «وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» يستنقذه من هذا الضلال الذي يتخبط فيه، ويلقى به فى لجج الهلاك، وسوء المصير..
وفى قوله تعالى: «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» .. ما يفضح هذا الإيمان الذي هم عليه.. فهم أهل كتاب.. ومن شأن أهل الكتاب أن يكونوا مؤمنين..
وهم مؤمنون، ولكن إيمانهم مشوب بالضلال، متلبّس بالكفر، فهم مؤمنون وكافرون، ولا يجتمع الإيمان والكفر إلا فى قلب منافق..
فالنفاق هو الوصف الذي هو أولى بهم، وهم أحقّ به.. ولهذا كان النفاق والمنافقون، من الصفات والسمات التي غلبت عليهم، فيما تحدث به القرآن عن هذا الحق اللئيم وأهله..
وفى القرآن الكريم يوصف اليهود بأنهم كافرون.. هكذا، وصفا مطلقا..
كما يقول سبحانه: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ» (1: البينة) وكما يقول سبحانه:(3/807)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ» (6: البيّنة) وفى القرآن الكريم آيات تصف اليهود بأنهم مؤمنون، ولكنّ هذا الوصف يقيّد دائما بأنه إيمان سطحى، لا يمسك من بالإيمان إلا بظاهره، كما يقول سبحانه فى هذه الآية: «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» .. وكما يقول سبحانه: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155: النساء) .
فهم كافرون كفرا قاطعا، وهم مؤمنون إيمانا ظاهرا.. وذلك هو النفاق فى أسوأ صورة وأبشعها.
الآيتان: (47- 48) [سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 48]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
التفسير: بعد أن فضح الله اليهود، الذين أوتو الكتاب، فمكروا بآيات الله، بما حرّفوا وبدّلوا فيه- دعاهم الله إلى ترك ما هم فيه من ضلال وزيغ..
وأن يؤمنوا بالله وبالكتاب الذي فى أيديهم إيمانا خالصا، فإنهم إن فعلوا ذلك(3/808)
لم يكن بينهم وبين الإيمان بالكتاب الذي نزله الله على «محمد» حجاز يفصل بينهم وبين الإيمان بهذا الكتاب.. لأنه من عند الله، كما أن كتابهم من عند الله، وهو مصدق لما معهم فيما جاء به من شرائع وأحكام..
فإذا آمنوا بكتابهم، ولم يؤمنوا بالكتاب الذي نزل على محمد، فهم غير مؤمنين، لأن الكتابين فى حكم كتاب واحد.. والإيمان بأحد الكتابين والكفر بالآخر ينقض هذا الإيمان.. وقد أنكر الله عليهم دعوى الإيمان التي يدّعونها، حين يقولون، إنهم على كتابهم الذي فى أيديهم.. فقال تعالى:
«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ» .
(85: البقرة) .
وقال سبحانه وتعالى فيهم أيضا: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (150- 151: النساء) وفيهم يقول سبحانه وتعالى أيضا: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .
(91: البقرة) وفى قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ» وعيد لليهود، ونذير راصد لهم باللعنة من عند الله، إن لم يؤمنوا بمحمد، وبما أنزل الله عليه.(3/809)
وهذه اللعنة حين تقع عليهم، فإنها لا تبقى على شىء من آدميتهم.. بل إنها ستقلب كيانهم البشرى، وتحيلهم خلقا آخر، يكون مثلة، بين المخلوقات، فإذا كان كل مخلوق له وجه وظهر، فهؤلاء سيكون وجههم وظهرهم سواء! وانظر إلى إنسان استدارت رأسه، فكان الوجه من خلف، والقفا من أمام!! كيف تبدو صورته؟ وكيف يستقيم حاله؟ وكيف يمشى إذا أراد المشي؟
وكيف يأكل إذا أراد الأكل؟ بل كيف ينام إذا أراد أن ينام؟ ما أشقى مثل هذا الكائن الذي تخالفت أعضاؤه، وتضاربت جوارحه! وهذه العقوبة هى الجزاء الوفاق لما ارتكبوا من جرائم وآثام. إنهم أعطوا الناس وجها، وعاشوا فيما بينهم وبين أنفسهم بوجه.. والوجه الذي تعاملوا به مع الناس هو هذا الوجه الظاهر الذي يراهم الناس عليه، أما الوجه الآخر، فقد أخفوا أمره عن الناس، وحجبوه عن أن يواجهوهم به- فكان أن توعدهم الله بكشف هذا الوجه المنافق، وفضحه للناس، فلا يبقى لهم إلا هذا الوجه الذي جعلوه وراءهم، فى هذا الوضع المقلوب! هذا هو الجزاء الذي ينتظرهم، إن لم يستقيموا على طريق الحق، ويؤمنوا كما آمن الناس، إيمانا خالصا من النفاق! فإن لم يكن فى هذا الجزاء ما يردعهم، ويردّ إليهم شارد عقولهم.. فهناك جزاء آخر أقسى وأشد.. وإنه لجزاء يعرفونه فى آبائهم وأجدادهم، الذين اعتدوا فى السبت، فمسخهم الله، وجعلهم قردة فى أجساد بشر! أو بشرا فى طباع قردة! وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (65: البقرة) .(3/810)
وقوله تعالى: «أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ» هو نذير بالعقوبة الثانية، بعد النذير بالعقوبة الأولى.
وما أصاب أصحاب السبت معروف لهم! فماذا ينتظرون بعد هذا؟
أيظنون أن الله مخلف وعيده لهم.. لأنهم- كما زعموا- أبناء الله وأحباؤه؟ وكيف وقد وقع هذا العقاب بآبائهم، وأخذهم الله به؟
أم يظنون أن الله إذا أراد أمرا بهم، وساق شرا إليهم- أهناك من يدفع ما أراده الله بهم؟
فلينتظروا، وسوف يرون ما الله فاعل بهم.. «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» .
- ما يسأل عنه.. وهو: هل أهل الكتاب هؤلاء مشركون، حتى تجىء هذه الآية فى سياق الحديث عنهم، وفضح نفاقهم؟
إنهم- كما وصفهم، القرآن فى كثير من آياته- كافرون، ومنافقون، ومؤمنون.. يجمعون بين الإيمان والكفر..
أما الشرك فهو الصفة الغالبة التي أطلقها القرآن على كفار قريش، الذين لم ينكروا وجود الله، ولكنهم عبدوا أصناما لهم من دون الله، وقالوا:
«ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) ومع هذا، فإن بين الكافرين من أهل الكتاب، والمشركين من العرب صلة جامعة، هى الخروج عن سواء السبيل، والتنكّب عن طريق الحق! وإذ جرى ذكر الكافرين المنافقين من أهل الكتاب، وما توعدهم(3/811)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
الله به إن لم يؤمنوا، إيمانا كاملا- حسن أن يجرى ذكر قرنائهم من مشركى العرب، وأن يلتقى بعضهم ببعض، ويواجه بعضهم بعضا، بهذه الوجوه المنكرة وما بأيديهم من آثام.. وفى ذلك ما فيه من إثارة الذعر والفزع، فيما يرى كل واحد من الفريقين فى وجه صاحبه، من وبال ونكال.. إنها حال أشبه بتلك الحال التي يثيرها اجتماع المجرمين- على اختلاف جرائمهم- فى ساحة العدل والقصاص، من صور الإيلام، والأسى، والفزع، التي تشتمل على أصحاب هذا الموقف جميعا! والشرك عدوان على الله، وإنزال بقدره، حين يسوّى بينه وبين المعبودين، من جماد، وحيوان، وإنسان! ولهذا كان الشرك أعظم من الكفر، إذ الكافر- مع إنكاره لله- حين يتعرف على الله لا يراه على تلك الصورة التي يراه عليها المشرك، ولا ينزل بقدره إلى هذا المستوي المهين! «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .
فالشرك كبيرة الكبائر، لا يغفر الله لمرتكيها، ولا يدخله مدخل عباده، الداخلين فى رحمته ومغفرته. «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» ..
(48: النساء) «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (72: المائدة)
الآيتان: (49- 50) [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)(3/812)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
عادت الآيات مرة أخرى، لتفضح اليهود، فضيحة بعد فضيحة، فما أكثر مآثمهم، وما أوسع دائرة مخازيهم..
وهنا جريمة أخرى من جرائمهم.. إنهم غارقون فى الضلال إلى أذقانهم، ومع هذا فإنهم يرون فى أنفسهم أنهم أولى الناس بالله، وأقربهم إليه، وأحقهم بفضله ورحمته، فقالوا فيما كانوا يقولون: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» .. وقالوا:
«لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» .
لقد زكّوا أنفسهم بغير حق ورفعوا منزلتهم إلى مكان ليسوا أهلا له.
وهذا تألّ على الله، وافتراء عليه.. وإنه ليس لاحد أن يتخيرّ عند الله المكان الذي يمليه عليه هواه.. فذلك أمر إلى الله وحده، ينزل عباده منازلهم، حسب علمه بهم، وبما هم أهل له.. دون أن يظلم أحدا شيئا..
وقوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً» شجب لمدّعيات هؤلاء القوم، وتكذيب لمفترياتهم، وفضح لهم على رؤوس الأشهاد، ودعوة للناس جميعا أن ينظروا إليهم وهم فى هذا الثوب الكاذب المفضوح!!
الآيات: (51- 52- 53- 54- 55- 56- 57) [سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 57]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)(3/813)
التفسير: فضيحة أخرى من فضائح اليهود، ومخزاة إلى ما عرف من مخازيهم، التي يرى منها الناس ما يثير العجب والدّهش، وما يحمل على السخط عليهم، واللعنة لهم..
إنهم وهم أهل كتاب، إن يكن قد فاتهم الخير الكثير الذي كان فى هذا الكتاب، فإن بين أيديهم أثارة منه، تجعلهم أقرب إلى المؤمنين، وأعرف بما جاء به محمد من عند ربّه، وأنه إذا أنكره المشركون وكذبوا به، لم يكن لليهود- أهل الكتاب- أن يقفوا هذا الموقف اللئيم منه! والعجب هنا، أن اليهود لم يقفوا عند هذا الحدّ من الضلال، والعناد، والمكابرة فى وجه الحق، بل انحدروا إلى حضيض السفاهات والضلالات، فآمنوا بالجبت والطاغوت، واتبعوا ما تمليه عليهم أهواؤهم من أباطيل وخرافات..
والجبت: هو الهوى الذي يفيض من عقل مظلم ووجدان سقيم..
والطاغوت: هو الهوى الذي يمليه ذكاء خبيث، وشيطان مريد..
فالقوم عبدة هذا الهوى، الجامع بين تلك الأخلاط. من البلادة والذكاء،(3/814)
البلادة الحيوانية، والذكاء الشيطاني.. فهم حيوانات بهيمية، يعيش فيها شيطان رجيم..
وفى قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» إشارة إلى فعلة من أفعالهم اللئيمة، وجريمة من جرائمهم المنكرة.. ذلك أنهم يرون فى الكافرين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين..
ولهذا كانوا حلفا مع مشركى قريش على النبىّ وأصحابه! .. وهكذا يقتل الحسد من نفوسهم كل واردة من واردات الخير، حين.. بعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، فيرون الحق باطلا، والباطل حقّا.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) وفى عطف القول ومقوله، على إيمانهم بالجبت والطاغوت، تغليظ لهذا القول الذي قالوه، وتجريم له، وجعله هو وعبادة الجبت والطاغوت على درجة سواء، من الكفر والضلال! وفى إسناد القول للذين كفروا، ثم الإشارة بمقول القول إليهم- ما يسأل عنه:
إذ كيف يقولون للذين كفروا، ثم يشيرون إلى هؤلاء الذين كفروا بمقول القول هذا، وهم يخاطبونهم، ويتجهون بالقول إليهم؟ إن الذي يقتضيه النظم أن يكون مقول القول للكافرين.. هكذا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا! فكيف هذا؟
والجواب- والله أعلم- أن اليهود- لم يتجهوا بهذا القول إلى جميع الكافرين.. وإنما كانت مقولتهم تلك لرءوس الكافرين، وأصحاب الرأى فيهم، ثم كانت الإشارة إلى الكافرين فى عمومهم.
وفى هذا ما فيه من مبالغة فى كفر القوم، وضلالهم، حتى إنهم لا يرون(3/815)
المؤمنين فى درجة تسمح بالمفاضلة بينهم وبين كبار الكافرين وسادتهم، وإنما الذي يمكن أن يسمح به فى المفاضلة بين المؤمنين والمشركين، هو هذا المستوي الذي عليه عامة الكافرين، لا خاصتهم..
فاليهود إذ يتحدثون إلى رءوس الكافرين لا يقولون لهم أنتم أهدى سبيلا من المؤمنين، بل يشيرون إلى عامة الكافرين، خارج هذه المجموعة، ويقولون لهم: «هؤلاء» أي جماعتكم جميعا.. «أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» أما أنتم، فشتان ما بينكم وبينهم! وإذ استباح القوم الزور، واستمرءوا الحياة معه.. فهيهات أن يقف بهم عند حدّ! وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» . هو إشارة لليهود الذين شهدوا تلك الشهادة الباطلة، ونطقوا بها زورا وبهتانا، وهو فى مقابل مقولة اليهود عن الكافرين: «هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» حيث أشاروا إلى الكافرين، وحكموا لهم بهذا الحكم المبنىّ على الزور والبهتان.. فأشار الله إليهم، بهذا الحكم القائم على العدل والردع، لهذا الجرم الذي اقترفوه، وهذا الضلال الذي غرقوا فيه، وأغرقوا غيرهم معه.. «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» .
واللعنة دائما حيث كانت، فهى لليهود، وعلى اليهود..!
وقوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» هو إعلان عن هذا الطبع اللئيم الذي يغلب على اليهود، وهذا الداء الخبيث الذي يغتال كل معالم الإنسانية فيهم..
فالشحّ هو الطبع الغالب عليهم، لا تندّ من أيديهم ذرة خير لأحد، لما انطوت عليه نفوسهم من كراهية للناس جميعا.. حيث يجدون الراحة والرضا(3/816)
فيما ينزل بالناس من كوارث ومحن، فكيف يكون منهم عمل يخفف عن الناس لما، أو يسوق إليهم عافية؟
إنهم لو كان إلى أيديهم شىء من رحمة الله وفضله، لحرموا الناس أن ينالوا ذرة من هذه الرحمة وذلك الفضل! والنقير هو النقرة فى ظهر النواة.. وهو شىء غاية فى الصغر والضآلة، ومثله الفتيل والقطمير.
وقوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» هو إعلان عن ذلك الداء الذي يولّده الشحّ الذي طبع عليه القوم، وهو داء الحسد.. فالقوم تتّقد فى قلوبهم نار الحسد والكمد، إذا رأوا نعمة من نعم الله تصيب عبدا من عباد الله! فهم يتحرقون غيظا وكمدا أن ساق الله إلى «محمد» هذا الفضل العظيم، ووضع فى يده تلك النعمة السابغة، حين اصطفاه لرسالته، وأنزل عليه كتابه الكريم.
فما لهم- قاتلهم الله- يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وقد وسّع الله عليهم وآتاهم من فضله، وأنزل عليهم من نعمه، ما لو استقاموا عليه، وانتفعوا به لسعدوا، وأسعدوا الناس معهم؟ «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» فمن آل إبراهيم كان أنبياء بنى إسرائيل: إسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى.
فما أكثر الخير الذي ساقه الله إليهم على يد أنبيائه ورسله، ولكن القوم استقبلوا هذا الخير بالجحود والكفران: «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ» وقليل منهم أولئك الذين آمنوا، وكثير منهم أولئك الذين كفروا وجحدوا.. «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» فهى الجزاء العادل لمن مكر بآيات الله، وبدل نعمة الله كفرا.(3/817)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً» .
ففى جهنم التي هى مثوى هؤلاء المكذبين بآيات الله، ألوان من العذاب لا تنتهى.. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» ليعيشوا هكذا فى عذاب دائم..
والجلد هو حاسة الإحساس فى الإنسان، ولذا كان العذاب الأخروىّ واقعا عليه، وكانت النار التي تتصل به أشبه بثوب من النار ذاتها، كلما بلى هذا الثوب، تجدّد لأصحاب النار ثوب آخر مكانه!.
وفى مقابل هذا العذاب الذي يصلاه الكافرون، تقوم الجنّة التي ينعم فيها المؤمنون، بما أعد الله لهم، من نعيم مقيم، لا ينفد أبدا..
وفى مواجهة أصحاب الجحيم لأهل النعيم وما يلقون من كرامة وتكريم، وفى اطلاع أهل النعيم على أهوال الجحيم، وما يلقى المعذبون فى نار جهنم، من نكال وبلاء- فى هذا ما يضاعف لأهل النار ما هم فيه من محن وأهوال! كما يضاعف لأهل الجنة ما هم فيه من نعيم ورضوان.
الآيتان: (58- 59) [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)(3/818)
التفسير: الأمانات التي يأمر الله سبحانه وتعالى بأدائها إلى أهلها، كثيرة، متنوعة، وأهلها كثيرون مختلفون! فهناك أمانة عامة حملها أبناء آدم جميعا، هى أمانة التكليف، التي أبت عوالم السماء والأرض أن تحملها، وأشفقت من حملها، والقدرة على الوفاء بها..
وأمانة التكليف هذه، هى التي أفردت الإنسان عن سائر المخلوقات، بالعقل، الذي به أصبح الإنسان سيد نفسه، بما له من قوى التفكير، والتقدير، والإرادة.. فإن شاء تقدم، وإن شاء تأخر، حسب ما يرى ويقدّر! ولهذا كان عالم الناس مجموعة عوالم، بعدد أفراد الناس، فردا، فردا..
فكل إنسان عالم وحده، فى تفكيره، وتقديره، وعواطفه، ومنازعه، وسلوكه، حتى لا يكاد يتساوى إنسان وإنسان بحال أبدا.. على خلاف الكائنات الأخرى، علويّها وسفليّها.. كل عالم منها ينتظم جميع أفراده، التي لا يختلف.
فيها واحد عن آخر، حتى لكأنها عدد مكرر من أعداد الحساب! وهذا التفرد الذي كان للإنسان، هو طموح جامح، منّته به نفسه الغرور، فارتفع إلى المستوي الرفيع الذي إن زلّت به قدمه فيه، سقط من علو شاهق، وهوى إلى أسفل سافلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 5- 6: التين) فالإنسان إذ حمل هذه الأمانة- أمانة التكليف- أصبح سيّد الكائنات كلها، لا سيّد فوقه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو بهذا الخلق القويم الكريم ظلّ الله فى هذا الوجود، تتخايل فيه لمحات من علم الله، وقدرته، وإرادته، وكثير من صفاته، سبحانه وتعالى علوّا كبيرا عن الشبيه والمثيل!(3/819)
وعلى هذا يمكن أن يفهم ما تحدّث به التوراة عن الله تعالى: «وقال الله:
نعمل الإنسان على صورتنا، كشبهنا.. فخلق الله الإنسان على صورته..
على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم الله.» «1»
وإذ حمل الإنسان هذه الأمانة، وتحدّى الموجودات كلها، التي أشفقت من حملها، فإنّ من البر بنفسه، والكرامة لإنسانيته، أن يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، وأن يرعى هذه الأمانة حق رعايتها، وأن يؤديها إلى أهلها، وهو الله سبحانه وتعالى، وذلك بالتعرف على الله والإيمان به أولا، ثم الاستقامة على طريق الحق والخير على ما شرعه الله ورسمه.
وأداء هذه الأمانة على وجهها، هو ضمان وثيق لأداء الأمانات كلها، لأن كل أمانة بعد هذا هى بعض من تلك الأمانة الكبرى، وأثر من آثارها.. فما بين الناس والناس من أمانات ماديّة، وعقود، وعهود..
هو مما يندرج تحت هذه الأمانة وينضوى إليها..
وقوله تعالى: «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» هو استنجاز لأداء بعض الأمانة التي حملها الناس.. وهى الحكم بالعدل بين الناس.. لأن العدل صفة من صفات الله، وفى الإنسان لمحة من هذه الصفة..
وفى خروجه عن العدل، خيانة للأمانة التي حملها، وجناية على نفسه، وردّة لها إلى أسفل سافلين.
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» تحريض قوي على امتثال هذا الأمر الكريم، وتلك الموعظة الحسنة، لأنها دعوة من الله إلى خير، ولا يدعو الله إلا إلى الخير ولا يأمر إلا بالخير..
__________
(1) التوراة: سفر التكوين- الإصحاح الأول.(3/820)
«ونعمّا» هى فعل مدح، أصله «نعم» و «ما» التي هى نكرة بمعنى شىء، ليفيد هذا التنكير التعميم والشمول.. فكل ما يعظنا به الله، ويدعونا إليه هو خير، وخير مطلق.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» هو استنجاز آخر لأداء بعض ما يتعلق بالأمانة الكبرى التي حملها الإنسان، وهو طاعة الله والرسول، وأولى الأمر..
فالانقياد لله هو المظهر العملىّ الواضح لأداء هذه الأمانة، وغير هذا الانقياد هو التضييع للأمانة، والعدوان عليها..
والانقياد لله يتبعه الانقياد لرسول الله.. إذ كان هو السفير بين الله وبين عباده، وهو الحامل لكلمة الله إليهم، والمؤذّن بها فيهم.. فلا انقياد لله لمن لا ينقاد لرسول الله..
وأولو الأمر.. هم من يلون أمر الإنسان، ويقومون على رعاية مصالحه، من آباء، وقادة، وحكام.. وغيرهم، ممن لهم على الإنسان سلطان أدبى أو مادىّ.
والانقياد لأولى الأمر ليس انقيادا مطلقا، بل هو انقياد محكوم بحدود العدل، والخير، والإحسان..
ولهذا كانت طاعة الوالدين- وهما فى المقام الأول من أولى الأمر- قائمة على سنن المعروف، فإن دعوا إلى منكر، فلا طاعة لهما، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (15: لقمان) .
فالولاية إذا لم تكن ولاية راشدة حكيمة، مستقيمة مع العدل والإحسان(3/821)
كان لمن تحت ولايتها أن يراجعوها، وأن ينصحوا لها، وأن يعملوا على تبصرتها بالطريق القويم، الذي فيه خير الجماعة كلها..
فإن كان خلاف بين أولى الأمر، وبين من فى ولايتهم، ولم يلتقوا عنده على كلمة سواء.. كان الحكم بينهم فى هذا، كتاب الله وسنّة رسول الله، فذلك هو الميزان العدل، الذي توزن به الأمور، وما يقضى به هنا كان هو الحق والخير، وكان التزامة أمرا واجبا.. من أباه، وخرج عليه، كان متعديّا حدود الله، آثما ظالما.. تجرى عليه أحكام الآثمين الظالمين..
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ما يشير إلى احتمالات النزاع المتوقعة بين أولى الأمر ومن فى ولايتهم، وأن ذلك أمر غير مستبعد، بين الناس والناس.
فإذا وقع نزاع فى أمر ما، كان ردّه إلى حكم الله ورسوله أمرا واجبا على المؤمنين، وكان الله سبحانه وتعالى هو وليّهم جميعا، وكانت شريعته لهم، هى الدستور الواجب اتباعه، والاحتكام إليه فيما يقع بينهم من خلاف..
فمن كان مؤمنا بالله واليوم الآخر، استقام على شرع الله، ووقف عند حدوده، وخضع لحكمه.
وفى قوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» إشارة إلى أن الرجوع عند الخلاف إلى ما قضى به كتاب الله وسنة رسوله، هو الطريق المأمون، الذي يسلم المختلفين إلى يد الوفاق والسلام، حيث كان احتكامهم إلى أحكم الحاكمين، الذي يحكم بين عباده بالحق، فلا ميل مع هوى، ولا محاباة لكبير(3/822)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
أو عظيم، لأن الخلق خلقه، والناس عبيده، لا تفاضل بينهم عنده إلا بالتقوى!
الآيات: (60- 61- 62- 63) [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
التفسير: ما تكاد الآيات القرآنية الكريمة ترفع يدها الآخذة بمخانق اليهود، وما يكاد اليهود يلتقطون أنفاسهم اللاهثة من تلك المطاردة العنيفة التي تلهب فيها آيات الكتاب الكريم ظهورهم بسياط ملتهبة من الفضيحة والخزي- ما كان ذلك يحدث حتى تعود إليهم الآيات الكريمة مرة أخرى، فتعيد معهم سيرتها الأولى، حتى تتقطع أنفاسهم.. إنها تلقاهم بعذاب أشبه بعذاب الآخرة، الذي يتبدل فيه المعذّبون جلودهم بجلود غيرها، كلما نضجت.. كما يقول الله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» .(3/823)
وهنا فى هذه الآيات، يفضح الله اليهود ونفاقهم، إذ يجيئون إلى النبىّ فى صورة المؤمنين به، كما أنهم مؤمنون بما فى أيديهم من الكتب السماوية..
ثم هم مع هذا لا يرضون بالاحتكام إلى القرآن أو التوراة والإنجيل، وإنما يحتكمون إلى ما عندهم من ضلالات ومفتريات.. «يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» وهو مجمع الباطل والضلال.. «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» إذ لا يجتمع إيمان بالله وبكتبه، مع الاطمئنان إلى الطاغوت والولاء له..!
إن هؤلاء المنافقين إنما يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.. وإنه إذا كانت أفواههم تردد كلمات الإيمان بالله، والولاء لرسوله، فإن قلوبهم منطوية على إيمان غير هذا الإيمان، وسرائرهم منعقدة على ولاء غير هذا الولاء.. إيمان بالجبت، وولاء للطاغوت: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» حيث يتصادم ظاهرهم مع باطنهم، ويغلب نفاقهم على إيمانهم، فيفرون من بين يدى هذه الدعوة التي يدعون فيها إلى الاحتكام إلى ما أنزل الله، وإلى ما يقضى به الرسول.
وقوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» تنديم لهؤلاء المنافقين بما يجرّ عليهم النفاق من شر وشؤم. وأن عاقبة هذا الالتواء الذي تجرى عليه حياتهم إنما هو الخزي والخذلان.. وأنهم حين يحيق بهم مكرهم السيء، واحتكامهم إلى غير كتاب الله ورسول الله، يفزعون إلى الرسول بوجوه وقاح لا حياء فيها، ويحلفون- كذبا- ما أردنا فيما فعلنا من الاحتكام إلى غيرك إلّا معالجة الأمر على الوجه الذي نبغى به حسم الخلاف، والصلح بين المتخاصمين! وهذا عذر غير مقبول منهم، لأنهم لم يأخذوا طريقهم الذي سلكوه عن اجتهاد، وإنما كان عن خلاف متعمّد للرسول، ومنابذة له.(3/824)
وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ» إشارة فاضحة لهؤلاء المنافقين، ممسكة بهم وهم متلبسون بنفاقهم.. وهذه الإشارة تكاد تكون يدا آخذة بناصية كل منافق من هؤلاء المنافقين، يجد كل منافق مسّها، ويستشعر اشتمالها على وجوده.
وقوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» دعوة للنبى الكريم بالإغضاء عنهم، وترك مماراتهم والجدل معهم.. وذلك هو سبيل النبىّ فى موقفه من أهل الجدل والمراء، فى كل حال يلتقى فيها مع أصحاب النفوس المريضة، والطبائع السقيمة، حيث ينصح له الله سبحانه بقوله: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199: الأعراف) .
وقوله تعالى: «وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» استيفاء لرسالة الرسول، واستكمال لكمالها.. حيث لا تترك هؤلاء المرضى الذين يأبون أن يستطيّوا لدائهم، وأن يتناولوا ما يقدم لهم من دواء، بل إن واجب الرسالة أن تبالغ فى النصح لهم، وألا يحجزها هذا الضلال الذي يتخبطون فيه عن أن تسمعهم كلمات الله، وأن تشقّ طريقها إليهم من خلال هذا الضباب الكثيف المنعقد على بصائرهم، وبهذا تقوم الحجة عليهم، وتنقطع أسباب معاذيرهم.. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (42: الأنفال) وفى هذا ما فيه من رحمة الله، وما تحمل رسالة الإسلام من خير عميم للناس، تسوقه إليهم من كل وجه، وتلقاهم به فى كل سبيل، حتى ولو كانوا على طريق الضالين، المعاندين.. إنها رحمة الله، تتلمس طريقها إلى كل قلب، وترسل شعاعها إلى كل إنسان.. «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) .(3/825)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
الآيتان: (64- 65) [سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
التفسير: وإذ يغضى الرسول عن مهاترات المهاترين، ونفاق المنافقين، وإذ يمدّ إليهم يده بالهدى والنور، فإن ذلك هو مبلغ جهده، وغاية رسالته، ولا عليه أن يقيم الكافرون على كفرهم، ويعيش المنافقون مع نفاقهم:
«ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» (99: المائدة) .
والله سبحانه وتعالى قد ندب الرسول ليبلغ رسالة ربّه، فإذا بلّغها فقد أدّى رسالته، وكان على الناس أن يستمعوا له، ويؤمنوا بما جاءهم به..
ولكن أكثر الناس لا يلقون هذه الدعوة الراشدة الكريمة إلّا بالعناد والالتواء..
وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» التفات إلى هؤلاء المعاندين، الذين ركبوا مركب الضلال، ليكون لهم رجعة إلى الله، ولينتهوا عما هم فيه قبل أن يهلكوا، إنهم إن راجعوا أنفسهم، وأقبلوا على الله، واستغفروه، واستجابوا لرسوله، لوجدوا ربا غفورا، يتقبل توبتهم، ويقبلهم فيمن قبل من عباده المؤمنين.. فما أوسع رحمة الله بعباده، وما أعظم فضله عليهم..(3/826)
يدعوهم إليه وهم شاردون، ويمدّ إليهم يده وهم معرضون.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) وقوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .
هو بيان للإيمان الذي يقبل من هؤلاء الضالين الذين يريدون العودة إلى الله، فإنهم لا يحسبون فى المؤمنين، حتى ينزلوا على حكم الله، فيما يكون بينهم من خلاف، فذلك هو الدستور الذي لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يستقيم عليه، ويتقبل حكمه فيه، بقلب مطمئن، ونفس راضية، ولو كان ذلك مخالفا لهواه، مفوّتا لمصلحة خاصة له.. أما أن يأخذ من حكم الله ما يرضيه، ويدع ما لا يستجيب لهواه، ويلتقى مع رغباته، فذلك هو النفاق مع الله، ومع الرسول! إن الإيمان هو التسليم المطلق لأحكام الله، والولاء المطلق لرسوله، وما يقضى به.. وبغير هذا لا يكون إيمان، ولا يعتدّ بدعوى من يدعيه! وفى إضافة النبي الكريم إلى الله فى قوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ» تشريف للنبى، واستدعاء له إلى الحضرة العلية ليشهد هذا القسم العظيم، وليكون شاهدا على هؤلاء الضالين المنافقين.. و «لا» النافية فى قوله تعالى: «فَلا يُؤْمِنُونَ» هى توكيد للنفى السابق للقسم فى قوله سبحانه: «فَلا وَرَبِّكَ» .. وقد فصل القسم بينهما.(3/827)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
الآيات: (66- 67- 68) [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
التفسير: السّمة الواضحة فى الشريعة الإسلامية أنها قائمة على السماحة واليسر، ليس فيها ما يعنت أو يرهق، وليس فيما شرع الله فيها ما يراد به العقاب والتنكيل، كما فعل الله باليهود وغيرهم ممن حادّوا الله ورسله.. كما يقول الله تعالى فيهم: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (160: النساء) .. فقد حرّم الله عليهم ما كان قد أحلّ لهم من الطيبات، وابتلاهم بهذا البلاء، ليقيمهم أبدا على خطيئة، حيث لا صبر لهم على الحرمان مما أحلّ الله لعباده من طيبات.. حرمها عليهم.
وأكثر من هذا، فإنهم- أي اليهود- حين اتخذوا العجل إلها من دون الله، بعد أن نجّاهم الله من فرعون، وفرق بهم البحر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى- حين فعلوا ذلك أمرهم الله بأن يقتلوا أنفسهم بأنفسهم، فليس غير إراقة دمائهم شىء يقبله الله منهم، إن أرادون التكفير عن خطيئتهم، والرجوع إلى رتبهم. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» (54: البقرة) وفى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» إشارة إلى ما فى شريعة الإسلام من يسر، وأن ما شرعه الله فيها، وهو مما تتقبله النفوس، وتتجاوب معه! وأن هذه الشريعة لم تحمل إلى الناس ما حملت الشرائع قبلها من الأحكام الشاقة الرادعة.(3/828)
فليذكر أتباع هذه الشريعة فضل الله عليهم، إذ عافاهم مما ابتلى به الأمم من قبلهم، وليستقيموا على شريعة الإسلام، وليتقبلوا أحكامها برضى وحمد..
وأنهم إذا ضعفوا عن حمل هذه التكاليف السمحة السهلة، وتفلتوا منها، أو ضاقوا بها- فكيف كان يكون شأنهم لو أن الله أمرهم- فيما أمرهم به- أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم؟ إن قلة قليلة منهم هى التي كانت تستجيب لهذا الأمر، وتتقبله، أما أكثرهم فلا يمتثلونه، ولا يأخذون به! وقد جمع القرآن بين قتل النفس والخروج من الديار، لأن إلف الإنسان للدار التي يسكنها، وللوطن الذي يعيش أشبه بإلف الروح للجسد، والقتل تفرقه بين الروح والجسد، وكذلك الخروج من الوطن، تفرقة بين الإنسان الكائن الحىّ، الذي يشبه الروح، وبين الوطن والدار، وهما أشبه بالجسد لهذا الإنسان.
قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» إلفات إلى ما تدعوهم إليه الشريعة الإسلامية مما لا مشقة فيه، ولا عنت معه، وأنه إذا ووزن بما حملت بعض الشرائع السابقة من أحكام مرهقة معنتة، لوجد رحمة راحمة، ونعمة سابغة ...
فلو أن هؤلاء المعاندين الضالين امتثلوا أوامر الله، وفعلوا ما وعظوا به لكان فى ذلك خيرهم وسعادتهم، لأنه يقيم طريقهم على الحق والإحسان، وبثمر لهم أطيب الثمر فى الدنيا والآخرة جميعا.
ولو أنهم تقبلوا شرع الله، واستقاموا عليه، لوجدوا له روحا فى أنفسهم، وتجاوبا مع مشاعرهم، وكانوا كلما مضت الأيام بهم وهم على شريعة الله ازدادوا إيمانا بها، وتثبتا من خيرها وفضلها..
ولو أنهم فعلوا هذا، وعاشوا به، واطمأنوا إليه، لأثابهم الله ثوابا عظيما،(3/829)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
وأدخلهم مدخلا كريما، ولأمسك بهم على طريق الحق، وعصمهم من الزيغ والضلال..
الآيتان: (69- 70) [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
التفسير: تجىء الدعوة إلى طاعة الله ورسوله، هنا، بعد هذا العرض الكاشف لضلال الضّالّين، ونفاق المنافقين، وبعد تلك الموازنة بين الشريعة الإسلامية ويسرها، وما تحمل إلى الناس من خير ورحمة، وبين الشرائع السابقة وما كانت تحمل إلى الناس من نكال، وبلاء، جزاء كفرهم ومكرهم بآيات الله..
وفى هذا العرض تصحو المشاعر الطيبة فى الإنسان، لتلتقى بتلك الدعوة الكريمة، التي يوجهها الله إلى عباده، أن يستجيبوا لله وللرسول، وأن يمتثلوا أوامر الله، وأن يحتكموا إلى كتاب الله، وإلى رسول الله.. فإن هم فعلوا ذلك كانوا فى عداد الصالحين، الذين رضى الله عنهم، وأجزل المثوبة لهم..
من النبيّين، والصدّيقين، والشهداء والصالحين.. ففى هذا المنزل الكريم ينزل ذلك الذي يطيع الله ورسوله، ومع هؤلاء النفر الكرام من عباد الله المقربين المكرمين ينعم بما ينعمون، ويسعد بما يسعدون: «وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» .
فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، الذين رضى عنهم، وسلك بهم مسالك الهدى والإيمان. وكفى بالله عليما بعباده، وما هم أهل له، من جنة(3/830)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
أو نار، حيث يوفّون أجورهم يوم القيامة: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» .
الآية: (71- 72- 73) [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
التفسير: من أقوى دعامات الإيمان، الجهاد فى سبيل الله، إذ كان أكثر التكاليف مشقة على النفس، وأنهكها للبدن والمال! ومن هنا كانت منزلة الجهاد فى الإسلام، ومقام المجاهدين عند الله، كما كان الجهاد مطلبا أول للمؤمنين، الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه.
ومن هنا أيضا كانت عناية الله بالمجاهدين، ورسم معالم الطريق لهم، وحراستهم من أن يغرّر بهم، أو يبيتوا.. فكانت وصاة الله سبحانه وتعالى للمجاهدين دستورا متكاملا، لمعاناة الحرب، والتهيؤ لها، والحذر من المكيدة، والأخذ بها..
فمن ذلك، الإعداد للحرب، والأخذ بوسائل القوة والغلب، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» (60: الأنفال) ومن ذلك أيضا، الحذر من مباغتة العدوّ عند انتهاز الغفلة من المؤمنين..(3/831)
وفى هذا يقول سبحانه: «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ..» (102: النساء) ومن ذلك أيضا الثبات فى المعركة، ومساندة المجاهدين بعضهم بعضا، حتى لكأنهم جسد واحد، وكلهم أعضاء فى هذا الجسد، فلا يطلب أحدهم السلامة لنفسه، كما لا يطلب السلامة لعضو من أعضائه بتعريض الجسد كله للتلف..
وفى هذا يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» (4: الصف) ويقول جل شأنه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15: الأنفال) وهنا فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ» لفتة من لفتات السماء للمجاهدين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم، فيكونوا دائما على تأهب واستعداد، فهى دعوة عامة إلى الحيطة والحذر، واليقظة الدائمة لملاقاة العدوّ بالقوة الرادعة، واليد المتمكنة الباطشة.
وقوله: «فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً» هو مظهر من مظاهر الحذر، حيث يتخير المجاهدون الأسلوب المناسب للقاء عدوّهم، فتارة يلقونه جماعة جماعة، وطورا يلقونه بقوتهم جميعا، حسب تقديرهم لقوة العدوّ، وللأسلوب الذي تمليه الحكمة، ويقتضيه النظر.، ويستدعيه الموقف.(3/832)
والثّبات: جمع ثبة وهى الجماعة، والعصبة من الفرسان.
والنّفر، والنّفرة: التحرك للقتال، والفراغ له.
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» إشارة فاضحة لجبن الجبناء، ونفاق المنافقين، من الذين يحشرون أنفسهم فى زمرة المجاهدين، ويضافون إليهم..
فهناك أفراد يغلبهم الحرص على أنفسهم، كما يغلب عليهم الطمع فيما يقع لأيدى المجاهدين من غنائم..
فإذ جاء النفير إلى الجهاد، تلبّثوا، وتعللوا بالعلل والمعاذير، حتى يفوتهم الركب المجاهد، وهم لا يزالون فى موقف من يتأهب للقتال، ويتجهز للّحاق بالمجاهدين.. ثم لا يزالون على هذا الموقف حتى تنتهى المعركة، وينفضّ سوقها..
وهنا ينكشف أمر هؤلاء الجبناء، ويفتضح نفاقهم حتى مع أنفسهم..
فإذا كانت الهزيمة فى المجاهدين، أظهروا الفرحة، وحمدوا لأنفسهم هذا الموقف المتخاذل الذي كان منهم، وقال قائلهم: «قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً» .. لقد نجا بنفسه، وسلم من التلف، ومادرى أنه من الخاسرين، حيث فاته ثواب الشهداء، وأجر المجاهدين..
وإن كانت الغلبة للمجاهدين، نظر إلى ما فى أيديهم من أسلاب ومغانم، فامتلأت نفسه حسرة وأسى وندما، وتمنّى أن لو كان فى هذا الركب الظافر الغانم، وقال ونفسه تتقطع كمدا وحسرة: «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» .
وفى قوله تعالى: «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ» تنديد بهذه الخسّة(3/833)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
وذلك الجبن، الذي قطع أواصر الأخوّة والتناصر بينه وبين أصحابه.. فما على هذا الأسلوب الخسيس تقوم الصحبة بين الجماعة، التي من شأنها أن تتقاسم السرّاء والضرّاء، وأن تذوق الحلو والمرّ.. أمّا أن تقف لتتحيّن الفرصة لتشارك فى السّرّاء، ولا تشارك فى الضراء، فذلك هو اللؤم الدنيء الذي تترفع عنه أدنى الحيوانات، التي إذا هاجمها عدوّ، لقيته يدا واحدة، وقوة مجتمعة!
الآية: (74) [سورة النساء (4) : آية 74]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
التفسير: ذلك هو القتال فى سبيل الله، لا يخفّ إليه، ولا يندرج به فى جماعة المجاهدين، إلا من وطّن نفسه على احتمال تبعاته، وقدّر الموت قبل أن يقدر الحياة، وشرى الحياة الدنيا بالآخرة.. فذلك هو الذي يحتسب له أجر المجاهدين عند الله، إن سلم، أو عطب، لأنه بايع الله، ووفّى بما عاهد الله عليه، ووقع أجره على الله، وهو نيّة الجهاد، وعلى طريق المجاهدين، وإن لم يلتحم فى معركة، أو يشارك فى قتال.. إن ذلك المجاهد هو الذي يدعى للجهاد، ويقبل فى صفوف المجاهدين.. أما أولئك المترددون، الذين يأخذون الجانب الهيّن اللّين من كل أمر، فلا مكان لهم فى هذا المقام الكريم، الذي هو مقام الرجال!! قوله تعالى: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» بيان كاشف لموقف المجاهد، ومكانته عند الله.. فهو فى إحدى منزلتين: إما أن يقتل، فيحسب فى عداد الشهداء، وإما أن يغلب(3/834)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
وينتصر، ويغنم.. وهو فى كلا الأمرين محمود عند الله، له أجر الشهداء ومنزلة المستشهدين..
وفى قوله تعالى: «فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» إشارة إلى أن المجاهدين فى سبيل لهم العاقبة والنصر أبدا.. وأن الذين استشهدوا قد كتبوا بدمائهم الزكية الطاهرة وثيقة النصر للجبهة المقاتلين فيها.. فالمجاهدون إما شهداء، وإما منتصرون..
ومعنى هذا ألا يتحول المجاهدون عن الجهاد، وألا يتركوا المعركة إلّا ومعهم النصر الذي وعدهم الله، وجعله جزاء معجلا لهم..
ولهذا جاءت القسمة هكذا: «فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» ولم تجىء كما يقضى به ظاهر الأمر.. «فيقتل» أو يسلم!
الآية: (75) [سورة النساء (4) : آية 75]
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
التفسير: وماذا يقعد بالمؤمنين عن الجهاد، ويصرف وجوههم عنه، وبين أيديهم أسبابه قائمة، ودواعيه مجتمعة؟
فهؤلاء البغاة الطغاة يتسلطون على المستضعفين، من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يستطيعون دفع العدوان، ولا يقدرون على الإفلات من هذا العذاب المسلط عليهم، وليس لهم إلا الضراعة إلى الله والّلجأ إليه أن يخلصهم من هذا البلاء، وأن يسوق إليهم من رحمته جندا من جنده، وعبادا من عباده، ينتصرون لهم، ويدفعون يد العدوان عنهم!(3/835)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
إن المروءة- قبل الدّين- تقضى بأن يخفّ أهل النجدة والنخوة، إلى استنفاذ هؤلاء المستضعفين، الذين تسلطت عليهم الذئاب، وعلقت بهم شباك الضّالين الظالمين..
فكيف إذا كان هؤلاء الضعاف المستضعفون، إنما يلقون ما يلقون من عنت وإرهاق، لأنهم آمنوا بالله، واستجابوا لرسول الله؟
إن كل مسلم مطالب- ديانة ومروءة- أن يجاهد لخلاصهم، وأن يستشهد فى سبيل الحق الذي استمسكوا به، وأوذوا بسببه، فهم- والأمر كذلك- فى الجبهة المقاتلة مع المؤمنين، ولزام على كل مؤمن أن يدفع الضرّ عنهم، وأن يردّ يد البغي المتسلطة عليهم..
وفى قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» إشارة مضيئة، تكشف عن جماعة المجاهدين الذين ندبهم الله لاستنفاذ هؤلاء المستضعفين.. إن هؤلاء المجاهدين هم جند الله الذين بعثهم من لدنه، ليكونوا أولياء ونصراء لهؤلاء الضعفاء.. إنهم استجابة لدعوة هؤلاء المظلومين، حين وجهوا وجوههم إلى الله ضارعين قائلين: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» .
الآية: (76) [سورة النساء (4) : آية 76]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
التفسير: وإذ ندب الله سبحانه من عباده من يتولّون الدفاع عن المستضعفين، ويجاهدون فى سبيل الله من أجل خلاصهم من يد البغي والعدوان، وإذ استجاب(3/836)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
المجاهدون لما ندبهم الله له- فإنهم بهذا قد حققوا معنى الإيمان الذي رضوا به، واتخذوه دينا.. فالمؤمن- إن صحّ إيمانه- كان دائما أبدا فى جبهة الحق، ينتصر له، ويقاتل فى سبيله: «الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ..
لأنهم أعطوا ولاءهم كلّه لله.
وليس كذلك سبيل الكافرين.. إنهم أولياء الباطل، وأتباع الضلال..
ولذلك فهم يقاتلون- حين يقاتلون- لحساب الباطل، وتحت راية الطاغوت..
والطاغوت.. هو مجمع كل شر، وملتقى كل فساد.. إنه الشيطان، كما فسّرته الآية فى قوله تعالى: «فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ» ..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» تثبيت لأقدام المجاهدين فى سبيل الله، وتطمين لقلوبهم، وتلويح لهم ببشائر النصر على عدوّهم.. لأنهم على الحق، وفى سبيل الحق يقاتلون، والعدو على طريق الباطل، وتحت راية الباطل يقاتل.. والله سبحانه هو الحقّ، وهو مع الحق، وجند الحق، فالنصر لا يتخلف أبدا عمن يقاتلون فى سبيل الله.. «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» (22: الحديد) .
الآية: (77) [سورة النساء (4) : آية 77]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
.(3/837)
التفسير: قبل أن يكتب الله القتال على المؤمنين- جهادا فى سبيل الله، وحماية لدعوة الحق التي فى أيديهم- كانت تكاليف الإسلام محدودة، ليس فيها ما يشق على النفس، إذ لم تكن دعوة الله لهم تتجاوز اجتناب المحرمات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما يقول تعالى: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» ..
وإنه حين كتب الله القتال على المؤمنين، استقبله المؤمنون الذين صدق إيمانهم بصدور منشرحة، ونفوس راضية، وعدّوا ذلك نعمة من نعم الله بهم، وفضلا من أفضاله عليهم، إذ أتاح لهم فرصة مسعدة للعمل على مرضاته، والفوز بمنزلة المجاهدين، والشهداء عنده..
أما الذين فى قلوبهم ضعف أو مرض.. فقد فزعوا لهذا الأمر، وطلع عليهم من جهته شبح الموت يمدّ يديه الرهيبتين لانتزاع أرواحهم! إن حرصهم على الحياة، وحبّهم للدنيا، قد مثّل لهم الموت شيئا مهولا فظيعا، لأنه يقطعهم عن الحياة التي تعّلقوا بها، وسكروا من خمرها.. ورأوا فيما فرض الله عليهم من قتال أمرا لا يطاق، فقالوا- وكأنهم ينكرون على الله أن يكلفهم ما كلفهم به-: «رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟» .
إنهم يهربون من حمل تلك المسئولية، ويدافعون الأيام بالتسويف..
إنهم يتمنّون على الله أن يؤخر هذا الأمر- أمر القتال- إلى غد.. وذلك الغد لن يلتقوا به أبدا.. إنه كلما جاء حسبوه يومهم، وانتظروا ما بعده غدا لهم.. وهكذا.. لا يلتقون بالغد أبدا، ولهذا جاء قوله تعالى: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» ناعيا عليهم هذا التعلّق الشديد بالحياة الدنيا، والحرص القوىّ على متاعها.. ولو أنهم(3/838)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
عقلوا لعرفوا أن متاع هذه الحياة الدنيا قليل، وإلى زوال، وأن الآخرة خير وأبقى، فمن ربح الدنيا وخسر الآخرة فذلك هو الخسران، المبين، ومن خسر الدنيا وربح الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم.
وفى قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» تعجّب واستنكار معا، من هؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف المتخاذل من الدعوة إلى القتال.. إنهم- وتلك حالهم- مثار للعجب والتعجب، وفيهم عبرة لمن يعتبر! وقد ذكر الله سبحانه هذا الموقف المتخاذل، من بعض النفوس المريضة، وشنّع عليه، وأخذ باللائمة أهله.. فقال تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» (20: محمد) .
الآيات: (78- 79- 80) [سورة النساء (4) : الآيات 78 الى 80]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)(3/839)
التفسير: هؤلاء الذين يفزعون من الموت، ويخشون التعرض له فى مواقف الجهاد فى سبيل الله- ماذا يعصمهم من الموت؟ وإلى أين تمضى بهم الحياة؟
أليس الموت هو خاتمة المطاف لكل حىّ وإن طال أجله وامتدّ عمره؟ إذن فالموت الذي يهرب منهم هؤلاء الجبناء هو ملاقيهم يوما، أينما كانوا..
ولو كانوا فى بروج مشيدة.. فهم إن لم يموتوا بضربة سيف أو طعنة رمح فى ميدان القتال، ماتوا حتف أنوفهم وهم فى بيوتهم وبين أهليهم.. فإن فرّوا من الموت، فإنما يفرّون إلى الموت!! وقوله تعالى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» هو تنديد لهؤلاء الجبناء الفارّين من وجه الموت، وفضح لموقفهم المنحرف من الرسول. «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. وتلك قوله حق «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» وتلك رمية باطل وضلال، فما فيما جاءهم به الرسول ودعاهم إليه، إلّا الخير الخالص، لو أنهم استقاموا على الطريق الذي أقامهم عليه.
وقوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو الردّ المفحم على تلك التهمة الظالمة التي توجّه بها هؤلاء السفهاء إلى النبىّ.. إنه لا يملك شيئا، الأمر كله بيد الله.. فما أصابهم من خير أو شرّ فذلك بقدر مقدور قدّره الله، وأجراه على عباده.. وما كان لأحد أن يغيّر أو يبدل شيئا مما قضى الله به! وقوله تعالى: «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» تسفيه لتلك العقول الضالة التي يعيش بها هؤلاء المنحرفون الضالون.. إنهم لا يكادون يفقهون حديثا.. ولو كان لهم شىء من فقه الحديث، لكان لهم فيما جاءهم به النبي من كلمات الله، تبصرة وهدى، ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟ «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» .(3/840)
وقوله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» هو استكمال للصورة التي يتحدّد بها موقف الإنسان من الكسب، ومدى مسئوليته فيما يعمل من خير أو شر، ومن حسن أو قبيح..
فقد بيّن الله فى قوله سبحانه: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» أن كل شىء يقع فى هذا الوجود هو بتقديره، وعن علمه، وبإرادته.. «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) .
وهذا- على إطلاقه- يعنى أن الإنسان لا كسب له، وإنما هو وما يقع منه من أعمال، ليس إلا مظهرا لإرادة الله، وإعلانا لما قضت به مشيئته! وهذا يعنى أيضا أن الإنسان غير مسئول عن غيّه أو رشاده، وكفره، أو إيمانه، إذ لا إرادة له، مع تلك الإرادة الإلهية الغالبة، ولا مشيئة مع تلك المشيئة العلوية القاهرة! ولكن واقع الإنسان ينبىء عن أنه ذو إرادة، وذو مشيئة، وأنه يريد، ويشاء.. وأنه يقف بين طريقى الخير والشر، فيريد هذا الطريق أو ذاك، حسب تقديره، ويرتضى الكفر أو الإيمان، حسب مشيئته.. ليس هناك قوة ظاهرة تحمله على أي الأمرين، وإنما ذلك إلى إرادته ومشيئته.
وإذن فهناك معادلتان يراد التوفيق بينهما:
معادلة تقول: الخير والشر جميعا من عند الله.. «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. والمعادلة الأخرى تقول: الخير من عند الله، والشر من عمل الإنسان.. «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» والحق أنه مع النظر والتأمل نجد أنه ليس هناك معادلتان، بل هما معادلة(3/841)
واحدة، وأن قوله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» هى نفس ما تضمنه قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وأنه إذا كان الله تعالى قد أضاف الخير إلى نفسه، وأضاف الشرّ إلى الإنسان، فما ذلك إلا إعمالا لإرادة الإنسان، وإيقاظا لوجوده، وإلا فإن الأمر كله لله، وليس للإنسان منه شىء، وأن على الإنسان فى مواجهته للحياة، أن يستقلّ بإرادته، وألا يضيفها إلى الله.. فإن حصّل بتلك الإرادة خيرا حمد الله عليه، وشكر له أن وفقه وهداه، وإن حصّل شرّا نظر إلى نفسه، فألقى باللائمة عليها، وصحح موقفه الذي أورده موارد الشر.. وذلك على الأقل- وإن لم يزحزح الإنسان عما أراد الله له- يجعل الشرّ أمرا بغيضا حتى عند أهله الذين ساقهم قدرهم إليه.. وذلك أضعف الإيمان فى مواجهة الشرّ..
وبهذا يستقيم للإنسانية فى مجموعها رأى فى الخير وفى الشر، فتحتفى بالخير وترضى عنه، وتبغض الشر وتنفر منه.. وبهذا يتوازن ميزان الحياة.. فيكون فيها الخير والشر، والأخيار والأشرار.. الأمر الذي لا تكون الحياة حياة إلا بهما، ولا يكون الناس ناسا إلّا معهما جميعا!! وإذا استقام فى الإنسانية أن الخير طيّب محبوب، وأن الشرّ خبيث مكره، فإنه مطلوب من الإنسان- كل إنسان- أن يسعى جاهدا إلى تحصيل الخير والاستزادة منه، وأن ينفر جاهدا من الشرّ والتخفف منه.. وألا يستولى عليه فى حاليه هذين أي شعور بأنه مهما جدّ وجهد فلن يبلغ من جدّه واجتهاده إلا ما قدّره الله له..، وكتبه عليه.. فذلك- وإن يكن الحقّ كلّ الحق- أمر غير مكشوف له، وأن عليه أن يعمل للخير، وأن يجدّ فى تحصيله، وأن يدع المصير الذي هو صائر إليه، لتقدير الله وحكمه.. «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» .
وقوله تعالى: «وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» تحديد لمهمة الرسول، وأنه(3/842)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
ليس مسئولا عن ضلال الضالّين، وعناد المعاندين، إن عليه إلا البلاغ..
«وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» يشهد بما كان من الرسول من تبليغ رسالة ربه، فمن قبلها، فقد نجا وسعد، ومن أعرض عنها، فقد هلك وشقى..
إن دعوة الرسول ليست لحسابه، وإنما هى لله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى، فما على الرسول شىء من تولّيه، وإنما حسابه على الله!
الآيات: (81- 83) [سورة النساء (4) : الآيات 81 الى 83]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
التفسير: هؤلاء الذين يقفون هذا الموقف المتخاذل، من التكاليف التي تقتضيهم بذلا وتضحية، هم منافقون قولا، كما هم منافقون عملا.. ذلك أنهم إذا كانوا يظهرون فى وقت النفير للجهاد، أنهم ماضون مع المجاهدين، وأنهم يهيئون أنفسهم للجهاد ويعدّون العدة له، ثم ينكشف الأمر عن أنهم كانوا يدافعون الأيام بالتسويف والمماطلة، حتى تنتهى المعركة، ويعود المجاهدون! - فإذا كان ذلك شأنهم فى العمل، فكذلك كان أمرهم فى القول.. إذا سمعوا دعوة إلى الجهاد قالوا: «طاعة» ، وأظهروا للرسول الاستجابة(3/843)
والامتثال، لما يدعوا إليه.. فإذا زايلوا مجلس الرسول، وخلوا إلى أنفسهم «بيّت طائفة منهم غير الذي تقول» وأنكروا على أنفسهم هذا القول الذي قالوه من قبل، وأقاموا أمرهم على خلافه.. فلا استجابة ولا طاعة.. ولكن عصيان ومخالفة..
وفى قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ» ازدراء لهؤلاء القوم، وتحقير لهم، وذلك بالحديث عنهم بضمير الغائب، لأنهم ليسوا أهلا لأن يشرفوا بخطاب ربّ العالمين.. ثم كان الحديث عنهم بالضمير المبهم، دون ذكرهم والكشف عن ذواتهم، امتهانا لهم، واستخفافا بشأنهم، حتى لكأنهم أهون من أن يتعرف عليهم، وأضأل من أن تظهر لهم ذاتية مميزة لهم..
وفى قوله تعالى: «فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» إشارة أخرى إلى ضمور ذواتهم، وضئولة شأنهم.. وأنهم فى مجلس الرسول، وبين أهل هذا المجلس، شخوص ضامرة، وشخصيات باهتة، يندسون بين الناس، فى حذر، وفى خفية، حتى لا تأخذهم العيون، ولا تفضح مستورهم النظرات.. هكذا شأن المنافقين، يعيشون دائما وراء ستار من الحذر، والتلصص، ولا يغشون المجالس إلّا فى حرص شديد على ألا تأخذهم العيون، ولا ترتقع إليهم الأبصار..
وفى التعبير بقوله تعالى: «بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» تصوير معجز لحال هؤلاء المنافقين، الذين كانوا فى مجلس الرسول أشباحا لا تكاد ترى، حتى إذا خرجوا من مجلس الرسول، تطاولت أعناقهم، وشمخت أنوفهم، وانتفضت أجسامهم، فإذا هم أشبه بالطواويس خيلاء وإعجابا! يستعرضون الناس، ويعرضون على أنظارهم هذا الوجه الجديد منهم، وكأنهم بذلك يستوفون(3/844)
حظهم من بروز الشخصية، ذلك الحظ الذي فاتهم، وهم يلبسون الوجه الآخر، وجه الضمور والانزواء، الذي يعيشون به أكثر مما يعيشون..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» تهديد لجماعة المنافقين، ووعيد لهم بالحساب العسير والعذاب الأليم، إذ سجل الله عليهم كل ما عملوا من سوء، وهو سبحانه الذي سيتولى حسابهم، ومجازاتهم..
قوله تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» إلفات لجماعات المنافقين والضالين إلى مافاتهم من خير عظيم، حين لم يقفوا عند آيات الله، ولم يتدبّروها، ويصححوا موقفهم منها، وذلك بالنظر فيها، نظرا يرتاد مواقع الخير، وينشد مطالع الهدى..
إنهم لو فعلوا ذلك، وأخلوا أنفسهم من تلك المشاعر الخبيثة المستولية عليهم، لرأوا وجه الحق سافرا فى آيات الله وكلماته، ولأحذوا طريقهم إلى الله مستقيما، فآمنوا بالله، وبرسوله، وبهذا الكتاب الذي أنزل على رسوله..
فإن نظرة مخلصة إلى كتاب الله، تصل العقول به، وتفتح القلوب له، لما فى كل آية وكل كلمة منه، من أمارات مشرقة، تحدّث بأن هذا الكلام هو كلام الله، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله!! وأقرب تلك الأمارات وأظهرها أن هذا الكتاب قائم على أسلوب واحد، ومنهج واحد، ومستوى واحد..
وذلك أنه على امتداده، وسعته، وتشعّب الموضوعات التي تناولها، والقضايا التي عرضها، والأحكام التي أصدرها- هو فى ذلك كلّه على درجة واحدة من البلاغة والبيان، وعلى كلمة سواء فيما يأمر به وينهى عنه.. ولو كان هذا القرآن من عند غير الله، لاختلف أسلوبه، وتناقضت أحكامه، وتضاربت قضاياه.. شأن كل عمل بشرىّ، لا يسلم أبدا من مواطن القوة والضعف فيه..
قوله تعالى: «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ»(3/845)
هو جانب من جوانب الصورة التي عرض الله فيها هؤلاء المنافقين، وإنهم لأصحاب ثرثرة ولغو، كلما وقعت لآذانهم كلمة طاروا بها، وألقوا بها إلى كل أذن، دون أن يتبينوا ما يسمعون، أو يعرفوا وجهه.. إن اللغو وتقليب وجوه الكلام هو تجارتهم الرابحة، وبضاعتهم الرابحة.. لا يتكلفون له جهدا، ولا يخشون من ورائه سوءا.. فما هو إلا أحاديث تروى، وأخبار تتناقل، لا يدرى أحد مصدرها، ولا يعرف من هو صاحبها.. وعلى هذا الغذاء الخبيث يعيش المنافقون، ومن هذا الجوّ المغبّر يتنفسون..
فهم يثرثرون بكل ما يسمعون من خير أو شر: «إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ» أي نطقوا به، وصحبوه معهم إلى كل مكان.. فليس يرضيهم أن يذيعوا هذه الأحاديث فى الناس، وإنما هم وراء هذه الأحاديث المذاعة يدفعونها بين أيديهم، ويشهدون آثارها فى الناس.. وهذه ما يشير إليه النظم فى قوله تعالى «أَذاعُوا بِهِ» وهو غير ما يراد بالفعل «أذاعوه» الذي يضيف إليهم إذاعة الأحاديث وتنقلها بعد أن يدفعوا بها الدفعة الأولى..
أما قوله تعالى: «أَذاعُوا بِهِ» فإنه يجعلهم يدورون مع هذه الأحاديث حيثما دارت.
وقوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» هو توبيخ لهم على هذه الخفّة وذلك الطيش اللذين يحملانهم على هذا الجري اللاهث بكل كلمة يسمعونها، أو وراء كل كلمة أو شائعة، تقال هنا أو هناك.. إنهم لو عقلوا، أو كانوا على بصيرة من أمرهم، لراجعوا أنفسهم عند كل خبر يلقى إليهم، وعند كل شائعة ترد على أسماعهم، فإن التبس عليهم شىء، أو اختلط عليهم أمر، ردّوه إلى الرسول، فكشف لهم وجه الحق منه، ووقف بهم على موارده الصحيحة، وأراهم الطريق القويم الذي يلقونه فيه.. فإن لم يكن لهم إلى الرسول سبيل، كان فى أولى الأمر منهم، وفى(3/846)
القادة والراشدين بينهم، من يضبط موارد هذه الأخبار ومصادرها، ويعزل غثّها عن ثمينها، وباطلها عن حقها- إنهم لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم وأقوم، ولأراحوا أنفسهم وأراحوا الناس من هذا الهرج والمرج، الذي يثيرونه فيهم بهذه الأخبار المشوشة المضطربة! وهذا لا شك دستور قويم لاستقرار المجتمع، وضمان أمنه وسلامته، من كلمات السوء التي تتدسس إليه من أفواه ثرثارة، ترمى بالكلام بلا حساب ولا تقدير..
إن الكلمة ليست مجرد لفظة يلفظها الإنسان من فمه، ولكنها أشباح متنقلة فى الناس.. تتجسد، وتتشكل، وتظهر فى صور مختلفة، من تصورات الناس وأعمالهم، وخاصة فى أوقات الشدائد والأزمات التي تمر بالمجتمع، حيث الهياج والقلق والاضطراب، الذي يغشى الناس، ويطلع عليهم فى يقظتهم ونومهم على السواء.
وقوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» تنبيه للمسلمين إلى الخطر الذي يتهددهم من وراء هذه الوسوسات التي تندسّ إليهم، من مفتريات الأحاديث وأباطيلها، وأن ذلك جميعه من واردات الشيطان، الذي يسوّل لتلك النفوس المريضة باللغو، ويغريها بالثرثرة، ويركب بها مركب السوء، فتذيع فى الناس، البلبلة والاضطراب، وتفتح لهم أبواب الفتنة والضلال..
ولولا فضل الله وما يحرس به المؤمنين من عظاته، وتنبيهاته لهم، وتحذيرهم من المزالق والعثرات، لضلّوا وغووا، إلا قليلا منهم، ممن استعصم بعقله، واحتكم إلى رأيه، واستصفى لنفسه المورد الطيب الذي يرده..(3/847)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
فهؤلاء القليلون هم الأمناء على أنفسهم، وهم أوتاد المجتمع، والحراس على فطرة الإنسان وكرامته..
الآية: (84) [سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
التفسير: وإنه ليس بعد هذا التنديد بالمنافقين، والمرجفين بالناس، وتحذير المؤمنين منهم، وإجلاء هذا الدخان المنعقد فى سماء المجتمع من شائعات السوء- إلا أن يأخذ النبي طريقه الذي هو سائر فيه، بعد تلك الوقفة، التي نظّم فيها صفوفه، وعزل عنها هذا المرض المندسّ بينها، من المنافقين والمثبطين..
«فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» فهذا هو طريق النبىّ..
القتال فى سبيل الله والاتجاه إليه بكل قوته، والعمل فيه جهد طاقته..
ولا عليه أن يتخاذل المتخاذلون، ويبطّىء المبطّئون.. إنه لا يكلّف إلا ما يملك، وهو لا يملك إلّا نفسه.
وقوله تعالى: «حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ» هو استدعاء سماوىّ للمؤمنين الذين صدقوا إيمانهم أن يكونوا مع النبىّ، وأن يأخذوا طريقه الذي أخذه.. وفى هذا ما فيه من تكريم لهم، ورفع لقدرهم.
وقوله سبحانه: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» هو رجاء يتعلق به النبىّ والمجاهدون معه.. فالنبىّ والمؤمنون الذين يجاهدون معه(3/848)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
على رجاء من عون الله لهم، ونصرهم على أعدائهم.. وأن هؤلاء الأعداء إن كانوا أولى قوة وأولى بأس شديد، فالنبىّ والمسلمون يشدّون رجاءهم إلى قوة فوق هذه القوة، وإلى بأس أعظم من هذا البأس.. قوة الله، وبأس الله.. «وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» .
الآية: (85) [سورة النساء (4) : آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
التفسير: فى الآيات السابقة كان الحديث عن الجماعة الإسلامية، وعن أعراض النفاق التي تظهر فى بعض منها، ممن دخلوا فى الإسلام، واتخذوه جنّة لهم، وقد كشف الله مواقف هؤلاء المنافقين، ورصد حركاتهم، وأرى النبىّ والمسلمين ما كانوا يخفونه فيما بينهم.
وفى هذه الآية يلتقى المؤمنون والمنافقون فى موقف الحساب، حيث يواجه بعضهم بعضا، وحيث يذهب كل منهم بما استحق من جزاء.
وقوله تعالى: «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها» هو عرض لفريق المؤمنين، الذين سيسوّى حسابهم على حسب ما عملوا من خير، وما قدموا من إحسان.
والتعبير عن العمل «بالشفاعة» هنا للدلالة على أنه عمل من نوع خاص، عمل يتصل بالإنسان وبما يقع بينه وبين غيره من الناس، من تصرفات، حسنة أو سيئة.. فلا يدخل فى هذا العمل ما كان خاصا بذات الإنسان، وما يأخذ به (م 54- التفسير القرآنى- ج 5)(3/849)
نفسه من طاعات وعبادات، محسنا أو مقصّرا، أو بما بينه وبين الله من معتقد، صالحا أو فاسدا..
فالشفع فى اللغة: الزوج من كل شىء، وفى كل شىء.. وهو يقابل الوتر الذي هو الفرد..
والشفاعة الحسنة، هى الإحسان إلى الغير، بالقول أو بالعمل..
والشفاعة السيئة، هى الإساءة إلى الغير بالقول أو بالعمل..
وصاحب الشفاعة الحسنة له «نصيب منها» أي أنه حين يبذل من نفسه للغير، ما يبذل من خير وإحسان، فإنه له نصيبا من هذا الخير وذلك الإحسان.. فهو وإن يكن ما بذله قد خرج من سلطانه، وصار إلى غيره، فإنه سيعود إليه شىء منه، بصورة ما، من صور الخير والإحسان.. فقد يلقاه صاحبه الذي أحسن إليه بإحسان كإحسانه، وإن اختلف شكلا وقدرا..
فإن حرم المحسن العوض ممن أحسن إليه لم يحرم لذّة الإحسان، التي تشيع فى نفسه الرضا، وفى قلبه الفرحة.. فإن حرم هذه اللذة- وهيهات- فإنه لن يحرم أبدا ثواب الله الذي أعدّه للمحسنين، إذ يقول سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) .
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والنّاس
كذلك صاحب الشفاعة السيئة، له «كفل منها» أي نصيب يعود إليه مما عمل من سوء.. يجىء إليه ممن أساء إليهم، أو من نخسة ضميره، فى حال من أحوال صحوه ويقظته.. فإن لم يكن لضميره صحوة أو يقظة- وهيهات- فهناك القصاص العادل، يأخذه الله به، يوم الفصل بين العباد..
وقد فرّق القرآن بين عائد الشفاعة الحسنة، وعائد الشفاعة السيئة.. فسمّى(3/850)
عائد الشفاعة الحسنة «نصيبا» وسمى عائد الشفاعة السيئة «كفلا» .
فما السرّ فى هذا؟
نقول- والله أعلم- إن عائد الشفاعة الحسنة هو خير وبركة، يصيب صاحبها، وأنه إذ يقدّمها إحسانا وبرّا، فإن له من هذا البرّ والإحسان نصيبا.
وكذلك صاحب الشفاعة السيئة، إنه إذ يقدم الشرّ والسوء، سيجنى من ثمر ما زرع شرّا وسوءا! والتعبير عن عائد الخير بالنصيب هو التعبير المطلوب لغة وواقعا، لأن النصيب هنا، فى اللغة: الحظ والقدر المتاح للإنسان من أي شىء، خيرا، كان أو شرا.
وقد عدل القرآن عن استعمال كلمة «النصيب، فى عائد الشفاعة السيئة هنا، إلى كلمة «كفل» التي تأتى بمعنى الضامن، والكفيل، الذي يضمن المدين الغارم، ويكفل الوفاء بالدّين، إذا عجز المدين عنه.
فالشفاعة السيئة دين ثقيل، يستنفد كل ما يملك صاحب هذه الشفاعة من خير، وهو والحال كذلك فى حاجة إلى ضامن أو كفيل.. ولا ضامن أو كفيل يجرؤ على كفالة هذا المفلس وضماته.. وإذ كان لا بد من ضامن أو كفيل، فكافله وضامنه، هو عائد هذا الشر الذي غرس.. فإذا طولب بقضاء دينه وهو مفلس عاجز عن قضائه، أخذ هذا العائد وفاء لبعض ما عليه، وإذا هو شر إلى شرّ، وبلاء إلى بلاء!!(3/851)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
الآية: (86- 87) [سورة النساء (4) : الآيات 86 الى 87]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
التفسير: التحيّة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، هى مفتاح يفتح مغالق القلوب فيهم، وأشعة دافئة تذيب الثلج وتدفع الضباب الذي بينهم.. ولهذا كانت عرفا ملتزما فى مختلف الأمم، والشعوب، على مدى الأزمان..
وهى فى الإسلام، خير يتهاداه الناس، وبرّ يلقى به بعضهم بعضا.. من قبض يده عن بذله، أو كفّها عن أخذه، فقد فاته حظه من هذا الخير، وحرم نصيبه من هذا البرّ..
وقد أخذ الإسلام المسلمين بهذا الأدب الإنسانى، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام، وأوجب على من بدأه أحد يتحية، أن يتقبلها بقبول حسن، وأن يردّها بتحية مثلها، أو خير منها.. إذ كان الذي بدأ بالتحية، قد بدأ بفضل وإحسان، ورد التحية بمثلها قضاء لقرض حسن، فلا حمد لمن أدّى ما اقترض..
والحق يقتضيه أن يشكر لمقرضه، ويثنى عليه.. ومن حق البادئ بالتحية أن يردّ عليه بأحسن مما بدأ به..
والله سبحانه وتعالى يقول: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» ..
ومقابلة الإحسان بالإحسان ليست جزاء له، وإنما هى وفاء له، والجزاء يكون بمقابلة الإحسان بما هو أحسن من هذا الإحسان..
والتحية الطيبة بين المسلمين هى من الشفاعة الحسنة التي أشارت إليها الآية السابقة.. وهى وجه من وجوه تلك الشفاعة..
وتحية الإسلام، هى كلمة: «السّلام» مشتقة من الإسلام، يلقى بها(3/852)
الإنسان أخاه قائلا: «السلام عليكم» فيلقاه أخوه بها قائلا: «وعليكم السلام ورحمة الله» .. وفى هذا الجوّ الذي تتردد فى جنباته كلمات السلام، تفىء النفوس إلى السّلم، وتهفو إلى العافية، وتستروح روح المودة والإخاء..
وإذ يأخذ المسلمون أنفسهم بهذا الأدب الإسلامى، وإذ تشيع بينهم هذه الكلمة الطيبة الرائعة، وإذ ينطق بها من نطق عن وعى ويقظة، وإذ يتلقاها من تلقّى عن إدراك وفهم، فإنك لن تجد فى مجتمع يتخذ هذه الكلمة شعارا ودثارا- قلبا يحمل بغضة، أو صدرا ينطوى على عداوة، وإنه لا شى إلا المودة والحب والسلام..
وإذا كان الإسلام قد آثر كلمة «السّلام» لما يشعّ منها من المعاني الكريمة الطيبة، التي تقتل جراثيم العداوة والبغضة، فإنه- مع هذا- يتقبل أية تحية طيبة يتبادلها الناس، ويتوسمون فيها سمات الخير والإحسان.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» غير مقيد التحية بقيد مخصوص، ولا واقف بها على صورة خاصة، ليتيح للناس من التحايا ما يغذى عواطف الأخوة والمودة بينهم، سواء أكانت تلك التحية لفظة ملفوظة، أو حركة معبّرة، أو إشارة دالة، أو إماءة موحية.. إذ لا يعنى الإسلام من هذا إلا الأثر المترتب عليه، ولا يعنيه شىء ممّا يظهر فيه من صور وأشكال. وإن كانت كلمة السلام هى تحية الإسلام، وشارة المسلمين.
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً» إشارة إلى أن هذه التحية حق من الحقوق الواجب بذلها، كما أنها حق من الحقوق الواجب أداؤها إلى أصحابها.. وأداؤها يكون بقبولها، وردّها بأحسن منها! وأن الله سبحانه حسيب على كل شىء.. يضبطه، ويجازى عليه! ومع أن التحية مجرد كلمات قليلة متبادلة بين الناس والناس، لا يتكلف لها(3/853)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
الناس جهدا، ولا ينفقون فى سبيلها مالا إلّا أن كثيرا من الناس يضنّون بها، ويمسكون ألسنتهم عنها، ولا يعدّونها معاملة كريمة يتعاملون مع الناس بها، أخذا أو إعطاء!! وذلك لا يكون إلا عن نفس مريضة، وطبع لئيم.. إذ أنه ليس فى باب الإحسان مثل التحيّة، فى خفّة محملها، وقلة مئونتها، مع كثرة محصولها، وطيب ثمرها.. وليس فى الناس أخسر صفقة، وأنكد حظّا ممن لا يحصّل هذا الخير الكثير، الذي يجىء إليه صفوا عفوا..
من غير ثمن!! وقوله تعالى: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» هو تعقيب على تلك الدعوة الكريمة التي دعا الله المسلمين إليها، وهى تبادل الإحسان والمعروف بينهم، ولو بالكلمة الطيبة، وهى التحية..
وفى هذا التعقيب، يتجلّى الله سبحانه وتعالى متفردا بألوهيته، لا يملك أحد مع الله شىء.. وهو بهذا التفرد قائم على عباده، يجمعهم إليه يوم القيامة، ليجزى كل نفس بما كسبت.. ذلك أمر لا شك فيه، قد أخبرنا الله به فى كتبه، وعلى لسان أنبيائه.. «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» ..
الآية: (88) [سورة النساء (4) : آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
التفسير: النفاق أخبث نبتة وأشأمها، تنبت فى كيان المجتمع، وتغتال أيّة رقعة من أرضه..(3/854)
والمنافقون هم أخبث داء وأقتله، إذا تسلّطوا على مجتمع، وأوجدوا لأنفسهم مكانا فيه..
ولقد ابتلى المسلمون- شأنهم شأن كل مجتمع- بالنفاق وبالمنافقين، الذين كانوا عدوا خفيا، يظاهر العدوّ الظاهر، الذي يلقاه المسلمون فى ميدان القتال! وإذا كانت سيوف المسلمين قد عرفت طريقها إلى رقاب المشركين والكافرين، وأخذت بحقّها منهم، فإن أمر المسلمين مع المنافقين كان على خلاف.. حيث يظهر فيهم المنافق بأكثر من وجه، فلا يدرون على أي وجه يتعاملون معه، ولا على أي وجه يأخذونه.. فهو مسلم فى ظاهره.. مشرك، أو كافر، فى باطنه..!
وإذا أتيح للمسلمين أن يروا من المنافق هذا الظاهر الذي يعيش فيه معهم، فمن لهم بأن يروا منه هذا الباطن الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب؟
وهنا موطن الحدس، والتأويل، ومكمن الخطر والحرج!! وفى عهد النبوة كشف الله سبحانه للنبى وللمسلمين عن كثير من المنافقين، وفضح لهم باطنهم، وعرضهم على الملأ عرضا فاضحا، بأعيانهم، وأسمائهم..
فلم يكن أمرهم بعد هذا خافيا على أحد.. ولكن مع هذا ظل بعض المسلمين مترددا فى كثير منهم، لما يبدو على ظاهرهم من سراب خادع، من الصلاح الزائف، والتقوى، الكاذبة..
فجاء قوله تعالى: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» ؟ قاضيا على هذا التردد، قاطعا كل شك.. فلا ينبغى بعد هذا أن يكون المؤمنون على رأيين فى المنافقين، وإنما هو رأى واحد لا خلاف عليه.. وهو أن هؤلاء المنافقين، منافقون،(3/855)
قولا واحدا، وأن على المسلمين جميعا أن يعاملوهم معاملة المشركين والكافرين، وأن يحذروهم حذر المنافقين والمشركين..
وقوله تعالى: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» هو استفهام إنكارى، أن يكون المسلمون فريقين فى أمر المنافقين، فريقا يحذرهم ويتخذهم عدوا، وفريقا آخر يقف منهم موقف التردد والترقب، تمحيصا لما فى قلوبهم، واختبارا لما فى صدورهم.. وذلك ما ينكره الله سبحانه على هذا الفريق، الذي وقف من هؤلاء المنافقين هذا الموقف المتردد..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا» هو توكيد قاطع لما حكم الله به هو على هؤلاء المنافقين، وأنهم أهل ضلال وفساد، لا يرجى لهم صلاح أبدا.. فقد أقامهم الله على هذا النفاق، ودمغهم به، بسبب ما كان منهم من مكر بآيات الله، والتواء على صراطه المستقيم، وتلاعب بشرعه القويم! وقوله تعالى: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ»
استفهام إنكارى أيضا، على تلك الفئة من المسلمين التي لا تزال تحت تأثير هذا الخداع الذي يلوح لهم من قبل المنافقين، ويتوقعون من جهتهم الخير والصلاح.. وكلا، فقد أضلّهم الله.. فهل فى الناس من هو قادر على أن يهدى من أضله الله؟ «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» .. فإنه لا سبيل له غير هذا السبيل الذي سلكه، سبيل النفاق، الذي سيمضى فيه إلى غايته، التي تنتهى به إلى جهنم وبئس المهاد.(3/856)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الآيتان: (89- 90) [سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 91]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
التفسير: يعيش المنافق فى صحبة شعور مزعج، وهو أنه يحمل جريمة، يحاول إخفاءها عن الناس، ولكن عيون الناس تتبعه حيث كان، تبحث عن هذا الشيء الذي يخفيه، ويبالغ هو فى ألا يراه أحد.. هكذا هو أبدا مع هذا الشعور المتسلط عليه..
وقد يكون الناس فى غفلة عنه، وفى غير التفات إليه، ولا مراقبة له، ومع هذا فإن الجريمة التي يحملها معه، لا تدع له سبيلا إلى الاطمئنان والهدوء، بل تراه دائما على حذر، يرصد الناس، ويسترق النظر إليهم، بل يكاد يسألهم:
عمّ يبحثون؟ وماذا يريدون؟ وما هى الجريمة؟ ومن المجرم؟ .. وفيه يصدق المثل الذي يقول: «يكاد المريب يقول: خذونى» !(3/857)
إن المنافق أشبه بمجرم فى قفص الاتهام.. والمجتمع الذي يعيش فيه هو الذي يحاكمه، ويحاصره، ويأخذ عليه كل سبيل للإفلات من تلك النظرات المتهمة له، الفاضحة لجرمه.
ومن هنا يقوم فى كيان المنافق شعور آخر، يواجه به شعور الخوف والقلق الذي يستولى عليه، من إحساسه بمراقبة الناس له، واطلاعهم على خبيئة أمره، وفضحهم لخفىّ نفاقه- هذا الشعور الآخر، هو الرغبة فى أن يرى الناس جميعا من حوله، صورة منه.. فلا يلقون أنظارهم إليه، ولا يلتفت هو إليهم، ولا يحاول أن يستر فعلته عنهم، إذ كانوا جميعا على شاكلته..
فإن المجرم بين المجرمين، لا يستحى أن يكشف عن جرائمه، بل وربما بالغ فيها، ليرى أصحابه منه أنه عريق فى الإجرام، يستأهل مكان الصدارة فى المجرمين! ومن هنا كان المنافقون يسعون دائما إلى إفساد المؤمنين وإغوائهم، وتزيين النفاق لهم، وتحبيب الكفر إليهم، ليكونوا معهم فى هذا البلاء، وليقتسموا المحنة التي يعيشون بين المجتمع فيها! وفى قوله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» - ما يكشف عن هذا الشعور الذي يحرك المنافقين إلى إفساد المؤمنين، ليؤنسوا وحشتهم، وليفكوا قيدهم الذي يمسك بهم فى محيط محدود لا يتجاوزونه! حتى إذا امتلأت الأرض نفاقا، كان لهم أن يسرحوا ويمرحوا كيف يشاءون، وأن يظهروا ما ستره النفاق منهم، من كفر وإلحاد.. ولهذا جاء التعبير القرآنى:
«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا» بديلا مما يقضى به الظاهر وهو: «ودوا لو تنافقون كما نافقوا» ، لأن النفاق يستر وراءه الكفر.. فجاء التعبير القرآنى فاضحا هذا الكفر المستتر وراء النفاق..
وقوله تعالى: «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» هو(3/858)
تحذير من الله للمؤمنين أن يوالوا هؤلاء المنافقين، وأن يأمنوا جانبهم، ماداموا فى موقفهم الذي اتخذوه من المؤمنين.. فإن تحوّلوا عن هذا الموقف، وانحازوا إلى جماعة المؤمنين، وخالطوهم، وأخذوا مأخذهم فى الحياة، واستقاموا على طريقهم، وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله- إن هم فعلوا ذلك كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم، وكان على المؤمنين ضمّهم إليهم، وجمعهم معهم.. فإن أبوا إلا أن يظلوا فى هذا الموقع المنحرف بين المؤمنين والكافرين، وجب على المؤمنين أن يعاملوهم معاملة العدوّ الراصد.. إذا وقعوا لأيديهم فى معركة كان جزاؤهم القتل، وإن لم تصل إليهم يد المؤمنين بالقتل، كان على المؤمنين أن يتجنبوهم، وأن يحذروهم، فلا يقبلوا منهم قولا، ولو جاء فى صورة النصح، ولا يستنصروا بهم فى حرب، ولو أحاط بهم العدوّ..
وقوله تعالى «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» هو استثناء من تلك المقاطعة التي أوجبها الإسلام على المسلمين فى مواجهة المنافقين..
فإنه إذا انحاز هؤلاء المنافقون إلى جماعة- غير مؤمنة- بينها وبين المؤمنين ميثاق، بالموادعة والمسالمة- لم يكن للمؤمنين أن يمدّوا أيديهم بأذى إلى هؤلاء المنافقين، لأنهم صاروا فى ذمة تلك الجماعة التي وادعها المسلمون وسالموها! وفى العدوان عليهم عدوان على تلك الجماعة، ونقض للميثاق الذي عقده المسلمون معهم، ووجب عليهم الوفاء به! وقوله تعالى: «أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» هو عطف على المستثنى السابق.. يبيّن حكم جماعة أخرى من المنافقين جاءوا إلى المسلمين يطلبون الموادعة والمسالمة، وهم مقيمون حيث هم فى قومهم الذين لم يدخلوا فى الإسلام.. فهؤلاء المنافقون، قد كفّوا أيديهم عن المسلمين طلبوا الأمان منهم، وانحازوا جانبا.. لا يقاتلون المسلمين مع قومهم،(3/859)
ولا يقاتلون قومهم مع المسلمين.. فهم- والأمر كذلك- فتنة نائمة، وشر ساكن.. ومن مصلحة المسلمين- وهم فى وجه عداوة وحرب- ألّا يحركوا هذا الشرّ، وألا يوقظوا تلك الفتنة..
وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ» يبيّن الحكمة من موادعة هؤلاء المنافقين ومسالمتهم.. إذ كان من المتوقع أن يكونوا حربا على المسلمين مع قومهم، وأما وقد كفّوا أيديهم واعتزلوا الحرب، فلم يكونوا هنا أو هناك، فإن موادعتهم كسب للمسلمين، وإضعاف لقوة عدوّهم، وفتح ثغرة فى صفوفهم.. ربما كانت مدخلا يدخل منه كثيرون، ممن يعتزلون حرب المسلمين ويكفون أيديهم عنهم..
وقوله تعالى: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» هو تنبيه للمسلمين إلى أخذ الحذر والحيطة من هؤلاء المنافين، الذين قد يغلب عليهم طبعهم، فلا يمسكون بالعهد الذي عاهدوا المسلمين عليه، والذين ربما لو رأوا كفة قومهم هى الراجحة مالوا إليهم، وقاتلوا معهم، غير ملتفتين إلى عهد أو ميثاق.. ومن هنا كان على المسلمين أن يقيموا عهدهم معهم على هذا المفهوم، وأنه عهد غير مطلق، وإنما يوثقه أو ينقضه ما يكشف عنه واقع الحال من هؤلاء المنافقين، فإن استقاموا استقام لهم المسلمون، وإن نكثوا فلا عهد لهم عند المسلمين ولا ذمّة..
وقوله تعالى: «سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها» بيان لما تكشف عنه التجربة من أمر هؤلاء المنافقين، وأن جماعة منهم، ركبها النفاق، وغلب عليها حكمه، فلم تكن موادعتها للمسلمين إلا ضربا من ضروب النفاق، تريد به أن تضمن السلامة والعافية، وأنه إذا انتصر المسلمون على قومهم، كانوا هم بمأمن مما يجرى على(3/860)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
قومهم من حكم الإسلام فيهم، من قتل، وسبى، ومغنم.. وإذا انتصر قومهم، كان لهم من صلتهم بهم وقرابتهم لهم، ما يدفع عنهم بأسهم، وضرهم..
فهذه الجماعة من المنافقين إن لم تتحرر من نفاقها، وإن لم تقم أمرها على وجه واحد مع المسلمين، كان على المسلمين أن يأخذوهم بما يأخذون به أعداءهم، لأنهم مخادعون، مضللون، يتخذون من خداعهم وتضليلهم جنّة يدفعون بها ما يتوقع من المسلمين من نصر، وما وراء هذا النصر من بأساء وضراء تحيط بهم!
الآية: (92) [سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
التفسير: الدماء، والأموال، والأعراض، من الحرمات التي قامت رسالة الإسلام على حمايتها من كل عدوان، وحياطتها من كل بغى.. إذ كانت ملاك أمر الإنسان كله، وقوام وجوده، وضمان حياته..
فلا حياة لإنسان مهدر الدم، مستباح المال، مهتوك العرض..
وكيف يحيا من حياته فى يد غيره؟ وكيف يعيش من ماله ليد السلب(3/861)
والنهب والاغتصاب؟ وكيف يصحّ من تعرّض عرضه للبغى والعدوان؟
وماذا يبقى للإنسان إن أريق دمه، وأزهقت روحه؟
وماذا يبقى من الإنسان إن سلب ماله، أو هتك عرضه؟
لهذا جاءت شريعة السماء، وقامت قوانين الأرض، لتحمى هذه الحرمات، وتصونها، وتأخذ من الإنسان ما تشاء أن تأخذ، لتحتفظ له بتلك المقدسات، وتحمى له هذه الحرمات، التي إن تهدمت تهدم الإنسان، وانهار المجتمع، وتحول إلى عالم الحيوان، تحكمه شريعة الغاب، وتتحكم فيه غريزة الوحوش..
ودم الإنسان- أي إنسان- فى الإسلام، كريم عزيز، لا تستباح قطرة منه بغير حق، ولا تزهق روح بغير قصاص..
ودم المؤمن أعز وأكرم عند الله من كل دم عزيز كريم، لأن المؤمن أقرب إلى الله، وأدخل فى حماه، ممن كفر بالله أو أشرك به! وقوله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً» استبعاد لقتل المؤمن، واستنكار للعدوان عليه، من مؤمن مثله، يأخذ مأخذه فى الولاء لله، وفى الإيمان به، والاعتصام بحبله! فإذا عمد المؤمن إلى قتل مؤمن، فإنه- مع عدوانه على الأخوّة الإنسانية- قد اعتدى على ولىّ من أولياء الله، واستباح دم جندى من جنوده! أمّا أن يقتل مؤمن مؤمنا خطأ، فذلك مما تجاوز الله عنه، إذ كان أمرا لم يؤامر المؤمن نفسه عليه، ولم يستدع إرادته له..
ومع هذا، فإن دم مؤمن قد أريق، وروح مؤمن قد أزهقت! ولن يضيع(3/862)
هذا الدم هدرا، ولن تذهب تلك الروح هباء!! «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ.. إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» .
فهذا هو الرأب للصدع الذي حدث، والقصاص للدم الذي أريق بغير قصد! إن لهذا الدم وليّين: الله سبحانه وتعالى، وأهل القتيل..
فالله سبحانه، ولىّ تلك النفس المؤمنة..
وأهل القتيل هم أولياء هذا الدم المراق..
وحقّ الله على القاتل أن يحيى هذه النفس الميتة..!
وإذ كان ذلك أمرا غير مستطاع من القاتل، فإنه يحال إلى أمر مستطاع، وهو أن يحرّر رقبة مؤمنة، وأن يحيى نفسا أماتتها العبودية، وأزهق روحها الاستعباد! وفى هذا حياة نفس مؤمنة بنفس مؤمنة.. وكأنّ القتيل قد عاد فى شخص هذا الإنسان المستعبد، الذي ولد ميلادا جديدا، بعتقه وتحرير رقبته! وأولياء دم القتيل من أهله، لا يرضيهم إلا أن يقتل هذا القاتل، أو يغرم من ماله ما هو أشبه فى الغرم بقتله! وإذ كان القاتل لم تتجه نيته إلى القتل، ولم يحمله على القتل حقد أو ضغينة، فقد كان من الحكة والعدل ألا يقتل بيد النقمة والضغينة.. وليكن فى الدية التي يقدّمها لولىّ الدم عزاء عن مصيبة جاءت قضاء وقدرا..
وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» دعوة كريمة من ربّ كريم، إلى أولياء الدم أن يعفوا ويصفحوا، وأن يتصدقوا بهذا الحق الذي لهم فى مال(3/863)
القاتل على القاتل.. وحسبه ما وقع فى نفسه من ألم وحسرة، لما جنت يده المخطئة عليه، بقتل نفس مؤمنة لم يرد بها شرّا، ولم يضمر لها سوءا.
وقوله تعالى: «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» أي أن جبر دم القتيل المؤمن بيد الخطأ، هو تحرير رقبة مؤمنة، ولا دية لأولياء الدم، لأنهم فى حرب مع المؤمنين، وفى أخذ هذا المال من المسلمين تقوية لأعدائهم وإضعاف للمؤمنين.. وحسب المؤمنين أن فقدوا عضوا منهم بهذا القتيل المؤمن، فلا يجمع عليهم بين قتله، وتوجيه ديته إلى الجبهة المحاربة للمؤمنين..
وقوله تعالى: «وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» ذلك أن الوفاء بالعهد الذي بين المؤمنين، ومن عقدوا العهد معهم، أمر أوجبه الإسلام على المسلمين، ولم يحلّهم منه لأى سبب، حتى ولو كان العهد مع من لم يدخلوا فى دين الله! ولهذا قدم تقديم الدّية هنا على تحرير الرقبة، لأن العهد فى ذمة المسلمين جميعا، لا تبرأ ذمتهم إلا بالوفاء به، إن لم يسعه مال القاتل خرج من بيت مال المسلمين.. أما تحرير الرقبة، فهو فى ذمة القاتل وحده، له فيه فسحة من الوقت ونظرة إلى ميسرة! وقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» أي فإن كان القاتل معسرا، لا يستطيع أن يحرر رقبة، أو يقدم دية، فليصم شهرين متتابعين، حتى يغسل من نفسه مشاعر الحسرة والألم لهذا الدم المسفوك! وقوله تعالى: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» أي أن صيام هذين الشهرين لأجل التوبة المتنزلة على القاتل من الله، والرحمة به، من أن يقتل نفسه أسفا وندما.. إذ علم الله أنه لم يعمد إلى القتل، فاقتضت حكمته تعالى، أن يرحم هذا القاتل، ويجعل له من همه فرجا، ومن ضيقه مخرجا..(3/864)
وهنا نسأل:
ماذا عن قوله تعالى: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (5: الأحزاب) .
- هذا القول الذي يرفع اللوم والمؤاخذة عن الأفعال التي تقع من الإنسان عن غير قصد وعمد؟
ثم ماذا عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .. وقد جاء مقررا هذا المعنى الذي تضمنته الآية الكريمة، ومؤكدا له؟
ما تأويل هذا؟ مع ما أوجبه الله سبحانه وتعالى على القاتل خطأ، من تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهل القتيل.. فإن لم يجد ما يحرر به رقبة، ويقدّم به دية، فصيام شهرين متتابعين؟ أليس فى هذا مؤاخذة وقصاصا؟ فكيف التوفيق بين هذين الحكمين، اللذين يدفع أحدهما المؤاخذة عن فعل الخطأ، بينما يوجّه الآخر المؤاخذة إليه؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن هناك روحا أزهقت، ونفسا قتلت، وأن من شأن هذا الحدث أن يثير هياجا فى المشاعر، واضطرابا فى العواطف، وألما فى النفوس.. يبدأ ذلك من خاصة أهل القتيل، من آباء، وأبناء، وإخوة، وأعمام، وأبناء أعمام.. ثم يمتد إلى أصهار القتيل، وإلى ذوى قرابته من بعيد، وإلى أصدقائه، وأحبّائه ثم إلى المجتمع الذي يعيش فيه، ويتبادل المنافع مع أفراده! إن حادث القتل من أشبع الحوادث التي تقع فى محيط الحياة الإنسانية..
والقتل الخطأ، وإن كان يخفف من وقع المصيبة على أهلها، إلا أن ما يبقى منه مع ذلك، هو همّ ثقيل، وبلاء عظيم..
(م 55- التفسير القرآنى- ج 5)(3/865)
وهل يعيد القتل الخطأ لأهل القتيل صاحبهم إلى الحياة؟ وهل يرى أهله فى قتيلهم هذا، غير ما يرونه فيه لو أنه قتل عن عمد وقصد؟ كلا.. فهو فى كلا الحالين جثة هامدة بين أيديهم.. كان إلى لحظات قليلة مضت ملء أسماعهم وأبصارهم.. وهو الآن فى عالم الأموات، وهو عما قليل صائر إلى حيث يوضع فى حفرة، تم يهال عليه التراب..
والنظرة المختلفة هنا، هى التي ينظر بها أهل القتيل إلى القاتل، لا إلى القتيل، الذي لا يختلف نظرهم فيه على أي حال.. فالقاتل خطأ ليس فى وجه عداوة ونقمة من أهل القتيل، كالقاتل عن عمد وقصد.. ولكنه مع ذلك بغيض إلى نفوسهم، ينظرون إليه بعيون ملؤها الضيق والألم، إن لم يكن ملؤها الشنآن والنّقمة..
بهذه النظرة الفاحصة الحكيمة الشاملة، نظر القرآن إلى هذا الحدث المروّع، نظرة جمعت كل أطرافه، وأمسكت بجميع موارده ومصادره، ونفذت إلى ما يعتمل فى المشاعر، وما يضطرب فى الصدور منه، ثم جاءت إلى كل أولئك بما يصلح أمرهم، ويقيمهم على نهج قاصد، وطريق سواء! فأهل القتيل، لا بد لهم من مواساة وعزاء فى هذا المصاب.. وعزاؤهم ومواساتهم هو فى أن يترضّاهم القاتل، ويعتذر إليهم بهذه الدّية التي يقدمها لهم، ويريهم منها أنه ملوم يستحق المؤاخذة- وإن كانت حقيقة الأمر ألّا لوم عليه ولا مؤاخذة- إذ كان منطق النفوس المهتاجة فى تلك الحال غير منطقها المعتاد، فى الظروف الطبيعية..
فهذه الدّية- فى حقيقتها- رمز لسلامة نية القاتل.. ولهذا التفت القرآن الكريم إلى أولياء القتيل، فدعاهم فى رفق إلى التصدّق بهذه الدية على القاتل نفسه.. رحمة به، وتجاوزا عن فعلة جاءت على غير إرادته.(3/866)
هذا هو الطرف الأول والمهمّ فى هذه الواقعة.. وقد أرضاه حكم الإسلام، وطيّب خاطره، وقدم له جميل العزاء، وكرم المواساة.. وهم أولياء القتيل.
أما الطرف الثاني، وهو القاتل.. فإنه- وقد قتل نفسا مؤمنة، بغير حق- يكاد يختنق ضيقا، ويحترق حسرة وألما.. يؤرّقه هذا الدّم لذى أراقه، وتفزّعه هذه الروح التي أزهقها، والتي تصيح به: لم فعلت بي هذا؟ وأي جناية جنيتها عليك حتى تفعل بي ما فعلت؟ .. وهكذا يعيش القاتل مع ضمير مؤرّق، ونفس معذبة، ووساوس مزعجة، لا تدع له سبيلا إلى السكن والقرار! وهنا يجىء التشريع الإسلامى إلى هذا القاتل، بما فيه العزاء لمصابه، والمواساة فى مصيبته! لقد قتل نفسا مؤمنة خطأ، فليحى نفسا مؤمنة- عمدا!! وبهذا تنقشع من نفسه تلك الغيوم السود المتراكمة، من مشاعر الحرج والإثم..!
ومن جهة أخرى، فإن هذا القاتل يرى أهل القتيل وقد جنى عليهم بما جنى، وأن فى قلوبهم بغضا له، وفى عيونهم ازورارا عنه- وهذا بلاء إلى البلاء الذي يجده بمعزل عن أهل القتيل، وذلك فى مواجهة النفس التي قتلها، وفى جنايته عليها..
وإنه لكى يذهب ببعض ما فى نفوس أهل القتيل عليه من موجدة وبغضه- كانت الدية التي أوجبتها الشريعة عليه، والتي عرفنا شأنها وأثرها عند أولياء الدم! ومن هذا يتضح:
أن ما فرض على القاتل من تحرير رقبة، وتقديم دية، كان لحسابه هو، ولعلاج ما أصابه من فعلته، فى حياته الروحية والماديّة معا.. وأنه بهذا الذي(3/867)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
قدّمه، قد تقاضى به الثمن عاجلا.. فوجد السكينة والأمن مع نفسه المضطربة، كما وجد السلام، والوئام مع المجتمع، ومع أولياء الدم بوجه خاص..
فواقع الأمر- كما ترى- هو أن القتل الخطأ فى ذاته معفوّ عنه، وأن القاتل لم يؤخذ بجرمه، وأن ما وقع عليه من غرم كان أشبه بعملية غسل لهذا الدم البريء الذي أراقه، والذي أصابه من رشاشه ما لطّخ يده وثيابه!! وكان من تمام العلاج لهذا الأمر، أن القاتل إذا لم يجد ما يحرر به رقبة مؤمنة، وما يدفع به الدّية إلى أهل القتيل- كان عليه صيام شهرين متتابعين..
وحكمة الشهرين، وحكمة اتصال الصوم فيهما.. أن تلك المدة- مدة الشهرين- التي يفرض فيها القاتل على نفسه هذا الحرمان، هى بمثابة عقاب له، يأخذ به نفسه.. وفى هذا العقاب ما يخفّف من ألوان تلك الصورة القاتمة التي تحوم فوقه، من خيالات القتيل، وأشباحه.. ثم إن فى اتصال هذا الموقف، دون أن يدخل عليه شىء من التغيير، إحكاما للتمكين لشعور جديد يقوم مكان هذا الشعور المستولى على القاتل، والمزعج له..
ولو ترك القاتل وشأنه بعد أن أدّى هذا المفروض عليه لاستراحت نفسه، وهدأ باله، وسكن وسواسه.. ومع هذا فقد أراد الله أن يعود بفضله عليه، وأن يذهب بكل ما بقي فى نفسه من أثر لهذه التجربة القاسية التي مرّ بها.. فجاء قوله تعالى: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ» ليعفّى على كل أثر لهذه المأساة، ويعيد إلى هذا الإنسان وجوده، على ما كان عليه من صحة وسلامة..
الآية: (93) [سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)(3/868)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
التفسير: هذا هو حكم قاتل المؤمن عمدا..
لا يقبل منه تحرير رقبة مؤمنة، ولا دية مسلّمة إلى أهل القتيل، ولا صيام شهرين متتابعين..
إنه فعلته تلك أكبر من أن يكون فى هذه الدنيا ما يقوم لها، ويسوّى حسابها.
وليس غير العذاب، والخلود فى هذا العذاب، مصحوبا بغضب الله ولعنته- ليس غير هذا جزاء وفاقا لهذا الجرم العظيم..
وعلى قدر ما كانت رحمة الله وعفوه عن القاتل خطأ، بقدر ما كانت نقمة الله، وغضبه، ولعنته، على القاتل عمدا! ولهذا كان إهلاك هذه النفس المجرمة، والقصاص منها فى الدنيا، هو الحكم الذي يؤخذ به قاتل النفس المؤمنة عمدا، وإنه لا وجه لاستبقائه فى هذه الحياة، ولا داعية لاستصلاحه، فقد وقع عليه غضب الله ولعنته، منذ أول قطرة دم سفكها من دم هذا المؤمن البريء.. «وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (52: النساء)
الآية: (94) [سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
التفسير: الضرب فى سبيل الله، هو السعى إلى الجهاد، بقوة وعزم، والضرب فى الأرض، السعى فى وجوهها المختلفة ابتغاء الرزق(3/869)
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» هو دعوة للمؤمنين، الذين خرجوا من ديارهم يبتغون المثوبة والرضوان من الله- دعوة لهم أن يتبيّنوا طريقهم، وأن يتثبّتوا من كل ما يأتون وما يذرون، حتى يتجنبوا الزلل والعثار، وهم فى طريقهم إلى الله.. فإن لم يفعلوا، فقد تنحرف أقدامهم عن جادّة الطريق، ويعودون بالإثم من حيث يرجون الثواب.
وأكثر ما ينبغى الالتفات إليه هنا هو الدماء، حتى لا تسفك قطرة منها بغير حق.. وقد بينت الآيات السابقة ما للدماء من حرمة عند الله، وما لمستبيحها من جزاء أليم فى الدنيا والآخرة..
وهنا- فى هذه الآية- دعوة للمؤمنين، المجاهدين فى سبيل، أن يتحرّوا مواقع سيوفهم، فلا تقع إلا حيث ينبغى لها أن تقع، ولا تريق دما إلا ما استحق أن يراق.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» .
ففى مواطن الحرب- والنفوس مهتاجة، والأعصاب متوترة- تقع هنا وهناك رميات طائشة، تأخذ البريء بذنب المسيء.. كما قد يستتر بعض الناس بثوب الخديعة، حين يرى الموت دانيا منه، فى ضربة سيف أو طعنة رمح، فيدفع ذلك بإظهار الإيمان، وبكلمة لا إله إلا الله، يقولها بفمه..
أو يلقى بتحيّة الإسلام إلى المسلمين، ليريهم أنه منهم..
فهذه وأمثالها صور تقع فى مواطن الحرب، وهى فى ظاهرها تقيم لصاحبها حرمة يعصم بها دمه من سيوف المسلمين، أما الباطن فلا يعلمه إلا علّام الغيوب..(3/870)
ومن أجل هذا، كان على المسلمين ألا يتسرعوا فى الحكم على باطن هؤلاء الذين يظهرون الإسلام، ويحملون بعض شاراته.. فقد يكون باطنهم كظاهرهم، وقتلهم فى تلك الحال جرم عظيم، لأنه قتل نفس مؤمنة.. أما إن كان باطنهم على خلاف ظاهرهم- وهذا ما لا يعلمه إلا الله- فإن على المسلمين أن يقبلوا هذا الظاهر، وأن يعاملوا أصحابه عليه، وأن يكلوا باطنهم إلى الله..
ومن يدرى؟
فقد ينصلح أمر كثير من هؤلاء الذين وجدوا فى الإسلام- على نفاقهم معه- يدا رحيمة.. دفعت عنهم الموت الذي كاد يختطفهم! إذ لا يمكن أن ينجلى هذا الموقف دون أن يراجع كثير منهم نفسه، ويصحح موقفه من الإسلام.. وفى هذا استنقاذ لهم من الهلاك، وانتفاع بقوة جديدة، تضاف إلى الإسلام، وتعمل من أجله..
وفى قوله تعالى:
«تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» تبغيض للمسلمين من التسرّع فى الحكم على من جاءهم فى زىّ المسلمين وعلى سمتهم- بأنه ليس مسلما، وبهذا يستباح دمه وماله.. وكأنه لأجل المال- وهو عرض زائل- قد كان هذا الحكم الذي حكم به على هذا الإنسان، وكأن دمه الذي أريق كان من أجل الحصول على ما معه من سلاح أو مال! وقوله تعالى:
«كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» هو تذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم، إذ أخرجهم من منطقة الظلّ التي كانت تلقى على إسلامهم شيئا من الشّبه، حتى ليختلط أمرهم على المسلمين، فلا يتحقق أحد من إيمانهم، وذلك حين كانوا مستضعفين فى مكة، لم يستطيعوا أن يجهروا بإسلامهم، ولم يقدروا(3/871)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
أن يهاجرون بدينهم- وها هم أولاء الآن قد صاروا إلى جماعة المسلمين، وظهر وجههم واضحا فى الإسلام. فليذكروا هذا الذي هم فيه الآن، وما كانوا فيه من قبل، وليجعلوا فى حسابهم لهؤلاء الذين يلقونهم فى مواطن الكفر بشارات الإسلام، وبلسان المسلمين- أنهم كانوا فى حال مثل حالهم..
وفى هذا ما يغيّر نظرتهم إليهم، ويوسع لهم فى باب التسامح والقبول..
وقوله تعالى:
«فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» دعوة أخرى، مؤكّدة للتثبث من أمر هؤلاء الذين لم يتضح أمرهم من الإسلام وضوحا كاملا، وأن على المؤمنين أن يحذروا أن يصيبوا قوما بجهالة، فتكون عاقبتهم الحسرة والندامة.. والله سبحانه وتعالى مطلع على الدواقع الخفية التي تدفع إلى التسرع فى هذا المقام، وأهمها هو الرغبة فى مال القتيل وسلبه.. فإذا عزل المسلم هذا الشعور عن نفسه عزلا تامّا، كان فى ذلك وقاية له من أن يأخذ هذا الإنسان، ويستبيح دمه، إلا إذا قامت بين يديه الدلائل القوية على أنه ليس من الإسلام فى شىء أبدا.
الآيتان: (95- 96) [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
التفسير: وإذ ذكر القتل والقتال، فقد استدعى ذلك ذكر الجهاد فى سبيل(3/872)
الله، إذ كان أكثر ما يكون القتل وإراقة الدماء فى هذا الوطن، حيث يصطدم الحق بالباطل، ويلتقى المسلمون والكافرون بسيوفهم! والجهاد أكرم الطرق إلى الله، وأوسعها إلى مرضاته ورحماته..
ومنازل المسلمين تختلف باختلاف حظوظهم من البذل والتضحية فى هذا الموطن.. موطن الجهاد فى سبيل الله..
فهناك مجاهدون بأموالهم وأنفسهم.
وهناك قاعدون لم يجاهدوا بأموالهم أو أنفسهم.
وهناك- بين هؤلاء وأولئك- مؤمنون لهم أعذار تحول بينهم وبين الجهاد بالمال أو بالنفس.. بأن كانوا فقراء، أو كانوا ذوى عاهات، تحجزهم عن حمل السيف، ولقاء العدو..
وفى قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» بيان لما بين المجاهدين فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين الذين لم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم من ذوى الأعذار- من تفاوت فى الفضل والمنزلة عند الله..
فهؤلاء الذين أعطاهم الله المال، وعافاهم فى أنفسهم، فلم يفقدوا جارحة من جوارحهم العاملة، ولم يصابوا بمرض مقعد- هؤلاء إذا أدوا حقّ الله فى هذه النعم التي أنعم بها عليهم فى المال وفى النفس، فبذلوا المال فى سبيل الله، وقدموا أنفسهم للاستشهاد فى سبيل الله- فقد استحقوا جزاء المحسنين، واستوفوه كاملا! أما هؤلاء الذين لم يكن لهم مال ينفقونه فى سبيل الله، أو قدرة بدنية على الجهاد بأنفسهم فى سبيل الله، فهم- وإن كانوا ولا لوم عليهم،(3/873)
ولا مؤاخذة- لم يكسبوا ما كسبه المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وبهذا سبقهم هؤلاء المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، فى ميدان الفضل والإحسان، وكانوا أعلى درجة عند الله منهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» .
فهؤلاء، وأولئك، قد وعدهم الله الحسنى، وإن كان المجاهدون بأموالهم وأنفسهم أعلى درجة منهم فى مقام الإحسان، الذي هو حظ مقسوم بين المسلمين الذين آمنوا بالله، وأدوا لله ما أمرهم به، جهد طاقتهم، وما وسعت أنفسهم.
أما الذين آمنوا، ولم يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبين أيديهم المال، ومعهم الصحة والعافية، ولكنهم آثروا السلامة والدّعة، وبخلوا بما آتاهم الله من فضله- هؤلاء قد بخسوا دينهم حقّه، ونزلوا عن درجات المؤمنين، على حين ارتفع المجاهدون بأموالهم وأنفسهم درجات.. وبهذا كان البون بين الفريقين شاسعا، والمدى بعيدا.. وهذا ما تضمنه قوله سبحانه.
«وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. فهذا الأجر العظيم الذي فضّل الله به المجاهدين على القاعدين، هو درجات كثيرة فى مقام الإحسان، ومغفرة من الله ورحمة، تشتمل هؤلاء المجاهدين، وتبدل سيئاتهم حسنات:
«أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» .
ولنا مع هذه الآية الكريمة وقفة لا بد منها:(3/874)
فقد أجمع المفسّرون، والفقهاء، وأصحاب الحديث، على أن متنزّل هذه الآية الكريمة، لم يكن على هذه الصورة، أوّل ما نزلت..!
يقولون: إن الآية نزلت أولا هكذا:
«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .
والذي يتلو الآية الكريمة على هذا الوجه، يجد أنّ بين أولها وآخرها تناقضا لا يمكن رفعه بأى تأويل..
ففى أولها: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ درجة..»
وفى آخرها: «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً.. دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً..» .
فكيف يستقيم هذا مع ذاك؟ وكيف يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجة، ثم يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجات ومغفرة ورحمة..؟
كيف يقع حكمان مختلفان على أمر واحد، فى حال واحدة؟
فإذا تليت الآية الكريمة على ما هى عليه.. هكذا: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً» - إذا تليت الآية على ما هى عليه، كان لها هذا المفهوم الواضح الذي فهمناها عليه،(3/875)
وكان الحكمان المختلفان واقعين على فريقين من المتخلّفين عن الجهاد: الفريق الأول الذي تخلّف بعذر، ولم ينفق لعذر، والفريق الآخر الذي تخلّف عن الجهاد لا لعذر، ولم ينفق فى سبيل الله لا لضيق ذات يد.. بل إيثارا للسلامة، وبخلا بالمال، وضنّا به فى هذا الوجه الكريم..
فقوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ركن متين من أركان هذا البناء العظيم الذي للآية الكريمة، وأن هذا البناء لا يقوم أبدا بغير هذا الركن..
وتسأل: لم جاءت الآية الكريمة أولا دون ذكر لقوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ملحقا بالآية، آخذا مكانه بين نظمها الذي قامت عليه أول أمرها؟ لم هذا؟ بل كيف هذا؟
والجواب الذي يقدمه المفسرون، والفقهاء والمحدّثون.. هو:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين تلقى الآية الكريمة، دعا من كتّاب الوحى من يكتبها، وكان عبد الله بن أم مكتوم- وهو أعمى- ممن حضر مجلس رسول الله، هذا، فسأل رسول الله عن موقفه هو وأمثاله ممن لا سبيل لهم إلى الجهاد فى سبيل الله! قالوا: فما إن سأل عبد الله بن أم مكتوم هذا السؤال، حتى أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يأخذه من الوحى، فلما سرّى عنه، قال لكاتب وحيه: اكتب: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» .: فكتبها كاتب الوحى، فى موضعها من الآية، كما تلقّاها الرسول الكريم وحيا من ربّه!! إنها قصة.. تنقصها الحبكة..!!
ولو استقام للآية وجه على هذا النظم الذي خلا من قوله تعالى: «غَيْرُ(3/876)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
أُولِي الضَّرَرِ»
كان من المستساغ- مع شىء غير قليل من الضيق والحرج- قبول هذه الرواية، أو الروايات..
أما ولا يستقيم للآية الكريمة مفهوم بغير قوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» فإنه لا حرج من رفض هذه الرواية أو الروايات رفضا باتا، دون التفات إلى تلك الروايات فى جملتها وتفصيلها.. إذ كانت قداسة القرآن الكريم فوق كل اعتبار، وفوق كل مقام!! ولعلّ اهتمام القوم بالبحث عن أسباب النزول، والتعرّف عليها، واعتبارها علما من علوم القرآن- لعل ذلك هو الذي فتح الطريق إلى مثل هذا القول فى الآية الكريمة.. والله أعلم.
آية: (97- 99) [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
التفسير: فى هذه الآيات دعوة مشدّدة إلى محاربة الظلم والبغي والعدوان، بأسلوب غير أسلوب القوة، ولقاء العدوان بالعدوان، والشر بالشر، حين يكون الإنسان فى وجه قوة عاتية متسلطة، ولا قدرة له على دفعها..(3/877)
إن كرامة الإنسان تفرض عليه أن يدفع عن وجوده الضيم والذل، بكل ما يملك من وسائل مادية وغير مادية، وإلا فقد باع إنسانيّته بثمن بخس، ودرج نفسه فى قائمة الخسيس من الحيوان.
ولن يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلّان: غير الحىّ والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشج فلا يرثى له أحد
وحين لا يجد الإنسان بين يديه القوة التي يدفع بها يد الظلم المسلّطة عليه، كان إمساك نفسه على هذا المرعى الخبيث وعدم التحول عنه، إقرارا بقبول الظلم، ونزولا على حكم الظالمين.
لهذا أوجب الإسلام على المسلم أن يحرك فى نفسه كل قواه، لإنكار هذا الظلم، والتصدّى له: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» .. فحيث أمكنت المسلم القوة التي يدفع بها يد الظلم والبغي، وجب عليه أن يستعمل حقه، فى الدفاع عن نفسه، وصيانة كرامته وإنسانيته..
وسلاح آخر، وضعه الإسلام فى يد المسلم حين تخلو يده من سلاح القوة، وهو الهجرة من ديار الظالمين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يجد الإنسان وجوده وإنسانيته.. وبهذا يستنقذ نفسه، ويفوّت على الظالمين إشباع شهوة الظلم والتسلط، فيه، وفى غيره من المستضعفين، حيث فتح لهم الطريق إلى الخلاص مما هم فيه من بلاء، بالهجرة والفرار من وجه الظالمين! وفى هذا الحديث الذي يدور بين الملائكة، وبين أولئك المستضعفين الذي أبوا أن يتحولوا عن مواطن الظلم- إيثارا لديارهم وأهليهم على كرامتهم وإنسانيتهم، ومعتقدهم- فى هذا الحديث مساءلة لهؤلاء الذين استضعفوا فقبلوا هذا الاستضعاف ورضوا به، واتهام لهم بتلك الجناية التي جنوها على أنفسهم،(3/878)
وأذلّوا بها آدميّتهم، ومحاكمة تنتهى بهم إلى عذاب السعير فى الآخرة، حيث ضاع إيمانهم فيما ضاع من آدميتهم، تحت سياط الظلم والعسف! وهذا يعنى أن المؤمن لا يصبر أبدا على الظلم، ولا يقبله، وأنه إن قبله، وصبر عليه، لم يكن فى المؤمنين.. لأن المؤمن عزيز بالله، كريم على الله..
وطاعم الظلم ومستسيغه لا عزّة له ولا كرامة! فمن وجد القدرة على الهجرة والفرار من وجه الظلم والبغي، ولم يهاجر فهو آثم عند الله.. لأنه فى معرض الفتنة فى دينه، وهيهات أن يسلم له دين، وهو فى هذا الموطن، الذي تنطلق منه شرارات البغي، فتحرق مادياته ومعنوياته جميعا..
وليست الهجرة هنا مقصورة على زمن معين، أو مكان معين.. بل الهجرة مفتوحة فى كل زمان، وإلى كل مكان، يجد فيه المؤمن متنّفسا لمشاعره، ومنطلقا للسانه، ووجوها لسعيه! وقوله تعالى: «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا» استثناء وارد على الحكم العام الذي حكم به الله تعالى على المستضعفين الذين سكنوا إلى الظالمين، ولم يهاجروا.. فهؤلاء المستضعفون من الرجال والنساء، والولدان، لا حيلة لهم ولا قدرة معهم على الهجرة، فهم معذرون إذا لم يهاجروا، وقد أعفاهم الله من هذا العقاب الذي أخذ به القادرين على الهجرة، وقعدوا عنها.
وقوله تعالى: «فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» تحريض لهؤلاء المستضعفين أن يكونوا على نيّة الهجرة دائما، وأن يعملوا لها، وأن يرصدوا أسباب القدرة عليها، فإن أمكنتهم الهجرة هاجروا.. وإلا فإن الله كان(3/879)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
غفورا رحيما، يغفر لهم ما يكون منهم من ضعف يمسّ عقيدتهم، رحمة بهم من رب رحيم.
الآية: (100) [سورة النساء (4) : آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
التفسير: الجهاد فى سبيل الله نية وعمل، أو عزيمة وسلوك.. فمن صحّت نيته على الجهاد فى سبيل الله، فقد قطع نصف الطريق إلى الله، فإذا تحركت هذه النية فى صورة إعداد للجهاد، ثم استقامة على طريق الجهاد، فقد قطع النصف الآخر، واستوفى أجر المجاهدين كاملا.. سواء بلغ ميدان القتال، أو أدركه الموت قبل أن يبلغه.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً..»
بيان لما فى طريق المجاهدين من أحوال تعرض للمجاهد، وأنه طريق غير قائم على وجه واحد.. ففيه ضيق، وفيه سعة، وفيه بلاء وفيه عافية..
وأن على المجاهد أن يوطّن نفسه على هذا وذاك، وأن يحتمل البأساء والضراء، كما يجنى الغنائم والأسلاب، وينال الأجر والثواب..
والمراغم: كناية عن الشدة والضرّ، لأنه مشتق من الرّغام، وهو التراب.. والتراب يكنى به عن الفقر والحاجة، كما يقال فى الفقير المعدم: «يده والتراب» كما يكنى به عن الذّلة والخضوع، فيقال: «أرغم الله أنف فلان» أي جعله فى الرغام، و «فعل فلان هذا الأمر وأنفه فى ارغام» أي مكرها ذليلا.(3/880)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
وفى قوله تعالى: «وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» إشارة إلى أن هذا الأجر- أجر المجاهد- لا يفوته أبدا، ولا يخطئه أبدا، لأنه أجر مضاف إلى الله، بالوعد الذي وعده سبحانه للمجاهدين، ولن يخلف الله وعده!
الآية: (101) [سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
التفسير: الضرب فى الأرض هو السعى فيها بعزم وقوة، سواء أكان للجهاد فى سبيل الله، أم للسعى فى طلب الرزق.
والمراد بالضرب فى الأرض هنا هو الجهاد فى سبيل الله، حيث قيّد القصر من الصلاة. بالخوف من العدوّ «إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..»
وقد أذن الله للمجاهدين فى سبيل الله من الرخص ما لم يأذن به لغير المجاهدين.. إذ كان الجهاد عب ءا لا يحتمل المجاهد فوقه كثيرا من الأعباء، وإلّا ضعف، وعجز، عن أداء المطلوب منه فى هذا المطن، الذي يقف فيه المجاهد مواجها للموت، فى غير خوف أو مبالاة..
ولهذا جاء قوله تعالى:
«وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» .. جاء قوله تعالى هنا مبيحا للمجاهدين فى سبيل الله أن يقصروا من الصّلاة، إذا رأوا أنهم (م 56- التفسير القرآنى ج 5)(3/881)
فى وجه عدوّ يتربص بهم غفلة، أو يترقب فيهم خللا، ليضرب ضربته، وليبلغ مأربه! والقصر من الصلاة هنا غير القصر فى الصلاة الذي أباحه الله فى السفر عامة، سواء أكان للسعى فى الرزق، أو للجهاد فى سبيل الله..
القصر من الصلاة هنا هو التخفيف منها، حسب الحال التي يكون عليها المجاهدون من عدوهم، بحيث لا تسقط الصلاة أبدا فى أي حال كان فيها المجاهدون مع عدوّهم.. فقد تكون بإشارة أو إيماءة، وقد تكون وقوفا من غير ركوع أو سجود، وقد تكون على ظهر فرس أو نحوه.. والأمر فى هذا كله متروك لتقدير المجاهد، وموقفه من العدوّ!.
وفى النظم القرآنى فى قوله تعالى: «أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» بدلا من أن تقصر والصلاة، ما يشير إلى قصر أجزاء غير محدودة من الصلاة.. تبدأ من أدائها كاملة فى صورتها التي تؤدى عليها فى قصر صلاة السفر، إلى الإيماءة والإشارة.. فإن لفظ «من» هنا يفيد التبعيض، كما يفيد الابتداء.
وقوله تعالى: «إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً» تنبيه للمؤمنين إلى الخطر الذي يواجههم من أعدائهم، وأن عليهم أن يأخذوا حذرهم منهم، فهم العدوّ الذي لا تخفى عداوته..(3/882)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
الآية: (102) [سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
. التفسير: يبين الله سبحانه وتعالى فى هذه الآية حكم الصلاة مع النبىّ فى ميدان القتال.. وإنها لصلاة مراعى فيها الحذر والحيطة من مباغتة العدو، وانتهاز الفرصة فى المسلمين، وهم بين يدى الله فى الصّلاة.. فتلك فرصة للعدوّ، لا يدعها تمر، خاصة إذا ألقى المسلمون أسلحتهم، وفرغوا للصلاة، يؤدونها كاملة، بركوعها وسجودها، وعدد ركعاتها..
وإذا علم المشركون أن المسلمين يؤدون صلاتهم فى الحرب كما يؤدونها فى السلم، فإنهم سيرصدون الوقت الملائم للهجوم عليهم، وهم فى تلك الحال التي أخلو فيها أنفسهم من الحرب، واتجهوا لله بقلوبهم وأجسامهم! لهذا شرع الله للنبىّ أن يصلّى بالمسلمين على هذا الوجه الذي بيّنته الآية الكريمة، وهو أن يقيم النبىّ الصلاة، وأن تجىء طائفة من المؤمنين لتصلى مع النبي، ومعها أسلحتها، وتبقى طائفة أخرى ترصد العدوّ، وتتلقى صدمته الأولى إن هو حاول الهجوم، وعندها تكون الجماعة التي تصلى مع النبىّ قد وضعت يدها على سلاحها وخفّت لنجدة إخوانهم المشتبكين فى الحرب، وبهذا لا يأخذ العدو فرصته! فإذا صلّت الجماعة الأولى الركعة الأولى من الصلاة سلّمت ومضت، لتأخذ مكان الجماعة التي لم تصلّ، ثم لتأت هذه الجماعة وتأخذ مكانها فى الصلاة خلف(3/883)
النبىّ، آخذة حذرها وأسلحتها، وليصلّوا الركعة الثانية، التي بها يختم النبىّ بها صلاة السفر.
وقوله تعالى: «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ» تنويه بشأن المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله، حيث تشير كلمة «فيهم» إلى إحاطة المسلمين بالنبيّ، والتفافهم حوله، حتى كأنهم الظرف الزمانى والمكانىّ له، وحتى كأن مشاعر النبىّ الكريم ونفحاته تملأ هذا الظرف، زمانا ومكانا، بأضوائها، وأنوارها..
وقوله تعالى: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ» هو استثناء من الأمر الوارد فى قوله تعالى: «وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ» .. فهذا الأمر ليس على إطلاقه، وليس على سبيل الوجوب، وإنما هو للنصح والإرشاد، وأن للمجاهدين أن يتحلّلوا منه، وأن يضعوا أسلحتهم، إذا كان بهم أذى من مطر، أو كانوا فى حال ضعف.. فإن وضع الأسلحة فى تلك الحال فرصة لهم لتجديد نشاطهم وقوّتهم.. والأمر فى هذا كله متروك للحال التي عليها المجاهدون، ولتقديرهم للموقف، وأن لهم أن يأخذوا منه ما يرون، وأن يدعوا ما يرون، والمهمّ فى هذا كله أن يكونوا على حذر، وأن يقدّروا الموقف بهذا الاعتبار، وأنهم فى وجه عدوّ لا يتورع أن يبغتهم وهم بين يدى الله، ولهذا جاء قوله تعالى:
«وَخُذُوا حِذْرَكُمْ» مختتما هذا التوجيه، الذي يقوم أولا وآخرا على أخذ الحيطة والحذر من هذا العدوّ الراصد المتربص! وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» تعزية للمسلمين، وتسلية لهم من هذه الأحوال التي يلبسونها من هذا العدوّ، الذي لا يوقّر حرمات الله، ولا يرعى للمسلمين حرمة فيها، بل إنه يتخذها ذريعة للنيل من المجاهدين،(3/884)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
والتنكيل بهم.. فليحتمل المجاهدون هذا الموقف، الذي يجمعون فيه بين أداء الصلاة، والجهاد فى سبيل الله.. فإن الله قد أعدّ لهم الكرامة والرضوان، على حين أعد لعدوّهم العذاب والهوان..
هذا، وللقائد الذي يقوم على أمر المسلمين فى الجهاد ما للنبىّ فى هذا الموقف، حيث يصلى بالمسلمين الصلاة لله، على هذا الوجه الذي شرعه للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه.
الآية: (103) [سورة النساء (4) : آية 103]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
التفسير: فإذا أمن المجاهدون هجمة العدوّ عليهم، وبعدت يده عن أن تنالهم، رجع المجاهدون إلى حالهم الأولى من إقامة الصلاة على وجهها، وعلى إعطاء كل جوارحهم لله، وذكر الله.. فيذكرونه قائمين، وعلى جنوبهم، ذكرا متدبرا متفكرا، فليس هناك شىء يشغلهم عن الله، وعن التفكر والتدبّر فى ملكوت الله، وملء قلوبهم خشية لجلاله، وعظمته.
وقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» هو تنويه بشأن الصلاة، وأنها فرض لازم، لا يتحلل منه المسلم بحال أبدا..
فهى كتاب موقوت، كتبه الله على المؤمنين، أي فرضه، وحدّد لكل صلاة وقتها، الذي هو الظرف الحاوي لكل صلاة..
ومن هنا كان رأى بعض الفقهاء أن الصلاة إذا لم تصلّ فى وقتها، لا يمكن(3/885)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
جبرها بإعادتها فى وقت آخر.. كالحج الذي لا يؤدّى إلا فى وقت معلوم، وكالصوم فى رمضان.. وأنه إذا كان للمفطر فى رمضان بعذر مشروع أن يجبر الأيام التي أفطرها بصوم مثلها، أو بإطعام مسكين، على حسب ما هو مبين فى أحكام الصوم- فانه ليس للمصلّى مثل هذا الذي للصائم، إذ كان للصائم المفطر عذر يقوم له، على حين أنه ليس للمصلّى أي عذر يبيح له أن يدع الصلاة حتى يفوت وقتها، فقد جعل الله الصلاة كتابا موقوتا، وقطع المعاذير فيها على كل ذى عذر..
وعذر واحد هو الذي تسقط فيه الصلاة، وهو ما تكون عليه المرأة فى حال الحيض والنفاس، وهو عذر مسقط للصلاة عنها فى هذه المدة إسقاطا كاملا، فلا تعيد مافاتها من صلاة!!
الآية: (104) [سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
التفسير: وحيث لا يزال المؤمنون هنا فى مواقع الجهاد، فقد جاء قول الله تعالى: «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ» دعوة من الله، تستحثّ عزائم المسلمين، وتوقظ مشاعرهم للجهاد فى سبيل الله، بعد أن طال وقوفهم فى هذا المقام، وما واجهوا فيه من شدائد وأهوال.. وابتغاء القوم: هو طلبهم، ولقاؤهم فى ميدان القتال.. والوهن الضعف، أي ولا تضعفوا ولا تفتروا فى طلب العدو الذي يطلبكم للقتال.(3/886)
ونعم.. إن أعباء الجهاد ثقيلة، ولكنها على نفس المؤمن أخفّ وأهون مما هى على غير المؤمنين..
فالكافرون يجدون من أهوال الحرب، وشدائدها ما يجد المؤمنون، ولكن المؤمنين يستعذبون هذا المورد، الذي يفتح لهم طريق الرحمة، وينزلهم عند الله منازل الرضوان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ» .
فالمؤمنون فى قتالهم العدو يقاتلون وهم على شعور بأنهم إن كتب لهم النصر رجعوا بالسلامة والغنيمة، وإن كتب لهم الاستشهاد ظفروا بما عند الله للشهداء من رضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. إنها إحدى الحسنيين للمجاهدين: النصر أو الاستشهاد.. وليس للعدو إلّا واحدة منهما.. وهى النصر، أو الموت على الكفر! وقد يقال: إن الكافرين يقاتلون ومعهم هذا الشعور بأنهم على الحقّ، وأنهم إنما ينتصرون لمبدأ، وأنهم إذا فاتهم النصر لم يفتهم الموت فى سبيل المبدأ! والجواب على هذا، هو أن الخطاب هنا للمسلمين، وأنهم على يقين من أمرهم وأمر عدوّهم، وأنه يكفى هنا أن يدرك المؤمنون هذه الحقيقة وأن يستحضروها، وأن يقاتلوا عدوّهم عليها، ولا عليهم ما يعتقده عدوهم فيهم أو فى نفسه! وإن أي حال يكون عليها العدوّ لن تبلغ الحال التي يكونون هم عليها، من وثاقة الإيمان بالله، والثقة فيما عنده لهم عن حسن الجزاء، وعظيم الثواب!(3/887)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
الآيتان: (106- 105) [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» هو بلاغ مبين لما بين يدى النبىّ من آيات الله، وما فيها من حق، وأن هذا الحق الذي بين يديه، هو رحمة وهدى للناس، وما كان هذا شأنه فلا يكون سببا فى ضر أو أذى.. شأن الطبيب الذي يحمل إلى الأجسام الدواء، يبغى سلامتها وعافيتها..!
وفى الناس الظالمون، الخائنون، الذين يمدون أيديهم إلى الناس بالبغي والعدوان، ثم إذا جىء بهم إلى ساحة القصاص رموا بما فى أيديهم من ظلم وبغى على غيرهم من الأبرياء، وجاءوا إلى ذلك بالزور والبهتان، وبشهود الزور والبهتان..
وموقف النبىّ الكريم مع هؤلاء المبطلين، هو أن يحكم فيهم بما أراه الله، وبما فى يديه من كتاب الله، وأن يستمع إلى طرفى الخصومة، دون أن يكون خصيما، أي معاديا لأىّ من الطرفين، حتى ولو استبانت خيانة الخائن، وظهر بهتانه.. إنه- مهما كان جرمه- لا يؤخذ بغير الجزاء الراصد لجريمته، عند ما تثبت إدانته.. فلا يقف منه القاضي موقف العداء، الذي قد يميل به إلى الجور على هذا المتهم، وتجاوز الحدّ فى العقاب الذي يستحقه! وانظر كيف تدبير الإسلام فى حمايته للإنسان، ودفع الظلم عنه، حتى وهو الظالم الأثيم.. ذلك أن الظلم لا يدفع بالظلم، وإنما الذي يدفعه هو تحقيق العدل، وأخذ الظالم بظلمه، دون مجاوزة حدود الله فيه..(3/888)
وإذ كان الظالم المفترى على الله وعلى الناس الكذب- فى وجه البغضة والكراهية من الناس، وخاصة عند من يقومون على العدل، ورفع المظالم، الأمر الذي قد يحمل ولىّ الأمر على التنكيل به، والمبادرة إلى إلقاء ثقل التهمة كلها عليه، دون مراعاة للظروف المخففة، التي لو نظر فيها ولىّ الأمر نظرة لا تحمل العداوة والشنآن، فربما كان ذلك مما يمسك به عن الجور ومجاوزة الحد، - نقول: إذ كان الظالم الخائن لأمانة الله ورسوله والمؤمنين، فى وجه هذه العداوة- فقد كان من تدبير الشريعة الإسلامية، وحكمتها، أن تحمى هذا المجرم من الجور، وأن تأخذه بحكم الله فيه.. ولهذا جاء قوله تعالى للنبى الكريم:
«إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» - جاء هذا القول من ربّ العالمين، لرسوله الكريم، دستورا فى القضاء بين الناس، والفصل فى المنازعات التي تحدث بينهم..
وهو أمر يلتزم به ولىّ الأمر، القائم على القضاء بين المتخاصمين- جانب الحيدة المطلقة، وأن يخلى نفسه من كل ما يندسّ إليها من مشاعر البغضة والعداوة للمذنب، الذي ينتظر جزاء ذنبه.. وأنه إذا كان لولى الأمر أن ينكر المنكر وأن يأخذ أهله بالقصاص، فإنه ليس له أن يكون خصما للمجرم، المذنب، وهو قاضيه، والحاكم عليه.. إذ لا يتفق أن يكون الإنسان خصما وحكما فى وقت معا.. والشاعر العربي يقول:
يا أعدل الناس إلا فى معاملتى ... كيف الخصام وأنت الخصم والحكم؟
إن ذلك لا يتفق أبدا! حتى فى مقام النبوة، وبين يدى النبىّ..! «وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» فكيف بغير النبي من عباد الله؟
وقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .. هو دعوة إلى طلب المغفرة من الله، لما يكون قد طاف بالنفس من مشاعر العداوة(3/889)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
والشنآن لأهل السوء الذين أخذوا بذنبهم، وربما كان لذلك أثره فى الشدة عليهم، وسدّ كل منافذ التسامح دونهم، فيما كان يمكن أن يحمل على التسامح! وهذا الأدب السماوي للنبى الكريم تأديب لنا، وتحذير من الجور فى القضاء، وحراسة للنفس من الدوافع التي تدفع بها إلى الانحياز إلى جانب أحد المتخاصمين، وهو المعتدى عليه، والشدة المجاوزة للحدّ على المعتدى.
الآيات: (107- 109) [سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 109]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
التفسير: فى الآيات السابقة كان التوجيه السماوي إلى النبىّ- ومن ورائه المسلمون جميعا- ألّا يكون خصيما وعدوا لمن تظهر خيانتهم، وينكشف جرمهم، فى مجلس الفصل فى الخصومات، وفى هذه الآيات، يجىء التوجيه السماوي متمما لتلك الصورة، ضابطا الوجه المقابل لها.. وهو ألا يقف من الخائنين وأولى التّهم موقف الدفاع، الذي يجادل عنهم ويلتمس المعاذير لهم..!
فإذا كان العدوان من ولىّ الأمر على الظالم الآثم أمرا تنكره الشريعة، فتفرض حماية على الظالم المعتدى، حتى لا يجاوز بعقابه الحدّ المرصود لجريمته- فإن الميل مع الظالم الآثم، والتماس المعاذير لجريمته، ابتغاء التخفيف عنه،(3/890)
لا يقلّ فى نظر الشريعة نكرا عن الأمر الأول، لأن فى هذا عدوانا على حق الله، وتعطيلا لحدوده! وقوله تعالى:
«يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ»
هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يدبرون السوء، ويؤامرون أنفسهم وأصحابهم على المنكر، فى خفاء، وحذر، بعيدا عن أعين الناس، حتى لا ينكشف أمرهم، وينفضح حالهم، ويفسد تدبيرهم..
ولكن أين يذهب هؤلاء الذين أخفوا مكرهم السيّء عن الناس؟ إنهم إن استخفوا من الناس فلن يستخفوا من الله، الذي لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.. فهو- سبحانه- «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» ..
وهو سبحانه: «مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ»
! إنهم فى سكرة يعمهون.. يحسبون أنهم- وقد استخفوا عن الناس- قد غاب أمرهم عن الله، وأنهم وقد أفلتوا من يد الناس- لن تمسك بهم يد الله! وكلّا، فإن عين الله لا تغفل، وإن ما بيّتوه من سوء قد سجله الله عليهم، وسيأخذهم به.. «وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً» .
وقوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا»
هو استدعاء لأولئك الذين يتولّون الظالمين، ويمكنون لهم من إمضاء مكرهم السيّء، وتغطية ما ينكشف عنه، وذلك بالدفاع عنهم، وتبرير أعمالهم المنكرة، والتماس التأويلات الكاذبة لها..(3/891)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
فهؤلاء الذين يقومون وراء الظالمين هم شركاء لهم فى هذا الجرم.. وهم مدعوّون معهم إلى ساحة المحاكمة والقصاص بين يدى أحكم الحاكمين! وفى هذا الموقف تخرس ألسنة هؤلاء الأولياء المدافعين عن الظلم والظالمين.. ويتعرّى أولئك الظالمون من كل قوة تدفع عنهم سوء ما عملوا.
الآيات: (110- 112) [سورة النساء (4) : الآيات 110 الى 112]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
التفسير: وإذ يحذّر الله الظالمين وأولياء الظالمين، ويتوعدهم بالعقاب الراصد لهم يوم القيامة، فإنه سبحانه وتعالى لا يسدّ منافذ الخلاص على هؤلاء وأولئك، بل يفتح لهم أبواب التوبة والإنابة، ويدعوهم إلى الرجوع إليه من قريب.. فإنهم إن فعلوا، وأخلوا أيديهم من الإثم، وأنابوا إلى ربهم، وجدوا القبول والرحمة، من رب غفور رحيم.
وعمل السوء قد يتعدّى الإنسان إلى غيره، ففيه ظلم للغير، وظلم له..
كالسرقة، والغش، وشهادة الزور.. ففى هذه الأمور السيئة ونحوها ظلم للغير، وظلم للنفس، بما جنى عليها صاحبها من هذه المنكرات، التي تبعد مرتكبها عن ربه، وتعرضه لسخطه، ونقمته، وعذابه.
وقد يكون عمل السوء مقصورا أثره على مرتكبه، كالذى يشرب الخمر،(3/892)
أو يفطر فى رمضان لغير عذر.. فهذا العمل السيّء واقع عليه وحده، واثره لا يتعدّاه إلى غيره..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ»
جامعا لأفعال السوء كلها، ما كان منها متعديا أثره إلى الغير، وما كان مقصورا على النفس وحدها.
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
استحضار لجلال الله وعظمته، وتلويح بغفرانه ورحمته، حيث أنه سبحانه وتعالى يدعو المذنبين إليه، وينتظر استجابتهم له، وإقبالهم عليه، فمن استجاب لله، وسعى نحوه، فطريقه إلى الله مفتوح، لا تقوم دونه الحجب، ولا يرده عنه الحجّاب.. بل «يجد الله» فى انتظاره، مادّا يده له بالقبول والمغفرة.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً»
تحديد للمسئولية، حيث لا يؤخذ أحد بجرم غيره ...
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» .. ولن يخشى البريء أن يلقى عليه جرم المجرم، فإن أمر القضاء إلى عليم حكيم، يعلم عمل كل عامل من خير أو شر، فيجزى بالخير خيرا، وبالشر شرا، كما يقضى بذلك عدله، وحكمته.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً»
تهديد ووعيد لأولئك الذين يكسبون الخطايا والآثام، ثم يلقون بها على الأبرياء، ويحمّلونهم تبعاتها، وذلك فى هذه الحياة الدنيا، حيث لا يرى الناس منهم ما يرى الله، فيجدون فى ذلك سبيلا إلى التخلص من جرائمهم.. وكلّا، فإن جرمهم قد سجله الله عليهم، وهو آخذهم به، ومجازيهم عليه، وهم إذا رموا بهذا الجرم غيرهم فقد اكتسبوا جرما آخر إلى جرمهم،(3/893)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
إذ أصابوا بريئا، وجنوا على غير ذى ذنب! وبهذا صار جرمهم «مبينا» أي عظيما، ظاهرا لا يحتاج إلى من يكشف عنه.
والخطيئة: الوقوع فى المعصية.
والإثم: البغي، والعدوان، وهو الطريق إلى الوقوع فى الخطيئة.
والبهتان: هو الزور.
الآية: (113) [سورة النساء (4) : آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
التفسير: المنافقون بما يزيّنون من الباطل، وما يموهون من الحجج، لضلالاتهم، وما يلفقون من الأدلة لأباطيلهم- يفسدون على كثير من الناس وجه الحق، ويختلونهم عن طريق الهدى، حين يخيّلون إليهم الباطل حقا، والضلال هدى.. وهم إذ يضلون الناس بهذا، إنما يضلون أنفسهم، ويوردونها موارد الهلاك، إذ جنوا على أنفسهم، أولا، بركوب الضلال، ثم جنوا على غيرهم، ثانيا، باستدعائهم إلى ركوب هذا الضلال معهم، وتزيينه لهم..
وقد كان من فضل الله سبحانه وتعالى على النبىّ أن عصمه من كيد هؤلاء المنافقين، ففضحهم، وفضح أساليبهم، وبهذا حرس الله النبىّ وحماه من هذا الكيد الذي كانوا يكيدون له!(3/894)
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ» .
والطائفة، هى الجماعة من هؤلاء المنافقين، وهى تمثّل رءوس المنافقين، وأصحاب الرأى والتدبير فيهم..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ»
ما يشعر بأن هؤلاء المنافقين لم يهمّوا بالسوء، إذ كان فضل الله علي النبي ورحمته به، وحراسته له، ممّا يحجز هؤلاء المنافقين عن أن يهمّوا، فضلا أن يبلغوا من النبي ما همّوا به، وما حدثتهم به أنفسهم من شر وعدوان! والواقع أنه كان من المنافقين هم وعزم على ركوب هذا المنكر نحو النبي، بل وقد خرج هذا الهمّ أحيانا إلى حيّز التنفيذ والعمل، فجاء منهم من يقول للنبىّ فى غزوة الخندق: «إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» .. وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا» (13 الأحزاب) وجاء منهم من يقول للنبىّ فى غزوة تبوك: «ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي» (49: التوبة) وقد أذن النبي لمن استأذنه منهم، فكان من الله هذا العتاب الرفيق للنبى الكريم: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» (43: التوبة) فما تأويل هذا؟
والجواب: هو أن هذا الهمّ الذي كان من المنافقين، وما تبعه من تدبير وعمل، لم يؤثّر أأثره فى النبيّ، ولم يخرج به عن طريق الحق والعدل الذي أقامه الله عليه، وأن ما جنى المنافقون من نفاقهم هذا كان حسرة ووبالا عليهم فى الدنيا والآخرة، إذ فضحهم الله على الملأ، وفضح نفاقهم، وعرضهم للأعين عراة يجلّلهم الخزي والعار، وأنهم ودّوا لو لم يهمّوا ولم يفعلوا.. فكان همّهم(3/895)
هذا الذي همّوه، وفعلهم ذلك الذي فعلوه، جناية على أنفسهم.. أما النبىّ فلم يخلص إليه من هذا الهمّ شىء! وعلى هذا، كان الهمّ الذي همّوه بالنبيّ كأنه لا شىء بالنسبة له، إذا أفسده الله عليهم، وردّه إلى صدورهم.. فكأنهم همّوا ولم يهمّوا!! وفى هذا ما يشير إلى علوّ مقام النبىّ الكريم، وإلى قوة هذا الحصن الحصين الذي أقامه الله عليه فى وجه المنافقين، بحيث لا يجرؤ أحد منهم أن تحدّثه نفسه- لو عرف مكانة هذا النبىّ، ومكانه هو منه- أن يهجس فى نفسه- مجرد هاجس- بمحاولة إنزاله ولو قيد شعرة من هذا المقام الكريم الذي رفعه الله إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ»
أي، أىّ شىء من الضرر، فيما يتصل بدينك، أو مكانك من هذا الدّين!.
وفى قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
وفى عطف هذا الفعل على الفعل قبله: «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ»
..
فى هذا كبت للمنافقين، وضربة قاصمة من ضربات الحسرة والكمد لهم..
فإنهم وقد أرادوا أن يفسدوا على النبىّ أمره، قد أفسدوا أنفسهم، ولم ينالوا من النبىّ شيئا، بل وأنزل الله عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم، حتى لكأن إنزال الكتاب والحكمة على النبىّ وتعليمه من الله ما لم يكن يعلم، قد جاء فى أعقاب هذا المكر السيّء الذي مكروه بالنبيّ- زيادة فى تكريم النبىّ، ومضاعفة لفضل الله عليه، وإمعانا فى خزى المنافقين وكبتهم، وملء قلوبهم حسرة وندما، من حيث أرادوا الشرّ بالنبي، فكان أن أضعف الله فضله عليه، وغمره بإحسانه.. وهذا ما تشير إليه خاتمة الآية: «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
..(3/896)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
الآيتان: (114- 115) [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
التفسير: أكثر ما يجتمع عليه المنافقون هو الشرّ، وأكثر ما يتناجون به، هو السوء..
والنجوة، والمناجاة، هى المسارّة بالحديث، والتخافت به، بعيدا عمن يسمع أو يرى.. وأصل «النجوة» المكان المرتفع، ينجو به الإنسان والحيوان، ويعتصم فيه من أن تناله يد العدوّ.
وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» هو استثناء للجانب الطيب من النجوى، إذ ليس كلّ ما يسارّ به الناس بعضهم بعضا من حديث، وما يحجزونه عن أسماع غيرهم وأبصارهم هو من قبيل الشرّ، الذي يحرص الناس على كتمانه، وإخفاء وجهه عن غيرهم.
فقد يكون فى هذا الحديث الخفىّ، ما يراد به الخير والإحسان، وقد يكون فى كشفه والمعالنة به تفويت للخير الذي ينطوى عليه، وتضييع للإحسان المراد منه.. فمن اجتمع إلى غيره، وتناجى معه فيما هو خير له وللناس..
كدعوة إلى صدقة، أو توجيه إلى معروف، أو إصلاح بين الناس- (م 57- القصص القرآنى ج 5)(3/897)
فلا حرج عليه فى هذه النجوى، متحدّثا أو مستمعا..
وإذ كانت «النجوى» غالبا ما تحمل على الرّيب والظنون بأهلها، كان على الإنسان أن يحرس نفسه من أن يكون مظنّة تهمة أو ريبة، وألا يدخل مداخلها إلا إذا كانت غايته منها تحصيل الخير له أو لغيره، وألا يكون وراءها شر يدبّر للناس، أو كيد يكاد لهم به..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» .
الإشارة هنا بقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» متوجهة إلى الأمر بالصدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس.. أي ومن فعل ذلك فى مناجاته، لا يريد به إلا وجه الله، فله أجر عظيم عند الله، وثواب كريم لما فعل.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» الشقاق: المخالفة والمنابذة..
وشقاق الرسول: مخالفة أمره، والخروج عن طاعته..
والذين تبيّن لهم الهدى هنا، هم المنافقون، الذين دخلوا فى الإسلام، وعرفوا كثيرا من حقائقه، ولكن غلبت عليهم شقوقهم، فلم يستقيموا على طريق الحق، بل اضطربوا وتخبطوا..
فهؤلاء المنافقون أكثر ما تكون لقاءاتهم ومناجاتهم لتدبير الشرّ، وتبييت السوء، والعمل على مشاقّة الرسول ومخالفته، واتخاذ سبيل لهم غير سبيل المؤمنين، وطريقهم.. وقد توعّد الله سبحانه وتعالى من يكون على تلك الحال بقوله: «نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» أي نقيمه على(3/898)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
هذا الوجه الذي اتخذه لنفسه، مخالفا به الطريق المستقيم، طريق المؤمنين، وندعه لهواء الذي غلب عليه، وساقه إلى هذا المساق.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى يخلى هذا المنافق لنفسه، ويتركه فى ضلاله، فلا يمدّ إليه يد العون والتوفيق. «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (10: البقرة) .
الآيات: (116- 121) [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 121]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)
التفسير: الشرك بالله، ضرب من ضروب الكفر به..
فإذا كان الكفر جحودا بالله، وإنكارا لوجوده، فإن الشرك ضلال عن طريق الله، ورؤية غير واضحة لجلال الله وعظمته، الأمر الذي يجعل الإنسان ينظر إلى الله فى هذا المستوي الذي لا يرتفع فيه كثيرا عن بعض مخلوقاته.. وهذا إنكار ضمنى لوجود الله، ذلك الوجود الحق، الذي ينفرد فيه سبحانه بالربوبية المطلقة، ويدين له فيه جميع المخلوقات بالعبودية والولاء.. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) .(3/899)
والقرآن الكريم يتحدث عن المشركين باعتبار أنهم طائفة من طوائف الكافرين، وفرقة من فرقهم.. فالمشرك كافر، لا جدال.
فأهل مكة- قبل الإسلام- كانوا مشركين، يعرفون الله معرفة باهتة، ويرونه من خلال آلهتهم، وكأنه واحد منهم، أشبه بشيخ القبيلة فى قبيلته!! وقد سماهم القرآن الكريم كافرين، كما سماهم مشركين، وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (6: البقرة) من مراده بعض مشركى مكة. كما أشرنا إلى ذلك فى تفسير هذه الآية..
ومثل ذلك قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» (12: الأنفال) فإن هذه الآية نزلت فى غزوة بدر، وفيما كان فيها من إمداد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالملائكة فى هذه المعركة..
وقد وصف المشركون هنا بالكفر وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» . هو بيان لما قضى به سبحانه وتعالى فيمن يشرك به أو ينكر ألوهيته، وهو أنه سبحانه لا يغفر لمرتكب هذا الإثم إثمه، ولا يناله برحمته، إذ أن هذا المشرك أو المنكر، قد استخفّ بالله، فلم يولّ وجهه إليه، ولم يخلص قلبه له، فكان جزاؤه أن يستخفّ به الله، ولا يقيم له يوم القيامة وزنا، كما يقول سبحانه وتعالى:
«أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ(3/900)
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً»
(102- 106: الكهف) .
وقوله تعالى: «وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» هو استدعاء من الله سبحانه وتعالى للعصاة والمذنبين من عباده الذين آمنوا به، ليتعرضوا لواسع رحمته، وعظيم فضله، فإنهم وقد آمنوا به، وأحلوا قلوبهم ومشاعرهم من كل معبود سواه، فقد دخلوا فى محتوى هذا النداء الكريم، الذي نادى الله به عباده المؤمنين فى قوله سبحانه «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ» (53- 54: الزمر) .
فما كان من الذنوب دون الشرك والكفر، فهو فى ساحة رحمة الله، وفى معرض غفرانه.
وليس فى قوله تعالى: «لِمَنْ يَشاءُ» قيدا يحدّ من رحمة الله، أو يحجز من غفرانه، ولكن المراد به وضع الرحمة والمغفرة تحت مشيئة الله، يضعهما حيث يشاء، ويفضل بهما على من يشاء، فضلا وكرما، وليس لأحد أن يتألّى على الله، أو أن يلزمه شيئا من هذا العطاء المتفضّل به.. وبهذا تعظم المنّة، ويتضاعف الإحسان، إذ كان ذلك من غير مقابل، ودون استيفاء لجزاء على عمل، فصاحب العمل له جزاء عمله، كما يقول سبحانه: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) فرحمة الله واقعة حيث يشاء لمن يشاء.. أما المحسن، فقد كتب الله على نفسه أن يوفيه أجره، بل ويوفيه هذا الأجر أضعافا مضاعفة، كما يقول سبحانه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» .(3/901)
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» كشف للطريق المهلك الذي ركبه المشرك بشركه، وأنه قد بعد عن طريق النجاة والسلامة، ولن يزيده المضىّ فيه إلا إمعانا فى الضلال، وبعدا عن طريق الحق، وشرودا عن مظانّ النجاة! وقوله تعالى:
«إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً» .
الضمير فى قوله تعالى: «مِنْ دُونِهِ» يعود إلى الله سبحانه وتعالى، و «إن» بمعنى حرف النفي «ما» أي ما يدعو هؤلاء المشركون من المعبودين الذين يعبدونهم من دون الله، إلّا إناثا.
والشيطان المريد. هو إبليس الذي تمرّد على الله، وجرؤ على عصيانه والخروج عن طاعته..
والمعنى: أن هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا من عبدوا من دونه، لم يكن تقديرهم لهؤلاء المعبودين، إلا عن نظر سقيم، وقلب مريض، وعقل سفيه.
فما هؤلاء المعبودون الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله- إلا أحد شيئين: أولهما: إناث.. أي معبودات من المصنوعات، يعملونها بأيديهم، فى صورة أوثان وأصنام، ثم يزينونها بالملابس والحلىّ، كما تتزين النساء! وعبادة مثل هذه المصنوعات سفه ليس وراءه سفه، وضلال ليس بعده ضلال.. لأنها (أولا) أشياء ميتة، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك من أمر وجودها شيئا.. فكيف يراد منها الخير لغيرها، أو يرجى منها العون لمن يقوم على أمرها، ويحفظ وجودها.. ولأنها (ثانيا) لم تتّخذ من صور الأشياء الجانب القوى منها، وهو جانب الذكورة، بل أضفى عليها صانعوها مظهر الأنوثة، فزادها ذلك ضعفا إلى ضعفها..(3/902)
وفى الكشف عن هذا الجانب الضعيف من هذه الأوثان والأصنام، وعرضها لنظر عابديها فى هذه الصورة- صورة الإناث- إمعان فى تسفيه هؤلاء السفهاء الذين عبدوها، وتخاضعوا بين يديها.. إذ كيف يستقيم هذا مع تفكيرهم، وما أخذوا به أنفسهم من امتهان الأنثى، ونظرتهم إليها تلك النظرة المنكرة المتكرهة؟
وكيف يكون موقفهم مع الأنثى هذا الموقف الذي ذكره القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ؟» (58- 59: النحل) - كيف يكون هذا موقفهم من الإناث وهنّ خلق سوىّ، وفلذة من فلذات أكبادهم، ثم يكون هذا شأنهم مع تلك الصور التي يتخذونها من الحجر، والخشب، والمعدن، ويلبسونها زيّ الإناث، ويغرقونها بالحلى والزينة؟
أهذا مما يستقيم مع منطق، أو يصح فى عقل؟
هذه صورة من الصورتين، اللتين يعبدهما المشركون من دون الله! ..
وهى صورة حسيّة، يتعامل معها المشركون بحواسّهم ومشاعرهم..
أما الصورة الأخرى، فهى «الشيطان المريد» .. وهو وإن كان شيئا غير محسوس، فإنّه يتمثل فى الأهواء المتسلطة على النفس، وفى تلك الوسوسات الضالّة التي تزيّن للإنسان الشرّ، وتغزيه بالضلال! وليست تلك المعبودات، التي يعبدها المشركون بالله، ويتخذون لها تلك الصور والأشكال إلّا إملاء من وساوس الشيطان لهم، وإلا مظهرا من مظاهر إغرائه وإغوائه..(3/903)
فهؤلاء الذين يعبدون الأوثان من دون الله، هم عابدون للشيطان أيضا..
فما هذه الصور المعبودة إلّا بنات وسوساته فى صدورهم، ونفثاته فى تفكيرهم..
وقوله تعالى: «لَعَنَهُ اللَّهُ» صفة لهذا الشيطان المريد، الذي اتخذه هؤلاء المشركون وليا من دون الله.. وفى هذا ضلال إلى ضلال، وسفه إلى سفه..
إذ أنهم أعطوا ولاءهم لمن كان عدوّا لله، واقعا تحت لعنته.. فهم- والأمر كذلك- أعداء لله، واقعون تحت لعنته.
وقوله سبحانه: «وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» عرض فاضح لهذا الشيطان المتمرد على الله، المأخوذ بلعنة الله.
وفى عطف قوله تعالى: «وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» على قوله سبحانه: «لَعَنَهُ اللَّهُ» ما يشير إلى أن هذا القول الآثم من هذا الشيطان المريد هو لعنة أخرى من لعنات الله عليه، لما فيه من تحدّ لله، ومحاربة له فى عباده! وفى قوله تعالى: «مِنْ عِبادِكَ» إشارة أخرى إلى تمرد هذا الشيطان المريد، وإمعانه فى محادّة الله ومحاربته.. إذ كيف تسوّل له نفسه أن يدخل حمى الله، وأن يفسد عباد الله، الذين خلقهم بيده، وأضافهم إلى ذاته؟
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الذين خلقهم الله بيده، وأضافهم إلى ذاته، هم الذين كانوا حربا على الله فى جبهة الشيطان، فتفلتوا من هذا الحمى الكريم، الذي أقامهم الله فيه.. ومدوا أيديهم إلى هذا الشيطان المريد، وأعطوه الفرصة فيهم، ليفسد عليهم هذه الفطرة السليمة التي أودعها الله كيانهم، وليضلّ عقولهم عن هذا الطريق الذي أراه الله لهم، غير ملتفتين إلى تلك الوصاة التي وصّاهم الله بها، فى شأن هذا العدوّ الراصد لهم، والمتربص بهم، حيث كان قول الله لهم: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» .(3/904)
وفى هذا الموضع الذي وضع الله الإنسان فيه، تكريم لهذا الإنسان، وإشعار له بأنه أهل لأن يحرس نفسه من هذه الآفة المتسلطة عليه، وأن يحتفظ بتلك الهبات العظيمة التي منحها الله إياه، تلك الهبات التي لو التفت إليها، وأحسن استخدامها، والقيام عليها، لكانت قوة حارسة له من الشيطان وخداعه، ولكان له منها حمى لا تناله وساوسه ومغوياته.. ولكن غفل كثير من الناس عن هذا العدوّ، بل وسالمه وأسلم زمامه له، فكان ضياعه وهلاكه جزاء وفاقا له.
وفى قوله تعالى: «نَصِيباً مَفْرُوضاً» إشارة إلى أن هؤلاء الذين أوقعهم الشيطان فى حبالته، واصطادهم فى شباكه، هم من أراد الله لهم أن يكونوا فى أصحاب النار، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) وكما يقول جلّ شأنه: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119: هود) .. وكما يقول الرسول الكريم فيما يروى عن على بن أبى طالب، قال «كنّا فى جنازة فى بقيع الفرقد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد ومعه مخصرة، فنكّس رأسه وجعل ينكت بمخصرته، فقال: «ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة أو النار، وإلّا قد كتبت شقية أو سعيدة» فقال له رجل: يا رسول الله: أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منّا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان منامن أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسّر.. أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فميسّرون لعمل أهل الشقاوة.. ثم قرأ:
«فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» .(3/905)
ووصف النصيب بأنه نصيب مفروض يكشف عن أنه قدر محدّد، أي أن أولياء الشيطان هؤلاء، هم فريق محصور بعدده وصفته، لا يزيد ولا ينقص، كما أن أولياء الله، هم فريق آخر مقابل لهذا الفريق، معروف بعدده وصفته..
ومجموع الفريقين هم الناس جميعا.. الشقىّ منهم والسعيد، وأصحاب النار وأصحاب الجنة.. أولياء الشيطان، وأولياء الرحمن! وقوله تعالى: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» هو بيان لقولة الشيطان:
«لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» فهذا النصيب المفروض هم الذين سيتخذهم الشيطان أولياء له، وسيتعاطى معهم كئوس المودة والصفاء، وهى كئوس تدور برءوس شاربيها، وتفسد عليهم عقولهم، وتحوّلهم دمى فى يد الشيطان، يعبث بها كيف يشاء.. ولهذا كان واثقا من أنه قادر على نفاذ أمره وإمضاء مشيئته فيهم.. ولهذا جاء أمره إليهم جازما مؤكدا:
«ولأضلّنّهم» أي يلقى بهم فى مهاوى الضلال، والظلام.. بعيدا عن الهدى والنور! «ولأمنّينّهم» أي يمدّ لهم فى حبال الأمانى والغرور، بما يزيّن لهم من الشرور والآثام.. وبما يخيّل لهم من الأوهام والأباطيل.. فيرون الشر خيرا، والقبيح حسنا، والبعيد قريبا.
«وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ» وذلك شىء من السّخف والضلال، الذي زينه لهم الشيطان وأغواهم به، وهو أنهم كانوا إذا ولدت الناقة خمسة بطون، وكان آخرها ذكرا احتفوا بها وأكرموها، وكان مظهر ذلك أن يقطعوا أذنيها أو يشقّوهما «فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ» ثم يرسلونها(3/906)
فلا يركب ظهرها، ولا يحمل عليه شىء!! أفليس ذلك هو غاية السفه، ومنتهى الضلال؟.
«وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» وذلك بتقطيع آذان الأنعام هذه، ونحو هذا من المراسم التي تصوّرها لهم الأوهام والأباطيل.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» عرض للصورة الشنعاء التي ينتهى إليها أمر هؤلاء الذين استذلهم الشيطان، واستبدّ بهم.. فليس بعد خسرانهم خسران، ولا وراء ضياعهم ضياع.
وقوله تعالى: «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» هو كشف لهذا المحصول الذي يجنيه أتباع الشيطان.. إنها ليست إلا أمانىّ باطلة، وسرابا خادعا. «أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً» فتلك هى عاقبة الظالمين الغاوين.. مصيرهم جهنم وساءت مصيرا، لا متحوّل لهم عنها، ولا إفلات لهم منها.
وهنا سؤال، أو أسئلة، عن هذه التفرقة بين الناس، إذ كانوا فريقين:
سعداء وأشقياء. أولياء الله وأولياء الشيطان.. «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ؟
فلم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد الله وصنعة يده؟
وما فضل هؤلاء الذين كتبت لهم الجنة، وما جناية هؤلاء الذين كتبوا فى أصحاب النار.. هكذا قدرا مقدورا، وقضاء لازما من الأزل؟
وما قيمة إحسان المحسن وإساءة المسيء، إذا كان قد تحدد المصير المحتوم لكل إنسان؟
هذه خواطر تتوارد على الإنسان، وهو يستمع إلى حكم الله هذا فى عباده..(3/907)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
وإذا كان من تمام إيمان المؤمن أن يتلقى أوامر الله وأحكامه بالتسليم.
وأن يتقبلها بالرضا والحمد- فإنه من غير المستطاع أن يمنع المؤمن مثل هذه الخواطر من أن تطوف بعقله حينا بعد حين، وأن تتصاعد منها أدخنة وغيوم، قد تنحسر مريعا، أو تتلبث وتتسكع قليلا أو كثيرا.. بل إنه- والأمر كذلك- لمن الخير أنه يواجه الإنسان هذه الخواطر، وأن يقّلبها بين يديه، حتى يعرف مصادرها ومواردها، فإنها كثيرا ما تكون مداخل لخداع الشيطان وضلالاته.
وهذا ما سنعرض له فى بحث خاص.. إن شاء الله.
الآيات: (122- 123- 124) [سورة النساء (4) : الآيات 122 الى 124]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
التفسير: الفريق الآخر المقابل لأولياء الشيطان، هم المؤمنون، أولياء الله، الذين أعطوا هذه الولاية حقها، فامتثلوا أوامر ربهم، واجتنبوا نواهيه..
وإذا كان أولياء الشيطان مأواهم جهنم، فإن أولياء الله مأواهم الجنة، خالدين فيها أبدا..
فذلك وعد الله لهم، فيما أخبرهم به من كلماته على لسان رسله.. «ومن أصدق من الله قيلا» - أي قولا- وحاش لله أن يخلف وعده، فإن خلف الوعد لا يكون إلا عن عجز وضعف، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.(3/908)
وقوله تعالى: «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ» ردّ على أولئك الذين يتمنون على الله الأمانىّ، دون عمل..!
والأمانىّ التي لا ترتبط بعمل، ولا تتجه إلى هدف، هى أباطيل وأضاليل وأوهام وأضغاث أحلام، لا يمسك منها صاحبها إلا سرابا، ولا يجنى منها إلا حسرة وندما على ما كان من تفريط وتقصير..
وإذن فليس الإيمان مجرد كلمة يتلفظ بها الإنسان، ليدخل بها فى جماعة المؤمنين، وليتخذ منها زيّا يندسّ به بينهم، وينال ما ينالون، ويطعم بما يطعمون، مما أعد الله لهم من رضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. هكذا من غير أن يكون منه عمل صالح! بل الإيمان فى حقيقته، قول وعمل، معتقد وسلوك.. فمن لم يحقق الإيمان على هذا الوجه فليس مؤمنا، وليس له أن ينال شيئا مما أعد الله للمؤمنين..
ولهذا جاء قوله تعالى: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ليقرر هذا المضمون الذي احتواه قوله سبحانه «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ» فى جانب الذين يتمنون الأمانى الباطلة، فلا يكون منهم عمل صالح.. فهؤلاء سيجزون سوء ما عملوا، وليس لهم من يدفع عنهم أخذ الله لهم..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» هو تقرير لمصير الجانب الآخر، المقابل لأولياء الشيطان، وهو جانب أولياء الله، الذين لم يفتنهم الشيطان، ولم يغرقهم فى الأمانىّ الباطلة.. فهؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات، أي أنهم آمنوا بالله، ثم حوّلوا هذا الإيمان إلى سلوك وعمل، فغرسوا فى مغارس(3/909)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
الخير ومهّدوا ما غرسوا، وحرسوه من الآفات، فكان لهم من الله هذا الجزاء الحسن: «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» .
وفى تقديم دخولهم الجنة هنا على استيفاء حقهم كاملا- فى هذا تطمين لقلوب المؤمنين، وأنهم سيدخلون الجنة على أي حال، فضلا وكرما من الله عليهم.. أما مناقشتهم الحساب، فإنه لكى يروا ما عملوا من خير، وكيف نمّاه الله لهم، وأجزل لهم الثواب عليه..
والنقير: النّقرة تكون فى ظهر النّواة، ومنها ينبت أصل النخلة! وفى قوله تعالى: «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» تسوية بين الرجل والمرأة فى التكاليف الشرعية، وفى الجزاء.
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» قيد لازم لقبول العمل الصالح والجزاء الحسن عليه، فإنه بغير الإيمان لا يزكو عمل عند الله، ولا يقبل..
الآيتان: (125- 126) [سورة النساء (4) : الآيات 125 الى 126]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
التفسير: «أسلم وجهه لله» : أي وجّه وجهه إلى الله، دون التفات إلى معبود سواه..
فالإيمان الحق، هو الذي يقوم على إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبوديّة، والبراءة من الشركاء الذين يتخذهم المشركون أولياء من دون الله.
والاستفهام فى قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً» لا يراد به حقيقته،(3/910)
وإنما المراد به هو استبعاد أن يكون أحد أحسن دينا من هذا الذي أسلم وجهه لله وهو محسن.
والاستفهام هنا أبلغ فى تقرير هذا الحكم، من أن يجىء هكذا فى صورة الخبر المباشر، كأن يقال مثلا: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن.
ذلك أن الاستفهام يقتضى اختبارا عمليا لهذا الحكم، بمعنى أنه حين يرد هذا الاستفهام على السامع، يتلفت هنا وهناك باحثا عن الجواب على هذا الاستفهام، طالبا من هو أحسن دينا من دين هذا الذي أسلم وجهه لله..
ولكن هيهات أن يجد المطلوب، وبذلك يتقرر عنده الحكم بأنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن.
وقوله تعالى: «وَهُوَ مُحْسِنٌ» جملة حالية يراد بها قيد الإيمان بالعمل، بل والعمل الحسن.. إذ ليس الإيمان- كما قلنا- مجرد تصور حقيقى للألوهية، وإيمان بالله على هذا التصور لا يعدّ إيمانا، وإنما الإيمان معتقد وعمل، ولاء لله، وسلوك بمقتضى هذا الولاء.
وفى قوله تعالى: «وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» ، عطف على الجملة الحالية السابقة، وقيد آخر للإيمان، الذي وصف بأنه أحسن دين وأكمل إيمان.. إذ لا يتحقق هذا الوصف إلا بشرطين:
أولهما: أن يصحبه عمل، وعمل حسن، بمقتضى توجيهات الشريعة وآدابها..
وثانيهما: أن يكون متابعة لدين إبراهيم عليه السلام، إذ كان إبراهيم أبا لأتباع الديانات الثلاث، المتجه إليها هذا الخطاب، وهى اليهودية، والنصرانية، والإسلام..(3/911)
«والملّة» هى الدّين.
«والحنيف» المائل عن طرق الضلال إلى الهدى.. وهذا يعنى أن المجتمع الذي كان فيه إبراهيم عليه السلام- كان مجتمعا ضالا منحرفا، وأنه وحده- وقليل معه من ذريته- هو الذي مال عن هذا الاتجاه العام، الذي كان يتجه إليه قومه، وأبناء مجتمعه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (120: النحل) .
قوله تعالى: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» جملة استثنائية، تقرر ما لإبراهيم عند الله من منزلة، تلك المنزلة التي تجعل اتّباع ملتّه، وموالاته، مما يرضى الله عنه، ويحمده.
والخليل هو الصاحب الذي يسدّ خلل صاحبه، ويكمل وجوده، أو يتخلّل مشاعره، ويخلص إلى مواطن سرّه..
واتخاذ الله- سبحانه- إبراهيم خليلا، يراد به لازم هذه المخالّة، وهى إضفاء الإحسان، والرحمة، من جانب الله تعالى على إبراهيم، وهذا لطف من الله، وتكريم لهذا النبي الكريم، وتلك منزلة عليا من منازل القرب من الله.. لا تكاد تدانيها منزلة.
وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» استعراض لعظمة الله وسعة ملكه، ومقدار سلطانه، الذي يشمل كل شىء، وينفذ إلى كل شىء! ومن كان هذا شأنه، وتلك صفته، فإن من السفه والضلال أن يولّى الإنسان وجهه إلى غيره، أو يعبد معبودا سواه..
وإذا استقام فى تفكير الإنسان أن يرى الله على هذا الوجه، وأراد أن(3/912)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
يتخذ سبيله إلى الله.. فهناك ملّة، إبراهيم، فليستقم عليها، وليؤمن بالله إيمان إبراهيم، ذلك الإيمان المبرأ من كل شرك، المجانب لكل ضلال.
الآيات: (127- 130) [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
التفسير: الاستفتاء هو طلب الفتيا فى أمر خفى على المستفتى، يريد التعرف عليه.
وكثيرا ما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون الرأى من النبىّ، فيما يعرض لهم من أمور، وفيما يقع من أحداث.. إذ كان النبىّ صلى الله عليه وسلم هو حامل الشريعة إليهم، والقائم عليها، والشارح لها..
(م 58- التفسير القرآنى- ج 5)(3/913)
وهنا فى هذه الآية، يسأل المسلمون النبىّ فى أمور تتعلق بالنساء..
من زواج، وطلاق، ومتعة، ورضاع، وغير ذلك مما يعنى الرجال من أمر النساء! وقد أعطى الله سبحانه النبىّ الكريم الجواب عما يسألون عنه، فقال تعالى: «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» أي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيتولى بيان ما تسألون عنه.
وقوله تعالى: «وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» هو عطف على قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» أي الله يفتيكم فى النساء، ويفتيكم فيما «يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» .
ويكون معنى الإفتاء هنا، هو الإشارة إلى أن ما نزل عليهم من آيات الله فى شأن اليتامى، ولم يمتثلوه امتثالا كاملا، ولم يرعوا ما وصّاهم الله به فى شأنهن فى قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» وفى هذا إلفات لأولئك الذين لم يرعوا أمر الله فى شأن هؤلاء اليتيمات اللاتي هنّ تحت أيديهم، وهو فى الوقت نفسه توبيخ لهم إذ يستفتون النبىّ فى شأن النساء، وبين أيديهم أمر من أمر الله فى شأنهن ولم يعملوا به، وكان الأولى بهم ألا يسألوا شيئا عن النساء إلا بعد أن يمتثلوا ما أمروا به من قبل فى شأنهن! وفى قوله تعالى: «يَتامَى النِّساءِ» إشارة إلى أن هؤلاء اليتيمات اللاتي(3/914)
تحت أيدى الأوصياء عليهن، هنّ من النساء اللاتي يستفتون النبىّ فيهن، وصغرهن لا يخرجهن عن أن يكنّ من النساء.
وقوله تعالى: «اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» هو مواجهة صريحة لأولئك الذين لا يزال الوضع السيّء لليتيمات عندهن كما كان من قبل أن يوصى الله بهن بما أوصى فى أول سورة النساء، وهو أنهم كانوا ينكحونهن من غير أن يؤدوا ما فرض الله لهن من مهر، أو يمسكونهن عند الزواج إذا لم يكن لهم فيهن رغبة، ليحتفظوا فى أيديهم بالمال الذي لهن، وقد نهاهم الله سبحانه وتعالى عن هذا.
قوله تعالى: «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ» عطف على قوله تعالى:
«فِي يَتامَى النِّساءِ» أي والله سبحانه وتعالى يفتيكم فى النساء، وفيما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء وفى المستضعفين من الولدان» .. وقد أوصى الله تعالى باليتامى فى قوله سبحانه:
«وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ، فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (9- 10: النساء) .
وإعادة الفتيا فى المستضعفين من الولدان، وهم اليتامى- هو تذكير لهؤلاء الذين لم يمتثلوا بعد، ما أمر الله فيهم من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وحسن القيام عليهم..
قوله تعالى: «وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ» هو دعوة عامة جامعة لليتامى من بنين وبنات، بعد أن ذكرهم الله تعالى ذكرا مفصلا- حيث ذكر يتامى النساء، ثم ذكر المستضعفين من الولدان، وهؤلاء وأولئك جميعا من اليتامى..(3/915)
قوله تعالى: «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» حثّ على فعل الخير، والإحسان عامة، وفى اليتامى خاصة..
والله سبحانه وتعالى يعلم ما نفعل من خير أو شر، ولكنه قصر العلم على الخير هنا، تنبيها إلى أن المؤمن ينبغى أن يكون فعله كله خيرا، وأنه يجب أن يعقد قلبه على فعل الخير، وأن يفعله ما استطاع، وأن يخلى قلبه من وساوس الشر، وأن يتجنبه ما استطاع!.
وفى التعبير عن علم الله تعالى بلفظ الماضي «كان» إشارة إلى أن علم الله لا يتعلق بوقوع الأفعال، وإنما هو علم قديم أزلىّ، قد أحاط سبحانه بكل شى علما..
قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً» .
النشوز: النفور عن المألوف، والنشز من الأرض: الصلب.. والفتيا هنا فى شأن من شئون النساء اللائي وعد الله سبحانه بالإفتاء فيهن..
ومما يسأل عنه من أمر النساء، أن تجد المرأة فى زوجها من سوء العشرة ما تخشى معه قطع الحياة الزوجية، إذا لم يدخل عليها عنصر جديد يغذيها بشىء من المودة والإحسان.
والحياة الزوجية لا تستقيم أبدا، ولا تؤتى ثمارها طيبة مباركة إلا إذا سكن كل من الزوجين إلى الآخر، وامتزج به، واختلط بمشاعره، وتنفس معه أنفاس المودة والرحمة، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (21: الروم) .
وفى قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» إشارة إلى هذا العارض الذي يعرض للحياة الزوجية، فيثير فيها مشاعر القلق(3/916)
والاضطراب، وذلك بأن تجد المرأة من زوجها نشوزا، أي تعاليا عنها، حيث ينظر إليها نظرة باهتة غير عابىء بها، لا نظرة الشريك إلى شريكه، والصديق إلى صديقه.. أو تشعر بجفوة منه نحوها، وبإعراض عنها وإهمال لها..
وفى التعبير بالخوف عن هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تجدها المرأة فى زوجها- ما يكشف عما يقع فى نفس المرأة من إشفاق على مستقبل حياتها الزوجية مع هذا الزوج الذي يحمل لها تلك المشاعر، التي قد تنمو مع الأيام، وتصبح داءا لا دواء له إلا فصم العلاقة الزوجية بين الزوجين.
وفى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً» إشارة إلى الدواء، الذي يمكن أن يقدّم فى مثل هذه الحالة لهذا الصدع الذي وقع بين الزوجين، وذلك الدواء هو أن يحدث الزوجان بينهما مصالحة، وأن يعملا تسوية، يلتقيان فيها على ما يحقق لكل منهما بعض ما يطلب من صاحبه..
فقد يكون فى يد المرأة ما يمكن أن تترضّى به الزوج من مال، وإنه لا بأس فى هذه الحالة أن تقدم المرأة للزوج بعض ما كان يطمع فيه من مالها، الذي ربما كان حرمانه منه سببا فى إعراضه عنها..
كما يمكن المرأة أن تنزل للزوج عن بعض حقوقها الزوجية.. كالتسوية فى القسمة بينها وبين بعض زوجاته اللائي يؤثرهن عليها بحبّه ومودته..
فترضى منه ببعض هذا الحق!.
وقد يكون فى هذا الموقف الذي تقفه المرأة من زوجها، ما يعطفه عليها، ويقرّبه منها، ويصلح ما بينه وبينها، وبهذا تبقى العلاقة الزوجية موصولة بينهما، وتظل المرأة فى حماية الزوج ورعايته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» .. أي أنه خير على أي حال لكلّ من المرأة والرجل..
إذ أبقيا به على رابطة مقدسة بينهما، كان فى قطعها قطع لما أمر الله به أن يوصل.(3/917)
وفى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» رفع لمظنّة الحرج التي قد تكون متصوّرة فى هذا الموقف.. إذ أن المرأة تنزل للزوج عن بعض حقها، أو تقدم إليه شيئا من مالها، تحت ظروف قاهرة.. لا عن رضى واختيار.. وفى هذا عدوان على المرأة، وإكراه لها..
ولكن أباح الإسلام هذا، ليدفع به عن المرأة ضررا أكبر من هذا الضرر الذي يلحقها من التنازل عن بعض حقوقها الزوجية، أو الغرم فى بعض مالها.. وذلك لتحفظ حياتها الزوجية من أن تتصدع وتنهار! فالشر الذي يدفع به شرّ أعظم منه، هو خير! ومع هذا، فإنه ليس من المفروض فرضا لازما على المرأة أن تقف هذا الموقف، وإنما ذلك متروك لتقديرها، ووزنها لأحوالها وظروفها.. فلها أن تطلب الطلاق من زوجها إذا كانت غير محتملة للضرر الواقع عليها من نشوزه أو إعراضه عنها.. ثم إن لها فى الوقت نفسه أن تصلح هذا الأمر بما تقدر عليه، إذا هى رأت فى مصلحتها أن تبقى على زوجها، وأن تشترى رضاه ومودته بالتنازل عن بعض حقوقها..
وقوله تعالى: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ» أي أشهدت الأنفس الشحّ، بمعنى أريته وعاينته فى هذا الموقف، والشحّ هو البخل..
والذي أرى الأنفس الشحّ فى هذا الموقف، هو مواجهتها لذاتها وهى تستقبل من الغير هجوما عليها، ومحاولة للانتقاص مما فى يدها.
ففى مثل تلك الحال تتحرك فى النفس دوافع حبّ الذات، الذي من شأنه أن يبرز غريزة الشحّ، التي هى سلاح من أسلحة الدفاع عن الذات.
وجملة «وأحضرت الأنفس الشحّ» جملة اعتراضية، يراد بها التنبيه(3/918)
إلى تلك الصفة الذميمة التي تطلّ برأسها فى هذا الموقف، الذي يواجه فيه كلّ من الزوج والزوجة صاحبه مواجهة صريحة.. مواجهة الغريم لغريمه فى استقضاء حق له عليه.
ومن شأن هذا التنبيه أن يقيم فى كيان كل من الزوجين، وازعا يزع هذا الوسواس، الذي يدفع فى صدر كل منهما بمشاعر الشحّ والحرص، ومن شأن هذا الوازع- إذا استند إلى دين وخلق- أن ينهى هذا الموقف الحادّ بين الزوجين، وأن يجمعها على التسامح، والصفح، والوفاق..
وقوله تعالى: «وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» هو دعوة إلى الإحسان والتقوى فى هذا الموقف، الذي إن لم تتحرك فيه مشاعر الإحسان لتؤدى دورها فى ظلّ من تقوى الله والعمل على مرضاته- لم يكن سبيل إلى إصلاح هذا الخلل، ورأب ذلك الصدع، بل ربما زادته المواجهة بين الزوجين اتساعا وعمقا.
وانظر فى هذا الاختلاف الذي وقع فى فاصلة هذه الآية، وفى فاصلة الآية التي قبلها.. فقد جاءت فاصلة هذه الآية: «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» حيث أن ما يعمل هنا، هو مما تمليه القلوب، وتتناجى به الضمائر..
فهو- والأمر كذلك- محتاج إلى خبرة تطّلع على ما فى القلوب، وتكشف ما استقر فى الضمائر، وليس ذلك إلا لله الخبير العليم..
أما فاصلة الآية التي سبقت هذه الآية، فقد جاءت هكذا: «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» حيث كان الحديث عن أفعال محسوسة، يكفى فى كشفها العلم بها على الصورة التي وقعت، وذلك مما لا يغيب عن علم العليم الخبير!.(3/919)
قوله تعالى: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .
فى هذه الآية أمور:
أولا: ضياع أمانة «العدل» فى القسمة بين الزوجات، التي حملها الزوج، ودعى من الله إلى الوفاء بها، وهو- وإن يكن أمرا قد تجاوز الله سبحانه وتعالى عنه فى تلك الحال- هو تضييع لتلك الأمانة، وعدوان عليها..
وهذا أقل ما فيه أنه يدعو الإنسان أن يفكر طويلا قبل أن يدخل فى هذه التجربة، ويعرّض نفسه لأن يكون فى عداد الظالمين المعتدين.. وهذا أقلّ ما فيه أيضا أن يزهّد الإنسان فى التزوج بأكثر من وحدة.
وثانيا: قوله تعالى: «وَلَوْ حَرَصْتُمْ» يقطع كل أمل عند من تحدثه نفسه بأنه- إذا جمع أكثر من امرأة فى عصمته- قادر على أن يحقق العدل بينهما..
فذلك أمر فوق مقدور البشر، إذ كان الحكم فيه للقلب، ولا سلطان للإنسان على قلبه.. ولهذا كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يقول متوجها إلى ربه فى قسمته وعدله بين نسائه: «هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما لا أملك وتملك» .
وثالثا: من ابتلى بهذه التجربة- تجربة الجمع بين أكثر من زوجة- فعليه أن يستشعر دائما أن ميزان العدل الممسك به بين زوجاته لن يستقيم أبدا، فهو قلق مضطرب، يميل هنا مرة، ويميل هناك مرة.. وهكذا.. والمطلوب منه فى تلك الحال أن يحفظ توازن هذا الميزان فى يده، مع ميله واضطرابه، وإلا شالت إحدى كفتيه فكانت فى السماء، على حين هوت الأخرى فلصقت بالأرض.. وبهذا يفقد الميزان أثره وفاعليته..(3/920)
ورابعا: قوله تعالى: «فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» .. الضمير هنا للمرأة التي جار عليها زوجها، فلم يعطها من حقوق الزوجية شيئا.. فهى زوج وليست زوجا.. وإطلاقها فى تلك الحال خير من إمساكها..
وخامسا: قوله تعالى: «وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» إيذان من الله سبحانه وتعالى بالتجاوز عن الاضطراب الذي يقع فى ميزان العدل بين الزوجات إذا اتّقى الزوج ربّه فى النساء اللائي فى يده، وأعطى كل واحدة منهن حقها قدر المستطاع.. وإلا فهو آثم ظالم، لا تناله مغفرة الله ورحمته.
وقوله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» هو دعوة إلى إطلاق سراح المرأة التي لا تنال حظوة عند زوجها، ولا ينظر إليها نظرة الرجل إلى المرأة، وما لها من حقوق مادية ومعنوية عنده.. فإطلاقها فى تلك الحال خير لها من إمساكها، الذي هو إيذاء لها، وإهدار لوجودها..
والمرأة التي يمسك بها الرجل، وهى فى هذا الوضع الجائر.. إمّا أن تكون ذات مال، يريدها الرجل لمالها.. فليتركها، وليطلق سراحها.. والله سبحانه وتعالى يغنيه من فضله، وأول هذا الغنى هو أن يحفظ كرامته، ويحترم رجولته، فلا يكون طعامه وشرابه من هذا المال الذي يسلبه من يد ضعيفة، دون مقابل له.
وإما أن تكون فقيرة مستضعفة، لا تجد من يكفلها، فهى مقيمة على هذا الضيم، لقاء لقمة عيش، أو كسوة بدن.. فلتخلّص نفسها من هذا القيد، ولتحرّر روحها، وتصحح إنسانيتها، فتلك هى الحياة، ولا حياة مع الذلة والمسكنة، ومع شبع البطن وجوع الروح، وكسوة الجسد، وعرى الإنسانية! والله سبحانه وتعالى هو الرزّاق ذو القوة المتين.. قد كفل لها رزقها، كما كفل لكل كائن حىّ رزقه: «وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» ! فمن سعة فضله(3/921)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
يقوت الأحياء، ومن بالغ حكمته أن يدعو الإنسان إلى السموّ بروحه، والاستعلاء بذاته.. فذلك هو الإنسان.. أما ماوراء ذلك من ماديات الإنسان فهى تبع، وليست أصلا، وهى ثان وليست أولا.
الآيات: (131- 134) [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
التفسير: فى الآيات السابقة استعرض القرآن الكريم وجوه الناس: من مؤمنين، ومنافقين، وكافرين، وأقام كل فريق منهم بالمكان الذي هو أهل له، من قرب أو بعد من الله، وما أعدّ له من ثواب أو عقاب.. وقد ختمت هذه الآيات باستعراض لقدرة الله سبحانه، وسعة ملكه، وبسطة نفوذه، وذلك فى قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» .. ثم تلا ذلك وقفة مع المؤمنين فيما يعنيهم من أمر دينهم، وكان ذلك فى أمور تتصل بالنساء وعلاقة الرجال بهن، وقد جاءهم من الله فى هذا البلاغ المبين..
وهنا فى هذه الآيات استدعاء للناس جميعا، من مؤمنين، وكافرين،(3/922)
ومنافقين، ليشهدوا جلال الله وعظمته، فيما صوّر وخلق مما فى السموات والأرض، وكلها صنعة يده، وحوزة ملكه: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ! وفى تقديم الخبر على المبتدأ فى قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ما يفيد اختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بالملكية لما فى السموات والأرض.. لا يشاركه فى ذلك شريك..
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» بعد هذا الاستعراض لقدرة الله وسلطانه المتفرد على هذا الوجود- فى هذا جلاء لغشاوات الضلال التي انعقدت على كثير من البصائر فحجبت عنها الرؤية الواضحة لله. فلم تره إلا فى ضباب هذه الضلالات.. ربّا مع أرباب، وإلها فى مجمع من الآلهة..!
فإذا نظر الإنسان إلى ما فى ملكوت السموات والأرض من آثار رحمة الله، وقدرته، وعلمه وحكمته، ثم استمع لدعوة الحق سبحانه وتعالى التي يدعو بها عباده إليه: «أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» - كان خليقا به، لو أمعن النظر، وأحسن التفكير- أن يستجيب لدعوة الله، وأن يؤمن به، ويتّقى حرماته.. فتلك هى الصلة السليمة التي ينبغى أن تقوم بين الإنسان وخالقه، وتلك هى الوصاة التي يوصّى الله بها عباده، ويحملها إليهم رسله! «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» .. والمراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا، هم اليهود والنصارى، حيث هم الذين التقوا بالمسلمين من أهل الكتاب، وإن كان هناك كثيرون من المؤمنين أصحاب كتاب سماوى، غير اليهود والنصارى، ولكن ذهبوا وذهبت كتبهم، ولهذا كان ذكر أهل الكتاب فى القرآن دائما، مقصودا به اليهود والنصارى وحدهم.
قوله تعالى: «وَإِنْ تَكْفُرُوا» هو مقابل لقوله سبحانه: «أَنِ اتَّقُوا(3/923)
اللَّهَ»
.. فالمراد بتقوى الله هنا، هو الإيمان به إيمانا صحيحا، غير مشوب بشرك أو ضلال.
وقوله تعالى: «فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى أن إيمان المؤمنين وشرك المشركين، ونفاق المنافقين، وكفر الكافرين، كل ذلك لا متعلّق له بالله، إذ لا يؤثر ذلك فى قدرة الله، ولا يزيد أو ينقص من سلطانه شيئا.. فهو المالك لكل شىء والقائم على كل شىء..
ولهذا جاءت خاتمة الآية هكذا: «وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً» أي أنه سبحانه فى غنى عن خلقه، لا ينفعه إيمان المؤمنين، ولا يضرّه كفر الكافرين، وإنما يعود نفع الإيمان أولا وآخرا إلى صاحبه، كما يعود ضرر الكفر أولا وآخرا إلى صاحبه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (44: الروم) أي فلأنفسهم يصلحون الطريق الذين يصلهم بالله، ويوصلهم إلى مرضاته ونعيم جنّاته.
والحميد، هو المستأهل للحمد، المستحق له من جميع مخلوقاته، إذ أوجدهم من عدم، وألبسهم نعمة الوجود..
فالحمد لله، هو تسبيحة المخلوقات جميعا، من آمن منهم بالله ومن لم يؤمن، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .
وقد يقال: كيف يسبّح الكافر بحمد الله، وهو ينكره ولا يعترف بوجوده؟
والجواب على هذا، أن الكافر إنما هو صنعة الله، وهو يعيش فى ملك، الله ويتقلب فى نعمه، وأنه منقاد لمشيئة الله فى كل نفس يتنفسه، وفى كل(3/924)
عمل يعمله، ثم هو آخر أمره صائر إلى الله.. إنه لم يخلق نفسه، ثم إنه لن يميت نفسه.. بل الله سبحانه هو الذي أوجده، وهو الذي يميته.. ثم هو الذي تولّاه منذ أوجده إلى أن أماته.. فهو وإن اشتمل باطنه على الكفر بالله، وبفضله عليه، فإن وجوده كلّه وما يحيط به هو صوت جهورىّ، يؤذّن بحمد الله، ويسبّح بآلائه ونعمائه.
قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» تسبيحة أخرى من تسبيحات الحمد لله، والإقرار بألوهيته، والولاء له من مخلوقاته جميعا، وكفى به- سبحانه وتعالى- وكيلا، يدبّر أمر هذه المخلوقات، ويقيمها على ما تقضى به حكمته.
وقوله سبحانه: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ، وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً» هو تذكير بقدرة الله، كما هو إشارة إلى ضآلة شأن الإنسان الذي يخيّل له من جهله وغروره أنه سيّد هذا الوجود، ثم يمتد به حبل هذا الجهل والغرور، فيحسب أنه هو الذي يخلق، ويرزق، وأنه ليس له خالق أو رازق! وهذا سفه وضلال، فلو شاء الله أن يردّ الناس إلى عدم، كما أنشأهم من عدم، لكان ذلك على الله يسيرا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) .
وفى قوله تعالى: «وَيَأْتِ بِآخَرِينَ» إثارة لغريزة حب البقاء فى الإنسان، ودعوة له إلى التشبث بوجوده، وفى ذلك ما يحمله على اللّجأ إلى الله، والولاء له، والتعلق بذاته، حتى لا يقع تحت هذا الحكم الذي يكاد يذهب به مذهب الضياع والفناء.
وهؤلاء الآخرون.. على أية صفة يكونون؟ أهم ناس كهؤلاء الناس، أم مخلوقات من أجناس أخرى من غير جنسهم؟(3/925)
وإذا كان هؤلاء الآخرون هم صورة أخرى لهؤلاء الناس، فما الحكمة من إذهاب هؤلاء والإتيان بأولئك؟
والجواب- والله أعلم- هو أن يكون هؤلاء الآخرون من عالم الناس..
فهذا هو الذي يحرك مشاعر الغيرة فى هؤلاء الذين يراد بهم التحول عن مكانهم ليشغله غيرهم من بنى جنسهم، حيث لا تكون الغيرة والتنافس إلا بين أفراد الجنس، وبين جماعاته.
ثم إن الناس ليسوا على حال واحدة- وإن كانوا جنسا واحدا- فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، وفيهم المهتدون وفيهم الضالون..
وعلى هذا يمكن أن يكون الإذهاب للضالين الكافرين، والإتيان للمؤمنين المهتدين، أو لمن يغلب فيهم الإيمان والهدى على الكفر والضلال.
وقوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» هو دعوة لأولئك الذين يقيمون وجودهم كله على هذه الحياة الدنيا، فلا يلتفتون إلى أمر الآخرة، ولا يعملون لها، وبهذا يضيّقون على أنفسهم، ويحجزونها فى هذه الدائرة المحدودة، مع أنهم- لو عقلوا- لملئوا أيديهم من خير الدنيا والآخرة جميعا.. إذ ليس بين الدنيا والآخرة تعارض وتنافر.. فالدنيا- فى حقيقتها- مزرعة للآخرة، وإحسان العمل فى الدنيا، وإقامته على وجه صحيح مثمر، هو فى ذاته عمل للآخرة.
قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً» أي أنه سبحانه وتعالى مطّلع على أعمال العباد، يسمع ما يقولون، ويبصر ما يعملون، فما كان من أعمالهم وأقوالهم خالصا للدنيا وحدها، فقد استوفوا حظهم منه، ولا نصيب لهم فى الآخرة.. وما كان منها للدنيا والآخرة معا، كان لهم منه نصيب فى الدنيا وفى الآخرة.. أما نصيب(3/926)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
الدنيا فقد استوفوه وهم فيها، وأما ما كان للآخرة فهو مدّخر لهم عند الله يجزون به يوم لقائه.
الآية: (135) [سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
التفسير: المؤمنون هم أمناء الله بين الناس على دينه، وهم ميزان العدل لشريعته، فإذا اضطرب ميزان العدل فى أيديهم، فقد خانوا دين الله، واعتدوا على شريعته، ولم يصبحوا- لذلك- أهلا لأن يكونوا أولياء الله، ولا أن يحسبوا فى المؤمنين به.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» هو أمر ملزم للمؤمنين جميعا.. فردا فردا، وجماعة جماعة، وأمة أمة..
والقسط هو العدل. والقسطاس: الميزان، وأقسط القاضي: عدل، وقسط جار وظلم.. والقوّام: كثير القيام، فى مبالغة واهتمام.
وفى قوله تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» ما يشعر بأن حمل أمانة العدل ليس أمرا هينا، وإنما هو حمل ثقيل، لا يقوى عليه إلّا من وثق إيمانه بالله، وأخلى نفسه من نوازع الضعف المادية والمعنوية، فلا يجعل لنفسه أو لمخلوق حسابا فى أداء هذه الأمانة وإقامة ميزانها مستقيما على ما أمر الله به..
وكلمة «قوامين» غير كلمة «قائمين» .. لأنها تشعر بالشدّ والجذب(3/927)
والمعاناة، فى لفظها، وفى معناها، المستدلّ عليه من هذا اللفظ:
«قوامين» ! والشهداء، هم الشهود، الذين يحضرون مجلس القضاء، ويشهدون الفصل فى الخصومة، ويدلون بما شهدوه وأشهدوا عليه بين المتخاصمين..
فميزان العدل لا يقيمه القاضي وحده، وإنما يد الشهود ممسكة بهذا الميزان، مشتركة مع القاضي فى إقامته معتدلا أو مائلا.. ولهذا كان أمر الله هنا بإقامة ميزان العدل، متجها إلى القاضي، وإلى الشهود معا: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» ..
وفى إضافة الشهادة إلى الله تكريم لها، واحتفاء بها، ورفع لقدرها، إذ كانت محسوبة على الله، لأنها تقيم شرعه، وتحق الحقّ الذي هو حرمة الله.
فالذى يؤدى الشهادة على وجهها إنما يؤديها لله، وينصر بها حق الله، والذي ينحرف بها، ويشوّه وجهها، إنما هو معتد على الله، خائن لأمانته.
قوله تعالى: «وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ولو كانت الشهادة تدين أنفسكم، وتلحق الضرر بكم.. فحق الله عليكم أوجب من حق أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله، وتؤثرون مرضاته! وقوله سبحانه: «أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» معطوف على قوله تعالى:
«وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ولو كان فى ذلك إدانة لكم أو لوالديكم، أو للأقربين منكم.
وقوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما» أي أدّوا الشهادة على وجهها، وأقيموا ميزان العدل منها، دون حيف على الفقير لفقره وضعفه، ودون عدوان على الغنى لصالح الفقير ودفع الضرر عنه.. فالحق هو(3/928)
الحق، وفى ساحته يتساوى الناس جميعا، دون نظر إلى ما يتلبّس بهم من ظروف وأحوال..
والضمير فى قوله تعالى «إِنْ يَكُنْ» يرجع إلى المشهود له والمحكوم لصالحه من المتنازعين، ممن كان غناه أو فقره محل تقدير الشاهد، وانحراف شهادته، أو كان محل نظر القاضي وموضع عطفه.. والمعنى: إن يكن المشهود له أو المحكوم لصالحه غنيا أو فقيرا، فليس من شأنكم أيها الشهود ولا من حقكم أيها القضاة أن تدخلوا هذا فى حسابكم، وأن تترضّوا عواطفكم على حساب الحق والعدل.. لأن الله سبحانه وتعالى هو أولى منكم بتقدير حال كل من الغنى والفقير، إذ لو شاء لأفقر الغنىّ وأغنى الفقير، أو شاء لأعناهما جميعا أو لأفقرهما معا..
وقوله تعالى: «فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا» هو تحذير من تلك الأهواء والعواطف التي يجدها القاضي أو الشاهد، لذوى قرابته، وأصدقائه، أو لأصحاب الجاه والسلطان، أو لأهل الحاجة والضر.. فهذه العواطف من شأنها أن تنحرف بالشاهد عن أن يؤدى الشهادة على وجهها، كما أنها تمسك يد القاضي أن يقيم ميزان العدل فى مجلس القضاء، إن لم يقم عليها وازع من دين وخلق.
وقوله تعالى: «أَنْ تَعْدِلُوا» فى تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، والتقدير:
فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي لإقامة العدل لا تتبعوا الهوى.
قوله تعالى: «وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» اللّيّ: الميل والانحراف، والمراد به تغيير وجه الشهادة، يقال: لوى فلان وجهه عن الشيء يلويه ليا إذا نظر إليه مزورا أو منحرفا، ومنه قوله تعالى فى اليهود وفى تحريفهم الكلم عن مواضعه: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ» (46: النساء) (59- التفسير القرآنى ج 5)(3/929)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
وفى الآية الكريمة تحذير من الانحراف بالشهادة، أو الإعراض عنها، أو كتمانها، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» (282: البقرة) .
الآية: (136) [سورة النساء (4) : آية 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
التفسير: الإيمان.. كلّ لا يتجزأ.. وحقيقة كبرى تندرج تحتها حقائق.. فمن آمن ببعض وكفر ببعض فليس مؤمنا، وإلا لو كان مؤمنا حقا بهذا الذي آمن به، لأسلمه إيمانه هذا، إلى الإيمان بما لم يؤمن به من جزئيات الحقيقة الكبرى.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هو نداء لمن دخلوا فى الإيمان، وحسبوا فى المؤمنين..
وإنه لكى يكونوا مؤمنين حقّا ينبغى أن يكون إيمانهم قائما على الحقائق الآتية:
أولها: الإيمان بالله.. فهو ركيزة الإيمان، ودعامته..
وثانيها: الإيمان برسول الله، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب الذي بين يديه، وهو القرآن.
وثالثها: الإيمان بالكتب السماوية المنزلة من قبل، وبرسل الله جميعا.(3/930)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
ورابعها: الإيمان بالملائكة، وأنهم خلق من خلق الله، وجند من جنده.
وخامسها: الإيمان باليوم الآخر.. أي بالبعث والجزاء والجنة والنار.. فمن آمن على هذا الإيمان، فهو مؤمن حقّا، وعليه أن يعمل عمل المؤمنين، وله أن يجازى جزاء المحسنين.
ومن كفر ببعض تلك الحقائق وآمن ببعض، فهو- كما قلنا- ليس من الإيمان فى شىء، لأن ما يبنيه أولا يهدمه ثانيا.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (150- 151: النساء)
الآيات: (137- 139) [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 139]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)(3/931)
التفسير: النفاق أقتل داء يصيب المجتمع الإنسانى.. فإذا تفشّى هذا الداء الخبيث فى جماعة من الجماعات فسد وجودها، وضل سعيها، وغشيتها أمواج الفتن، واشتملت عليها عواصف العداوة والبغضاء! وماذا يرجى من جماعة تتعامل فيها بينها بالرياء والنفاق، فيضيع فى محيطها المفهوم الحقيقي للّغة، وتصبح الكلمات لديها عملة زائفة، يتداولها الناس كما يتداولون الأشياء المسروقة؟
وكيف الحياة لمجتمع يعيش على الختل والخداع، ويغتذى من مادة الكذب والزور..
فلا يثق أحد فى أحد، ولا يأمن أحدا أحدا، ولا يفرق أحد بين ما هو حق أو باطل.. إن حياة النفاق تقتل فى الإنسان كل معانى الشرف والفضيلة.
وتحلّه من كل ارتباط مع مبدأ أو خلق.. فهو أنانىّ، انتهازىّ.. يضحى بالناس جميعا فى سبيل مصلحته وسلامته..
من أجل هذا، وكثير غيره مما ينضح به النفاق من شر وبلاء- حارب الإسلام النفاق والمنافقين، وعمل على تطهير المجتمع الإسلامى وحمايته من هذا الداء الخبيث، الذي هو شر ما يبتلى به إنسان أو مجتمع.
وقد فضح القرآن الكريم المنافقين، الذين اندسوا فى المجتمع الإسلامى، فأغرى المسلمين بهم، ليخرجوهم من بينهم، وليتجنبوا الاتصال بهم، والتعامل معهم..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً..»
- ما يكشف عن الأسلوب الذي يتّبعه المنافقون فى الحياة، مع كل أمر،(3/932)
وفى كل موقف.. إنهم لا يستقيمون مع حال أبدا، وإنما حوّل قلب، حسب ما تمليه أهواؤهم، وتدعوهم إليه مصلحتهم.. فتراهم يأخذون بالأمر غدوة، ثم يرفضونه عشيّة، ثم يعودون فيأخذون به.. ثم يعرضون عنه..
وهكذا.. لأنهم لا يقيمون حكمهم على الأشياء لذاتها، وما تحمل فى كيانها من خير أو شر، وإنما يحكمون عليها حسب ما تمليه أهواؤهم، وتقتضيه حاجاتهم العاجلة منها..
وفى العقيدة، التي من شأنها أن تقوم فى كيان الإنسان مقاما راسخا، لا يتحول، ولا يهتزّ- تراهم يتعاملون بها وكأنها سلعة فى أيديهم، لا معتقد فى قلوبهم.. فيعرضونها للبيع، ويضعونها فى يد من يدفع ثمنا أكثر..
وانظر ما كان منهم مع دعوة الإسلام..
كانوا كافرين، فرأوا الناس يردون شرعة الإيمان، فآمنوا..
ثم رأوا سانحة تسنح لهم وراء حدود الإيمان، فتسللوا من بين صفوف المؤمنين، وخلعوا رداء الإيمان.. فكفروا.
ثم لاح لهم فى مستقبل الإيمان مغنم يغنمونه.. فآمنوا.
ثم لما أن حصلوا على ما أرادوا، ولمع لهم سراب وراء أفق الإيمان، أقبلوا إليه، وخلّفوا الإيمان وراءهم.. فكفروا.
ثم..
ثم ازدادوا كفرا.. إذ لم يبق هذا الجري اللّاهث فى ترددهم بين الإيمان والكفر- لم يبق لهم بقيّة من جهد يعودون به إلى الإيمان مرة أخرى..
وبهذا ينتهى أمرهم فى آخر المطاف بهم، إلى الارتماء فى أحضان الكفر.. الذي(3/933)
يموتون عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» .
فهذا تيئيس من مغفرة الله لهم، لأنهم لن يؤمنوا أبدا.. فهم بهذا واقعون تحت قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» ! ثم إنهم إذ لم ينالوا مغفرة الله، ولم يتعرضوا لها، متركون لشأنهم وما اختاروا، وقد اختاروا الضلال، واستحبّوا العمى، واتخذوا الشيطان وليّا من دون الله. «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» (119: النساء) .. فهم بهذا واقعون تحت قول الله تعالى:
«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (257: البقرة) .. إنّهم أولياء الطاغوت.
هذا، وفى الآية الكريمة ما يكشف عن طبيعة الصراع بين الخير والشر، وأن داعى الشرّ فى الإنسان أكثر إلحاحا من داعى الخير، إذ كان مع الشر قوى خفيّة فى الإنسان تميل إليه، وتنتصر له، وهى أهواء النفس، ووساوس الشيطان.. فإذا لم ينتبه الإنسان إلى هذا الخطر الكامن فى كيانه، وإذا لم يقم على أهوائه حارسا من عقله وإرادته، ووازعا من دينه وخلقه، تسلّط الشر عليه، واستبدّ به، وملك أمره..
ولو أن هؤلاء الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا- لو أنهم وقفوا وقفة حازمة من أول الأمر فى وجه تلك الأهواء المسلطة عليهم، لما جرفهم هذا التيار الذي ألقى بهم فى غمرات الكفر والضلال، بحيث لا أمل لهم بعد هذا فى نجاة أو خلاص!.(3/934)
وقوله تعالى: «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» هو كشف صريح لوجه هؤلاء الذين تردّدوا بين الإيمان والكفر.. فهم منافقون، وليس للمنافقين إلا العذاب الأليم..
وفى سوق العذاب الأليم إلى المنافقين بين يدى من يبشرهم به، ما يشير إلى شناعة موقف هؤلاء المنافقين وشؤم مصيرهم، وأنه إذا كان لهم ما يبشرون به فى الآخرة فهو هذا العذاب الأليم! فكيف ما يساءون به من ألوان المساءات، وهو شىء كثير شنيع.؟
وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» هو صفة كاشفة لوجه من وجوه المنافقين، ذلك الوجه الذي يلقون به الكافرين فى ولاء ومودة.. وهذا يعنى أنهم على عداوة للمؤمنين، إذ أقاموا مع عدوّهم حلفا عليهم، يتمثل فى هذا اللقاء الودىّ بينهم وبين الكافرين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (22: المجادلة) .
ولكن هكذا المنافق، لا يمسكه مبدأ من خلق أو دين، وإنما تحركه أهواؤه، وتدفعه نزواته إلى الاتجاه الذي يتظنّى أن يجد فيه لقمة سائغة له! وفى قوله تعالى: «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ» ما يكشف عن الغاية التي يتغيّونها من تعلقهم بحبال الكافرين، واستظلالهم بظلهم.. إنهم يريدون أن يستندوا إليهم، ويحتموا بجبهتهم، إذ خيّل إليهم أن جانب الكافرين هو القوىّ، بما فيهم من كثرة عدد، ومن سعة غنى، على حين كان المسلمون فى قلة من الرجال والأموال.(3/935)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
والاستفهام هنا إنكارى تهديدى، يكشف للمنافقين سوء تقديرهم، وخسارة صفقتهم التي عقدوها مع الكافرين..
«فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» .. وإن أخسر الناس صفقة، من أراد العزة فاتخذ غير الله طريقا إليها، وغير المؤمنين أولياء له فى طلبها.. إن العزة لله جميعا، وإن العزة لأولياء الله، ولمن والى أولياء الله.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» (8: المنافقون) .
الآية: (140) [سورة النساء (4) : آية 140]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
التفسير: للنفاق مداخل كثيرة إلى القلوب، فهو يتدسّس إلى الإنسان فى خفاء، ويتحسس مواطن الضعف منه فينفذ إليها، حتى يتمكن منها، وإذا المرء وقد عشش فيه النفاق، ثم باض وأفرخ، وإذا هو فى المنافقين، لا يملك دفع هذا الداء الذي جثم على صدره.
لهذا كان الإسلام حريصا على أن ينبّه المسلمين إلى هذا الخطر، ويحذّرهم من أن يلمّوا به، أو يحوموا حوله، حتى لا تصيبهم عدواه، فيتعذر شفاؤهم منه..(3/936)
وفى طبّ الأجسام، أنّ الوقاية خير من العلاج، وهى فى طبّ الأرواح أوجب وألزم.
وقوله تعالى: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» - هو تنبيه للمسلمين من داء النفاق أن ينفذ إليهم إذا هم جلسوا مجلسا مع أعداء الله من المنافقين الكافرين، ثم ذكرت فى هذا المجلس آيات الله على لسان هؤلاء المنافقين الكافرين، فى معرض الاستهزاء والسخرية، ثم لم يكن من المسلمين إنكار لهذا المنكر ودفع له باليد أو اللسان- وذلك بأن يكونوا فى حال ضعف لا يقدرون معه على مواجهة هؤلاء المجتمعين على المنكر.!
والموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن فى تلك الحال هو أن يخلص بنفسه من هذا المجلس الآثم، وألّا يستمع لهذا المنكر الذي يدور فيه.. فإنه إن لم يفعل، وسكت على ما يسمع- وهو مغلوب على أمره- كان صمته هذا- ولو فى ظاهره- دليلا على رضاه، ومظاهرة لأهل المنكر على منكرهم، وليس- والحال كذلك- من شفيع يشفع له بأنه ليس من أهل هذا المجلس، يقتسم معهم الإثم الذي يدور بينهم، ويحمل نصيبه منه..
وفى قوله تعالى: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» إشارة إلى ما نزل قبل هذا من قرآن فى مثل هذا الموقف، وهو قوله تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» (68: الأنعام) .(3/937)
فهذه الآية هى توكيد لهذا التنبيه الذي سبق نزول القرآن به من قبل، وتحذير جديد لأولئك الذين لم ينتهوا عمّا نهوا عنه، والخطاب فى الآية موجّه إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، هو أمر ملزم لأتباع النبىّ، إذ كان النبيّ إمامهم وقدوتهم.
وقوله تعالى: «يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها» هو حال كاشفة للصفة التي تدور بها آيات الله على ألسنة الكافرين والمنافقين.. وهى أنها تدور للسخرية والعبث.
وقوله تعالى: «فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» هو نهى للمسلمين عن الجلوس فى هذا المجلس القائم على تلك الصفة، وليس نهيا عاما مطلقا على تجنب الجلوس مع المنافقين والكافرين، ففى ذلك إعنات للمؤمنين، فقد تستدعى أحوالهم أن يكونوا بحيث لا منصرف لهم عن الحياة مع هذه الجماعة، وتبادل المنافع معها! على أن من السلامة لدين المؤمن أن يتجنب مجالس هؤلاء القوم ما استطاع، فإذا مسّت هذه المجالس دينه بما يسوء، كان أمرا لازما عليه أن يتحول عن هذه المجالس فى الحال، ولا يخلط نفسه بها، وإلّا حمل وزره من الإثم الذي يتعاطاه فيها أهل النفاق والكفر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» أي لا فرق بينكم أيها المؤمنون وبين هؤلاء الأثمة، الذين يهزءون بآيات الله ويسخرون منها، إذا أنتم استمتعتم إلى هذا المنكر ولم تنكروه..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» تهديد ووعيد بهذا المصير المشئوم الذي ينتظر الكافرين والمنافقين، ومن يلوذ بالكافرين والمنافقين، ويركن إليهم، ويستمع للزور الذي يدور بينهم.(3/938)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
الآية: (141) [سورة النساء (4) : آية 141]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
التفسير: وجه آخر من وجوه النفاق.. وما أكثرها..
فإنه حين يكون بين المؤمنين والكافرين قتال، يأخذ المنافقون موقفا بين هؤلاء وهؤلاء.. ولو استطاع الواحد منهم أن يقسم نفسه شطرين لفعل، فكان شطرا مع المؤمنين، وشطرا مع الكافرين.. فإذا انتصر المؤمنون عدّ نفسه فيهم، وأخذ نصيبه من الغنائم معهم.. وإذا كانت الدولة للكافرين حسب نفسه منهم، وجنى من ثمرة النصر ما يجنون! ولكن ثوب النفاق يفضح أهله، حيث يخيّل للابسه أنه مستور، ولكنه فى أعين الناس متجرد عار، مكشوف السوأة.
وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ» إشارة كاشفة لموقف المنافقين، وهو موقف التربص والانتظار لما ينجلى عنه الموقف فيما يدور بين المؤمنين والكافرين من صراع.
وقوله تعالى: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» هو فضح لهذا الوجه الوقاح الذي يستقبل به المنافقون المؤمنين بعد النصر والغلب.. فلقد كانوا فى المؤمنين بأجسادهم، يمشون بها فى تثاقل وانحراف، والحرب دائرة، والقتال مستعر، وها هم أولاء يضيفون أنفسهم إليهم.(3/939)
وفى إضافة الفتح إلى الله، تذكير للمؤمنين بأن ما كان لهم من نصر فهو من عند الله، بتأييده للمؤمنين، وإلقاء الرعب فى قلوب الكافرين.
وفى تسمية انتصار المؤمنين فتحا إشارة إلى أن هذا النصر هو فتح لمغالق الخير، وطرق الهدى.
وقوله تعالى: «وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» كشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين حين يلقون به الكافرين، وقد كانت لهم جولة على المسلمين..
يقولون لهم: «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ» أي ألم نستول عليكم فى المعركة ونملك أمركم؟ ولكنا تخاذلنا، وأرخينا أيدينا عنكم، فتخاذل المسلمون وانهزموا؟
ولولا أننا لم نفعل ذلك لدارت الدائرة عليكم.. فنحن شركاؤكم فى هذا النصر الذي كان لكم، بل الذي نحن صانعوه لكم! والاستحواز على الشيء، وعلى الأمر: التمكن منه، والتسلط عليه..
وقوله تعالى: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. الضمير فى بينكم يعود إلى المؤمنين، المخاطبين بهذه الآية، وقد يكون مرادا به المؤمنون والكافرون والمنافقون، والتقدير: فالله يحكم بينكم جميعا.. أو يكون مقصورا على المؤمنين وحدهم، والتقدير: فالله يحكم بينكم وبينهم. ولم يذكر المنافقون والكافرون هنا فى هذا المقام إشعارا بأنهم ليسوا أهلا لأن يكون لهم وزن فى هذا الشأن، الذي هو شأن المؤمنين وحدهم، وقضيتهم التي يراد لهم الفصل فيها، لأنهم هم أصحاب هذا اليوم- يوم الفصل- حيث يجنون أطيب ما فيه من ثمرات! وقوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» هو وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين- إذا صدق إيمانهم- ألا(3/940)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
تكون للكافرين يد عليهم، بل إن يد المؤمنين هى العليا دائما، ويد الكافرين السفلى أبدا..
الآيتان: (142- 143) [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
التفسير: جناية المنافقين على أنفسهم جناية فادحة.. إذ يعيشون بهذا الداء، ولا يجدون له فى أنفسهم ألما، ولا يحسون له فى ضمائرهم وخزا، ومن ثمّ كان داؤهم هذا داء عصىّ الدواء، إذ كيف يطلب الدواء من لا يعرف الداء ولا يجد له ألما؟ ذلك أخبث داء وأقتل علّة.. حيث يأخذ هذا الداء من كيان صاحبه كل يوم بضعة، وتغتال هذه العلة من وجوده جانبا، دون أن يحسّ أو يشعر حتى إذا جاء يوم استفاق فيه من سكرته، وجد الداء مستوليا عليه، ولا مكان للإنسان فيه!.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ»
إذ هم يحسبون أنهم بهذه الأثواب التنكرية التي يلبسونها فى أحوالهم المختلفة- قد خدعوا الله وخدعوا الناس.. وفى الحقيقة أنهم قد خدعوا أنفسهم، وأضلّوها عن سواء السبيل، وركبوا بها هذا المركب الذي يقذف بهم فى قرار الجحيم..(3/941)
وفى المنافقين يقول الله سبحانه: «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (9: البقرة) وخداع الله سبحانه للمنافقين هو أن يفسد عليهم تدبيرهم، وأن يردّ كيدهم إليهم، وأن يخلّيهم لأنفسهم، ويأخذهم بجريرتهم.. «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» (43: فاطر) وقوله تعالى: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى»
هو مثل لمخادعتهم لله.. يقومون إلى الصلاة فى تكرّه وتخاذل، لأنهم لا يريدون الصلاة للصلاة، ولا يؤدونها أداء لحق الله، وشكرا لنعمائه، وإنما هم يؤدونها حتى يدفعوا بهذا الأداء الآلىّ تهمة الكفر، وحتى تكون أشبه بذرّ الرماد فى العيون. وهذا ما بيّنه قوله تعالى: «يُراؤُنَ النَّاسَ»
أي لا يذكرون الله إلا حيث يرون الناس ويراهم الناس.. فالمراءات، رؤبة متبادلة بين طرفين، كل منهما يرى الآخر.. وهذا يعنى أن المنافقين لا يصلّون إلّا حين يرون الناس، وإلا حين يراهم الناس وهم فى الصلاة، فإن كان فى الناس غفلة عنهم، لفتوهم إليهم بحركة أو إشارة، أو رفع صوت، أو نحو هذا.
وقوله تعالى: «وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»
إشارة إلى خلوّ أنفسهم من مشاعر الإيمان بالله واستحضار عظمته وجلاله..!
والذكر القليل الذين يذكرون الله به، هو ما يكون منهم حين تلمّ بهم الأحداث، أو تكربهم الكروب، فإذا انجلى عنهم هذا الذي نزل بهم، عادوا إلى ما كانوا فيه من غفلة عن الله، وذهول عن ذكره، بما هم فيه من شغل بأنفسهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ(3/942)
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ»
(8: الزمر) .
وقوله تعالى: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» هو بيان كاشف للحياة التي يحياها المنافقون، وأنها حياة قلقة مضطربة، لا تقوم على مبدأ، ولا تستقيم على طريق..
والذبذبة الاضطراب، والتردد، بين موقفين أو أكثر.. وكأنها مشتقة من الذّبّ، وهو الدفع والطرد، ومنه سمّى الذباب، لأنه يطرد، ثم يعود، ثم يطرد، ثم يعود، وهكذا..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» هو تيئيس لهؤلاء المنافقين، الذين تقلّبوا فى وجوه النفاق، ففسد وجودهم كلّه، ولم يعودوا صالحين للعودة إلى الطبيعة البشرية السليمة.. فلا سبيل لهم- والأمر كذلك- إلى الخلاص من هذا الداء الذي تمكن منهم! ثم إن هذا الحكم هو تنبيه إلى هؤلاء الذين هم على شاطىء النفاق، وفى أول الطريق إليه.. وأنهم إذا لم يلتفتوا إلى أنفسهم، ويحذروا الخطر الذي هم بين يديه، اشتمل عليهم واحتوى وجودهم، ولحقوا بمن سبقهم من المنافقين! وإضلال الله للمنافقين، إنما كانت نسبته إلى الله، لأنه أشبه بتصديق على حكم أصدروه هم على أنفسهم، وصنعوا بأيديهم حيثياته وأدلّته..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
(33: النحل) .(3/943)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
الآيات: (144- 147) [سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
التفسير: وإنه بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى للمؤمنين هذه الوجوه المنكرة للمنافقين وأطلعهم على هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.. فقد جاء سبحانه وتعالى إلى المؤمنين يحذّرهم هؤلاء المنافقين، حتى لا يصيبهم ما أصابهم وسيصيبهم من ذلة وهوان فى الدنيا، وعذاب ونكال فى الآخرة.
وموالاة المنافقين، والميل إليهم، هو فى الواقع معاداة للمؤمنين ومجافاة لهم.. وهذا من شأنه أن يخلط المؤمنين الذين يوالون المنافقين بأهل النفاق، ويضيفهم إليهم، وهذا من شأنه أيضا أن يعرضّهم لما تعرض له المنافقون من سخط الله ونقمته، دون أن تكون لهم عند الله حجة، أو يقوم لهم بين يدى عذابه ونقمته عذر يعتذرون به! وقوله تعالى: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» هو كشف للمؤمنين عن هول هذا العذاب الذي يلاقيه المنافقون، وأنهم فى الدرك لأسفل من النار، ينزلون منها للنزل الدّون، الذي بعده منزلة، الأئمة والكافرين! وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» هو استثناء يفتح به باب الأمل والرجاء فى النجاة من هذا المصير، لمن بقيت منه فى كيان المنافقين بقية من خير، يستطيع(3/944)
بها أن يفتح له طاقة من نور يهتدى بها إلى طريق الله، فيرجع إليه، ويؤمن به، ويخلص دينه له، فلا يرجع إلى ما كان فيه مرة أخرى.. فإنه إن فعل كان فى المؤمنين، وكان له ما للمؤمنين من الأجر العظيم الذي وعدهم الله به: «وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» .
وقوله تعالى: «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ» إشارة إلى ما للناس عند الله من واسع الرحمة وعظيم المغفرة، وأنه سبحانه وتعالى ليس إلها متسلطا جبارا يتشفىّ بعذاب عباده.. وكيف هذا وهم صنعة يده، وزرع مشيئته، وغذىّ فضله وإحسانه؟
إنه- سبحانه- يدعو عباده إليه، وييسر لهم سبل الاتصال به، والقرب منه، ولكن من غلبت عليه شقوته منهم- يأبى إلا أن يشرد عن الله، ثم يتمادى فى هذا الشرود، فيحارب الله، ويحارب أولياءه، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل! فإذا أخذ هؤلاء الشاردون عن الله، المحاربون له، بذنوبهم، وسيقوا إلى عذاب جهنم- فهل ذلك إلا لأنهم أساءوا فوقعوا تحت حكم المسيئين؟ .. ولو أنهم أحسنوا لكان لهم جزاء المحسنين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) وفى تقديم الشكر على الإيمان هنا.. «إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ» إشعار بأن الإيمان لا يقوم إلا على مشاعر الولاء لله، ذلك الولاء الذي يتخلّق من النظر فى ملكوت السموات والأرض، ومن التدبر فى آيات الله المبثوثة فى كل ذرة من ذرات الوجود.. وهنا يجد العبد نفسه وقد صار لسانا شاكرا لله مسبحا بحمده.
فالشكر هو المدخل الذي يجد فيه الإنسان طريقه إلى الله، والتعرف إليه..
ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى الله قائمة أولا على النظر إلى هذا الوجود، (م 60- التفسير القرآنى ج 6)(3/945)
وإلى ما فيه من موجودات، ينتظمها نظام، وتمسك بها قدرة، ويدبرها علم..
ثم نسبة هذا الوجود وما اشتمل عليه، إلى الصانع الذي صنعه، فأبدع صنعته، وأحكم وجوده.. وبهذا تتفتح الطرق إلى الله، حيث يسلكها الإنسان، متجها إلى الله فى خشوع وولاء، وفى لهج بالحمد والثناء.. ومن هنا قام الشكر مقام الإيمان، واعتبر فى ذاته إيمانا كاملا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (7: الزمر) أي وإن تؤمنوا يرضه- أي يرضى الإيمان- لكم، ويتقبله منكم.
قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» .
وشكر الله، هو رضاه عن الأعمال الصالحة التي يقدمها عباده له، فيقبلها منهم، ويحسن لهم المثوبة، ويضاعف لهم الجزاء عليها.(3/946)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
الآيتان: (148- 149) [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
التفسير: ليس داء أقتل للمجتمعات، ولا وباء أفسد لكيانها، وأفعل فى تقويض بنيانها- من الفاحشة، تنجم فيها، ثم تتردد أصداؤها فى آفاقها، وتنطلق أشباحها بين ربوعها، دون أن تجد فى الناس من يتصدّى لها، ويقف فى وجهها، ويدمدم على تلك الينابيع العفنة التي تتدفق منها..
فكلمة السوء تنطلق من فم سفيه، ثم تجد المرعى الخطيب فى آذان تستقبلها وقلوب تتفتّح لها، وأفواه ترددها- هذه الكلمة هى لعنة تلبس كل من أخذها، وتعامل بها..
وفعلة السوء.. هى كلمة السوء مجسّدة.. يلقاها الناس بعيونهم، على حين يلقون الكلمة بآذانهم..
والناس هم الذين يفسحون لكلمات السوء، وفعلات السوء مكانا بينهم، فتتوالد فيهم وتتكائر، وتصبح بعض وجودهم، وقد تستولى يوما على وجودهم كله.. ذلك حين يستقبلونها، ولا ينكرون ولا يضربون على أيدى المتعاملين بها.
والناس- كذلك- هم الذين يئدون كلمات السوء فى مهدها، ويخنقونها قبل أن تتنفس أنفاس الحياة فى أجوائهم.. إذا هم أنكروها، وأنكروا أصحابها فيهم، وأخذوهم بالأدب الذي يردعهم ويردّهم عما هم فيه من ضلال!(3/947)
وفى أثر القدوة الحسنة، والقدوة السيئة، فى بناء المجتمع، أو هدمه، يذيع النبىّ الكريم هذا الهدى الرباني، ليكون دستورا يعيش فيه الناس، وميزانا يضبطون عليه مناهجهم فى القول والعمل.. يقول الرسول الكريم: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» ..
وصدق رسول الله، الذي حلّاه ربه بهذا الوصف الكريم: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (2- 3: النجم) .
فكم كلمة سوء، يرمى بها- عن قصد أو غفلة- فإذا هى شرر متطاير، بين يدى ريح عاصفة، يعلق بأذيال حصيد هشيم، ثم لا تلبث حتى تصير لهيبا يلتهم كل شىء، ويأتى على كل شىء! أتريد شاهدا لهذا؟ إليك إذن هذه الكلمة:
«لا حكم إلا لله» .
إنها من الكلمات القليلة التي دارت فى الحياة دورة كانت أشبه بإعصار مجنون، لفّ الناس تحت جناحه، ثم ألقى بهم من حالق، فإذا هم فى وجه فتنة عمياء، أهلكت الحرث والنسل..
وليس فى الكلمة علوّ فى البلاغة، ولا بدع فى الصياغة، ولا طرافة فى الأداء، بل هى فى تركيبها أقرب إلى المألوف الدارج من الكلام، منها إلى الطريف النادر! ثم إنها من جهة أخرى- ليست من الكلمات التي تخدش الحياء، أو تمسّ الدين.. بل هى- فى ظاهرها- كلمة حق، يمكن أن تكون على لسان العابدين المسبّحين!(3/948)
ومع هذا، فإن تلك الكلمة كانت أشأم كلمة ولدت فى الإسلام، وجرت على ألسنة المسلمين.!
والتاريخ المعروف لميلاد تلك الكلمة، هو السنة السابعة والثلاثون من الهجرة، حين تمّ التصالح بين علىّ ومعاوية على التحكيم، بعد أن ذهبت الحرب بينهما فى صفّين بألوف الأرواح من المسلمين..
وقد تكون هذه الكلمة جرت على ألسنة كثيرة قبل هذا التاريخ، ولكنها لم تكن تعيش طويلا، أو تتحرك فى مجال أكثر من دائرة الشخص الذي نطق بها.
أما ظهورها فى هذه المرة، وفى هذا الوقت الذي سمعت فيه، فقد كان- كما قلنا- ظهورا مدويّا، ملأ الأسماع، وهزّ المشاعر، وأثار البلبلة والاضطراب.. ثم الحرب والقتال! والسرّ فى هذا، هو أنها جاءت فى وقتها، وظهرت فى الحال الداعية إليها، فوقعت من كثير من النفوس موقع الغريق يتعلق بأى شىء يقع ليده، ولو كان مخلب أسد، أو ناب ثعبان! هكذا الكلمات والعبارات، تكبر قيمتها ويعظم خطرها، حين تكون الحاجة إليها داعية، والنفوس لها طالبة، دون نظر أو اعتبار لها فى ذاتها، وفى حلاوة جرسها، وبراعة تركيبها، وغزارة معانيها..
إن لقمة، خشنة، جافة، تجىء على جوع، هى أشهى وأغلى من، مائدة جمعت ليّن الطعام وطيّبه، تجىء على شبع وامتلاء! وقد جاءت هذه الكلمة «لا حكم إلا لله» إلى نفوس حائرة، فكانت دليلها، وقلوب مضطربة، فكانت أمنها وسكنها.(3/949)
كان هناك مئات وألوف من أصحاب «علىّ» كرم الله وجهه، حاربوا معه ابتغاء مرضاة الله، وهيئوا أنفسهم للاستشهاد فى سبيل الله، ولردّ الفئة الباغية إلى طريق الحق الذي شردت عنه.
ثم ها هم أولاء يرون دعوة إلى وقف القتال، وإلى الاحتكام إلى كتاب الله! ففيم كان القتال إذن؟ وما ثمن هذه الأرواح التي ذهبت؟ وتلك الدماء الغزيرة التي أريقت؟
كان كثير من أصحاب علىّ فى حيرة من أمرهم فى هذا الموقف، لا يدرون كيف يجدون الجواب على تلك الأسئلة المحيّرة التي تدور فى صدورهم..
وقد خطبهم الإمام «على» وأرضى الكثير منهم بمنطقه وبلاغته، ولكن كثيرا منهم كان داء الحيرة عندهم أكبر من أن تذهب به بلاغة، الإمام ومنطقه! ولهذا، فإنه ما إن هتف الهاتف بهذه الكلمة العابرة الطائرة: (لا حكم إلا لله) ، حتى لقفتها الآذان، وتنادت بها الألسنة، وإذا هى راية يجتمع عليها جيش كان قد سقطت رايته، ووقع الاضطراب فى صفوفه! لقد كانت هذه الكلمة هى «المبدأ» الذي اجتمع عليه الخوارج، وهى الراية التي قاتلوا تحتها، وهى السّمة التي كانت حجازا بينهم وبين الجماعة الإسلامية..
وأحسب أنه لولا هذه الكلمة ما استمسك أمر الخوارج، ولا انتظم شملهم، ولا اجتمعت أشتاتهم المتفرقة.. بل لظلّوا هكذا أفرادا، كلّ فرد منهم يحمل همّه فى نفسه، ويعالج حيرته بالأسلوب الذي يتهيأ له.. ولكن هذه الكلمة كانت أشبه بشعلة من نار ارتفعت فى الصحراء، فى ليلة حالكة السواد، فاجتمع عليها كل ضال، وجاء إليها كل تائه..(3/950)
إن الكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم، ثم يذوب صداه فى أمواج الأثير..!
بل إن الكلمة رسول مبين إلى الناس، يهتف بهم إلى العمل، ويدعوهم إلى الوجه الذي يريدهم عليه..
وما رسالات السماء، وما دعوات الرسل.. إلا كلمات.. تحمل الخير والهدى، فتثمر ما شاء الله أن تثمر من خير وهدى..
والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» (24- 27: إبراهيم) وفى قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» - أمور.. منها:
أولا: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» .
ما دلالة نفى حبّ الله سبحانه وتعالى للشىء؟ أهو كراهة هذا الشيء أم تحريمه؟
ظاهر نفى الحب- بمفهوم المخالفة- هو الكره، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يكره الجهر بالسوء من القول وكره الشيء أقل درجة من تحريمه.. فقد يكره الإنسان الأمر، ثم يريد(3/951)
نفسه عليه، فتقبله وهى غير مقبلة عليه، وليس كذلك إذا كان شعوره نحو هذا الشيء هو شعور تحريم.. إنه لا يقبل عليه إلا مكرها أو مضطرا! والسوء من القول، قد يبلغ مبلغ الفاحشة، والله سبحانه وتعالى قد حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. إذ يقول سبحانه: «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ..»
(23: الأعراف) فكيف يجىء النهى عن الجهر بالسوء من القول فى صورة الكره له، ووضعه موضع الشيء غير المحبوب؟ والمتوقع أن يجىء النهي عنه، فى صورة جازمة قاطعة.. فكيف هذا؟ وما تأويله..
والجواب: هو أن نفى حب الله عن الشيء، يكفى فى تجريم هذا الشيء وتحريمه.. وقد حرّم الله سبحانه وتعالى المنكرات، بأن سلبها حبه لها، ورضاه عنها.. فقال سبحانه وتعالى فى تحريم الفساد «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» 205:
البقرة) .
وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» (58: الأنفال) وقال:
«إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» (45: الروم) وقال تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (40: الشورى) .. فهذه المنكرات، من الفساد، والخيانة، والكفر، والظلم، هى مما لا يحبها الله، ولا يحبّ مرتكبها.
فسلب حبّ الله سبحانه للشىء، ورضاه عنه، يضعه موضع المنكر، المعزول عن ألطاف الله، وعن مواقع رضوانه.. وهذا يكفى فى تجنب هذا الشيء، ومحاذرة التلبّس به، واعتباره من المنكر المحرّم.
ومن جهة أخرى، فإن القول نعمة من النعم الكبرى، التي فضل الله بها(3/952)
على الإنسان، فهو أشبه بالهواء والماء، لا يستغنى عنه فرد أو جماعة، فى حال أبدا.. ومن شأن هذه النعمة العامة الشاملة أن تكون مطلقة، مباحة، إطلاق الهواء والماء وإباحتهما..
فلو أنه أقيم على هذه النعمة قيود محكمة، وحواجز مصمتة، لكان فى ذلك ما يذهب بكثير من خير هذه النعمة، ويكدّر مواردها الصافية أو يعطلها..
لهذا، كان من حكمة الحكيم العليم، أن يقيم على تلك النعمة العظمى- نعمة الكلام- إشارة تنبيه، تحذّر الناس وهم يستقون من موارد القول ويتنفسون فى أجوائه، أن يأخذوا حاجتهم، وأن يمسكوا عما لا حاجة لهم به، ولا خير لهم فيه، وإلا كان الخطر، والضرر.. فما أكثر الذين يموتون بالماء، غصصا أو غرقا.. وما أكثر الذين يموتون بالهواء صعقا أو خنقّا..
وثانيا قوله تعالى: «الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» لم كان الكره واقعا على الجهر بالسوء؟ .. فهل السرّ بالسوء مباح؟ وهل له حساب غير حساب الجهر..؟
والجواب على هذا، هو أن الجهر بالسوء من القول هو الذي له كيان ظاهر، يؤثّر فى الناس، ويتأثر به الناس.. ومن هنا كان خطره، وكان الحظر المتسلّط عليه وحده دون السرّ به..
فالسرّ بالسوء من القول- وإن كان شيئا كريها قبيحا- إلا أنه عورة مستورة، يمسكها الإنسان، على خوف أو استحياء.. وهذا من شأنه أن يعزل شرّ هذا الشرّ عن الناس.. ثم إنه من جهة أخرى لا يقوم فى كيان الإنسان إلا مقاما قلقا مضطربا، وفى هذا ما يؤذن بانصراف الإنسان عنه، والتخلّص منه.. وليس كذلك شأن السوء حين يفلت من كيان الإنسان، فيطلقه صريحا(3/953)
عريانا بين الناس.. حيث لا سبيل إلى إمساكه ودفع خطره بعد هذا..
لهذا كان «الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» هو الداء الذي يخشى خطره، ومن ثمّ كان التنبيه إليه، والتحذير منه.
وثالثا: قوله تعالى: «مِنَ الْقَوْلِ» .
والسؤال هنا: لم كان التحذير موجها إلى خطر السوء.. «مِنَ الْقَوْلِ» دون «السوء من الفعل» ؟ وهل المعالنة بالأفعال السيئة، والجهر بالفواحش أقل خطرا من المعالنة بكلمة السوء والجهر بها؟
والجواب: أن السوء من القول أكثر دورانا على الألسنة، وأخف مئونة على الحياء، وأقل حرجا على الخلق والدين.. هكذا.. يبدو الأمر الواقع..
فالإنسان الذي لا يتحرج من كلمة السوء يقولها، ولا يستحى من كلمة الفحش ينطق بها- هذا الإنسان ما أكثر ما يغلبه حياؤه، وتمنعه مروءته أو دينه من يحوّل كلمة السوء إلى فعل، ويجسد كلمة الفحش إلى عمل.. ثم يجاهر بهذا الفعل، ويعالن بهذا السوء.
ومن هنا كان الحظر الذي فرضه الإسلام على الجهر بكلمة السوء هو حجر ضمنى على فعلة السوء، وسدّ للذرائع إليها..!
ورابعا: قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» ..
هو رفع لهذا الحظر المضروب على الجهر بالسوء..
فالمظلوم مقهور مغلوب على أمره، بهذا السلطان المتسلط عليه من ظالمه..
وقد أذن الله للمظلوم أن ينتصف من ظالمه بما يقدر عليه، فى حدود العدل والإحسان.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (41: الشورى) ..(3/954)
فإذا رأى المظلوم أن التشنيع على الظالم، وكشف مساوئه للناس مما يعينه عليه، ويأخذ له بحقه منه- فذلك له، ولا حرج عليه فيه، وقد أذن الله للمسلمين بالقتال ليدفعوا الظلم الذي كان يساق إليهم، إذ يقول سبحانه:
«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» وقد روى أن رجلا أنى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لى جارا يؤذينى، فقال له: «أخرج متاعك فضعه على الطريق» ! فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكلّ من مرّ به قال: مالك؟ قال: جارى يؤذينى..
فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه. فقال الرجل- أي الجار-: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبدا» .
وخامسا: قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً» هو دعوة للمظلوم إلى التخفف من الجهر بالسوء من القول، وإلى القصد فيه، والوقوف به عند أضيق الحدود من الجهر.. فالله سبحانه وتعالى «سميع» أي قد سمع شكاة المظلوم، وسينتصر له.. فلا حاجة إلى هذا الصراخ بهذا القول السيّء. لأنه- على أي حال- موسوم بسمة السوء، ومن الخير تجنّبه، أو القصد فيه، إن لم يكن من المستطاع تجنبه.. وهو سبحانه وتعالى: «بصير» لا تخفى عليه خافية.. مما صرح به الإنسان أو أمسكه فى ضميره، عالم بما فعله من سوء فرآه الناس، أو غاب عنهم..
وقوله تعالى: «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» - تفرقة بين الخير والشر- وأن الخير هو الخير، على أي وجه جاء عليه.. سرّا أو جهرا، أبداه فاعله أو أخفاه..(3/955)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (271: البقرة) .
وفى عطف قوله تعالى: «أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» على ما قبله، من فعل الخير- إشارة إلى أن العفو عن سيئات المسيئين هو من باب الخير، يجزى الله عليه كما يجزى على الإحسان وقوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» هو دعوة إلى التسامح والعفو عمن أساء واعتدى.. فذلك هو الذي يخمد نار الفتن، ويقتلع جذور العداوة والشحناء بين الناس.. «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» (237: البقرة) «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (43: الشورى) فالله سبحانه وتعالى مع قدرته على أخذ المسيئين بإساءاتهم.. يعفو، ويحلم، ويغفر.. هذا وليس تسلط العفو والمغفرة فى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» على العفو عن السوء فى قوله سبحانه: «أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» - ليس فى هذا ما يحجز فعل الخير فى قوله سبحانه: «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ» - عن نصيبه من عائد عفو الله وقدرته.. فإن عفوه سبحانه يعود إلى أهل الخير فيجاوز عن سيئاتهم، ويغفر لهم من ذنوبهم، جزاء ما فعلوا من خير فى سر أو جهر.. وقدرة الله لا يعجزها شىء فهو- سبحانه- قادر على أن يبدل سيئات المسيئين حسنات، إذا هم أحسنوا، وكانوا مؤمنين.
الآيتان: (150- 151) [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)(3/956)
التفسير: مناسبة هاتين الآيتين للآيتين اللتين قبلهما، هو أن هذا الذي يدعو إليه الكافرون، من الكفر بالله ورسله، والتفرقة بين الله ورسله، هو مما يدخل فى باب الجهر بالسوء من القول.. وأن قولهم. «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» هو من المنكر من القول، ومن شأن التحدّث به وإذاعته فى الناس أن يشيع الفتنة والفساد! وفى تصدير الآية الكريمة بهذا الوصف للذين يقولون: «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» ما يشير إلى أن الإيمان كلّ لا يتجزأ.. وأن الكفر ببعض رسل الله هو كفر برسل الله جميعا، وأن الكفر برسل الله هو كفر بالله..
وإذن فإن إيمان هؤلاء الذين يؤمنون بالله، مع كفرهم برسله أو ببعض رسله، هو إيمان غير مقبول، لأنه قائم على الشك فى الله، إذ لو خلا من هذا الشك، لا نسحب إيمانهم بالله إلى إيمانهم برسل الله، وكتب الله، وبملائكة الله، وبالبعث والجزاء والجنة والنار.. وكل ما أخبر به الرسل من غيبيّات.
وقوله تعالى: «وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» هو إشارة إلى هذا لأسلوب المنافق من أساليب الإيمان.. حيث يأخذون من الإيمان شيئا، ومن الكفر شيئا.
والأمر هنا: إنما هو حق أو باطل، وإيمان أو كفر.. ولا ثالث بينهما..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا» هو حكم بكفر هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويجمعون بين الإيمان والكفر.. إنهم على الكفر الصّراح، ولو ستروا كفرهم بهذا الإيمان الزائف..(3/957)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
وقوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» هو الجزاء الذي يؤخذ به هؤلاء الكافرون المنافقون.. إنه العذاب المهين، المعدّ لهم يوم الفصل والجزاء.
الآية: (152) [سورة النساء (4) : آية 152]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
التفسير: وفى مقابل هذا العذاب المهين الذي يصلاه الكافرون والمنافقون، يتقلّب المؤمنون، الذين آمنوا بالله إيمانا خالصا، فصدّقوا رسله، وآمنوا بهم جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم كما فعل هؤلاء المنافقون الكافرون- يتقلب هؤلاء المؤمنون فى رضوان الله، ويلقون من رحمته ومغفرته، ما يغسل أدرانهم، ويمحو سيئاتهم، ويفتح لهم أبواب الجنات، يلقّون فيها تحية وسرورا..
الآيتان: (153- 154) [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 155]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)(3/958)
التفسير: ومما هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، تلك الأسئلة الخبيثة الفاجرة، التي يسألها أهل الكتاب- والمراد بهم اليهود- ويلقون بها بين يدى النبي الكريم، فى تحدّ وقاح! وسؤالهم هنا، هو أن ينزل النبي عليهم كتابا من السّماء.. يرونه رأى العين، كما رأوا تلك المائدة التي أنزلها الله على عيسى عليه السلام، حين اقترحوا عليه ذلك، ولكنهم- مع هذا- لم يؤمنوا به، ولم يصدقوا رسالته..
ومن قبل كان اليهود يلقون إلى مشركى مكة بمثل هذه المقترحات، ليعنتوا بها النبىّ، وليقيموا لهم حجة عليه.. فكان من ذلك ما كشفه القرآن الكريم فى قوله تعالى.
«وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا»(3/959)
فلما التقى اليهود بالنبي فى المدينة، وواجهوه بكفرهم وعنادهم، أعادوا هذا السؤال الذي كانوا قد صاغوه من قبل لمشركى مكة..
وفى قوله تعالى: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» هو ردّ مفحم على هؤلاء الكافرين المعاندين.. إنهم لم يسألوا ليعلموا، أو يؤمنوا، ولكن ليشتفوا من داء اللّجاج المتمكن فيهم.. ولو أنهم كانوا يؤمنون بآيات الله، لآمنوا بما بين أيديهم من آيات مادية محسوسة، تجبه كل معاند، وتخزى كل متحدّ.. ولكنهم لا يريدون إلا اللجاج والعناد، والتطاول والسّفه..
فلقد سألوا موسى أكبر من هذا السؤال، وأبعدوا فى الوقاحة والتحدي، فقالوا أرنا الله جهرة!! وقد عاقبهم الله سبحانه على هذا العناد الفاجر.. فتجلّى لهم فى جلال جبروته ونقمته.. فأخذتهم الصاعقة بظلمهم.. ولكن لم تكن هذه الضربة القاصمة لتمسك بهم على طريق الاستقامة والهدى، بل لجوّا فى غيّهم وضلالهم، وعادوا سيرتهم الأولى فى الكفر والعناد.. فاتخذوا العجل إلها لهم يعبدونه من دون الله، ولم تنفعهم الآيات المشرقة التي جاءهم بها موسى، من ربّه.. إذ نجاهم من آل فرعون، وفرق بهم البحر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وفجّر لهم من الصخر عيونا، حيث لا ماء ولا زرع، فشربوا، وزرعوا.. ولكنها القلوب القاسية، والنفوس المريضة، والطباع النكدة، لا تقبل على خير ولا تحتفظ بخير.. والله سبحانه وتعالى ويقول:
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» (58: الأعراف) .
وفى توجيه الخطاب إلى جماعة اليهود عامة، سواء منهم من سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، ومن لم يسألوه، ومن عبد العجل منهم ومن لم يعبده- فى هذا(3/960)
ما يشير إلى أنهم جميعا من طبيعة واحدة، وعلى وجه واحد من وجوه الكفر والضلال، وأن قديمهم وحديثهم سواء، وأن الأبناء والآباء على طريق واحد، هو طريق اللجاج فى الباطل، والإغراق فى العناد.. وأن آباءهم الذين أعنتوا موسى، وكفروا بآيات الله ومكروا بها، لا يختلفون كثيرا عن هؤلاء الأبناء الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فعادوا سيرة آبائهم فى أنبياء لله، مع هذا النبىّ الكريم، يلقونه بالأسئلة الماكرة المتحدّية، لا يبغون بها إلا العنت والضلال..
وفى قوله تعالى: «فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ» أي تجاوزنا عن ذلك، وأفسحنا لهم المقام فى هذه الحياة، لعلّهم يصلحون ما أفسدوا، ولتتظاهر الحجة عليهم، فيما يأخذهم الله به من عقاب، وفيما يصبّ عليهم من لعنات.
وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً» كبت لهم، وحسرات عليهم، إذ فاتهم ما أرادوا بموسى من مكر، وما دبّروا من كيد.. ثم هو كبت وحسرة لهؤلاء الذين يلقون «محمدا» صلوات الله وسلامه عليه بمكرهم وكيدهم، وأنهم هم الخاسرون، ولن يصيبهم إلا ما أصاب آباءهم من نقمة وبلاء، وما ينال محمدا إلا ما نال موسى من فضل وإحسان..
قوله تعالى: «وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» .
هو بيان لما أخذ الله سبحانه وتعالى على آبائهم من عهود ومواثيق، وأنهم لم يرعوا عهود الله، ولم يحفظوا مواثيقه، بل ضيّعوا، ونقضوا ما عاهدوا الله عليه.(3/961)
فقد رفع الله فوقهم الطور، أي جبل الطور، وأقامه ظلّة عليهم ليظلّهم ويكنّهم فى هذا التيه الذي غرقوا فيه أربعين سنة.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» (171: الأعراف) فلم يثقوا فى هذا البناء الذي أقامه الله عليهم، ودخلوا تحته دخول الخائفين، حتى لكأن يد الله لا تقوى على الإمساك به!! ثم حين أخرجهم الله من التّيه، وساقهم إلى العمران، ووجههم إلى إحدى القرى، دعاهم سبحانه إلى أن يدخلوا باب هذه القرية سجّدا، شكرا لله على هذه النعمة، وأن يقولوا وهم فى هذا السجود «حطّة» أي غفرانا لذنوبنا.. فبدّلوا وغيروا، ولم يحترموا كلمات الله، ولم ينزلوا عند وصاته لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى..
«وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» (58- 59: البقرة) ثم ألزمهم الله سبحانه ألّا يعدوا فى السبت، وألا يعملوا فيه عملا، عقابا لهم ونكالا، حيث خرجوا عن طاعة الله، ونقضوا مواثيقه.. فاعتدوا فى السبت، وباشروا فيه كل عمل.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (65: البقرة) .
وانظر إلى هذا التكرار فى قوله تعالى: «قُلْنا لَهُمُ» .. إذ يقول(3/962)
سبحانه: «وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ» .
ففى هذا التكرار ما يؤذن بأن القوم بما هم، عليه من جفاء طباع، وقسوة قلوب، وبلادة مشاعر، وعمى بصيرة، لا يخاطبون إلّا بمناخس حادة، لتوقظ هذه المشاعر الهامدة، وتلك الطباع المتبلّدة.. تماما كما تنخس الدوابّ كلما ونت أو حرنت.
وقوله تعالى: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» .
فى هذه الآية والآيات التي بعدها يحصى الله سبحانه وتعالى على اليهود ما ارتكبوا من خطايا، وما اقترفوا من آثام، حتى كان لهم من الله هذا العقاب الأليم الذي أخذهم به فى الدنيا، وجعله ميراثا يقتسمه أبناؤهم من بعدهم، إذ كانت جرائمهم من الشناعة والهول بحيث لا يستقلّ بحملها جيل أو عدة أجيال.. بل إنها لو قسمت عليهم فى أجيالهم السابقة واللاحقة لأحاطت بهم جميعا، ثم كان من فائضها ما يتسع لأمثالهم..
فقد نقضوا مواثيق الله، وكفروا بآياته. وقتلوا رسله.. عدوانا وبغيا، حيث لا شبهة ولا مظنّة شبهة يقتل بها رسول من رسل الله، إذا قتل غيرهم من الناس، بحق أو بغير حق.. فما رسل الله إلّا رحمة من رحمته، وفضل من فضله، ونعمة من نعمه.. فالذى يدفع الرحمة، ويأبى الفضل، ويكفر بالنعمة، هو إنسان مبتلى فى عقله، متّهم فى إنسانيته فإذا تجاوز ذلك إلى أن يكون حربا على الرحمة والفضل والنعمة، فقل أي كائن هو.. ولكن لا تنسبه إلى عالم الإنسان أبدا! على أن الأمر لا يحتاج إلى بحث أو نظر، فقد حكم القوم على أنفسهم، ونطقوا بما ينطق به فى شأنهم الوجود كله، ويدينهم به.. وهذا ما أشار إليه(3/963)
قوله تعالى: «وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ» أي مغلفة، مغلّقة، لا ينفذ إليها شىء من الحق والخير.. وهم إنما يقولون هذا القول فى مجال الاستهزاء والسخرية، كما يقول من يتعالم: إنى جاهل..! والمغرور بماله، المدلّ بثروته: إنى فقير! بل إن أمرهم لأكثر من هذا، إذ ليس ما بقلوبهم مجرد غطاء يحجبها عن كل خير، كما ادعوا على أنفسهم استهزاء وتعاظما، ولو كان ذلك هو الذي بهم لكان لدائهم طب، ولعلتهم دواء! ولكنّ الذي بهم هو شىء لو عقلوه لبكوا كثيرا، ولضحكوا قليلا، بل لكانت حياتهم كلها بكاء موصولا، ودمعا جاريا، لما رماهم الله به من داء قتل كل معانى الإنسانية فيهم.. فإذا هم ناس وليسوا ناسا، أحياء وليسوا بالأحياء! انظر إلى قلوب هؤلاء القوم.. فهل تجد ما بها، هو حجاب كثيف مضروب عليها؟ أو غلاف صفيق اشتمل عليها واحتواها؟ وكلا..
«بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها» .
وإذن فداء هذه القلوب هو فى كيانها ذاتها، وليس مادة غريبة غشيتها واحتوتها، بل هو الختم المحكم الذي ختمه الله عليها، فلا يخرج ما فيها من خبث ولا يدخل إليها ما فى الحياة من حق وخير.. إنها ستظل هكذا مغلقة على ما فيها.. أشبه بالبركة الراكدة العفنة، لا تزداد مع الأيام إلا ركودا وعفنا، ولا تلد مع الزمن إلا العفن، والوباء! وقوله تعالى: «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» هو وصف لمن أفلت منهم من تلك اللعنة، استثناء من هذا الأصل الذي ينتسب إليه القوم جميعا.. وهو عدد قليل، لا يشفع لهذه الجماعة بالخروج من هذا الحكم المضروب عليها.(3/964)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
الآيات: (156- 158) [سورة النساء (4) : الآيات 156 الى 158]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
التفسير: ومما أحصاه الله من شناعات هؤلاء القوم- اليهود- كفرهم بالمسيح، وتكذيبهم له، وقولهم فيه وفى أمّه تلك الأقوال الشنيعة، التي هى محض بهتان وزور، فقد رموا مريم البتول بالفحش، واتهموها بالفاحشة ونسبوا ابنها إلى أنه ابن سفاح، جاء على غير رشدة.
كذلك مما أحصاه الله عليهم من المآثم، هذه الفعلة الشنيعة التي أصبحوا على إيمان بها، فلم يتأثمّوا، ولم يندموا، بل كان ذلك نغما مسعدا، ونشيدا مرفّها، يرددونه صباح مساء، ليغذّوا داء الانتقام والتشفّي الكامن فيهم..
«قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ» !! هكذا يملئون بها أفواههم، ويضربون بها على آذانهم! .. قتلنا المسيح.. عيسى بن مريم.. رسول الله..
فلم يكفهم أنهم قتلوا نفسا، بغيا وعدوانا.. كما كان ذلك معتقدهم..
ولم يكفهم أن تكون هذه النفس نفس إنسان لم يقل كلمة سوء، ولم يمدّ يده إلى أحد بسوء.. بل كان فمه مشرق نور ومطلع حكمة.. وكانت يده ملاك برّ ورحمة.. تهدى الشفاء إلى كل مريض، وتمسح بالعافية على كل ذى علة..
لم يكفهم هذا.. بل راحوا يعلنون هذا النبأ السارّ المسعد، يبشرون به فى آفاقهم، ويرفعونه إلى الله دعوات وصلوات، فى وقاحة واجتراء على الله.(3/965)
ولم يكفهم هذا، فعرضوا قتيلهم هذا العرض الطويل الممتد.. حتى لكأنهم وقد مزّقوه أشلاء، أو قتلوه.. مرة، بعد مرة، بعد أخرى..
قتلنا..! .. يا للإثم العظيم! المسيح..! .. ويا للهول المهول! عيسى.. ويا للعنة السماء لمن يقولها! ابن مريم.. ويا لشؤم القوم الذين يردّدونها! رسول الله. ويا لسيف الله لمن يحارب رسل الله! ومع هذا، فإن القوم يهنؤهم الطعام والشراب.. بل إنهم ليأتدمون بهذا الدّم، ويغمسون به كل لقمة يأكلونها! وقولهم «المسيح» ليس اعترافا منهم بأنه المسيح، وإنما يقولون ذلك استهزاء به.. وكذلك قولهم: «رسول الله» فهم لم يعترفوا بالمسيح رسولا، ولم يقبلوه مسيحا.
وقوله تعالى: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» هو كبت لليهود، وخزى لهم، إذ يفجؤهم القرآن الكريم بهذا الخبر، ويقطع لهم عنه الشك باليقين.. ذلك أنه كان قد وقع فى نفوسهم شك فى أن الذي قتلوه وصلبوه ليس هو المسيح، فإن هذا الشك قد أصبح يقينا بهذا الذي جاءهم به القرآن الكريم، وهم يعلمون صدقه، ويستيقنون أنه من عند الله، وإن جحدوه استكبارا، وعنادا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (146: البقرة.)
والضمير فى يعرفونه يعود إلى القرآن.
وقوله تعالى: «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو كبت وخزى(3/966)
لليهود، بهذا الفضل الذي فضل الله به على المسيح، بعد كبتهم وخزيهم، بإبطال كيدهم فيه، وإفساد مكرهم به..
لقد أرادوا موته وصلبه.. فلم تنله أيديهم، ونجاه الله منهم، بعد أن أخذهم بهذا الذنب العظيم، الذي عقدوا نيّتهم عليه، وشرعوا فى تنفيذه، بل ونفذوه.. ولكن لا فى المسيح كما قدروا، بل فى شخص آخر شبّه لهم أنه المسيح..
ولقد أرادوا يصلب المسيح أن يوقعوه تحت اللعنة، التي قضت بها شريعة موسى، والتي جاء فيها: «ملعون من علّق على خشبة» .. فما كان يقع تحت هذا الحكم من اليهود إلا من جدّف على الله، وكفر به.. فمن فعل هذا حكم عليه بالصلب، ثم الطرد من ملكوت الله! لقد أراد اليهود هذا بالمسيح، فرفعه الله إليه، وأعلى منزلته عنده، وأحلّه فى مقام كريم، مع المصطفين من عباده.
وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو تعقيب على تلك الأحكام التي أجراها سبحانه وتعالى، والتي جاءت على غير ما أراد أهل الشر والسوء..
فبعزّته سبحانه أفسد كيد هؤلاء المضلّين المفسدين، وبحكمته وضع الأمور فى مواضعها، فجاءت على أتم صورة وأكملها..
هذا، ولما كانت قضية صلب المسيح.. من القضايا التي أثارت ولا تزال تثير كثيرا من الجدل والخلاف بين المسلمين والنصارى واليهود.. فقد رأينا أن نقف وقفة، ننظر بها نظرا أرحب وأوسع، فى هذه القضية، وفى رأى القرآن فيها، وفى مقولات المسيحيين واليهود عنها..(3/967)
القرآن والمسيح المصلوب
المسيح بين الألوهية والبشرية:
لم يلتفت القرآن الكريم إلى المسيح وإلى المعتقدات التي يعتقدها أولياؤه وأعداؤه إلّا من جانب واحد، هو شخصيته، وتحديد هذه الشخصية على الوجه الذي يراه له، وهو أنه إنسان بشر، وليس إلها ولا ابن إله، على الرغم من الأسلوب الفريد الذي ولد به! ففى الوقت الذي نزل فيه القرآن كان قد مضى على ظهور المسيح نحو ستة قرون، دارت فيها الأحداث التي صحبت حياته، منذ دخوله فى هذا العالم، إلى خروجه منه- دارت تلك الأحداث فيها دورات كثيرة، والتقت بأنماط مختلفة لا حصر لها من العقول، وكاد الأمر يستقر فى معتقد الناس، فى المسيح وفى الأحداث التي اتصلت به! فأتباعه كان قد انتهى بهم الرأى فيه إلى أنه «الله» ممثّلا أقنوم الابن من الأقانيم الثلاثة التي جعلوها لله، وهى: الأب، والابن، وروح القدس.
وأعداؤه- اليهود- لم يتغير رأيهم فيه منذ وقع فى أنفسهم أنهم صلبوه بتهمة الشعوذة والتجديف على الله.
وكان على القرآن أن يكشف عن شخص المسيح، وأن يضعه بالموضع الذي له فى حساب العقيدة.. أهو ابن الله؟ أم هو إله مع الله؟ أم هو الله وحده؟ أم هو بشر.. رسول من الله، إلى عباد الله؟
وقد حرص القرآن على أن يجلّى عن شخصية المسيح، وأن يدفع عنه كل شبهة تلبس على الناس أمره، وتجعل له إلى الألوهية مدخلا من أية جهة، وعلى أية صفة!(3/968)
هذه هى قضية المسيح فى القرآن: أهو إله؟ .. أم هو إنسان من الناس وخلق من خلق الله؟ وإذ فصل القرآن فى هذه القضية فصلا قاطعا، وأنزل المسيح من سماء الألوهية إلى أرض البشر- إذ فعل القرآن هذا لم يلتفت من أمر المسيح إلى شىء وراءه، مما يجرى على البشر، وينزل بهم من أحداث، ويقع فى حياتهم من شئون.!
فإذا مات المسيح- على هذا الاعتبار- أو قتل فليس ذلك بالأمر الذي يجعل له حسابا خاصا دون الحساب الذي يجرى على الناس، حين يموتون أو يقتلون.
وإذا صلب المسيح، فهو واحد من كثيرين ماتوا بتلك الميته، وكما مضى المصلوبون إلى ما هم صائرون إليه، كذلك يمضى المسيح إلى مصيره! وإذا كان هناك من شىء يلتفت إليه فى هذا الأمر العارض، فهو هذا الحمق وذلك الضلال، اللذان يركبان الناس فيغريانهم بالتطاول على تلك الأيدى الكريمة الممدودة إليهم بالخير، والمبسوطة إليهم بالهدى، وأن يطفئوا بأفواههم هذا النور المتوهج فى ظلام ليلهم البهيم، وأن يمثّلوا بهذا الإنسان الطاهر البريء! إنه لا أكثر من الشعور بالحسرة والأسى، تندلع نارهما فى صدور الأخيار الأبرار من الناس، حين يصابون فى مثلهم الفاضلة، ويفجعون فى أسوتهم الحسنة، وحين يرون الشرّ يأكل منابت الخير ويفسد ثمارها! إنها وقفة.. قد تطول أو تقصر.. ثم تمضى الحياة ويمضى الناس معها فى هذا الصراع المتصل بين الحق والباطل والخير والشر، وفى هذا التدافع الدائم بين المحقّين والمبطلين، وبين الأخيار والأشرار!(3/969)
المسيح المصلوب:
فليس بمستنكر على الحياة إذن أن يصلب المسيح! وليس بدعا أن تمتد إليه يد البغي، وأن تتمكن منه وتبلغ ما تريد فيه! فما أكثر الأنبياء الذين أصابتهم أيدى البغاة، وسلّطت عليهم قوى الشر والعدوان، فذاقوا الموت فى أمرّ كئوسه، وواجهوه فى أبشع صوره! وما أكثر الصدّيقين والأبرار الذين وقعوا صرعى فى ميادين الجهاد فى سبيل الله، فمزّقوا إربا إربا، ومثّل بهم أحياء وأمواتا! فليكن المسيح بن مريم رسول الله، واحدا من هؤلاء! فما أحد من الناس قد أخذ على الله عهدا ألا يموت، وما أحد من البشر تخيّر لنفسه الميتة التي يموت عليها! وقد حرص القرآن على أن يخلى شعور أتباعه المسلمين من كل خاطرة تخطر لهم أن «محمدا» رسول الله، بمعزل عن هذا الحكم، الذي ينزل عليه الناس جميعا، ويردون موارده.. فقال تعالى: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (144: آل عمران) إن الرسل يموتون أو يقتلون كما يموت الناس وكما يقتلون، ومحمد رسول الله واحد من الرسل وإنسان من الناس.. فليس بدعا أن يموت أو يقتل.. «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ (9: الأحقاف) (إنك ميّت وإنهم ميتون (30: الزمر) ومن أجل هذا لم يلتفت القرآن فى موقفه من أهل الكتاب، وفى تسويته لحساب المسيح عندهم- لم يلتفت إلى حادثة «الصلب» ولم يجعل منها قضية يناقشها معهم، ويفصل فيها بحكمه بينهم!(3/970)
وقد يبدو هذا الموقف الذي وقفه القرآن الكريم من أمر «الصلب» وإغفاله له، تسليما به، وبالمعتقد الذي قام عليه، وهذا يعطى لأصحاب هذا المعتقد القائم على صلب المسيح حجة على القرآن بأنه لم يواجههم مواجهة صريحة فى هذه القضية، ولم يأخذ عليهم معتقدهم فى أن المسيح قد صلب! ونقول- كما قلنا من قبل- إن القرآن لا يعنيه كثيرا أن يكشف حقيقة هذا الحدث، وأن يقيم الناس على رأى فى أن المسيح صلب، أو أنه لم يصلب، فذلك الأمر على أي وجهيه وقع- لا يقدم ولا يؤخر فى أصل القضية التي ينازع فيها القرآن، أولئك الذين يعتقدون فى بنوّة المسيح لله، أو ألوهيته! فالمسيح إله، أو ابن إله.. كما يقولون ويعتقدون.
والمسيح ليس إلها ولا ابن إله، وإنما هو عبد من عباد الله ورسول من رسل الله.. كما ينطق الحق، ويحدّث القرآن! .. هذا هو أصل القضية..
فإذا فصل فيها القرآن على هذا الوجه الذي ارتضاه فى المسيح، فقد فصل ضمنا فى هذه الجزئية العارضة من حياة المسيح، وهى الصلب، ومن ثمّ يكون القول بصلب المسيح أو عدم صلبه سيان.. فهو إنسان من الناس وليس موته على أية ميتة كانت، بالذي يحدث له وضعا جديدا فى الحياة، أو بالذي ينشىء له فى النفوس مكانا يقوم عليه دين وتستند إليه عقيدة.
إن القرآن إذ يواجه أتباع المسيح، لم ير فى حديثه إليهم عن حادثة الصلب التي يؤمنون بها ويقيمون معتقدهم عليها- لم ير فى هذا الحديث جدوى، لأن هذا الحديث لا يعنى فى نظر الدعوة الإسلامية أكثر من أنه خبر من أخبار التاريخ، لا يتعلق بوقوعه أو عدم وقوعه شىء يتصل بالعقيدة فى ذات الله..
إنه مثل الحديث عن أصحاب الكهف، وعن ذى القرنين، واختلاف الناس فى شأنهم وفيما يروى من أخبارهم.. فإذا قال القرآن فى مثل هذه الأخبار قولا(3/971)
فهو امتحان للقرآن ذاتة.. فى أنه متلقّى من عند الله، أو مستوحّى من الأساطير وتكهنات الكهان.!
فى حياة المسيح عليه السلام أكثر من حدث، أثار تضارب الآراء فيه واختلاف الناس عليه..
فأولا: ميلاده من عذراء:
كان هذا الميلاد مشكلة ضخمة.. إذ أن هذا الميلاد غير طبيعى. وغير جار على مألوف الحياة.. وذلك مما يدير الرؤوس نحوه، ويلفت العقول إليه، ويفتح للناس طرائق شتى، للقول فيه والتقوّل عليه.
فاليهود مثلا- لم يعترفوا بهذا الميلاد- ولم يقبلوه.. بل اعتبروه ولادة غير شرعية، جاءت على غير رشدة.. من اتصال محرّم، بين مريم ويوسف النجار الذي أضافوا نسبة المسيح إليه، حيث كان يخدم مع مريم فى المعبد.
وبهذا وضعوا المسيح وأمّه هذا الوضع الذي يصمهما بالدنس.. والعار.
وثانيا: صلبه.. ووقوعه بهذا الصّلب تحت حكم الناموس الذي يقضى بلعن كل من علّق على خشبة! حسب ما جاء فى التوراة.
وثالثا: ألوهيته.. وخروجه بهذه الألوهية عن وجوده البشرى، الذي رآه الناس عليه، والقضاء على شخصيته وإفنائها.
فهذه ثلاث شبه أو تهم تحوم حول شخص المسيح، وتفسد الرأى فيه وتجعل منه شخصية أسطورية، أكثر منها شخصية حقيقية..
والقرآن الكريم هو وحده الذي تولّى الدفاع عن المسيح وكشف الشبه عن شخصه الكريم، ووضعه بالمقام المحمود الجدير به كإنسان يأخذ مكان الذروة بين الناس. يقول الله تعالى:(3/972)
«إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» (171: النساء) «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59: الزخرف) «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» (75: المائدة) .
إن الأخذ بما يقول القرآن فى المسيح هو الذي يرفع هذه الشّبهة التي كانت ولا تزال داعية لسوء القالة فيه عند أعدائه اليهود، أو باعثة للاضطراب والقلق النفسىّ والروحىّ والعقلي، عند أتباعه.. إذ يرونه إنسانا فى شخص إله، أو إلها فى جسد إنسان! كان المسيح قد تنبّأ لهذا الخلاف الذي يكون فى شأنه، ولهذه المقولات التي قيلت أو تقال فيه.. وقد أشفق على نفسه منها، إذ كان بعضها يطعنه فى شرف مولده، وفى طهارة أمه وعفافها، على حين كان بعضها الآخر يسلخه من بشريته ويخرجه عن إنسانيته، إلى صورة مختلطة، تجمع الإله والإنسان فى ذات واحدة وفى جسد واحد..
كان المسيح قد تنبأ لهذا، وأشفق منه بل وتألم له! ولكن الله طمأنه وأذهب مخاوفه إذ أوحى إليه أن هناك من سيتولّى الدفاع عنه، ورفع الشبهات التي ستدخل على الناس من أمره.. فى حال حياته، وبعد أن فارق الحياة..
يقول السيد المسيح فيما روت الأناجيل على لسانه مخاطبا تلاميذه وحوارييّه:
«ولكنى أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذلك، يبكّت العالم على خطيّة، وعلى برّ، وعلى دينونة.. أما على خطية، فإنهم لا يؤمنون بي، وأما على برّ، فإنى ذاهب إلى أبى ولا تروننى، أيضا، وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين!(3/973)
«إن لى أمورا كثيرة أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم، كل ما للأب هو لى، لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم. بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى، لأنى ذاهب إلى الأب (إنجيل يوحنا) .
يتحدث المسيح إلى أتباعه هنا عن شخص سيجيئ بعده، وقد ترك هو مقامه فيهم وفارق هذه الدنيا.
وصفات هذا الشخص كما يحدّدها السيد المسيح هى:
أولا: أنه المعزّى الذي يجىء مواسيا ومعزّيا فيما أصيب به المسيح فى شخصه، وما رمى به من تهم.. وكلمة المعزى هى إحدى المعاني التي فسّرت بها كلمة «بارقليت» اليونانية، والتي فسرت أيضا بمعنى المحامى أو مستشار الدفاع.
ثانيا: إنه سيبكّت العالم على أمور ثلاثة:
1- على خطيّة: هى أنهم لم يؤمنوا بالمسيح على الوجه الذي جاءهم عليه.
2- على برّ: وهو أنه ذاهب إلى الله لينزل المنزل الكريم الذي أعده له، ولكن هم أنزلوه فى غير هذه المنزلة حيث رفعه أتباعه إلى مقام الإله ذاته، على حين أنزله اليهود منازل الضالين.
3- على دينونة: وهى هذا الحكم الظالم الذي حكم به اليهود على المسيح، وعلى الثوب الإلهى الذي ألبسه أتباعه إياه.
ثالثا: أن هذا المعزّى سيرشد أتباع المسيح إلى الحقيقة كلها، ومعنى هذا أن هناك أشياء لم يكشف عنها المسيح، ومعنى هذا أيضا أن هذه الأشياء هى مما جدّ بعد المسيح، من أمور، اختلط على الناس وجه الحق فيها.. وهذا هو موضوع القضية الذي سيكون من عمل محامى الدفاع عنه.(3/974)
رابعا: أن هذا المحامى لا يتكلّم من عند نفسه، بل بما قد سمع.. ومعنى هذا أنه إنما يأخذ دفاعه تلقّيا من جهة غير جهته، هى التي تلقّنه المقولات والحجج التي يلقيها على الشبه المتلبسة بتلك القضية.
خامسا: أن هذا المحامى سيمجد المسيح.
سادسا: أن هذا التمجيد الذي يقدمه المحامى فى شأن المسيح، ليس مديحا تستجلب به صفات لم يكن متصفا بها، وإنما هو تمجيد يكشف حقيقته للناس، ويزيل ما علق بذاته من شبه وضلالات.
وهذا ما تنطق به كلمات الإنجيل على لسان السيد المسيح فى أوصاف المحامى أو المعزّى الذي سيجيئ بعده! ولكن أتباع السيد المسيح خرّجوا هذه الكلمات تخريجا على غير هذا الوجه على ما سنرى:
يقول أحد علماء المسيحية وشرّاح أناجيلها:
«وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسىّ فى قصد الله- بلغ به حدّا جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصا ليحلّ محله بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس، وقد دعاه (المعزى) (باراكليت) وهى تسمية مشروعة، ومعناها المحامى أو مستشار الدفاع.
«وبذلك يكون عمل «الروح القدس» الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال عنه يسوع «هو يشهد لى» (يوحنا 15: 26) ثم «ذاك يمجّدنى لأنه يأخذ ممالى ويخبركم (يوحنا 16: 14) «1» .
ومفهوم هذا القول أن الشخص الذي سيرسله المسيح هو «روح القدس» .
__________
(1) المسيحية الأصلية ص 27- 28.(3/975)
وإذا علمنا أن معتقد المسيحية، هو أن المسيح هو «الله» وأن «روح القدس» هو الله، بمعنى أن كلّا منهما هو الله فى أقتوم من أقانيمه الثلاثة، إذا علمنا ذلك كان عجبا أن يكون «المعزى» شخصا وأن يكون هذا الشخص هو الله، ثم أن يكون المسيح وهو الله هو الذي يرسل «روح القدس» وهو الله!! الله يذهب فى صورة المسيح «الابن» ، ويحىء فى صورة الله «روح القدس» ! ثم من جهة أخرى.. ما معنى أن المحامى- إذا كان هو روح القدس، الذي هو الله ذاته- ما معنى أنه لا يتكلم من عند نفسه.. «بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم؟» .. أروح القدس أو الله ينتظر من يلقنه ما يقول، وبأذن له به؟ فيتكلم بما يكون قد سمع؟
هذا من حيث الشكل- كما يقال فى لغة القضاء- أما من حيث الموضوع، فإذ ننظر نجد:
أولا: أن «روح القدس» الذي يقال إن المسيح وعد بإرساله بعد أن يمضى، لم ير له أحد وجها، لا من أتباع المسيح ولا من غيرهم.
ثانيا: أن روح القدس هذا، وهو المحامى أو مستشار الدفاع، لم يعرف له أحد موقفا، ولم يكن له قول مأثور فى شأن المسيح وفى تمجيده..
فأين إذن هو روح القدس؟ وأين أعماله أو أقواله التي واجه بها الناس لتمجيد المسيح؟ ولسنا نجد جوابا لهذا إلا إذا نظرنا فى القرآن الكريم ووقفنا عند ما جاء فيه من دفاع مشرق مفحم، عن السيد المسيح.. هذا الدفاع المشرق المفحم، هو تمجيد وتعزية للسيد المسيح، لما أصابه فى شخصه وفى شخص أمّه من ضرّ وأذى! جاءت بعثة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه- وقد مض على الدعوة(3/976)
المسيحية نحو ستة قرون، وكان هذا الزمن الممتد كافيا لأن يفسح للدعوة مجال الحركة فى الحياة، وأن يبلغ بها أقصى ما تبلغه فى عقول الناس وقلوبهم، من أولياء الدعوة وأعدائها على السواء.. إذ استنفد أعداؤها كل ما لديهم من مقولات يقولونها فى المسيح ودعوته.. كما استنفد أولياؤها كل ما عندهم من مقولات فى تصويرها، وتقرير حقائقها والاحتجاج لها..
ومن هذا الشدّ والجذب، والهجوم والدفاع، تشكّلت للمسيح «قضية» من أشد ما عرف الناس من القضايا غموضا وتعقيدا.. والمسيح هو «القضية» التي تنوشها رميات المتنازعين فيه والمختلفين عليه.. من أعدائه وأوليائه جميعا! وهنا تبرز الحكمة فى الحاجة إلى محام، أو مستشار للدفاع، ليقول فى هذه القضية لا شيئا من عند نفسه، بل بما يكون قد سمع، ويخبر به! وليس ثمة شك فى أن هذا المحامى أو مستشار الدفاع أو المعزّى هو «محمد» عليه الصلاة والسلام.
فهو كما تنطق كلمات السيد المسيح:
أولا: هو المحامى الذي كان له دور معروف فى قضية المسيح وكان بمشهد وبمسمع من الناس جميعا.
وثانيا: هو الذي دافع فى هذه القضية دفاعه المعروف عن شخص المسيح وعن أمه، وكان دفاعه هذا تمجيدا وعزاء لهما مما أصابهما من رميات وطعنات.
وثالثا: لم يقل هذا المحامى كلمة من عند نفسه، بل كل ما قاله هو مما تلقاه وحيا من ربه، «لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلّم به» .
ورابعا: أن هذا الذي سمعه وحيا من ربه لم يحتفظ به لنفسه، بل أخبر به وبلغه للناس كما أمره ربه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ(3/977)
لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ»
.. وفى هذا يقول السيد المسيح «بل يتكلم بما يكون قد سمع ويخبركم» .
لقد كان «محمد» بما تلقى من كلمات الله، هو المحامى الذي ردّ للمسيح ولأمه اعتبارهما، وهو الذي مجدهما ورفع قدرهما فى العالمين، وكان فى ذلك العزاء الجميل لهما، والمواساة الكريمة لما أصابهما من بلاء عظيم، وفى هذا يقول القرآن الكريم:
«يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» (42: آل عمران ويقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» .. ويقول: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ» (75: النساء) .
وننظر فى كلمات المسيح مرة أخرى..
ونقف من كلمات السيد المسيح عند هذه الكلمات.
1- «إن فى انطلاقي لخيرا لكم» .. فهذا الخير هو ما ينكشف لهم من أمر المسيح على لسان «المحامى» الذي يتولى الدفاع عن قضيته، ويعرضها لهم فى المعرض الذي يجلّي حقيقته، ويكشف شخصه الكريم.
2- «فإنى أرسله إليكم» . وهذه القولة توحى بأن المسيح هو الذي يرسل هذا المحامى، أو بمعنى آخر هو الذي يملك إرسال الرسل، أو بمعنى ثالث هو الإله المتصرف فى هذا الوجود.
وهى مقولة إن حملت على ظاهرها هذا كانت إقرارا من الله تعالى- الذي هو المسيح- بالعجز عن الدفاع عن نفسه فيقيم محاميا يتولى الدفاع عنه..
وعلى هذا، فإن هذه القولة إما أن تكون قد حرّفت ليستقيم عليها الفهم الذي وقع لأتباع المسيح من أنه هو الله، وإما أن تحمل على غير ظاهرها(3/978)
ويكون قول المسيح «إنى أرسله إليكم» محمولا على المجاز السببى، إذ لمّا كان وجود المسيح مانعا من وجود المحامى الذي يتولى الدفاع فى قضيته، إذ القضية لا تتشكل بصورتها الكاملة إلا بعد أن يذهب المسيح، وتكثر المقولات فيه وفى صلبه وقيامته، فإن ذهاب المسيح هو الذي يهيىء للمحامى سبيلا إلى الظهور، وبهذا يمكن القول بأن المسيح هو الذي أرسله، بمعنى أنه كان سببا من أسباب إرساله! 3- فى قوله «ويخبركم بما يأتى» فيه إشارة إلى تلك المقولات التي ستقال فى المسيح بعد ذهابه، والتي ستشكّل منها تلك القضية التي تولّى القرآن الكريم الكشف عن وجه الحق فيها.
4- قوله «يأخذ مما لى ويخبركم» إشارة إلى أن ما يقوله المحامى الذي يتولى الدفاع عن المسيح ليس شيئا غريبا عن المسيح، بل هو ممّا له أي مما اشتملت عليه ذاته، سواء أكان ذلك عن مولده، أو عن بشرّيته كما نطق بذلك القرآن الكريم.
ثم لماذا أخبر القرآن عن الصلب؟
إنه مجرد خبر.. لا أكثر ولا أقلّ!.
خبر يبهت اليهود، ويفجعهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا!.
إن اليهود على يقين من أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم، الذي عرفوه وعرفهم وسمع منهم وسمعوا منه.
ولم يكن قتلهم له لأنه جدّف على الله كما ادّعوا عليه.. وإنما كان لأنه جاءهم بأنه «المسيح» الذي وعدوا به، وطال انتظارهم له!.
والمسيح الذي رأوه فى شخص «عيسى» ليس هو المسيح الذي عاشوا فى أجيالهم يحلمون به، ويتوقعون الخلاص على يديه!.(3/979)
كان اليهود يحلمون بالخلاص من هذه الفواجع والمآسى التي كانوا يتقلّبون على جمرها، بين الأسر والتشريد..
ولقد كانت الضربات القاسية المدمرة تنزل بهم متلاحتة متعاقبة كما يتعاقب الليل والنهار.. فما يكادون يخلصون من محنة، حتى تستقبلهم أكثر من محنة- ولهذا استبدّ بهم اليأس واستولى عليهم الجزع من توقعات الفواجع المباغتة وطلوع النوازل المهلكة.. فلم يكن لهم- والأمر كذلك- من أمل فى الخلاص، إلا أن تتعلق آمالهم وأحلامهم بربّ الجنود «يهوه» .
وقد امتلأت أسفار التوراة بالرّؤى والأحلام والتنبؤات التي تلقى إليهم من عالم الأوهام بحبال النجاة، فيمدّون أيديهم إليها، وهم يضطربون فى هذا البحر اللجىّ المتلاطم الأمواج، فلا يجدون إلا سرابا، لا تمسك أيديهم بشىء منه.
وكانوا كلما تطاول بهم الزمن- وهم فيما هم فيه من بلاء وهوان- أفسحت لهم الأسفار فى الآمال، ووسعت لهم فى آفاق المستقبل المشرق المسعد فأرتهم الخلاص القريب، وأطلّت عليهم بوجه المخلّص مقبلا بين عشية وضحاها!.
ولهذا باتوا يحلمون أحلاما ملحّة بأن عهد الشر هذا الذي خيّم على ربوعهم قد آن له أن يزول، وأن عهدا جديدا سيشرق عليهم بصبحه، وبهذا يقضى على عهد الشر والألم، إما يتدخل الله نفسه، وإما بإرسال ابنه أو ممثله المسيح إلى الأرض.. أو لم ينبىء به أشعيا قبل ذلك العهد- أي عهد المسيح عيسى- بمائة عام، إذ يقول: «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا، أبا أبديا، رئيس السلام؟» (التوراة: سفر أشعياء) وكان كثير من اليهود يتفقون مع «أشعياء» فيما وصف به المسيح من أنه ملك دنيوى يولد من بيت داود الملكي، ومنهم من يسمونه باسم «ابن الإنسان» كأخنوخ ودانيال ويصورونه بأنه سينزل من السماء!.(3/980)
أما صاحب سفر الأمثال، وصاحب حكمة سليمان، فلعلهما قد تأثرا بأفكار أفلاطون أو بروح الأرض التي يقول بها الرواقيون- فقد تصوّراه الحكمة مجسّدة، التي هى أول شىء «قناها» الربّ، وهى الكلمة أو العقل!!.
ويكاد مؤلفو سفر الرؤيا كلهم يجمعون على أن المسيح سينتصر انتصارا سريعا، ويتفقون جميعا على أن المسيح سيخضع الكفار آخر الأمر ويحرّر إسرائيل، يتّخذ إسرائيل عاصمة له، يضم إليه الناس جميعا ليؤمنوا بيهوه والشريعة الموسوية.. ويسود بعد ذلك عصر طيب تسعد به الدنيا بأجمعها، فتكون الأرض كلها خصبة، وتحمل كل حبّة قدر ما كانت تحمله ألف مرة، ويصير الخمر موفورا، ويزول الفقر ويصبح الناس أصحّاء متمسكين بالفضيلة، وتسود العدالة والصداقة والسلام فى الأرض!!.
هذا هو بعض جوانب الصورة التي يتصورها اليهود عن المسيح والتي عاشوا الأزمان الطويلة يحلمون بها.. فلما التقوا بالمسيح فى شخص عيسى ابن مريم- كما قلنا- ولم يطلع عليهم بتأويل هذه الأحلام التي طال انتظارهم لها وتطلعهم إليها أنكروا وجه المسيح، وتنكروا له، وأبوا أن يفتحوا أعينهم على هذه الحقيقة، وآثروا أن يظلوا مغمضين أعينهم على تلك الأحلام حتى يجىء «المسيح» الذي يقع على يديه تأويلها على الوجه الذي يتصورون ويتوقعون! من أجل هذا عجّل اليهود بالقضاء على المسيح عيسى بن مريم وإجلائه من بينهم، لأنه ليس «المسيح» الذي ينتظرون، وما زالوا إلى اليوم على انتظار لهذا المسيح.. وقد أشار المعرّى إلى هذا بقوله:
يا آل إسرال.. هل يرجى مسيحكم ... هيهات.. قد ميّز الأشياء من خلبا!
قلنا أتانا ولم يصلب، وقولكم ... ما جاء بعد، وقالت أمة صلبا(3/981)
فإذا دخل القرآن فى أمر «الصلب» فإنما يدخل فيه من هذه الجهة التي التي تطلع منها أحلام اليهود بالمسيح، الذي ينتظرون الخلاص والحياة المستقرة الطيبة على يديه.
وقد جاءهم القرآن بما لم يكونوا يحتسبون، فكشف لهم عن هذا الضّلال الذي عاشوا أزمانا متطاولة فيه، ورفع لهم عن ستر الغيب ليروا أن «المسيح» الذي طال انتظارهم لهم وتعلقت آمالهم به، هو «عيسى» بن مريم!! وألّا «مسيح» يرجى لهم بعده! وأنهم وقد فاتهم حظهم منه، فقد أفلت من أيديهم الخير الذي توقعوه وانتظروه ...
أفلت إلى الأبد! ولن يعود! هذه واحدة! وأخرى.. هى أنهم ارتكبوا بجهالاتهم وحماقاتهم وغرورهم أبشع جريمة، إذ قتلوا بأيديهم أملا عاشوا له وأضاعوا بأيديهم الشحيحة الممسكة، خيرهم المدخر لهم، وبدّدوا- مع بخلهم القاتل- ثروة طائلة لا تنفد على الإنفاق أبدا.
وثالثة.. هى أنهم وقد حملوا دم المسيح دنيا، وديانة، فإنهم لم يقتلوا المسيح، ولم يصلبوه! إنها حسرة، وحسرة، وحسرات، تملأ قلوب اليهود حزنا وكمدا حين يكشف لهم القرآن عن «المسيح» الذي حسبوا أنهم صلبوه! هذا، ولم يعرض القرآن لهذا الأمر إلا عرضا، فى سياق الزّراية على اليهود، وفضح طواياهم وما اشتملت عليه من سوء! وفى هذا يقول القرآن الكريم: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ(3/982)
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً»
. (155- 160: النساء) هذه هى المرة الوحيدة التي ذكر فيها القرآن حادثة الصلب، وهو إنما يواجه بهذا اليهود، لا أتباع المسيح الذين يؤمنون بالصلب ويقيمون معتقدهم الديني عليه..
وننظر فى هذه الآيات فنرى:
أولا: يقرن القرآن مقولة اليهود بأنهم قتلوا المسيح- يقرنها بعملين من أعمال اليهود، بحيث- تبدو هذه الفعلة وإن لم تقع- ممكنة الوقوع منهم، وذلك:
(1) أن لهم تاريخا أسود مع أنبياء الله ورسله، يؤذونهم بألسنتهم وبأيديهم، وربما بلغ بهم الشر إلى جريمة القتل- «وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» وقد قتلوا نبىّ الله يحيى «يوحنّا» المعمدان، وذلك بمرأى من المسيح ومسمع!! (2) ثم إنهم مع المسيح خاصة، قد اتّصل أذاهم له، وامتد عدوانهم عليه، فتطاولوا على أمه البتول الطاهرة، ورموها بالفاحشة «وقولهم على مريم بهتانا عظيما» .(3/983)
فإذا ادّعوا أو ادّعى عليهم أنهم قتلوا المسيح، فتلك الدعوى أشبه بحالهم، وأقرب إلى طبيعتهم.. إنها على الطريق الذي ساروا فيه مع أنبيائهم..
وكم قتلوا من أنبياء وأبرياء! ثانيا: يسجل القرآن على اليهود اعترافهم بألسنتهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله.. فهذا الاعتراف منهم يقضى عليهم بتبعة هذه الجريمة المنكرة.! وليس يدفع عنهم وزرها أن يكون الذي قتلوه شخصا آخر غير المسيح، أو أن يكون المسيح قد دفع عن نفسه سلطان الموت، فقام من بين الأموات كما يعتقد أتباعه.. ذلك أن الجريمة وقعت على شخص عيسى بن مريم حسب اعتقادهم وتقديرهم، وأنهم لم يتركوه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ولفّ فى الكفن وأودع القبر.
فإذا وقع بعد هذا ما ليس فى تقديرهم، فكان المصلوب شخصا آخر غير عيسى، أو كان عيسى لم يمت كما يموت الناس، فذلك مالا دخل له بحال أبدا كعنصر من عناصر التخفيف لجنايتهم أو حمل وزرها عنهم! ثالثا: أخذ القرآن شهادتهم على أنفسهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، أخذها من أفواههم وجعل ذلك اعترافا منهم بالجريمة، الأمر الذي لا يحتاج إلى استدعاء شهود غيرهم، بعد أن وصفوا الشخص الذي قتلوه وصفا كاشفا.. فهذه ثلاث صفات يصفون بها الشخص الذي قتلوه.. فهو:
1- المسيح..
2- عيسى بن مريم..
3- رسول الله..(3/984)
وظاهر حالهم تنبىء عن أنهم ينكرون على «عيسى بن مريم» أنه المسيح وأنه رسول الله.. فهم إنما قتلوا حين قتلوا ذلك الشخص الذي يدعى «يسوع» والمعروف بعيسى بن مريم! ولو عرفوا أنه «المسيح» لما قتلوه، أو لو عرفوا أنه رسول الله لما صلبوه! ولكن القرآن ينفذ إلى الصميم من أعماقهم، ويضبط الشوارد من عقولهم، وإذا حصيلة هذا، هو أنهم يعرفون أن عيسى بن مريم رسول الله، وأنه المسيح، ومع هذا فإنهم قتلوه وصلبوه! ذلك أنهم- كما قلنا- كانوا ينتظرون مسيحا يحقق لهم تلك الرؤى- وهذه الأحلام التي انتظروا تأويلها على يد المسيح الموعود الذي حدثهم عنه أنبياؤهم، وتنبأوا لهم بقرب مجيئه وبالخلاص المنتظر على يديه! وإذ طلع عليهم «يسوع» بأنه المسيح أنكروا أن يكون هو المسيح ثم لا يكون بين يديه هذا الخلاص الذي انتظروه.. فليكن «يسوع» مسيحا ولكنهم ليس مسيحهم.. وإلا فيا لخيبة الآمال ويا لطول الشقاء.!
ثم إنهم لكى يقضوا على هذا «الكابوس» المزعج الذي جاء فطرد أحلامهم المسعدة، كان لا بد من أن يقتلوا هذا المسيح، وأن يعجّلوا بقتله وأن يمثّلوا به، شفاء لما امتلأت به صدورهم من خيبة أمل وسوء مصير، فكان أن صلبوا المسيح، لا لأنه جدّف على الله، بل لأنه قضى على أحلامهم، وجاءهم باليأس القاتل..
لما سمع يوحنا المعمدان وهو فى السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه ليقولا له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ «من 11: 3» أما يوحنا فقد أيقن أنه هو المسيح.. وأما اليهود فقد أنكروا أنه هو مسيحهم الموعودون به، لأن مسيحهم كما خيل إليهم يفتح لهم خزائن الأرض ويقيمهم منها مقام المالك المطلق فيها!(3/985)
إنهم كانوا يستعجلون مجىء المسيح، وها هو ذا يقول إنه قد جاء.. ولكنهم لا يجدون عنده ما يتمنون ويشتهون.. ولهذا كانوا معه على حال من الحيرة القاتلة، والشك المؤرّق! «كان عيد التجديد فى أورشليم.. وكان شتاء.. وكان يسوع يتمشّى فى الهيكل فى رواق سليمان فأحاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تلعق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا! أجابهم يسوع: إنى قلت لكم ولستم تؤمنون..
الأعمال التي أنا أعملها باسم أبى هى تشهد لى، ولكنكم ولستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافى كما قلت لكم: خرافى تسمع صوتى وأنا أعرفها فتتبعنى.
(يوحنا 10: 22- 28) مصيبة اليهود مع دعوات الحق التي يدعوهم رسل الله إليها، أنهم لا يفتحون لها قلوبهم، ولا يتعاملون معها بعواطفهم ووجدانهم، وإنما ينظرون إلى هذه الدعوات من جانب عملىّ واقعي، يقاس بمقياس المادة، ويحسب بحسابها، ويوزن بميزان النقد المعجّل المقبوض! وليس بهذا المقياس تقاس الأمور العقائدية، ولا بهذا الحساب تحسب مسائل الإيمان..!
ذلك أن الإيمان بمعناه الصحيح إنما يقوم على أشواق ومواجد تولّدها العاطفة المنقدحة من الوجدان! وبغير هذا لا يكون إيمان، وإن كان، فهو إيمان قائم على خواء، لا يلبث حتى يضمر ويموت! إن الإيمان استجابة لدعوة من دعوات الفن الرفيع الجميل.. فإذا لم يكن المدعوّ إلى الإيمان على حظ من سلامة الوجدان ورفاهة الحس، لم تبلغ الدعوة موطن الإيمان منه!(3/986)
وهؤلاء هم اليهود.. لقد شهدوا على أنفسهم بأنهم أصحاب طبيعة جفّت منها موارد العاطفة، فقالوا ما أخذه القرآن من أفواههم: «قُلُوبُنا غُلْفٌ» أي لا تتأثر كثيرا لهذه المعجزات، ولا تنبهر بتلك الآيات، فكان ردّ الله عليهم وحكمه على قلوبهم «بل طبع الله عليها» وكانت نتيجة هذا التبلد الغبىّ أنهم لا يخطون إلى الإيمان إلا خطوات بطيئة متخاذلة.. «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» أي إيمانا ضعيفا مترددا، قائما على شفا جرف هار من الريبة والشك! ولهذا كان إيمانهم بالمسيح عيسى بن مريم إيمانا من هذا القبيل، إيمانا متلبسا بالكفر، ويقينا محوطا بالشك! وهكذا ظل حالهم معه حتى غلب الكفر إيمانهم، وقهر الشكّ يقينهم، فجدّفوا عليه، وحاكموه، وأسلموه إلى الصلب! إنهم كانوا يعرفون عن يسوع أنه المسيح وأنه رسول الله، ولكن غلب عليهم طبعهم المشئوم فحجزهم عن الخير، وقصّر بهم عن السعى إليه، وما زال بهم حتى أراهم الصبح ليلا، والحق باطلا، فأنكروه على علم، وجحدوه على معرفة.. «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .. هكذا شأن اليهود دائما مع آيات الله ومع رسل الله.
رابعا: كشف القرآن الكريم لليهود عن تلك الواقعة التي خيل إليهم أنهم طمسوا معالمها وعاشوا على زيفها واطمأنوا إلى باطلها..
ولقد خيّل إليهم الوهم الذي أدخلوه على أنفسهم وألبسوه لباس الحقيقة أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم!. ووقر فى أنفسهم أنه لو كان هو المسيح المنتظر لما استطاعوا أن يصلوا إليه، لأنه سماوى لا يخلص إليه أذى من الناس!.(3/987)
فجاءهم القرآن- وهم يعرفون أنه الحق- جاءهم ليوقظهم من هذه النومة التي نعموا بها، وليزعجهم عن هذا المواطن الذي اطمأنوا إليه فى شأن المسيح:
فقال تعالى: «وَما قَتَلُوهُ، وَما صَلَبُوهُ» .
هكذا يعلنهم القرآن بهذا الحكم القاطع الجازم!.
يعلنهم دون أن يقيم له حيثيات، أو يأتى له بأدلة وبراهين!.
وحسب القرآن أن يقول قولا وأن يحكم حكما، فيقوم الوجود كله شاهدا له وبرهانا عليه، وهذا الحكم- كما قلنا- يقطع اليهود عن أحلامهم بالمسيح المنتظر، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا، لأنهم تركوا الخير الذي كان بين أيديهم، وتعّلقوا بأوهام وخيالات لا تقع أبدا.. وهذا بعض ما يشير إليه القرآن فى قوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» . فقد ظلموا أنفسهم وخسروا خسرانا مبينا بتطاولهم على المسيح وبتكذيبهم له، فكان أن حرمهم الله هذا الخير الطيب الذي مدّ إليهم من يد كريمة طاهرة، وكان أن أصبح هذا الخير محرّما عليهم إلى الأبد، لا ينالون منه شيئا!.
«وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» وهنا نقف أمام حقيقة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها وهى أن هناك شخصا صلب تحت اسم «يسوع» بن مريم..
فمن هو ذلك الشخص؟.
اليهود على زعم أنه هو «يسوع» بن مريم الذي كان يدّعى أنه المسيح ابن الله، أو هو المسيح «الله» .
والقرآن يقول إن المسيح عيسى بن مريم هذا لم يقتل ولم يصلب؟.
وإذ يقول القرآن هذا القول، فهو إنما يقول الحق الذي لالبس فيه، ويبقى بعد ذلك أن تقوم الأدلة على نقض هذا القول.. ونقض هذا القول بالبرهان(3/988)
القاطع حكم على القرآن كله بالبطلان، وأنه ليس من عند الله، وإنما هو من قول بشر، يجىء بالصدق وبالكذب، وينطق بالحق وبالباطل!.
والقرآن وإن يكن قد واجه اليهود بهذا الحكم فإنه قد ألزم به أتباع المسيح، وأدخلهم ضمنا فيه..
وقد كشفنا من قبل عن العلة التي من أجلها لم يواجه القرآن أصحاب المسيح بهذا الحكم، الذي هو أصل معتقدهم الديني، وقلنا: إن صلب المسيح فى ذاته لا يقدم ولا يؤخر فى موضوع العقيدة متى عرفت حقيقة المسيح، أهو إنسان من الناس وعبد من عباد الله أم هو الله أو ابن الله؟ .. وهذا هو ما التفت القرآن إليه، واهتمّ له، وفصل فيه!.
ونعود إلى حديثنا عن شخص المصلوب.. ومن هو؟.
شخص مصلوب.. هذا ما لا شك فيه بشهادة الأخبار التاريخية المتواترة، وبشهادة القرآن نفسه إذ يقول «وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» أي خيل إليهم أن المقتول المصلوب هو «المسيح» !.
والأناجيل هى المصدر التأريخي الذي سجل حياة المسيح، وروى الأحداث التي وقعت له، ومنها حادثة الصلب التي كانت أبرز تلك الأحداث وأهمها.
وقد اختلفت الأناجيل فى رسم صورة الحادثة اختلافا يقيم كثيرا من الشكوك والشبه حول شخصية «المصلوب» بحيث لا يرى المتأمل فى الصورة أنه على يقين من أن المصلوب هو المسيح بعينه!.
وشواهد هذا كثيرة يراها من يطالع ما تحدّث به الأناجيل، فى هذه الواقعة.. ولا نرى بأسا من أن نجعلها فيما بلى:
فأولا: الأناجيل الثلاثة- مرقس ومتى ولوقا- تحدّث بأن السيد المسيح وقد جاهره اليهود بالشرّ وتوعدوه بالقتل، فزع إلى الله يناجيه ويبّثه ما به(3/989)
وقد أعلن تلاميذه أنه قد لا يلقاهم.. وفيما هو فى تلك الحال تغيّرت هيأته وظهر له موسى وإيليا!. وفى هذا تقول الأناجيل: «وفيما هو يصلّى على انفراد كان التلاميذ معه، فسألهم قائلا: من تقول الجموع أنى أنا؟ فأجابوا وقالوا:
يوحنا المعمدان! قال لهم: وأنتم من تقولون أنى أنا؟ فأجاب بطرس وقال:
مسيح الله! فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد.. إنه ينبغى أن ابن الإنسان يتألم كثيرا ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة وفى اليوم الثالث يقوم!.
«وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتى ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعنى ...
«وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب، وصعد إلى جبل ليصلّى، وفيما هو يصلّى صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضّا لامعا، وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله فى أورشليم وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع، يا معلم: جيّد أن تكون هاهنا فنصنع ثلاث يمظال، لك واحدة ولموسى واحدة ولإيلياء واحدة وهو لا يعلم ما يقول وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة تظلّلهم فخافوا- أي التلاميذ- عند ما دخلوا السحابة- أي المسيح وصاحباه- وصار صوت من السحابة قائلا: هذا هو ابني الحبيب، له اسمعو.
«ولما كان الصوت وجد يسوع وحده.» لوقا (9: 18- 37) .
ونجد فى هذا الخبر أمورا تستلفت النظر:(3/990)
فمنها، أن شعورا كان متسلطا على اليهود يومذاك بأن القديسيين والأنبياء يمكن أن يقوموا من الأموات، وأن يصلوا من حياتهم ما انقطع بسبب الموت.. ولهذا كان معتقد كثير من اليهود أن المسيح هو يوحنا المعمدان قام من الأموات! ومنها أيضا أن بطرس حين قال للمسيح: أنت مسيح الله، انتهره، وأوصى تلاميذه ألا يقولوا ذلك لأحد.. وعلل ذلك بأن ابن الإنسان- أي المسيح- ينبغى أن يتألم كثيرا، وأن يرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وفى اليوم الثالث يقوم.
ولا ندرى- إذا كان المسيح هو المسيح-لماذا ينكر نفسه؟ ولماذا لا يلقى الناس على الصفة التي جاء بها؟ إن ذلك هو أول ما ينبغى أن يتحدث به إلى الناس، حتى يعرفوا شخص من يتعاملون معه، والصفة التي له وإلا تقطعت بينه وبينهم الأسباب، وكانت دواعى التناكر والتنابذ أشد وأقوى من دواعى التعارف والتآلف! فكيف ينكر المسيح صفته؟ وكيف للناس أن يعرفوه، وهو يأبى إلا أن يستر حاله عنهم، ويقيم بينهم وبينه حجبا وأستارا، ويكلمهم من وراء حجاب؟ فبأى وجه يلقاهم؟ ومن هو؟ وما صفته التي يخاطبهم بها؟
ندع هذا.
وننظر فيما يتكشف من هذا الخبر من ملابسات تتصل بشخصية المسيح قبل حادثة الصلب..
فها نحن أولا نرى السيد المسيح يكشف لتلاميذه عن شخصيته، وأنه المسيح.. مسيح الله..!(3/991)
ونراه يدعوهم إلى التمسك برسالته واحتمال الأذى فى سبيلها.. فهو مزمع أن يرحل، ومن أراد أن يلحق به فى الملكوت الأعلى فلينكر نفسه، وليحمل صليبه كل يوم ويتبعه.
ثم نرى السيد المسيح كذلك وقد انفرد بثلاثة من خاصة تلاميذه: بطرس، ويوحنا، ويعقوب.. وصعد بهم إلى جبل ثم أخذ يصلى.. إنه هنا على موعد مع ربه.. ولقد تغيرت هيئته وصار لباسه مبيضّا لامعا، وظهر له موسى، وإيليا، وأخذت تلاميذه سنة من النوم، فلما استيقظوا رأوا هذا المشهد العجيب الرائع.. ثم رأوا المسيح وصاحبيه قد أظلتهم سحابة، وصار صوت من السحابة يقول: هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا..» .
ثم تعقّب الأناجيل على هذا الخبر بقولها «ولما كان الصوت، وجد يسوع وحده» ! ونقول: ألا يحق لنا أن نفترض- مجرد افتراض- أن المسيح قد صعد مع صاحبيه موسى وإيليا؟ ثم ألا يقوّى هذا الافتراض أن يقوم إلى جانبه زعم آخر، وهو أن موسى وإيليا إنما ظهرا ليسوع فى الوقت الذي قطع فيه الشوط إلى آخره من رسالته، ليصحباه وليؤنساه فى طريقه إلى العالم العلوي؟.
ويعترضنا هنا قول الأناجيل «ولما كان الصوت وجد المسيح وحده» ! ونقول إنه كان لا بد أن يوجد المسيح أو أن يحتفظ له بهذا الوجود! ..
إنه لا بد أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة!! وإلا فكيف يكون موقف هؤلاء التلاميذ الثلاثة الذين صحبوه، إذا هم عادوا بغيره؟ ثم كيف يكون موقف تلاميذه وأتباعه إذا رآهم الناس ولم يروا المسيح معهم؟ أيقولون مثلا: إن(3/992)
المسيح قد رفع إلى السماء؟ فمن يشهد لهم بهذا؟ ومن يقبل هذا القول منهم، ويصدّقه؟
لقد أنكر اليهود على المسيح أنه المسيح، وأنكروا عليه أنه رسول من عند الله.. وها هم أولاء يتوعدونه ويعدّون العدة للإيقاع به، والقضاء عليه، ثم ها هو ذا يختفى من الميدان.. أفيقبل بعد هذا من أحد أن يقول إن المسيح قد رفع إلى السماء؟ إن هذا القول لأشد نكرا عند اليهود من كل ما تحدّث به المسيح إليهم، وكان داعية لثورتهم عليه، وتربّصهم به؟
لا بدّ إذن أن يظل المسيح قائما فى الميدان! وأين المسيح؟ بل أين من يأخذ مكان المسيح؟
تلك هى المشكلة! ولا سبيل إلى حلّ هذه المشكلة إلا إذا تخففنا كثيرا من منطق العقل- خاصة وأن القضية كلها خارجة عن سلطان العقل- وإلا إذا سمحنا للخيال القصصى والأسطورى أن يقوم بدوره هنا لحلّ هذه المشكلة! عندئذ يتغير وجه الصورة التي تمثلت لنا فى حادثة الصلب، كما ترويها الأناجيل، فنرى مثلا يهوذا الأسخريوطي، وهو أحد الحواريّين الاثنى عشر الذين اختارهم المسيح وربّاهم على يديه- نراه وقد اتّجه إلى اليهود الذين كانوا يتربصون بالمسيح، فيدخل عليهم الهيكل ويهتف بهم أن الفرصة قد سنحت لهم ليأخذوا المسيح ويفعلوا به ما يشاءون. وكان ذلك على علم من أصحابه الذين بعثوا به، ليتمّ ما دبروه. وكان تدبير التلاميذ قد سبق هذا العمل، فتخيّروا واحدا من أتباع المسيح فيه بعض مشابه منه، ليكون هو البديل عن المسيح، ويتقبل المصير الذي كان اليهود مزمعين أن يصيروا بالمسيح إليه!(3/993)
وكان من التدبير أيضا أن تخيّر «يهوذا» الوقت الذي يقبض فيه على «المسيح» المدّعى، وهو الليل، كما كان من التدبير أيضا أن يكون المكان بستانا، لا بيتا ولاخلاء.. وفى هذا الزمان وذلك المكان تختلط أشباح الناس، بالأشجار والأغصان التي تتراقص وتضطرب فى ضوء الشموع والمشاعل والمصابيح، التي حملها القوم معهم، ليروا طريقهم فى هذا الليل البهيم!.
وقد كان! فجاء القوم وخرج إليهم «المسيح» البديل يسألهم: من تطلبون؟
فيقولون: يسوع! فيقول: ها أنا ذا!.
وفى هذا يقول يوحنّا: «وخرج- المسيح- مع تلاميذه عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذا مسلمه، يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميذه، فأخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفرّيسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتى عليه، وقال: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو!! وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم، فلما قال لهم: إنى أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض.. فسألهم أيضا: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري!! أجاب يسوع: قد قلت لكم أنا هو..؟ (إنجيل يوحنا: 18: 1- 9) .
إنهم كانوا بلا شك يعرفون شخص المسيح الذي تعلقت الأنظار به فى أكثر من موقف من مواقفه الرائعة المذهلة.. ولكنهم فى هذا الظلام أو فى هذا النّور المظلم، لم يكن فى مقدورهم أن يتبينوا شخوص الناس، وأن يتحققوا من ذواتهم.. ولهذا كان سؤال وكان جواب! وقد وضع القوم يدهم على هذا الذي دعاهم إليه وقال: إنه يسوع!.
ثم إنهم ما كانوا يضعون أيديهم عليه حتى أخذته الأيدى والأرجل، صفعا وركلا، حتى لتتغيّر لذلك هيأته، وتكاد تذهب كل معالم شخصيته!.(3/994)
وفى صورة هذا المسيح «البديل» نستطيع أن نفسّر كثيرا من تلك المواقف الغامضة، التي كانت تبدو متأبّية على كل تفسير وتأويل..
فهذا يهوذا الأسخريوطي الذي بدا لنا من قبل خائنا ساقط المروءة، يبيع أستاذه ومعلمه بدراهم معدودة، وهو الذي كان إلى يده بيت مال المسيح وأتباعه- ها هو ذا يبدو لنا فى هذا التصور حواريّا قائما على العهد الذي بينه وبين المسيح، محتفظا بمكانه بين الاثنى عشر حواريا الذين يقول المسيح عنهم مخاطبا ربه- كما تروى الأناجيل- «إن الذي أعطيتنى لم أفقد منهم أحدا» ثم هاهوذا بطرس الذي تبع «المسيح» وأنكره ثلاث مرات لم يكتف بهذا بل سبّه ولعنه- وهو فى هذا الموقف أسوأ حالا من يهوذا- نراه هنا لم يكذب حين أنكر معرفته بهذا الرجل، كما أنه لم يأت كبيرة حين سبّ ولعن! لأنه لم يسب المسيح ولم يلعنه، وإنما أنكر البديل، وسبّه ولعنه! ثم هذا الذي كنا نستغربه، ونعجب له من صمت المسيح ومن عيّه عن ردّ الجواب.. أمام رئيس الكهنة (قيافا) وأمام الوالي بيلاطس.. ثم هذا العجز الظاهر وهذه- الشخصية الباهتة التي رآها فيه «هيرودس» .. ثم هذا الجزع وهذا الضعف وهذا الصراخ اليائس الذي كنّا نسمعه من المصلوب، ونعجب له «1» كل هذا يبدو مقبولا يقوم على مألوف الحياة، وعلى مستوى الطبيعة البشرية، على حين كان- يبدو غريبا ممعنا فى الغرابة أن يصدر من مسيح الله، ومن أحد حوارييه وتلاميذه الذين وطّنوا أنفسهم على الموت فى سبيل الله! فهل رأيت إلى هذا الفرض الذي افترضناه وكيف حلّ كثيرا من المشكلات وقضى على كثير من المتناقضات التي كانت تصادفنا فى قصّة صلب المسيح، كما ترويها الأناجيل؟ لقد استقرت أجزاء هذه الصورة وثبتت ملامحها، بعد أن كانت تبدو مهزوزة مضطربة تجمع المتناقضات.! ثم ألا ترى
__________
(1) تحدثت الأناجيل عن كل هذه الأحداث على هذا النحو الذي ذكرناه.(3/995)
أن قبول هذا الفرض أولى من الأخذ بتلك الأخبار المتنافرة عن صلب المسيح، واعتبار أن المسيح نفسه هو الذي صلب؟
ألا يعفينا هذا الفرض من كثير من المشكلات التي واجهها العقل- واضطرب فيها حين وجد نفسه بين يدى «الله» أو ابن الله.. مصلوبا معلقا على خشبة، يصرخ فى رعب وفزع واضطراب؟
فإذا جاء بعد هذا شاهد يشهد بأن المسيح لم يصلب، ولم يقتل، أفلا يلفتنا هذا الشاهد إليه، وإلى كل كلمة يقولها فى هذه القضية؟ ثم ألا تقوّى هذه الشهادة من الفرض الذي افترضناه وتدنيه من الواقع وتدفع به إليه؟
فكيف إذا كان هذا الشاهد منزّها عن الكذب، لا يشهد إلا بالحق، ولا يقول غير الحق؟ ثم كيف إذا كان الشاهد هو القرآن الكريم، والقول هو قول رب العالمين؟ .. وكيف إذا قال هذا الشاهد فى صلب المسيح:
«وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» ؟
هذا، وقد حاول كثير من مفسرى القرآن الكريم من علماء المسلمين أن يقولوا بآرائهم فيما أجمله القرآن ولم يفصّله ويكشف عن وجهه.! ومثل هذه المقولات إنما هى لحساب أصحابها، وليس على القرآن شىء منها، إذ لا تعدو أن تكون أنظارا متجهة إلى آية من آيات الله.. قد تتهدّى إلى بعض أسرارها، وقد تضلّ الطريق فلا تعرف شيئا! وللإمام الرازي قصب السبق فى هذا المجال، فهو أكثر مفسرى القرآن تقليبا لوجوه الرأى، وجلبا للآراء والأخبار من كل واد، شرحا لمجملات القرآن، وإشاراته.. وفى قوله تعالى «وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» مثل لهذا المنهج فى تفسير القرآن:(3/996)
يقول الرازي فى تفسيره لهذا المقطع من الآية الكريمة: «اختلفت مذاهب العلماء فى هذا الموضوع، وذكروا طرقا:
(الأول) قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لمّا قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء، فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه وشهدوا على الناس أنه المسيح! (الثاني) أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر.. ثم فى هذا وجوه:
1- دخل طيطاوس اليهودي المكان الذي فيه المسيح فلم يجده، فألقى شبهه عليه، فلما خرج ظنّ أنه عيسى، فأخذ وصلب! 2- وكلوا بعيسى رجلا يحرسه، فرفع عيسى إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب.. فقتلوه وهو يقول: لست بعيسى!.
3- تطوّع أحد أصحابه، فألقى الله شبه عيسى عليه، فأخرج وقتل، ورفع عيسى.
4- نافق أحد تابعيه، ودلّهم على عيسى ليقتلوه، فلما دخل اليهود لأخذه ألقى الله شبهه عليه، فقتل وصلب! «وهذه الوجوه متعارضة متدافعة! والله أعلم بحقائق الأمور!! ثم يثير الرازي مناقشة حول هذه المقولات فيجرّحها جميعا، ولا يرتضى واحدة منها.. فيقول.
«فكيفما كان، ففى إلقاء شبهه على الغير إشكالات:
(الإشكال الأول) : أنه إن جاز أن يقال إن الله يلقى شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة. وأيضا يفضى إلى القدح فى التواتر..
ففتح هذا الباب، أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.(3/997)
(الإشكال الثاني) أن الله أيده بروح القدس جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده؟ وهو- المسيح- كان قادرا على إحياء الموتى.. فهل عجز عن حماية نفسه!؟
(الإشكال الثالث) أنه تعالى كان قادرا على تخليصه برفعه إلى السماء، فما الفائدة فى إلقاء شبهه على غيره؟ وهل فيه إلّا إلقاء مسكين فى القتل من غير فائدة إليه؟
(الإشكال الرابع) بإلقاء شبهه على غيره اعتقد اليهود أن هذا الغير هو عيسى، مع أنه ما كان عيسى، فهذا إلقاء لهم فى الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله! (الإشكال الخامس) أن النصارى على كثرتهم فى مشارق الأرض ومغاربها، وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم فى أمره، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلو أنكرنا ذلك طعنّا فيما ثبت بالتواتر.. والطعن فى التواتر يوجب الطعن فى نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء.
(الإشكال السادس) ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنّه ليس بعيسى؟ والمتواتر أنه ما فعل، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شىء من هذا علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم!» .
هذه هى الإشكالات التي أثارها «الرازي» على القول بأن المصلوب شخص آخر ألقى شبه المسيح عليه.!
وقد عرضنا من قبل رأيا افترضناه فرضا، وهو أن الشخص المصلوب شخصية قدّمها أتباع المسيح- لا اليهود- لتحاكم وتقتل، وذلك بعد أن رفع المسيح إلى السماء مع موسى وإيليا. وذلك لكى يسدّوا هذا الفراغ الهائل الذي تركه المسيح!(3/998)
وهذا الفرض لا يثير إلا إشكالا واحدا.. وهو أن اليهود قتلوا شخصا هو المسيح بن مريم فى اعتقادهم، على حين أن المقتول شخص آخر غيره.. وهذا- كما يقول الرازي- إلقاء لهم فى الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله! وقلنا إن ذلك كان عقوبة لليهود، إذ حملوا دم المسيح دون أن يقتلوه! وفى ذلك ما فيه من الكبت والحسرة لهم! وبعد، فإن «قضية صلب المسيح» ينبغى أن يعاد النظر فيها، وأن تحقّق تحقيقا علميا، وأن تفنّد الحجج التي تؤيدها والتي تنكرها.. بل إن هذا هو الذي ينبغى أن يقوم له العلماء والدارسون على اختلاف عقائدهم منذ نزل القرآن الكريم وأعلن هذا النبأ العظيم: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً.. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» .
ولو أن البحث فى قضية الصلب انتهى بالباحثين إلى تلك الحقيقة التي قرّرها القرآن- وهو لا بد منته بهم إليها- لا التقت الديانات السماوية الثلاث على سواء..
فأولا: كاد اليهود يقطعون الشك باليقين فى أمر مسيحهم المنتظر الذي يعدّون العدة لاستقباله، الأمر الذي يملأ صدورهم شعورا بالعزلة عن الناس والتعالي عن العالمين، باعتبارهم شعب الله المختار، ولنظروا إلى أنفسهم من جديد فرأوا أنهم قد فاتهم خير كثير كان يمكن أن يصل إليهم من هذا الميراث العظيم من تعاليم المسيح وأدبه، وبهذا يلتقون بتلك التعاليم السمحة الكريمة التي تذهب بالكثير من أدوائهم وعللهم، التي تنشر الشر والبلاء فى العالم كله.
وثانيا: كان أتباع المسيح يعيشون مع تعاليم المسيح على هذه الأرض، ويغرسون مغارس الرحمة والحب والأخوة فى كل مكان، فلا تظل عيونهم معلقة به فى ملكوته،(3/999)
بينما تخلو قلوبهم وتصفر أيديهم من هذا الثمر الكريم الذي غرسته يداه فى هذه الأرض! وثالثا: كان المسلمون لا يرون هذه الحواجز القائمة بينهم وبين أتباع المسيح فى دراسة الأناجيل والتأدّب بآدابها والانتفاع بتعاليمها.. فالمسلمون وإن كانوا على يقين بأن المسيح لم يصلب ولم يكن إلها ولا ابن إله، فإن اعتقاد أتباع المسيح بهذا كله يدخل على المسلمين شعورا خفيا بالحذر من مخالطة الأناجيل، والتلقّى عنها، لما فيها من هذه المقولات التي تخالف معتقدهم الديني وتأخذ طريقا غير طريقه! ونسأل:
ترى أتكشف الأيام عن جديد فى قضية الصلب والقيامة؟ وهل تجىء الأيام بتأويل ما نطق به القرآن الكريم فى هذه القضية؟
ذلك ما لا نشك فيه.. إن لم يكن اليوم فغدا!.
وأحسب أن كثيرا من إخواننا المسيحيين قد يسوؤهم أن يقع هذا وأن يقول قائلهم- كما يقال- وأين المسيحية التي ندين بها، إذا لم يكن المسيح قد صلب وقام من بين الأموات؟ أمسيحية بغير المسيح مصلوبا ومقاما من بين الأموات؟ ثم أمسيحية بغير الإله يصلب فى شخص المسيح، لتكفير الخطايا وغفران الذنوب؟
ونقول لأولئك الذين يجزعون من القول بأن المسيح لم يصلب، ولم يقم من بين الأموات، ولم يكن إلها ولا ابن إله، وإنما كان عبدا من عباد الله ورسولا من رسل الله، كما يقول هو عن نفسه، وكما يصرح الإنجيل على لسانه بأنه نبىّ من أنبياء الله.. إذ جاء فى إنجيل لوقا: «فى ذلك اليوم تقدّم إليه بعض(3/1000)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
الفرّيسيين قائلين: اخرج واذهب من هنا، لأن هيرودس- وكان حاكم منطقة الجليل- يريد أن يقتلك، فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغدا وفى اليوم الثالث أكمل، بل ينبغى أن أسير اليوم وغدا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبىّ خارج أورشليم» (لوقا: 13:
31- 34) .. فالمسيح عند نفسه أنه نبىّ، إذا كان هذا كلامه.. وهو عند أتباعه كذلك.. نبىّ إذا كان هذا مما تصوره كاتب الإنجيل..
نعم- نقول لهؤلاء الذين يجزعون من القول بنفي صلب المسيح وألوهيته- لا عليكم.. فإنكم لو أقمتم نظركم على المسيح إنسانا رسولا، والتقيتم به على هذا الوجه وتعاملتم به على تلك الصفة، لتضاعف هذا الخير الذي تركه المسيح وراءه ...
فى كلماته المشرقة وآياته الوضيئة، وكان لكم من هذا الزاد الطيب غذاء صالح تحيا به النفوس، وتطهر به الأرواح وتعمر القلوب.. بالحب والمودة والإخاء..
ولكان لكم فى المسيح الإنسان المثل الأعلى والقدوة الصالحة، لما تنزع إليه النفوس من حق وخير وكمال فى عالم البشر.. لا تجده الحياة على تمامه وكماله إلا فى رسل الله وأنبيائه، وفى الصفّ الأول منهم المسيح.. الإنسان.. ابن الإنسان!
الآية: (159) [سورة النساء (4) : آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
التفسير: المعنى الحرفىّ لهذه الآية هو:
ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بالمسيح قبل أن يموت المسيح،(3/1001)
ثم يكون المسيح يوم القيامة شهيدا على أهل الكتاب هؤلاء.. أي شاهدا عليهم بما كان منهم معه..
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى..
فما تأويل هذا؟
وكيف يؤمن أهل الكتاب جميعا بالمسيح، وقد أنكره اليهود، وما زالوا، وهم من أهل الكتاب؟
ثم إن الأمر لأكثر من هذا.. فقد جاء الخبر مؤكّدا، مستغرقا جميع أهل الكتاب، فردا فردا..
وهذا يعنى أن الخبر على حقيقته، وأنه لا مجال فيه للمجاز.. وأنه حكم جازم قاطع بأن كل أحد من أهل الكتاب لا يموت إلا وهو مؤمن بالمسيح! فما تأويل هذا؟
قيل إن المراد من إيمان أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- بالمسيح، هو تصحيح إيمانهم به ومعتقدهم فيه.. إذ كان اليهود قد نسبوه إلى أمّ زانية، واتهموه بالسحر والشعوذة والتجديف على الله، وحكموا عليه بالموت صلبا..
على حين أن النصارى رفعوه إلى مقام الألوهية، وجعلوه هو الله سبحانه وتعالى، تجسّد فى عذراء، وبشّر بالإنجيل، ثم صلب- مختارا- ليفتدى بدمه خطيئة آدم، وليطهّر البشر منها. ثم قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام..!
وتصحيح إيمان هؤلاء وأولئك بالمسيح، هو رؤيته على الصورة التي هى له، وأنه عبد من عباد الله، وأنه ولد من أمّ دون أب، كما ولد آدم من غير أب ولا أم، وأنه نبىّ اصطفاه الله لهداية الناس، والتبشير بالحق، والعدل، والسلام(3/1002)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
فيهم، وأنه لم يصلب ولم يقتل، ولم يقم من بين الموتى.. وأنه ليس إلها ولا ابن إله..
أما تصحيح هذا الإيمان، فإنه يكون فى سكرة الموت، حيث تشهد الروح قبل أن تفارق البدن شعاع الحق يكشف لها كل ما كانت عليه من ضلال..
وفى لمحة خاطفة، أشبه بلمحة البرق ترى الروح كلّ شىء، وتعلم كل شىء..!
ومن بين ما تعلمه فساد معتقدها أو سلامته، وسوء مصيرها أو حسنه! وهذا الذي تشهده الروح فى هذه اللمحة من معالم الحق لا يغيّر من وضعها الذي كانت عليه.. فهذا إيمان كإيمان فرعون حين أدركه الغرق، «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (90: يونس) وقد ردّ الله إيمانه ولم يقبله بقوله تعالى: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (91: يونس) .
الآيتان: (160- 161) [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
التفسير: من العقوبات التي عجّلها الله سبحانه وتعالى لليهود فى هذه الدنيا، أن حرّم عليهم طيبات كانت أحلت لهم، فلما مكروا بآيات الله أخذهم الله بذنوبهم، فأعنتهم وأوقعهم فى الحرج، كما أعنتوا هم رسله وأخرجوهم..
فمن طيبات الطعام التي حرمها الله على اليهود، ما جاء فى قوله تعالى:(3/1003)
«وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) وقوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ» أي بسبب ما كان من الذي هادوا من ظلم..
وقوله تعالى: «وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» هو سبب آخر لتلك العقوبة التي أخذوا بها، وهى أنهم صدّوا عن سبيل الله وأعرضوا عنها، كما صدّوا غيرهم عن سبيل الله، وأضلوهم عنه.
وقوله تعالى: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» هو بيان لبعض مآثم هؤلاء القوم، التي كانت سببا فى أن سلط الله عليه لعنته وأخذهم بهذا العقاب الأليم..
فقد استحلّوا الرّبا، وقد نهاهم الله عنه.. وقد بلغ من جرأتهم على الله أن حرّفوا التوراة، وأقاموا نصوصها على الوجه الذي يرضون.. فجعلوا الربا محرما إذا كان بين يهودى ويهودى، ومباحا حلالا إذا كان بين يهودى وأممىّ، أي غير يهودى.. وفى هذا تقول التوراة، كما أرادوا لها أن تقول: «لا تقرض أخاك بربا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شىء مما يقرض بربا.. للأجنبى تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا!!» (تثنية 33: 19) .. أفهذا شرع الله بين عباده؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وفى قوله تعالى: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا» ما يجعلنا نأنس إلى الرأى الذي رأيناه فى تفسير قوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ(3/1004)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ»
فقد قلنا إن المراد بآكلى الربا هنا هم المقترضون، لا المقرضون..
ولهذا جاء قوله تعالى هنا: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا» مرادا به المقرضون، وأصحاب الأموال، التي يتعاملون فيها بالربا، ولم يجىء هكذا: «وأكلهم الربوا» لأن اليهود يقرضون ولا يقترضون..
وقوله تعالى: «وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» هو أعمّ من الربا، وهو كل مال جاء من طريق غير مشروع، كالسلب والسرقة، وكالقمار، والخداع، والغش، والرشوة، ونحو هذا..
واليهود يتزاحمون دائما على كل مورد من هذه الموارد، حتى لا يكادون يدعون مكانا لغيرهم من الناس! قوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. هو نذير لليهود بالعذاب الأليم فى الآخرة، بعد أن لبسوا البلاء المهين فى الدنيا.. وفى وصفهم بالكفر، والاتجاه بالخطاب إليهم بهذا الوصف، هو لغلبة الكفر عليهم، كما يقول الله تعالى فيهم: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) ..
وفى قوله تعالى: «مِنْهُمْ» استنقاذ لمن خلص بجلده من هذه الجماعة، وخرج عن محيطها، فآمن بالله، وأخلص دينه لله!
الآية: (162) [سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)(3/1005)
التفسير: الراسخون فى العلم: هم أهل العلم القائم على النظر السليم، والفهم الذكىّ..
وهؤلاء الراسخون فى العلم من أحبار اليهود وعلمائهم- ليسوا على شاكلة قومهم من الكفر والعناد، وقساوة القلب.. بل هم إذ يرون الحق يعرفونه ويؤمنون به، وقد آمنوا بما فى أيديهم من كتاب، كما آمنوا بما نزل على محمد من كلام الله- فهم حيث وجدوا الحق، عرفوه، وانقادوا له، وأسلموا إليه زمامهم.. لا يعنيهم على أىّ يد جاءهم، ولا من أي جهة طلع عليهم..
وهكذا حكم العقل السليم على أهله.. يقودهم إلى الحق، ويجمعهم عليه..
وقوله تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ» هو عطف على قوله تعالى: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ» .. فهؤلاء الراسخون هم والمؤمنون سواء، إذ يلتقون جميعا على الحق: «يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» .
وهؤلاء المؤمنون قد يكونون من مؤمنى اليهود، الذين آمنوا عن استجابة لدعوة الحق، ولم يتّبعوا أهواء أهل الضلال فيهم، فظلوا متمسكين بالعقيدة السليمة التي جاء بها موسى.. فهم مؤمنون.. وهؤلاء لا يرون فى إيمانهم تعارضا مع ما جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهم والراسخون فى العلم سواء فى مواجهة الدعوة الإسلامية، إذ يرونها هى والحق الذي فى أيديهم على طريق واحد..
وقد يكون المراد بهؤلاء المؤمنين، المسلمون.. فهم إذ آمنوا بمحمد مدعوون إلى الإيمان برسل الله جميعا، وبالكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء..
قوله تعالى: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» هو استئناف لتقرير حكم جديد، لمن(3/1006)
آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ذلك، الحكم هو أن الله سيؤتيهم أجرا عظيما..
ومناسبة هذا الحكم لما قبله، هو أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى الراسخين فى العلم والمؤمنين وأنهم يؤمنون بما أنزل على محمد، وما أنزل من قبل- ناسب أن يذكر لهؤلاء آمنوا، أن وراء الإيمان عملا، وأن هذا العمل هو الذي يتمم الإيمان، ويعطى الثمرة الطيبة التي له.. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما أبرز عملين من أعمال المؤمنين، وأن الاستقامة عليهما سبب لمرضاة الله، وللأجر العظيم عنده.
وفى عطف قوله تعالى: «وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على قوله سبحانه: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» مع الاختلاف فى الصورة الإعرابية بين العطوف والمعطوف عليه- فى هذا ما يدعو إلى التوقف والنظر..
فلم لم يكن المتعاطفون نسقا واحدا، على أية صورة.. بالرفع مثلا، هكذا:
«والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر؟
وقد كثرت فى هذا آراء المفسرين والنحاة.. ولم نر فيما قاله هؤلاء وهؤلاء وجها نستريح له، ونرضى به، ونطمئن إليه.. إذ كلها محاولات لتسوية هذا التخالف، الذي يبدو وكأنه تناقض وخروج على أساليب العرب، ومألوف كلامهم.. وكأنهم- أي المفسرون والنحاة- يلتمسون المعاذير للقرآن، لهذا الخلل الذي ظهر فيه هنا.!!
وللقرآن الكريم، أن يكون متفقا مع قواعد النحاة أو مخالفا لها، جاريا ما عرف من أساليب العرب أو خارجا عنها.. وعلى النحاة أن يصححوا نحوهم عليه، وعلى الأساليب العربية أن تستقيم على ما طلع عليه بها القرآن من أساليب جديدة، وأن تجعلها من مذخورها الذي تحرص عليه، وتثرى باقتنائه، وتعتزّبه.(3/1007)
فلنتحرر إذن من قواعد النحو، وأساليب العرب، حينما نستقبل جديدا من أساليب القرآن وإعجازه، ولنلقه بقلوبنا، لقاءنا لمعجزة قاهرة متحدية..
ونعم، فإننا بين يدى كل آية من آيات الكتاب الكريم، فى مواجهة معجزة متحدية، لا تكشف لنا عن وجهها إلا بعد توقف ونظر.. ولكنا حين نكون بين يدى آية تطلع علينا بأسلوب غير مألوف من أساليب العربية، وغير جار على مقررات النحاة وقواعد النحو- فإننا نكون حينئذ فى مواجهة آية تكشف لنا عن وجه من وجوه إعجازها، وتدعونا إليها، وتحملنا حملا على النظر فى وجهها.
فهنا فى هذه الآية.. دعوة صريحة، وإشارة مضيئة، إلى كلّ من يلتقى بهذه الآية الكريمة أن يقف عندها، وأن يدبر النظر فيها، وأن يسأل نفسه كل تلك الأسئلة التي سألها المفسرون والنحاة، عند ما التقوا أو يلتقون بكلمة: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» .
لماذا خالفت نسق ما قبلها؟
ولماذا تخالف نسق ما بعدها؟
ولعلنا لا نقف طويلا عند الإجابة عن السؤال الأول.. إذ نجد الجواب حاضرا قريبا، وهو أنه ليس بين هذه الكلمة وما قبلها صلة عطف، وأن «الواو» التي تسبقها ليست واو عطف، وإنما هى للاستئناف.. إذ قد تمّ الكلام قبلها، واستؤنف بها كلام جديد، لتقرير حكم جديد..
ويبقى بعد ذلك الجواب عن السؤال الثاني.. وهو الذي يحتاج إلى طول نظر، وكثير تأمل! وأقلّ ما تخرج من بعد هذا النظر الطويل، وهذا التأمل الكثير هو:
(أولا) : قطع ما بعد الواو فى قوله تعالى: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» عما قبلها.. إذ كان لما قبلها شأن، ولما بعدها شأن آخر..(3/1008)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
ولو لم يلقنا هذا التخالف فى نظم الآية لما وقفنا عند تلك الكلمة، ولربّما داخلنا شعور- من حيث لا ندرى- أن الآية الكريمة نسق واحد، تنتهى إلى حكم واحد، هو ما ختمت به الآية فى قوله تعالى: «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» .
(وثانيا) ترديد كلمة «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» والدوران حولها، والبحث عن الوجه الذي تنتظم فيه بما قبلها أو بعدها.. وفى هذا الترديد لتلك الكلمة، والتحديق الطويل فيها- ما يربط الشعور بها، ويشدّ العقل إليها، ويشغل التفكير بها.. وذلك من شأنه أن يقيم الصلاة مقاما مكينا فى كيان المؤمنين، الأمر الذي يجب أن يكون للصلاة، إذ هى عمود الدّين، وركنه الركين..
من أقامها فقد أقام الدين، ومن ضيعها فقد ضيّع الدين..
والسؤال هنا..
ما الوجه النحوي الذي يستقيم عليه الرأى فى هذه الكلمة؟ وهل هى منصوبة على الاختصاص.. أو معطوفة على معمول الباء فى قوله تعالى:
«يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» أي ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.. رفعا لشأن الذين يقيمونها، وأنهم معلم من معالم الإيمان..؟
أما نحن فإنا لا نورد هذا السؤال.. ولا نتصدّى للإجابة عليه.. وإنما نتقبّل الأسلوب القرآنى، دون أن نجد فيه علة تدعو إلى كشف، أو غموضا يحتاج إلى بيان!! وغاية ما يمكن أن نقوله هو: أن هذا هو أسلوب القرآن..
وعلى النحو أن يصحح قواعده عليه، وعلى البلاغة أن تضبط موازينها به!
الآيات: (163- 165) [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)(3/1009)
التفسير: ما حجّة هؤلاء الذين يفرّقون بين رسل الله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض؟ ما حجتهم؟ وما عذرهم؟ ورسل الله جميعا هم بعثة الهدى والرحمة المرسلة من الله إلى عباد الله.. لا يحملون فى أيديهم إلا الخير، ولا يمدّونها بغير الهدى! .. فكيف يقبل الناس على بعضهم ويعرضون عن بعض؟ وكيف يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؟
إن ذلك هو كفر، وإن الإيمان المتلبس به لا معتبر له.. لأنه إيمان قائم على التعصب والهوى، لا على الحق والهدى.. ولو كان إيمانا صحيحا لا استقام على كل طريق يقوم على الإيمان ويدعو إليه..
وقوله تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ..»
هو بيان لهذا المنزّل على «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، وأنه عليه الصلاة والسلام.. ليس بدعا من الرسل..
والأسباط، هم أبناء يعقوب.. وعدتهم اثنا عشر ومنهم، يوسف- عليه السلام-.
وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» - ما يسأل عنه.. وهو:
لم انفرد داود عليه السلام بقوله تعالى: «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» ؟ ولم لم يدرج(3/1010)
مع الأنبياء الذين أوحى الله إليهم، وكان لهم ذكر قبله؟.
والجواب على هذا، هو أن «الزبور» لم يكن من كلمات الله الموحى بها، وإنما كان إلهامات ومشاعر فاض بها قلب داود، فى مقام الولاء والخشوع لله، فكانت ترانيم جرت على لسانه، يمجّد الله بها، ويرفعها إليه فى صلوات خاشعة، أشبه بالمأثور من دعاء النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، فى مواقف صلواته لله، وتسبيحه له.. ولهذا أضيفت إليه فسميت «مزامير داود» .
وقد نوّه الله سبحانه وتعالى، بهذه التسابيح التي فاض بها قلب داود، وأطلقتها مشاعره. وردّدها لسانه- لما فيها من صدق الإيمان، وإخلاص الحبّ والولاء لله، وجعلها سبحانه، مما يتقرب بها إليه المؤمنون، ويسبّحه بها المسبّحون! وقوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» إشارة إلى أن ما تلقّى موسى من كلمات ربّه لم يكن عن وحي ينقل إليه كلمات الله، كما كان يفعل جبريل مع أنبياء الله، وإنما كان تلقيا مباشرا من الله سبحانه: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» وفى تأكيد هذا الخبر ما يدفع أي احتمال لمجاز، بل إنّ هذا الذي تلقاه موسى من ربّه، كان مما كلّمه الله به، وكتبه له فى الألواح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» (145: الأعراف) وكان ذلك فى أربعين ليلة هى التي انعزل فيها موسى عن قومه، ليستقبل ما تلقاه من ربّه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (142: الأعراف) .
وقوله تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» أي أرسلنا رسلا إلى الناس،(3/1011)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
مبشرين ومنذرين، يبشرونهم بمغفرة ورضوان إذا هم استجابوا لرسل الله، وآمنوا بالله، وينذرونهم بما يلقون من سخط الله وعذابه، إذا هم كذّبوا رسل الله وكفروا بالله..
وقوله سبحانه: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» هو إشارة إلى ألطاف الله، ورحمته بعباده، حيث لم يدعهم إلى عقولهم ليتعرفوا إليه، ويستقيموا على سبيله، بل رفد هذه العقول بذلك النور الهادي الذي حمله إليهم رسل الله، لتكون رؤيتهم لآيات الله واضحة، وطريقهم إليه مشرقا..
فمن كفر بالله وحاد عن طريقه، فليس ذلك عن علّة، إلا العناد، واتباع الهوى، والانقياد للشيطان.. فإذا أخذ الكافر بكفره، فذلك هو الحكم الذي حكم به الكافر على نفسه، ورضيه لها. فلا عذر لمعتذر، ولا حجة لكافر.
وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو بيان للصفة الإلهية المتجلية على العباد فى هذا المقام. فهو سبحانه وتعالى عزيز، يخضع لعزته كل موجود.. ولو شاء لأخذ الناس بغير حجّة عليهم، ولعذبهم من غير أن يبعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين- إذ ليس لأحد أن يراجع الله، ولا أن يعترض على ما يريد.. ولكنه- سبحانه- مع هذه العزة المتمكنة الغالبة «حكيم» لا يفعل إلا ما تقضى به حكمته، فى إشراقها وعدلها.
الآيات: (166- 169) [سورة النساء (4) : الآيات 166 الى 169]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)(3/1012)
التفسير: قوله تعالى: «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ» هو رد على المكذبين برسول الله، الذين يتهمونه- كذبا- وبهتانا- أنه يدّعى على الله هذا الكتاب الذي يقول فيه إنه من عند الله..
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بتلك الشهادة القاطعة، بأن هذا الكتاب هو من عند الله.. فهو كتاب الله، وقد شهد الله سبحانه أنه كتابه، وأنه هو الذي أنزله.
وإذ يكون الكتاب المكذّب به، هو الذي يحمل تلك الشهادة التي تشهد له بأنه من عند الله، الأمر الذي لا يجرؤ عليه أحد، يقف مثل هذا الموقف، ويواجه بمثل هذا الاتهام- فإن هذا فى ذاته دليل على أن الكتاب هو كتاب الله، وأن الله هو الذي يشهد لكتابه، ولو أن القرآن كان من عمل محمد، لما كان من التدبير الحكيم أن يحمّل هذا القرآن شهادة تشهد له أنه من عند الله!! إذ من يصدق هذا، أو يقبله، ممن يدفعون الكتاب جملة، ويتهمون حامله إليهم بالكذب والافتراء!؟
ولكن حين يكون الكتاب هو كتاب الله، والرسول هو رسول الله، فإنه مأمور بأن يبلغ ما ما يتلقّى من ربّه، وأن يحمل هذه الشهادة ويبلّغها، غير عابىء بما يلقاه به المكذبون من تشنيع وشغب! وهذا أبلغ دليل على أن الكتاب هو من عند الله، وليس محمد إلا رسولا مبلّغا له.(3/1013)
وقوله تعالى: «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ» أي أنزل الله هذا الكتاب الذي أنزل إليك، بعلمه وتقديره، حيث تخيّر له الرّسول الذي هو أهل لحمله وأداء الرسالة المشتمل عليها..
وفى هذا يقول الله سبحانه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام) وقوله سبحانه: «وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ» أي والملائكة يشهدون أن هذا الكتاب هو من عند الله، وأنك الرسول المتخيّر.
وشهادة الملائكة قائمة على الحق، لأنهم لا يعرفون الكذب، ولا يتعاملون به.. فهم إذا شهدوا على شىء كان حجة على الناس أن يأخذوا بهذه الشهادة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (18: آل عمران) أي والملائكة وأولوا العلم يشهدون بأن الله لا إله إلّا هو قائما بالقسط.
وقوله تعالى: «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» هو دفع لشبهة من يقع فى وهمه أن شهادة الملائكة تزكية لشهادة الله وتقوية لها.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإنما شهادة الملائكة هى إقرار بالحق الذي يجب أن يشهد به الوجود كله، وبخاصة أصحاب العقول، وأولوا العلم! وإذا كانت تلك هى شهادة الله سبحانه للقرآن الكريم، وهى شهادة الملائكة أيضا له.. فإن الذين لا يأخذون بهذه الشهادة، ويظلّون على ما هم فيه من كفر وعناد، لا يستقيم لهم طريق على الحق أبدا، وأنهم إذ كفروا وظلموا أنفسهم بهذا الكفر، فليس لهم فى رحمة الله نصيب: «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً» .
وقوله تعالى: «إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ» هو كشف عن هذا المصير الذي سيصير(3/1014)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
إليه هؤلاء الذين كذّبوا بآيات الله، ودفعوا شهادة الله، وشهادة ملائكته.. فإن طريق الضلال الذي ركبوه هو منته بهم إلى جهنّم، التي سيصلون سعيرها، «خالِدِينَ فِيها أَبَداً..»
وقوله تعالى: «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» أي أن سوق هؤلاء الكافرين إلى عذاب جهنم، وخلودهم فيها، هو هيّن عند الله، وأنّ أخذ هؤلاء الجبابرة العتاة ليس بالأمر الذي يقف دون قدرة الله، كما يتصور الذين لا يعرفون الله حق معرفته، والذين يرون فى رؤسائهم وقادتهم، أنهم فى مقام عزيز لا ينال..
وهذا هو بعض السرّ فى الإشارة إلى صنيع الله بهؤلاء الظلمة الكافرين، الذين هم شىء عظيم فى أعين أتباعهم والمستضعفين لهم.. وإلا فإن كلّ شىء هيّن يسير على الله.. لا يعجزه شىء، ولا يقف لقدرته شىء!
(الآية: 170) [سورة النساء (4) : آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
التفسير: بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا المصير المشئوم، الذي سيصير إليه أولئك الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله، ووقفوا من الرسول هذا الموقف العنادىّ الآثم- جاءت دعوة الله للناس جميعا أن يلتقوا بهذا الرسول، الذي جاءهم بالحق من ربهم، وليؤمنوا به، فإن آمنوا فقد كسبوا أنفسهم، واختاروا الخير لها، وإن كفروا، فقد خسروا أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك.. ولن يضرّ كفرهم إلا أنفسهم، فالله غنىّ عن إيمان المؤمنين،(3/1015)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
وكفر الكافرين.. له ما فى السماوات والأرض.. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) . وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» أي يعلم المفسد من المصلح، وما تخفى الصدور من نفاق وكفر، وما تحمل القلوب من هدى وإيمان.. وهو حكيم اقتضت حكمته أن يجزى كلّ عامل بما عمل.. من خير أو شر.
الآيات: (171- 173) [سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
التفسير: الغلوّ: المبالغة فى الشيء، ومجاوزة الحدّ به، والخروج حدّ الاعتدال فيه.. سواء كان ذلك فى الدين، أو فى غيره.
والاستنكاف: الاستكبار، واستنكف أن يفعل كذا: أي أبى أن يفعله استكبارا.(3/1016)
وهاتان الآيتان تخاطبان أتباع المسيح من أهل الكتاب، وتكشفان لهم عن موقفهم الخاطئ منه، وفهمهم المغلوط له..
وقوله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» أي لا تميلوا بدينكم إلى جانب الغلوّ والمبالغة فى نظرتكم إلى الأشياء، وتقديركم لها، والمراد بهذا هو موقف أتباع المسيح منه، وتأليههم له، على حين أن اليهود قد غالوا من جانب آخر فنزلوا بالمسيح إلى درجة المشعوذين، والمجدفين على الله، والواقعين تحت لعنته! وقوله سبحانه: «وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» أي لا تقولوا فى الله، وفيما ينبغى له من صفات الكمال، إلا الحقّ..
وإنه ليس من الحق فى شىء أن يلبس الله سبحانه وتعالى هذا الثوب البشرى الذي كان عليه المسيح، وأن يولد من رحم امرأة، ثم يساق قسرا إلى الصلب، ثم يدفن مع الموتى! «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» فهو (أولا) رسول الله.. ورسول الله غير الله.
وهو (ثانيا) كلمة الله ألقاها إلى مريم.. وكلمة الله غير الله.. فكل شىء خلقه الله بكلمته «كن» فكان.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (40: النحل) وهو (ثالثا) روح من عند الله.. ونفخة منه.. كالنفخة التي كان منها آدم، وكالروح التي كان منها الملائكة.
ومن كان هذا شأنه فهو ليس إلها.. لأنه من صنعة إله.. إذ هو مضاف إلى الله.. رسول الله.. وكلمة الله.. وروح من الله.(3/1017)
وقوله تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» أي فآمنوا بالله إيمانا قائما على تنزيه الله أن يكون على صورة خلق من خلقه.. وآمنوا برسله، ومنهم عيسى..
فالله هو الله ربّ العالمين، وعيسى هو رسول الله رب العالمين.. فآمنوا بالله، وآمنوا برسل الله..!
قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ» هو تخطئة لهذه الكلمة الخاطئة التي يقولها من يرى الله ثلاثة آلهه: الآب، والابن، وروح القدس.. أو هو الأب، والابن، والأمّ..
وقوله سبحانه: «انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» هو توجيه إلى قولة الحق، وإلى طريق الحق، بعد العدول عن قولة الزور، وطريق الضلال..
وقوله تعالى: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» .
هذا هو الوصف الحق لله تعالى: «إِلهٌ واحِدٌ» تنزّه أن يكون له ولد، لأنه سبحانه غنى عن العالمين «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» .. فما حاجته إلى الولد إذا احتاج الناس إلى الأولاد؟
وقوله سبحانه: «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» إشارة إلى أن التوجه إلى الله وحده، هو المعتصم الذي ينبغى أن يعتصم به الإنسان.. فليس بعد قدرة الله قدرة، ولا مع سلطان الله سلطان.. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (3: الطلاق) .
وقوله سبحانه: َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»
هو بيان لما بين الله وبين عباده من حدود.. فالله هو الله، والعباد هم العباد.. ولن يستنكف أي مخلوق من مخلوقات الله أن يدين له بالعبودية والولاء.. لا المسيح ولا غير المسيح..
وإذا كان المسيح هو روح من الله. فإنه قد تلبّس بالجسد.. أما الملائكة(3/1018)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
فإنهم روح من الله لم يتلبس بجسد.. فهم- والحال كذلك- أولى من المسيح بأن ينازعوا الله فى ألوهيته.. ولكنهم هم خلق من خلق الله، وعباد من عباده.. لا يستكبرون عن عبادته! فالقول بألوهية المسيح- من هذه الجهة- منقوض، إذ كان الملائكة أعلى درجة منه، وأبعد مدى فى هذا الباب الذي دخل منه المسيح إلها مع الله، أو إلها من دون الله! وقوله تعالى: َ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً»
أي ومن يستكبر عن عبادة الله، ويتأبّى أن يكون عبدا له، فإنه سيحشر مع من يحشرهم الله يوم القيامة، وسيلقى الجزاء المناسب له! (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .
الآيات: (174- 175) [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
التفسير: بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى ما عليه أهل الكتاب من عمى وضلال، ومن غلوّ فى جانب، وتقصير من جوانب أخرى- جاء هذا النداء الكريم، من قبل الحق، دعوة عامة للناس جميعا، أن ينظروا فى أنفسهم، وأن يدعوا هذا الضلال الذي هم فيه، وأن يتلفتوا إلى هذا الرسول الكريم، الذي هو برهان مبين، وحجة مشرقة لا يزبغ عنها إلّا ضالّ، ولا يجحد بها(3/1019)
إلا هالك، فإنها تحمل بين يديها، هذا النور السماوي، الذي فيه تبصرة لأولى الألباب، وهدى للمتقين! ووصف الرسول الكريم بأنه برهان من عند الله، لما يحمل من الأمارات الدالة على أنه رسول رب العالمين- تحدثت به التوراة وتحدث به الإنجيل، وعرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى صفته، فجاء على الوصف الذي يعرفونه.. ثم جحدوه وأنكروه.. فهو حجة قائمة عليهم، ودينونة معلقة فى أعناقهم.
وقوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ..» هو بيان للآثار المترتبة على هذه الدعوة الكريمة من ربّ كريم.. فمن استجاب لها، وأقبل على الله مؤمنا، مخلصا له الإيمان به وحده، فهو فى رحمته وفضله، وهو على نور من ربّه وهدى، لا يضلّ ولا يزيغ.. ومن كان هذا شأنه، وتلك سبيله، فالجنة مأواه، والنعيم نزله..
ومن صدّ عن سبيل الله، وحادّ الله ورسوله، فهو بعيد من رحمة الله، بعيد عن طريقه.. ومن كانت تلك صفته، فالجحيم مستقرّه، والنار مثواه! وقد ذكر القرآن الكريم الجانب المثمر من تلك الدعوة الكريمة، وعرض أهل الإيمان، وما يلقون من فضل وإحسان.. تشويقا للنفوس إلى هذا المتّجه الكريم، وبعثا للهمم والعزائم إلى أخذ حظها من هذا الخير المبسوط.. فتلك هى سبيل العقلاء، وهذا هو مبتغى الراشدين من عباد الله.
أما السبيل الآخر- سبيل الغواة والضالين- فلم يذكره القرآن هنا، ولم يجعله وجها مقابلا لتلك الصورة المشرقة، إزراء به وبأهله، وحجبا للعيون أن تصطدم بهذه الصورة الكريهة، التي ينبغى أن ينصرف عنها كل عاقل، وأن يتجنبها كل رشيد!(3/1020)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
الآية: (176) [سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
التفسير: هذه الآية مكملة لآيات المواريث التي وردت فى أوائل هذه السورة.. وقد جاء فى هذه الآيات شىء عن توريث «الكلالة» ! وهو من لا عصبة له تتلّقى ميراثه.. فقال تعالى: «وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» ! والمراد بالأخوة هنا، الأخوة لأم! وفى هذه الآية التي نحن بين يديها، بيان لموقف الأخت، أو الأختين، من أبى المورث وأمه، أو من أبيه..
فإن كان للمورّث الكلالة. «أخت» فلها نصف ما ترك.. وإن كان له أختان أو أكثر فلهما أو لهن الثلثان..
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» أي انها إذ كانت لا ولد لها ولا والد.. فالأخ فى تلك الحال هو عصبتها، وهو يتلقى ميراثها بعد أن يأخذ الزوج- إن كان لها زوج- فرضه وهو النصف.
وقوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»(3/1021)
أي فإن كان ورثة المرأة التي لا ولد لها ولا والد إخوة من رجال، ونساء، اقتسموا ميراثها بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك بعد الفرض المفروض للزوج، إن كان لها زوج.
وواضح من هذا أن «الكلالة» فى الآية الكريمة لا تتناول هنا إلا الرجل فى صورة الأخ الشقيق أو لأب- حين يتوفى وليس له ولد أو والد.
أما المرأة فى صورة الأخت الشقيقة أو لأب، فهى ليست كلالة، لأن لها عاصب يرثها وهو الأخ، وقد ذكرت هنا استكمالا للصورة التي تقع بينها وبين إخوتها، حين تكون وارثة، ثم حين تكون موروثة! وقوله تعالى «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» هذا البيان الذي بينه الله لكم فى هذه الآية، وفى غيرها من آيات القرآن الكريم، هو إرشاد وهداية لكم من الضلال، حين ترجعون إلى ما تقضون به إلى غير بيان من الله! وقوله سبحانه «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» هو بيان لسعة علم الله، وأن ما يقضى به هو الحق، وما بيّنه هو البيان الحق، الذي ليس وراءه بيان! فالتزموه، واستقيموا عليه، ليكون فى ذلك خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم!(3/1022)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
5- سورة المائدة
نزولها: هى مدنيّة بالإجماع، إلا قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» فإنها نزلت يوم عرفة فى الموقف، فى حجة الوداع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكب على ناقته «العضباء» فسقطت الناقة على ركبتها من ثقل الوحى.
عدد آياتها: مائة وعشرون آية.. وقيل مائة واثنتان وعشرون آية..
عدد كلماتها: ألفان وثمان مائة وأربع آيات.
عدد حروفها: أحد عشر ألفا وتسع مائة وثلاثة وثلاثون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآية: (1) [سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
التفسير: «أوفوا بالعقود» يقال: وفى بالعقد، وأوفى به، إذا أداه على الوجه الذي التزم به.
و «العقود» جمع عقد، وهى المواثيق التي تبرم بين طرفين، على خلاف العهد الذي قد يكون من الإنسان، بالعهد يقطعه على نفسه! و «البهيمة» الحيوان من ذوات الأربع، برّيّا أو بحريّا.. وقيل هى كل ذى روح غير الإنسان، حيث تبهم عليها الأمور.(3/1023)
و «الأنعام» : البهائم التي يتألفها الإنسان، وينتفع بها فى وجوه كثيرة بيّن الله بعضها فى قوله: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» (5- 6- 7: النحل) وبدء السورة بهذه الآية الكريمة التي تدعو إلى الوفاء بالعقود هو مناسب للسورة التي قبلها «سورة النساء» ، لما تضمنته من أحكام اليتامى، والمواريث، والزّواج، والتيمم، والجهاد، وغيرها، وكلها عقود ومواثيق بين الله وبين عباده الذين آمنوا به.. ثم إن هذا البدء مناسب لما سيجيئ بعد هذا- فى هذه السورة- من أحكام، بدئت بتلك التي تتصل ببهيمة الأنعام، وما أحلّ من لحومها..
وقوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» هو بيان لحلّ الأنعام، من بين البهائم.. ثم إن هذه الأنعام ليست كلها مما أحلت لحومها.. ولهذا جاء قوله تعالى: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» استثناء مقيّدا لهذا الإطلاق الذي تضمنه قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» .
وقوله سبحانه: «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» هو قيد على هذا القيد وهو أن جميع الأنعام حرّم صيدها، على الحاج وهو محرم بالحج. ومن هذه الأنعام الظباء، وبقر الوحش، وغيرها مما يصاد للأكل، كالأرانب، والطيور..
فالمحرم لا يحلّ له صيد أي حيوان، سواء للأكل أو لغيره، وذلك(3/1024)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
صيانة لنفسه من العدوان، على إنسان أو حيوان، فى تلك الحال التي دخل بها- محرما- إلى حمى الله، ملتمسا العافية لنفسه.. ولن تكمل له هذه العافية فى نفسه، حتى يكون هو نفسه سلاما خالصا مع الناس والحيوان السارح فى ملكوت الله! وقوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» هو دفع لكل اعتراض يقوم فى نفس لم تأخذ حظها كاملا من الإيمان.. فالله- سبحانه- له الخلق والأمر.. يحكم لا معقّب لحكمه.. «قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ» (73: الأنعام) . فهذا هو حكم الله، والله يحكم ما يريد.
الآية: (2) [سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
التفسير: وإذ ذكرت الآية السابقة المحرم للحجّ، وحرمة الصيد عليه، وهو فى فترة الإحرام، ناسب أن يذكر مع هذا ما ينبغى على المحرم أن يلتزمه من حدود الله، والوفاء بالعقود والمواثيق التي أوجبها عليه إيمانه بالله..
وقوله تعالى: «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ(3/1025)
وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ..»
هو بيان لهذه الحدود التي ينبغى للمحرم أن يلتزمها، ويقف عندها..
ومنها ألا يتحلل من شعائر الله.. والشعائر جمع شعيرة، وهى ما جعل شعارا، ومعلما من معالم الحج، من مواقف الحج، ومرامى الجمار، والمطاف، والمسعى وكذلك ما كان منها فعلا من أفعال الحج كالإحرام والطواف والسعى، والوقوف بعرفة، ورمى الجمار، والحلق، والنحر..
فهذه حدود يجب أن يلتزمها الحاجّ، ويؤديها على وجهها، ولا يغيّر من مكانها، أو صفتها.. وإلا كان محلّا لشعائر الله، مخالفا حكمه فيها..
ومنها: الشهر الحرام، ورعاية حرمته..
ومنها الهدى، وهو ما يساق إلى البيت، ويهدى إليه من شاء، أو بقر، أو إبل.. تقربا إلى الله.. فهذا الهدى له حرمته، وعلى الحاج أن يرعى له هذه الحرمة، وألا يمدّ إليه يدا بأذى، أو عدوان.. لأنه موجّه إلى الله، ومساق إلى بيت الله، والعدوان عليه عدوان على الله! ومنها: القلائد: جمع قلادة، وهى ما يقلّد به الهدى، كعلامة له، تدل على أنه مهدى إلى الله.. وفى تحريم العدوان على قلادة الهدى، مبالغة فى تأثيم العدوان على الهدى نفسه! ومنها: الذين يؤمّون البيت الحرام، ويقصدونه، فهم ضيوف الله، وعمّار بيته، والعدوان عليهم اجتراء على الله، وعدوان على حماه، ومن هم فى حماه.
فهذه حرمات، هى مواثيق موثّقة مع الله، والعدوان عليها نقض لتلك المواثيق، وتحلّل منها.. وليس لأحد حرمة إذا تحلل من مواثيق الله،(3/1026)
وعمل على نقضها. فلينتظر انتقام الله لحرماته! وقوله تعالى: «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» هو إطلاق لهذا القيد الذي قيّد به الحاج وهو فى إحرام الحج.. فإذا أتم الحجّ، وتحلل من إحرامه أبيح له ما كان مباحا من قبل، وهو إطلاق يده فى صيد ما يشاء من حيوان أو طير! وقوله تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا» هو تذكير للمسلمين.. وهم فى تلك الحال التي راضوا فيها أنفسهم على التزام حدود الله والوفاء بمواثيقه- تذكير لهم بالاستقامة على هذا الطريق القويم الذي ساروا عليه، وهو أن يلتزموا العدل مع من كان إليهم عدوان منهم.. فالتزام العدل هو ميثاق أخذه الله على المؤمنين، يلتزمونه مع أوليائهم وأعدائهم جميعا..
وقوله تعالى «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» أي ولا يحملنكم على ارتكاب الجرم، وهو الظلم.. والشنآن: البغض والعداوة..
والمعنى: ولا يدعوكم ما بينكم وبين غيركم من عداوة وبغضاء، إذ صدوكم عن المسجد الحرام، وحالوا بينكم وبينه- لا يدعوكم هذا إلى أن تركبوا ما ركبوا من ظلم وعدوان، بل خذوهم بالعدل، وخذوا حقكم منهم دون ظلم أو بغى! وقوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» أي العدل هو الذي ينبغى أن يكون سبيلكم مع هذا الذي حملكم بفعله على بغضكم له، لأنكم بهذا إنما تقيمون ميزان الحق، وتحفظون ميثاق الله معكم، وذلك هو الذي يدخلكم مداخل التقوى، ويقيمكم مقام المتقين.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هو تأكيد للاستقامة(3/1027)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
على العدل الذي أمر الله به، وتحذير من انتقامه ممن تعدّى حدوده، ونقض مواثيقه.
الآية: (3) [سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
التفسير: هذه الآية هى بيان لما جاء فى قوله تعالى فى الآية الأولى:
«أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» فهذا الذي يتلى على المؤمنين فى هذه الآية، هو البيان الشارح لهذا الاستثناء! فهذه المحرمات هى استثناء من قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» وهى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
فالميتة مما تعافه النفوس، حتى إن بعض الحيوانات لا تأكل الميتة ولو هلكت جوعا، كالأسد مثلا.. وكذلك الدم الذي تستقذره النفوس الطيبة، وكذلك الشأن فى لحم الخنزير، الذي حرّمته الشرائع السماوية كلها، للشبه الكبير الذي بينه وبين السباع، والكلاب!.(3/1028)
والتوراة التي هى شريعة اليهود- كما هى شريعة المسيحيين- تحرّم الخنزير، وقد التزم اليهود بهذا التحريم، وكذلك أتباع المسيح مدة حياته معهم، وشطرا كبيرا من عهد الحواريين بعده..
ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين فى أوربّا، وكان لحم الخنزير من طعامهم، واقتناؤه وتربيته مصدر ثروة لهم- أباح لهم المبشرون بدعوة المسيح أن يأكلوا لحم الخنزير، حتى يقرّبوهم من دعوة المسيح، ويجذبوهم إليها..
ففى التوراة: «والخنزير لا تأكل.. يشقّ الظلف لكنه لا يجترّ..
فهو نجس لكم» (تثنية 14: 8) .
فهذا حكم ملزم لأتباع هذه الشريعة، والتوراة هى شريعة اليهود والمسيحيين، كما قلنا، ولكن هكذا تلعب الأهواء حتى بشرائع السماء!! ولا ندرى كيف يخالف المسيحيون نصّا صريحا من كتابهم المقدس، يقرءونه ويتعبدون به؟ ولا ندرى كيف يظلّ هذا النصّ الصريح فى الكتاب المقدس قائما بين أعينهم، ثم يخالفونه عن عمد وإصرار!.
وأكثر من هذا.. عملية الختان.. إنها شريعة التوراة، حيث تقول:
«قال الله لإبراهيم: هذا هو عهدى الذي تحفظونه بينى وبينك وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون فى لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بينى وبينكم ... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن فى لحم غرلته فقطع تلك النفس من شعبها.. إنه نكث عهدى» (تكوين 17: 9) .
ولقد ختن المسيح نفسه، عملا بتلك الشريعة، ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين من الرومان واليونان الذين لم يقبلوا الختان رفع عنهم هذا الحكم، كما رفع عن المسيحيين جميعا..(3/1029)
يقول «لوقا» صاحب الإنجيل المعروف باسمه، فى رسالة بعث بها الرسل المبشرون بالمسيحية إلى أهل أنطاكية وسورية وكيليكية، الذين دخلوا فى المسيحية، ثم رجعوا عنها، حين قيل لهم إنكم لن تقبلوا عند الله إذا لم تخنتوا- فى هذه الرسالة يقول لوقا: «قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلقين أنفسكم، وقائلين أن تختنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم- رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبنا برنابا بولس.. رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل ربنا المسيح، فقد أرسلنا يهوذا وسيلا «1» ، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها، لأنه قد رأى الروح القدس، ونحن، لا نضع عليكم ثقلا أكثر من هذه الأشياء الواجبة:
أن تمتنعوا عن الذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق والزنا» (أعمال الرسل 15: 24- 28) .
وهكذا سقط «الختان» من الشريعة المسيحية، بل لقد أصبح الختان سبّة يعرّض بها دعاة المسيحية فى مواجهة المختونين، ويقولون: إنهم غير مختونى القلوب، وإن ختنوا بالأجسام!!.
ومما حرمه الله تعالى على المسلمين: «ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» أي ما ذكر عند ذبحه اسم غير اسم الله، فهو- والحال كذلك- متلبس بالرجس، مشوب بالخبث.. وما كان لمؤمن أن يدخل إلى معدته رجسا أو خبثا، كما لا يدخل إلى معتقده شركا أو كفرا..
«والمنخنقة» وهى التي تموت خنقا من الحيوان.. إنها فى حكم التي تموت حتف أنفها، فى تعفف النفس الطيبة عنها..
«والموقوذة» وهى التي ضربت ضربا قضى عليها.. هى فى حكم الميتة كذلك
__________
(1) يهوذا وسيلا هما الرجلان اللذان اختارهما الرسل لهذه المهمة.(3/1030)
«والمتردّية» وهى التي ماتت نتيجة سقوطها من علوّ..
«والنطيحة» وهى التي ماتت بنطح حيوان آخر لها..
«وما أكل السبع» أي ما وقع فريسة لحيوان مفترس..
وقوله تعالى: «إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ» أي هذه الحيوانات التي وقعت تحت هذه الأحداث من خنق، أو وقذ، أو تردّ، أو نطح، أو افتراس سبع- هذه الحيوانات محرم طعامها والأكل منها إذا هى ماتت قبل أن يلحقها من يذكيها، أي يطهرها بالذبح، وهى حية بعد، تجرى الحياة فى كيانها كله..
وإلا كان ذبحها غير مطهر لها، وغير مبيح للأكل منها..
قوله تعالى: «وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» .
والنّصب: الحجارة المنصوبة للذبح عليها تقربا للأوثان..
فالحيوان المذبوح هذه الذّبحة قد تدنس لحمه بهذا الرجس، فكان حراما على المؤمن أن يطعم منه.
وقوله تعالى: «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» وهو بيان لنوع آخر مما حرم على المسلمين أكل لحمه من الحيوان.. وهو الحيوان الذي يذبح، ثم يقسّم لحمه بالأزلام، وهى القداح، يقتسم بها الجماعة الحيوان المذبوح بينهم، وهذا ضرب من ضروب الميسر، وإذ حرم الله الميسر فقد حرّم ما يثمره الميسر من ثمر خبيث.. وقد وصفه الله سبحانه بقوله: «ذلِكُمْ فِسْقٌ» أي هذا العمل فى اقتسام لحم الحيوان، فسق، وخروج عن أمر الله، وعدوان على حرماته.
قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» .(3/1031)
يبدو هذا المقطع من الآية الكريمة، وكأنه غريب عنها، إذ هو معترض بين أولها وآخرها، حيث يقول الله تعالى بعد هذا المقطع: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» :.
وبالنظر فى وجه الآية الكريمة يبدو التجانس واضحا بين مقاطعها جميعا، بحيث تتلاحم معانيها، كما تتناغم كلماتها، فتؤلف صورة، هى آية من آيات الله، ومعجزة من معجزات كتابه الكريم.
ففى قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ..» الآية.. تذكير للمؤمنين بفضل الله عليهم فيما بيّن لهم من أمر دينهم، وفيما شرع لهم من أحكام، هى دستور لحياة كريمة طيبة، ومنهج لتربية أمة أراد الله لها الكرامة والعزة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس..
فإذا ذكر المسلمون ذلك، وهم يتلقون أحكام هذا الدستور، ومادّة ذلك المنهج، كان ذك أشرح لصدورهم، وأرضى لنفوسهم، وأدعى إلى تمسكهم بدين الله، واستقامتهم على شريعته..
ومن تمام نعمة الله على المؤمنين أن يسوق إليهم هذه البشريات، وهو يزودهم بهذا الزاد الطيب من أحكام دينهم، وأصول شريعتهم.. فقد أصبحوا بمأمن من الكفار والمشركين والمنافقين من أن يفسدوا عليهم دينهم، وأن يفتنوهم فيه، إذ بلغ الإسلام غايته، وأخذ مكانه من القلوب، وانضوى إلى رايته من ينصره ويحمى حماه، «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» ..
هكذا صار موقف الكافرين من الإسلام.. اليأس من أن يقفوا له، أو يصرفوا الناس عن طريقه.. وعلى هذا فليقف المسلمون للكافرين وقفة التحدّى والرّدع إن هم حاولوا أن ينالوا منهم نيلا.. «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ» وفى قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي(3/1032)
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»
هو نشيد النصر الأكبر، والفتح المبين للمسلمين، بعد هذا الجهاد المضنى، والبلاء العظيم، الذي احتملوه فى مسيرتهم على طريق الدعوة الإسلامية، منذ فجرها، إلى استواء شمسها.. فقد كمل الدين، وتمت النعمة، ولبس المسلمون ثوب الإسلام الذي رضيه الله لهم دينا..
قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجرىّ فى كتابه «الشريعة» :
«إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ليقروا بتوحيده، فيقولوا: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فكان من قال، هذا مؤمنا من قلبه ناطقا بلسانه، أجزأه أي (كفاه) ومن مات على هذا، فإلى الجنة.. فلما آمنوا بذلك وأخلصوا توحيدهم، فرض عليهم الصلاة بمكّة، فصدقوا بذلك، وآمنوا، وصلّوا.
«ثم فرض عليهم الهجرة، فهاجروا وفارقوا الأهل والأوطان.
«ثم فرض عليهم بالمدينة الصيام، فآمنوا، وصدقوا، وصاموا شهر رمضان.
«ثم فرض عليهم الزكاة، فآمنوا، وصدقوا، وأدوا ذلك كما أمروا.
«ثم فرض عليهم الجهاد، فجاهدوا البعيد والقريب، وصبروا وصدّقوا.
«ثم فرض عليهم الحج فحجّوا وآمنوا به.
«فلما آمنوا بهذه الفرائض، وعملوا بها تصديقا بقلوبهم وقولا بألسنتهم، وعملا بجوارحهم، قال الله عز وجل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
«فإن احتج محتج بالأحاديث التي رويت: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» .. قيل له: إن هذا كان قبل نزول الفرائض» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: كان المشركون والمسلمون يحجّون(3/1033)
جميعا.. فلما نزلت «براءة» نفى المشركون عن البيت الحرام، وحج المسلمون لا يشاركهم فى البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك من تمام النعمة- لمّا كان ذلك- نزل قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» .
وفى إضافة الدين إلى المسلمين «دينكم» وهو فى الحقيقة دين الله- إذ يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» - فى هذا ما يشعر بأن الأمة التي اختارها الله تعالى لحمل هذا الدين، وتبليغ رسالته، هى أهل لحمل هذه الأمانة العظيمة، كما أنها مستحقة لتكون فى هذا المقام الكريم التي تقوم فيه مقام الأنبياء والمرسلين فى القيام على دين الله..
وقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو رفع لهذا الحظر الذي ضربه الله سبحانه وتعالى على هذه المحرمات، وذلك فى حال المخمصة والاضطرار..
والمخمصة: هى الجوع المتّصل، الذي قد يؤدى إلى التلف.. فإنّ حفظ النفس من التلف، من الأمور التي جاءت الشرائع السماوية لتقريرها، والوصاة بها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (195: البقرة) .
وقوله تعالى: «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» أي غير مائل إلى إثم وراغب فيه..
والمراد بالإثم هنا، هو عين هذه المحرمات، لأن أكلها فى غير اضطرار هو إثم، فعبّر عنها القرآن بالإثم تقبيحا لها وتنفيرا منها.
والمعنى: أن من وقع فى مخمصة، أي جوع شديد، وخاف على نفسه أن يهلك جوعا، ولم يكن ثمة سبيل إلى طعام غير هذا الطعام الخبيث، فليأخذ منه بقدر(3/1034)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
ما يحفظ عليه حياته، وألا يقبل عليه إقبال المشتهى له، المستطيب لأكله..
وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة مضيئة تكشف عن أن إباحة هذه المحرمات فى حال الاضطرار لا ينفى عنها خبثها، ولا يرفع الإثم المتلبس بها.. ولكن رحمة الله ومغفرته هما اللتان تمحوان عن المضطر خبثها، وإثمها.. وفى هذا ما فيه من صرف النفس عن هذه الخبائث، وتجنبها، ومحاذرة إلفها.. إذ كان إثمها يعلق بكل من يدخل فى جوفه شيئا منها، مضطرا، أو غير مضطر.. إلا أن المضطر يعود إليه الله سبحانه وتعالى برحمته ومغفرته، فيغسل ما علق به من درن!
الآية: (4) [سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
التفسير: السّائلون هنا هم المؤمنون.. والمراد بهم جماعات منهم، قد سألوا النبىّ تلميحا أو تصريحا: «ماذا أُحِلَّ لَهُمْ؟» وكأنه قد وقع فى نفوسهم من عرض هذه المحرمات فى صورة مفصّلة أن فى ذلك تضييقا عليهم، وأن ما حرّم عليهم أكثر مما أحلّ لهم.. فجاء قوله تعالى عن هذا السؤال المسئول، أو الذي سيسأل- جاء قوله تعالى: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» جوابا شافيا لكل وسواس، كاشفا لكل شبهة، فى إيجاز معجز، تخشع القلوب لجلاله، وتخضع الأعناق لروعته..(3/1035)
فما أحلّ الله هو كل طيب، وما حرّمه فهو كلّ خبيث- هذا هو مناط الحكم فى الحلّ والحرمة. وهذا هو فيصل ما بين الحلال والحرام.. فكل طيب هو حلّ مباح، وكل خبيث، هو حرام محظور.. فليست العبرة بكثرة هذا أو ذاك، فى الكمّ والعدد، وإنما العبرة بالكيف الذي عليه هذا وذاك..
فما اتصف بأنه طيب، تقبله النفوس الطيبة، وترضاه، فهو حلال، وما اتصف بأنه خبيث، تعافه النفوس الطيبة، وتنفر منه، فهو حرام..
والواقع يحدّث بأن الطيبات كثيرة لا حصر لها، وأن الخبائث قليلة يمكن حصرها، والإشارة إليها، ولهذا أطلق الله الطيبات، وجعلها شاملة عامة، وقيد الخبائث، وحصرها فى تلك الدائرة الضيقة، وأباح كل ما وراءها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» (22: الأعراف) ويقول سبحانه فيما حرّم من خبائث ومنكرات:
«إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (33: الأعراف) .
وقوله تعالى: «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» هو بيان لأمر تشوبه شبهة الحرام، وهو الصيد الذي يصاد بالحيوانات التي يدرّبها أصحابها على الصّيد، كالكلاب والنسور ونحوها..!
والشبهة فيها، هى أن حيوان الصيد قد يدميها بنابه أو مخلبه، أو منقاره، وربما تموت قبل أن تصل إلى يد صاحب الحيوان الصائد لها..
وقد جاء قوله تعالى هنا مبيحا لهذا الأسلوب من الصيد، ولكن قيّدّه(3/1036)
بقيود، وهى أن يكون الحيوان المرسل للصيد معلما، ومدربا على صيد الحيوان، وحمله إلى صاحبه، دون أن يتسلط عليه بأنيابه أو مخالبه، لينال منه، كما ينال الحيوان المفترس من فريسته..
وفى قوله تعالى: «تُعَلِّمُونَهُنَّ» وقوله سبحانه: «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» إشارة إلى أن هذه الحيوانات المدرّبة على الصيد هى من الحيوانات القابلة للتعليم والتدريب، والواعية لما تتلقى على يد مدربها من خطط الصيد، والمحافظة على ما يصاد سليما، وحمله إلى صاحبه.. ولهذا خاطبها الله سبحانه وتعالى خطاب العقلاء بقوله «تعلمونهن» و «أمسكن عليكم» ولم يقل «تعلمونها» و «أمسكت» كما هو الشأن فى خطاب غير العاقل.. وذلك لأنها حين درّبت، واستجابت لما درّبت عليه كانت أهلا لأن تتّسم بسمة أصحاب العقول.
وقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» أي اذكروا اسم الله على الصّيد الذي يحمل إليكم من كلاب الصيد هذه، وذلك بذبحها وذكاتها وذكر اسم الله عليها بقولكم: «باسم الله.. الله أكبر» ! وكذلك ينبغى أن يذكر اسم الله على الصيد الذي يصاد بالسّهام، وترسل الكلاب المعلّمة للإتيان به بعد أن يصيبه السهم، حيّا أو ميتا.. فذلك هو ذكاة له.
وفى قوله تعالى: «مُكَلِّبِينَ» إشارة إلى أن الكلاب هى أصل الحيوانات المعلمة للصيد، وأقربها إلى تلقى التدريب والتعليم. ومن ثمّ كان اسم كلب الصّيد جامعا لكل حيوان أو طير يدرب على هذا العمل..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» تنبيه إلى أن تقوى الله، هى ملاك الأمر فى الرقابة على تنفيذ أحكام الحلال والحرام، ووضع الحدود الفاصلة بين الطيب والخبيث، إذ كان ذلك أمانة بين العبد وربّه،(3/1037)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
لا رقيب عليه إلا دينه، ولا وازع له إلا تقواه.. فمن خان الله، واستحلّ محارمه فحسابه على الله، وهو حساب لا يفلت منه أحد: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .
الآية: (5) [سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
التفسير: فى قوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» - ما يسأل عنه..
وهو: ما هو هذا اليوم الذي أحلّت للمسلمين فيه الطيبات؟ ولم كانت مظروفية هذا اليوم هى ابتداء هذا الحكم؟ ثم ماذا كان شأن المسلمين قبل هذا اليوم..
ألم تكن قد أحلت لهم الطيبات؟
والجواب: (أولا) أن هذا اليوم هو اليوم الذي تمت فيه أحكام الشريعة، واستوفت غايتها، وهو اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» .
(وثانيا) ومنذ هذا اليوم الذي كملت فيه أحكام الشريعة تمّ إحكام الحدود بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث.. فكانت مظروفية هذا اليوم هى الحجاز الفاصل فصلا تامّا بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث.
(وثالثا) كان المسلمون قبل استكمال الشريعة متلبسين بكثير من العادات والأعمال التي كانت لهم فى الجاهلية.. وقد تعقبها الإسلام، عادة عادة، وعملا(3/1038)
عملا، فى مدى ثلاثة وعشرين عاما، هى مدة البعثة النبوية، حتى إذا كانت آخر آية نزلت من القرآن كانت الشريعة قد تمت، وكان كل ما لا ترضاه الشريعة ولا تقبله من أتباعها، قد بيّنت حكمها فيه.. وبهذا لم يكن لأحد بعد هذا اليوم أن يحلّ أو يحرّم غير ما أحلت الشريعة وغير ما حرمت! وقوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» إشارة إلى أن كل ما أحل للمسلمين هو الطيب الكريم، وأن ما حرم عليهم هو الخبيث الكريه ...
قوله تعالى: «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» هو من الطيب الذي أبيح للمسلمين تناوله من طعام، وهو طعام أهل الكتاب..
وكذلك لا حرج على المسلمين من أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم! كذلك من الطيبات التي أباحها الله للمسلمين «الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ» وهنّ اللائي تنعقد رابطة لزواج بهنّ انعقادا صحيحا بألا تكون المرأة المؤمنة من المحارم، ولا أن تكون فى عصمة الغير، ولا فى عدتها منه، ولا أن تكون مع وجود أربع زوجات غيرها.. والشأن فى المحصنات من المؤمنات، المحصنات من الكتابيات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» (221: البقرة) .
وقوله تعالى: «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» هو شرط فى زواج المحصنات من المؤمنات والكتابيات.. وهو إتيانهن مهورهن..(3/1039)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
وقوله تعالى: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» هو حال بعد حال، بعد حال، كشرط لحلّ المرأة، وإضافتها إلى الطيبات التي أحلها الله، وذلك بأن يكون المراد بالاتصال بها الإحصان، والحماية من الفساد، لا أن يكون الاتصال بها لإشباع الشهوة، والزنا بها، لقاء أجر معلوم، أو اتخاذها خليلة، لا زوجا.. للمتعة، مع التحلل من رابطة الزوجية.
قوله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» بيان لأن الإيمان من أطيب الطيبات التي دعا الله عباده إليها..
فمن تحلل من الإيمان، وكفر بالله فقد حرم من كل طيب، وطعم من كل خبيث.. لا يقبل منه عمل، «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» يلقى الله وقد صفرت يداه من كل خير، وأثقل ظهره بكل سوء!.
الآية: (6) [سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
التفسير: القيام للصلاة: اتجاه النية إلى أدائها، والتعبير بلفظ القيام للدلالة على عظم قدر الصلاة، ورفعة شأنها، وأنها بحيث تستدعى حضور الوجود(3/1040)
الإنسانى كلّه، وقيامه ظاهرا وباطنا للتوجه إليها، ولقائها، بكيان جميع لا يتخلّف منه شىء عن الانتظام فى موكب الاحتفاء بهذه الفريضة الكريمة..
وهذه بعض المشاعر التي يثيرها قوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» عند من يستصحب معه هذه الدعوة الإلهية، وهو يتهيأ للصلاة، ويأخذ لها وسائلها، الموصلة إليها..
والوضوء إنما يكون بعد طهارة الجسد، والثوب، كالاغتسال من الجنابة ونحوها..
وهو- أي الوضوء- كما بينه الله سبحانه فى هذه الآية.. «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» فهذان عضوان يجب غسلهما فى الوضوء.. الوجه واليدان إلى المرفقين.. والمرفق هو من منقطع الأظفار إلى آخر الزندا عند مفصل العضد.
وقوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» هو بيان لتتمة المفروض فى الوضوء.. وهو خاص بالرأس، والرجلين..
أما الرأس، فالمفروض هو مسحه باليد، بماء جديد، أي بأن تغمس اليد فى ماء الوضوء، ثم يمسح بها على الرأس.. وأىّ ما مسّ الرأس من اليد بالمسح فهن مجز، سواء شمل المسح الرأس كلها، أو معظمها، أو بعضها، قلّ أو كثر هذا البعض! ذلك أن المسح فى ذاته لا أثر له فى نظافة الرأس، فهو لا يعدو- والأمر كذلك- أن يكون إشارة إلى أن الرأس من الأعضاء المطلوب نظافتها، والالتفات إليها فى هذا الشأن.. ولكن لرحمة الله بنا، ويسر شريعته علينا، كان الاكتفاء بتلك الإشارة، دون الأمر بغسل الرأس عند كل وضوء، ففى ذلك ما فيه من حرج وإعنات.. وقد عافانا الله فى ديننا من كل أمر يحرج أو يعنت.(3/1041)
أما الرّجلان.. فقد اختلف فى قراءتهما، ولهذا اختلف فى الحكم الواقع عليهما.. إذ قرىء: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» بالنصب بعطف أرجلكم على «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ» كما قرىء بالجرّ، بعطف أرجلكم على رءوسكم. التي هى أقرب معطوف إليها.
فالذين قرءوا «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب، قالوا إن غسل الرجلين إلى الكعبين فرض، شأنهما فى هذا شأن الوجه واليدين إلى المرافق..
والذين قرءوا وأرجلكم «بالجرّ» .. قالوا: إن حكم الأرجل هنا هو حكم الرءوس، وهو المسح.. أي فامسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. ولكنّ هذا الحكم منسوخ بالسنّة، لما روى البخارىّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «تخلّف النبىّ صلى الله عليه وسلم فى سفر، فأدركنا وقد أرهقنا العصر- أي كاد يفلت منا وقته- فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى- أي رسول الله- بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين، أو ثلاثا.
وروى هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن طريق آخر، قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق، تعجّل قوم عند العصر، فتوضئوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» .
يقول ابن حزم فى التعليق على هذا الخبر:
«فكان هذا الخبر زائدا على ما فى الآية ... وناسخا لما فيها.. ولما فى الآية (أي من أحكام) والأخذ بالزائد (أي ما جاءت به السنة هنا) واجب.» .(3/1042)
أي أنه يؤخذ بما فى الآية، وبما جاءت به السنة، مكملا لها زائدا عليها، وهذا وذاك واجب فى الوضوء.. فكان غسل الرجلين (الذي هو زائد على المسح) واجبا..
فابن «حزم» يأخذ الحكم بوجوب غسل الرجلين من هذا الخبر الذي يروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ويجعل هذا الخبر ناسخا لحكم المسح الذي فهم الآية الكريمة عليه. وكان الأولى من هذا، ألا يضع الآية تحت حكم النسخ، بل أن يجعل هذا الخبر شارحا لمعناها على الوجه الذي فهمها عليه أكثر المفسرين والفقهاء والنحاة، وهو أن قوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» حكم مستقل، معترض بين ما سبقه وما تقدمه، وأن قوله سبحانه: «وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» معطوف على قوله سبحانه: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» ... وفى هذا صيانة للكتاب من تسليط خبر لم يبلغ حدّ التواتر فى نقض حكم من أحكام القرآن.
ثم ماذا لو نظرنا فى الآية الكريمة نظرا لا يخضعها لأحكام النحو، ولا يقيمها على موازين قواعده؟ وماذا لو أخذنا من الآية الكريمة لمحة من لمحات إعجازها، فقلنا إن فى هذا الوضع الذي اتخذه حكم «الرّجلين» فى الوضوء ما يسمح بأن يعطى الرجلين حكما وسطا، يجمع بين المسح والغسل؟ .. بمعنى أن يكون المسح عاما شاملا من باطن وظاهر.. إلى الكعبين، وأن يسيل الماء منهما حتى لكأنه الغسل، وأن يكون الغسل شيئا قريبا من المسح، بلا تدليك، ولا تخيل أصابع.. فهو مسح كالغسل، وغسل كالمسح..
وفى هذا ما يتفق مع يسر الشريعة، وتخفيفها على العباد، وخاصة فى الأحوال التي يشتد فيها البرد، أو يقل فيها الماء.. وذلك مما يدخل الطمأنينة فى شعور المتوضئ أنه أدّى الواجب إذا غسل رجليه هذا الغسل الخفيف، وأنه يدخل(3/1043)
الصلاة وقد استوفى حقّ الدخول فيها.. ثم إنه ليس يعنى هذا أن يلتزم المتوضئ هذه الصورة فى غسل رجليه.. بل إن له أن يجرى عليهما الماء ما شاء، وأن ينظفهما ما أراد وما استطاع، إذ لا حرج عليه فى هذا، وإنما الحرج فى ألا يدفع عنه هذا الحرج إذا هو غسل رجليه وكأنه يمسحهما، أو مسحهما وكأنه يغسلهما.. ذلك والله أعلم.
قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» هو إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلم قبل الوضوء، وهو أن يكون على طهارة من الجنابة..
بالاغتسال، أو التيمم فى المرض أو السفر، أو عند فقد الماء.
وفى قوله تعالى «فَاطَّهَّرُوا» إشارة إلى أن المطلوب هو التطهر.. ولم يحدّد اللفظ القرآنى أسلوب التطهر.. أهو بالاغتسال أو بالتيمم.. وذلك لأنه سبحانه قد خفف على عباده، فلم يجعل التطهر بالاغتسال أمرا لازما فى جميع الأحوال.. فالمريض، والمسافر، قد أبيح لهما التطهر من الجنابة بالتيمم، وكذلك الصحيح المقيم إذا فقد الماء.. فإذا تيمم أحدهم طهر من الجنابة، وإذا قام للصلاة وجب أن يتيمم للصلاة، وهو على طهارته بتيمم الطهارة من الجنابة.
فانظر إلى هذا الإعجاز القرآنى فى قوله تعالى: «فَاطَّهَّرُوا» وإلى توافق هذا الأمر الإلهى مع قوله تعالى بعد هذا: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» ..
ولو كان اللفظ القرآنى: «فاغتسلوا» بدل قوله تعالى: «فَاطَّهَّرُوا» لوقع تصادم بين هذا اللفظ وبين الحكم الوارد بعده فى هذه الآية، والذي جاء مثله فى سورة النساء فى قوله تعالى:(3/1044)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» (43: النساء) .. وقد سبق أن شرحناه فى موضعه! ولكن كيف يقع التصادم والتخالف فى كتاب منزل من رب العالمين، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وفى قوله تعالى: «ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ما يكشف عن جوانب كثيرة من رحمة الله بنا، وفضله علينا، وأنه أقامنا على شريعة، لا حرج فيها ولا إعنات، وأن كل ما جاءت به هو تصحيح لإنسانيتنا، وتكريم لآدميتنا، وحماية لنا من دواعى الفساد والعطب..
وفى هذا الذي يلبسنا من نعم الله وأفضاله، ما يستوجب الحمد والشكر، وذلك بأن نتلقى أحكام الله بالقبول والرضا، وأن نأنس بالحياة معها، والعيش فيها، وأن نستوحش من البعد عنها، أو التفريط فى الإمساك بها..
الآية: (7) [سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
التفسير: عطف هذه الآية على ما قبلها هو توكيد للشكر الواجب علينا(3/1045)
أن نعيش فيه مع الله الذي تحفّ بنا ألطافه، وتشتمل علينا نعمه.. ففى كل نفس يتنفسه الإنسان نعم ظاهرة تحدّث بها كل جارحة فيه.. فضلا عن النعم التي تساق إليه من هذا الوجود الذي يتحرك فى رحابه ويتقلب بين أرضه وسمائه..
قوله تعالى: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ» هو عطف على قوله تعالى: «نِعْمَةَ اللَّهِ» أي اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الّذى واثقكم به..
والميثاق الذي واثقنا الله به هو ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (172: الأعراف) فهذا إقرار من الناس جميعا- قبل أن يخلقوا وقبل أن يكونوا أناسا- بالولاء لله، والاعتراف بربوبيته.. وهو إقرار ضمن الإقرار العام للوجود كلّه بالانقياد لله، والولاء له..
وإذ يذكر الإنسان أنه كان على عهد مع الله وهو فى مضمر الغيب، قبل أن يكون له وجود، وقبل أن يستكمل وجوده، ويصبح كائنا، عاقلا رشيدا- إذ يذكر الإنسان هذا من أمر نفسه، ويذكر ما ينبغى أن يكون موقفه من الله، وهو الإنسان العاقل الرشيد- وجد من السفاهة والضلال أن يكون على غير هذا الطريق القويم الذي انتظم فيه مع الوجود كله يوم أن لم يكن شيئا..
فكيف يسفه ويحمق، ويشرد عن هذا الطريق، ويتخذ لنفسه طرقا لا معلم فيها، ولا أنيس له فى مجاهلها إلا من كان على شاكلته من التأئهين والضالين وإخوان الشياطين؟(3/1046)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
هذا، ويمكن أن يكون هذا الميثاق الذي واثق الله به الذين آمنوا هو ذلك الميثاق الذي بايع به المسلمون رسول الله إذ دخلوا فى الإسلام، فقد كانت بيعتهم لرسول الله قائمة على: «السمع والطاعة فى المكره والمنشط» أي فى الضرّاء والسّرّاء. والعقد الذي وثّقه النبىّ صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، هو عقد لله، ومن ثمّ كانت إضافته إلى الله تعالى، تكريما للنبىّ، وتوثيقا بعد توثيق لهذا الميثاق العظيم.. «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» (10: الفتح) .
فكل من دخل الإسلام، دخل بهذا الميثاق، سواء شهده أو لم يشهده..
فلا إيمان بغير استجابة، ولا استجابة بغير طاعة وامتثال.
الآية: (8- 10) [سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
التفسير: مما يدخل فى الميثاق الذي واثق الله به المؤمنين أن يكونوا «قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» والقيام لله هو الانتصار لشريعته والرعاية لأحكامه.. سواء فى محيط الإنسان فى ذاته، أو فى دائرة الجماعة الإسلامية كلها.. فحيثما كان لله أمر أو نهى فى شأن من الشئون أو موقف من المواقف(3/1047)
كان على الإنسان أن يستحضر له وجوده كله، وأن يلقاه بوجوده كلّه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَوَّامِينَ لِلَّهِ» حيث يحمل هذا الفعل معنيين، يكمل أحدهما الآخر: القيام، ثم المبالغة فى هذا القيام إلى أقصى حد يستطاع.
وهذه الدعوة بالقيام بأمر الله ونهيه، والمبالغة فى هذا القيام، هو أمر ملزم للمؤمن فى ذاته، كما هو ملزم للمؤمنين جميعا.. الإنسان فيما هو له وعليه، والجماعة كلها فيما هو لها أو عليها.. فليس يكفى لسلامة الإنسان أن يسلم فى نفسه، وإنما أن تسلم الجماعة معه، ففى سلامتها سلامة له، وفى عطبها عطب ضمنى له! وقد شرحنا هذه الآية عند وقوفنا بين يدى الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» (135: النساء) ويلاحظ أن صورة النظم قد اختلفت هنا عن صورتها هناك، فقد سلّط كل من الفعلين على ما سلط عليه صاحبه: «كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» .. «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» وهذا يعنى أن القوامة بالقسط هى قوامة لله، وأن الشهادة لله هى شهادة بالقسط.. ذلك أن القسط هو العدل، والعدل صفة من صفات الحق جلّ وعلا.. ومجموع الصورتين يعطينا صورة مؤكّدة للمأمور به فيهما، هكذا:
كونى قوامين لله.. شهداء لله.
كونوا قوامين بالقسط.. شهداء بالقسط.
ولكنّ النظم القرآنى جاء بهما على هذا النمط الذي صانهما من هذا التكرار، كما فوّت الجمع بين الله سبحانه وتعالى وبين صفته. وكلاهما نحن مدعوون إلى توقيره، مأمورون بالاحتفاء به.(3/1048)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
وبين يدى الدعوة إلى رعاية أوامر الله، واجتناب نواهيه، والتزام حدود العدل والحق- تنتصب صورتان، إحداهما لمن آمن واهتدى، واستقام على طريق الله، فأحل الحلال، وحرّم الحرام، والأخرى لمن كفر بالله، واتبع هواه، وركب طرق الغواية والضلال.. وفى الصورة الأولى يرى المؤمنون ما أعد الله لهم من واسع رحمته، وعظيم فضله، وفى الصورة الثانية يرى الكافرون ما أعد لهم من جهنم وقد فغرت فاها، ومدت ألسنتها لتصطادهم من بعيد وقريب: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» .
الآية: (11) [سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
التفسير: الهمّ بالأمر.. هو العزم عليه، دون تنفيذه لأمر ما، من داخل النفس أو خارجها.. «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» (24: يوسف) .
وبسط فلان إلى فلان يده: مدّها إليه بالشر والأذى.. «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» (28: المائدة) .
وقد اختلف المفسّرون فى هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إلى المؤمنين بالأذى فكف الله أيديهم عنهم..
والصورة التي ترتسم لمن يقرأ الآية الكريمة، مستعرضا أحداث الإسلام(3/1049)
الأولى، يرى أنها تشير إلى ما وقع فى غزوة الخندق، المسماة غزوة الأحزاب كذلك- فقد جاءت قريش بجموعها، وبجموع أحلافها، تريد أن تقتلع الدعوة الإسلامية من أصولها، فعسكرت حول المدينة، ووقفت أمام الخندق الذي أقامه الرسول والمسلمون حولها.. وكان من تدبير الله سبحانه أن أوقع الخلاف بين هؤلاء الأحلاف، بعد أن طال بهم المقام فى مواجهة المدينة دون أن يصلوا إليها.. ثم أرسل الله عليهم ريحا عاصفة فى ليلة مظلمة باردة.. فأطفأت نارهم، وقلبت قدورهم، وهدمت خيامهم.. حتى إذا انكشف وجه الصباح كانوا هشيما مبعثرا على كل طريق.. إلا الطريق إلا المدينة، وهكذا كان فضل الله، وكانت رحمته التي ينبغى أن تكون مما يذكره المسلمون من نعم الله ورحماته! وفى هذا يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (9- 10: الأحزاب) .. ويقول سبحانه: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً»
(25: الأحزاب) فهل نعمة أعظم من هذه النعمة؟ وفضل أكبر من هذا الفضل؟.
ومن عجب ألا أجد أحدا من المفسرين يقول بهذا الرأى.. فيما بين يدىّ من كتب التفسير! وفى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وفى عطفه على قوله سبحانه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ما يشير إلى أن المراد بذكر نعم الله، ومراجعة أفضاله(3/1050)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
على الإنسان، ليس هو مجرد لذكر باللسان، والتسبيح به، وإنما الذي يحقق لهذا الذكر أثره هو أن يكون مبعثا لخشية الله، واستحضارا لجلاله وعظمته، وذلك مما يبعث إلى التقوى، التي تقوم على مراقبة الله، وحراسة جوارح الإنسان من معصيته.
الآية: (12) [سورة المائدة (5) : آية 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
التفسير: فى مواجهة النعم التي أنعم الله بها على المسلمين، ودعاهم إلى تذكرها، وملء مشاعرهم بها، لتفتح قلوبهم بخشية الله، وتملأها بتقواه- فى مواجهة هذا يذكر الله سبحانه ما كان له من نعم وأفضال على بنى إسرائيل ثم ما كان منهم من جحودها، والتنكر لها، واتخاذها ذرائع للإفساد والطغيان..
ثم ما كان من عقاب الله لهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، ودمغهم باللعنة والغضب.. وتلك هى عاقبة من حادّ الله، وكفر به، ومكر بآياته، وجحد أفضاله ونعمه..
«وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» .
فهذا الميثاق الذي أخذه الله على بنى إسرائيل قد حمله إليهم أنبياء الله،(3/1051)
وعزّرهم النقباء الذين كان كل نقيب منهم على رأس جماعة من جماعاتهم، حتى يكون ذلك أقرب إلى لقائهم معه، واستجابتهم له، لأنه منهم أشبه بالأب من أبنائه، قرابة ومودة.. وهؤلاء النقباء هم رسل الله إليهم، ولهذا جاء قول الله عنهم. «وبعثنا» حيث يغلب مجىء هذا اللفظ فى بعث الرسل من عند الله إلى عباد الله..
وقوله تعالى: «وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» - هو الميثاق الذي أخذه الله عليهم، ووثقه معهم.
فهو- سبحانه- معهم، إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وآمنوا بما يبعث إليهم من رسل الله، وعزروهم، أي نصروهم، وبذلوا مما فى أيديهم فى وجوه الخير، أي أقرضوا الله قرضا حسنا، بلا منّ ولا أذى، ولا ربا..
إنهم إن فعلوا هذا كفّر الله عنهم سيئاتهم وأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وإن كفروا فقد ضلوا سواء السبيل، وركبوا الطريق المؤدى بهم إلى جهنم.. وبئس المصير..
فماذا كان من القوم مع هذا الميثاق العظيم؟
ذلك ما نجده فى قوله تعالى، فى الآية التالية:(3/1052)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
الآية: (13) [سورة المائدة (5) : آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
التفسير: لقد نقض بنو إسرائيل الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فكفروا بآيات الله، ومكروا بها وجحدووا نعمه وأفضاله، وكذبّوا رسله، وأخذوهم بالأذى الذي بلغ فى كثير من الأحيان حدّ القتل.
فبسبب هذا لعنهم الله.. وكفى بهذا العقاب عقابا ونكالا.. إنه الهلاك الأبدى، والضياع لمعالم الإنسانية كلها، والخسران فى الدنيا والآخرة..
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (52: النساء) قوله تعالى: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً» هو مسخ لهذه القلوب، وقلب لطبيعتها، وتحول بها من قلوب بشرية إلى قلوب لا تمتّ إلى عالم البشر بصلة..
وهذا ما يشير إليه اللفظ القرآنى: «وجعلنا» الذي يدلّ على خلق جديد لهذه القلوب، وتصويرها فى صورة غير الصورة التي كانت.. ولهذا استباحت تلك القلوب كل منكر، وتقبّلت كل خبيث، دون أن تتأثّم أو تتحرج، حتى بلغ بها ذلك أن عبثت بكلمات الله، وغيرت معالمها، وبدّلت أوضاعها، وخلطتها بأهوائها ونزعاتها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» .. وقد ضبط القرآن الكريم الجيل الذي عاصر نزوله من أجيال اليهود- ضبطهم متلبسين بهذا المنكر الذي كان عليه آباؤهم مع كتاب الله الذي بين أيديهم.. فقد جرت على ألسنة هؤلاء الأبناء الذين عاصروا نزول القرآن، صور من صور التحريف والتبديل لكلمات الله، فقال تعالى: «مِنَ(3/1053)
الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ..»
(46: النساء) .
وهذا شاهد يشهد بلسان الواقع أن الأبناء والآباء على سواء، فى قسوة القلوب، وجرأتها على الله، وتبديلها لكلماته! قوله سبحانه: «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» .. الضمير هنا راجع إلى آباء اليهود، وأنهم لم يقفوا عند حدّ التحريف والتبديل لكلمات الله، بل لم يعملوا بما ظل سليما من تحريفهم فى الكتاب الذي بين أيديهم.. ذلك أنه بعد أن استقرت التوراة على ما فيها من تحريف، وتداولتها الأيدى، لم يكن من سبيل إلى إدخال تحريف عليها- فكان تحللهم من الأخذ بما لا يرضون من أحكام التوراة الباقية عندهم، هو الطريق البديل لهم من التحريف، لو كان ذلك التحريف مستطاعا لهم.. فعملهم هذا هو تحريف بصورة أخرى، بما يتأولون به النصوص، ويخرّجونها عليه، حسب ما تمليه أهواؤهم..
وقوله تعالى: «وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ» هو خطاب للنبى الكريم، وأنه يجد بين يديه من خيانات اليهود لأمانة الكلمة، وشرف العهد ما يصل حاضر اليهود بماضيهم، وأنهم أبدا على خيانة لله، ولرسول الله، ولعباد الله! وفى التعبير عن الخيانة بالخائنة ما يكشف عن هذا الأسلوب الخبيث الذي يتخذه اليهود فى خياناتهم، وأنه أسلوب قائم على المداهنة والنفاق.. حيث يخرج اليهود خيانتهم فى خبث ودهاء ومواربة، فلا يلقون بها إلا حيث لا ترصدهم العيون، ولا تواجههم الوجوه! وقوله تعالى: «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» هو استثناء لجماعة قليلة من اليهود، قد سلمت من هذا الداء الخبيث الذي اشتمل على القوم، ولم يبق على شىء منهم(3/1054)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
إلا كما يبقى الحريق على بعض ما اشتمل عليه، وكما يبقى البحر على بقايا سفينة غارقة! وقوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» هو توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل هذه الجماعة القليلة التي سلمت وأسلمت من اليهود، وألا يأخذها بجريرة الكثرة الكثيرة منهم! وألا ينظر إليها من خلال موقفها من النبي أول الدعوة، فقد كان اليهود جميعا على عداوة وحسد للنبى..
الآية: (14) [سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
التفسير: قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» ، هو معطوف على قوله سبحانه فى الآية (13) «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .
وبين المعطوف والمعطوف عليه صلة: إذ كانت دعوة المسيح خاصة باليهود، كما يقول المسيح عن نفسه فيما تروى عنه الأناجيل: «أنا لم أرسل إلّا إلى خراف إسرائيل الضالة» ولهذا كان حواريوه كلهم من اليهود، كما كانت معجزاته لليهود، وفى اليهود، حتى إنه- عليه السلام- أبى على المرأة الأمميّة- أي من غير اليهود- أن يشفى ابنتها مما كانت تعانى من داء، وقال لها تلك القولة التي روتها الأناجيل عنه: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيداء،(3/1055)
وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود.. ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضآلة» (متى: 15) .
وفى قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا» به إشارة إلى أن هؤلاء النصارى الذين أخذ الله عليهم الميثاق كانوا من اليهود، الذين اتبعوا المسيح.. والمعنى: «ومن اليهود الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» وفى هذا تشنيع على اليهود أيضا، إذ كانوا دائما على هذا الخلق اللئيم فى المكر بآيات الله، ونقض المواثيق التي واثقهم الله بها.. فهم فى ثوب النصرانية كما هم مسلاخ اليهودية، وهم فى اتّباعهم لعيسى كما هم فى أخذهم لشريعة موسى.. كفر مع كفر، وضلال إلى ضلال.
وفى قوله تعالى: «نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» إشارة إلى أن أتباع المسيح قد تأولوا دعوته على غير مدلولها الذي أقامهم عليه، وعاش فيهم به.. فلم يكن فيهم إلها ولا ابن إله، ولم يؤمن به الذين عاشوا معه على أنه إله أو ابن إله، ولم يقل أصحاب الأناجيل الأربعة- وفيهم اثنان من الحواريين- أنه إله ولا ابن إله، وإنما كانوا- كما تحدث الأناجيل- ينادونه: يا معلم، يا سيد، وأن أعظم صورة تصوروها له: أنه يوحنّا المعمدان، بعث إليهم من جديد! فنسيان حظهم مما ذكّروا به هو هذا التأويل الفاسد لما فى الأناجيل، ولو أنهم استقاموا عليها لما وقع لأحد من أتباعه أن المسيح إله، أو ابن إله! وقد عرضنا هذه القضية من قبل، عند تفسير الآيات الأخيرة من سورة النساء.
قوله تعالى: «فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» هو بيان لثمرة هذا النسيان المتعمد، وذلك التأويل الفاسد لكلمات المسيح وتعاليمه، من(3/1056)
أتباعه من اليهود. فقد أشاع اليهود من أتباع المسيح أنهم هم الذين وجّهوا دعوته تلك الوجهة فأخرجوها على هذه الصورة التي لبس المسيح فيها ثوب الألوهية، وقام فيها مقام الله.. ولعلنا نذكر هنا دور «بولس الرسول» وهو يهودى، ومن أتباع المسيح، وحامل لواء التبشير بالمسيحية خارج دائرة اليهود. فقد كان هو الذي أباح ما حرمته الشريعة من حلّ لحم الخنزير، والتحلل من الختان، بل وحرمته، دون أن يلتفت إلى أن المسيح نفسه قد ختن، حسب الناموس! وثمرة هذا النسيان المتعمد هى هذا الخلاف الشديد بين أتباع المسيح..
ذلك الخلاف الذي لا تزيده الأيام إلا عمقا واتساعا، إذ أباح هذا التأويل الفاسد حرمة الأناجيل، وجعل لكل ذى نظر أن يتأول ما يشاء، ويقول ما يريد، بعد أن أهدرت معانى الكلمات المقيدة بألفاظها، وأصبحت الألفاظ رموزا وإشارات، وأحلاما وأضغاث أحلام، يتأولها كل حسب رأيه واجتهاده، غير مقيد بقيد، ولا محتكم إلى لغة.
وهذه العداوة ليست عداوة ترجع إلى اجتهاد فى فهم النصّ، بقدر ما هى عداوة ترجع إلى تضارب الأهواء، واختلاف المنازع، ومن هنا لم تكن مجرد عداوة بين علم وجهل، بل كانت عداوة محملة بشحنات ثقيلة من البغض والكراهية، لأنها عداوة بين هوى وهوى ومشرب ومشرب! ثم إن هذه العداوة المحملة بأثقال البغضاء ليست عداوة موقوتة بوقت، ولا محدودة بزمن.. وإنما هى عداوة موصولة، متجددة، لا تنقطع أبدا:
«إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» .
قوله تعالى: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» أي سيعلمون يوم القيامة فساد هذا الذي صنعوه، وغيرّوا به وجه رسالة المسيح ودعوته..
وفى لفظ «يصنعون» دلالة على أن أسلوبهم هذا الذي جروا عليه مع(3/1057)
كلمات المسيح وتعاليمه- لا ينقطع أبدا، وأن هذه الكلمات وتلك التعاليم، ستلد كل يوم مواليد جديدة من التأويل والتخريج.. فما يكون حلالا اليوم قد يصبح حراما غدا، وما هو حرام غدا يكون حلالا بعد غد.. وهكذا..
وصدق الله العظيم، وصدقت كلماته وآياته، المنزلة على النبي الكريم، الصادق الأمين.
فلقد رأينا كيف كان للمجمع المقدس، الذي انعقد فى «روما» فى هذه الأيام «1» أن يخرج على العالم المسيحي بهذا الرأى الذي يجبه معتقدا عاشت فيه المسيحية، واعتنقه المسيحيون قرابة ألفى عام- وهو أن اليهود قد صلبوا المسيح، وحملوا تبعة دمه، هم وأبناؤهم من بعدهم.. إذ قالوا حين قدموه للصلب، كما روت الأناجيل «دمه علينا وعلى أبنائنا» فجاء المجمع المقدس يبرىء اليهود من دم المسيح، ويقول: «إذا كان اليهود الأولون هم الذين صلبوا المسيح واحتملوا دمه.. فما ذنب أبنائهم من بعدهم؟» .
وهذه قضية لا دخل للإسلام بها، إذ ينكرها من أصلها.. ولكن الذي نريد أن نقوله هنا- لحساب العقل والمنطق-: ما هو الحكم الذي يحكم به المجمع المقدس على أتباعه الذين عاشوا خلال الألفى عام يتعبدون بلعن اليهود، ويتقربون إلى المسيح بهذه اللعنات التي يسبّحون بها صباح مساء؟ ثم على من تقع تبعة هذه الدماء الغزيرة التي أراقها أتباع المسيح فى مدى هذه الأزمان المتطاولة- من اليهود، انتقاما للمسيح، وتشفيّا ممن تطاولت أيديهم إلى إلههم المعبود، حتى علقوه على خشبة الصليب وسقوه المرّ المذاب؟ ثم ألا يحقّ لليهود اليوم أن يطالبوا القائمين على أمر المسيحية بديت ملابين القتلى منهم؟
__________
(1) كان انعقاد هذا المجمع فى خريف عام 1964.(3/1058)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
إن ذلك هو العدل الذي يستقيم مع منطق المجمع المقدس الذي أصدر هذا الحكم، وأفتى بتلك الفتوى! «وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» لا بما صنعوا، وحسب..
فإنهم كل يوم يصنعون جديدا، ويستولدون أحكاما وشرائع.
(الآيتان: 15- 16) [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
التفسير: «يا أَهْلَ الْكِتابِ» هى دعوة عامة إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
«قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» هو بيان لما يحمله الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أهل الكتاب من حق يصححون به ما أخفوا من أحكام الكتاب الذي فى أيديهم، وما غيّروا وبدّلوا.. وأن كثيرا مما أخفوه وحرّفوه قد تجاوز القرآن الكريم عنه، وترك الخوض معهم فيه، حتى لا يدخل معهم فى طريق طويل من الخلاف والجدل، وإنما كان الذي اهتم له القرآن الكريم، ووقف عنده، هو ما كان من الأصول العامة فى العقيدة، وهو ما يتصل بالألوهية، وعزلها عن كل ما دخل على مفهومها من ضلال وبهتان.. هذه هى قضية(3/1059)
الإسلام الأولى، فإذا استقامت استقام كل شىء بعدها.
وقوله تعالى، «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» هو وصف لهذا الكتاب الكريم، وما يحمل إلى الناس من «نور» هو نور الحق، المهدى من السماء، لينير للناس سبلهم إلى الله، وليبدّد الظلام الذي يحجبهم عن الرؤية الصحيحة للحق والهدى..
ووصف الكتاب بأنه نور، ثم وصفه بأنه كتاب مبين، هو غاية ما يمكن أن تكون عليه دعوة الحق فى جلالها، ووضوحها، وإشراق شمسها، وأن من لا يرى الحق فى وجه هذه الدعوة، ولا يتناوله منها، هو أعمى أو متعام، ليس لدائه دواء، «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (81: النمل) .
وقوله سبحانه: «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» سبل السلام هى طرق الحق، التي يأمن سالكها من كل عطب، ويسلم من كل سوء.. وهى مفعول به لقوله تعالى: «يَهْدِي» . و «مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ» مفعول ثان له.. والمعنى أن الله سبحانه يهدى بهذا الكتاب إلى سبل السلام من اتبع رضوان الله، وابتغى مرضاته، فجاء إليه مستشفيا من دائه، مستطبّا لعلته، مستهديا لبصره وبصيرته.. أما من أعرض مستكبرا، ولوى وجهه جاحدا، فهو وما اختار لنفسه: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (17: فصلت) .
قوله تعالى: «وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . هو بيان لفضل الله ولطفه بعباده الذين يوجهون وجوههم إليه.. إذ كانت عناية الله إلى جوارهم، تمسك بهم على الطريق، وتسدد خطاهم إلى الغاية التي يجدون عندها الأمن والسلام.(3/1060)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وفى قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» وفى إضافة الرسول إلى الله بضمير المتكلم، تكريم للرسول الكريم، وتمجيد له، وتعظيم لشأنه، ولشأن ما يحمل بين يديه من ربّه، من هدى ونور.
الآية: (17) [سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
التفسير: وإذا كان النصارى- من أهل الكتاب- لم يعرفوا الداء الذي يكمن فيهم، وما يحمل إليهم القرآن من شفاء- فها هو ذا القرآن يضع يده على موضع الداء منهم..
إن جعلهم الله هو المسيح بن مريم، هو أصل الداء.. فما كان لله أن يولد من رحم امرأة، وأن تكون نسبته إليها..
إن الإله الذي يتصور على تلك الصورة، هو إله هزيل، لا تلده إلا عقول لا تعرف جلال الله وعظمته، وقدرته..
وأين المسيح الإله وقوته وقدرته، أمام قوة الله وقدرته؟
إن أراد الله أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا.. فمن يقف لهذه الإرادة، أو يردّ عليها ما أرادت، أو بعض ما أرادت؟
ألم تمت أمّ المسيح؟
وإذا كان فى المسيح شك أنه لم يمت بعد، فهل من شك فى أنه سيموت؟(3/1061)
لقد مات الأصل، وهو أمّه. فهل يبقى الفرع، وهو المسيح ابنها؟
وقوله تعالى: «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» دفع لاعتراض قد يقيم شبهة عند من يرفعون المسيح عن مستوى البشرية إلى مرتبة الألوهية، فإن ميلاده من غير أب- هذا الميلاد الذي يثير فى النفس تساؤلات وتصورات- ليس الصورة الفريدة فيما خلق الله وأبدع من مخلوقات.. من ملائكة وجنّ وشياطين، وكواكب.. فأى إنسان مهما عظم هو ضئيل بالنسبة لأى مخلوق من تلك المخلوقات.. فإذا نظرنا إلى المسيح فى صورته، وجدناه كائنا بشريا، فى خلقته وفى سلوكه.. كان جنينا، ثم طفلا، ثم صبيا، ثم شابا، ثم رجلا.
وأكثر من هذا، فإن أتباعه أماتوه صلبا، ثم دفنوه بأيديهم فى التراب بعد أن حملوه على أيديهم جثة هامدة! ثم لقد كان له ما للناس فى هذه الحياة.. يأكل، ويشرب، وينام، ويصحو، ويبول ويغوط، ويفرح، ويحزن.. إلى غير ذلك مما يجرى على الناس! فأىّ شىء يخرج المسيح من الإنسانية إلى مقام الألوهية؟ ألأنه ولد من غير أب؟
إنه ليس أول من ولد من غير أب؟ إن الذي خلق الأب وخلق الأم لا يعجزه أن يخلق خلقا من غير أب ولا أم.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
إن غرابة المخلوق فى ميلاده، أو فى شكله، ولونه، وطوله، وعرضه..
إن دلّت على شىء فإنما تدل على قدرة الخالق، لا أن تكون مزلقا إلى الكفر بالله، والتعلق بالغريب العجيب مما صنعت يداه! فإن ذلك هو الضلال والسّفه، إذ كيف يتشابه الخالق والمخلوق، ويختلط الصانع بالمصنوع!؟(3/1062)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
الآية: (18) [سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
التفسير: مما يفسح لأهل الضلال فى ضلالهم، ويمدّ لهم فى حبل الغواية، أن يتمنوا على الله الأمانىّ، وأن يجدوا فى هذه الأمانى الباطلة، تعلّة يتعللون بها، وسرابا خادعا يجرون وراءه..
ولقد قامت لكل من اليهود والنصارى دعوى على الله، بأنهم أبناؤه وأحباؤه.
فاليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه..
والحق أنهم ما كانوا إلا أبناء لأهوائهم، وإلا أحباء لشهواتهم.. أمّا الله الذين يدّعون عليه هذه الدعوى، فهم أعداؤه وحرب عليه..
إن اليهود قد بدلوا كلمات الله وحرفوها، فآذوا رسله، وقتلوا أنبياءه فكيف تستقيم مع هذا دعواهم بأنهم أبناؤه وأحباؤه؟
والنصارى قد ألبسوا الله هذا الثوب البشرىّ، وداروا به فى الأرض دورة قاسية، يتلقى بها اللطمات واللعنات، ثم ينتهى به الأمر معلقا على خشبة بين لصّين! وقد ردّ الله عليهم هذا الادعاء الكاذب، وسلكهم جميعا- اليهود والنصارى- مسلكا واحدا، إذ كان طريقهم على الضلال واحدا.. فقال(3/1063)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
تعالى: «فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟» أي إن كنتم أبناء الله حقا وأحباءه صدقا، فلم تغرقون فى الإثم، وتموجون فى الخطيئة، وتلقون فى النار؟
إن أبناء الله وأحباءه، لا يخرجون عن طاعته، ولا يمكرون بآياته! وفى قوله تعالى: «يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» ما يقطع بأنهم معذبون، وأن هذا العذاب إنما استحقوه بما كسبت أيديهم، شأنهم فى هذا شأن كل من يكذب بالله ويخرج عن طاعته! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» فلا محاباة لأحد عند الله، ولا كرامة لإنسان عنده، إلا بالعمل الصالح.
وفى قوله تعالى: «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» إشارة إلى أن الله عبادا أرادهم للجنة فعملوا لها، واستحقوا مغفرته ورضوانه، وعبادا أرادهم للنار فعملوا لها، فوقعوا تحت نقمته وعذابه..
يروى عن عمر بن الخطاب وقد سئل عن قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: «إن الله عز وجل لمّا خلق آدم، مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال:
خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره واستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» .
الآية: (19) [سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)(3/1064)
التفسير: ومرة أخرى يدعو الله سبحانه أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن ينظروا فى أنفسهم، وأن يتدبروا أمرهم فى موقفهم من هذا الرسول الكريم، الذي جاءهم على فترة من الرسل- أي بعد زمن انقطعت فيه رسالة الرسل- وأن يلتقوا به، ويتعاملوا معه، ويصححوا معتقدهم فى الله على ما جاء به، فتلك هى فرصتهم، إن اهتبلوها غنموا ونجوا، وإن ضيعوها ضاعوا وهلكوا، ثم لم يكن لهم على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين! وفى قوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» هو قطع لكل علّة يعتلّون بها، فى ركوبهم الباطل، وخوضهم فى الضّلال.. فليس لقائل منهم أن يقول: «ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» أي رسول من عند الله، يكشف لنا معالم الطريق، ويرفع منارات الهدى.
وقوله سبحانه: «فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» هو حجة الله عليهم، بما حمل إليهم هذا البشير النذير من حق وهدى.
وفى مواجهة أهل الكتاب- اليهود والنصارى- بهذا الخطاب، من الله،، دليل على عموم رسالة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، وأنه رسول إليهم كما هو رسول إلى الناس كافّة: «فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» هو «محمد» عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يشير إليه أيضا قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (85: آل عمران) .
وفى قوله تعالى. «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وعيد لأهل الكتاب إذا هم لم يستجيبوا لهذا النبىّ، ولم يصححوا معتقدهم على ما جاء به من عند الله، وأنهم إذا لم يفعلوا فلن يفلتوا من عذاب الله، وأنهم لن يعجزوا الله فى الأرض، ولن يعجزوه هربا.(3/1065)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
الآيات: (20- 26) [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
التفسير: هذا موقف من مواقف بنى إسرائيل العناديّة مع أنبياء الله، وحملة النور والخير إليهم، وإن فى ذلك لعزاء وسلوى، للنبىّ الكريم لما استقبل به اليهود دعوته، من كيد وتضليل.. إذ ليس هذا شأن اليهود مع النبىّ وحده، بل هو شأنهم مع كل نبى من أنبيائهم..
فهذا موسى عليه السلام، الذي بعثه الله إليهم، لينقذهم من الذلة والهوان، وليطلق سراحهم من يد الأسر المضروب عليهم من فرعون- موسى عليه السلام،(3/1066)
الذي أطلق بين أيديهم معجزات آمن بها كهنة مصر وسحرتها، وفلق بهم البحر، ونجاهم من فرعون، وفجّر لهم من الصخر عيونا.. موسى وهذه بعض آياته ومعجزاته، قد أعنتوه والتووا عليه، وخرجوا من يده فى أكثر من موقف..
فها هو ذا يدعوهم إلى خير ساقه الله إليهم، ويوجههم إلى دار أمن وقرار وعدهم الله بها، وهو- عليه السلام- يقدم بين يدى دعوته استعراضا لنعم لله عليهم، ورحمته بهم.. «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» .. فقد جعل الله فيهم أنبياء وملوكا، وملوكا أنبياء، يجمعون بين سلطان الدنيا والدين، كما كان ذلك لداود وسليمان عليهما السلام، الأمر الذي لم يكن لأنبياء من قبل، ولا لملوك فى الأرض.. فما هو إلا سلطان واحد.. نبوّة أو ملك.. ولكن جمع الله لأنبياء بنى إسرائيل النبوة والملك معا..
وقوله تعالى: «وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» أي من هذه النعم التي تحملها السماء إليهم فى صورة معجزات: كالمنّ والسلوى، وكالجمع لأنبيائهم وملوكهم بين النبوة والملك- وهذا من شأنه يقوّى صلتهم بالله، ويوثق إيمانهم به.. ولكن كانت هذه النعم أسلحة يحاربون بها الله، ومعاول يهدمون بها معالم الحق، ومنارات الهدى! والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ» (51 فصلت) .
وقوله تعالى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» هو دعوة موسى لهم، إلى نعمة جديدة، بعد تذكيرهم بما لله فيهم من نعم سابقة سابغة.. فهو(3/1067)
لم يدعهم إلّا إلى ما فيه خير عاجل لهم، وهو أن يخرجوا من الصحراء، وأن ينتقلوا من حياة الرعي والخيام، إلى حياة المدينة، والاستقرار! ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا إلى أرض مقدسة، تحفّها رحمات الله، وتبارك أرضها..
ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا ليمدّوا أيديهم إلى ما وعدهم الله به، وكتبه لهم.. إنها ثمرة طيبة دانية القطوف، لا يحتاج من يريد أن يطعم منها إلى أكثر من أن يمدّ يدّه إليها! ومع هذا فقد أبى القوم أن يتقبلوا دعوة موسى، وأن يصدّقوا وعد الله لهم، بل غلب عليهم سوء طبعهم، فخيّل إليهم أن فى الأمر شيئا، وأن وراء هذه الدعوة ما وراءها! وموسى عليه السلام، خبير بالقوم، عليم بما ينطوى عليه كيانهم من خبث وفساد.. ولهذا لم يرسل الدعوة إليهم بدخول الأرض المقدسة مطلقة، بل أتبعها بهذا التحذير الذي كان لا بد منه فى مواجهة قوم كهؤلاء القوم..
«وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» إذ لا ينتظر من هذه الجماعة إلا أن تصطدم مع هذه الدعوة، كما تصطدم الكرة بجدار فترتدّ إلى وراء! وفى التعبير بارتداد القوم على أدبارهم، إشارة إلى أنهم إنما يرتدون إلى الوراء وعيونهم معلقة بالمتجه الذي تتجه إليه الدعوة، وكأن هذا المتجه حيوان مفترس يتحفز للوثوب عليهم.. فهم يسيرون إلى الوراء، على أقفيتهم، وأبصارهم شاخصة إلى هذا الأمر المخيف الذي دعاهم إليه! فهم- والحال كذلك- بين خطر يقع عليهم من تصوراتهم لهذا الأمر الذي يدعون إليه، وخطر يترصدهم، وهم يتدافعون إلى الوراء نحو مجهول لا يرون لهم منه مهربا..(3/1068)
وانظر كيف كانت سفاهة القوم مع موسى عليه السلام.. يدعوهم إلى خير، فيكذّبونه ويمكرون به، ويتخابثون عليه.. ويناديهم متلطفا مترفقا، «يا قوم» «يا قوم» ويردّون عليه فى غلظة، وجفاء، واستعلاء: «يا موسى» ..
«يا موسى» !! وقاحة، وجبن، ونذالة..
«قالُوا يا مُوسى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» .. هكذا كان ردهم على تلك الدعوة الكريمة المترفقة، المحمّلة بالخير والأمن..
إنهم- وذلك دأبهم أبدا- يأخذون دون أن يعطوا، ويجنون مالم يزرعوا..
يأكلون ثمرة الزارعين، ويسرقون جهد العاملين. فلا يريدون أن يدخلوا الأرض المقدسة إلا أن يخليها لهم أصحابها، ويهتفوا بهم: أن أقبلوا.. ولو وقع هذا لوقع فى أنفسهم أن يطلبوا إلى موسى أن يهيىء لهم مراكب سماوية تقلهم إلى حيث هم ذاهبون!! إنها طبائع أطفال، وتعلّات صبيان، وأمانىّ جبناء.
ومع هذا الردّ الوقح، فإن موسى لم يعتزلهم، ولم ينه الموقف معهم على هذا اليأس القاطع منهم.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .
وقد اختلف المفسرون فى هذين الرجلين، وأكثروا من مذاهب القول فيهما، وذهب بعضهم إلى الإدلاء باسميهما.. إلّا أن الأمر الذي أجمع عليه المفسرون هو أن هذين الرجلين لم يكونا موسى وهرون! والذي نقول به ونطمئن إليه، هو أن هذين الرجلين، هما موسى وهرون!! وشاهدنا على هذا، ما توحى به الآيات الكريمة، بل وتكاد تصرح به!(3/1069)
فأولا: الردّ الذي ردّ به القوم على هذه الدعوة، وهو ما جاء فى قوله تعالى: «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» .. فلو أن هذين اللذين دعواهما بقولهما: «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» - لو أنهما كانا غير موسى وهرون لما كان ردهم موجها إلى موسى.. بل كان يكفى أن يقولوا: «لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها» ..
وأمّا أنهم واجهوا موسى بهذا الردّ، ولم يوجهوه إلى موسى وهرون معا، فلأن موسى كان هو رجل الموقف، وهرون كان ظهيرا له..
وثانيا: ما جاء فى قوله تعالى على لسان موسى: «قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» .. وهذا القول من موسى قاطع بأنه لم يكن فى القوم من استجاب له غير أخيه هرون.. وإذن فهو وهرون جبهة، والقوم جميعهم جبهة أخرى.. ولو أنه كان هناك فى جبهة موسى وهرون غيرهما لما قال هذا القول: «لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» إذ هو يملك- غير نفسه وغير أخيه- هذين الرجلين اللذين قيل عنهما إنهما قالا هذا القول.
وثالثا: فى قوله تعالى: «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» - أكثر من إشارة:
فالذين يخافون هم القوم كلهم، وبلا استثناء أحد.. والمعنى على هذا هو كهذا: قال رجلان من القوم الخائفين، وهذان الرجلان قد أنعم الله عليهما فعافاهما من هذا الخوف: اللذى لبس القوم واستولى عليهم.. وفى هذا تعبير للقوم، واحتقار لهم، وإزراء عليهم، ووصمهم جميعا بهذا الداء الذي لا يزايلهم أبدا.. داء الجبن والخوف من كل شىء.
ثم إن فى قوله تعالى: «فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» هو وعد مؤكد(3/1070)
بدخول القوم هذه الأرض المقدسة لو أنهم جرءوا واتجهوا إلى العدو ودخلوا عليه الباب.. وهذا الوعد لا يكون إلا عن علم سماوى.. الأمر الذي لم يكن لأحد من القوم أن يقول به، غير موسى وهرون، اللذين هما على صلة بالوحى الإلهى.
هذا، وقد انتهى الأمر بين موسى وتلك الجماعة الشاردة، إلى اليأس، فكان أن اعتذر موسى إلى ربه بقوله: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ (أي احكم) بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» أي الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة الله، وامتثال أمره إليهم.. وقد قبل الله من موسى ما اعتذر به إليه، واستجاب له ما دعاه به، فحكم بينه وبين هؤلاء القوم الفاسقين.. فكان هذا حكم الله فيهم: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» .. إذ ضرب عليهم التيه والضلال فى الصحراء أربعين سنة، يضطربون فى هذا القبر المطبق عليهم، لا يعرفون لهم وجها للخلاص منه.
ولعل الحكمة فى توقيت التّيه بأربعين سنة، هى أن يموت أبناء هذا الجيل الذي كان منه هذا العناد والضلال، فلا يرى أحد منهم الأرض المقدسة، ومن رآها منهم ممن امتد عمره، فإنه يراها فى شيخوخة واهية، فلا ينتفع بخيراتها، ولا ينشىء له حياة فيها.. إن هؤلاء الشيوخ الذين يدخلون الأرض المقدسة بعد هذا التيه هم أشبه بالأطفال وبمن لم يبلغوا الحلم من أبنائهم الذين شهدوا موقف آبائهم من موسى ودعوته إليهم..
وهكذا يستدير الزمن بهذه الجماعة بعد تلك السنين الأربعين، فإذا أطفالها رجال، وإذا رجالها أطفال ... !(3/1071)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
الآيات: (27- 29) [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 29]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الصورة التي عرضتها الآيات السابقة لبنى إسرائيل كانت صورة معتمة للإنسان، فاضحة لمساوئه ومخازيه، حين تفسد فطرته، وتضيع معالم إنسانيته، فيدفع بكلتا يديه الخير المسوق إليه، وينفخ بفمه فى شعلة النور المنصوبة لهدايته.. مؤثرا أن يظل هكذا فى الظلام والضلال.
ولأنّ الإنسانية ليست كلها على هذه الصورة الكئيبة المعتمة، التي تتمثل فى بنى إسرائيل، إذ أن فى الإنسانية خيرا كثيرا، وفى الناس أخيار كما فى الناس أشرار وفجار- فكان من تمام العرض للإنسانية أن يعرض جانبها الطيب كما عرض جانبها الخبيث.
وقوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ» هو عرض للإنسانية كلها، من جانبيها: الطيب والخبيث، وعلى وجهيها: المشرق والمظلم. وفى مثليها: الملائكى والشيطاني.
وذلك، لكى تهتز هذه الصورة التي تتمثلها الخواطر للإنسانية المريضة، وهى تنظر إلى الإنسان من خلال آيات الكتاب الكريم، وما عرضت من ضلال هذه الجماعة وسفهها- ثم لتقوم مقام تلك الصورة صورة أخرى للإنسان حين يعلو بإنسانيته، ويرتفع بوجوده عن تراب هذه الأرض، وما اختلط به من ضباب ودخان، حيث يرى وجه الحق سافرا مشرقا، فيأنس به، ويحيا معه.(3/1072)
وقد اتفق المفسرون قولا واحدا فى ابني آدم هذين، على أنهما هما قابيل وهابيل، وأن آدم كان قد أمر ولديه هذين أن يتزوج كل منهما توأم أخيه، وألا يتزوج الأخت التي ولدت معه.. ثم يقولون: إن توأم قابيل كانت أجمل من توأم هابيل، فأباها على أخيه، وأصر على أن يمسكها لنفسه، على حين أبى هابيل أن يعصى أمر أبيه، الذي هو وحي سماوى.. ثم اتفقا على أن يحتكما إلى الله، وذلك بأن يقدم كل منهما قربانا إلى الله، فمن قبل الله قربانه كان على الآخر أن ينزل على مشيئته! وقدّم كل منهما قربانه.. فتقبل الله من هابيل، ولم يتقبل من قابيل.
ولكن قابيل لم يرض بحكم السماء، وأصر على موقفه العنادىّ من أخيه، ومن أمر أبيه، ووصاة ربه..
وإنه لكى يخلو لقابيل الطريق، ويبلغ ما يريد، هداه شيطان الهوى إلى أن يقتل أخاه، وبذلك يقطع تلك اليد التي تنازعه المرأة التي يريدها.. ثم لا يكون- بهذا- قد خالف أمر ربّه أو وصاة أبيه.. فهكذا خيّل إليه أنه بهذا يضع حكم الله وشرعه أمام أمر واقع. وهكذا المفتونون وأصحاب الأهواء..
يتأولون فى شرع الله، فيبدلون ويغيّرون، حسب ما يميله عليهم الهوى، وتدعوهم إليه الشهوة! .. هذا ما قاله المفسرون فى هذه الآيات، معتمدين فى أكثر ما قالوا على ما يحدّث به اليهود من أخبار الماضين.
ونحن نرى- والله أعلم- أن حصر مضمون هذا الخبر القرآنى، فى هذا المحتوى الضيق المحدود، يذهب بكثير من معطياته، ويطلع بأضوائه من أفق محدود، لا تطلع شمسه إلا على صاحبى هذه القصة، فإن تجاوزهما إلى غيرهما، فلا أكثر من امتداد ظلهما، فى طوله أو قصره! والذي يعطى هذه القصة، بعض مالها من امتداد، وبعض ما فيها من حكمة،(3/1073)
هو أن يكون الأخوان إنسانين من الناس. أي من بنى آدم.. وأن أحدهما مؤمن بالله، مستقيم على طاعة أوامره واجتناب نواهيه، وأن الآخر، لا يرعى لله حرمة، ولا يحفظ له عهدا..
وهذا واقع لا تنكره الحياة.. ففى كل مجتمع أخيار وأشرار، وفى الإخوة:
المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي..
وبنو إسرائيل، وإن كانوا من أبناء آدم، فإن انحرافهم عن الحق، وركوبهم طرق الضلّال، لا يعنى أنهم كلّ الإنسانية، ولا أنهم فى مركز القيادة فى سفينة الحياة.. فما هم إلا وجه من وجوه الإنسانية، وفى الإنسانية وجوه مشرقة، تفيض خيرا وبرا ورحمة، إذا هبّت من تلقاء بنى إسرائيل سمائم الشر، وأعاصير الفتن.
والحسد هو العلّة المتمكنة القاتلة فى بنى إسرائيل.. لا يرون أحدا تلبسه نعمة من نعم الله، حتى يطير صوابهم، وتطيش أحلامهم، فيضربون رءوسهم حتى تدمى، أسفا وحزنا، أن ينال أحد غيرهم خيرا..
وما جرى بين ابني آدم من هذا الصراع الدامي ما هو إلا شرارة من شرارات الحسد، اندلعت فى صدر أحد الأخوين، ثم لم تلبث أن شبّ ضرامها..
فكانت فتنة، وكان دم، وكانت خطيئة، وكان هلاك!.
ففى قوله تعالى: «إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ» مشهد من مشاهد هذه القصة.
فهذان أخوان يقدّم كلّ منهما قربانا إلى الله، يريدان بهذا القربان أن ينالا رضى الله، ومغفرته، ورحمته..
والقربان ما يتقرب به إلى الله من ذبائح ونحوها.(3/1074)
وكان أن تقبّل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. لما يعلم- سبحانه- من أمر كل منهما، وما هو أهل له عنده..
وهنا تتحرك الغيرة، وتتحول إلى حسد، ويستغلظ الحسد فيكون عدوانا وانتقاما.. وإذا الأخ يتوعد أخاه، ثم تمتد إليه يد الإثم فتقتله، ولا تعطفه عليه عاطفة الأخوة، ولا لحمة الإنسانية، ولا وداعة الأخ وبره بأخيه، وحرصه على سلامته..
وفى هذا يقول الله تعالى: «قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» ..
فهذا يتهدّد أخاه بالقتل، وذك يدعوه إلى الهدى، ويكشف له معالم الطريق إلى الله، ليكون فى المقبولين عند الله مثله: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» فاتق الله، واستقم على طريقه، يكن لك من الله ما كان لى، فليس عند الله محاباة، وإنما أكرم الناس على الله، أتقاهم لله..
ولكن الحسد يغطى على عقل هذا الأخ، ويطمس على بصيرته، فلا يرى إلا النقمة من أخيه، شفاء لدائه وسكنا لأوجاعه.. والأخ يلقاه ملاطفا موادعا:
«لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» .. فهو ملازم للتقوى متمسك بها، بعد أن عرف ثمرتها فى هذا المشهد الذي شهده بين يدى ربّه.. إنه على خوف من ربّه أن ينحرف عن طريق التقوى. أما هذا الأخ الحسود، فلم يزده اللّين والنصح إلا عنادا وإلا جفاء.
وإذ لم تصل الكلمات اللّينة الوادعة إلى قلب هذا الأخ الحسود، فقد جاءه بمقرعة يقرعه بها، وينبهه إلى هذا الخطر الذي هو مقدم عليه، والذي إن أصرّ على موقفه منه، كان فى ذلك هلاكه وسوء مصيره.. فيقول له:
«إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» ولو كان فى هذا الأخ الحسود بقية من عقل لفوّت على أخيه ما يريده له(3/1075)
من سوء العاقبة، وخسران المنقلب: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» إذن فهذا القتل الذي يتهدد به أخاه، هو مما يريده هذا الأخ، لأنه يريد السلامة لنفسه أولا، ثم الهلاك لهذا الذي يريد أن يهلكه. ثانيا.. وليس الهلاك فى أن يقتل، بل الهلاك فى أن يكون قاتلا!.
ومع هذا فإن الحسد قد غطّى على كل شىء منه، فلم ير فى كلمات أخيه، وفى تحديه له، شيئا يعدل به عن طريقه الذي ركبه من أول الأمر.. وكان أن قتل أخاه، وأسال على الأرض دمه!.
ومعنى يبوء بإثمه أي يرجع به، حاملا له على كاهله، والإثم: الذنب الغليظ، المنكر..
وفى قوله تعالى: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» ما يسأل عنه:
إن القتل هو إثم يقع على القاتل.. فكيف يبوء القاتل هنا بإثمين: إثمه، وإثم قاتله؟
والجواب- والله أعلم- أن هذه معركة بين طرفين.. فقد همّ أحدهما أن يقتل الآخر.. وكان من شأن هذا الآخر أن ينتقم لنفسه، وأن يدفع القتل عنه، إلى هذا الذي يريد قتله..
وإذن فهنا قتيلان.. حكما، وإن كان القتيل واحدا.. فعلا.. فقد كان من المتوقع فى هذه المواجهة بين خصمين، أن يقتل كل منهما الآخر، ولكن الذي حدث هو أن أحدهما قد أخلى نفسه من أول الأمر من أن يلوث يده بدم إنسان، فضلا عن أن هذا الإنسان هو أخوه.. فلم يكن إلا يد واحدة آثمة، هى تلك التي امتدت إلى اقتراف هذا الذنب العظيم، فكان عليها أن تحمل وزرها، ووزر اليد الأخرى التي كان من المتوقع أن تشاركها الإثم الذي أقدمت هى عليه..(3/1076)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار» قيل هذا القاتل.. فما شأن المقتول؟ قال:
«كان حريصا على قتل صاحبه..»
وهذا يعنى أن جريمة القتل التي تقع نتيجة للصراع بين اثنين، هى جريمة مشتركة بينهما، وإثمها واقع عليهما معا.. يقتسمانه على السواء.. أما أن أحدهما كان البادئ المعتدى، والآخر المدافع الذي يدافع عن نفسه، فذلك له حكم آخر غير جريمة القتل التي وقعت.. إذ لا شك أن البادئ بالعدوان، عليه تبعة هذا الموقف العدوانىّ الظالم، وعليه عقاب المعتدين الظالمين.. أما جريمة القتل فهى أشنع وأفدح من أن يحتملها إنسان، ومن هنا كانت آثارها السيئة تفيض عن القاتل، حتى لمسّ البريء المقتول.
الآيات: (30- 31) [سورة المائدة (5) : الآيات 30 الى 31]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
التفسير: انتهى الموقف بين الأخوين إلى تلك النهاية السيئة، فسمحت نفس الأخ، واتسعت لقبول هذا المنكر الغليظ، فقتل أخاه، وأخمد أنفاسه، ظلما وعدوانا.. فكتب بيده وثيقة خسرانه، وسطّر بهذا الدم البريء المسفوك، الحكم- بإدانته، وسوء مصيره! وقوله تعالى: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ(3/1077)
يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» .
يقول المفسرون لهذه الآية: إن الله بعث بين يدى قابيل غرابين، اشتبكا فى صراع، فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فواراه فيها، فعجب قابيل لهذا، ورجع على نفسه باللائمة أن عجز عن أن يفعل ما فعل الغراب إذ وارى جثة قتيله.. ومن هذا العمل الذي عمله الغراب أخذ قابيل بما دلّه عليه الغراب، فحفر لهابيل حفرة، وأودعه فيها! وممكن أن يقع الأمر على هذه الصورة، إذا جعلنا فى الحساب ما يقول به المفسرون من أن هذا كان أول قتيل من بنى آدم، وأنه لم يكن مما علمه أبناء آدم كيف يفعلون بموتاهم أو قتلاهم..
ولكن لنا على هذا اعتراضات:
أولها: أننا لا نسلّم بأن هذه الحادثة كانت أول حدث يقع بين ولدين لآدم.. إذ أن لنا فى آدم مفهوما غير هذا المفهوم الذي يرى أن آدم كان سماوىّ المولد، وأنه خلق ابتداء على صورة الإنسان هذه.. ولو سلّمنا بهذا فإنّا لا نسلم بأن هذا النزاع كان أول نزاع وقع فى الأرض، وأنه كان بين ابني آدم، الأب الأول للإنسانية كلها..
وثانيها: أننا إذا سلمنا بأن هذا القتيل كان أول قتيل فى الأرض- فكيف تكون عملية القتل وإزهاق الروح معلومة لابن آدم هذا؟ وكيف يتوعد أخاه ويتهدده بقوله: «لَأَقْتُلَنَّكَ» ؟ كيف يقول هذا وهو لا يعرف القتل، بل ولا يعرف الموت بعد؟ ولو عرفه لعرف- تبعا لهذا- الأسلوب الذي يتخذ مع الموتى أو القتلى، بعد موتهم أو قتلهم!!(3/1078)
وثالثها: أن الآية صريحة فى أن المبعوث هو غراب لا غرابان..
ولو كانا غرابين لذكرتهما الآية..
ورابعها: أنه لو وقع بين الغرابين هذا الصراع الذي انتهى بقتل أحدهما لكان فى ذلك عزاء لابن آدم القاتل، إذ يرى فى هذا تبريرا لفعلته، وإجازة لجريمته. فضلا عن أن الغربان لا تواري موتاها أو قتلاها.
وخامسا: لو أن هذا الذي فعله ابن آدم كان أول فعلة وقعت من نوعها فى عالم البشر لما كان عليه كبير إثم منها.. لأنه فعل فعلا لا يدرى ما هو، وما عاقبته، ولما كان مستحقا أن يوصف بما وصفه الله به، وهو قوله تعالى:
«فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
ولكن ما مفهوم هذه الآيات؟ وما شأن الغراب هنا؟ ولم هذا الندم الذي استشعره القاتل مما فعله الغراب؟
أما مفهوم هذه الآيات- والله أعلم- فإنها ترفع لبنى إسرائيل مشهدا من مشاهد الآثام التي يأتونها من غير تحرج أو تأثم، وأن مردّ هذه الآثام يرجع فى أكثره إلى الحسد، الذي يملأ صدورهم نقمة على الناس، ويبسط ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى إلى كل من تلبسه نعمة من نعم الله..
وأنهم فى الإنسانية إنما يمثلون هذا الإنسان الظالم الآثم من ابني آدم، الذي حمله الحسد لأخيه على أن يلقى بنفسه إلى التهلكة، وأن يخسر الدنيا والآخرة جميعا! هذا هو المضمون الظاهر لهذه الآيات..
أما الغراب، فقد يكون غرابا حقيقيا، أو كائنا سماويا تمثّل فى هذه الصورة.
وعلى أىّ فهو ملهم من الله تعالى بأن يفعل ما فعل بين يدى ابن آدم هذا..(3/1079)
لأن الله سبحانه وتعالى يقول: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» فهو مبعوث من عند الله لهذا الأمر.
أما الندم الذي كان من هذا القاتل، فهو مما أثاره ما فعل الغراب.. هذا الحيوان الأعجم، الذي أقبل على جثة القتيل، يلقى عليها التراب، بما يحفر بقدميه حولها، حتى لكأنه يريد أن يواريها عن الأنظار، ويحميها من أن تنهشها السباع والطيور.
وهنا يتنبه هذا القاتل إلى وجوده، وإلى شناعة الإثم الذي ارتكبه، وأن هذا القتيل مظلوم، حتى استدعى ظلمه الحيوان الأعجم، ليكون إلى جانبه، حين تخلّى عنه أخوه، وأبى عليه إلا أن يكون طعاما للسباع والطير..
وهنا أيضا يستشعر القاتل الندم، ويقع ليقينه أنه قتل هذا القتيل عدوانا وظلما.
ولهذا وجد عاطفة الأخوّة تستيقظ فى نفسه، تلك العاطفة التي كانت قد أماتها الحسد، وذهب بكل أثر لها.. وذلك ما يشير إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسان هذا القاتل: «يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» .. أخى.. هكذا يقولها بملء فيه، ومن قلب يفيض حسرة وندما! «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» أي أنه لم يكن يجد شيئا من الندم، قبل أن يرى ما فعل الغراب، ثم أصبح بعد ذلك من النادمين، إذ رأى نفسه أضأل من هذا الحيوان شأنا، وأعمى بصيرة، وأضلّ سبيلا.. وهكذا الإنسان، إذا غلبه الهوى، وركبه الضلال، كان أحط مرتبة فى عالم الحيوان، والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ..» (4- 6 التين) .(3/1080)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
الآية: (32) [سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
التفسير: قوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» الإشارة هنا إلى محتوى هذه الحادثة كلّه، وما تضمنته من تسلط الحسد على بعض النفوس، ذلك الدّاء الذي يقطع أواصر المودة والأخوّة بين الناس، ويلقى بينهم العداوة والبغضاء، حتى يهلك بعضهم بعضا، ويذيق بعضهم بأس بعض.. ثم هذه الجريمة الشنعاء، التي ذهبت بحياة إنسان برىء، لم يبسط لسانه أو يده بعدوان على أحد..
ثم إن القتل عدوان بيّن على الله سبحانه، الذي بيده وحده الحياة والموت..
فإذا لم يكن الإنسان يملك من أمر الحياة شيئا، فليس له أن يملك من أمر الموت شيئا..
ومن هنا كانت غيرة الله سبحانه وتعالى على تلك الحرمة المقدسة.. حرمة الحياة الإنسانية، وقداسة الإنسان وكرامته على الله..
وقوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» .
أي بسبب حرمة الحياة الإنسانية وقداستها وكرامتها، فرض الله على بنى إسرائيل هذا الفرض، وأوجب عليهم هذا الحكم، وهو أنه من قتل نفسا،(3/1081)
عدوانا وظلما، أي من غير قصاص فى قتل، أو سعى بفساد فى الأرض- فكأنما قتل الناس جميعا، «وَمَنْ أَحْياها» أي أحيا نفسا إنسانية، بأن كفّ يده عن العدوان عليها، أو دفع عنها يدا معتدية عليها- فكأنه أحيا الناس جميعا.. ذلك أن الإنسان يمثّل الإنسانية كلها.. إذ كان خلقها جميعا من نفس واحدة، كما يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» (1: النساء) .. وفى كل إنسان هذه النفخة المقدسة التي كانت منها الإنسانية كلها، فمن قتل إنسانا، فقد أخمد تلك الشعلة المقدسة التي هى أصل الحياة، ومن أحياها، أي تركها حيّة فلم يعرض لها بسوء، فكأنما أحيا الإنسانية كلها، وترك شعلتها المقدسة متّقدة..
وفى هذا الحكم الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى على بنى إسرائيل، تغليظ لجريمة القتل، وتشنيع عليها، وتهويل لها، ووضع القاتل أو من تحدّثه نفسه بالقتل أمام تلك الجريمة المفزعة، التي يرى فيها الإنسانية كلها وهى جثث هامدة، وأشلاء ممزقة بين يديه.. حتى أهله وأقرب الأقربين إليه من آباء وأبناء..
إنهم جميعا من قتلاه.. بل إنه هو نفسه فيمن قتل بيده.. إذ كيف يحيا وحده فى هذا العالم الموحش، وقد خلا من وجه الإنسان؟
وفى هذا الموقف يطلّ علينا من بعيد هذا الشبح المخيف لابن آدم الذي قتل أخاه، فاستولت عليه الوحشة القاتلة بعده، وأصبح غريبا فى هذا العالم، لا يجد لحياته وجودا على هذه الأرض، حتى ليذهل عن كل شىء وتضيع من نفسه معالم المعرفة، التي لا تتحرك ولا تعمل إلا فى مواجهة الإنسان للإنسان..
ولهذا كان الغراب أقدر على الحياة منه، وأصلح للعمل فيها، لأنه يعيش بين جنسه، مع فطرته، التي تستجيب لحياة الجماعة وتعمل معها.
والسؤال هنا: لم كان هذا الحكم واقعا على بنى إسرائيل وحدهم؟(3/1082)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
والجواب- والله أعلم- هو أن شريعتهم أقدم الشرائع السماوية، العاملة فى الحياة، والتي أدركها الإسلام، والتحم بها، وبأتباعها.. ولا يمنع من هذا أن يكون هذا الحكم قد كان مفروضا فى الشرائع السماوية السابقة على شريعة التوراة..
ثم إنه من جهة أخرى- تأديب خاص لبنى إسرائيل، وابتلاء لهم بهذا الحكم الذي يحمّل القاتل منهم دم الإنسانية كلها، إذ كانوا أكثر الناس استخفافا بدم الناس، حتى دم الأنبياء والقديسين.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» (85: البقرة) .
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» .. إشارة إلى ما فى بنى إسرائيل من بغى وعدوان، وأنهم- وقد بعث الله إليهم رسله، بالبينات والهدى- لم يستقيموا على طريق الحق، ولم ينزعوا ما فى نفوسهم من حسد وبغى.
الآيتان: (33- 34) [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)(3/1083)
التفسير: فى الآية السابقة جاء قوله تعالى «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» وفى هذه الآية جاء قوله سبحانه:
«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ... » بيانا شارحا لجزاء المفسدين الذين أباح الله دماءهم، ورفع عن قاتلهم تبعة الإثم الواقع على من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى بنى إسرائيل، وإلى أنهم هم الوجه البارز فى الإنسانية، الذي تظهر فيه تلك المنكرات ظهورا واضحا، حتى لتكاد تكون الأصل الذي يقاس عليه كل منكر يظهر فى الناس.
فهم يحادّون الله ورسوله.. والمحادة هى العدوان على حدود الله، والاستباحة لحرماته..
وهم الذين يسعون فى الأرض فسادا، بما يرتكبون من جرائم وآثام، لما يحملون فى صدورهم من غلّ وحسد..
وقد رصد الله سبحانه هذا العقاب الرادع لتلك الجرائم المنكرة، ليكون فيه تنكيل، وبلاء، وإهدار لآدميّة من يهدر آدميته، حين يضيّع حقوق الله، ويستخفّ بها، ويهدر حقوق الناس ويغتالها، ويستبيح دماءهم وأموالهم.
وفى قوله تعالى: «أَوْ يُصَلَّبُوا» إشارة أخرى إلى اليهود، حيث أن هذا النوع من العقاب وهو الصلب، كان شريعة لهم، يأخذون به من يحادّ الله، ويكفر به.. وقد قدّموا المسيح بهذه التهمة، وحكموا عليه بالموت صلبا.
وفى قوله تعالى: «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» إشارة ثالثة تشير إلى اليهود، وأنهم أولى الناس بهذه العقوبات، وأكثرهم تعرضا لها.. ولقد وقع عليهم هذا الحكم، فأجلاهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من المدينة، ونفاهم من(3/1084)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
الأرض.. إذ كانوا مصدر فتنة وقلق واضطراب للمجتمع الإسلامى فى المدينة، يفتنون الناس عن دينهم، ويؤلفون مع المنافقين حلفا لمحاربة الإسلام والكيد له، ولقد كان منهم هذا الغدر اللئيم الذي جمع بينهم وبين مشركى قريش، حين جاءوا إلى المدينة بجموعهم يريدون القضاء على المهاجرين والأنصار فى غزوة الخندق.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» (3: التغابن) وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» هو استثناء من هذا الحكم الواقع على أصحاب تلك الجرائم المنكرة.. فمن تاب منهم، ورجع عما هو عليه من منكر، وذلك قبل أن تناله يد المسلمين، وتمسك به متلبسا بجرمه- من تاب منهم قبل هذا فقد رفع الله عنه هذا الحكم، وفتح له بتوبته، الطريق إلى النجاة.. فليغفر لهم النبىّ والمسلمون، وليلقوهم بالصفح الجميل، وليعلموا «أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
الآية: (35) [سورة المائدة (5) : آية 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
التفسير:
[الوسيلة.. والتوسل بأصحاب القبور] وبين يدى هذه العقوبة الراصدة للذين يحادّون الله ورسوله ويسعون فى لأرض فسادا، تجىء دعوة للمؤمنين أن يثبتوا على ما هم عليه من إيمان وتقوى، وأن يعملوا ما وسعهم العمل على الاقتراب من الله، بالعمل الصالح والجهاد فى(3/1085)
سبيله، حتى يبتعدوا أكثر ما يمكن عن هذه المهالك، التي تأخذ المفسدين بأنواع النّكال والبلاء..
والدعوة إلى السلامة والنجاة، فى الحال التي يشهد الإنسان فيها مصارع الظالمين والبغاة، هى دعوة مستحابة، تتلقاها النفوس حفية بها، حريصة عليها..
حيث هى الحبل الممدود لنجاة من يمسك به، فى هذه الريح العاصف، التي تنزع الناس، وتلقى بهم فى مهاوى الهلاك..
والوسيلة: هى ما يتوسل به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة التي ترضى الله، وتدنى الإنسان من ربه.
فالوسيلة فى اللغة، ما يتوسل به إلى أي أمر ابتغاء تحقيقه، وجمعها وسائل، ولكل أمر وسائله وأدواته التي يتوسل بها إليه، فمن أخطأته الوسائل، لم يبلغ من أمره ما يريد..
وتقوى الله هى مطلوب كل مؤمن بالله، ورغيبة كل طامع فى رضا الله، ساع إلى مرضاته..
ولهذا فقد أمر الله تعالى الذين آمنوا، بالتقوى، فى قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» .. فليس الإيمان- مجرد الإيمان- هو الذي يطلب من المؤمن، ليكون فى عباد الله المؤمنين، وإنما الذي يحقق الإيمان، وينضج ثمرته، هو «التقوى» .
والتقوى هى اجتناب محارم الله، وامتثال أوامره، أو هى كما عرفها بعض العارفين: «ألّا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك» .
والتقوى على تمامها مطلب صعب المنال، غالى الثمن، لا يقدر على الوفاء به إلّا من رزقه الله قوة الإيمان، وثبات اليقين، ووثاقة العزم.. تلك هى بعض(3/1086)
الوسائل التي يتوسّل بها إلى التقوى- ولهذا جاء قوله تعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» معطوفا على قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ» - أي اتقوا الله بابتغاء الوسائل المؤدية إلى التقوى..
وهنا ما يسأل عنه: كيف جاء النظم القرآنى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» إذا كان المراد بالوسيلة ما تحقق به التقوى.. إذ لو كان الأمر كذلك لجاء النظم القرآنى كهذا: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ..» .. كيف هذا؟
والجواب على هذا، هو أن التقوى هى تقوى الله، ووسائلها التي تتحقق بها هى وسائل موصلة إلى الله، مدنية من رضاه ومغفرته.. فليست التقوى..
والأمر كذلك- مقصودة لذاتها، وإنما هى مرادة لما هو أولى بالمؤمن أن يتعلّق به، ويعمل له، وهو القرب من الله، والنزول فى رحاب رضوانه.. فابتغاء وسائل التقوى هو فى الحقيقة ابتغاء للوسائل المؤدية إلى رضى الله، ومن ثمّ كان عود الضمير إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى التقوى، التي هى بدورها وسيلة إلى التقرب من الله! وأمر آخر من أمر الوسيلة.. نريد أن نقف قليلا عنده..
فقد ذهب كثير من العلماء، وخاصة علماء الشيعة، إلى أن المراد بالوسيلة هنا هو التوسل بآل البيت- رضوان الله عليهم- والاستغاثة بهم، واللّجأ إليهم فى الملمّات..
وعن هذا المنزع ما يأخذ به بعض المسلمين أنفسهم من التوسل بالأموات، ممن يعتقد فى صلاحهم، واستقامة سلوكهم فى الحياة، فيلمّون بقبورهم وأضرحتهم، طالبين قضاء حوائجهم التي قصرت عنها أيديهم.
والذي يأباه الدّين هنا هو ما يتخذه كثير من أولئك الذين يزورون قبور الصالحين وأضرحتهم، من التمسح بهذه المواطن، ومناجاة الراقدين فيها، وطلب(3/1087)
الغوث منهم، حتى ليكاد المسلم يذهل عن الله فى هذا الموقف، وحتى لكأن هذا الإنسان الصالح هو الذي يتصرف فى هذا الكون.. إن شاء أعطى، وإن أراد منع! أمّا أمر زيارة قبور الصالحين، فهو إن تجردّ من هذه المشاعر، وخلص من تلك التصورات، ووقف به الزائر عند حدّ العبرة والعظة، بذكر الموت الذي تذوقه كل نفس، ويرد مورده كل إنسان، فذلك مما لا بأس به، إذ يكون الإنسان- وهو فى معرض يذكّره بالموت- أمام صورة طيبة، لسيرة عبد من عباد الله الصالحين، الذين أصبحوا ذكرا طيبا على ألسنة العباد.. ولعلّ فى هذا ما يدعوه إلى الأسوة، والسّير على طريق الصالحين.
ومع هذا، فإن الضعف البشرى، والجهل بما لله وما للعباد، قد يحمل بعض الناس ممن يلمّون بقبور الصالحين، على ألا يذكروا شيئا من هذا، وألا يستحضروا الموت فى هذا الموقف، إذ قد يتمثل لهم أن صاحب هذا «الضريح» لم يتحول بعد إلى تراب ضائع فى التراب، وأنه بكيانه كله لا يزال يلقى الناس ويلقونه، ويأخذ ويعطى.. ومن هنا كان الأولى بمن لا يعرف كيف يحمى نفسه من هذا المزلق، ويحرسها من هذا الضلال- أن يتجنّب زيارة الأضرحة، ليدفع عن إيمانه عوارض الضعف ودواعى الشرك.
ولا بأس هنا من أن ننقل ما ذكره «الشّوكانى» عند تفسيره لهذه الآية، قال: «قد أكثر الناس من دعاء غير الله تعالى، من الأولياء، الأحياء منهم والأموات.. مثل يا سيدى فلان أغثنى.. وليس ذلك من التوسل المباح فى شىء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوّه بذلك، وألّا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا، وإلّا يكنه فهو قريب منه.. ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعوّ الحىّ الغائب، أو الميت المغيّب، يعلم(3/1088)
الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم.
«فالحزم، التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله القوىّ الغنىّ الفعّال لما يريد.
ثم يقول: ومن وقف على سرّ ما رواه الطبراني فى معجمه، من أنه كان فى زمن النبىّ صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذى المؤمنين، فقال الصديق- أبو بكر رضى الله عنه- هيّا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاءوا إليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله» .. من عرف سرّ ذلك لم يشك فى أن الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلّبه فى الجنان عن الالتفات إلى ما فى هذا العالم، وبين شقى ألهاه عذابه وحبسه فى النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرّنك أن المستغيث بمخلوق، قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة من الله عزّ وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث فى صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة ممن استغاث به.. هيهات هيهات، وإنما هو شيطان من أضلّه وأغواه، وزين له هواه..» .
وهذا الذي يقوله الشوكانى هو الذي يجب أن يؤمن به كل مسلم، فى نظرته إلى أصحاب القبور، وإلى من يعدّه من الصالحين، وذوى الكرامات فيهم..
إنهم جميعا فى عالم وراء هذا العالم الذي نعيش فيه، شغلوا بما هم فيه من نعيم أو بلاء، وإنّهم لأشدّ حاجة إلينا منا إليهم، بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.. حيث أننا- أعنى الأحياء- فى دار عمل وابتلاء، يتقبل الله منا أعمالنا، ويحصيها علينا، ويحاسبنا عليها، وهم قد صاروا إلى عالم قد انقطع عنهم كل عمل فيه، فلا يضاف(3/1089)
إلى أعمالهم التي عملوها فى الدنيا شيئا جديدا من كسب أيديهم فى عالمهم الأخروىّ.. فكيف والحال كذلك يكون لهم كسب يضاف إلى غيرهم، من قضاء الحوائج، وتفريج الكروب؟.
ولا شك أن كثيرا ممّن يلمّون بمقابر من يعتقدون فى ولايتهم وصلاحهم، تستولى عليهم فى تلك الحال مشاعر، توحى إليهم بأنهم على مداناة وقرب من الله، وأن ما يدعون به مستجاب، وأن وراءهم من أمداد الصالحين والأولياء، ما يزكىّ دعاءهم عند الله، وينزله منازل القبول..
وهذا، وغيره من المشاعر المختلطة التي تستولى على الإنسان، فى تلك الحال- من شأنه أن يبعث الراحة والطمأنينة فى الإنسان، ويعلّله بالأمل والرجاء، وهذا بدوره عامل نفسىّ له أثره الإيحائى الذاتي، الذي تتغير به نفسية الإنسان، وتتبدل مشاعره، وفى ذلك شفاء له من كثير مما كان يكابده ويشقى به..
والعلاج بالإيحاء أمر معروف مشهود، وما يجده الذين يزورون أضرحة الأولياء والصالحين، من روح وراحة لا يعدو أن يكون ضربا من الإيحاء النفسىّ، سواء أكانت وارداته من خارج النفس أو داخلها..
ولعلّ فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ما يشير إلى شىء من هذا الذي يعرف بالإيحاء النفسي.. فالإنسان تتغير حاله، ويتبدّل سلوكه نحو شىء ما إذا تغيّرت مدركاته له، ومشاعره نحوه.. وكذلك شأنه فى جميع أحواله، حيث يقوم تعامله مع الأشياء على أساس من إدراكه لها، ومشاعره نحوها، فإذا تغيرت تلك المدركات تغيّرت تبعا لذلك مواقفه منها، وسلوكه معها.. وشأن الجماعات فى هذا، هو شأن الأفراد سواء بسواء..
على أن الذي نودّ أن ننّبه إليه هنا، هو ما يتطابر من شرر أو شرّ بين الذين(3/1090)
يلتقون على خلاف فى مجال التوسّل بالأنبياء، والأولياء والصالحين..
فهذا الشّرر كثيرا ما يمتدّ إلى هؤلاء، الذين اختلف المختلفون فى التوسل إليهم، بين مغال فى التوسل، وبين مبالغ فى تحريمه وفى تكفير من يتوسلون!.
ففى الطرف المغالى فى التوسل يرمى دعاته وأنصاره بالقول جزافا، يكيدون به للطرف المقابل، الذي ينازعهم فيه، ويتهمهم بمرض قلوبهم، وفساد دينهم..
وإذا هم يبالغون ويبالغون فيما هم فيه، حتى ليبلغ بهم ذلك إلى حد الشرك الصّراح بالله.
وفى الطرف الآخر، الذي يحارب التوسل ويعاديه، يجد المرء نفسه أنه فى حرب حقيقية، وأن عليه أن ينتصر فيها بأى ثمن، وأن يضرب فى الجبهة المعادية له بأى سلاح، وإذا هو من حيث لا يدرى يضرب فى وجوه الأنبياء والأولياء والصالحين أنفسهم، ولا يسأل نفسه ماذا جنى هؤلاء الكرام من عباد الله من جناية، حتى يرميهم بما يرميهم به.. من استخفاف بهم، وتطاول على مقامهم الكريم..
إن الدعوة بالرفق والحسنى فى هذا المقام، أليق بالإنسان، وأنجح لدعوته، وأسلم لدينه، إن كان أمره فى هذا قائما على النصح لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا خير فى داع يدعو إلى الخير، ثم يعود آخر المطاف بمحصول وفير من الوزر والإثم!.
وأيّا كان الأمر، فإن الذي ينبغى أن يكون فى يقين المسلم دائما هو التوقير والولاء لأنبياء الله، وأوليائه، والصالحين من عباده، وألا يدخل شىء من الضيم على ولائه وتوقيره لهم، ما يجنيه عليهم غيرهم، والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وقد عبد النصارى المسيح بن مريم، واتخذوه إلها من دون الله، ومع هذا فمقامه عند الله عظيم، لم ينله شىء مما جنى أتباعه(3/1091)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
من ضلال وكفر.. وكذلك ينبغى أن يكون ولاؤنا له على قدر تلك المنزلة العظيمة التي جعلها الله له بين عباده المكرمين.
فإذا بالغ المبالغون منا، وغلا المغالون فينا، ونظروا إلى الأنبياء والأولياء والصالحين، تلك النظرة التي يأخذها عليهم المقتصدون، ويتهمهم بها فى دينهم المتهمون- فذلك كله ينبغى أن يكون بمعزل عن مقام هؤلاء المكرمين من عباد الله، من رسله، وأنبيائه، وأوليائه.. والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.
الآيتان: (36- 37) [سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
التفسير: وهذه لفتة أخرى للمؤمنين، إذ يرون فيها أهل الكفر والنفاق والفساد وما أعدّ لهم من عذاب أليم فى الآخرة، بعد أن رأوا ما حلّ بهم من نكال فى الدنيا.. فإذا أفلت منهم أحد من عقاب الدنيا، لم يكن له من سبيل إلى الإفلات من عذاب الآخرة، وأنه إذا دفع عن نفسه عذاب الدنيا بمال، أو حيلة، أو نحو هذا، فإنه لا دافع لعذاب الله الراصد له فى الآخرة..
وقوله تعالى: «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» هو تيئيس للكافرين من أن يخلصوا(3/1092)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
من عذاب الآخرة، ولو كان لهم ما فى هذه الدنيا، وما فى دنيا مثلها..
وفى وصف العذاب بأنه «أليم» ثم وصفه بأنه «مقيم» استكمال لصورة هذا العذاب، وأنه يجمع بين الألم، واستمرار هذا الألم، الذي يقيمون فيه إقامة دائمة لا نهاية لها..
الآيتان: (38- 40) [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
التفسير: وإذ جاء فى الآيات السابقة حكم الله فيمن يحادّون الله ورسوله، ويسعون فى الأرض فسادا، فقد كان من المناسب أن يرد بعد ذلك حكم السرقة، وجزاء مقترفها، إذ هى ضرب من ضروب الفساد فى الأرض.. ثم لأنها لم تبلغ من غلظ الجرم ما بلغت الجرائم السابقة، فقد خرجت من هذا الحكم العام لتلك الجرائم، وأفرد لها هذا الحكم الخاص بها..
والمرأة والرجل سيّان فى الحدّ الواجب على السارق، وهو قطع يده اليمنى، من مفصل الرسغ، وذلك لأن اليمنى غالبا هى التي يستخدمها السارق فى السرقة، فكان قطعها عقوبة له، وكأنه فى نفس الوقت عقوبة لليد التي سرقت! وشرط إقامة الحدّ فى السرقة، أن يكوون المسروق مالا مقوّما شرعا..
فسرقة الخمر والخنزير لا قطع فيها، وأن يكون هذا المال محروزا فى حرز مالكه(3/1093)
وحفظه، فسرقة المال المتروك من غير حرز، ولا حراسة.. لا قطع فيه، ويشترط كذلك أن يكون المال ذا قيمة معتبرة.. وقد قدرها بعض الفقهاء بعشرة دراهم كما قدرها بعضهم بربع دينار.
هذا، وليس ذلك التغليظ فى عقوبة السرقة قسوة من الإسلام، واستخفافا بالإنسان، واسترخاصا لوجوده كما يقول ذلك- زورا وبهتانا- من يكيدون للإسلام، ويبيّتون له مالا يرضى من القول.. وإنما ذلك العقاب هو الجزاء العادل الرحيم، إزاء هذا الجرم الشنيع، الذي يعدّه الإسلام من أشنع الجرائم، إذ هو اعتداء على حرمة الإنسان، فى أعزّ ما يحرص عليه، وهو المال.
ولا بأس من أن نلفت أولئك الذين يتهمون الإسلام بالوحشية والحيوانية إلى ما جهلوه أو تجاهلوه من حكمة الإسلام، وتقديره السليم العادل لجريمة السرقة، ووزنها بالعدل والقسطاس.. بين السارق والمسروق منه..
فأولا: السرقة اعتداء خفىّ على حرمة الإنسان، واستباحة لماله الذي هو بمنزلة النفس عند صاحبه! وإذا كانت المدنيّة الحديثة قد استخفّت بهذه الجريمة، حتى استباحت سرقة الأمم والشعوب، فإن الإسلام الذي يحترم الإنسان- من حيث هو إنسان، ويرعى حرمته فى دمه، وماله وعرضة، كما يقول نبى الإسلام: «كل المسلم على المسلم حرام.. دمه، وماله، وعرضه» - فإن الإسلام لا يستخفّ بهذه الجريمة، بل يضعها موضعها بين الجرائم الغليظة، ولا تأخذه رحمة فيمن لا يرحم الناس، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» (252: البقرة) .
وهذا الحدّ الذي فرضه الإسلام لقطع يد السارق، هو بعض ما يدفع الله به(3/1094)
الناس، بعضهم بعض، وهو بعض فضله على عباده.
وثانيا- ليس القطع فى السرقة فى مطلق السرقة، أىّ سرقة، بل لا بد من توافر شروط تتم بها أركان هذه الجريمة الموجبة للقطع، وهذه الأركان هى:
(1) أن يكون المسروق شيئا ذا قيمة- أي له اعتبار فى حياة الناس الاقتصادية.. وكانت هذه القيمة تقدر فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم بربع دينار- أي ثلاثة دراهم-.
وهذا النصاب الموجب للقطع، يقدّر فى كل زمان ومكان بحسب قوته الشرائية بالنسبة لعصر النبوة. والمعتبر فى هذا هو أنه مال له قيمته، وله أثره، سواء أكان نقدا أو ما يقوّم بالنقد.
(2) أن تقع السرقة فى مال محروز، أي أن السارق يسرقه من حرز، فالمال الضائع، والثمر الذي يكون على الشجر بلا حائط يحيط به، والماشية التي لا راعى عندها، ونحو هذا، لا يقام على السارق حد فيه، ولكن يعزّر ويضاعف عليه العرم.
(3) ما أخذ بالفم من ثمر على شجر، وأكل، ولم يحمل منه شىء- لا قطع فيه، ولا تعزير. ومن احتمل شيئا غير ما أكل فعليه ضعف ثمنه، ويضرب نكالا له، وزجرا لغيره.
(4) السرقة فى أوقات المجاعات ليس فيها قطع.
(5) هناك ظروف وأحوال يراها ولىّ الأمر، ويقدّرها، فى حال السارق، وظروفه، فيعزّره ولا يقطع يده، حيث تلوح له أية شبهة يدفع بها الحدّ، فقد روى عن أميّة المخزومي رضى الله عنه، قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلصّ قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(3/1095)
«ما إخالك سرقت؟» قال «بلى» (أي سرقت) فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع، وجىء به، فقال له النبي الكريم: «استغفر الله وتب إليه» فقال: أستغفر الله وأتوب إلى الله.. فقال نبىّ الرحمة: «اللهم تب عليه» ثلاثا.. أي قال النبىّ ذلك الدعاء ثلاث مرات.
(5) يجوز لصاحب المال المسروق إذا ضبط السارق أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، فقد روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال لصفوان ابن أميّة وقد جاء ليشفع فيمن سرق رداءه- أي رداء صفوان-: «هلّا كان ذلك قبل أن تأتينى به؟» .
وقوله تعالى: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» هو عزاء لهؤلاء الذين اقترفوا جريمة السّرقة، سواء أقيم عليهم الحدّ فيها، أو أفلتوا من إقامة الحدّ..
وليس عزاء كهذا العزاء الذي يقدمه الله إليهم، وقد أفسدوا إنسانيتهم بهذا الجرم الذي ارتكبوه، فجاءهم هذا العزاء فى صورة دعوة كريمة من رب كريم، يدعوهم فيها إلى جناب رحمته ومغفرته، إذا هم أرادوا أن يلوذوا بهذا الجناب الكريم، وأن يستظلوا به، وذلك بأن يستشعروا الندم عن جرمهم، وأن يبرءوا إلى الله منه بالتوبة والإنابة والاستغفار، فإنهم إن فعلوا قبل الله توبتهم وغفر لهم ذنبهم: «ومن يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» .
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هو إلفات للطائعين والعاصين جميعا، وأنهم كلهم فى قبضة الله، يعذب من يشاء منهم جزاء ما ارتكب من إثم، وقارف من ذنب، ويغفر لمن يشاء، فضلا منه وكرما.. فهو القادر على كل شىء، والمالك لكل شىء!(3/1096)
وفى تقديم العذاب هنا على المغفرة- نظر.. إذ كانت رحمة الله تسبق غضبه وعذابه أبدا: ولكن إذ كان الموقف هنا موقف محاسبة للمذنبين، ثم مغفرة ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله منهم- كان ذكر العذاب مقدّما على ذكر المغفرة بالنسبة لهم، ولو تقدمت المغفرة على العذاب هنا لما كان لعقاب المذنبين- مع سبق الرحمة- مكان، ولشملتهم الرحمة قبل أن يؤخذوا بجرمهم، ويقام الحدّ عليهم، وإلا لسقطت الحدود، واضطرب نظام المجتمع! فكان تقديم العقاب أخذا لحق الله وحق العباد أولا، ثم تجىء مغفرة الله ورحمته، فتمحو آثار هذا العقاب وتعفّى عليه، لمن وجّه وجهه إلى الله، وطلب الصفح والمغفرة.
وقدّم السارق على السارقة.. لأن الرّجل أجرأ من المرأة على السرقة، وأكثر تمرسا بها.. كما قدّمت المرأة على الرجل فى جريمة الزنا، فى قول الله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» - لأن هذه الجريمة لا تتم إلا بالرجل والمرأة معا، والمرأة هى صاحبة الموقف هنا، وبيدها الأمر فيه، لأن الرجل طالب وهى مطلوبة، فإذا لم تعطه نفسها، ولم تمكنه منها فاته مطلوبه ولم تقع الجريمة..(3/1097)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
الآية: (41) [سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
التفسير: هذا عزاء وتسرية للرّسول الكريم، عن هذا الحزن الذي كان يقع فى نفسه من أولئك الذين يتخذون دين الله لعبا ولهوا، يلبسه أحدهم كما يلبس الثوب، يستر به جسده من لفح الزمهرير، أو وهج الحرور، فإذا أمن الحرّ أو البرد، طرحه، وبدا للناس عاريا.
إن هؤلاء المتلاعبين بالدين لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولم يعتقدوه عقيدة، تستولى على قلوبهم، وتختلط بمشاعرهم.. ومن هنا كان استخفافهم به، وتحولهم عنه، إذا أوذوا فى أموالهم أو فى أنفسهم، أو إذا لاح لهم فى أفق آخر لمعة سراب لعرض زائل من عروض الدنيا.
ومثل هذا الإيمان لا وزن له، والمؤمنون إيمانا كهذا الإيمان لا حساب لهم فى المؤمنين.. إن ضررهم أكثر من نفعهم، وخروجهم من الإيمان خير من دخولهم فيه..
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» هو كما قلنا عزاء وتسريه للرسول، كما أنه تهوين لشأن هؤلاء الذين دخلوا فى الإسلام بكلمة ألقوها على أفواههم، ثم خرجوا منه بكلمة قذفوا بها من أفواههم.. فخسارة الإسلام فيهم- إن بدت فى ظاهر الأمر خسارة- ليست فى حقيقتها إلا كسبا للإسلام وللمسلمين، إذ قطعت هذه الأعضاء الفاسدة من جسد المجتمع الإسلامى، وعزلت عنه هذا(3/1098)
الداء الخبيث الذي يندسّ فى كيانه، ويعمل على إضعافه وإفساده.
وفى قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» هو عطف على قوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» .. فالذين يسارعون فى الكفر فريقان:
فريق من غير اليهود.. من جفاة الأعراب، الذين وصفهم الله بقوله سبحانه:
«وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ... » (101: التوبة» واليهود، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى هنا بقوله: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» ومسارعة الذين هادوا إلى الكفر، إما أن تكون بعد دخول بعضهم فى الإسلام ثم نفاقهم فيه، أو أن تكون مسارعتهم بالكفر بما فى أيديهم من الكتاب، إذ أنكروا ما فيه من آيات تحدّث عن الرسول الكريم، وتبشر به، وتدعو إلى مؤازرته والإيمان به.. فقد حملهم العناد على أن يكفروا بهذا الذي يحدثهم به كتابهم عن؟؟؟
وعن الأمارات التي يجدونها دالة عليه فى كتابهم.. وكان ذلك إسراعا منهم فى الكفر، وخروجا من الدين جملة.
وقوله تعالى: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ» هو صفة لهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر من الفريقين.. والأعراب، وأشباههم من ضعاف الإيمان من غير اليهود، يلقون أسماعهم إلى الأكاذيب التي يذيعها المنافقون عن الإسلام والمسلمين، وعامّة اليهود يعطون زمامهم لأهل العلم فيهم، ويتحدثون إلى النبي وإلى المؤمنين بما يلقيه علماؤهم فى آذانهم، دون أن يجرؤ هؤلاء العلماء على لقاء النبي ومواجهته بهذه الأكاذيب وتلك الأباطيل، لأنهم يعلمون كذبها، وأنهم مفضوحون إن واجهوا النبىّ بها.
وقوله سبحانه «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» هؤلاء هم العلماء من أحبار اليهود، يحرّفون كلمات التوراة من بعد أن استقرت فى أماكنها، ولم يكن ثمة(3/1099)
سبيل إلى تبديلها. والتحريف هنا هو فى فساد التأويل والتخريج، وكتمان بعض، وعرض بعض.
وقوله تعالى: «يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا» هو بيان لضرب من ضروب التحريف، والفساد فى التأويل. إذ يقيم علماء اليهود عامتهم على رأى خاص محرّف، ويقولون لهم إن قبله محمد منكم فاقبلوه منه، ووافقوه عليه، وإن لم يقبله فاحذروا أن تأخذوا بما يدعوكم إليه، مخالفا لهذا الرأى الذي أنتم عليه.
وقوله سبحانه: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» هو تعقب فاضح لهذا الموقف اللئيم الذي يقفه علماء اليهود من دينهم الذي يدينون به، فقد فتنوا هم فيه وأفسدوا على أتباعهم دينهم، بهذه التأويلات الفاسدة المنكرة..
وإن هؤلاء الفاتنين والمفتونين معا صائرون إلى هذا المصير المشئوم، إذ كان موافقا لطبيعتهم، مستجيبا لأهوائهم.. فأخلى الله بينهم وبين أهوائهم، فلم يمد إليهم يد الهداية والتوفيق.. «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (8- 9- 10: الليل) .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: فى خاتمة هذه الآية: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» .
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ» عرض كاشف لهم فى هذا الوضع السيّء، مطرودين من رحمة الله، واقعين تحت نقمته، «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» ، حيث يشهد الناس كذبهم، ونفاقهم، «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. فإن كان فى وجوههم صفافة تحتمل هذا الخزي، ولا تبتلّ بقطرة من عرق الخجل والحياء، فى الدنيا، فإن جلودهم- ولو كانت فى بلادة الحجر،(3/1100)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
أو صلابة الحديد، فلن تدفع عنهم حريق جهنم أن ينفذ إلى ما وراءها من لحم وعظم، وأن يجعلهم كتلا من جمر، وحمم.
الآية: (42- 43) [سورة المائدة (5) : الآيات 42 الى 43]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
التفسير: هاتان الآيتان تستكملان الصفات الذميمة التي دمغ الله بها اليهود، وجعلها طبيعة قائمة فيهم، ولم يذكرهم القرآن هنا، بل جاء بالوصف الدال عليهم، هكذا: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» فما أحد أكثر من اليهود كذبا، ولا أجرأ منهم عليه.. وحسبهم أن يكذبوا على الله، وأن يحرفوا كلماته، وأن يقولوا على الله ما لم يقله الله.. وما أحد آكل من اليهود للسّحت، وهو الحرام الذي يلبسونه وجه الحلال كذبا وافتراء وبغيا وعدوانا.
وقوله تعالى: «فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» .
قيل فى سبب نزول هذه الآية إنه وقعت فى اليهود جريمة زنا بين كبيرين من كبرائهم، وكان حد الزنا فى الإسلام يومئذ هو ما جاء فى قوله تعالى:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» ولم يكن جاء بعد ما جاء(3/1101)
فى عمل الرسول من رجم المحصنة والمحصن.. فأراد اليهود أن يفيدوا من هذا الحكم الذي جاء فى الإسلام، وأن يأخذوا صاحبيهما- الزانية والزاني- بالحدّ الذي شرعه الإسلام، وهو الجلد، وأن يحموا الزانية والزاني من الرجم، لما لهما من منزلة عندهم.
ولا شك أن هذا تلفيق فى الدين، فإما أن يكونوا يهودا على شريعة اليهود، فيقيموا حكم التوراة- وهو الرجم هنا- على صاحبيهما، مهما كانت منزلتهما، وإما أن يكونوا مسلمين فيقام عليهما حكم الإسلام وهو الجلد.
ولكن هكذا اليهود.. يأخذون من الأحكام الشرعية ما يرضى هواءهم، فإن لم يكن بالتحريف والتبديل، كان بالتحول من شريعة إلى شريعة، ومن دين إلى دين، حسب الحال الداعية إليه.
وقد جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألونه الحكم فى هذين الزانيين، فسألهم الرسول: ما حكم التوراة فيهما؟ فقالوا: الجلد بحبل مطلىّ بالقار، وعرض الزانيين على الناس، يطاف بهما وهما على حمار بن، فى وضع مقلوب.
فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «كذبتم، الحكم فى التوراة هو الرجم» فأنكروا.. ثم فضحهم الله، فشهد شاهد من علمائهم: أنه الرجم.. فأمر الرسول بإمضاء حكم التوراة فيهما، ورجمهما.
وقوله تعالى: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» استنكار لموقف اليهود، وتحكيمهم النبي صلى الله عليه وسلم فى أمر هو من شئون دينهم الذين هم عليه- وحكم التوراة واضح فى هذا الأمر..
ثم كيف يحكمون النبىّ وهم لا يؤمنون به، ولا يعترفون برسالته، ولا بالكتاب الذي فى يده؟ إن ذلك لم يكن لطلب حق، ولا ابتغاء هدى، وإنما كان إشباعا لأهواء، وإرضاء لشهوات، وتحللا من حكم شرعى قائم(3/1102)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
بهذا التأويل الفاسد الذي ذهبوا إليه، بالانتقال- فى هذه الحالة- من دين إلى دين..
وقوله تعالى: «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» هو فضح لما عليه اليهود من ضلال ورياء فى الدين- إنهم لا يقبلون من النبىّ إلا ما وافق أهواءهم، وهم ليسوا بالمؤمنين، بما يأخذون أو يدعون من شريعة النبي،..
ثم إنهم ليسوا بالمؤمنين إطلاقا، لا بدين محمد، ولا بالشريعة التي هم عليها..
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» تشنيع عليهم، واستدعاء لكل ذى نظر أن يمسك بهم، وهم على هذا الكفر الذي يعيش معهم.
الآية: (44) [سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
التفسير: فى هذه الآية تعريض بأحبار اليهود وعلمائهم، الذين عاصروا النبوة، وكتموا ما معهم من التوراة وأحكامها..
وقوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» هكذا أنزلنا التوراة، تحمل شريعة الله، وضيئة مشرقة بالهدى والحق.. وهكذا حكم بها النبيون الذين جاءوا بعد موسى، يأخذون بها، ويبينون لليهود أحكام الشريعة فيها.
ووصف النبيين بالذين أسلموا إشارة إلى أنهم على دين الله، الذي ارتضاه الله لعباده، وهو الإسلام، الذي كانت خاتمة دعوته، وتمام رسالته، الدعوة(3/1103)
الإسلامية، ورسالة رسولها محمد بن عبد الله.. وفى هذا دعوة لليهود أن يلتقوا مع رسالة الإسلام، وأن يؤمنوا كما آمن الناس، وإلا فهم على غير دين الله، إذا كان ما معهم من شرع لا يلتقى من شريعة الإسلام، فى الإيمان بالله، وما شرع الله.
وقوله تعالى: «وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» هو عطف على قوله سبحانه «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ» أي ويحكم بها- أي بالتوراة- الربانيون والأحبار، مشهدين بما تلقوا على يد الرسل والأنبياء من شريعة التوراة، وكانوا هم أنفسهم شهودا على ما تلقوا.. وفى هذا تحريض لأحبار اليهود وعلمائهم الذين عاصروا النبوة والذين جاءوا بعدهم أن يكونوا على ما كان عليه أنبياؤهم، وحواريّو هؤلاء الأنبياء، من الحكم بما أنزل الله، دون تحريف، أو تبديل.. وإلا فهم ليسوا ربانيين ولا أحبارا.
وقوله سبحانه: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» توكيد للدعوة التي دعى إليها هؤلاء الربانيون والأحبار، وهو أن يرقبوا الله ويتقوه فيما فى أيديهم من كتاب الله، وألا تغلبهم شهوة المال على الوفاء بعهد الله، وأداء الأمانة التي اؤتمنوا عليها.. والميثاق هو الذي واثقهم الله عليه فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» (187: آل عمران) .
وقوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الرّبّانيين والأحبار، وحكم عليهم بالكفر الصريح، إذا هم لم يحكموا بما أنزل الله، ولم يلقوا الناس بما فى أيديهم من كتاب الله.(3/1104)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
والربيون: جمع ربّىّ، وهو العالم الزاهد، المنقطع للعلم والعبادة.
والأحبار: جمع حبر، وهو العالم الفقيه، المتمكن من تعاليم الشريعة.
الآية: (45) [سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
التفسير: قوله تعالى: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها» أي فرضنا عليهم فى التوراة أحكام القصاص، على هذا الوجه الذي بيّنه الله فى قوله تعالى:
«أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ» .
فكل عدوان على الإنسان، فى أية جارحة من جوارحه، أو عضو من أعضائه، جزاؤه عدوان مثله على المعتدى.. إن قتل قتل، وإن فقأ عينا فقئت عينه، وإن جدع أنفا جدع أنفه، وإن صلم أذنا صلمت أذنه، وإن كسر سنّا كسرت سنّه! وقوله تعالى: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» هو عطف على قوله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» والجروح هى ما دون تلف هذه الأعضاء التي بينتها الآية الكريمة، مثل قطع إصبع، أو كفّ، أو قدم، ونحو هذا.
وقوله تعالى: «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» هو خطاب للمعتدى عليه،(3/1105)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
أو وليّه فى القصاص، وهو أن يتصدق بالعفو على من اعتدى عليه، فهذا التصدق كفارة له، وحطّ من سيئاته بقدر ما تصدق به، والضمير فى «به» يعود إلى القصاص.. أي: ومن تصدق بالقصاص فلم يقتص من خصمه فهو كفارة له.
وقوله تعالى «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» هو تحذير ووعيد لمن غيّر أو بدّل فى أحكام الله، فإن هذا عدوان على الله، وظلم للنفس، إذا أوقعها تحت غضب الله ونقمته، بالعدوان على ما شرع من أحكام.
وقد وصف الذين يحكمون بما أنزل بوصفين، وصفوا أولا بأنهم «هم الكافرون» ، ووصفوا ثانيا بأنهم «هم الظالمون» .. فهم كافرون ظالمون.. قد جاوز كفرهم كل حدود الكفر، فكان كفرا وظلما معا.
الآيتان: (46- 47) [سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
التفسير: التقفيه: المجيء من الخلف، أو القفا، ومعناه هنا: مجىء عيسى، بعد هؤلاء الأنبياء الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا» .
فقوله تعالى: «وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي بعثنا بعد هؤلاء(3/1106)
الأنبياء عيسى بن مريم، فجاء على آثارهم، متبعا خطوهم فى طريقهم الذي سلكوه، من دعوة الناس إلى الحق والهدى..
وقوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» أي مؤيّدا لها، بإيمانه بها، وأخذه بشريعتها.
وقوله سبحانه: «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» هو عطف على قوله تعالى «وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» وقوله تعالى «فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» هو حال من الإنجيل، تكشف عن مضمون هذا الكتاب الكريم، وهو أنه يحمل الهدى والنور فى آياته وكلماته..
وقوله تعالى: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» هو حال أيضا من الإنجيل، يبين أن الإنجيل مصدّق لما فى التوراة، لأنه حقّ مثلها، منّزل من عند الله، كما أنها منزلة من عند الله، فالمسيح عليه السلام، مصدق للتوراة بإيمانه بها قبل أن يكون معه كتاب من عند الله، ثم لما تلقى كتابه من الله سبحانه وتعالى، جاء هذا الكتاب وهو «الإنجيل» مصدقا للتوراة، مؤيدا لما جاء فيها.
قوله تعالى: «وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» بيان لهذا الهدى والنور الذي يحمله الإنجيل، وأنه لا يفيد منه، ولا يهتدى به، إلا المتقون الذين تلقّوه بقلوب مطمئنة، ونفوس سليمة، لا تحرّف كلماته، ولا تبدّل آياته.. إنه أشبه بالدواء المرصود لداء ما.. إذا تغيرت معالمه بعناصر غريبة دخلت عليه، فسدت طبيعته، ولم يفد منه صاحب الداء، بل ربما أصابه منه ضرر، فكان داء إلى الداء! وقوله تعالى: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» هو دعوة إلى أتباع الإنجيل أن يأخذوا أنفسهم(3/1107)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
بأحكامه وآدابه كما جاء بها، ثم هو وعيد لهم إذا هم انحرفوا عن الأخذ بما أنزل الله فيه، فتأوّلوه على غير وجهه، أو حرّفوا الكلم عن مواضعه.. إنهم حينئذ يحكمون بغير ما أنزل الله.. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أي الخارجون على دين الله، وما تلقى المسيح من ربه.. فلينظروا أي دين هم عليه بعد هذا الدين؟ .. وقد وصف الذين يحكمون بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف.. الظالمون.. الكافرون.. الفاسقون.. فجمعوا الشر من جميع أطرافه.
الآية: (48) [سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
التفسير: بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى، التوراة وما أنزل فيها من شريعة، والإنجيل وما حمل من آيات الله، وبعد أن دعا أصحاب التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيهما، وأن يقيموهما على ما نزلا به من الحق والهدى- بعد ذلك ذكر الله- سبحانه- القرآن الكريم، والنبىّ الذي تلقاه من ربه.
فقال تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» .. وفى هذا أمور:
1- توجيه الخطاب للنبىّ من الله سبحانه وتعالى، وفى هذا تكريم للنبى الكريم، وتشريف لمقامه العظيم، وقربه من ربه جلّ وعلا..(3/1108)
2- العدول عن ذكر القرآن وتسميته بالكتاب، إشارة إلى أنه الأصل الذي ترجع إليه الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء من قبل، والتي هى جميعها كتاب واحد.
3- فى وصف الكتاب بالحق- مع أن نزوله من عند الله، يخلع عليه هذه الصفة من غير وصف- هو توكيد لما يحمل من الحق، وصيانة لهذا الحق من أن يقع تحت تحريف أو تبديل، إذ كان منزلا بيد الله.. «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» .. إنه غرس من غرس الله، ولن يتعرض هذا الغرس الإلهى لأية آفة من الآفات التي تعرّض لها غيره.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .
وفى قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» أمور أيضا:
1- أن هذا الكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب.. والكتاب الأول هو القرآن، والكتاب الثاني هو جميع الكتب السابقة، أي هو مستول عليها، ومشتمل على أصولها، التي تنضبط عليه، وترجع عند تأويلها إليه..
وقوله تعالى: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» هو خطاب للنبى أن يحكم بين المحتكمين إليه من اليهود والنصارى، بما أنزل الله، وأن يكون القرآن الذي بين يديه هو عمدة الأحكام، يرجع إليه، وتضبط أحكام الكتب السابقة على أحكامه، فما وافقه منها أخذ به، وما خالفه اعتبر محرفا ومبدلا، ليس من كتاب الله، ولا من شريعة الله.
وقوله سبحانه: «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» هو تنبيه للنبىّ ألّا يمدّ بصره إلى تحريفات أهل الكتاب، وإلى الشرائع التي أحدثوها..
وحسبه ما بين يديه من الحق الذي يجده فى القرآن الكريم.(3/1109)
وقوله سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» هو بيان للحكمة فى تعدد الشرائع السماوية، وتعدد الكتب التي جاءت بها، والرسل الذين حملوها.. إذ كان لكل أمة زمانها ومكانها، وللزمان والمكان، أثره فى الأمم، وفى اختلاف مناهجها فى الحياة، وأساليبها فى العمل.. فكان أن حمل رسل الله إلى كل أمة قبسا من شريعة الله، مقدورا بقدرها، محسوبا بحسابها، وما يلائم طبيعتها، وظروف زمانها ومكانها.. وهى جميعها (أي الشرائع) تستقى من شريعة واحدة، وتورد أتباعها على مورد من مواردها..
وفى قوله تعالى: «شِرْعَةً» ما يشير إلى أنها مقطع من مقاطع الشريعة العامة، التي جاء بها القرآن الكريم، وأن تلك الشرعة ما هى إلا مورد ترده الأمة على نهر الشريعة العامة، فتستقى منه، وتحمل بقدر ما تحتمل..
وفى قوله تعالى: «وَمِنْهاجاً» إشارة أخرى إلى اختلاف الأمم والشعوب، وأنها لا يمكن أن ترد موردا واحدا، على الشريعة العامة، وأن تحشر حشرا على مورد واحد منها.. لاختلاف الطبيعة، واللغة، وغيرها مما يجعل لكل أمة وجهها الذي تظهر به فى. الحياة، فاقتضت حكمة الحكيم العليم أن يقيم كل أمة على مورد من شريعته.
وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» أي لو أراد الله سبحانه أن يجعل الناس أمة واحدة، تلتقى على مشاعر واحدة، ولغة واحدة، لفعل، فما لمشيئته من معقّب، أو معترض، ولكنه سبحانه حكيم عليم، اقتضت حكمته، وشاءت إرادته أن يجعل الناس أمما وشعوبا، كما جعلهم أفرادا، وكما جعلهم ذكرا وأنثى..
وقوله سبحانه: «وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» أي ولكنه سبحانه وتعالى لم يجعلكم أمة واحدة، كما لم يجعلكم كائنا واحدا، ليكون لكل أمة حسابها،(3/1110)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
كما يكون لكل فرد حسابه، وفى مجال العمل والخير والحق تتسابق الأمم، كما يتسابق الأفراد.
وقوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» والاستباق: هو السبق والإدراك..
أي أدركوا الخيرات التي دعيتم إليها فى كتب الله التي بين أيديكم وبادروا إلى تحصيلها، قبل أن تفلت منكم، فلا يبقى فى أيديكم إلا الحسرة، وإلا الندم، وسوء العاقبة.
وقوله سبحانه: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» تحذير لهؤلاء المختلفين فى كتب الله، المحرفين لها، وأنهم سيرجعون إلى الله يوما، وسيحاسبون على ما كان منهم من عبث بالشرائع التي فى أيديهم، وحملها على ما تشتهى أنفسهم.. فما جرى منها مع أهوائهم قبلوه، وما لم يجر منها على ما يشتهون حرفوه وبدّلوه.. ولهذه الأفعال المنكرة، جزاؤها المرصود لأصحابها.
الآية: (49) [سورة المائدة (5) : آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
التفسير: قوله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» دعوة أخرى للنبى الكريم أن يلتزم فى حكمه بين أهل الكتاب ما أنزل الله إليه، وألا يلتفت إلى ما تمليه أهواؤهم، وما يسوقون إلى النبي من كيد ومكر، ليفتنوه، ويفتنوا(3/1111)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
المؤمنين معه.. «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» وذلك بالأخذ ببعض الأحكام التي يقولون- كذبا- أن شريعة التوراة جاءت بها، وهى جلد المحصن الزاني، وليس الرجم كما جاءت به التوراة.
وقوله سبحانه: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ» أي فإن حكمت بين هؤلاء اليهود بما أنزل الله إليك، وأبوا أن ينزلوا على هذا الحكم وأن يأخذوا به، فإن عقاب الله راصد لهم، يأخذهم ببعض ما اكتسبوا.. ولو أخذهم بكل ما اكتسبوا لخسف بهم الأرض، أو لأطبق عليهم السماء، ولكنه سبحانه رحيم إذ يؤدّبهم بهذا العقاب، الذي هو قليل من كثير، مما كانوا أهلا لأن ينزل بهم.
وقوله سبحانه: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» .. الناس هنا هم اليهود، وعدم ذكرهم هو إبعاد لهم من هذا الشرف بأن يكونوا محمل كلمة من كلمات الله، حتى فى مقام الهوان والعذاب، فما أشقى هؤلاء الأشقياء، وما أبخس صفقتهم بين عباد الله، وما أرذل منزلتهم بين الناس.
الآية: (50) [سورة المائدة (5) : آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
التفسير: فى هذا الاستفهام إنكار على أهل الكتاب هذا الموقف الذي يقفونه من شرع الله، وأنهم لا يأخذون منه إلا ما يستجيب لأهوائهم، فهم- والحال كذلك- يريدون أن يتحللوا من كل شرع، ويفلتوا من كل قانون، شأن الحياة الجاهلية التي تحكمها الأهواء، وتسيّرها النزعات الذاتية السائدة فيها، حيث لا مرجع إلى شرع أو قانون.(3/1112)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
وقوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» هو تسفيه لأهل الكتاب، وفضح لجهلهم وضلالهم، إذ يعدلون عن شرع الله، ويخرجون عن حكمه، إلى شريعة الجاهلية، وأحكام السفاهة والضلال.. وذلك من حماقة عقولهم، وسفه أحلامهم، إذ أنه لا يعرف فرق ما بين أحكام الله، وأحكام غير الله، إلا من أخلى قلبه من نزعات الهوى، وصفّى مشاعره من وساوس النفاق، ونظر إلى الله بقلب سليم، فعرفه حق معرفته، وقدره حقّ قدره، ورأى أن هدى الله هو الهدى، وأن من اتبع غير سبيله ضل وهلك، ومن سلك سبيله رشد وسعد.
الآيتان: (51- 53) [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
التفسير: الأولياء: جمع ولىّ، والولي هو النصير، والظهير، والمعين..
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» هو للنهى عن موالاة اليهود والنصارى، وليس دعوة إلى عداوة أو قطيعة،(3/1113)
وإنما هو نهى عن مناصرتهم ومعاضدتهم، والوقوف إلى جانبهم، وهم على موقفهم من الإسلام ومحاربتهم له، فذلك خيانة للمسلمين، وعدوان على الإسلام.. إذ كيف يكونون هم حربا على الإسلام، ثم يكون فى المسلمين من هو على ولاء لهم، ومودة معهم؟
وقوله تعالى: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» أي أن اليهود أولياء لليهود، والنصارى أولياء للنصارى.. وهذا أوّل ما فيه أن يجعل المسلمين أولياء للمسلمين، فلا يكون ولاء المسلم، ومناصرته ومناصحته، لغير المسلمين، فإذا لم يكن هذا الولاء، وتلك المناصحة من المسلم للمسلمين فلا أقّلّ من أن يقف عند هذا الحدّ السلبي- وهو موقف آثم- فلا يتحول إلى جبهة معادية للإسلام وأهله، فيكون لها مساندا مناصحا.. إن ذلك- كما قلنا- نفاق ظاهر، وكفر خفى! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو بيان للوصف الذي يكون عليه من يجعل ولاءه لغير المسلمين من أهل الكتاب المحادّين لله ورسوله، المحاربين للإسلام والمسلمين، وهو أنه من هؤلاء الظالمين، المعتدين على حق دينه، وحق أتباع دينه، بخذلانهما، ومناصرة أعدائهما..
والظلم هنا شبيه بالظلم فى قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. لأن المسلم الذي يوالى أهل الكتاب، ويترك موالاة المؤمنين قد حكم بغير ما أنزل الله واتبع ما يرضى هواه، ويحقق نفعا ذاتيا له، على حساب دينه.
قوله سبحانه: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ» ..
«الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» هم المنافقون، الذين ستروا نفاقهم بالدخول فى الإسلام، والانضواء تحت لواء المسلمين، ليتخذوا من الإسلام تجارة يتجرون بها فى سوق السحت والاختلاس.. وهذا لا يكون إلا من قلب مريض، يستقبل كل ضلال، دون أن يغصّ به، أو يزورّ عنه..(3/1114)
والمسارعة فيهم أي فى أهل الكتاب: الانغماس فيهم، ولهذا جاء اللفظ القرآنى بتعدية الفعل سارع بحرف الجرّ «فى» ، بدلا من تعديته بحرف الجر «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل غالبا.. كقوله تعالى: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» (133) آل عمران.
وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» ما يكشف عن أن هؤلاء المنافقين ينغمسون فى أهل الكتاب، ويدخلون فيهم دخولا كاملا، حيث يحتويهم ظرف واحد، إذ هم كيان واحد يألف بعضه بعضا.
وفى قوله تعالى: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ» تشهير بهؤلاء المنافقين، وفضح لهم، وأنهم وإن لبسوا كل أثواب التخفّى، لا يلبث أمرهم أن ينفضح وينكشف، وأنهم بمرأى من النبي والمؤمنين، ولهذا جاء الفعل «ترى» وكأنه يشير إليهم، ويحدّد موقفهم الذي هم فيه فى الجبهة الأخرى، جبهة أهل الكتاب.. وهكذا المنافق دائما، إن لم يلتفت إليه أحد، دلّ هو الناس عليه، بكثرة التفاته إليهم وحذره منهم، وصدق المثل الذي يقول:
«يكاد المريب يقول خذونى!» وقوله تعالى: «يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» هو ترجمة لهذه التصوّرات المريضة، التي يعيش فيها المنافقون.. فهم أبدا على خوف وقلق، لا يسكنون إلى أمر، ولا يقيمون على رأى، بل تراهم وأعينهم تدور هنا وهناك، يريدون أن يجمعوا بين الشيء ونقيضه، حتى إذا فاتهم هذا لم يفتهم ذاك.. فهم مع المؤمنين، يخشون أن تكون الكرّة لأهل الكتاب.. وهم مع أهل الكتاب يخشون أن تكون الدولة للمؤمنين.. ولهذا فهم يلبسون الإيمان ظاهرا، ثم يوادّون أهل الكتاب باطنا.. وبهذا- كما تصور لهم نفوسهم المريضة- يحمون أنفسهم من أىّ أذى يصيبهم من أية جبهة غلبت، إذ سرعان ما يتحولون إلى الجبهة الأخرى التي كانوا قد احتفظوا بمكان لهم فيها..(3/1115)
فهؤلاء الذين يوادّون غير المؤمنين، ويلقون بأنفسهم فى أهل الكتاب، ويوثقّون صلاتهم بهم، إنما يفعلون هذا ليكون لهم منه شفيع عند أهل الكتاب، إذا كان لهم الغلب يوما على المؤمنين، فلا يصيبهم من الدائرة- وهى الهزيمة وما يلحق أصحابها من أذى- ما يصيب المؤمنين، إذا هم أصابتهم الدائرة التي يتوقعها المنافقون لهم.
وقوله تعالى: «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» هو وعيد للمنافقين بما يملأ قلوبهم حسرة وندما، إذ جاء تدبيرهم وبالا عليهم وخسرانا لهم، حين قدّروا أن الدائرة ستدور على المؤمنين، فأخلوا مكانهم من بينهم، واتخذوا أهل الكتاب أولياءهم- ثم هو وعد كريم من الله، يجىء بتلك البشريات المسعدة للمؤمنين، وبأنهم هم المنتصرون، وأن الخزي والخذلان لأعدائهم، ولمن انضوى إليهم من منافقين.. «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» الذي يمكّن للمؤمنين من أعدائهم، وقد جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا فدالت دولة الشرك، وذهبت ريح النفاق والمنافقين.
وقوله تعالى: «أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» أي تدبير من عند الله، يجىء على غير انتظار، وعلى غير عمل من المؤمنين، كأن يوقع الشقاق والخلاف بين أحلاف السوء ومجتمع الضلال، فيفضح بعضهم بعضا، ويخذل بعضهم بعضا، فإذا أولياء الأمس أعداء اليوم، يبرأ بعضهم من بعض.
وحمل هذا الوعد الكريم من الله للمؤمنين على يدى فعل الرجاء «عسى» إنما ليقيم المسلمين على رجاء وأمل فى رحمة الله بهم، وفضله عليهم، فتظل قلوبهم شاخصة إلى الله، ذاكرة له، ترقب غيوث رحمته، وفواضل نعمه..
ولو جاء هذا الوعد الكريم قاطعا منجزا لما بعث فى القلوب المؤمنة تلك(3/1116)
المشاعر المتجددة، ولما أمسك بها هذا الزمن الطويل، متشوّفة بأبصارها وقلوبها إلى غيوث رحمة الله، ومواطر أفضاله ونعمه.
وقوله تعالى: «فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» هو عرض لتلك النهاية التي ينتهى إليها أمر هؤلاء المنافقين، وما يؤول إليه عاقبة مكرهم وتدبيرهم.. إنه الندم والحسرة والخسران.
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» .. هو عرض لهؤلاء المنافقين فى معرض آخر من معارض الخزي والفضيحة، فبعد أن دعا الله سبحانه وتعالى كل ذى نظر أن ينظر إلى هؤلاء المنافقين، ويشهد كيف يتهالكون على أهل الكتاب، ويرتمون فى أحضانهم، خوفا من أوهام متسلطة عليهم- بعد أن عرضهم الله سبحانه فى هذا المعرض الفاضح، وتوعدهم بالخزي والخسران، بنصر الله المؤمنين، وبخذلان الكافرين والمنافقين- جاءت هذه الآية الكريمة، تدعو المؤمنين إلى أن يديروا النظر مرة أخرى إلى هؤلاء المنافقين، وأن يقلّبوا صفحات تاريخهم فى الإسلام، ويتتبعوا مسيرتهم معه.. ثم ليصدروا حكمهم عليهم.. وهنا يكثر حديث المؤمنين عن هؤلاء المنافقين، ويلقى بعضهم بعضا بما اطلعوا عليه من نفاقهم، فتكثر فيهم القالة، ويكثر العجب والدهش من أمرهم، وإذا الفضيحة تجلجل بصوتها فى كل أفق، وتتحرك بأشباحها فى كل مكان.
وليس ما حكاه القرآن من مقولة المسلمين فيهم: «أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» ليس هذا هو كل ما قيل فيهم.. وإنما هو مضمون ما قيل، وصميم ما ينبغى أن يقال فى هؤلاء المنافقين.. إذ أنهم كانوا يحلفون بالله للمؤمنين جهد أيمانهم- أي بأغلظ أيمانهم وآكدها- إنهم لمع المؤمنين، ولن يتخلّوا عنهم فى حرب أو سلم..(3/1117)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
وهذا الحلف نفسه، والمبالغة فيه هو الذي يكشف المستور من أمرهم، ويعطى الدليل على أنّهم على غير الإسلام.. إذ أنهم لو كانوا مسلمين حقّا لما حلفوا وأكّدوا الحلف أنهم مؤمنون، ومع المؤمنين.. فما دعاهم أحد أن يحلفوا، ولكنّ كائن النفاق الذي يعيش فى كيانهم هو الذي حملهم على أن يستروا كذبهم ونفاقهم بهذه الأيمان المؤكدة، حتى لا يفتضح ما فى قلوبهم..
وهكذا المجرم، يحوم حول جريمته، يريد أن يخفى معالمها حتى ولو لم تكن هناك معالم لها.. لأنه لخوفه يتصور أن كل ما كان فى مكان الجريمة من كائنات، شاهد عليه، ينادى فى الناس بالإمساك به قبل أن يفلت.
وقوله تعالى: «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» أي فسد تدبيرهم، وخاب ظنّهم، وبطل سعيهم، فكان ذلك خسران لهم أي خسران.. خسروا المؤمنين الذين أصبحوا فيهم وقد افتضح أمرهم لهم، وخسروا أولياءهم من أهل الكتاب بعد أن أصابتهم الهزيمة، وعلت راية الإسلام، وعزّت كلمته..
الآيات: (54- 56) [سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
التفسير: بعد هذه المراقبة التي اطلع منها المسلمون على هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم، وألقوا بأنفسهم فى مجتمع اليهود وغيرهم، ممن يكيدون(3/1118)
للإسلام، ويبيّتون الشرّ للمسلمين، وبعد أن عاين المسلمون ما وقع أو ما سيقع للمنافقين من سوء حال وشر منقلب، وخسران للدنيا والآخرة- بعد هذا كان على المسلمين أن يراقبوا أنفسهم، وأن يأخذوا حذرهم من أن يردوا هذا المورد الآسن الآثم.. فجاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» منبها لهم ومحذّرا، أن من يرتدّ منهم عن دينه كما ارتدّ هؤلاء المنافقون الذين عرفوا أمرهم ومصيرهم، فستكون عاقبة المرتد منهم هى نفس عاقبة أولئك المنافقين: النّدم والحسرة والخزي والخسران المبين..
والارتداد، معناه الرجوع إلى وراء، والعودة من المكان الذي كان قد تحرك منه المرتدّ إلى الأمام.. وهذا يعنى أنه يهدم ما بنى، وينقض ما غزل ولا يفعل ذلك إلا سفيه أحمق! وفى إضافة الدّين إلى المؤمن، وبلفظ المفرد. هكذا: «عَنْ دِينِهِ» ما يلفت المؤمن إلى هذا الدين الذي دخل فيه، وأصبح من أهله، وأنه دينه هو، وثمرته عائدة عليه وحده، وأنه الدّين الذي ينبغى أن يعيش فيه، ويشتدّ حرصه عليه.
إذ هو الدين الذي يدين به كل عاقل.. إنه دينه، إن كان من أهل العقل والرشاد.
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» هو معطوف على جواب الشرط، وليس جوابا للشرط، وإن كانت الفاء الواقعة فى جواب الشرط تشير إلى هذا الجواب..
ويكون معنى الآية هكذا: يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسيلقى مالقى هؤلاء المنافقون الذين ارتدوا، من نكال وبلاء وسوء مصير، ثم إنّه لن يضرّ الله شيئا، ولن يضير المسلمين فى شىء، لأنه سيخلى مكانه، الذي كان له(3/1119)
فى الإسلام، ليأخذه من هو أولى به منه، وأكرم عند الله، وأكثر نفعا للمسلمين، وأعظم غناء فى الإسلام.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... » الآية.
وهؤلاء القوم الذين سيأتى الله بهم، ويدخلهم فى دينه، قد وصفوا بأوصاف أربعة:
أولا: يحبهم الله ويحبونه..
وحبّ الله لهم: دعوتهم إلى الإسلام، وشرح صدورهم له، وثثبيت أقدامهم فيه.. لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أحبّهم، وهو الذي اختارهم ودعاهم.. وهذا فضل عظيم، ودرجة من الرضا، لا ينالها إلا من أكرمه الله، واستضافه، وخلع عليه حلل السعادة والرضوان.. جعلنا الله من أهل محبته، وضيافته.
أما حبّهم هم لله، فهو فى استجابة دعوته، وامتثال أمره، والولاء له، ولرسوله وللمؤمنين..
ثانيا: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» .
إجماع المفسّرين على أن هذا الوصف، هو وصف لهؤلاء القوم بعد أن دخلوا فى الإسلام، فكانت تلك صفتهم، وهذا سلوكهم فيه.. «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» أي متخاضعين للمؤمنين، لا يلقونهم إلا باللّين والتواضع.. «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» أي أشدّاء وأقوياء، لا يلقى منهم أهل الكفر إلا بلاء فى القتال، واستبسالا فى الحرب.. أما فى السّلم فهم جبال راسخة فى الإيمان..
لا ينال أحد منهم نيلا فى دينه، ولا يطمع أحد من أعداء الإسلام فى موالاتهم أو فى تعاطفهم معه.(3/1120)
هذا هو إجماع المفسّرين فى فهم هذا المقطع من الآية، ويشهدون لذلك بقوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» (29: الفتح) ومع هذا، فإنى أستريح لفهم آخر، غير هذا الفهم.. أرى أنه يفتح لهذا المقطع آفاقا أرحب من هذا الأفق الذي حصره المفسرون فيه، وأطلعوه منه.
فأقول- والله أعلم- إن هذا الوصف هو وصف لهؤلاء القوم الذين سوف يدعوهم الله سبحانه وتعالى إليه، وييسّر لهم الطريق إلى دينه.
وفى قوله تعالى «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» - نرى:
1- أن هؤلاء القوم المدعوّين إلى ضيافة الله هم من الذين كانوا يستخفّ بهم مؤمنون، ويحقرونهم، لأنهم كانوا على عداوة ظاهرة للإسلام، وعلى كيد عظيم للمسلمين.. فهم- والحال كذلك- ميئوس من دخولهم فى الإسلام، لا يطمع المسلمون فى أن يكونوا معهم فى يوم ما، وعلى هذا، فهم لا حساب لهم فى الإسلام عند المسلمين، ثم هم فى الوقت نفسه «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» إذ كانوا سندا قويا لهم فى مواجهة الإسلام والمسلمين.
وحسبنا أن نذكر هنا خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبى سفيان، وقد كانا هما للّذين كسبا معركة أحد لقريش، بعد أن كادت الدائرة تدور عليهم.
ثم دخلا بعد ذلك فى الإسلام فكانا درعين حصينين للإسلام، وقوة من القوى التي استند عليها فى هزيمة الكفر، وإعلاء كلمة الله.. كانا أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين.. هكذا كانا قبل أن يدخلا فى الإسلام.
2- أن فى هذا العرض لهؤلاء القوم الذين لم يكن أحد ينتظر منهم خيرا(3/1121)
للإسلام، ثم إذا هم خير كثير له بعد أن دخلوا فيه- فى هذا ما يغرى أولئك المسلمين الذين تتلجلج فى صدورهم دواعى النفاق، أن يستمسكوا بمكانهم فى الإسلام، وأن يرسّخوا أقدامهم فيه، حتى لا يأخذ مكانهم أولئك القوم، الذين ينظرون إليهم نظر اتهام وازدراء، إذا كانوا حربا على الإسلام والمسلمين..
3- حين ينظر المنافقون إلى هذا المقطع من الآية الكريمة- على هذا الفهم- ويرون أن رؤوس الكافرين، وأهل العزّة فيهم سيكونون يوما فى جانب المسلمين- حين يرون هذا يفكرون أكثر من مرة قبل أن يلوذوا بحمى هؤلاء الأعزة الأقوياء، ويرون أن من الخير لهم أن ينتظروهم على الطريق وهم متجهون إلى دين الله! 4- فى هذا الفهم تبدو هناك طريق مفتوحة دائما لمن يكيدون للإسلام- وهم غالبا أصحاب دولة وصولة فى مجتمع الكفر والضلال- ينفذون منها إلى الإسلام، ويعطون من قوتهم له، ما أعطوه من قبل فى حربه، وعداوته..
وفى عمر بن الخطاب شاهد مبين لهذا.
وهكذا، يصبح من كان عدوا لله ولرسوله وللمؤمنين، وليّا لله، متابعا لرسول الله، مجاهدا فى سبيل الله، على حين يتحول من كان- فى ظاهره- مواليا لله، ولرسوله، ولدينه، عدوا الله، ولرسوله، وحربا على دينه..
فهناك طريقان: طريق.. يستقبل منه الإسلام، أقواما كانوا أعداء له وحربا عليه.. وطريق.. يتسلل منه جماعات من المسلمين، إلى حيث الكفر والضلال..
ثالثا: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
هذه صفة ثالثة من صفات أولئك الداخلين فى الإسلام، المدعوين إلى(3/1122)
ضيافة الله فيه، بعد أن طرد من ضيافته أولئك المنافقين ومن فى قلوبهم مرض.
فهؤلاء المسلمون الجدد: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ويدفعون عن الإسلام والمسلمين يد البغي والعدوان، ويعطون ولاءهم كله لدينهم الذي دعاهم الله إليه، وارتضاهم له.. لا يضنّون عليه بأموالهم ولا بأرواحهم.
رابعا: «لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» .
ومن صفاتهم أنهم فى إيمانهم، وفى جهادهم فى سبيل الله، لا ينظرون إلى غير الله، ولا يلتفتون إلّا إلى نصرة دين الله، لا يثنيهم عن ذلك لوم لائم، من قريب أو صديق، ممن بقي على الكفر من أقاربهم وأصدقائهم.. إنهم باعوا كل شىء، وتخلّو عن كل شىء، إلا إيمانهم بالله، ونصرتهم لدين الله.
وفى قوله تعالى: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن هذا الذي يجرى فى حياة الناس، من تحول وتبدل، فيتحول أهل الكفر والضلال إلى الهدى والإيمان، هو من فضل الله، الذي استنقذ به أولئك الضالين الذين كانوا على شفا حفرة من النار.. وهذا الفضل هو بيد الله، لا يملك أحد منه شيئا «يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» ويصرفه عمن يشاء.. «وَاللَّهُ واسِعٌ» لا يضيق فضله بأحد، ولا تنفذ خزائنه بالإنفاق.. «عليم» بمن هم أهل لهذا الفضل، فخصّهم به، واجتباهم له.. «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» .. هو دعوة للمؤمنين جميعا، من دخل فى الإسلام، ومن لم يدخل بعد، أن تكون ولايتهم ونصحهم لله ولرسوله وللمؤمنين..(3/1123)
وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» هو صفة للمؤمنين الذين يطمئن إليهم المؤمن، ويعطيهم ولاءه ونصحه، ومحبته.
وفى هذا تحذير للمؤمنين أن ينخدعوا لمن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه..
ومن آثار الإيمان بالقلب أن يقيم المؤمن الصلاة، وأن يؤتى الزكاة..
يقيم الصلاة خاشعا، ويؤدى الزكاة راضيا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَهُمْ راكِعُونَ» أي خاشعون، فى غير رياء، أو استعلاء.. لأنهم فى صلاتهم وزكاتهم على عبادة لله، وفى حضور بين يديه، فينبغى أن يعطوا هذا المقام حقّه من الخشوع لله، والخضوع بين يديه، حتى يكونوا فى معرض القبول من الله، لصلاتهم وزكاتهم.
قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» بيان لما تثمره الموالاة لله ورسوله والمؤمنين، فإن من يوالى الله يكون من حزب الله، ومن كان فى حزب الله فهو من الفائزين، لأنه فى ضمان الله، وفى جنده الذين لا يغلب أبدا.. «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) .
هذا، وقد ذهب كثير من المفسّرين إلى أن قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» مراد به «علىّ بن أبى طالب» كرّم الله وجهه.. ويروون لهذا أحاديث، تفيد أن هذه الآية نزلت فى «علىّ» رضى الله عنه، وأنّه تصدق على فقير سأله وهو راكع فى الصلاة، فنزع خاتما كان فى يده، وألقاه إليه، وهو فى صلاته..!
وفى هذا الخبر أمور.. منها:
أولا: أن الخطاب عام، بلفظ الجمع: «الَّذِينَ آمَنُوا..» والوقوف(3/1124)
بالآية عند صريح لفظها خير من التأويل والتخريج، إذ لا يعدل عن صريح اللفظ، إلا إذا كان ما يخفيه وراءه أولى مما يبديه ظاهره.
والعكس هنا صحيح، إذ ظاهر الآية وصريح لفظها أولى من حمله على غير هذا المحمل، كما سترى.
وثانيا: هذا السائل الذي يسأل مؤمنا قائما بين يدى الله يؤدى الصلاة..
ألا ينتظر حتى يفرغ المصلّى من صلاته؟ أهو غريق مشرف على الهلاك، حتى يستنجد بمن هو قائم بين يدى الله، عابدا خاشعا؟
ثالثا: الإمام «على» كرم الله وجهه، وهو فى استغراقه فى صلاته بين يدى ربه.. أيقطع هذا الموقف، وجلاله، وروعته، ليتصدق على فقير؟
وماذا لو انتظر حتى يفرغ من الصلاة؟ أيموت هذا الفقير جوعا؟ إن ذلك كان يمكن أن يقع لو أن نارا علقت بهذا الإنسان الفقير، وكادت تلتهمه، ولا منقذ له إلا على بن أبى طالب! وعلى هذا فالآية الكريمة خطاب عام للمؤمنين جميعا.. وإنما صرفها إلى هذا الوجه من التأويل، ما جاء فيها من «الولاية» التي يستخرج منها بعض الشيعة دليلا على أحقّية علىّ بالخلافة، وأن هذه الآية تؤيد حديثا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد علىّ كرم الله وجهه، ثم قال:
«من كنت مولاه فعلىّ مولاه.. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.» !
والموالاة هنا معناها الحبّ، والمودة، لا الخلافة، فمن أحبّ النبىّ صلى الله عليه وسلم وجب عليه- دينا- أن يحبّ آل بيته، ومنهم علىّ كرم الله وجهه، بل ووجب عليه دينا أن يحبّ كل مؤمن.. «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» .(3/1125)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
الآيتان: (57- 58) [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
التفسير: دعوة أخرى من الله- سبحانه- إلى المؤمنين أن يجتنبوا هؤلاء المنافقين والكافرين، الذين يهزءون بهم وبدينهم، ويتخذون من أحاديثهم فى المجالس معرضا للسخرية بالمسلمين والزراية بدينهم.. وهذا أقل ما فيه هو أن يغار المسلم على دينه، وأنه إن لم يستطع قطع هذه الألسنة التي تهزأ بدينه وتسخر منه، فإن أضعف الإيمان فى هذا الموقف هو أن يتجنب هؤلاء الساخرين المستهزئين، وأن ينظر إليهم نظرة العدوّ المتربص به، فلا يأمن له، ولا يركن إليه.
قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الغيرة على الدين، والانتصار له ممن ينتهك حرمته، هو من تقوى الله، وأن موالاة أعداء الإسلام، والكائدين له، والمستهزئين به، هو مما يبعد عن التقوى، ويحجز المؤمن عن أن يكون من المتقين.. فإذا كان المؤمن مؤمنا حقّا، فليتق الله.. وأول مداخل التقوى إلى الله، هو توقير الله، وتوقير دينه، والغيرة على حرماته، والدفاع عنها، واعتبار كل عدوان عليها منكرا، يدفعه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.. كما يقول ذلك النبىّ الكريم فى حديثه الشريف.(3/1126)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
وقوله تعالى: «وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً» هو استحضار لصورة من صور الهزء والسخرية التي يحارب بها الإسلام، فى محيط الكافرين، والمنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. وفى عرض هذه الصورة ما يثير مشاعر المسلمين، ويلفتهم إلى هذا العدوان الذي يرميهم به أعداؤهم، وهم فى هذا الموقف العظيم، بين يدى رب العالمين.. فإن كل مسلم ينتظم فى صفوف المسلمين للصلاة يصيبه رشاش من هذا الأذى الذي يرمى به أعداؤهم فى أعقاب المسلمين، وهم ركّع وسجود.. ولن يطهّر هذا الأذى، ويذهب بهذا الرجس، إلا بأن يأخذ المسلم بحقّه من هؤلاء الذين اعتدوا عليه، وآذوه فى دينه! وقوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» هو تسفيه لهؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله، ويهزءون ممن يولّى وجهه إلى الله، راكعا وساجدا..
ولو عقلوا لعلموا أنهم بعملهم هذا، يحاربون الله ويصدّون الناس عن أداء حقّه عليهم من الولاء لجلاله، والشكران لنعمه إنهم ظلموا أنفسهم ظلما فوق ظلم..
ظلموها (أولا) إذ لم يؤدّوا حق الله عليهم، وظلموها (ثانيا) إذ يصدّون الناس عن عبادة الله، بهذا الاستهزاء الذي يلقونه إليهم وهم بين يدى الله.
الآيتان: (59- 60) [سورة المائدة (5) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)(3/1127)
التفسير: قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ» هو نداء مطلق لأهل الكتاب، وخاصة اليهود، وليس المراد بهذا القول أن يلقاهم النبىّ به، وأن يبلغهم إيّاه، وإنما هو قول موجّه إلى النبىّ وإلى المؤمنين. تنكشف به حال أهل الكتاب، وموقفهم العنادىّ من المؤمنين.. وليس يمنع من هذا أن يستمع اليهود إلى هذا القول، وأن يعرفوا رأى القرآن فيهم، إذ كانوا دائما يتتبعون أخبار النبىّ وما ينزل عليه من كلمات ربّه، ليبحثوا فيها عن شبهة، يضلّون بها المؤمنين، ويفتنونهم فى دينهم..
وفى هذه الآية يرى المؤمنين أن هذا الموقف العنادىّ من أهل الكتاب الذي يقفونه منهم، لا سبب له، إلا إيمان المؤمنين بالله، وما أنزل عليهم من قرآن، وما أنزل على النبيين قبلهم من كتب الله.. ذلك فى حين أن أكثر أهل الكتاب «فاسقون» أي خارجون على دين الله، منكرين أو متنكرين لرسل الله وكتب الله..
تلك إذن هى أسباب هذه الحرب الخبيثة التي يعلنها اليهود على المؤمنين.. إنها عداوة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين من استجاب لله ورسله، ومن حادّ الله ورسله.
وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ» الإشارة هنا إلى موقف أهل الكتاب هؤلاء، ونقمتهم على المؤمنين، لا لشىء إلا لأنهم مؤمنون.. وهذا موقف يورد صاحبه موارد البوار والهلاك، وهذا هو المصير الذي سيصير إليه المعاندون من أهل الكتاب، الذين وقفوا من النبىّ ومن دعوته إلى الإيمان بالله، هذا الموقف.. ثم إذ يعرض القرآن اليهود المعاصرين للنبوة فى هذا المعرض، ينتقل بهم فى لمحة خاطفة تردّهم إلى الماضي البعيد، وتشرف بهم على آبائهم وأجدادهم، الذين كان لهم موقف من رسل الله كهذا(3/1128)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
الموقف الذي يقفونه هم من رسول الله، ومن المكر بآيات الله، فكان عقابهم أليما شديدا، إذ جعل الله منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، بهذه اللعنة التي رماهم الله بها، فمسخت آدميتهم، ونسخت طبيعتهم، فإذا هم قردة وخنازير فى صور آدمية، يعبدون الطاغوت، ويوالون الشيطان.. والأبناء يعرفون عن يقين خبر هذا البلاء الذي حلّ بآبائهم، فكانوا مثلة فى الناس. فإذا كان هؤلاء الأبناء لم يمسخوا بعد قردة وخنازير وعبدة للطاغوت، فإنهم على الطريق الذي يقودهم إلى هذا البلاء، إذا هم ظلّوا على هذا الموقف من النبىّ، ومن دعوته، ولم يفيئوا إلى السلامة والعافية، بموادعة النبىّ أو متابعته على دينه.
وفى التعبير عن العقاب الأليم هنا بلفظ المثوبة، التي يعبّر بها فى مقام الجزاء الحسن- فى هذا ما يشير إلى أن هذا العقاب هو الجزاء الحسن الذي يحلّ باليهود، إذا هو قيس بما وراءه من ألوان العقاب والنّكال، الراصد لهم!
الآيات: (61- 63) [سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 63]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
التفسير: النفاق هو الصفة الغالبة على اليهود، فهو توأم الحسد الذي يملأ قلوبهم ضغينة وحقدا على الناس..
فهم إذا التقوا بالمؤمنين لأمر ما بيّتوه فى صدورهم، أظهروا الإيمان،(3/1129)
حتى يطمئن إليهم المؤمنون، ويأمنوا جانبهم.. وهم على الحقيقة ليسوا من الإيمان فى شىء..
وفى قوله تعالى: «وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ» تغليظ لكفرهم، وتجسيم له، لكثافته، وإطباقه عليهم، حتى لكأنه يكاد يكون كائنا محسوسا، يعيش معهم كما يعيش بعضهم مع بعض.. «وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ» .. إنه أشبه بالوليد تحمله أمّه على صدرها، حتى لكأنه قطعة منها، تغدو به، وتروح به، لا تدعه بعيدا عنها لحظة واحدة.. وقد حسبوا أنهم أخفوا هذا الكفر الذي يحملونه فى صدورهم، ولكن الله أعلم بما يكتمون، لا تخفى على الله منهم خافية.
قوله تعالى: «وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» أي أن كثيرا من هؤلاء اليهود، يأتون المنكرات فى غير تحرّج أو تأثّم، بل يفعلونها وكأنها قربات يتقربون بها إلى الله.. فهم يلقون بالكلمات الكاذبة، الآثمة وكأنّهم يرتّلون مزمارا من مزامير داود، وهم يعتدون على حرمات الله، ويستبيحون محارمه، وكأنهم يتناولون طعاما شهيا، على جوع وحرمان، وهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وكأنها مائدة عيسى المنزلة عليهم من السماء! وهذا كله يكشف عن ضمائر ميتة، ومشاعر متبلّدة، لا تتأثّم من إثم، ولا تعفّ عن محرّم.
وفى قوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» حكم يدين أفعالهم تلك، ويدمغها بالسوء، الذي يردى أهله، ويهلك المتلبّسين به.
وقوله تعالى: «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» هو تشنيع على علماء اليهود، وأهل الرأى فيهم، وأنّهم لا ينكرون(3/1130)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
هذا المنكر الذي يعيش فيه أتباعهم، ويموج فيه عامتهم، وهم الأعين المبصرة فيهم، ولكنها أعين ترى الحق فتصدّ عنه، وترى النور فتعشى به.
وقوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» هو توبيخ لهؤلاء العلماء، ووعيد لهم، إذ عرفوا الحق وكتموه، ورأوا المنكر وسكتوا عنه أو أجازوه..
ولهذا وصف الله عملهم هذا بأنه ليس مجرد عمل، بل هو صنعة، أي عمل مع علم، على حين وصف عمل أتباعهم بأنه «عمل» لأنه عمل لا يستند إلى علم، وإنما مستنده أوهام وأباطيل.. «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»
الآية: (64) [سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
التفسير: لم تقف جرائم اليهود عند حدّ التطاول على الأنبياء، والاعتداء على أموال الناس وأكلها سحتا وعدوانا، بل لقد تطاولوا على الله سبحانه وتعالى، وتعاملوا معه كما يتعاملون مع النّاس، فقالوا فيه سبحانه تلك القولة المنكرة: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» أي ممسكة، بخيلة، حتى لكأن غلّا يمسكها، وقيدا يقيّدها عن البذل والعطاء!.
إنهم لا يرضون بما فى أيديهم من هذا المال الكثير الذي سلبوه من الناس، وجمعوه من كل وجه حرام.. بل هم يريدون أن تتحول الجبال ذهبا، يكون لهم وحدهم، لا ينال أحد غيرهم ذرة منه..(3/1131)
إنهم يريدون الله أن يكون مترضيّا لأهوائهم، مستجيبا لهذا الجشع الذي لا يشبع أبدا.. فإن لم يفعل ذلك كان عندهم إلها بخيلا ممسكا، لا يستحق أن يحمد أو يعبد!.
وقد أخذهم الله سبحانه بهذه القولة العظيمة، فجعل عقابهم من جنس عملهم: «غلّت أيديهم» .. فهذا هو حكم الله عليهم بما جدّفوا هم عليه به..
فجعل أيديهم شحيحة ممسكة، لا تنضح بخير أبدا، ولا تجود بمعروف أبدا..
يجمعون المال، ويشقون فى جمعه، ثم لا ينعمون بهذا المال، ولا ينالون منه ما ينال أصحاب المال من أموالهم من متع الحياة ونعيمها.. فهم هكذا أبدا..
كائنات مشتتة فى كل وجه من وجوه الأرض، تجمع المال، وترد موارد الهلاك فى سبيله، وأيد شحيحة لا تنفق من هذا المال، ولا تنتفع به..
«كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
وليس هذا وحده هو حكم الله فيهم، وعقابه لهم، على تلك الكلمة الفاجرة، بل لقد رماهم الله بعقوبة أخرى، هى آلم وأنكى.. إذ صبّ عليهم لعنته:
«وَلُعِنُوا بِما قالُوا» .. فهم لعنة تمشى على الأرض، لا يراهم النّاس إلا كانوا منهم فى وجه عداوة وبغضه، وإلّا موضع بلاء وانتقام.. «مَلْعُونِينَ.. أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» (61: الأحزاب) .
وقوله تعالى: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» .. تلك هى يد الله، عطاؤها جزل، ومواهبها تفيض على الأرض والسماء.. له ملك السموات والأرض.. ينفق كيف يشاء، حسب ما يقضى علمه، وكما تقدّر حكمته.
وفى قوله سبحانه: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً» إشارة إلى أن هذا الذي نزل على «محمد» من هدى ونور، هو مما بسطته يد الله لعباده من رزق، وإنه لرزق كريم، فيه الغنى كلّه، والسعادة كلها..(3/1132)
وهؤلاء القوم مدعوّون فيمن دعوا.. إلى هذا الرزق الكريم، وإلى هذا العطاء الجزل، ولكنّهم لم يستقبلوا هذا الخير استقبال النعم، بالحمد والشكر، بل زادهم ذلك طغيانا إلى طغيان وكفرا إلى كفر.. ولن يكون حالهم أحسن من هذا الحال، لو بسط الله لهم فى الرزق، من مال وغيره.. إنهم لن يزدادوا به إلا طغيانا وكفرا.. فهذا شأنهم مع كل نعمة من نعم الله.
قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» هو لعنة من لعنات الله على هؤلاء القوم، تقطع معهم مسيرتهم فى الحياة، متنقلة بهم من جيل إلى جيل، إلى أن تقوم الساعة.. فالعداوة قائمة بينهم، يطعمون منها طعاما خبيثا، يملأ كيانهم حقدا وبغضا، لا يطمئن لهم قلب، ولا يستريح لهم بال، فهم فى حرب مستعرة فيما بينهم، وهم فى حرب متصلة بينهم وبين الناس جميعا.. يبغضون الناس، ويبغضهم الناس، وتلك هى اللعنة التي تأخذ الملعونين بالبأساء والضرّاء، مع كل نفس يتنفسونه، من الميلاد إلى الممات..
وفى قوله تعالى: «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» تأبيد لهذه اللعنة التي لا ترفع عن الملعونين أبدا، حتى بعد موتهم.. فتصحبهم إلى قبورهم. وتبعث معهم يوم يبعثون.
قوم تعالى: «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» النار التي يوقدها اليهود هنا، هى كيدهم لدين الله، ولرسول الله.. كلّما نزلت آية من آيات القرآن.
الكريم، نظروا فيها، وتأوّلوها تأويلا فاسدا، وعرضوها على ما عندهم من مقولات باطلة مضللة، ليفسدوا بها على الناس دينهم.. وفى كل مرة يفعل اليهود هذا تفضحهم آيات الله على الملأ، فلا يرجعون إلا بالخزي وسوء المنقلب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَطْفَأَهَا اللَّهُ» أي أنه تعالى بما ينزل من آيات القرآن الكريم على النبي، يبطل ما دبّر اليهود، ويتبّر ما كانوا يعملون،(3/1133)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
فإذا نارهم التي أوقدوها قد أصبحت رمادا، لم يبق منها إلّا ما اصطبغت به وجوههم وجلودهم، من سواد دخانها، وذرور شررها.
قوله تعالى: «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» العطف هنا هو على قوله تعالى: «وَلُعِنُوا بِما قالُوا..» وعلى هذا يكون قوله تعالى «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» حكم من أحكام الله عليهم، وأنه بعض معطيات اللعنة التي صبّها الله عليهم.. فهم أبدا مأخوذون بهذا الحكم، لا يتحولون عنه أبدا.. أي أن سعيهم فى الأرض فسادا هو طبيعة فيهم، لا يتحولون عنها أبدا.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» هو حكم على اليهود، يتناولهم هم أولا، ثم يمتدّ إلى كل مفسد غيرهم ثانيا، فقد وصفهم الله سبحانه قبل ذلك بأنهم يسعون فى الأرض فسادا.. أي أنهم مفسدون، ثم حكم سبحانه بأنه لا يحبّ المفسدين.. أي لا يحبّ هؤلاء الذين وصفوا بالفساد، ولم يذكرهم الله تعالى بقوله والله «لا يحبهم» ليقيم الوصف الملازم لهم- وهو الفساد- مقامهم، فهم والفساد كائن واحد.
الآية: (65- 66) [سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
التفسير: العقوبات التي أخذ الله سبحانه وتعالى بها بنى إسرائيل لم تكن(3/1134)
إلا جزاء لما كسبت أيديهم من سوء، وما اكتسبت ألسنتهم من إثم.. وإلا فهم خلق من خلق الله، وعباد من عبيده، لم يخصّهم بهذه اللعنات التي مسخت وجودهم وغيّرت خلقهم، إلّا لما كان منهم من محادّة الله ورسله، ومكر بآياته وكتبه.
ولو أنهم آمنوا كما آمن المؤمنون، واتقوا الله كما اتقى المتقون، لكفّر الله عنهم سيئاتهم، ولمسّهم برحمته، وأفاض عليهم من رضوانه، ولسلك بهم مسالك الحق والهدى.. ثم كان جزاؤهم فى الآخرة أن ينعموا بجناته التي أعدّها للمؤمنين المتقين من عباده.
فهذا مشهد يراه «اليهود» وكان من حقهم- لو عملوا له- أن ينالوه ويسعدوا به.. ولكنهم- وقد نكصوا على أعقابهم- لن ينالوه أبدا، ولن يأخذوا نصيبهم منه أبدا.
وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» - هو إشارة إلى ما بين أيديهم من خير ضيّعوه، وما معهم من نور أطفئوه! فهذه التوراة.. يقول الله فيها.. «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (44: المائدة) وهذا الإنجيل.. يقول الله فيه.. «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» (46: المائدة) .
وهذا القرآن.. يقول الله فيه.. «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (2: البقرة) .
هذه الكتب المنزلة من عند الله، تحمل الهدى والنور.. هى بين يدى(3/1135)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
أهل الكتاب- وخاصة اليهود- فلو أنهم أقاموا هذه الكتب على وجهها وأخذوا عنها بعض ما فيها، واستقاموا على أمرها ونهيها، لا استقام طريقهم فى الحياة، ولملأ الله قلوبهم غنى ورضى، ولوجدوا فيما أنزل الله من رزق. هو خير كثير، يسع الناس جميعا، ويسعد به الناس جميعا.
ولكنّهم كفروا بآيات الله، واتبعوا أهواءهم، وجروا على ما تمليه عليهم أنفسهم من حقد وحسد، وشره، وتكالب على المال.. فكان الجري اللاهث فى الحياة نصيبهم، وكان الجوع النفسي، والجدب لوجدانى، خاتمة مطافهم وسعيهم.
إنهم لم يتوكلّوا على الله، ولم يعطوه أيديهم ليقودهم إلى الخير، ولو فعلوا لكفل لهم رزقا حسنا، وحياة طيبة، كما يقول الرسول الكريم: «لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خمصا (أي جياعا) وتروح بطانا (أي شبعى) » .
وقوله سبحانه: «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» .
الأمة: الجماعة، والاقتصاد: هو المتوسط فى الأمر، وعدم المبالغة فى مجاوزة حدوده..
والمعنى، أن من هؤلاء اليهود جماعة مقتصدة، أي معتدلة فى زيغها وانحرافها، لم تبالغ فى الزيغ والانحراف، ولم تبعد كثيرا عن طريق الحق..
أما كثرتهم ففى ضلال مبين، وكفر غليظ.
الآية: (67) [سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)(3/1136)
التفسير: بعد أن عرض الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب فى هذه المعارض المختلفة، فى زيفهم وطغيانهم، وفيما أخذوا به من نقمة وبلاء، وفى غفلتهم عما بين أيديهم من حق وخير، واتّباعهم لما فى نفوسهم من سراب الأهواء والأباطيل- بعد هذا كان من الله- سبحانه- هذا النداء الكريم، لنبيه الكريم: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» - فهو أمر ملزم للرسول أن يؤذّن فى الناس بما يتلقّى من آيات ربّه.. «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» .. فتلك هى مناط رسالة الرسول، وفحوى الحكمة من رسالته.. إنه وصلة بين الله والنّاس، وفى هذا يقول الله تعالى:
«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» (1: المدثر) ويقول سبحانه: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (94: الحجر) وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» هو تنبيه للرّسول، وإلفات له إلى الأمر الذي دعاه الله إليه، وأنه إن لم يفعل فقد حبس هذا الخير المرسل من الله إلى عباده دون أن يصل إليهم..
وانظر إلى قوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» وقف خاشعا بين يدى هذا الأدب السماوي، وأقصر الطرف عن النظر إلى جلال هذا الإنسان العظيم الذي يخلع الله عليه خلعا وضيئة من فيوض رحمته، وغيوث رضوانه، فلا يلقاه ربّه إلا بهذا اللطف العظيم، فى أمر لو وقع لكان داعية للّوم، أو الوعيد بالعقاب الشديد! ولكنه- سبحانه سبحانه- يرفع نبيّه الكريم، عن موطن العتاب، أو اللوم.. فيقول له- جل شأنه- «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» ! ولم يقل سبحانه: «وإن لم تفعل فأنت ملوم، أو مؤاخذ» ..(3/1137)
هكذا أدب السماء مع الأصفياء من عباد الله، وهكذا ألطاف الله مع رسول الله.
ورسول الله خير من يلقى هذا اللطف بما هو أهل له من حمد وشكر، وسيّد من يقوم لهذه الإشارة بما تقتضيه من جدّ وعزم..
فما وهن الرسول الكريم، وما ضعف عن حمل الرسالة، واحتمال ما تنوء به الجبال من أعبائها.. فلكم لقى من السفهاء، والحمقى، والطغاة، من بغى وعدوان؟ حتى لقد خرج مهاجرا من البلد الحرام، الذي عاش فيه شبابه، وقضى فيه أيام صباه، بين أهله وعشيرته، وألقى بنفسه فى أحضان الغربة، فرارا بالرسالة التي بين يديه أن يمسكها المشركون عن أن تبلغ غايتها، وتملأ أسماع العالمين بهديها، وتفتح مغالق القلوب بنورها.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» هو من تمام نعمة الله سبحانه وتعالى على نبيّه الكريم، فهو- سبحانه- قد اصطفاه ليكون رسولا للعالمين، حاملا مختتم رسالات السماء إلى الناس.. ثم لم يدعه سبحانه- يحمل أعباء الرسالة، ويلقى الضرّ والأذى فى سبيلها دون أن تكون أمداد سماوية تعينه، وتحمل عنه بعض ما يحمل من أعباء، وكلّا.. فقد أمده الله بأمداد من الصبر واليقين، والعزم، وإذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يواجه قريشا كلها بصلفها وكبرها، وبجبروتها وعتوّها، فلا يلين لها، ولا يحفل بتهديدها ووعيدها.. ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يخوض غمرات الحرب، ويتقدم صفوف الأبطال والفرسان، ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يلقى كيد اليهود ومكرهم، ملاطفا وموادعا، حتى إذا لجّوا فى الضلال، وتمادوا فى الكيد والبغي، صدمهم صدمة ألقت بهم خارج الجزيرة العربية كلها.(3/1138)
ومع هذا كله، مما فضل الله به على نبيّه الكريم، من قوة الاحتمال، وثبات الجنان، ووثاقة العزم- يجىء هذا المدد العظيم، من ربّ عظيم، إلى نبى كريم، تحمله كلمات الله إلى رسول الله: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. فأى نعمة مع هذه النعمة؟ وأي تكريم مع هذا التكريم؟
فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ إلى جنابه الكريم، عبده ورسوله محمدا، صلوات الله وسلامه عليه، وإذا هو فى حمى ربّ العالمين، لا يناله سوء من أحد، ولا يصيبه أذى من إنسان! ..
«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. وإنه لو اجتمع الناس جميعا لما نالوا من محمد نيلا.. هكذا كان وعد الله، وهكذا استيقن رسول الله من وعد ربّه..
ولا شك أن هذا من أنباء الغيب، ومن تحدّيات القرآن للكافرين والملحدين والمنافقين.. فلو أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- أصيب بأذى بعد هذه الآية الكريمة لكان ذلك دليلا- أي دليل- على أن ما يتقوله الكافرون والمنافقون على القرآن الكريم، وأنه قول بشر، وتلفيقات إنسان..
وإذا علمنا أن هذه الآية فى سورة المائدة، وأن هذه السورة كانت آخر سور القرآن نزولا، على أصح الأقوال، أو أنها من آخر سور القرآن نزولا، بلا خلاف- إذا علمنا هذا أدركنا السرّ فى تأخر هذا الوعد الكريم إلى أخريات أيام الرسول، وإلى مختتم رسالته، وذلك حتى لا ينكشف للرسول وهو قائم على طريق الدعوة، أنّه فى ضمان هذه الحراسة الربانية، وفى ظلّ تلك العصمة التي عصمه الله بها من الناس، وذلك ليكون له بلاؤه، وجهده، وعزمه، فى ملاقاة الشدائد، واحتمال المحن، مستقبلا كل ما يمكن أن تتمخض عنه الأحداث، ولو كان فى ذلك ذهاب نفسه..(3/1139)
أمّا لو كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد تلقّى هذا الوعد الكريم من ربّه من أول خطواته على طريق رسالته، لما كان له فضل فى مكابدة الأهوال، ومصادمة الشدائد، والتعرض للأخطار، ولا سوى فى هذا أوهى الناس عزما، وأقلّهم صبرا، وأجبنهم قلبا، مع أقواهم عزما، وأكثرهم صبرا، وأشجعهم قلبا.. إذ كان كلّ منهما يلقى الموت وهو فى أمان وثيق من أنه لن يموت بيد إنسان.
وقد يسأل سائل هنا: إذا كان ما تلقّاه الرسول من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية» - قد كان فى مختتم رسالة النبىّ، فما محصّل هذا الأمر بالتبليغ، وقد بلّغ الرسول فعلا ما أنزل إليه من ربّه؟ ثم ما محصّل هذه العصمة، وقد استقرّ أمر الإسلام، وانطفأت جذوة أصحاب الشوكة والبغي! والجواب على هذا:
أولا: أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إذ يتلقى هذا الخبر المسعد من الله، يراجع خط سيره على طريق دعوته، من أول يوم دعاه الله فيه بقوله:
«قُمْ فَأَنْذِرْ» إلى هذا اليوم الذي كادت الدعوة تنتهى فيه إلى غايتها- فيرى أنه كان فى ضمان هذه الرعاية الكريمة من رب كريم، وأن عناية الله لم تتخلّ عنه لحظة، وأنه كان فى عصمة من الله من أن تناله يد بسوء، يقطع عليه طريق دعوته، ويعجزه عن الوفاء بها.. فها هو ذا- صلوات الله وسلامه عليه- قد بلّغ رسالة ربّه، وجاهد فى سبيلها، حتى اجتمع الناس عليها، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وهذا كله من فضل الله عليه، ورعايته له.
ففى هذه المراجعة يرى الرسول مكانته عند ربّه، ومنزلته فى المصطفين(3/1140)
الأخيار من عباده.. فينشرح لذلك صدره، وتنتعش روحه، ويجد فى هذا جزاء طيبا يستقبله من عند الله، وهو يوشك أن يحطّ رحاله بعد هذه الرحلة الطويلة المضنية.
ثانيا: أن انكشاف عواقب الأمور قبل أن تقع، يقطع على الإنسان طريقه إلى العمل والكفاح، ويسلمه إلى استسلام أشبه باليأس، انتظارا للمقدور الذي يسعى إليه، كما ينتظر راكب القطار مجيئه فى موعده المحدد.
إن فى انتظار المجهول إيقاظا للمشاعر، وحفزا للهمم، وتشوّقا إلى ما تكشف عنه الأيام.. فمن يعمل لغاية لا يدرى ما عاقبة أمره فيها، باذلا جهده فى التمرس بالأسباب، هو ممسك بوجوده كله، ينتظر ثمرة عمله، وغاية سعيه الموصلة لها..
إنه إن بلغ الغاية حمد وسعد، وإن لم يبلغها فقد أعذر لنفسه، ورضى عن مسعاه، وإن لم يحصّل منه ما يريد..
فكيف بالرسول، وقد حمل الرسالة، وواجه بها النّاس جميعا، متحدّيا عقائد فاسدة، ومتصديا لقلوب مريضة، وعقول مظلمة، وطبائع صلدة متحجرة؟ كيف به وقد بلغ بصبره، وجهاده، وعزمه، ما أراد الله لدعوته أن تبلغ؟ إنها سعادة ورضى، وحمد وشكر.. كل أولئك لو قسم فى الناس جميعا لوسعهم واشتمل عليهم.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» إشارة إلى تلك العصمة التي عصم الله بها النبي من الناس، وأنه سبحانه لا يهدى الكافرين إلى طريق الحق، كما أنه سبحانه لا يهديهم إلى الطريق الذي يخلص منه إلى النبي أذى على أيديهم.. فقد سدّ الله عليهم المنافذ التي يبلغون بها ما يريدون به من أذى.. «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) .(3/1141)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
الآية: (68) [سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
التفسير: صلة هذه الآية بما قبلها، هى أن الرسول الكريم، وقد بلّغ رسالة ربّه، وأدّاها إلى عباد الله فاستجاب لها الناس، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وأن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- ما زاوا على موقفهم من تلك الدعوة، لم يستجيبوا لها- فى جملتهم- ولم ينتفعوا بما حملت إليهم من إلفاتهم إلى الكتب التي بين أيديهم، وتنبيههم إلى ما أدخلوه عليها من تحريف وتبديل، وما كتموه من حق فيها، وما تأوّلوه من أحكامها حسب أهوائهم- أما وذلك هو حال أهل الكتاب إلى هذا اليوم الأخير من أيام الدعوة الإسلامية، فقد جاء أمر الله سبحانه إلى النبي الكريم يدعوهم دعوة أخيرة، إلى أن يصححوا موقفهم من التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربّهم على يد أنبيائهم، من أسفار ضمّوها إلى التوراة، وجعلوها جميعا كتابهم المقدس..
ذلك أنهم إذا لم يستجيبوا للنبىّ، ولم ينتفعوا بما بين يديه من كتاب كريم، فلا أقلّ من أن يستجيبوا لما فى أيديهم هم، وأن يقيموه على وجهه الصحيح، من غير تحريف، أو تأويل هو أشد خطرا من التحريف- فإن لم يفعلوا فهم ليسوا على شىء من الدين.. إنهم- والحال كذلك- أسوأ حالا، وشرّ مكانا، من الكفار والمشركين، إذ كانوا أهل كتاب فضيعوه، وأصحاب(3/1142)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
دين فأفسدوه.. وعلى هذا فهم يحسبون أنهم أهل كتاب وأهل دين، وما هم- فى الواقع- بأهل كتاب، ولا بأصحاب دين.
وقوله تعالى: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً» هو حكم قاطع مؤكدّ، بأنهم لن يصلحوا ما أفسدوا، ولن يستقيموا على التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم، وإلّا لكانت لهم رجعة إلى الدعوة الإسلامية، والتصالح معها ومع النبىّ الذي حملها.. ولكن أمرهم على غير هذا.. إنهم لن يزدادوا بما يسمعون من آيات الله التي تنزل على «محمد» إلا كفرا، وإلا عنادا وطغيانا..
وقوله تعالى: «فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» هو استخفاف بأمر أهل الكتاب- وصرف النظر عنهم، وتركهم فى ضلالهم يعمهون، ليلقوا المصير السيّء الذي يلقّاه المحادّون لله، الكافرون به، غير مأسوف عليهم.. إذ كان ذلك من صنع أيديهم، وما جنته عليهم أنفسهم، وقد نصحوا فلم ينتصحوا، وأنذروا فلم تغنهم النّذر.. ومن كان هذا شأنه فلا يستحق أن يأسى (أي يحزن) عليه أحد.
الآية: (69) [سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
التفسير: الصابئون: هم الذين عبدوا غير الله.. يقال صبأ فلان أي مال.
فالصائبون، قد مالوا عن دعوة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، واتبعوا أهواءهم..(3/1143)
وفى قوله تعالى: «وَالصَّابِئُونَ» بالرفع. بعد قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا» ما يشعر باختلاف النسق فى النظم، إذ عطف المرفوع على المنصوب.. وكان نسق النظم يقضى بأن يجىء هكذا: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى» .. كما تقرر ذلك قواعد النحو، ومقولات النحاة.
وهذا أمر قد وقف عنده المفسّرون، وأكثروا وجوه القول فيه، والتخريج له، ليقيموا الآية الكريمة على أصول النحو وقواعده.
فقال قائل: إنه بعد أن طال الفصل بين إنّ وواو العطف فى «والصابئون» ضعف عمل إن فيما بعد الواو، وصارت الواو أشبه بواو استئناف..!!
وقال آخر: إن «الواو» واو استئناف فعلا، وذلك باعتبار أنها متأخرة على قوله تعالى: «وَالنَّصارى» .. أي أن المعنى هكذا: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم، والصابئون كذلك.!!
وهذه التخريجات، وإن أرضت النحاة، وسوّت حسابهم مع قواعد النحو، إلا أنها تذهب بكثير من روعة النظم القرآنى، وتخفت كثيرا من أضواء إعجازه.
والذي نراه فى الآية الكريمة، ونطمئن إليه، هو أن «والصابئون» معطوفة على الذين آمنوا، والذين هادوا، كما أن لفظ «النصارى» معطوف عليها، وأنها جميعا واقعة تحت حكم إنّ المؤكدة للخبر، الواقع على هؤلاء المذكورين جميعا! ولكن كيف هذا؟ وعلى أي وجه كان؟(3/1144)
نقرأ الآية الكريمة مرة أخرى، فنرى أربع طوائف من الناس، يقع عليها حكم واحد..
أولا: الذين آمنوا..
ثانيا: والذين هادوا..
ثالثا: والذين صبئوا..
رابعا: والذين تنصّروا ولا يظهر الإعراب فى أية لفظة من هذه الألفاظ الأربع إلا فى لفظة «الصابئون» ..
وقد ذكر القرآن الكريم الذين آمنوا والذين هادوا، فى صيغة الموصول وصلته، ولو ذكر «الذين صبئوا» بهذه الصيغة لوقع التكرار الذي يثير اضطرابا فى النظم، الأمر الذي يترفع عنه كلام الله..
ولهذا، عدل النظم القرآنى عن الذين «صبئوا» إلى قوله تعالى:
«وَالصَّابِئُونَ» .. و «ال» فى «وَالصَّابِئُونَ» يحتمل معنى الاسم الموصول، «الذين» وصابئون خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم، أي والذين هم «صابئون» ومثلها «والنصارى» أي وكذلك الذين هم نصارى..
وقد كثر استعمال «ال» بمعنى الاسم الموصول، إذا اتصلت باسم مشتق، وهذا الاستعمال عربى فصيح.. يقول ابن هشام صاحب «مغنى اللبيب» فى «ال» إنها تأتى على ثلاثة أوجه.. أحدها: أن تكون اسما موصولا، بمعنى الذي وفروعه، وهى الداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين» ومن هذا قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» فقد دخلت الفاء فى الخبر، على تقدير: الذي يزنى والتي تزنى، فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة.. فذلك الشأن فى خبر الاسم الموصول دائما، مثل(3/1145)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما» .
ومعنى الآية الكريمة: أن الذين آمنوا، والذين اختلط إيمانهم بضلال أو فسق وهم الذين هادوا، والذين هم شرك ظاهر وهم «الصابئون» و «النصارى» - هؤلاء جميعا هم عباد الله، وصنعة يده، وأنهم مدعوون إلى الإيمان به، والاستقامة على أوامره ونواهيه، فمن استجاب منهم لله، وآمن به وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون..
فالإيمان بالله والعمل الصالح هو الذي يقرب الإنسان من ربه، ويدنيه من رحمته، ويؤهله لجناته، وليس شىء غير ذلك يتوسل به إلى الله، وإلى مرضاته.. من جاه أو حسب أو سلطان.. «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» (13: الحجرات) .
الآيتان: (70- 71) [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
التفسير: ذكر الله سبحانه فى الآية السابقة أن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، مدعوون إلى الإيمان بالله، والعمل الصالح الذي يرضى الله، ويستقيم مع ما أمر به ونهى، وأن من قبل ذلك فقد فاز برضوان الله.
ثم جاءت هذه الآية: «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ(3/1146)
رُسُلًا»
- جاءت لتسجل على اليهود، أنهم غير معذورين، بخروجهم عن طاعة الله، وبإفسادهم لدينه الذي فى أيديهم.. إذ أخذ الله عليهم ميثاقا بعد خروجهم من مصر، وأنقذهم من العذاب المهين الذي كانوا فيه، وأراهم آياته عيانا، ففرق بهم البحر، وأغرق آل فرعون.. وأنزل عليهم المنّ والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظلل عليهم الغمام، وأجرى لهم من صميم الحجر عيونا- بين يدى هذه الآيات الناطقة أخذ الله العهد عليهم أن يؤمنوا به، وأن يعملوا بأحكام التوراة، بقلوب سليمة، وعزائم وثيقة، فإن القلوب لتخشع، ولو كانت أقسى من الحجارة، وهى فى مواجهة هذه الآيات البينات، فتتقبل الخير وتستجب له، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (50- 57: البقرة) ثم يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ(3/1147)
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ»
(64- 65: البقرة) .
لقد نقض بنو إسرائيل ميثاقهم مع الله، الذي أخذه عليهم وهم على بساط هذه النعم الغامرة، فكفروا وعبدوا العجل، فعفا الله عنهم، وأرسل إليهم رسله، يجمعونهم من أشتات الطرق التي شردوا فيها.. فما تبدلت حالهم، ولا تغير ما بنفوسهم، فمكروا يرسل الله، وأخذوهم بالعنت والعذاب.. كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كفروا به، وبسطوا فيه ألسنتهم بقالة السوء ومدوا إليه أيديهم بالأذى.. فريقا كذبوا وفريقا يقتلون.
وقوله تعالى: «وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» إشارة إلى أنهم- وقد رأوا نعم الله تتظاهر عليهم- أنهم بمأمن من الفتن، وأن لهم أن يفعلوا ما تشتهى أنفسهم، وترتضى أهواؤهم، ولم يعلموا أن هذه النعم هى إبتلاء من الله لهم، وأنها ستكون نقمة عليهم إن لم يشكروا الله ويحمدوا له، شأن من يتلقى نعم الله من عباده المتقين، كما فعل سليمان مثلا، والذي يقول الله سبحانه على لسانه:
«فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي- أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (40: النمل) .
ولكنهم عموا وصموا عن نعم الله، فجعلوها أسلحة يحاربون الله ورسله بها، ويسعون فى الأرض فسادا..
ومع هذا فقد تاب الله عليهم، وبسط لهم يد المغفرة، فلم يزدهم ذلك إلا ضلالا وكفرا ثم عموا وصموا كثير «منهم» أي أن كثرتهم الغالبة لم ترجع إلى الله، بل ظلت شاردة فى طرق الضلالة والغواية، وقليل منهم هم الذين كانت لهم من إلى رجعة.. وهذه القلة منهم هم شهود عليهم بالضلال والعصيان..(3/1148)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
الآيات: (72- 77) [سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 77]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
التفسير: وهؤلاء هم النصارى- بعد اليهود- قد كفروا بالله، إذ تصوروه فى هذه الصورة المجسدة، التي رأوا فيها عيسى عليه السلام، فجعلوه الله رب العالمين.. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..»
وهى قولة منكرة، أملتها أهواء مضللة، وتأويلات نضحت بها مشاعر فاسدة.
أما المسيح عليه السلام فإنه لم يقل إلا ما قاله القرآن عنه: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» فما جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه، إلا ليصحح معتقدات اليهود الفاسدة، وإلّا ليقيمهم على شريعة التوراة التي أفسدوها، وبعدوا عنها..(3/1149)
ومن عجب أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون، ليست فيها لفظة واحدة يؤخذ منها أن المسيح إله أو ابن إله!. وما عرف المسيح بألوهية فى حياته، ولا عرف أن أحدا من أتباعه ادّعى له هذه الدعوة، ولا عبده كما يعبد الإله.
ومن طوائف المسيحيين من جعل الإله ثلاثة آلهة: الأب والابن وروح القدس، وهى فى مجموعها إله واحد، ولكن لكل من هؤلاء الثلاثة عمل واختصاص فى داخل الإله الواحد.. وهذا كفر بالله.. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ» .. «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» ..
وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو وعيد للقائلين بهذه القولة، المعتقدين بها، العابدين الله عليها، وليس المراد بقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» مجرد الانتهاء عن القول والكفّ عنه، وإنما لأن هذا القول هو ترجمان العقيدة، وعنوانها.. فإذا أمسكوا عن هذا القول، تحوّلوا عن المعتقد القائم عليه، وكان لهم قول غيره، ومعتقد غير معتقدهم..
وقوله تعالى: «أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو نداء كريم، من ربّ رحيم، يدعو به هؤلاء الضالين عنه، ليتوبوا إليه، وليستغفروا لذنبهم العظيم، بتصورهم الإله هذا التصوّر الخاطئ.. فإذا عادوا إلى الله، وعرفوه حقّ معرفته، واستغفروا لذنبهم وجدوا ربّا رحيما غفورا، يقبل التائبين، ويتجاوز عن سيئات المسيئين..
قوله تعالى: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» .. هو عرض للمسيح، يكشف عن حقيقته، وأنه رسول من رسل الله، وأمّه خلق مما خلق الله، وناس من الناس، وأنهما يجوعان(3/1150)
كما يجوع الناس، ويأكلان مما يأكل النّاس، ويخضعان للضرورات التي يخضع لها الناس.. ومن كان هذا شأنه، فكيف يكون إلها مع الله؟. كيف ومن خلق الله من يستعلى على تلك الضرورات المتحكمة على المسيح وأمّه، كالملائكة مثلا؟ فإنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يمرضون! وقوله سبحانه: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» تعجّب من موقف هؤلاء الذين يرون المسيح إلها أو ابن إله، وأنهم مع هذه الآيات البينات، التي تكشف لهم عن المسيح، وتريهم مكانه عيانا بين الناس- إنهم مع هذا لا يزالون على ما هم عليه من إفك وافتراء على الله، إذ يقولون فيه هذا القول الشنيع الآثم.
وقوله سبحانه: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» هو تسفيه لعقول أولئك الذين يعبدون من دون الله أربابا من حيوان أو جماد، ثم يرجون عندها النفع والضرّ، وهى فى قيد العجز، لا تملك من أمر وجودها شيئا، فكيف يكون لها فى هذا الوجود سلطان على العباد؟ ذلك هو الضلال البعيد، والبلاء المبين..
وقد اتخذ المسيحيون المسيح إلها، وأضافوا إليه أنفسهم، بل أضافوا إليه الوجود كلّه.. وما فكّروا أن «المسيح» عيسى بن مريم مخلوق عاجز ضعيف أمام قدرة الله وسلطان الله..
لقد كان المسيح جنينا فى أحشاء أمّه تسعة أشهر، ثم ولد طفلا، ترضعه أمه وتغذوه، وتحمله قبل أن تحمله رجلاه.
أفهذا يكون إلها يملك الضرّ والنفع، ويدبرّ أمر السموات والأرض؟
ذلك مالا يقبله عقل، ولو كان به مسّ أو خبل! .. إذ أن مسافة الخلف بين الإله والإنسان أوسع من أن يملأها تصوّر، أو يصل بين طرفيها خيال.(3/1151)
وفى تقديم الضرّ على النفع، هو مما يجرى مع طبيعة الإنسان، ويلتقى مع مطالبه- فدفع الضرّ مقدّم عند الكائن الحىّ على جلب النفع.. إذ أن الكائن الحىّ يطلب السلام لنفسه أولا، كى يضمن وجوده وبقاءه، ولا بقاء لحىّ مع وجود الخطر الذي يتهدّد حياته.. فإذا تمكن الكائن الحىّ من استخلاص نفسه من بين الأخطار التي تترصده، وتريد القضاء عليه، كان له بعد ذلك أن يطلب ما ينفع فى إمساك حياته، واستمرار وجوده، مما يتصل بمعاشه، من طعام، ولباس، وسكن، وغير هذا..
وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو إلفات إلى ذات الله سبحانه وتعالى، وإلى جلال الذات وعظمتها، التي يختفى أمام بهائها وسلطانها كل ذى جاه وسلطان.. وأنه هو وحده- سبحانه- السميع العليم، لا سمع لأحد مع سمعه، ولا علم لعالم مع علمه.. سبحانه وتعالى عما يشركون.
وقوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ» المراد بأهل الكتاب هنا- هم النصارى، والدعوة إليهم هى ألا يغلو فى دينهم، أي يبالغوا فى الصورة التي ارتسمت لهم من المسيح، فى ميلاده وفى المعجزات التي جاءت على يديه.. وأن هذه المبالغة قد أرتهم فى المسيح ما ليس له، فما هو إلا إنسان، ولد كما يولد الناس، من رحم امرأة، ربّى فى حجرها، ورضع من ثديها.
وقوله تعالى: «غَيْرَ الْحَقِّ» هو قيد للنّهى عن المغالاة، إذ هى مبالغة فى طريق الضلال، وغلوّ فى متابعة الهوى..
ويجوز أن يكون «غير الحق» مفعول به لقوله تعالى: «لا تَغْلُوا» بمعنى لا تتجاوزوا بدينكم حدود الحق، بل التزموا هذه الحدود، وقفوا(3/1152)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
عندها، فإن ما بعدها هو الضلال والكفر.. «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» . (32: يونس)
الآيات: (78- 81) [سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
التفسير: الذين كفروا من بنى إسرائيل هم عامّة بنى إسرائيل ومعظمهم، ولم يجىء النصّ القرآنى عامّا شاملا بلعن بنى إسرائيل جميعا حتى لا يدخل الذين سلم لهم دينهم منهم، تحت هذا الحكم، فيكون ذلك مدعاة إلى سوء ظنّهم بأنفسهم.. أولا، وبالله.. ثانيا.
ومن جهة أخرى فإن النصّ القرآنى قد حمل- معه إلى جانب اللعنة التي رمى الله بها هؤلاء القوم- حمل وصفا كاشفا لهم، وهو أنهم كفروا، ولو جاء النظم القرآنى هكذا: «لعن بنوا إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم» لدخل معهم فى هذه اللعنة الذين آمنوا منهم، ثم لم يكن هذا الوصف بالكفر مصاحبا لتلك اللعنة صبّت عليهم.
وقوله تعالى: «عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي أن الله وجّه حكمه باللعنة على الذين كفروا من بنى إسرائيل، محمولا على لسان داود وعيسى(3/1153)
ابن مريم.. فقد لعنهم الله سبحانه مرتين.. مرة على لسان «داود» ، ومرة على لسان «عيسى» عليهما السلام.
ولا نسأل ماذا كانت لعنة داود لهم، ولا عن أي شىء كانت تلك اللعنة التي رماهم الله بها على لسان داود، وكذلك الشأن فى اللعنة التي جاءتهم على لسان المسيح.. فقد غيّر القوم وبدّلوا فى زبور داود، وفى إنجيل عيسى.
والذي علينا أن نؤمن به، هو أن الله لعن اليهود هذه اللعنات على لسان هذين النبيين الكريمين.
قوله تعالى: «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» هو بيان لسبب آخر من أسباب اللعنة التي لعن الله بها بنى إسرائيل، وهى أنهم مع عدوانهم على حرمات الله، وتطاولهم على أنبيائه بالتكذيب وبالقتل، فإنه لم يكن فيهم من رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، ويردّهم عن هذا الضلال.. «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» أي لا ينهى محسنهم مسيئهم، ولا يأخذ عالمهم بيد جاهلهم، فلا تناصح بينهم على معروف، ولا تناهى عن منكر.. وليس هذا شأن الجماعة السليمة، المتنبهة لكل آفة تعرض لأى عضو من أعضائها.
فجماعة اليهود جماعة يعيش كل فرد فيها فى ذات نفسه، لا يعنيه إلا ما يتصل به اتصالا مباشرا، ولا عليه أن يهلك الناس جميعا.. وليس هذا شأن عامتهم وحسب، بل هو شأن رؤسائهم وأصحاب السلطة الروحية فيهم، وقد نصّ الله عليهم ذلك بقوله: «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (63: المائدة) .
وقوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» هو تجريم لأفعال اليهود جميعا، عامتهم وخاصتهم، علماؤهم وجهلاؤهم.. أفعالهم كلها منكرة، لا تتحرّى الحق، ولا تستقيم عليه.(3/1154)
وقوله تعالى: «تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» الضمير فى «منهم» يعود إلى علماء اليهود، وخاصتهم، وأنّهم يعطون ولاءهم ومودتهم للذين كفروا من مشركى العرب، ومن كافرى اليهود أنفسهم، ليظاهروهم على الدعوة الإسلامية، وليقودوا جبهة الكفر المتصدّية لها.. وهذا منهم هو كفر فوق كفر، وضلال فوق ضلال.. إذ لم يكفهم أنهم عرفوا الحق وكتموه، بل أجلبوا عليه الأعداء، وكانوا لهم فى حربه سندا وظهيرا..
فاستحقوا لهذا سخط الله عليهم، وأن يصلوا النار التي أعدّها للعصاة المحادّين لله ورسوله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» .. وقوله تعالى: «أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» هو مصدر مؤول، وهو المخصوص بالذم أي بئس شيئا قدمته لهم أنفسهم، وأعدته ليوم الجزاء، سخط الله ولعنته لهم فى الدنيا، والعذاب الشديد يوم القيامة فى جهنم خالدين فيها أبدا.
قوله تعالى: «وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ» هو بيان لهذا المرض الخبيث المستكنّ فى قلوب هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل، وهو أنهم قد أعمى بصائرهم بالحسد، فألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وكفروا بالله، إذ كفروا بالنبيّ وما أنزل إليه من ربه، وكان ما بأيديهم من دلائل تدل على نبوته، وما عندهم من علم به وبرسالته- جديرا بأن يجعلهم أسبق الناس إلى لقاء هذا النبىّ، والإيمان به، والوقوف من ورائه، والجهاد تحت رايته.. ولكنهم تخلّوا عن مكانهم هذا، الذي كان ينبغى أن يأخذوه مع النبي، وانحازوا إلى جهة الكافرين والمنافقين..
حسدا وبغيا.
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» هو حكم على الكثرة(3/1155)
الغالبة من علماء اليهود بالفسق، والخروج عن الطريق القويم، طريق الحق والنور، إلى طريق العماية والضلال.. وإن قليلا منهم هو الذي سلم فلم يقع تحت طائلة هذا الحكم.
ولسائل أن يسأل: كيف يحكم على اليهود بالكفر، مع أنهم أهل كتاب، وأنهم يؤمنون بالله، وأن الإسلام قد وضعهم وضعا خاصا فى أحكامه، فجعلهم أهل ذمّة، وسمح لهم أن يعيشوا فى المجتمع الإسلامى، وألا تهدم بيوت عبادتهم، وألا يحال بينهم وبين أن يؤدوا شعائر دينهم فيها.. كيف هذا؟
والجواب من وجوه:
فأولا: هم كافرون- لا شك فى هذا- لأنهم اجترءوا الله، فنبذوا كتاب الله الذي فى أيديهم، وحرّفوه، ثم ما بقي بأيديهم منه لم يستقيموا عليه، بل تأولوه تأويلا فاسدا، يجرى مع أهوائهم وما يشتهون.. فهم- وإن لم ينكروا الله- قد حاربوا الله، واستخفّوا بكلماته، وجعلوها تبعا لأهوائهم، ولم يجعلوا أهواءهم تبعا لها.
والكافر بالله، والمنكر له، وإن غلظ جرمه. وعظم إثمه- هو أخفّ جرما، وأقل إثما، ممن عرف الله واستخفّ به، وأعلن الحرب عليه، فشوّه وجه كلماته، وأراق دم أنبيائه.
وثانيا: هم كافرون- لا شك فى هذا أيضا- لأنهم أنكروا نبوّة النبىّ، وبهتوه، وكفروا بما أنزل عليه، وهم يعلمون- بما فى أيديهم من كتب الله- أنه رسول من عند الله، وأن الآيات التي بين يديه هى كلمات الله.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا(3/1156)
جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ»
(89- 90: البقرة) فلقد دمغهم الله- سبحانه- بالكفر أكثر من مرة.. «كَفَرُوا بِهِ» ..
«فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» .. «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» .. «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» .
فهذا بعض ما وصفهم الله به فى هاتين الآيتين، وقد توعدهم الله سبحانه باللعنة، ورماهم بالغضب بعد الغضب، ورصد لهم العذاب المهين يوم القيامة» ..
وثانيا: إن تصوّر اليهود لله هو تصور خاطئ فاسد، إذ يرون الله هو إله اليهود وحدهم لا يتعامل مع غيرهم، ولا يعمل لأحد سواهم، ولا يشغل إلّا بهم وبمشكلاتهم.. فهو «رب الجنود» يقودهم فى ميادين القتال، بل ويقاتل لهم وهم ينظرون، كما قالوا لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (24: المائدة) .
وهذا تصور خاطئ لله رب العالمين.. إنهم لا يرونه إلا أشبه بإنسان يملك قوى خارقة لا يملكونها، أشبه بآلهة الأساطير التي تولدت فى خيال الوثنيين لتحقق لهم أحلاما قصرت أيديهم عن تحقيقها.. ولهذا، فقد طلبوا إلى موسى أن يريهم الله جهرة، أي عيانا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم:
«لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55 البقرة) ..
هذا هو إله اليهود الذي يؤمنون به.. إنه إلههم وحدهم.. أما هذا الوجود فله إله أو آلهته.. وذلك كفر، أو شرك، أو فسق.. وقد صف صف اليهود بهذه الصفات جميعا..(3/1157)
ورابعا: جعل الإسلام أهل الكتاب أهل ذمّة ولم يأخذهم بما أخذ به غيرهم ممن لا كتاب لهم من المشركين والكافرين، كالصائبين والمجوس، ومشركى العرب وغيرهم، لأنهم على شبهة من دين، ولهذا لم يقم عليهم حدّ القتل، إذ كان من أصول الإسلام: «درء الحدود بالشبهات» ..
فهم- أي أهل الكتاب- كافرون، ولكن كفرهم مشوب بإيمان باهت.. وهذا الإيمان على ما فيه، لا يرفع عنهم الحكم- ديانة- بأنهم كافرون، ولكنه يرفع عنهم إقامة حدّ الكفر عليهم بقتلهم، إذا وقعوا فى حوزة المسلمين وصاروا إلى أيديهم، وأبوا أن يدخلوا فى الإسلام..
فهذا الكفر المشوب بالإيمان، أو الإيمان المختلط بالكفر، يعصم دماءهم، وأموالهم، ويجعلهم ذمة فى يد المسلمين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» (29: التوبة) .. فهذه الجزية التي تؤخذ منهم، وهذا الصّغار الذي ينضح عليهم من الجزية التي يؤدونها- هو تعزير لهم على جناية الكفر الذي حالت دون إقامة الحدّ عليهم فيه، شبهة الإيمان المختلط بكفرهم.
تم الكتاب الثالث، ويليه الكتاب الرابع فى تفسير الجزءين السابع والثامن.. إن شاء الله؟ المؤلف(3/1158)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
[الجزء الرابع]
[تتمة سورة المائدة]
الآيات (82- 86) [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
التفسير: الخطاب فى قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ» موجّه إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم، ثم هو خطاب من بعده لكل من هو أهل لأن يخاطب، من المؤمنين، وغير المؤمنين.
فاليهود والنصارى، هم فيمن دخل فى هذا الخطاب.
وفى قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» هو كشف لهذا الموقف العدائى، الذي يقفه اليهود من الدعوة الإسلامية وأهلها.. فهم.. كما يقول الله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ... » ثم يأتى من بعدهم فى العداوة للمؤمنين، الذين أشركوا..(4/3)
وهذا وضع مقلوب بالنسبة لليهود، إذ كانوا- وهم أهل كتاب- أولى الناس بأن يناصروا أهل الكتاب ويوادّوهم، لا أن يكونوا فى الجبهة الأولى من الجبهات المعادية للمؤمنين، إذ يتقدمون فى هذا الموقف اللئيم أهل الكفر والشرك، فيكونون قادة الحملة الموجهة لحرب الله والمؤمنين بالله! وفى قوله تعالى «لَتَجِدَنَّ» إشارة إلى أن هذا الحكم الذي فضح الله به اليهود، ليس حكما معلّقا على أي شرط، بحيث يقع إذا وقع هذا الشرط، أو هو حكم خفىّ لا تظهر آثاره للعيان.. وإنما هو حكم مطلق، واقع دائما، ظاهر لا خفاء فيه، ولهذا جاء التعبير عنه بلفظ «تجد» بمعنى ترى، وتبصر، وتتحقق، ثم جاء هذا اللفظ مؤكدا بالقسم، وبنون التوكيد «لتجدنّ» .. فهو أمر واقع، مؤكد الوقوع، لا احتمال فيه لشك أو ريب.
هذه هى وجهة اليهود فى الحياة، وهذا هو حكم الله عليهم.. فماذا يرى الراءون منهم؟ وما مدى انطباق هذا الحكم عليهم؟
إن مسيرتهم فى الحياة تشهد شهادة ناطقة بأنهم حرب على الأديان وعلى المؤمنين.. بل هم حرب على الإنسانية كلّها، قبل أن يكونوا حربا على الأديان التي يدين بها الناس.
ولكن لمّا كان الدّين هو ملاك أمر المجتمعات الإنسانية، ومنطلق خياتها الرّوحية والاجتماعية- كان الميدان الذي يعمل فيه اليهود، لإفساد المجتمعات، وإصابتها فى مقاتلها، هو ميدان الدين، فإذا تحلّل الناس من الدّين، وتقطعت بينهم وبينه الأسباب، تحوّلوا إلى حيوانات ضارية، يقتل بعضها بعضها، بلا حساب من عقل أو ضمير..
وهذا ما يفعله اليهود فى كل مجتمع يعيشون فيه..
لقد دخلت الدعوة المسيحية أو ربّا، فأحيت كثيرا من معالم الإنسانية التي(4/4)
كانت قد افتقدتها زمنا طويلا، ولكن ما إن كادت هذه الصحوة الإنسانية تسفر عن وجهها، حتى تصدّى لها اليهود، فدخل كثير منهم فى المسيحية كذبا، واجتهد كثير منهم فى الدعوة، زورا وبهتانا، حتى إذا بلغ مكانة بين المسيحيين، لعب بالدين، ومسخ تعاليمه، وجاء إلى الناس بالمفتريات والأباطيل، حتى كانت تلك الحروب التي اشتعلت فى أوربا بين العلم والدين، وإذا العلم فى مواجهته للدّين يجد الطريق مهيأة له، للنّيل منه، بل والقضاء عليه، فأجلاه عن موطنة من القلوب التي كانت تجد فيما احتفظت به من دين، شيئا تمسك به، وتحرص عليه! ومن هنا كان هذا الإلحاد الذي طغى على المجتمع الغربي كله فى أوربا وأمريكا.. وإذا الحياة هناك حياة ماديّة طاغية، تعصف بالناس عصفا، وتسوقهم سوقا عنيفا إلى هذا الصراع المرير، الذي أشعل نار الحرب، فشملت العالم كلّه، ودارت دورتها مرتين فى أقل من ربع قرن من مطلع هذا القرن الذي نعيش فيه- القرن العشرين الميلادى- دون أن يكون هناك وازع من الدّين يحمى الناس من هذا الضّياع المستولى عليهم، ودون أن يكون لدعوة المسيح عليه السلام أي أثر فى إقامة الناس على الأمن والسلام اللذين جاء مبشرا بهما.
واليهود، هم تجار هذه الحروب الدائرة فى كل صقع من هذا العالم، يجنون منها مكاسبها، ويجمعون من مخلّفات رمادها الشيء الكثير! فهم- أولا- يشبعون نقمتهم من الإنسانية، بهذه الأنهار المتدفقة من الدماء المراقة من الناس، على اختلاف أجناسهم وأديانهم! وهم- ثانيا- يقطعون علائق المودة والإخاء بين الناس، بهذه الحروب التي لا تنقطع أبدا.
وهم- ثالثا- يشترون الذّمم والضمائر، التي تروج سوقها أعظم رواج،(4/5)
فى هذه الأجواء العاصفة، التي تشتمل على الناس، وتستولى على عقولهم وقلوبهم.. فلا ثمن لضمير- حيث لا ضمير- ولا حساب لشرف، حيث الموت راصد يخطف النفوس! «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ» .. ففتش وراء كلّ شر يهبّ على المجتمعات الإنسانية من أي أفق، تجد أن مطلعه اليهود.. قديما وحديثا.. اليوم، وما بعد اليوم..
ونكاد نقف عند قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ» .. أما «الَّذِينَ أَشْرَكُوا» فهم من صنع اليهود، إذ هم الذين أفسدوا على كثير من المؤمنين دينهم، وساقوهم إلى الشرك، كما أنهم- وقد سبقوا إلى الإيمان بالله، بما أرسل الله إليهم من رسل، وما أنزل عليهم من كتب- لم يفتحوا للمشركين طريقا إلى الإيمان بالله، ولم يدعوهم إليه، بل ضنّوا بما فى أيديهم، وحجبوه عن كل عين.. بل وأكثر من هذا، فإنهم زيّنوا الشرك للمشركين، ويسّروا لهم سبله، بما أذاعوا فى المجتمعات الإنسانية من مفاسد وشرور.
وقوله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى» هو وجه مشرق من وجوه الدّين وما يفعله فى المتدينين، يقابل هذا الوجه الكريه الذي بدا من بعض أصحاب الدين، وهم اليهود.. ففى دعوة المسيح التي يدين بها النصارى دعوة كريمة إلى التواضع، والتسامح، والإخاء.. مع الإنسانية كلها، بل والتآلف مع الوجود كلّه، ناطقه وصامته! وإذا كانت المسيحية اليوم قد تغيّر وجهها عند المتدينين بها، فذلك من جناية اليهود عليها، وعلى المتدينين بها.
والنصرانىّ المتمسك بنصرانيته، الموالي لعقيدته. هو إنسان وديع رقيق، يتأسّى بالسيد المسيح فى وداعته، ورقته، ورحمته، وإنسانيته.(4/6)
وأىّ نصرانى يستمع إلى قولة المسيح: «أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» - أي نصرانى يستمع إلى تلك القولة الكريمة، ثم لا يمسّ قلبه شعاعة من نورها الألق، أو قبسة من نفحاتها المباركة؟ ولكن اليهود أدخلوا على المسيحية ما غيّر وجهها، وأفسد طبيعتها.. وحسبنا أن نذكر هنا «بولس الرسول» وما كان له- هو اليهودي- من شأن فى هذا المقام! وقوله سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً» إشارة إلى أن علماء النصارى، وأصحاب الرياسة والتوجيه الديني فيهم، هم جماعة يمثلون الوجه المشرق للمسيحية، فى وداعتهم، ولطفهم، وحبهم للإنسانية.. على حين يقابل هذا:
الربانيون والأحبار، الذين هم قادة اليهود وأصحاب الرياسة الدينية عندهم، والذين هم العقل المفكر واليد العاملة للمجتمع اليهودي، وما يرمى به الناس من شر وبلاء بأيديهم! ..
فالقسيسون والرهبان.. رأس سليم، معافى من الأمراض الخبيثة.. يقوم على جسد المسيحية، ويعمل على حمايته من الآفات، التي يرمى بها اليهود فى كيانه..
والربانيون والأحبار.. رأس فاسد، تدور فيه عواصف الشر والبغي..
يقوم على جسد اليهود، فيغذى بذور الشر والبغي الكامنة فيه! وشتان بين رأس ورأس، وجسد وجسد! وقوله تعالى: «وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» إشارة أخرى إلى ما بين رؤساء المسيحيين ورؤساء اليهود، وبين المسيحيين وبين اليهود، من تفاوت بعيد! فهؤلاء- أي النصارى- لا يستكبرون، ولا يعزلون أنفسهم عن المجتمع الإنسانى، ولا يرون ما يراه اليهود فى أنفسهم من أنهم شعب الله المختار..
ولهذا اختلط المسيحيون بالعالم كله، ودعوا الناس جميعا إلى ما معهم من دين الله..(4/7)
أما اليهود، فقد عزلهم الكبر والغرور عن أن يختلطوا بالناس، وأن يدعوهم إلى دين الله الذي معهم..
وقوله تعالى: «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .. هو شاهد ثالث على الإنسانية المنطلقة التي تنشد الخير، وتطلب الحق، وأنها حين تستمع إلى كلمات الله، تستمع إليها فى غير كبر أو استعلاء، فإذا اهتدت إلى طريق الحق، استقامت عليه، ولزمته.. وإن لم تهتد، توقفت وأمسكت فى رفق ولطف.
ولهذا دخل كثير من أتباع المسيح فى الإسلام عن اعتقاد صحيح، وإيمان وثيق: «تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» أي اجعلنا من الذين شهدوا النبي واستمعوا إليه وآمنوا به.
وليس كذلك شأن اليهود، قد أعماهم التعصب، وأصمّهم الكبر، عن أن يستمعوا لكلمة حق، أو يستجيبوا لدعوة رسول..!
وقوله تعالى: «وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ» .. إنه لسان الحال، لكل طالب حق، حين تبدو له أماراته، وتلوح لعينيه دلائله، لا يتردد أبدا فى قبوله، والأخذ به، ليرشد وليكون فى عباد الله الصالحين..
وقوله تعالى: «فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» .. هو الجواب المسعد لهذا التساؤل المتعاطف مع الحق، المستجيب له..
فقد تلقاهم الله- سبحانه- بهذا اللطف الكريم، وملأ أيديهم من هذا(4/8)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
الرزق الطيب.. «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» ..
وفى قوله تعالى: «بِما قالُوا» إشارة إلى أن قولهم هذا لم يكن مجرد قول، وإنما هو ترجمة عن إيمان صادق، خفق به القلب، واهتزت له المشاعر، وفاضت به العيون، دمعا خاشعا.. لو ظفرت الأرض بقطرة منه لاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» يطلع على الناس فى الموقف بصورة ذات دلالتين: دلالة يرى منها أولئك الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، ما أعد لهم من نكال وعذاب، جزاء كفرهم وتكذيبهم بآيات الله، ورسل الله، وعداوتهم للمؤمنين بالله وبرسل الله..
والوجه البارز فى هذه الصورة هم اليهود ومن ورائهم كل كافر، وكل مكذب..
والدلالة الأخرى يراها المؤمنون الذين أضافهم الله فى رحابه، وأنزلهم منازل إكرامه، وعافاهم من هذا البلاء، الذي يتقلب فيه الكافرون المكذبون- فيضاعف بهذا نعيم المؤمنين، وتردّد ألسنتهم قول الحق جل وعلا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ»
. (35: فاطر)
(الآيات: 87- 88) [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)(4/9)
التفسير: هؤلاء المؤمنون الذين يستجيبون لله ولرسوله، ويدخلون فى دين الله، سيجدون دينا سمحا، وشريعة رفيقة رحيمة، تأسو جراح الإنسانية، وتطبّ لأدوائها، وتقوم على أمنها وسلامتها..
فهذه طيبات الحياة مما أحلّ الله، هى مباحة للمؤمنين، ينالون منها ما تبلغه أيديهم، وتشتهيه أنفسهم، غير مضيّق عليهم فى شىء منها.. «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» (32: الأعراف) .
والله سبحانه ينهى عباده أن يحرموا شيئا مما أحل الله لهم.. إذ أن ذلك- وإن كان منهم مبالغة فى تأديب النفس بالحرمان- هو اجتراء على الله، وتبديل فى شرعه، وخروج على أحكامه.. وللإنسان أن يقتصد فى الطيّب الحلال، أو أن يؤدب نفسه بالحرمان من بعض الطيبات، ولكن على اعتقاد أن ذلك الذي حرم نفسه منه، هو حلال مباح.. فذلك مما لا بأس به، فهو أشبه شىء بالإمساك عن الطعام والشراب، بالصيام.
وكما نهى الله المؤمنين عن الجوز على أنفسهم بتحريم ما أحل الله لهم من طيبات- نهاهم عن متابعة أهواء النفس، باستباحة ما حرم الله. فذلك عدوان على شريعة الله، ونسخ لأحكامه.
والذي تغلبه نفسه، فتحمله على ارتكاب مأثم من المآثم، وهو على علم من أنّ ما يفعله هو منكر، حرّمه الله على المؤمنين، ورصد لمقترفه العقاب الأليم- هذا الإنسان هو خير من ذلك الذي يتأوّل فى شرع الله، فيحل الحرام، ويفتح له من التأويل بابا يدخله منه إلى ما أحل الله من طيبات.
إن الأول مؤمن عاص، يعلم من أمر نفسه أنه منحرف عن الطريق القويم، خارج على أوامر الله ونواهيه.. وهذا العلم من شأنه أن يزعج مرتكب المنكر، وينخس ضميره، فلا يستمرىء هذا المنكر، ولا يستسيغه على إطلاقه.. وقد(4/10)
يجىء اليوم الذي يرجع فيه إلى الله، وينتهى عما نهى الله عنه..
أما الآخر- وقد تأول للحرام، وأدخله مداخل الحلال- فإنه لن يجد لهذا الحرام مرارة فى نفسه، ولا وخزا فى ضميره.. ومن هنا فلن تكون له إلى الله رجعة عن هذا المنكر، الذي خادع به نفسه، وخدع به عقله، وخالف ربه، وأفسدو وجدانه ومشاعره.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» .. والمعتدون هم من يخرجون على شريعة الله، بتحريم ما أحل الله من طيبات، وإباحة ما حرم من خبائث ومنكرات.
وقوله تعالى: «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» هو دعوة إلى الإقبال على الحياة، وترك الزهد فيها، والعزوف عنها..
فما قام الإنسان خليفة لله على هذه الأرض، إلا ليعمرها، ويفتح مغالقها، ويستخرج الطيب الكريم منها، ثم يكون له من هذا الثمر الذي غرسه ما ينعم به، من رزق الله الذي بثّه فى كل مكان فى هذه الدنيا.. فى أرضها وسمائها، وبحرها وجوّها..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» هو الميزان الذي تنضبط عليه تصرفات المؤمنين، فيما بين أيديهم من رزق، وفيما حصّلوه من ثمرات سعيهم وجدّهم..
فما دام معهم هذا الميزان- وهو تقوى الله- وما دامت تصرفاتهم قائمة على هذا الميزان، فإنه لا جناح عليهم فى أي شىء يعملونه أو يطعمونه.
وفى قوله تعالى: «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» هو تذكير للمؤمنين، بالله الذي آمنوا به، واتقوه، وجعلوا تقواه وخشيته ملاك أمرهم فيما يأخذون أو يدعون من أمور..(4/11)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
فالتقوى إذا لم تسكن إلى قلب مؤمن بالله، ذاكر له، كانت عرضة لأن يهتز ميزانها إذا طلعت عليها أهواء النفس، ونزغات الشيطان.. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة فى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (93: المائدة) فقد رفع الله عن المؤمنين الحرج فى كل ما يطعمون، بعد أن شدّهم إليه بالتقوى، ثم ربط التقوى بالإيمان، والعمل الصالح، والإحسان.
الآية (89) [سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن ما قبلها كان بيانا لحدود الله، وأن فى هذه الحدود سعة تسمح للإنسان أن يتحرك فيها كيف شاء، غير مضيّق عليه فى شىء، مادام قائما على تقوى الله.. هنالك يجد المؤمن دينا سمحا، وشريعة ميسّرة، تفتح له أبواب العمل فى كل مجال، وتملأ يديه من كل خير..
وهنا فى هذه الآية باب من أبواب اليسر والسماحة فى دين الله، الذي يؤمن به المؤمنون..(4/12)
فما أكثر ما يجرى ذكر الله على ألسنة المؤمنين، وما أكثر ما يستحضرونه فى كل أمر يعرض لهم، ثم ما أكثر ما يزكّون هذه الأمور بالقسم عليها باسم الله، دون أن يكون ذلك بقصد الحلف لإجازتها، وعقد اليمين بها..
فهناك فرق بين القسم، والحلف.. إذ القسم لتعظيم الشيء وتزكيته، ورفع قدره، وقد أقسم الله سبحانه ببعض مخلوقاته.. من شمس، وقمر، ونجم، وليل، وضحى.
أما الحلف فهو إقرار يشهد به الإنسان على نفسه، أو غيره. وقد جعل الله كفيلا عليه، بالحلف به.. ومن هنا كان لزاما عليه- ديانة- أن يحترم هذه الكفالة، ويقوم على الوفاء بما التزم به، وإلا أثم، بجرأته على الله، والاستخفاف بكفالته له، والله تعالى يقول: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (91: النحل) .
وكان من رحمة الله بعباده، ورفقه بهم، وإسباغ نعمه عليهم، فى تعاملهم مع اسمه الكريم- ما حملته هذه الآية الكريمة من لطف، ورحمة، وحكمة:
فأولا: قد عفا الله سبحانه عن الأيمان التي لا يقصد بها الحلف، والتي تجرى على الألسنة خارجة عن هذا القصد.. «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» وتسمية هذه الأيمان لغوا، لأنّها لا تحلّ حراما، ولا تحرّم حلالا، ولا تجلب خيرا، ولا تدفع ضرّا..
والأيمان جمع يمين، وقد سمّى اليمين يمينا، لأنه مشتق من اليمن والبركة، إذ كان الذي يقسم به- عادة- اسم كريم عزيز، عند من أقسم به،(4/13)
وهو عند المؤمنين اسم الله جلّ وعلا.. فما أكرم هذا الاسم الكريم، وما أيمنه.
وثانيا: الأيمان التي يراد بها الحلف، وينعقد بها أمر من الأمور، بين الإنسان ونفسه، أو بينه وبين غيره- هذه الأيمان كما قلنا- هى أيمان وثّقت عهدا، وجعلت الله- سبحانه- شاهدا على هذا العهد وكفيلا له.. فإذا حنث الحالف بيمين الله هنا، فإنه يكون قد اقترف ذنبا عظيما فى حق الله سبحانه وتعالى، وفى حقّ الناس، بما استباح من حقوقهم، بنقض العهد معهم.
أما حقّ الله المتعلق بالحانث فى يمينه، فقد جعل فيه للحانث ما يكفّر به ذنبه، ويغسل به حوبته، وهو أن يطعم عشرة مساكين، من أوسط ما يطعم هو وأهله، أي مما يغلب أن يكون طعامهم، فى حياتهم، فى غير أيام السّعة أو الضيق.. فإن لم يكن طعام، فكسوة عشرة مساكين، مقدرة هذه الكسوة بحال الحانث فى يمينه.. فإن لم يكن طعام أو كسوة، فتحرير رقبة، أي عتق رقبة من الرّق.. فإن كان الحانث معسرا، لا يستطيع أن يطعم أو يكسو أو يعتق، فصيام ثلاثة أيام.
وقد اختلف فى تتابع هذه الأيام، وفى إفرادها، فرأى بعضهم الأخذ بما أطلقه القرآن، حيث لم يقيد الصوم بالتتابع، ولا حجة عنده فى قراءة من قرأ «ثلاثة أيام متتابعات» .. لأن الإطلاق هنا والتقييد فى قوله تعالى: «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» يقوّى الأخذ بمنطوق الآية، وعدم التعويل على هذه القراءة التي لم تتأكد بالتواتر.. على حين يرى البعض الأخذ بالقراءة «ثلاثة أيام متتابعات» حيث وجدت مثبتة فى مصحف السيدة عائشة رضى الله عنها، فيوجب التتابع فى الصوم.
ويقوّى هذا الرأى عندنا: أن صيام ثلاثة الأيام هذه فى تتابعها، هى التي تعدل إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، مع أن إطعام مسكين واحد،(4/14)
يجزى عن إفطار أي يوم من أيام رمضان لمن لا يقدر على الصوم، كما يقول الله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ» فتتابع أيام الصوم هو الذي يجعل صيام الأيام الثلاثة على هذا الوجه، موازنا لإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.
والتكفير عن الحنث فى اليمين يجزى بأيّ من هذه الكفارات الثلاث:
إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.. فمن كفّر بأى منها أجزأه ذلك، دون نظر إلى ترتيب فيها، حيث كان الحكم بالتخيير بينها بحرف العطف «أو» .. ولا يصار إلى الصيام إلا عند فقد القدرة على الوفاء بالإطعام، أو الكسوة، أو تحرير الرقبة.
وقد اختلف فى صفة الرقبة التي تحرّر هنا، وهل يلزم أن تكون مؤمنة، أم أن تحرير أي رقبة أعتقها الحانث يجزىء فى التكفير عن اليمين؟
يرى بعض الفقهاء أن يكون العتق لرقبة مؤمنة، وكونها لم توصف هنا بأنها مؤمنة، ولم يجعل الإيمان شرطا لعتقها- إحالة على ما وصفت به فى قوله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» (92: النساء) .
ونرى- كما يرى بعض الفقهاء- الوقوف عند منطوق الآية، والأخذ بالحكم على إطلاقه، دون قيد للرقبة بأنها مؤمنة أو غير مؤمنة.
ففى فكّ الرقبة وعتقها إحياء لنفس ميتة، أيّا كانت تلك النفس، مؤمنة أو كافرة.. وإحياء النفس- أي نفس- شىء عظيم، لا يحتاج إلى وصف آخر يرفعه ويعلى من قدره..
وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» ؟
(32: المائدة) .(4/15)
وأما قيد الرقبة بوصف الإيمان فى دية القتل الخطأ، فهو لموافقة النفس المؤمنة التي قتلت خطأ.. «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ..» (92: النساء) .. وذلك مما يوجبه القصاص.. النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ.. وقياسا على هذا يكون من دبة المؤمن فى القتل الخطأ إحياء نفس مؤمنة.. أما هنا فهو إحياء لنفس أيّا كانت هذه النفس، ففى إحيائها كفارة لأى ذنب وإن عظم، إنه إحياء للإنسانية كلها.. ومع هذا، فإن المسلم حين ينظر فى أي الرقاب يعتق، فإنه يتجه أول ما يتجه إلى الرقبة المؤمنة، امتثالا لقول الله تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»
ولا شك أن الرقبة المؤمنة أحب إلى مالكها من الرقبة غير المؤمنة.. وقد روى مسلم أن أبا ذر رضى الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا» ..
والرقبة المؤمنة أنفس عند المسلم وأكثر ثمنا.
وفى قوله تعالى: «فَكَفَّارَتُهُ» إشارة إلى اليمين بلفظ المفرد، لأن هذه الكفارة هى كفّارة عن اليمين الواحد.. فإذا حنث الإنسان فى أكثر من يمين كان لكل يمين كفارته، على هذا النحو.. وهذا هو السرّ فى إفراد الضمير.. وكان النظم يقضى بأن يجىء هكذا: «فكفارتها» إذ كان الحديث عن الأيمان..
وقوله تعالى: «وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ» إشارة إلى أن هذه الكفارة هى دواء الداء، جلبه الإنسان إلى نفسه، وكان أحرى به أن يتجنب هذا الداء، وأن يظل سليما معافى.. إذ أن الوقاية دائما خير من العلاج.. أما إذا كان(4/16)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
الحلف على منكر، فإن الحنث فيه واجب، ولا كفارة فيه، كمن حلف أن يشرب خمرا.. مثلا، فعليه أن يحنث فى يمينه، ولا كفّارة عليه.
أما من حلف على غير منكر، ثم بان له أن الحنث فى اليمين يترتب عليه إلحاق ضرر به أو بغيره، فإن الحنث خير له من البرّ بيمينه، ولكن عليه كفارة الحنث.. كمن حلف على ألا يسافر إلى جهة ما، ثم بدا له أن فى السفر خيرا يعود عليه منه، وكمن حلف ألا يتعامل فى تجارة مع فلان.. ثم ظهر له أن هذا يعود عليه أو عليهما بالخسارة والضرر- فالحنث هنا خير من البرّ باليمين، وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» .
أما حقوق الناس فيما ترتب على الحنث باليمين، فلن تشفع لها هذه الكفارة، ولن تدفع عن الحانث ما نجم عن هذا الحنث من ضرر وقع على الغير بسببه.
فذلك له حسابه عند الله، وله العقاب الراصد له.
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» إشارة إلى ما تحمل آيات الله إلى عباده، من رحمة، ولطف، إذ تقيلهم من عثراتهم، وتقيمهم على طريقه القويم.. وهذا من شأنه أن يستقبله العباد بالحمد والشكر لله رب العالمين.
(الآيات: (90- 92) [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)(4/17)
التفسير: الخمر: ما خامر العقل، وستره، كما يستر الخمار وجه المرأة..
فكلّ ما ستر العقل، وحجب عنه الرؤية الصحيحة التي يرى بها الأشياء، ويتصور حقائقها- هو خمر، سواء أكان شرابا أو طعاما، وسنعرض لهذا، بعد قليل.
والميسر: هو القمار، والمخاطرة بالمال.
والأنصاب: هى حجارة كانت تنصب حول الأصنام، لتذبح عليها الذبائح، تقربا إليها.
والأزلام: جمع زلم، وهى قداح الميسر، يلعب بها على الذبائح، مقامرة.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هو خطاب عام للمؤمنين، واستدعاء لما فى قلوبهم من إيمان، ليكون هذا الإيمان بمحضر من تلك المنكرات التي يدعون إلى اجتنابها.. إذ لا يجتمع الإيمان وهذه المنكرات فى قلب مؤمن.. حيث أن من شأن الإيمان أن يقيم فى كيان المؤمن وازعا يزع كل منكر، ويدفع كل ضلال.
وقوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» هو عرض لبعض المنكرات التي تغتال إيمان المؤمن، وتقطع الصلة بينه وبين ربّه.. وهى: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام.. وقد وصفها الله سبحانه بصفتين: أنها رجس.. والرجس ما تعافه النفس بفطرتها وتتقذّره بطبيعتها، من غير حاجة إلى من يلفتها إليه، ويحذّرها منه، إذ كان أمره من القذارة والفساد بحيث لا يخفى إلّا على من فسدت طبيعته، وشاهت فطرته..
والصفة الأخرى لهذه المنكرات: أنها من عمل الشيطان.. وإضافة(4/18)
هذه المنكرات إلى الشيطان يجعلها منكرا إلى منكر.. فالرجس فى ذاته، على أي وجه ظهر، ومن أي أفق طلع، هو شر وبلاء على من يقبل عليه ويتعامل معه، فإذا كان هذا الرجس هو من عمل الشيطان، ومن صنعة يده، ومن الطعام الممدود على مائدته، لم يكن فيه مظنّة لخير أبدا.. إذ يكفى الخير شناعة وسوءا أن يجىء من قبل الشيطان، وعلى يده.. فكيف إذا كان ما يحمله الشيطان ويدعو إليه هو «الرجس» ؟
أرأيت إلى طعام طيب هنىء تحمله إلى آكليه يد إنسان رعى الجذام وجهه وقضم يديه؟ .. أفتجد نفس لهذا الطعام مساغا، أو يمدّ إليه إنسان يدا ولو هلك جوعا؟ فكيف إذا كان ما يحمله هذا الإنسان المجذوم طعاما فاسدا متعفنا تعافه الكلاب؟ ذلك أقرب شىء شبها إلى الرجس الذي يكون من عمل الشيطان وصنعته.
فالرجس- وتلك صفته من السوء- فى غير حاجه إلى أمر بحظر يضرب عليه، ويحال بين الناس وبينه.
والرجس الذي هو من عمل الشيطان، أمره أظهر وأبين من أن ينبّه على اجتنابه، إشارة أو عبارة.. ومع هذا فإن بعض الناس تضيع إنسانيتهم، وتنطمس معالم فطرتهم، وتفسد طبيعتهم، فلا تزكم أنوفهم رائحة كريهة، ولا تلفظ أفواههم طعاما خبيثا.
ولهذا كان من فضل الله على الناس ورحمته بهم، أن بعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين، ليصلحوا ما فسد منهم، ويصححوا عمل أجهزتهم التي عطبت أو فسدت.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى هنا «فَاجْتَنِبُوهُ» تعقيبا على ما كشف من أمر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ووصفها بأنها رجس، وأنها من(4/19)
عمل الشيطان.. فهذا الأمر باجتناب هذه المنكرات، هو فى الواقع توكيد لما تحمل فى أوصافها من أكثر من نهى ضمنىّ باجتنابها. وذلك زيادة عناية بالإنسان، وحراسة مضاعفة له من الموبقات والمهلكات.. وضمير الغائب فى «فاجتنبوه» يعود إلى الرجس الذي جمع هذه المنكرات كلها فى كيانه.
أما الأنصاب- وإن كان الإسلام قد حطم الأصنام التي كانت مشرفة عليها-، فإن الإبقاء على عادة الذبح على هذه النّصب، مما يثير غبار الشرك، ويحرّك ريح الوثنية الكريهة.. فضلا عن أن هذه الذبائح التي تذبح على النصب كانت مجالا للمقامرة، إذ تقسّم لحومها بين المقامرين عليها، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر.
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ترغيب فى الاستجابة لهذا الأمر، الذي فى الامتثال له مدخل إلى الفلاح والسلامة، وإنه لا فلاح ولا سلامة مع صحبة هذه المنكرات، والولاء لها.
وقوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» هو بيان لما يبغيه الشيطان من وراء هذه المنكرات التي عرضها للناس، فى معارض مغوياته، ومفسداته.. إنه يريد؟؟؟ أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس فى مواطن الخمر والميسر، حيث يفقد الإنسان عقله بالخمر، فلا يدارى قولة سوء، ولا يمسك كلمة شر، وحيث يستنزف الميسر أموال الناس، ويريهم أن بعضهم أكل بعضا، وهم- فى الواقع- مأكولون جميعا، فيقع بينهم الشر، وتشتعل نار العداوة والبغضاء.. وبهذا تتمزق وحدة المجتمع، ويصبح الإنسان فى مجتمعه إما طالبا أو مطلوبا، لا يبيت على أمن، ولا يستقرّ على حال..
ثم إن هذه المنكرات من خمر وميسر وأنصاب وأزلام، مع ما تزرع(4/20)
بين الناس من أشواك العداوة والبغضاء.. تصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، حيث تلهى أصحابها، وتمسك بهم فى مجالها، فلا يخطر ببال أحدهم ذكر الله، وقد استولى عليه هذا الرجس، ولا يجيب داعى الله إلى الصلاة، إن هو وجد أذنا تستمع إلى هذا الداعي.
وقوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» يحمل تحريضا قويا على الانخلاع عن هذه المنكرات، ومجاهدة النفس فى اجتنابها، ومغالبة الأهواء الداعية إليها..
فهذه المنكرات لها سلطانها المتسلط على النفوس، بما فيها من مغويات تدعو الإنسان إلى التحلل من سلطان العقل، وما يدعو إليه من وقار، وجدّ، لتحمله على أجنحة الخلاعة والعبث والمجون.. ومن وراء ذلك شيطان يستحثّ أهواء النفس، ويثير غرائزها الحيوانية الخسيسة.. فإذا لم يأخذ الإنسان حذره ويتجرد لحرب هذه المغويات المتسلطة عليه، ويلقاها بإيمان وثيق وعزم ثابت، غلبته على أمره، وأخذته من مقوده، وأقامته على هذا المرعى الوبيل، ليطعم منه، ويعيش عليه..
ففى قوله تعالى «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» استفهام مطلوب الجواب عليه، ولن يعطى الجواب الذي ينبغى أن يجيب به المؤمن إلّا من نظر إلى نفسه، وإلى موقفه من ربه الذي يدعوه إليه، فإن استجاب لله، وانتهى عن هذه المنكرات واجتنبها، كان له أن يلقى الله بوجهه، وأن يدخل فى عباده المؤمنين، وإلا اختطفه الشيطان، وألقى به بين ضحاياه وصرعاه! قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا» هو دعوة مجدّدة إلى المؤمنين، إلى طاعة الله ورسوله، والحذر من هذا الرجس، الذي بين يدى الشيطان.. يدعوهم إليه، ويغريهم به..(4/21)
وليس للمؤمنين بعد هذا البلاغ بلاغ، فإن تولّوا، ولم يستجيبوا لأمر الله، فلهم ما اختاروا، وليس لأحد سلطان عليهم إلا وازع ضمائرهم.. «فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» .. وقد بلّغ الرسول هذا البلاغ المبين، الذي تلقاه من ربّه، «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (108: يونس) .
الخمر.. مادتها، وصفتها، وحكم شاربها
ونودّ أن نشير هنا إلى أمرين.
أولهما: الخمر.. ماهى؟
وثانيهما: الخمر.. ومكانها بين المحرمات..
أما الخمر، فأمرها معروف، ولم تكن بنا حاجة إلى الكشف عن وجهها، لولا أن كثر كلام الفقهاء فيها، وفى المادة التي تصنع منها، والطريقة التي تصنع بها، حتى تكون خمرا..
أما المادة التي تصنع منها الخمر، فقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا بينا، فوقف بها بعضهم عند التمر والعنب، مستدلّين على هذا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين» وأشار إلى النخلة والعنبة..
بل لقد ذهب بعضهم إلى أن الخمر ما كان من العنب وحده، مستدلا على ذلك بقوله تعالى: «إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً» ومؤولا الحديث: «الخمر من هاتين الشجرتين» على أن المراد به شجرة العنب.. كما فى قوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» والمراد أحد البحرين.
وواضح أن هذا التأويل فاسد، لا يلتفت إليه، ولا يوقف عنده.(4/22)
أما الوقوف بالخمر عند ما أخذ من العنب والنخل، فهو محمول على قوله تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» (67: النحل) .. ولكن الحديث، وإن أشار إلى أن الخمر من النخل والعنب، فإنه لم يحصره فيهما، وكذلك الآية الكريمة.. وإن دل ذلك على أن أكثر ما كان معروفا متداولا عند العرب من خمر، هو ما كان من هاتين الشجرتين.
إذ كانت النخيل والأعناب أكثر أشجار الفواكه، وأهمّها عند العرب، ولذلك كان وصف الجنات الدنيوية والأخروية، أبرز ألوانه النخيل والأعناب كقوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ» (32: الكهف) ..
وقوله سبحانه: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ» (244: البقرة) .. وقوله: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً» (90- 91: الإسراء) .
وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النخل والعنب، تعنى أنه لم يكن من بين الأشجار القائمة بين يديه، والماثلة أمام عينيه، ما يتخذ منه الخمر غير هاتين الشجرتين.. يومئذ..
ولهذا، فإنه صلى الله عليه وسلم فى موقف آخر، لم يكن بين يديه أشجار، قال: «إن من العنب خمرا، وإنّ من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن البرّ خمرا، وإنّ من الشعير خمرا» .. وحصر النبي صلى الله عليه وسلم الخمر فيما صنع من هذه الأشياء، هو تقرير للواقع، ولو كان هناك مواد أخرى متخذ منها العرب الخمر لذكرها.(4/23)
قال الخطابىّ فى تعليقه على هذا الحديث: «ليس معناه أن الخمر لا يكون إلا من هذه الأشياء الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصا، لكونها معهودة فى ذلك الزمان، فكل ما كان فى معناها.. من ذرة، وسلت «1» ، ولبّ ثمرة، وعصارة شجرة، فحكمه حكمها» .
وفى صحيح مسلم عن أنس قال: «لقد أنزل الله الآية التي حرّم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب يشرب إلّا من تمر» .
وفى صحيح البخاري عن أنس قال: «حرمت علينا الخمر حين حرّمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» وعلى هذا، فمادّة الخمر لا معتبر لها فى تحريمه، وإنما المعتبر فى أية مادة هنا هو لبوسها لباس الخمر. أي أنها تسكر من يتعاطاها، وينال منها.. فكل ما أسكر فهو خمر، لأنه يخامر العقل، ويستره.
وفى الحديث: «إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، وإنى أنهاكم عن كل مسكر» (مختصر سنن أبى داود:
للمنذرى حديث 332) ..
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو يخطب: «نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهى من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير.. والخمر، ما خامر العقل..» .
وقد اختلف الفقهاء فى صنعة الخمر كما اختلفوا فى مادتها، فقال بعضهم:
الخمر ما خمّر، دون أن تمسّه النار، وأن ما طبخ بالنار فليس خمرا.. كذلك اختلفوا فى «النبيذ» وهو ما ينقع، فقال بعضهم: إذا تخمر وغلا ورمى بالزبد فهو خمر، قليله وكثيره حرام، وإذ لم يتخمر ويرمى بالزّبد، فإذا أسكر فهو مكروه، وإذا لم يسكر فلا شىء فيه.
__________
(1) السلت: الشعير.(4/24)
ومن هذه المقولات قول أبى حنيفة فى النبيذ: «الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء: الخمر، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، ونقيع التمر فإنه السّكر، ونقيع الزبيب» .. ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: «ولا خلاف عن أبى حنيفة فى أن نقيع «الدوشاب «1» » عنده حلال وإن أسكر، وكذلك نقيع الرّبّ، وإن أسكر» .
وقال أبو يوسف- صاحب أبى حنيفة-: كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على الترك فهو مكروه، ولا أجيز بيعه، ووقته عشرة أيام، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام فهو مكروه، فإن كان فى عشرة أيام فأقل، فلا بأس.»
وقال محمد بن الحسن- صاحب أبى حنيفة-: ما أسكر كثيره مما عدا الخمر أكرهه ولا أحرمه.
«فإن صلّى إنسان وفى ثوبه منه أكثر من قدر الدرهم البغلىّ بطلت صلاته وأعادها أبدا» ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: فاعجبوا لهذه السخافات، لئن كانت تعاد منه الصلاة أبدا، فهو نجس، فكيف يبيح شرب النجس، ولئن كان حلالا فلم تعاد الصلاة من الحلال؟ ونعوذ بالله من الخذلان!! ثم يعلق ابن حزم على هذه الآراء جميعها- رأى أبى حنيفة وصاحبيه، فيقول: «فأول فساد هذه الأقوال أنها كلها أقوال ليس فى القرآن شىء يوافقها ولا شىء من السنن، ولا فى شىء من الروايات الضعيفة، ولا عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من خلق الله، قبل أبى حنيفة، ولا أحد قبل أبى يوسف فى تحديده عشرة أيام..
«فيالعظم مصيبة هؤلاء القوم فى أنفسهم، إذ يشرّعون الشرائع، فى الإيجاب
__________
(1) الدوشاب: نقيع من الشعير، والرب: خثارة كل ثمرة بعد اعتصارها.(4/25)
والتحريم والتحليل، من ذوات أنفسهم، ثم بأسخف قول وأبعده عن المعقول» «1» .
وقد تتبع ابن حزم جميع الأدلة والأسانيد التي استند إليها أبو حنيفة وصاحباه فى رأيهم فى النبيذ، وفندها، فرد ضعيف أخبارها، أو تأولها على وجهها الذي يدعم وجهة نظره، فى دفع هذه المقولات، ودحضها.
وفى هذا الجدل بين أصحاب تلك الآراء المختلفة، متعة ذهنية، ورياضة عقلية، لا شك فيها، ولكنها متعة تذهل الإنسان كثيرا عن الحقيقة التي بين يديه، وتفتح لذوى القلوب المريضة طريقا إلى الجمع بين المتناقضات من الآراء، فيأخذ من كل رأى ما يرضيه ويوافق هواه، فإذا دينه رقع مختلفة الألوان.. رقعة من هنا، ورقعة من هناك، وكلها- حسب رأيه- من الدّين ومن مقولات الأئمة الأعلام فى الشريعة!! وفى هذه القضية بالذات، أخذ قوم بهذا المذهب الذي يجمع بين متناقضات الآراء، ويتتبع ما يرضى هواه منها، دون نظر إلى حلال أو حرام.. وفى هذا يقول الشاعر متهكما بهذا التضارب فى شأن الخمر، التي ليس فيها إلا قولا واحدا، هو أنها الخمر، وأنها الحرام، قليلها وكثيرها سواء..
يقول الشاعر متهكما.
أحلّ العراقىّ النبيذ وشربه ... وقال الحرامان: المدامة والسّكر «2»
وقال الشآمى النبيذ محرّم ... فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
ويعنى الشاعر بهذا أن أبا حنيفة ومن تابعه (وهو عراقىّ) قد قال فى
__________
(1) المحلى: لابن حزم- الجزء السابع. ص 562 وما بعدها.
(2) المدامة هى الخمر، أي ما خمر من العنب وحده. على ما ذهب إليه بعض أصحاب أبى حنيفة، والسكر: نقيع التمر.(4/26)
فى النبيذ قولا يخرجه به من الخمر، ويرفع عنه الحرمة المضروبة على الخمر، وأن أقصى ما يكون على شاربه أنه أتى فعلا مكروها إذا شرب حتى سكر.
أما الحرامان عند أبى حنيفة ومن تابعه فهما المدامة (أي الخمر المصنوعة من العنب) والسّكر، وهى الخمر المصنوعة من التمر، فما خمّر من تمر وعنب فهو الخمر، وهو الحرام قليله وكثيره، أسكر أو لم يسكر، أما ما خمّر من غير العنب والتمر، فهو نبيذ- وقد عرفنا رأيه فيه.
وأما الشآمى الذي يشير إليه الشاعر، فهو مالك وأصحابه، ومالك يحرّم النبيذ من أي شىء كان، إذا أسكر كثيره فقليله حرام، وهى الخمر التي حرمها الله..
والشاعر يرى بين يديه رأيين مختلفين فى النبيذ.. وكل رأى هو قول لإمام من أئمة الشريعة.. ولا على الشاعر أن يأخذ برأى أبى حنيفة فى النبيذ!! وهذه كلها مما حكات، تفسد على المرء رأيه، وتشرّد مجتمع عزيمته، وتقيمه من هذا المنكر بين الشك واليقين.. إذ ينظر فيرى وجوها من الخلاف فى أمر لا خلاف فى أنه منكر، وقد جاء القرآن الكريم صريحا قاطعا بتحريمه:
«إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه» وجاءت السنة المطهرة تحكم هذا الحكم المحكم، فيقول النبي الكريم:
«كل مخمّر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست «1» صلاته أربعين صباحا.. فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل وما طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار»
__________
(1) ومعنى بخست صلاته: أي كانت ناقصة، ولم يؤت أجرها كاملا.(4/27)
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
فكيف يزاغ عن هذا الحكم القاطع فى الخمر وحرمتها، أيّا كان الوجه الذي تظهر به، وأيّا كان لونها وطعمها؟
إن كل ما أسكر فهو خمر، قليله وكثيره حرام.. هذا هو حكم الله، والحلال بيّن والحرام بيّن.. والمرء مؤتمن على دينه، فما عرف أنه مؤثّر على عقله من شراب أو طعام، كان حراما عليه أن يذوق قطرة منه، أو يطعم أقل القليل منه.
هذا هو فيصل الأمر فى الخمر.. وإذن فلا قول بعد هذا، ولا بحث فى مادتها، ولونها.
فالعلة فى تحريم الخمر هى الإسكار والتأثير على العقل، تأثيرا يغيّر طبيعته، ويفقده توازنه، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما.. وليست علة تحريم الخمر قلتها وكثرتها، وإنما علتها أنها الخمر، وأنها الحرام، وليس فى الحرام قليل وكثير.. فما حرم كثيره فقليله حرام، سدّا للذرائع.. حيث لا حجاز بين القليل والكثير، فقد يسكر بعض الناس من قطرات من الخمر بينما لا يسكر بعضهم إلا بما يملأ بطنه منها!! وأما مكان الخمر بين المحرمات، فأشهر من أن يدلّ عليه، فهى كبيرة الكبائر، وأم المحرمات.
ولكن الذي دعانا إلى بحث هذا الأمر ما نسمعه يجرى اليوم على أفواه بعض المثقفين من الشبان، الذين لقّنوا تأويلات فاسدة، دخلت عليهم مدخل الدين، من مقولات الملحدين، الذين يكيدون للإسلام، ويثيرون فى وجهه(4/28)
العواصف، التي انتزعت أديانا كثيرة من مواطنها، فى الغرب والشرق! وهيهات أن تنال العواصف والزوابع من دين هو أرسخ من الجبال الراسيات! يقول بعض المتأولين: إن تحريم القرآن للخمر لم يكن تحريما قاطعا ملزما، وإنما هو تحريم أشبه بالكراهية، الأمر الذي يجعلها لا تدخل فى باب الكبائر من المحرّمات! وحجة القائلين بهذا القول، هى أن الله سبحانه وتعالى لم يقرنها بالمحرمات التي ورد فى القرآن الكريم النصّ على تحريمها بصريح اللفظ: «حرّم» أو «حرمت» مثل قوله تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» (96: المائدة) وقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» (3: المائدة) وقوله سبحانه:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ» .. الآية (23: النساء) .
هكذا يجى النصّ القرآنى بلفظ التحريم صريحا، فيما أراد الله تحريمه، من منكرات.. تحريما قاطعا جازما!! أما فى الخمر، فقد جاء النصّ فى معرض الحكم عليها بقوله تعالى:
«رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ.، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .. ولو كان من تدبير الشريعة تحريم الخمر تحريما قاطعا لجاء النصّ صريحا بلفظ التحريم هكذا:
«حرمت عليكم الخمر» ! هكذا يهوّن هؤلاء المتألون من شناعة الخمر، ويستخفّون بجريمتها، ويجدون فى الإقدام على شربها ما يرفع عنهم كثيرا من آثامها.. فما شربها(4/29)
عندهم- وأمرها على هذا الوصف- إلا من قبيل الصغائر من الذنوب، أو إلّا من اللّمم المعفوّ عنه من الآثام! وكذبوا على الشريعة، وافتروا على كلمات الله! وقد بينا من قبل أن الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة- بيّنا أن هذه الأوصاف تضع الخمر على رأس المنكرات كلها، وتقيمها فوق كل كبيرة..
فالميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها مما حرم الله من طعام، وجاء تحريمها نصا بلفظ التحريم «حرمت» - لم توصف إلا بأنها فسق ولم تلحق بها تلك الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وبأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة! ..
ونقول لهؤلاء المتأولين لكلمات الله على هذا الوجه الجريء الفاسد: ألا تقوم تلك الصفات التي وصفت بها الخمر شهادة على أنها أشنع المحرمات، وأغلظ المنكرات؟ ثم ألا يكون أمر الله باجتنابها، ولو لم توصف بما وصفت به، حكما ملزما لكل مؤمن بالله أن يجتنبها اجتنابه للعدوّ المتربص به، الراصد لاغتياله والقضاء عليه؟
إن حكم الله على شىء، بأمر المؤمنين باجتنابه، هو حكم عليه بأكثر من الحكم بتحريمه.. إذ الأمر باجتناب الشيء يجعله تحت حكم مؤبد بحرمته، بحيث لا يحل أبدا بوجه من الوجوه، أو فى حال من الأحوال، وذلك بخلاف الأمور التي حكم الله بتحريمها ابتداء بصريح لفظ التحريم، حيث تجدّ ظروف وأحوال تغيّر من صفتها، وتنقلها من الحرمة إلى الحلّ أو الإباحة..
فالمطاعم التي حرمّها الله، من الميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها قد أبيح(4/30)
للمضطر أن ينال منها ما يحفظ عليه حياته، ولا إثم عليها فيما طعم منها..
وصيد البرّ، الذي حرّم على المحرم، يصبح مباحا بعد أن يتحلل المحرم من إحرامه.. والمرأة المحصنة- أي المتزوجة- محرمّة على غير زوجها، فإذا طلقت منه، وانتهت عدتها كانت حلّا لأى رجل مسلم، من غير محارمها، إذا هو تزوجها.
أما ما أمر الله باجتنابه من منكرات، فلم يرفع عنه هذا الحظر بحال أبدا..
ففى قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (30: الحج) أمر ملزم لكل مؤمن باجتناب هذين المنكرين ما دام على الإيمان:
عبادة الأوثان، وقول الزور.
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» (26: النحل) هو ملاك دعوة الرسل.. الإيمان بالله، وترك عبادة الأوثان.. فلا يكون فى المؤمنين أبدا من لم يجتنب عبادة الأوثان.. إنه مشرك بالله بلا ريب.
وكانت دعوة إبراهيم إلى ربه قوله: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» (35: إبراهيم) .
فتجنب الشيء واجتنابه هو الابتعاد عنه، اتقاء للخطر المتوقع منه، إذا داناه الإنسان، فكيف إذا اختلط به، وسكن إليه؟
فالأمر باجتناب الخمر، وما أمرنا باجتنابه من منكرات، هو أمر ملزم مؤبد لافكاك منه أبدا، إلا فى حال الاضطرار الذي يشمل الخمر وغيرها من المحرمات.
وهذا هو وجه من وجوه إعجاز القرآن، فى إلباس المعنى المراد، اللفظ المناسب له، والذي لا يصلح له غيره من ألفاظ اللغة العربية كلها.(4/31)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
والدّين- كما قلنا- هو أمانة بين العبد وربّه، والحلال بيّن والحرام بيّن، وخير للمرء أن يلقى الله عاصيا من أن يلقاه منافقا، يمكر به وبآياته، فذلك منكر إلى منكر وبلاء إلى بلاء، إذ هو إلى جانب ارتكاب المنكر، استخفاف بالله، وإنكار لعلمه به، وقدرته عليه..
الآية (93) [سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
التفسير: الجناح: هو اللّوم، والمؤاخذة، على أمر فيه حرج وضيق.
وفى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» بيان لسعة فضل الله على المؤمنين، وأنّه وقد أحل لهم الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث، فإنهم فى سعة من أمرهم فيما يطعمون، حيث لا تطلب أنفسهم إلا الطيب، على حين تعاف الخبيث وتنفر منه.. فهم- والأمر كذلك- لا يجدون حظرا على أي طعام يشتهونه، ولا يستشعرون حرجا إزاء أي طعام حرّم عليهم.. إذ كان فى الطيب ما يصرفهم عن الخبيث الذي لا تشتهيه إلّا نفس خبيثة..
وقوله تعالى: «إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» هو قيد وارد على رفع الحرج عن المؤمنين فيما يطعمون، وفى استغنائهم عن الحرام بالحلال، وعن الخبيث بالطيب..
فالمؤمن إذا ما اتقى الله وعمل الصالحات.. صلحت نفسه، وطابت طبيعته(4/32)
فلا يجد فيما حرّم الله عليه من خبائث، تضييقا عليه، ولا حرجا على أي طعام يشتهيه، إذ كان إيمانه وتقواه، وملازمته لتقوى الله وطاعته- إذ كان كل ذلك قد عزل نفسه، وغضّ بصره عن النظر إلى هذه المحرّمات، وحسابها فيما يطعمه الناس.
ولا شك أن هذه منزلة لا يبلغها الإنسان إلا بعد أن يروض نفسه على التقوى، ويذلّلها بالعبادات والأعمال الصالحة، التي تقيمها على الصبر، والتعفّف والقناعة.. إذ كانت شهوات النفس غالبة، وأهواؤها متسلطة، والخبائث محمولة إليها على يد شيطان يزين الخبيث ويغرى به.. «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» ..
فالمؤمنون الذين تخلو أنفسهم من التلفّت إلى تلك المحرمات، ولا يجدون لها فى صدورهم وسواسا يوسوس بها، أو داعيا يدعوهم إليها- هؤلاء المؤمنون هم قلّة فى المؤمنين.. هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم إزدادوا إيمانا بالتقوى والأعمال الصالحة، ثم لزموا طريق التقوى والإيمان، ثم انتهوا إلى التقوى والإحسان- فهؤلاء هم الذين يبلغون تلك المنزلة التي تطمئن فيها قلوبهم إلى الطيبات، وتنقطع فيها وساوس الشيطان لهم بالمحرمات، حيث ييأس من أن يلتفتوا إليه، أو ينزع بهم منزع إلى شىء مما فى يديه، من خبيث كل مطعوم ومشروب.
فالآية الكريمة تكشف عن حقيقة الإيمان وأثره فى إقامة النفس على طريق تلتقى فيه لقاء مصافحا لما أحلّ الله من طيبات، حيث تجد فى ذلك(4/33)
راحتها، وسعادتها، ولا تستشعر ضيقا عليها، ولا حرجا فى إقامتها على حدود هذا الحلال الطيب المباح لها..
وهذا هو السرّ فى التكرار الذي جاء عليه النظم القرآنى فى تلك الآية الكريمة، والذي اضطرب فيه المفسّرون اضطرابا مزعجا، وذهبوا فى تأويله مذاهب تدور لها الرءوس..
فقد وصف المؤمنون وصفا مكررا بالإيمان والتقوى، والعمل الصالح، والإحسان..
«الذين آمنوا وعملوا الصالحات..
... اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات..
... ثم اتقوا وآمنوا ...
... ثم اتقوا وأحسنوا ... »
والسبب فى هذا الذي وقع فيه المفسرون من اضطراب هنا، هو أنهم نظروا جميعا إلى «الحرج» على أنه رفع الإثم والمؤاخذة على ما يناله المؤمنون بالله من أطعمة، بعد أن يتّصفوا بتلك الصفات.
ولو أنهم نظروا- كما نظرنا بتوفيق الله- إلى «الحرج» على أنه ما يقع فى صدور المؤمنين من ضيق، إذا هم واجهوا المحرمات من المطعومات والمشروبات، حين يدعوهم إيمانهم وامتثالهم لأمر الله إلى التعفف عنها، والإمساك بأنفسهم عن الإلمام بها- لو أنهم نظروا تلك النظرة- لرأوا أن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة فى موقفهم إزاء هذه المحرمات، وأنهم على منازل مختلفة منها..
فبعضهم ينتهى عنها، وفى صدره حرج وضيق، وفى كيانه مكابدة ومجاهدة..(4/34)
وبعضهم ينتهى عنها وفى نفسه ميل إليها، ورغبة فيها، ولكنّ خوف الله يغلّ يده، وخشية الله تكسر حدة مشاعره..
وبعضهم تراوده نفسه عليها، وتؤامره على الإلمام بها، ثم التوبة عنها..
وهكذا تتغاير منازل المؤمنين، وتتعدد مواقفهم، إزاء هذه المنكرات، بعدا وقربا، وصبرا، وجزعا، واطمئنانا وقلقا، واجتنابا ومقارفة.
أما المنزلة التي يكون فيها المؤمن، وقد انعزلت مشاعره، وسكنت بلابله، فلم يكن لهذه المنكرات من المطاعم والمشارب نخسة فى نفسه، أو همسة فى صدره- فلن يبلغها المؤمن إلا بعد مجاهدة ومصابرة، وبعد طريق شاق طويل يقطعه مع الإيمان والتقوى والعمل الصالح، متنقلا من حال إلى حال، مرتفعا من منزلة إلى منزلة، حتى يكون المؤمن الرّبانى الذي يكون على الوصف الذي ورد فى الحديث القدسي: «ما يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه» .
ففى هذا الإنسان الرباني تموت كل نوازع الهوى، وتسكن كل دواعى الشهوة إلى محرم أو مكروه.
وفى الفاصلة التي ختمت بها الآية الكريمة: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» فى هذه الفاصلة ما يكشف عن هذه المنزلة التي تهتف الآية الكريمة بالمؤمنين أن يسعوا إليها، وأن يعملوا على بلوغها..
وتلك هى منزلة الإحسان، تلك المنزلة التي ذكرها الرسول الكريم فى قوله، وقد جاءه جبريل عليه السلام، وهو مع أصحابه فى صورة رجل يسأله عن الإيمان والإحسان.. فقال جبريل يا رسول الله: «ما الإسلام؟ قال ألّا تشرك بالله(4/35)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان..
قال: صدقت.. ثم قال يا رسول الله: «ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله» قال صدقت.. قال يا رسول الله.. ما الإحسان قال: «أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك....» الحديث كما رواه مسلم.
فالإحسان هو أعلى درجات الإيمان: «أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه براك» .
وتلك منزلة لا ينالها إلا المصطفين من عباد الله. ولهذا ضمهم الله إليه، وجعلهم من أصفائه وأحبابه فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» .
الآية (94) [سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
التفسير: مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنها تعرض للمؤمنين امتحانا يمتحن به إيمانهم، وتختبر به تقواهم، فيما هو من طعامهم، الذي بيّنت لهم حدود ما بين الحلال والحرام منه.. وأنه ليس على هذه الحدود وازع يزع المؤمنين عن الوقوف عندها إلا ما فى قلوبهم من إيمان وتقوى وإحسان.
والمؤمنون المخاطبون هنا هم الذين فى حال إحرامهم بالحج أو العمرة.
والصيد المبتلون به، والممتحنون فيه، هو صيد البر، لا صيد البحر.(4/36)
وقد يراد بالمؤمنين من هم فى البيت الحرام.. ويكون المراد بالصيد ما احتمى بالبيت الحرام من طير، وحوّم فى سمائه.
وقوله تعالى: «تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» أي تطوله وتبلغه أيديكم ورماحكم، أي هو صيد واقع تحت قدرتكم على صيده من غير معاناة، أو بحث عنه، إذ هو قريب دان، يغرى بصيده.
ومعنى الآية: أن الله- سبحانه وتعالى- سيضع المؤمنين موضع امتحان وابتلاء، فى هذا الصيد الذي يدنو منهم، ويعرض لهم، ويقع فى متناول أيديهم، ورماحهم، وهو لائذ بالحرم، ساكن إليه أو هو فى غير هذا الحمى، وهم محرمون بالحج أو العمرة.
وقد حرّم الله على المؤمنين صيد هذا الحيوان المتعرّض لهم، الواقع لأيديهم مباشرة، أو على قيد رمح منهم- وهو لائذ بالحرم، أو هو خارج الحرم وهم محرمون، فمن صاد شيئا من هذا الحيوان، وهو فى حاله تلك، أو هم فى حالهم هذه، فقد أثم، وخان الله على ما أتمنه عليه من أحكام شرعه.
وقوله تعالى: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ» إشارة إلى أن هذا الامتحان هو امتحان لما فى القلوب من إيمان وتقوى وإحسان.. حيث لا وازع يزع الإنسان هنا إلا إيمانه وتقواه.. فلا سلطان يحول بين المؤمن وبين هذا الصيد الذي بين يديه.. فمن غفل فى كيانه وازع إيمانه وتقواه كان له أن ينال من هذا الصيد ما يشاء، وعليه أن يلقى العقاب وأصوله.
ومعنى علم الله هنا، هو العلم المسلط على الواقع بعد أن يقع، أما علمه سبحانه، فهو علم شامل محيط بكل ما كان وما سيكون، وما وقع أو سيقع..(4/37)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
وفى هذا العلم المتسلط على الواقع يؤخذ الإنسان متلبسا بعمله، من خير أو شر، ومن هنا تصح محاسبته، ويكون ثوابه أو عقابه.
وقوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. الإشارة هنا فى «ذلك» واقعة على ما نصبه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين من معالم الهدى، وما رسم لهم من حدود.. فمن اعتدى منهم بعد هذا البيان المبين فلا عذر له، وعليه جزاء المتعدى، وهو العذاب الأليم.
الآيات (95- 96) [سورة المائدة (5) : الآيات 95 الى 96]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
التفسير: ما زالت الآيات، تتحدث إلى المؤمنين، ويناديهم الحق سبحانه وتعالى بهذه الصفة، صفة الإيمان، فيما يشرّع لهم من حدود ما يطعمون من طيبات، وما يتجنبون من خبائث.
وواضح من هذا، عناية الشريعة الإسلامية بهذا الأمر، والتفاتها إليه، والتقاؤها بالمسلمين على كل طريق يكون لهم فيه داع يدعوهم إلى مطعوم أو مشروب.(4/38)
ذلك أن أكثر ما يبتلى به المؤمنون فى دينهم ما كان مورده من جهة طعامهم.. إذ الطعام قوام الحياة، وإليه ينصرف أكثر جهد الإنسان وعمله، فإذا لم يتحرّ الحلال فيما يأكل، لم يتحرّ الحق فيما يعمل ويكسب.. ولهذا أعطى الله سبحانه وتعالى صفة الأكل لكل مال يقع ليد الإنسان من حرام، فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (10: النساء) وقال سبحانه: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» (275: البقرة) وقال: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (188: البقرة) .
من أجل هذا كانت عناية الشريعة تلك العناية البالغة ببيان الحلال والحرام، من طعام الإنسان وشرابه، ليقيم وجهه على ما أحلّ الله له من طيبات. وليعرض عما حرّم عليه من خبائث..
وفى هاتين الآيتين يبيّن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين حكم الصيد، وما لهم منه، وما عليهم فيه، وهم محرمون.
فيقول سبحانه وتعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» والخطاب للمؤمنين، لأنهم أهل لأن يستمعوا لهذا النداء الكريم، وأن يستجيبوا له، وهم متحلّون بهذه الصفة، صفة الإيمان، وإلا فقد آذنوا أنفسهم بأن يتخلّوا عنها، وأن يكونوا من غير جماعة المؤمنين.
والمراد بالصيد المنهي عن صيده هنا، هو صيد البرّ، ويكشف عن هذا المراد قوله تعالى «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ» لأن صيد البحر لا يقتل، وإنما الذي يقتل هو صيد البر، كما يكشف عنه قوله تعالى بعد ذلك: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ(4/39)
وَطَعامُهُ ... »
فهو استثناء وارد على تحريم الصيد، وبهذا يعرف المراد من الصيد المنهي عن صيده، وهو صيد البر.
والنهى عن صيد حيوان البر مقيد بحال الإحرام فقط، أما بعد أن يتحلل المسلم من إحرامه فالصيد مباح له.
وقوله تعالى: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» وهو بيان للكفارة الواجبة، والدية المطلوبة من كل من قتل صيدا متعمدا وهو محرم..
وهذه الدية لا تفى بالمطلوب إلا إذا كانت مثل الحيوان المقتول، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» أي فجزاء القاتل أن يغرم حيوانا مثل هذا الحيوان الذي قتله، إن لم يكن مثله عينا كان مثله قيمة وثمنا.
وقوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» هو بيان للعملية التي يتم بها تقويم الحيوان الذي قتل، وتحديد قيمته.. وذلك يكون بالرجوع إلى رجلين عدلين لهما نظر وخبرة، يحتكم إليهما فى تقدير قيمة هذا الحيوان..
وقوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» هو حال من الضمير فى «به» الذي يعود إلى قوله تعالى: «فَجَزاءٌ» .. أي أن ما يحكم به الحكمان يساق هديا إلى إلى البيت الحرام «بالغ الكعبة» أي مساقا إلى الكعبة.
وقوله تعالى: «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» هو تخيير فيما يجبر به هذا الذنب، ويقع كفارة له.. فالكفارة إما أن تكون هدايا يساق إلى الكعبة أي البيت الحرام، مقدّرا قيمته بقيمة الحيوان الذي قتل، وإما أن يكون بإطعام مساكين بقدر هذه القيمة، وإما بصيام يعدل ما كان يمكن أن يطعم من مساكين، من قيمة هذا الصيد المقتول.
وهل يكون حساب الصوم باعتبار اليوم الواحد مقابلا لإطعام مسكين(4/40)
واحد، كما فى قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ» ، أو أن يكون الحساب قائما على أن يكون صوم كل ثلاثة أيام مقابلا لإطعام عشرة مساكين، كما قوله تعالى: «إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» ؟ وهل يكون الصوم هنا متتابعا متصلا، أو مفرّقا غير متصل؟
والذي عليه أكثر المفسرين والفقهاء أن يكون الصوم يوما واحدا، فى مقابل كل مسكين يمكن أن يطعم من قيمة الحيوان المقتول.
كما أنّ الذي عليه الرأى فى إفراد الصيام أو تتابعه، أن يكون باختيار الصائم، إن شاء أفرد أو إن شاء تابع ووصل.
كذلك اتفق رأى المفسرين والفقهاء على أن قتل الصيد خطأ من المحرم، يلحق بقتله عمدا منه، حيث ثبت عندهم أن السّنة ألحقت قتل الخطأ بالقتل العمد فى هذا المقام.
وأمر آخر.. لم اختلف النظم فى قوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» ؟ ولم لم يكن العطف عطف نسق بين قوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» وبين ما بعده.. «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» ؟ أو بمعنى آخر.. لم كان العطف على القطع، ولم يكن على النسق. مع أن الأمر على التخيير فيها جميعا بحيث يجزىء أىّ منها.. الهدى، أو الإطعام، أو الصيام؟
والجواب على هذا:
أولا: أن تقويم قيمة الصّيد المقتول يكون منظورا فيه إلى حيوان آخر مثله، قيمة وقدرا، وأن ذلك الحيوان هو الأصل فى الموازنة بينه وبين(4/41)
الحيوان المقتول، فكان من الحكمة استحضاره فى تلك الحال، وجعله حالا قائمة فى نظر الحكمين اللذين يرجع إليهما فى الحكم فى هذا الأمر.. وذلك من شأنه أن يجعل الحيوان المقتول، والحيوان المنظور إلى إحلاله محله فى مجال نظر الحكمين، مما يجعل حكمهما أقرب إلى الصحة والسلامة.
وثانيا: تأسيسا على هذا يصبح الحيوان الذي يساق هديا إلى الكعبة أصلا يقاس عليه، عند العدول إلى غيره، مما يساوى قيمته، من إطعام مساكين، أو صيام أيام تعادل ما يطعم من مساكين. ويكون تقدير النظم القرآنى على هذا الوجه «يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو ما يقوم مقامه من إطعام مساكين، أو ما يعدل إطعامهم من صيام. ومن هنا كان القطع لازما، بعد تقرير الحكم، وتقدير الحيوان الذي يحلّ محلّ الصيد المقتول.
وفى قوله تعالى: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ» الفاعل هنا هو المحرم الذي قتل الصيد، والوبال: هو السوء والضرّ، ومنه قولهم طعام وبيل، وماء وبيل، إذا كانا فاسدين لم تسفهما النفس، ومن ذلك قوله تعالى فى فرعون: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» (16: المزمل) .
وفى قوله تعالى: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ» تشنيع على الاعتداء على حرمات الله، وعلى العدوان على من لاذبحماه، ولو كان حيوانا أحل الله ذبحه وأكله، فمن فعل ذلك فقد عرّض نفسه لبلاء شديد يلقاه من عذاب الله.
وتظهر بشاعة هذا الفعل، وشناعته من وجوه:
فأولا: هذه الكفارة التي تقدّم بها قاتل الصيد فى الحرم، أو وهو محرم- هذه الكفارة عن تقديم هدى مثله إلى الكعبة أو إطعام مساكين أو صيام-(4/42)
لم تكن لتغسل هذا الدّم الذي أريق، فمازال عالقا بمن أراقه بعض الإثم، ولهذا جاء التعبير القرآنى- فى أعقاب تقديم هذه القربات- بهذا اللفظ المؤذن بأن تلك القربات كانت ضربا من العقاب والنكال لمن قدمها: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ..» .
وثانيا: أن الشريعة هنا لم تعف القتل الخطأ من إلحاقه بالعمد، وأخذ القاتل خطأ بما أخذ به القاتل عمدا..
وفى ذلك ما يشعر بأن القاتل عمدا هنا أشبه بمن قتل نفسا مؤمنة عمدا، وأنه إذا كان قد أخذ بما أخذ به القاتل خطأ، فذلك من فضل الله ورحمته بعباده..
فالشريعة الإسلامية قد رفعت الإثم عمّا وقع من المسلم خطأ من المنكرات.
ولكنها فى باب الدماء، قد جعلت للخطأ وضعا خاصا، فلم تعف الذي قتل نفسا خطأ من الأخذ بشىء من العقاب، صيانة لدم الإنسان، وتكريما له أن أن يذهب هدرا من غير حساب..
«وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» (91: النساء) وقد ألحق الحيوان اللائذ بحمى الله، بالإنسان.. وفى ذلك ما يوقع فى نفس المسلم كثيرا من التأثم والتحرج لأيّة قطرة دم تراق بغير حقّ، ولو كانت دم حيوان! ثالثا: فى التعبير عن صيد الحيوان «بالقتل» فى قوله تعالى: «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» -- فى هذا ما يشعر بأن عملية الصيد فى هذا الموطن، وفى تلك الحال هى عملية «قتل» .. تلك الكلمة التي تثير فى النفس مشاعر القتل الذي يقع على(4/43)
الإنسان، والذي يكاد يكون لفظا خاصا به.
وإذا ذكرنا أن الأمة العربية- فى جاهليتها- كانت مستخفة بالدماء، مستبيحة لحرماتها، مستهينة بإزهاق الأرواح وإراقة الدماء- إذا عرفنا ذلك- لم نستغرب، ولم ندهش لهذا التدبير الحكيم فى أخذ النّاس بتلك الأحكام فى قتل الحيوان، فى حال ما، وهو الذي أبيح ذبحه وأكله، فى غير هذه الحال، فما كان لمجتمع ألف الولوغ فى دم الإنسان، أن تنتزع منه هذه المشاعر المتحجرة إلا بمثل هذا الأدب السماوي الحكيم.
ثم إن هذا الأدب، لن يبطل حكمه، ولن تفتقد حكمته فى أي مجتمع، وفى أي زمان أو مكان.. فالناس هم الناس، فى عدوان بعضهم على بعض، وفى إراقة بعضهم دم بعض.. وحسب هذه الحروب المشبوبة اليوم، فى كل آفاق الأرض، وما يراق فيها من دماء، وما يزهق فيها من أرواح- شاهدا على أن الناس هم اليوم أشد حاجة إلى هذا الأدب السماوي من حاجة العرب الجاهليين إليه.
وقوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» هو رفع للحرج، وغسل الإثم الذي وقع لبعض المسلمين من قتل الصيد عمدا أو خطأ، قبل أن ينزل هذا الحكم، ويصبح أمرا ملزما، بعد أن بلّغه الرسول، وعرفه المسلمون..
قوله تعالى: «وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» هو وعيد لمن تجاوز الله سبحانه وتعالى له، عما كان منه من هذا الأمر، قبل أن يأتى حكم الله فيه، ثم وقع منه هذا المحظور بعد النهى عنه.. فهو حينئذ معرّض لنقمة الله، واقع تحت عقابه.. «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» لا يفلت من سلطانه أحد «ذُو انْتِقامٍ» يأخذ بمن اعتدى على حرماته، بنقمته، وعذابه.(4/44)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ» هو بيان من الله سبحانه وتعالى، يفرّق به بين حكم صيد البرّ وصيد البحر.. فإذا كان صيد البر قد أقيم عليه هذا الحظر فى حال الإحرام، فإن صيد البحر حلّ مباح، لا حرج على المحرم أن ينال منه ما يشاء، فيصطاده، ويبيعه، ويأكل منه.. «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ» أي والأكل منه.. «مَتاعاً لَكُمْ» أي زادا لكم تتزودن به، وتطعمون منه.. «وَلِلسَّيَّارَةِ» أي وللسائرين الذين ليسوا فى حال إحرام.. أي أن صيد حيوان البحر يستوى فيه المحرم وغير المحرم، حيث لم يكن للإحرام أثر فى هذا النوع مما يصاد من حيوان.
وقوله تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» هو توكيد لحرمة صيد البر فى حال الإحرام، واحتراس من أن يكون رفع الحظر عن صيد البحر مؤذنا يرفع الحظر عن صيد البر، الذي تقرر حكمه من قبل، وفى هذا مزيد عناية بتقرير هذا الحكم الواقع على صيد البر وحراسة له من أن يقع فيه لبس، أو شك، ولو على سبيل الاحتمال البعيد.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» هو حراسة مشدّدة على الحدّ الذي أقامه الله سبحانه وتعالى على حرمة صيد البرّ فى حال الإحرام أو فى الحرم.. وتلك الحراسة هى الخوف من الله، والتحذير من عقابه للخارجين على حدوده، والمعتدين على حرماته..
الآيات (100- 97) [سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)(4/45)
التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أنها تحدّث عن مواطن حرمات الله، التي بينت الآيات السابقة بعضا منها.
وقوله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» .
القيام: التقويم، والإصلاح.
أي أن الله سبحانه وتعالى جعل الكعبة، والبيت الحرام، المقام عليها- جعلها موطن إصلاح وهداية ورشاد للناس، حيث جعلها حرما آمنا، يفيض الأمن منها على كل كائن، من إنسان أو حيوان أو نبات.. بل لقد شمل هذا البلد كله الذي أقيم حول الكعبة، واحتمى بحماها، فكان هذا البلد أيضا حمى لكل من لاذبه، واحتمى فيه، وسكن إليه، استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» .
وقوله: «وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» أي والشهر الحرام كذلك جعله الله ظرف أمن وسلام، وإصلاح لأمر الناس، حيث لا قتال فيه، والمراد بالشهر الحرام، الأشهر الحرم.. ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم ورجب، والتعبير عنها، بالشهر الحرام باعتبارها كيانا واحدا فى حرمة القتال فيها، وإن تفرقت أزمانا، واختلفت أسماء.. فهى بمنزلة شهر واحد.. وفى هذا ما يقيم شعور المسلم على حال واحدة فيها، وألا ينعزل عن هذا الشعور بانتقاله من شهر إلى شهر.. بل إن من الخير له أن يصل بعيدها بقريبها.. فشهر رجب وإن سبق الأشهر الثلاثة بشهرين،(4/46)
وتأخر عنها بستة أشهر، جدير به أن يوصل بها من طرفيه، وبهذا يكون العام كله شهر حرام، لا قتال فيه، وإن كانت الأشهر الحرم قد أفردت بهذا الحكم، فهو حكم واجب فيها، مستحبّ فى غيرها..
قوله تعالى: «وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» معطوف على الشهر الحرام، الذي هو معطوف على الكعبة.. أي أن الحيوان المساق إلى البيت الحرام هديا له، والقلائد التي يقلّدها ويعلّم بها، هى من حرمات الله، التي ينبغى ألا يتعرض لها أحد بأذى أو عدوان، وفى هذا تأديب للناس، وتهذيب لهم، وإصلاح لأمرهم.. حيث يعفّ الإنسان عن الاعتداء على حرمات الناس، إذا هو امتثل أمر الله وكفّ يده عن العدوان على حرماته.. فى رعاية كل حرمة من هذه الحرمات هداية للناس، وتقويم لانحراف المنحرفين منهم، وتدريب لهم على الامتثال والطاعة، ورعاية الحرمات فيما بينهم. وبهذا تكون كل تلك الحرمات:
«الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد» - قياما للناس وتسديدا لسلوكهم فى الحياة.
قوله تعالى: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. الإشارة هنا إلى هذه الحرمات، التي جعلها الله قياما للناس، وإصلاحا لهم.. وقوله تعالى «لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» تعليل للحكمة التي تختفى وراء هذه الحرمات التي بيّن الله سبحانه وتعالى معالمها، وحدد حدودها، وأنها منصوبة للمؤمنين لتكون امتحانا لإيمانهم، وابتلاء لما فى قلوبهم من توقير لله، واحترام لحرماته، وذلك لا يكون إلا لمن آمن بالله، واستيقن من أنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شىء.. فمن لم يؤمن بالله هذا الإيمان(4/47)
لم يقم فى كيانه شعور بمراقبة الله، أو التوقي من العدوان على حرماته، والتعدي على حدوده..
فهذه الحرمات التي نصبها الله لأعين المؤمنين هى تدريب لهم على التعرف على الله، حيث ينتهى بهم الوقوف إزاءها، وتحريم حرماتها إلى العلم بالله، وأنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه بكل شىء عليم..
وإذن فليس ثمرة هذه الحرمات فيما يجنى منها من إشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس، بل إنها- مع هذا- تفتح فى قلب المؤمن طريقا إلى الله، يشهد منه سعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى ما تكن الضمائر، وما تخفى الصدور.
وقوله: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو تعقيب على هذا الحظر الذي أقامه الله تعالى على حرماته، وحذّر الناس من العدوان عليها.. فهناك عقاب شديد راصد لمن اعتدى على حرمات الله.. وهناك غفران ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله من قريب، واستغفر لذنبه، وندم على ما فرط منه.
وقدّم عقاب الله هنا على مغفرته، لأن ذلك فى مواجهة حدود أقامها الله، وحذّر من مجاوزتها والاعتداء عليها، فناسب ذلك أن يجىء العقاب أولا لمن اعتدى على هذه الحدود، ثم تجىء الرحمة والمغفرة لمن أثم وأذنب ثم تاب واستغفر..
وقوله تعالى: «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» هو تنبيه للناس إلى أنه لا سلطان لأحد عليهم فيما يأتون من طاعات، أو يرتكبون من آثام، إلا أنفسهم، وما فى قلوبهم من إيمان، وما فى كيانهم من عزائم.. إذ ليس مع أوامر الله ونواهيه قوى مادية تقهر الناس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وإنما كل ما هنالك، هو دستور سماوى، وقانون إلهى، يحمله رسول من(4/48)
الله إلى عباد الله، ويبيّن لهم ما حمل إليهم من ربّه.. ثم يتركهم لأنفسهم.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ومن شاء فليستقم، ومن شاء فلينحرف:
«ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» وليس من رسالته أن يقهر الناس على الخير الذي يحمله إليهم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) .
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» هو بيان لما بعد البلاغ الذي هو من عمل الرسول.. فهناك بعد أن يبلغ الرسول ما أنزل إليه من ربّه، يتولى الله سبحانه وتعالى مراقبة الناس فيما بلغهم إياه رسوله، واطلاعه سبحانه على ما يكون منهم من طاعة أو عصيان.. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» ..
لا تخفى عليه منكم خافية، «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (40: الرعد) .
وقوله تعالى: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» هو إلفات للناس إلى ما بين الطيب والخبيث، من بعد بعيد. واختلاف شديد، فى الآثار التي تتبع كل منهما، وفى الثمار التي يجنيها الزارعون لهما.. من خير أو شر، ومن طيّب أو خبيث.
فالطيب وإن بدا قليلا فى كمّه، هو كثير فى كيفه.. إنه نبتة من نبّات الحق، يزكو مع الزمن، ويعلو مع الأيام. إنه أشبه بالكلمة الطيبة، والشجرة الطيبة، لا تغرب شمسه، ولا تنقطع موارد الخير منه.. «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (54- 25: إبراهيم) .
والخبيث وإن زها وازدهر، وانداح وامتدّ، هو كثير فى كونه، ضئيل(4/49)
فى قدره.. لا ظلّ له ولا ثمر فيه.. «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» (26: إبراهيم) .
هكذا الطيب والخبيث، فى كل شىء، ومن كل شىء.. فى الناس، وفى الحيوان، والنبات والجماد، وفى المعاني والمحسوسات.. وفى القول وفى العمل..
الطيب حياة دائمة متجددة لا تموت أبدا.. والخبيث موات لا يمسك ماء ولا يطلع نبتا..
فالذين يستخفّون بالطيّب، لضمور شخصه، أو خفوت صوته، أو احتجاب ضوئه- إنما هم مخدوعون فى أبصارهم، مصابون فى بصائرهم، لا يرون من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يعلمون من الأمور إلا قشورها، أما الصميم فهم فى عمّى عنه، وأما اللّباب فهم على جهل به.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (7: الروم) .
وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هو دعوة إلى أصحاب العقول أن يستعملوا عقولهم، وأن يفيدوا منها فى التعرف على الحق والخير، والتعامل مع الطيب والحسن، ففى ذلك يكون الفلاح، ونجاح المسعى.
ودعوة ذوى الألباب إلى التقوى، هى الدعوة المرجوّ لها القبول والنجاح، حيث لا تحصّل التقوى إلا بالعمل الطيب، وحيث لا يتهدّى إلى الطيب، ولا يعمل له، ويتعامل معه، إلا أصحاب العقول السليمة، الذين احترموا عقولهم، وأخذوا بما تكشف لهم بصائرهم من معالم الحق والخير..(4/50)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
الآيات (102- 101) [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن التعرف على الحلال والحرام، والتهدّى إلى تمييز الطيب من الخبيث، يكون عن نظر وتقدير، كما يكون عن مدارسة، ومساءلة لأهل العلم والذكر، كما يقول الله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (7: الأنبياء) .
وقد أشارت الآية السابقة إلى التفرقة بين الخبيث والطيب، وأن الخبيث خسيس لا قيمة له، ولو لبس ثوبا من البريق الزائف الذي يخدع الحمقى والسفهاء..
وكان من هذا أن أكثر المسلمون من التنقيب والبحث، وتقليب الأمور على وجوهها، ليتعرفوا على ما ينكشف منها من طيب أو خبيث، ومن خير أو شر، ومن حق أو باطل.. وقد أغراهم بهذا أن الرسول الكريم قائم فيهم، مقام الشمس فى وضاءتها وامتداد سلطانها على الآفاق، فكانوا يلقونه- صلوات الله وسلامه عليه- بكل عارض يعرض لهم، وبكل شبهة تقع لأبصارهم، فيلقاهم الرسول الكريم بما يجلو الشّبه، ويكشف معالم الطريق إلى الحق والخير..
وقد تجاوز بعض المسلمين هذه الحدود فيما يعنيهم من أمر دينهم أو دنياهم، فجعلوا يسألون عن أمور لم تقع، قد افترضوا وقوعها، واستعجلوا الحكم الشرعي فيها.. وهذا من شأنه أن يجعل الرسول بين أمرين إما أن يجيبهم إلى ما سألوا، وإما أن يدعهم يسألون ولا يجيب.
والأمر الثاني: إن أخذ به الرسول، ووقف عنده، أقام السائلين على قلق،(4/51)
وحيرة، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتشعب بهم الآراء فى كل وجه..
فكان لا بد- والحال كذلك- أن يلقى الرسول كلّ سائل بالجواب عما سأل، قبولا أو ردّا، وموافقة أو مخالفة ...
وإذا علمنا أن القرآن الكريم كان ينزل منجّما، وأن التشريع الإسلامى جاء متدرجا، شيئا فشيئا، وحالا بعد حال، حسب تقدير العزيز العليم، وحكمة الحكيم الخبير، حتى تتأصل أصول الشريعة، وترسخ أحكامها، وتنزل من النفوس منزلة الاطمئنان والقرار..
فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وهى أركان الإسلام، بعد الإيمان بالله- هذه العبادات لم تفرض على المسلمين مرة واحدة.. بل فرض بعضها فى مكة، قبل الهجرة، كالصلاة التي فرضت بعد الإسراء، ثم فرضت الزكاة، والصوم- فى السنة الثانية بعد الهجرة، ثم الحج، الذي كان آخر ما فرض من العبادات!.
- إذا علمنا هذا، كان لنا أن نسأل:
ماذا يكون الأمر لو سأل سائل من المسلمين النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو فى مكة لم يهاجر بعد- عن الزكاة، أو عن الصوم مثلا؟
أكان الجواب بأن الزكاة فرض على المسلمين، أو أن الصوم المفروض عليهم هو صوم رمضان؟
كان لا بد إذن أن ينزل قرآن فى هذا، وأن يعجّل بأمر لم يرد الله تعجيله، لحكمة أرادها، ولتقدير قدره.
إذن، فإن من الخير للمسلمين أن يسكتوا عما سكتت السريعة عنه، إلى(4/52)
أن تقول كلمتها فيه، أو تدعه فلا تقول شيئا عنه.. وفى هذا وذاك خير للمسلمين، ورحمة بهم، وإحسان إليهم.
ولهذا جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» والأشياء المنهىّ عن السؤال عنها ليست الأشياء جميعها على إطلاقها، وإنما هى الأشياء التي يترتب على إقرار الشريعة لها، وأخذ المسلمين بها إضافة تكاليف وأعباء، كتحريم أمر كان غير محرم، وحظر طعام كان مباحا.. ونحو هذا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» أي إن انكشف لكم حكم الشريعة فيها ساءكم، وشق عليكم، وأعنتكم..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ذرونى ما تركتكم.. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه» .
واستمع إلى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ... » (25 محمد) ..
فقد سأل المسلمون النبىّ أن تنزل عليهم كلمة الله فى القتال، وحكمة فيه، فلما نزلت سورة محكمة، أي جلية واضحة، لا تحتمل تأويلا، وجاء أمر القتال فيها واجبا ملزما- ساء ذلك كثيرا من النفوس، وثقل عليها احتماله، أما الذين احتملوه فاحتملوه على جهد ومشقة..
واستمع بعد ذلك إلى قوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ(4/53)
الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ»
(77: النساء) فالذى كان مطلوبا أولا من المسلمين أن يكفّوا أيديهم عن الإثم والعدوان وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.. وكان ذلك أول الإسلام، وعلى الخطوات الأولى من مسيرة المسلمين فيه.. ثم كان بعد ذلك أن فرض الله عليهم القتال، فرضه عليهم بعد أن قطع بهم على طريق الإسلام تلك المرحلة التي دربوا فيها على الطاعات، وتوثقت فيها صلتهم بالله فماذا كان بعد أن كتب عليهم القتال؟ لقد تمنى كثير منهم ألا يكون هذا الحكم فريضة واجبة عليهم.. لقد ضاقت به نفوس، ووجفت منه قلوب..
فكيف كان الحال لو أن الأمر بالقتال جاءهم ابتداء، فكان فرضا لازما من أول يوم الإسلام؟
كان من الخير إذن للمسلمين ألا يسألوا عن مثل هذه الأشياء، وألا يفتحوا على أنفسهم أبوابا من الأعباء، سدّها الله دونهم، وعافاهم مما يجيئهم منها من تكاليف وواجبات.. لا عن نسيان منه، سبحانه، وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، ولكن كان ذلك رحمة وفضلا وإحسانا..
يقول الرسول الكريم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تصيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها» .. وفى الحديث، أنه لما نزلت آية الحج، نادى النبي صلّى الله عليه وسلم فى الناس فقال: «أيها الناس.. إن الله قد كتب عليكم الحج فحجّوا» فقالوا يا رسول الله: أعاما واحدا أم كل عام؟(4/54)
فقال: «لا، بل عاما واحدا، ولو قلت كلّ عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم!» أي لم تستطيعوا الوفاء بما فرض عليكم، وفى هذا مخالفة لحكم من أحكام الله، وتضييع لفريضة من فرائضه، وذلك هو كفر بالله.
وقوله تعالى: «وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ» .
المراد بقوله تعالى: «حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ» أي حين تجىء آيات الله فى الوقت المقدور لنزولها، بما تنزل به من أحكام، حتى يتم نزول القرآن الكريم كله.. فإن بقي فى نفوسهم شىء بعدها سألوا عنه.. وفى هذا إشارة إلى أن أحكام الشريعة كانت تتنزل بقدر مقدور لها، وبتوقيت محدد لنزولها..
فإذا جاء القرآن بحكم من الأحكام، كان السؤال مطلوبا من المسلمين عما خفى عليهم من هذا الحكم الذي جاء به، على أن يكون ذلك موقوفا به عند حدود الحكم، وفى بيان محتواه..
أما مجاوزة هذه الحدود فهى مما نهى عنه. وهى من التنطع والتكلف الذي لا يجرّ وراءه إلا الحسرة والندم، كهذا السؤال الذي سئله الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وهو يدعو الناس إلى أداء فريضة الحج.. فقد كان أمر الرسول واضحا محددا، وكذلك ما نزل به القرآن فى أمر الحج «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» فالسؤال بعد هذا عن الحج، وهل هو كل عام، أو مرة واحدة- فيه تكلف لا مبرر له، ولا حاجة إليه.
وقوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْها» الضمير هنا يعود إلى تلك الأشياء التي كانت مباحة للمسلمين فى أول الإسلام، ثم جاء الإسلام، فى زمن متراخ فحرمها عليهم.. كالخمر، والربا، والزواج من زوجات الأبناء من الأصلاب وكثير غير هذا، مما حرمته الشريعة، من أمور كان يأتيها الجاهليون وجرى عليها المسلمون فى أول الإسلام..(4/55)
فهذه الأشياء قد عفا الله عنها، فلا يؤاخذهم عليها، وإن كانوا قد فعلوها وهم مسلمون، إذ لم يكن قد جاء حكم الشريعة فيها..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» إشارة إلى أنّ فى مغفرته ما يسع هذه المنكرات التي أتاها المسلمون، وهم مسلمون، ووجدوا فى أنفسهم حرجا منها، وضيقا بها، وإن كانوا لم يتلقوا حكم- الله فيها..
فهذه مغفرة الله تدفع عنهم هذا الحرج، وتذهب بما فى صدورهم من ضيق..
وهذا حلم الله يأخذهم بالأناة واللطف، فيما يشرّع لهم من أحكام.. إنه- سبحانه- يقبلهم مسلمين بما كانوا عليه، وبما فعلوه مما لم ينههم عنه من قبل..
فليرفقوا بأنفسهم، ولا يعجلوا بالسؤال عن حلّ هذا الشيء أو حرمته، حتى يأتيهم أمر الله فيه..
وقوله تعالى: «قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ» .
الضمير فى «سألها» يعود إلى تلك الأشياء التي لم تقل الشريعة قولا فيها، بحلّ أو حرمة.
والقوم هنا، هم بنو إسرائيل..
والمعنى أن بنى إسرائيل سألوا رسلهم عن كثير من أمور لم يأتهم الرسل بحكم الله فيها، فلما جاءهم الحكم فيما سألوا عنه، كفروا به، ولم يمتثلوا حكم الله فيه.
وما كان أغناهم عن أن يسكتوا.. ولكن القوم بما ركّب فيهم من لجاج وعناد وخلاف، لا يدعون لرسول من رسل الله فيهم، سبيلا، إلا أخذوه عليه، يسألون ويلحفون فى السؤال، فى كل صغير وكبير، وقريب وبعيد! ثم ما كان أولاهم إذا لم يسكتوا أن يتقبلوا جواب ما سألوه عنه، وأن ينزلوا على مقرراته، ويقفوا عند حدوده.. ولكنهم لم يسألوا ليهتدوا من ضلال، وليبصروا من عمى، ولكن كانت أسئلتهم مماراة، ومماحكة، وإعناتا!(4/56)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
الآيات (104- 103) [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
التفسير: البحيرة: الناقة التي بحرت أذنها أي شقت ليكون ذلك معلما لها وكان الجاهليون يفعلون ذلك بالناقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا.. فيشقّون أذنها، ويحرمون ركوبها، وأكل لحمها، والتعرض لها إذا وردت ماء أو كلأ.
والسائبة: وهى الناقة التي تسيّب، وتترك، وفاء لنذر ينذره صاحبها، إذا برأ من علة، أو نجا من مهلكة: أو سلم من قتال.. مثلا.
والوصيلة: وهى من الغنم، وذلك أن الشاة كانت إذا ولدت ولدا ذكرا جعلوه لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى جعلوها لهم، وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم..!
والحامى: هو الذكر من الإبل، إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا كلأ..
وهذه الآية كأنها جواب لسؤال كان من الأسئلة التي تتوارد على خواطر المسلمين، حين نهوا عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، وأن يدعوا السؤال عن تلك الأشياء التي تدور فى خواطرهم، أو تتحرك على شفاههم، حتى(4/57)
ينزل القرآن، أي حتى يتمّ نزوله، فإن بقي فى أنفسهم شىء لم يبينه القرآن لهم، كان لهم أن يسألوا.
فقوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ» هو بيان لحكم شرعىّ، جاء فى مرحلة متأخرة من حياة الدعوة الإسلامية، وقد عاش المسلمون زمنا وهم متلبسون بهذه الأشياء، لم ينكروها على من أخذ بها منهم، إذ لم يكن قد جاء حكم شرعىّ فيها بعد..
فهذه السوائم، قد عقد العرب فى جاهليتهم معها روابط وصلات، أشبه بالعهود والمواثيق.. قد ألزموا أنفسهم حيالها أمورا اتخذت صبغة عقائدية، لا يمكن أن يتحلّلوا منها..
فإذا ولدت الناقة كذا، أو الشاة كذا، أو علق من الفحل كذا وكذا من النّوق.. أو نحو هذا- كان أمرا لازما أن يمضى الرجل منهم ما جرت به تلك العادة التي اعتادوها، فإن لم يمضها توقّع أن يحلّ به البلاء، وتنزل به المكاره، فى نفسه، أو ولده وأهله، أو ماله.. كأنّ قوى خفيّة وراء هذه السوائم، تقتصّ لها، وتأخذ بحقها ممن نقض ميثاقه معها.. وهذا مدخل كبير من مداخل الشرك بالله، وذريعة من الذرائع المؤدية إليه.
وقوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ.. الآية» نفى لهذه المعتقدات السيئة القائمة بين الناس، وأنها لم تكن مما شرع الله، ولكنها ممّا ولدته الأهواء المضلّة، وأملته العقول المظلمة.. وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بيان لموقع هذه المنكرات من الحق، وأنها أبعد ما تكون منه، إذ هى من مفتريات الكافرين وأباطيلهم، يضيفونها كذبا إلى الله، وينسبونها زورا إلى دينه.. «وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .(4/58)
وقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» هو كشف لحقيقة هؤلاء الكافرين، وما فى أيديهم من مفتريات وأباطيل.. فإن أكثر هؤلاء الضالين لا يعقلون، لأنهم لو عقلوا لما حملوا فى نفوسهم هذا التوقير لتلك الأباطيل، ولرأوا أنهم قد أذلّوا أنفسهم، واسترخصوا عقولهم، فأعطوا ولاءهم لتلك الحيوانات، وجعلوا لها سلطانا عليهم، لا ينازعونها فيه، ولا يخرجون عن حدوده معها.
وقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» .. هو تسفيه لأحلام هؤلاء الضالين.. فقد أطبق عليهم الجهل، واشتمل عليهم السّفه والضلال. فليس مصيبة الإنسان فى أن يضلّ عن جهل، أو يتعثّر من عشى أو عمى، ولكن المصيبة كلها فى أن ينبّه من ضلاله ثم لا ينتبه، ويقاد من يده فيأبى أن يتبع قائده.. إن ذلك هو الضلال المبين، والتّيه الذي لا عودة منه، ولا أمل فى نجاة وراءه.
فهؤلاء الضالون إذا دعاهم داعى الحق إلى أن يردّوا من شرودهم، وإلى أن يعودوا إلى كتاب الله، وما تحمل آياته البينات من هدى ونور، وإلى رسول الله، وما يحمل بين يديه وعلى شفتيه من أقباس الحق وأضوائه- إذا دعوا إلى هذا الهدى، لوّوا رءوسهم، ولووا وجوههم، وقالوا «حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا» أي أن هذا الذي نحن فيه هو الخير لنا، والسلامة لأنفسنا ولأهلينا.. إننا نحيا حياة آبائنا، ونسعى سعيهم، ونقفو آثارهم.. إننا- والحال كذلك- نسير على طريق معلوم، مأنوس بخطو آبائنا وأجدادنا، فكيف ندعى إلى السّير فى طريق لم يسلكه أحد قبلنا؟ وكيف نغامر هذه المغامرة بالدخول فى تلك التجربة الجديدة، التي لا ندرى ما وراءها؟.
وقد ردّ القرآن الكريم على هذا السفه، وهذا الجمود الغبيّ، بما يفحم ويخرس. «أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون؟» .. أفهذا منطق(4/59)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يأخذون به أنفسهم؟ وتلك حجة يقيمونها بين يدى ضلالهم وغيّهم؟ إنه لو أخذت الحياة بهذا المنطق، وقبلت هذه الحجة، لكان على الناس أن يمسكوا بالزمن أن يتحرك، وبالأشياء أن تظل على حال واحدة، لا تتحول عنها أبدا.
ولكن أنّى للناس أن يفعلوا هذا؟ وأنّى للحياة أن تستجيب لهم لو أرادوا؟
إن الحياة وأشياءها فى تحول وتطور.. وفى كل لحظة تلبس الحياة ثوبا جديدا، وتبلى قديما.. وهكذا تبلى وتجدّد: وتخلع وتلبس..
وماذا يبقى للإنسان من عقله، بل ماذا يبقى له من وجوده، إذا لم يكن له حرية التحرك فى الحياة، والنظر فى كل جديد يطلع عليه منها، ثم الأخذ بما يقضى به العقل المتحرر من قيود التقاليد، ممّا يراه حقا وخيرا؟ وإنه لبالغ من ذلك ما فيه خيره وسعادته، إذ لا يغيب عن نظر العاقل وجه الخير، ولا تخفى عليه سمته.. فالحلال بين والحرام بيّن.. «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ» (19- 22: فاطر) «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» (12: فاطر) .
الآية (105) [سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
التفسير: وإذا كان الحلال بيّنا والحرام بيّنا، وإذ قد دعى الضالون، إلى الهدى، فلم يسمعوا، ونودوا من قريب إلى الرشاد فلم يرشدوا. «وقالوا حسبنا(4/60)
ما وجدنا عليه آباءنا» - إذ كان ذلك فلا يشغل المؤمنون أنفسهم بهم، ولا يقفوا طويلا معهم على هذا المرعى الوبيل، الذي يرعون فيه، فلربما غفل المؤمنون عن أنفسهم وهم على هذا الموقف، وفاتهم ما كان ينبغى أن يحصلوه لأنفسهم من خير..
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» دعوة للمؤمنين أن يلتفتوا إلى أنفسهم أولا، وأن يعملوا على تحصينها من مسارب الضلال، وتزويدها بالمزيد من البر والتقوى.. فإنهم إن أنقذوا أنفسهم أولا كان ذلك كسبا لهم، وللحياة الإنسانية.. وذلك ما ينبغى أن يكون موضع نظرهم، ومحل اهتمامهم أولا، فإن بقي عندهم بعد هذا فضل من قوة لاستنقاذ من إذا مدوا إليه أيديهم استجاب لهم، فعلوا، وإلا كان عليهم أن ينجوا بأنفسهم، وألّا يكونوا كمن يمد يده إلى غريق يأبى إلا أن يموت غرقا، فيهلك ويهلك من أعطاه يده.
وهذا، لا يمنع المؤمن أن يكون رسول خير وهدى إلى الناس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، فهذا من دعوة الإسلام له، ومن حق العباد عليه.
ولكن لن يكون ذلك بالذي يذهله عن نفسه، ويشغله عن مطلوبها منه، فى تحصيل ما يقدر عليه من البر والتقوى.
فالآية لا تعنى أبدا أن يعتزل المسلم الناس، وأن يعيش لنفسه وفى داخل نفسه، ومن فهمها على هذا الوجه فقد أخطأ الفهم، وجانب الصواب..
وإنما الآية دعوة إلى النّجاة بالنفس فى الحال التي يواجه الإنسان فيها سرّا صارحا، وضلالا، متكاثفا، بحيث لا يصل إلى الآذان صدى من كلمة حق تقال، ولا ينفذ إلى العيون لمعة من مصباح هدى يضىء..
روى أن أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال(4/61)
صلوات الله وسلامه عليه: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحّا مطاعا، وهوى متّبعا، وإعجاب كلّ ذى رأى برأيه، فعليك بخويصة نفسك، ودع الناس وعوامّهم» ..
وتجد فى قول الرسول الكريم، وفى تلك الكلمات الموجزة، أوضح بيان وأبلغ بلاغ فى الدلالة على مفهوم الآية الكريمة..
ففى قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر» هكذا بخطاب الجمع، هو دعوة عامة للمسلمين جميعا، أن يكون أمرهم بينهم قائما على هذا الدستور: الائتمار بالمعروف، والتناهى عن المنكر..
وفى قوله صلوات الله وسلامه عليه: «حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة وشحّا مطاعا وهوى متّبعا، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخويصّة نفسك ودع الناس وعوامهم» . فى هذا بيان لموقف آخر من موقف المسلم فيما هو مطلوب منه، من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفى كلمة «حتى» إشارة إلى تلك الغاية التي يصل إليها المسلم، ويقف عندها على النظر إلى خاصة نفسه، وذلك حين يستشرى الفساد، ويطبق الظلام، ويتلفت إلى الناس من حوله، فإذا هم على طريق وإذا هو على طريق.. ولهذا جاء الخطاب بلفظ المفرد، «حتى إذا رأيت» الذي يشعر بأنه يقف وحده، جبهة مواجهة لهذا البلاء لجارف، الذي إن لم يأخذ فيه لنفسه حذرها، جرفه التيار، وغرق مع المغرقين.(4/62)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
الآيات: (106- 108) [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
التفسير: هذه الآيات الثلاث تعرض لأمر كان يقع كثيرا فى حياة المسلمين وهم على سفر، لغزو أو تجارة، وبمنقطع عن أهليهم وذوى قرابتهم.. فيمرض أحدهم، ويجد ريح الموت دانية منه، وبين يديه مال أو متاع، يريد أن يصل إلى ولده وأهله..
تلك هى المشكلة التي عرضت لها هذه الآيات، وجاءت لتضع العلاج السليم لها، حتى تصل الحقوق إلى أهلها، وحتى يموت الميت وهو مطمئن إلى أنه لن يعتدى على ماله، وهو لا يملك أن يدفع هذا الاعتداء، وقد أصبح فى عالم الموتى! والملاحظ فى هذه الآيات أنها جاءت على نظم خاص، وأسلوب يكاد يكون فريدا فى القرآن الكريم..
فقد كثر فيها الخروج على مألوف النظم القرآنى، خروجا متعمّدا..(4/63)
فهناك تقديم وتأخير.. بحيث تبدو الجمل، وكأنما يدفع بعضها بعضا، ليزيله عن موضعه قسرا..
وهناك جمل اعتراضية، تكاد تعزل المبتدأ عن خبره، والفعل عن فاعله.. بحيث لا يهتدى إلى الجمع بينهما إلا بعد نظر دقيق، وبحث شامل..
وهناك ضمائر يتجاذبها أكثر من عائد يريدها أن تعود إليه، وتلتقى به..
ثم هناك هذا العسر الشديد فى التقاط الكلمات، وشدّها إلى اللسان، وجمعها عليه..
هذا وذاك كلّه، مما يجعلنا نقف بين يدى هذه الآيات، ونملأ العين والقلب من بعض ما يفيض من أضوائها، لعلّنا نمسك بشىء من الحكمة فى قيام بنائها على هذه الصورة الفريدة فى النظم القرآنى! ونقرأ الآيات مرة ومرة، فإذا هى كعهدنا بها تتأبّى على اللسان، وتكاد تمسك به..
ثم نعود فنقرؤها قرآنا مرتلا، ونجيئها مستصحبين قوله تعالى: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» ، فإذا هى كلمات متناغمة، يأنس بعضها إلى بعض، ويتجاوب بعضها مع بعض، وإذا هى على اللسان ليّنة المسّ، عذبة المذاق، وإذا هى على الأذن لحن موسيقى، علوىّ النغم، يهزّ القلب، ويمسك بمجامعه! وننظر فى وجه الآيات مرة أخرى، فإذا هى مسفرة مشرقة، تتلألأ بأضواء الحكمة والموعظة الحسنة، وإذا بنا منها بين يدى دعوة قاهرة، وسلطان غالب، يلزمنا أن نقف عند حدوده، ويمسكنا أن نفلت من بين يديه، إذا نحن حاولنا ذلك، واستجبنا لداعى أنفسنا للإفلات منه..
ونسأل: ما حكمة هذا التدبير فى النظم الذي جاءت عليه تلك الآيات؟(4/64)
ولم هذا الخروج الذي جاء عن عمد، على غير المألوف من النظم القرآنى؟
والجواب:
أولا: أن هذه الآيات تضبط حالا من أحوال الناس، تقع على صورة غير مألوفة لما تجرى عليه حياتهم، فى الغالب الأعمّ منها..
فالناس أكثر ما يموتون، يموتون وهم بين أهليهم، وذوى قرابتهم..
حيث يجد من يحضره الموت منهم، الوجوه التي ألفها، وعاش معها، وأودعها سرّه وما ملكت يمينه.. فلا يجد- والحال هذه- من الوحشة للموت، أو الفزع منه، والخوف الكارب من الضياع له، ولماله ومتاعه الذي بين يديه، ما يجده ذلك الذي يموت غريبا، فى طريق سفر، أو دار غربة..
ومن هنا جاءت كلمات الآية متزاحمة، متراكبة، أشبه بتلك الحال القلقة المضطربة، المستولية على هذا الغريب الذي يحضره الموت، وفى صدره كثير من الأسرار، يريد أن يفضى بها إلى أهله، ويكشف مستورها لهم.
هذه واحدة! وثانيا: الذين حضروا هذا الميت الغريب، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة من الحياة، قد شهدوا منه هذا الاضطراب المستولى عليه، وتلك الوحشة التي تمسك لسانه، وتردّ الأسرار التي تضطرب فى صدره.. ثم إذ هم يطلّون عليه بنظرات حزينة، مواسية، يرى أنهم أهل لأن يفضى لهم ببعض ما عنده.. إذ كان ما لا بد أن يكون..
وهنا شدّ وجذب، وأخذ وعطاء، وخواطر متناثرة، وكلمات حذرة قلقة، ملفّفّة فى دخان من الريبة والشك، وأسرار تمشى على استحياء، يعرّف بعضها ويعرض عن يعض..
ومن هنا أمسك النظم القرآنى بهذه المشاعر المختلطة المضطربة، وعرضها(4/65)
فى هذه الصورة، التي تكاد تكون وعاء حاملا لتلك المشاعر، بحيث ترى وتحسّ.
وتلك أخرى..
وثالثا: هذا المتاع الذي بين يدى هذا الإنسان المحتضر.. إنه متعلق بأكثر من جهة.. فهناك صاحب هذا المتاع الذي يريده أن يبلغ أهله، وهو فى شك من أن يصل إليهم سالما.. وهناك الشاهدان اللذان أشهدهما المحتضر على وصيّته، ووضع فى أيديهما كل ما فى يده.. إنهما يحملان أمانة ليس وراءها من يطالبهم بها، إلا ما معهما من إيمان وتقوى.. وما أكثر وساوس النفس فى تلك الحال، وما أكثر نداءها الصارخ لاغتيال هذا المال الذي غاب عنه صاحبه.. إن لم يكن كله، فالخيار الكريم منه.
وهناك ورثة صاحب هذا المال، ومن أوصى لهم بشىء منه.. إنهم مهما حرص الشاهدان على أداء الأمانة كاملة فيما اؤتمنا عليه، ومهما تحرّيا الصدق فى قولهما، وفيما أدى إليهما هذا الميت من اعترافات وأسرار وأموال- فلن يقع هذا كله من أهل الميت موقع اليقين والطمأنينة..
من أجل هذا أيضا كان تنازع الكلمات القرآنية فيما بينها، حتى لكأنها هذه الجهات المتنازعة المتخاصمة، فى مسارب نفوسها، وفى مجرى خواطرها، حتى وإن لم يتخذ هذا النزاع وذلك التخاصم صورة عملية فى واقع الحياة..!
وقد آن لنا- بعد هذا- أن ننظر فى معنى هذه الآيات، على هذا الوجه الذي فهمناها عليه، ونظرنا إليها منه..
فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ.» هو تشريع للمؤمنين، فيما يواجهون به موقفا كهذا(4/66)
الموقف، وهو موت أحدهم، وهو يضرب فى الأرض، بعيدا عن أهله، وذوى قرابته.
ففى تلك الحال ينبغى أن يتخيّر المحتضر شاهدين، يتوسم فيها الأمانة والاستقامة، ثم يدعوهما إليه، ويفضى إليهما بما يريد أن يوصى به أهله فيما خلّفه وراءه من شون تتصل بماله وأهله، وماله، وما عليه.. ثم يسلّم إليهما ما يريد أن يحملاه إلى أهله، من ماله ومتاعه.
فقوله تعالى: «شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» مبتدأ، خبره «اثنان» . والجملة الخبرية هنا مراد بها الأمر والإلزام.. والتقدير، إذا حضر أحدكم الموت فشهادة قائمة بينكم لهذا المحتضر، يشهدها اثنان ذوا عدل منكم.. أي من المؤمنين.
«أو آخران من غيركم» أي غير المؤمنين، عند الضرورة.
وقوله تعالى: «فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» إشارة إلى أن هذا الموت الذي يقع فى الغرية هو شىء أكثر من الموت، لما يبعث من حسرة مضاعفة.. فى المحتضر الذي لم يشهده أهله، وفى أهله الذين لم يحضروا موته، ولم يؤدّوا ما يجب للميت على الحىّ.. ومن هنا جاء التعبير عن الموت بالمصيبة، الذي هو فى واقعه شىء طبيعى، فى غير تلك الحال التي وقع فيها.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» .
فإذا أدّى الشاهدان ما حمّلهما الميت إلى أهله، من قول، ومن مال ومتاع، ورضى أهله بما أدّى إليهما الشاهدان، فقد انتهى الأمر عند هذا الحدّ، ولا متعلّق لأحد عند هذين الشاهدين.
أما إذا وقع فى نفس الورثة وأولياء الميت شىء من الريبة والشك، فيما(4/67)
جاءهم به الشاهدان من عند صاحبهم، ثم ارتقى هذا الشك والارتياب إلى التهمة، ثم النزاع والخصام، فإن للقضية وجها آخر.. بل وجهين آخرين:
والوجه الأول، هو أن يدعى الشاهدان إلى الحلف على ما أشهدهما عليه الميت، وما حملهما من مال ومتاع..
وحلف الشاهدين مشروط بشرط، وهو أن يدعيا بعد الصلاة مباشرة، وهما خارجان من بين يدى الله، قبل أن يتلبّسا بشىء من أمور الدنيا، وذلك ليكون لهذا الموقف أثره فى إقامة شهادتهما على الحق والعدل، أو على ما هو أقرب إلى الحق والعدل..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» .
فحبسهما من بعد الصلاة، هو إمساكهما قبل أن يتّصلا بالحياة العامة، ويباشرا شئونا مختلفة فيها.. حتى يكونا أقرب إلى الخير، وأبعد من الضلال.
وقد اختلف فى الصلاة التي يحبسان بعدها، أهي صلاة العصر، أو صلاة الظهر؟ ..
والرأى، أنها أي صلاة، حيث أطلق القرآن ذلك، ولم يقيده.
وقوله تعالى: «إِنِ ارْتَبْتُمْ» هو جملة اعتراضية، أريد بها بيان الحال الدّاعية إلى حلف الشاهدين، وهى الشك والريبة فى شهادتهما..
وقوله تعالى: «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» هو بيان لنصّ الحلفة التي يحلف بها الشاهدان.. وفيها من التوكيد والتحذير والتخويف، ما يجعل لهذه الحلفة أثرا واقعا فى نفس الشاهدين..(4/68)
والضمير فى قوله تعالى «به» يعود إلى هذا القسم الذي يقسمان به، وأنهما لا يحنثان فى هذا القسم، ولا يبيعانه بهذا الثمن وإن كثر، لأنه حطام من حطام الدنيا، لا يساوى شيئا إزاء جلال الله وعظمته، وقد أقسما به، وأشهداه على ما يقولان.
هذا، وقد أثار بعض الفقهاء والمفسرين اعتراضا على حلف الشاهدين..
وأنهما حين ردّ ورثة الميت شهادتهما، أصبحا متهمين بالنسبة لهم، على حين أصبح أهل الميت أصحاب دعوى عليهما.. وإذ لم يكن لأهل الميت بينة على دعواهم، كان على المدعى عليهما الحلف، عملا بالمبدأ الشرعي: «البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر» . فهما على هذا الرأى متهمان، وليسا شاهدين.
فإذا وجد أهل الميت مقنعا بعد حلف الشاهدين، انتهى الأمر، وإلا سارت القضية إلى الوجه الآخر من وجهيها..
وفى هذا الوجه يندب أهل الميت اثنين منهما، فيشهدان بما يعلمان من أمر الميت، مما لم يشهد به الشاهدان من قبل..
على أنه لا يصار إلى هذا الموقف إلا بعد أن يثبت بالبيّنة القاطعة، والبرهان الواضح، أن الشاهدين لم يقولا الحق، ولم يؤدّيا الأمانة.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» .
والمعنى: فإن ظهر، أو تبين أن الشاهدين قد اقترفا إثما بسبب تلك الشهادة التي أدّياها على غير وجهها، فليقم آخران مقامهما بتلك الشهادة، من أهل الميت الدين فرض عليهم الشاهدان السابقان، واللذان كانا أولى منهم بالحكم فى(4/69)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
شئون قريبهم الميت، لأنهما شاهدان، رأيا، وسمعا، على حين أن أهله غائبون عنه، لم يروا ولم يسمعوا..
وفى قوله تعالى: «فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ» تحريض للشاهدين على أن يؤدّيا الشهادة على وجهها، وأنهما بما احتملا من أمانة الشهادة، أصبحا بهذه المنزلة من الميت، وأنهما أقرب من قرابته وأولى منهم بكلمة الفصل فى شئونه، ولكنهما إذا خانا الأمانة، ولم يؤديا الشهادة على وجهها، زحزحا عن هذا الموقف، وانتقلا من منصّة الحكم، إلى موقف الاتهام.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» .. أي فى هذا التدبير الحكيم بإقامة شاهدين من أولياء الميت مقام هذين الشاهدين، عند العثور على خيانتهما- فى هذا ما يدعوهما إلى الحرص على أداء الشهادة، أقرب ما تكون إلى الحق، إن لم يكن ذلك عن ديانة وإيمان، كان عن خوف من الفضيحة والاتهام والخزي أمام الناس.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» هو دعوة للشاهدين، ولأولياء الميت، ثم لكل مؤمن، بتقوى الله، والامتثال لأمره ونهيه، فمن خرج عن شريعة الله، فهو فى ضلال دائم، لا يهتدى إلى خير أبدا.. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» (35: الرعد) .
الآية: (109) [سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)(4/70)
التفسير: الظرف فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» أي أن الله لا يهدى الفاسقين، إلى رضوانه، ونعيم جناته، يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل..
وسؤال الرسل يوم القيامة، يكون فى مواجهة من أرسلوا إليهم، ومن دانوا بشريعتهم، حيث يقول الله تعالى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (5: الأعراف) .
وفى هذا الجمع بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم، وفى هذه المساءلة فى مواجهتهم، تحذير من هذا الموقف، الذي يجزى فيه من وقف من رسل الله موقف المحادّة والعناد، حيث لا يجد الضالّون والمعاندون ما يقولونه، وحيث لا يكون قول الرسل فيهم إلا وبالا عليهم، وخزيا وفضحا لهم..
وقوله تعالى: «ماذا أُجِبْتُمْ» أي ماذا أجبتم به ممن دعوتموهم إلى الإيمان؟ وهل استجابوا أم أبوا؟ ومن استجاب منهم ومن أبى؟
وفى قوله تعالى: «قالُوا لا عِلْمَ لَنا» وفى التعبير بلفظ الماضي عن إجابتهم، ما يشير إلى أن ذلك هو قول الرسل دائما، إذا سئلوا من قبل الله عن شىء! إن علمهم بهذا الشيء لا يعتبر علما إلى علم الله، الذي يعلم الشيء ظاهرا وباطنا، وحقيقة وكونا.
وقوله تعالى: «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .. الغيوب جمع غيب، وهو بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى شىء واحد، واقع تحت علمه، أما بالنسبة للرسل وغيرهم، فهو غيب وغيوب.(4/71)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
الآية: (110- 111) [سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
التفسير: يوم يجمع الله الرسل، يوم القيامة، ويسألهم الحقّ سبحانه وتعالى: «ماذا أُجِبْتُمْ» - فى هذا اليوم يستدعى سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بين يديه، ويذكره بأفضاله ونعمه، وما أجرى على يديه من معجزات..
وفى إلفات عيسى، عليه السلام، إلى هذه النعم، وفى تذكيره بالمعجزات التي طلع بها على بنى إسرائيل- فى هذا تسفيه لبنى إسرائيل، السابقين منهم واللاحقين، إذ كفروا بتلك المعجزات الناطقة، التي لا ينكرها إلا مكابر ومعاند، ولا يمارى فيها إلا غوىّ ضال، أحمق جهول.
فقد كان كلام عيسى فى المهد، وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى، وبعثهم من القبور- كان هذا، بل بعض هذا جديرا به أن يبعث الطمأنينة والإيمان، فى قلب أي إنسان له مسكة من عقل، أو أثارة من إدراك، حيث يرى وليدا يخرج من رحم أمه ليومه، ينطق بلسان مبين، ومنطق مستقيم، وهو مع هذا لا يملك من أمر نفسه شيئا، إذ هو مازال فى صورة الوليد ليومه.. فى كل شىء، إلا هذا اللسان الذي نطق به..!(4/72)
فمن أنطقه؟ ومن أعطاه تلك الكلمات البيّنات؟ ومن منح لسانه هذه القدرة على النطق بها فصيحة مبينة؟ أليس ذلك برهانا مبينا على أن ما نطق به هذا الوليد، هو إشارة إلى أنه آية من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، تشهد بأنه رسول من الله رب العالمين؟
وإذا لم يكن فى هذا النطق آية متحدّية، يشهدها بنو إسرائيل، أفلم يكن إحياؤه الموتى، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وخلقه من الطين طيرا.. أفلم يكن فى هذه الآيات المتظاهرة ما يقيم لبنى إسرائيل طريقا إلى الإيمان بهذا الإنسان الذي أجرى الله على يديه تلك المعجزات، وإلى أنه رسول الله، يحمل إليهم كلمات الله وآياته؟
وبأى شىء يؤمن الناس إذا لم يؤمنوا بتلك الشموس الطالعة، لا يحجبها سحاب أو ضباب؟ وبأى داع يدعوهم الله سبحانه إليه، إن لم يكن فى هذا الداعي مقنعا لهم، وهاديا يهديهم إلى الله؟
إنه ليس بعد هذا إلا أن يروا الله جهرة..!
وقد فعلها بنو إسرائيل من قبل، فقالوا لموسى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55: البقرة) .
ألا ما أشدّ غباء القوم، وما أقسى قلوبهم، وما أنكد حظهم من البصيرة والأبصار! «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (44: المائدة) .
هذا، وقد توسعنا فى معنى هذه المعجزات فى الآيات الواردة فى سورة آل عمران (48- 50: آل عمران) .. فليرجع إليها من شاء.
وفى قوله تعالى: «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» إشارة إلى ما أبطل الله سبحانه(4/73)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
وتعالى به مكر بنى إسرائيل، حين مكروا بعيسى، وأرادوا صلبه، مدّعين عليه كذبا وبهتانا أنه ساحر مشعوذ، يدّعى على الله كذبا أنه «المسيح» ، فنجّاه الله منهم، وأوقعهم فى سوء أعمالهم، وكتب عليهم عقوبة دم نبىّ، أيقنوا أنهم قتلوه: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (56: النساء) .
وقوله: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» معطوف على قوله تعالى: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» وما بعده.. أي واذكر يا عيسى من نعمتى عليك أنى أوحيت إلى الحواريين وألهمتهم أن يتبعوك، ويكونوا أنصارا لك، وقوة إلى جوارك، فى مواجهة القوى الضالّة من بنى إسرائيل.. فآمن هؤلاء الحواريون بك، وصدّقوك، وكانوا ردءا لك، وأنسا لو حشتك فى هذا الظلام الكثيف المنعقد حولك.
والحواريون: جمع حوارىّ، والحوارى: هو الناصر والمعين على الخير، وأصله اللّباب من كل شىء، ومنه الحوارى، وهو لباب الدقيق.
الآيات: (112- 115) [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)(4/74)
التفسير: وقع بين المفسرين اختلاف شديد فى مائدة بنى إسرائيل هذه، وفى الحواريّين الذين طلبوا هذا الطلب..
فأنكر بعضهم أن يكون من الحواريين هذا الطلب المتحدّى، الأمر الذي لا يكون إلا من إنسان لم يؤمن بالله.. وكيف وهم قد دعاهم الله إليه فاستجابوا من غير تردد، وتبعوا المسيح، وساروا مسيرته خطوة خطوة، كأنهم بعض ظلّه على الأرض؟
وقد كان للمنكرين على الحواريين أن يكون منهم هذا الطلب، تأويلان لهذا الاعتراض..
التأويل الأول: أن هؤلاء الحواريين، لم يكونوا مؤمنين إيمانا صادقا، وأنهم حين دعوا إلى الإيمان فقالوا «آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» - لم يكن هذا القول إلا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم فلا يستغرب منهم- وهذا إيمانهم- أن يطلبوا هذا الطلب، الذي لا يكون ممن آمن بالله إيمانا صادقا! وهذا التأويل فاسد، ظاهر الفساد.
فالحواريون مدعوّون من الله، ملهمون إلى الإيمان به.. فكيف يكون إيمانهم على تلك الصفة الهزيلة المنافقة؟
إن من يدعى من الله هذه الدعوة، ويلهم هذا الإلهام إلى الإيمان به، لا بدّ أن يكون أشدّ الناس إيمانا، وأوثقهم يقينا واطمئنانا. وإن غير ذلك هو اتهام لله، ولعلمه، وقدرته..
ولقد كان الحواريون على إيمان وثيق بالله، أقرب إلى إيمان أنبياء الله ورسله، كما يشهد لذلك قول الله تعالى فيهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ(4/75)
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ... »
(14: الصفّ) .. فهم القدوة فى وثاقة الإيمان، وفى نصرة دين الله. ونصرة رسول الله.. ولهذا دعا الله المؤمنين أن يكونوا أنصار الله ورسول الله «محمد» صلوات الله وسلامه عليه.. كما كان هؤلاء الحواريون أنصار الله، وأنصار رسول الله عيسى، عليه السلام.
فكيف يلتقى هذا القول بنفاقهم وضعف إيمانهم مع هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى فيهم؟ إن مثل ذلك القول فى الحواريين هو تكذيب صريح لكلام الله! أما التأويل الآخر لهذا الطلب الذي كان من الحواريين بإنزال مائدة من السماء عليهم، فقد اعتمد فيه القائلون به، على قراءة من قرأ قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» على هذا الوجه: «هل تستطيع ربّك» أي هل تستطيع أنت يا عيسى أن تطلب من ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء.. فتكون الاستطاعة هنا مضافة إلى عيسى عليه السلام، لا إلى الله سبحانه وتعالى..
وعلى هذا، فإنه لا بأس من أن يطلب الحواريّون إلى عيسى هذا الطلب، ويراودوه عليه! وهذا تأويل مقبول على هذه القراءة..
ولكن ما تأويل طلب الحواريين على القراءة المشهورة: «هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء» ؟
نقول- والله أعلم- إن الاستطاعة هنا لا يراد بها القدرة على إجابة الطلب، وإنما المراد بها الرضا والقبول له، بمعنى: هل يرضى ربّك، أو يقبل ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟
فهذا أمر لم تجر به العادة، ولم يقع فى حياة الناس.. والحواريون إذ يطلبون(4/76)
هذا الطلب الغريب، لا يتوقعون استجابته، وإنما كان طلبهم له من قبيل الاستطراد للمعجزات الخارقة، التي كانت تقع تحت حواسّهم، من إحياء الموتى، وخلق طير من الطين، وبعث الحياة فيه، وإبراء الأكمه والأبرص.. فماذا لو طلبوا هذا الطلب الغريب؟ هل يقبله الله؟ وهل يجيبهم إليه؟ إنهم لا يشكّون فى قدرة الله، ولكنهم يشكون فى أن يستجاب لهم فيما طلبوا.. ومن هنا أخذ هذا الطلب صورة الاستدعاء بالقدرة والاستطاعة.. لا بالإضافة إلى من طلب إليه، ولكن بالنسبة لمن طلب له..
كمن يقول لمن هو أعلى منه منزلة: هل تستطيع أن تعطينى هذا الكتاب الذي معك؟ إنه لا شك مستطيع، إذ لا شىء يمسكه عن ذلك.. ولكن الأمر متروك لتقديره هو.. وهل يرى هذا الشخص مستحقا لهذه المكرمة أو غير مستحق لها؟
وليس فى قول الحواريين: «هل يستطيع ربّك» إنكار لربوبية الله لهم، ولكنه استصغار لشأنهم، وإخفاء لذاتهم، وهم يطلبون هذا الطلب، الذي لا يصح أن يكون طالبه من الله إلا إنسانا له عنده من المنزلة مثل ما لعيسى عليه السلام، فهو ربّه الذي أفاض عليه هذه المكرمات، وهو ربّه الذي يطلب منه هذه المكرمة.. ولهذا أضافوا عيسى إلى الربّ، ولم يضيفوا هم أنفسهم إليه، استصغارا لمكانهم فى هذا المقام.
وفى قول عيسى عليه السلام للحواريين: «اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تأديب لهم، ودعوة إلى ما هو أولى بالمؤمنين أن يكونوه مع الله، كما يقول السيد المسيح فى بعض تعاليمه: «لا تجرّب الربّ إلهك» .. فذلك هو الكمال كلّه، والإيمان كلّه.
ولكن- كما قلنا- للمؤمنين المقربين إلى الله، المشاهدين لعظمة جلاله، المحفوفين بخفىّ ألطافه- لهؤلاء المؤمنين أنس بروح الله، وانتشاء بنسائم قربه،(4/77)
وأنفاس مودته، وذلك ممّا يحملهم على هذا الدّلال فى طلب ما لا يطلب الناس، ولا يطمعون فيه..
وفى إبراهيم عليه السلام مثل لهذا.. فقد طلب من الله- سبحانه- أن يريه كيف يحيى الموتى! وقد أجابه مولاه- كرما ولطفا- إلى ما طلب..
وكذلك ما كان من موسى- عليه السلام- حيث طلب أكثر من هذا، فقال: «ربّ أرنى أنظر إليك» ! وموسى يعلم يقينا أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرى، إذ لو رؤى لتحدّد، ولو تحدّد لتحيّز، ولو تحيّز لكان مخلوقا.. لا خالقا! وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ومع هذا فقد طلب موسى هذا الطلب، الذي لا تدركه الأبصار.. فكان جواب الحق جلّ وعلا: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي.. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً.. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ.. تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (142: الأعراف) .
فمثل هذا الطلب من الحواريين، لا يدلّ بحال على ضعف إيمان، أو شك فى الله، ولكنه طلب المزيد من الإيمان، والرضوان من الله! ولهذا كان جوابهم على عيسى عليه السلام: «نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين» فهم يريدون المائدة لأمور.. منها:
أولا: أن يأكلوا منها.. فهى فى هذا لا تختلف كثيرا عن المنّ والسّلوى الذي أطعمه الله سبحانه وتعالى آباءهم، حين نجّاهم من فرعون على يد موسى..
فلما كفروا بهذه النعم لعنهم الله، وضرب عليهم الذلة والمسكنة.
وثانيا: أن تطمئن قلوبهم إلى رحمة الله بهم، وألطافه عليهم، باستجابة طلبهم.. وفى هذا ما يفتح لهم إلي الله طريقا يرون منه إشارات السماء(4/78)
بحواسّهم، بعد أن أدركوها بعقولهم.. وهذا ما يبعث فى قلوبهم الطمأنينة التي تثبّت الإيمان، فلا يهتزّ لعارض يعرض له من ريبة أو شك.
وثالثا: أن يزداد علمهم بصدق عيسى، وبصدق هذه الآيات التي تجرى على يديه، فلا يطوف بأنفسهم منها طائف من الشك والوسوسة، التي كان يثيرها اليهود حولها.
ورابعا: أن تكون هذه المائدة المنزلة من السماء شهادة بين أيديهم فى دعوتهم الناس إلى الإيمان.. إذ كانوا ممن طعموا منها، ومثل هذا الطعام السماوي لا بدّ أن يترك آثارا فيمن طعم منه.. وربما كانت آثاره مادية ومعنوية معا، يراها الناس ظاهرة عليهم، فيكون منها شهادة للحواريين، أنهم ممن لبسوا تلك النعمة الإلهية، وفى هذا ما يجعل القلوب مطمئنة إليهم، وإلى ما يدعون إليه.
وأمر آخر من تلك المائدة، أثار اختلافا بين المفسّرين، حتى لقد رأى بعضهم أن المائدة لم تنزل، وأن الحواريين حين سمعوا قول الله تعالى: «إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» قالوا: لا حاجة لنا.. فلم تنزل عليهم!! وهذا قول مردود، ورأى فاسد.. وذلك:
أولا: أن عيسى عليه السلام، دعا ربّه، وضرع إليه، أن ينزّل هذه المائدة، كما طلبها الحواريون ولم يكتف بهذا، بل لقد جعل لطلبها أسبابا ومبررات من عنده، حتى لكأن هذا الطلب كان منه ابتداء، لما حمّل هذا الطلب من ثمرات طيبة تجىء معه، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه: «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»(4/79)
أفبعد هذا لا يستجيب الله لعيسى بن مريم، ولا يحقق له ما دعا به إليه؟
إن عيسى يقول: «اللهمّ ربّنا أنزل علينا» ولم يقل عليهم.. ويقول:
«تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا» ولم يقل: تكون لهم عيدا لأولهم وآخرهم» وقال «وارزقنا» ولم يقل: وارزقهم..
فهى عيد وبهجة ومسرّة للمسيح، ولمن يطعم من تلك المائدة من أتباعه.
ثم هى آية من آيات الله وشاهد من شهود قدرته وجلاله.
وهى رزق كريم طيب.. وليست لعنة، ولا عقوبة..
وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى استجاب لعيسى، فقال سبحانه: «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» .. وفى هذا: أن القائل ليس أيّ قائل، بل هو الله سبحانه وتعالى.. «قالَ اللَّهُ» .. وأنه سبحانه قد حكم هذا الحكم القاطع المؤكد:
«إنى منزلها عليكم» .. هكذا: «إنى منزّلها عليكم» .. وذلك التوكيد.
ليرفع أىّ احتمال للشك عند أقلّ المؤمنين إيمانا بالله، بأن المائدة لم تنزل.
فكيف يقع لعقل عاقل أن كلمة الله لا تنفذ، وأن قضاءه لا يمضى؟
ولا ندرى كيف نظر شيخ المفسّرين «الطبري» إلى هذه الآية، ولا كيف طوّع له قلمه أن يجعل لهذا الرأى مكانا فى تفسيره؟
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» إنما هو حراسة لهذه النعمة العظيمة، من أن يعبث بها العابثون، أو يلحد بها الملحدون.. إنها شمس طالعة فى وجه صبح مشرق.. فمن عمى عنها، ولم يهتد بها، فهو فى حرب سافرة مع الله.. لا جزاء له إلا أن يلقى أشد العذاب! وليس فى هذا تهديد للحواريين، ولا وعيد لما سيكون منهم من كفر(4/80)
بهذه الآية، ومكر بها.. بل هو استبعاد لأن يقع شىء من هذا منهم، وإن جاز أن يقع من غيرهم.. وأنه لو جاز أن يكفر أحد من الحواريين بهذه الآية فإنه سيلقى هذا العذاب.. فكيف يكون العذاب لمن كفر من غيرهم؟ وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى مخاطبة من يستبعد منهم فعل منكر، ليكون ذلك تخويفا لغيرهم، وزجرا لهم عن إتيان هذا الإثم..
يقول تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) .
ويقول سبحانه وتعالى مشيرا إليه صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (44- 47: الحاقة) .
والنبي الكريم أبعد من أن يطوف به طائف من الشرك، وأبعد من أن يتقوّل على الله قولا.. إن ذلك كان أمرا مستحيلا بالنسبة لذاته الكريمة.. ولكنّ المقام مقام تحريم الشرك والتشنيع عليه، فناسب أن يبرز فى تلك الصورة المفزعة التي تحبط كل عمل، ولو كان نبيّا كريما من أنبياء الله، ورسولا مجتبى من رسله.. فكيف غير النبىّ وغير الرسول! وكذلك الأمر فى التقول على الله والافتراء عليه.
وفى قوله تعالى على لسان السيد المسيح: «تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» أي ينال منها، ويسعد بها كلّ من اتبعه، وآمن به، واجتمع إليه، لا الحواريون وحدهم الذين كان منهم هذا الطلب ابتداء- فهى رحمة منزلة من السماء، ونعمة محمولة على جناح الرحمة، ينال منها كل من صدّق بصاحب هذه الدعوة، واتبع سبيله، من أقرب المقربين إليه، إلى من هم أبعد منهم صلة به.(4/81)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
الآيات: (116- 118) [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 118]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
التفسير: قوله تعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» معطوف على ما قبله مما عطف على قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» ..
فهذه المساءلة لعيسى من الله تعالى، تكون يوم القيامة.. يوم يجمع الله الرسل..
وفى قوله تعالى: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إنما يراد به إقامة الحجة على أتباعه، الذين غيّروا معالم رسالته، وقلبوا حقائقها، واتخذوا من المسيح وأمه إلهين.. المسيح ابن الله، وأمه مريم زوجا لله! وفى خطاب المسيح بقوله تعالى: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» إشارة إلى الصفة(4/82)
التي هى له ولأمه.. فهو ابن مريم لا ابن الله، وأمّه أمة من إماء الله، لها ولد كما للنساء أولاد.
وفى سؤال المسيح: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخذ اعترافه وإقراره على هؤلاء الذين ألبسوه وأمه هذا الثوب الإلهى، وعبدوهما من دون الله.
وفى هذا الإقرار خزى بعد خزى وإذلال بعد إذلال لهم، حيث يكشف المسيح عن وجهه ووجهه أمّه أمام هؤلاء الذين ضلّوا، ورأوا فيه وفى أمّه غير الحق..
ويواجه المسيح هؤلاء الذين كفروا بالله، وجعلوا المسيح وأمه إلهين- يواجههم بما يخزيهم ويبهتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وندما: «سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» والذي ليس لى بحق هو أنى لست إلها ولا ابن إله، والذي هو لى بحق أنى عبد الله ورسوله.. فإن كنت قلت ما ليس لى بحق فقد علمته، وعلىّ تبعة هذا القول المنكر العظيم.. إن يكن قد كان منىّ..
وفى قوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» توكيد لما بين المسيح وبين الألوهية من بعد بعيد.. فلو أنه كان إلها لعلم ما يعلم الله، ولكنه لا يعلم حتى ما اشتملت عليه ذاته، وسكن فى كيانه.. أمّا الله سبحانه فهو يعلم كل شىء.. لا يعزب عنه مثقال ذرّة فى السموات ولا فى الأرض..
هذا وسنعرض لألوهية المسيح، ودعوى الذين يدعونها له فى مبحث خاص، بعد ختام هذه السورة..
وفى جواب المسيح: «ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» إشارة إلى أن المسيح مأمور، وأنه لا يقول شيئا من عنده، وإنما هو(4/83)
رسول يبلغ ما أمره به ربّه، وقد بلّغ رسالة ربّه، كما أمره بها: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» .. فالمسيح عبد لله، كما أنهم عبيد له.. ومن كان عبدا لله فليس له إلى الألوهية سبيل.
وقوله: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» هو توكيد لبراءة عيسى مما تقوّله عليه أتباعه، وأنه كان عليهم شهيدا مدّة وجوده معهم، يقوّم انحرافهم، ويصحح معتقدهم، فلما قبضه الله إليه، انقطع اتصاله بهم، وبما أحدثوا بعده من هذه المعتقدات الفاسدة فيه، وفى أمّه.. وأنه إذا كان المسيح لم يعلم شيئا مما أحدثوا من بعده، فذلك ما لا يغيب عن علم الله، فقد علمه الله منهم، وأحصاه عليهم، وهاهم أولاء بين يديه يلقون جزاء ما صنعوا..
والشهيد: من يرى ما يقع فى محيط حواسه.. مما يدانيه ويختلط به..
والرقيب: من يرى من مكان عال، وهو المرقب، حيث ينكشف له ما لا ينكشف لغيره..
ولهذا كان التعبير فى جانب المسيح، بالشهيد، والتعبير فى جانب الله، بالرقيب.. وهذا تمثيل، ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى.
ثم كان من تمام هذا التمثيل قوله: «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» أي تطلع على كل شىء قريب وبعيد، ظاهر وخفى، اطلاع شهادة وحضور.
وقوله: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هو تفويض لله سبحانه وتعالى للقضاء فى أمر هؤلاء، الذين حملوا أوزارهم على ظهورهم، وأحاطت بهم خطيئتهم..
فإلى الله سبحانه وتعالى أمرهم، لا شفاعة لأحد فيهم.(4/84)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وصنعة يديك، وربائب نعمتك، وغرس فضلك.. وليس لأحد أن يشارك المالك فى تصرفه فيما ملك.
«وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» لا يسألك أحد لم غفرت لهؤلاء العصاة الظالمين.. فما غفرانك لهم عن عجز أو قصور أن تنالهم يدك، ويأخذهم عقابك، وإنما هو حلم الحليم، وحكمة الحكيم.. فعن قدرة عفا وغفر، وعن حكمة كان هذا العفو وتلك المغفرة..
سمع أعرابى قارئا يقرأ: «إن تعذبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم» فأنكر ما سمع، وقال ما هذا كلام الله، إذ ينقض آخره أوله.. فأعاد القارئ قراءة الآية على وجهها: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» فقال الأعرابى: نعم هذا كلام الله..
عزّ فحكم، فإن شاء عفا وغفر!!
(الآيتان: 119- 120) [سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
التفسير: هذا ختام الموقف، وتلك كلمة الفصل من رب العزة جلّ وعلا، فى مجمع الرسل والأمم يوم القيامة..
ففى هذا اليوم العظيم يجد الصادقون الذين أخلصوا دينهم لله، ولم يحرّفوا ولم يبدلوا فى دين الله- يجدون عاقبة هذا الصدق، مغفرة ورحمة ورضوانا فى جنات(4/85)
تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. لا يتحولون عنها، ولا ينتقلون إلا من نعيم إلى نعيم فيها.
«رضى الله عنهم» بما كان منهم من صدق فى القول والعمل، «ورضوا عنه» بما أحسن إليهم من جزاء، وأفاض عليهم من نعيم.. و «ذلك هو الفوز العظيم» الذي تعدل اللحظة منه عمر الدنيا كلها، وما لقى المنعّمون فيها من نعيم، وما ذاق السعداء فيها من طعوم السعادة. فكل هذا، لا يعدّ شيئا إلى نظرة رضى من الله إلى من رضى الله عنهم، جعلنا الله منهم وأدخلنا فى زمرتهم، وأرضانا بما أرضاهم، بما تبلغه بنا سوابغ رحمته، وتؤهلنا له أمداد مننه وأفضاله.
وفى قوله تعالى «وَرَضُوا عَنْهُ» لفتة كريمة من ربّ كريم، إلى عباده المكرمين، حيث يرضى عنهم وبرضون عنه، حتى لكأنه رضى متبادل بين الخالق والمخلوقين، والمعبود والعابدين، فسبحانه من ربّ كريم، برّ رحيم..
شاهت وجوه من يتجهون إلى وجه غير وجهه، وخسئ وخسر من يلوذون بجناب غير جنابه. ويطوفون بحمى غير حماه.
وقوله سبحانه: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» قولة حق ينطق بها الوجود كله فى هذا اليوم، ويشهد تصريفها الناس عيانا فى هذا اليوم المشهود، حيث تخشع الوجوه للحىّ القيوم، وتخفت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وحيث تذلّ جباه الجبابرة، وتغبر وجوه الظالمين، وحيث ينادى منادى الحق: «لمن الملك اليوم؟» فإذا رجع هذا النداء، هو هذا الوجود كله لسان بسبّح بكلمة الحق: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» .(4/86)
مبحث فى المسيح الإله والمسيح الإنسان
نعرض فى هذا البحث قضية الألوهية، التي ادّعاها المدّعون للمسيح، وآمنوا عليها، وأقاموا لها منطقا استساغوه، وغذّوا منه مشاعرهم، وترضّوا به عواطفهم..
وسبيلنا فى عرض هذه القضية، هى أن نلقاها لقاء بعيدا عن النصوص الدينية، التي يقيمها أصحاب هذه الدعوى شاهدا على ما يدّعون، وبمنأى كذلك عن النصوص الدينية التي جاء بها القرآن الكريم لدحض هذه الدعوى.
وإسقاط كل حجة لمدعيها.
ذلك لأن تعارض هذه النصوص حول تلك القضية فى جانبى الإثبات والنفي، لا يتيح لمن يقف موقفا محايدا من هذه القضية سبيلا إلى الحكم فيها، إذا هو أخذ بتلك النصوص المتعارضة، وجعل لها عنده الاحترام والولاء، الذي يمسكها عليه أصحابها. من طرفى الخصومة فى هذه القضية..
إذن، فالعقل، والعقل وحده هو الحكومة التي يرجع إليها للقضاء فى هذه القضية، أولا.. ثم إذا كان للنصوص الدينية بعد هذا التقاء مع العقل والمنطق أخذ بها كشاهد يؤيد العقل ويزكّى منطقه، وإلّا انفرد العقل بالحكم الذي يطمئن إليه، ويعيش معه فى تلك القضية على وفاق ووئام، وبهذا يحتفظ الإنسان بوحدته، فلا يكون شعوره الديني فى ناحية، واتجاهه العقلي فى ناحية أخرى.. فذلك أشأم بلاء يبتلى به الإنسان فى مسيرة الحياة.(4/87)
العقل فى مواجهة المسيح:
وإن العقل إذ يواجه المسيح، فإنما يواجه منه شخصية تاريخية، لها وجود مادى محقق، رآها الناس رأى العين، كما يرون أنفسهم.. فالمسيح هو «يسوع» الذي ولد فى قرية الناصرة من مقاطعة الجليل، بأرض اليهودية، من بلاد الشام، وأمه «مريم» ، وأبوه الذي ولد على فراشه، ونسب إليه، هو «يوسف» .. وكان مولده إبان حكم الرومان لبلاد الشام فى السنة الثالثة أو الرابعة أو السابعة قبل الميلاد، على خلاف فى تحديد السنة التي ولد فيها.
والتاريخ يتحدث عن «يسوع» أنه ولد ميلادا طبيعيا، حملت به أمّه مدة الحمل المعتاد للناس، فاحتواه رحمها تسعة أشهر، وأرضعته من ثدبيها، وكفلته كفالة الأمهات لأطفالهن. ثم كان له صبى، وشباب، وكهولة، وطريق فى الحياة يسلكه، ورسالة يقوم عليها، وأنه فى سبيل هذه الرسالة- شأنه شأن أصحاب الرسالات- قد دخل فى صراع مع القائمين فى طريقه، والمتصدين لرسالته، حتى انتهى به الأمر إلى الموت صلبا! هذا هو مجمل الصورة التي تقع لعينى من يطالع حياة يسوع «المسيح» ويقرأ ما سطر التاريخ من سيرته! إنه إنسان قبل كل شىء، وفى كل شىء؟ لم تفكر أمّه التي امتزج دمها بدمه، ولحمها بلحمه، وخالطت روحها روحه، وأنفاسه، لم تنكر شيئا من أمره، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات من أبنائهن، وإن كانت مخايل النبل، والطهر والحكمة تفوحان من أردانه! إنه بكرها، وواحد من أولادها، الذين استقبلتهم بعده «1» ! .. ولو أنها
__________
(1) كان للمسيح إخوة من أمّه «مريم» ومن زوجها يوسف بن هالى، كما تحدث بذلك الأناجيل، بقول صريح قاطع.(4/88)
رأت فيه شيئا لم تعرفه الأمهات فى أبنائهن لأنكرته، أو لأنكرت نفسها، ثم لكانت منها نفرة من الاتصال برجلها «يوسف» ومعاودة الحمل والولادة! فهو- أي عيسى- إن يكن إلها فقد ولدته، ولا يعقل أن تلد إلها أو آلهة غيره.. وإن يكن خلقا آخر، غير الإله، وغير البشر. فلن تطاوعها نفسها على الدخول فى تجربة جديدة، تلد بها أعجوبة أخرى! ولكنها إذ لم تنكر من وليدها «يسوع» شيئا، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات فى أطفالهن، مضت فى طريقها، طريق الأمومة، الذي تسلكه الأمهات! واتصلت برجلها «يوسف» فولدت منه بنين وبنات!! أين يضع العقل المسيح؟
والعقل إذ يواجه المسيح، وإذ يلقاه على هذا الوجه الذي عرفته الحياة منه، وسجله التاريخ له- لا يمكن أن يخرجه عن دائرة البشرية، أو يعزله عن عالم الإنسان..
والمسألة هنا هى: أين يأخذ المسيح مكانه من الناس، وأين المكان الذي ينزله العقل فيه؟
وهنا نرى «المسيح» يأخذ أوضاعا مختلفة، وينزل منازل متباينة..
حسب وزن العقول له، وتقديرها لشخصيته، وحسابها لمقومات تلك الشخصية! وإذن فلا نستبعد أن نرى «المسيح» يأخذ مكان القمة من الإنسانية، كما لا نستغرب إذا رأيناه ينزله منزلة الحضيض فيها.. ففى هذا الفراغ الهائل، بين السطح والقاع، يتحرك الناس، وفيه يتقلّبون، بحيث يملأ بهم هذا الفراغ كلّه! والمسيح- فى هذه النظرة- واحد من آحاد الناس، وللناس أن ينزلوه(4/89)
فيهم بالمكان الذي يرونه.. صعودا، ونزولا.. مغالين، أو مقتصدين، أو ظالمين.. دون أن يخرج فى هذا كلّه عن دائرة الإنسانية، أو يتعدّى حدودها! فكل قول يقال فى «المسيح» ، مما يقع فى محيط الإنسانية، يمكن أن يوضع موضع البحث والنظر، وأن يعتبر فى معرض القبول والتسليم.. فإذا قال فيه قوم إنه نبىّ أو صدّيق.. لم يكن هذا القول مستحيلا.. إذ فى الناس الأنبياء والصدّيقون! وإذا قال قوم إنه فارس مغوار، أو فيلسوف عظيم، أو عالم كبير..
لم يكن هذا القول مستحيلا أيضا، إذ فى الناس الفرسان والفلاسفة والعلماء! وإذا قال قوم إنه مشعوذ محتال.. لم يكن هذا القول مستحيلا كذلك، لأن فى الناس المشعوذين والمحتالين! وهكذا كل قول يقال فيه، مدحا أو ذمّا، مما هو واقع فى عالم البشر، لم يكن مستحيلا، ولا مستغربا.. والبحث، والنظر، هو الذي يكشف عن صدق أو كذب كل ما يقال فيه، ويمخض ما فيه من حق أو باطل..
ماذا عن المسيح الله؟
فإذا جاء إلى الناس من يقول لهم: إن «يسوع» هذا الذي رأيتموه أو سمعتم أخباره، والذي عرفتم من أمره أنه لم يكن إلا بشرا سويا.. فى هيأته وملامحه، وفى طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وفرحه وحزنه، ورضاه، وسخطه، وفى كل ما تعرفون من شئونكم، وما تتقلّبون فيه من حياتكم- «يسوع» هذا، هو الله رب العالمين! عاش تلك الفترة المحدودة من الزمان وفى هذا الوضع المحدود من المكان فى مسلاخ الإنسان «يسوع» وفى جسده..
ثم ترك هذا الجلد، وزايل ذلك الجسد، وارتفع إلى ملكوته- نقول إذا(4/90)
جاء أحد يقول للناس هذا القول، فى شأن المسيح، أو فى أي إنسان غيره من الناس على طول الإنسانية وعرضها، فبأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول، وبأى عقول يلقونه؟
ولنذكر أننا بمعزل عن مقولات الكتب المقدسة فى أمر «المسيح» وأننا إنما نواجه «المسيح» من خارج الدائرة العقيدية، وأننا إنما ننظر إليه كظاهرة إنسانية، كان لها فى حياة الناس- ولا يزال- دور كبير، دارت وتدور حوله شئون لهم وشئون! ..
ونعيد سؤالنا مرة أخرى: بأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول الذي يقال فى المسيح الإله، وبأى عقول يلقونه؟
ولا نتكلّف لهذا السؤال جوابا، فالجواب حاضر، نأخذه من فم التاريخ الذي يحدّث عن أعداد كثيرة من الناس قد لبسوا أثواب الآلهة، أو ألبسوا هذه الأثواب.. ويحدث التاريخ- قبل المسيح وبعده- أن الناس انخدعوا لهذه الآلهة، وآمنوا بها، وأنزلوها من قلوبهم وعقولهم منزلة الإله الذي يؤمن به المؤمنون بالله! ففى مصر، والهند، وفارس، وفى بلاد اليونان والرومان، دان الناس أحقابا طويلة للالهة البشرية.. من فراعنة، وقياصرة وأباطرة، وهراقلة، وعبدوهم عبادة المؤمنين لله رب العالمين.. ولا زالت بقايا هذه الظاهرة باقية ممتدة فى القرن العشرين إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كان امبراطور اليابان «الإله» المعبود من دون الله، فى أمة بلغت من الحضارة والمدنية حظّا كاد يجعلها على رأس العالم المتحضر فى هذا العصر! وفى التاريخ الإسلامى ادّعى المدعون ألوهية «علىّ» رضى الله.. وكادت تكون فتنة، لولا أن صدمتها العقيدة الإسلامية صدمة قاتلة، بيد «علىّ» نفسه، الذي أرادوا أن يلبسوه ثوب الإله.!(4/91)
ويحدث التاريخ الإسلامى أيضا أن «المقنّع» الخراسانى، - واسمه عطاء- كان صاحب فرقة من فرق الشيعة، وكان مشعوذا، قد بلغ به الأمر أن ادعى الألوهية لنفسه، وكان لا يسفر عن وجهه، وقد اصطنع لذلك وجها من ذهب، تقنع به، فسمى المقنع.. وكانت له شعوذات خدع بها الأغرار من الناس، فتبعه خلق كثير، مما وراء النهر، وآمنوا بألوهيته، وكادت تكون فتنة.
«ولما اشتهر أمره ثاروا عليه، وقصدوه الناس فى قلعته التي اعتصم بها، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما، فمتن منه، ثم تناول شربة من ذلك السم فمات أيضا، وذلك فى سنة ثلاث وستين ومئة هجرية «1» » .
ويحدّث التاريخ الإسلامى كذلك عن بعض الفرق المنحرفة من الشيعة، وعن تأليههم للخليفة الحاكم بأمر الله، الذي لا زالت بقايا هذه الفرقة المارقة تتعبد له، فى جهات منعزلة من بلاد الشام! وليس ببعيد خبر «سليمان المرشد» الذي ظهر فى بلاد الشام منذ سنوات وادّعى الألوهية، ووجد فى الناس من يستجيب له ويؤمن به! وتستند دعوى الألوهية لإنسان من الناس على قوة غيبية احتوت هذا الإنسان الإلهى، أو احتواها هو.. وبهذه القوة الغيبيّة المقدسة فيه، صار فوق مستوى الناس، ونزل منازل الآلهة! وقد كان الناس قبل عصر العلم التجربي، يفتحون آذانهم وعقولهم وقلوبهم للقوى الغيبية هذه، ويتشوّفون إليها، فيما وراء المادة، وكانت حياتهم موصوله بها، مشدودة إليها.. فإذا جاءهم من يحمل إليهم- إن صدقا وإن كذبا- خبرا من تلقائها، أو حديثا من عندها، وجد من يصغى إليه، ويلهث جريّا
__________
(1) وفيات الأعيان، لابن خلكان: جزء أول ص 402. [.....](4/92)
وراءه! وبهذا الشعور خلق الفنانون الأساطير، ونسجوا الخرافات، التي كانت المورد الذي تتزاحم عليه الإنسانية، وتروى منه أشواقها ومواجدها، وتغذّى به آمالها وأحلامها..
وإذ طلع عصر العلم التجريبى على الناس واستقامت العقول على منطق التجربة، وحكم الواقع المادىّ- لم يعد للقوى الغيبية هذا السلطان المتسلط على العقول والقلوب، ولم يعد فى الناس من تستهويه هذه القوى، أو تحمله على الوقوف طويلا عندها.. فإن يكن للناس مع هذه القوى وقفة فى هذا العصر، فهى وقفة اللاهي العابث، الذي يلتمس التخفف من ضغوط المادة، وثقل الواقع..
ثم لا يلبث أن يأخذ طريقه إلى عالم المادة والواقع، الذي يتقلب فيه، ويتعامل معه! ولهذا، فإن أي لباس يلبسه الإنسان اليوم غير جلده البشرىّ، وثوبه الإنسانى، لا يمكن أن يحجب أعين الناس عن حقيقته، أو أن يخيّل إليهم منه أنه غير إنسان!! فقد يلبس الناس على المسارح جلود الحيوانات، وأثواب الشياطين، والجن والآلهة.. ثم هم مع هذا فى أعين المتفرجين أناس كسائر الناس.. وأن هذه الأثواب، وتلك الأصباغ أشياء مستعارة.. لا تغير ولا تبدّل من الحقيقة الواقعة شيئا.
ولا يخرج الحال بأولئك الذين يدّعون لأنفسهم، أو يدّعى لهم أنهم من طينة غير طينة الناس، ومن جلود غير جلود الناس- لا يخرج بهم الحال عن تلك الصّور المتغايرة التي يلبسها الممثلون والمهرجون! إن الناس قد استقلّوا اليوم بعالمهم الأرضى، وأجلوا عنه كل قوى غيبية كانت تعيش مع أسلافهم فيه، وتتحكم فى مصائرهم، وتبدل من أحوالهم!(4/93)
وأنهم إذا شاقهم لقاء تلك القوى الغيبية أطلعوها بقدر، للتسلية والترفيه، ثم أرسلوها لتعود من حيث جاءت! والسؤال هنا هو: ترى لو جاء «الله» إلى الناس اليوم فى صورة إنسان من الناس، يعرفون وجهه، وليدا وطفلا، وصبيا، وشابا، وكهلا.. ثم دعاهم هو، أو دعاهم داع غيره إلى الإيمان به إلها، والتعبد له ربا- أكان يجد من الناس أذنا صاغية، وقلبا واعيا، لتلك الدعوة؟ ربما كان بعض الأغرار، وأصحاب الأهواء والبدع، ممن تستهويهم المواقف الشاذة، وتروقهم الانحرافات والشطحات- ربما كان بعض هؤلاء وأولئك يلتفتون إلى هذه الدعوة، ويستجيبون لها.. ولكنهم مهما بلغ عددهم، يظلون فى عزلة عقلية واجتماعية عن المجتمع الإنسانى العصرى.. لا ينظر إليهم الناس إلا نظره الشذاذ الخارجين على الجماعة الإنسانية! ينكرهم الناس أينما التقوا بهم.. ثم لا يلبث أمرهم أن ينتهى إلى ما ينتهى إليه كل أمر لا يقوم اليوم على واقع التجربة، ولا يستند إلى برهانها! والصورة التي ظهر بها «يسوع» المسيح وإن تشابهت مع هذا التصور فى بعض ملامحه، إلا أنها تخالفه من وجهين:
(الوجه الأول) هو أن «المسيح» ظهر فى عصر غير هذا العصر.. فى عصر كانت فيه صور الآلهة البشرية تعيش فى تفكير الناس، وفى أحلامهم، لا ينكرونها إذا هى التقت بهم، وتحدثت إليهم.. فلطالما التقى آباؤهم بالآلهة، وتحدثوا إليهم وتعبّدوا لهم، ولا تزال وجوه هذه الآلهة وأشباحها تطلّ عليهم من قريب! (والوجه الثاني) هو أن ألوهية المسيح لم تعلن إلى الناس وهو حىّ قائم فيهم، حتى كان يمكنهم أن يعيدوا النظر إليه، ويملئوا عيونهم منه، وهم يلتقون به(4/94)
على تلك الصفة.. وإنما كان ذلك بعد أن انتهي المسيح تلك النهاية المعروفة..
فقيل للناس بعد هذا: إنه بعد أن صلب عاد إلى الحياة.. وصعد بعد أربعين يوما إلى ملكوته السماوي الذي نزل منه! وهنا تكثر الأحاديث عن «المسيح» وعن شخصيته! إنه ليس مجرد إنسان! وشاهد ذلك معجزاته الكثيرة التي عرفها الناس منه فى حياته..
وإنه ابن الله! .. وشاهد هذا أنه ولد من عذراء! فليس «يوسف النجار» أباه، وإنما هو زوج أمه! وإنه هو الله ذاته! شاهد ذلك أنه أمات نفسه ثم أحياها.. والله وحده هو الذي يحيى ويميت، ويميت ويحيى! «يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ» ! وهكذا استدبر الناس حياة «المسيح» إلها، بعد أن استقبلوا حياة المسيح إنسانا بشرا! وبهذا لم يكن للشاهد أكثر مما للغائب فى شأن البحث عن ألوهية المسيح والتحقق منها.. إذ أن الذين شاهدوا المسيح لم يكن يقع لتفكيرهم أنهم يعيشون مع إله، ويتحدثون أو يستمعون إلى إله.. وإنما هم مع إنسان، وإن عظم فى الناس أمره، وسما قدره.. فهم والذين لم يروه على سواء، فى التحقق من الصفة الجديدة التي كان عليهم أن يروه من خلالها.. إنهم يستعيدون ذكريات، ويتذكرون أحداثا، على حين يطالع غيرهم- ممن غاب عنهم شخص المسيح- تلك الذكريات، وهذه الأحداث، مسطورة فى كتب، مصورة فى رسائل! وأين الإله إذن فى هذا الإنسان «يسوع» ؟
إن أحدا لم يره إلها، ولم يتعامل معه كإله، وإلّا كانت قد دارت الرءوس وجنّ جنون الناس!(4/95)
فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد تخريجات وتأويلات، لذكريات وأحداث، وأخبار، عن تلك الذكريات وهذه الأحداث! فالله الذي تجسد فى «يسوع» المسيح لم يعلن نفسه للناس الذين ظهر فيهم وولد وعاش، وصلب، وقام من الأموات بينهم! وإنما كان هذا الإعلان بعد أن ترك «الله» هذا الجسد، وزايل هذا المكان الذي كان فيه! هذه واحدة! وأخرى، يقف العقل إزاءها متسائلا:
لماذا ظهر الله فى هذا الجسد المحدود؟ فى هذا الزمن المحدود؟ فى هذا المكان المحدود؟
إنه لو كان يريد أن يكشف ذاته للناس لكان غير ذلك أولى به وأجدى!! كان ينبغى مثلا أن يظهر ظهورا متجددا متكررا.. فى أجساد كثيرة، وفى أمكنة متعددة، وفى أزمنة متجددة، حتى يستطيع الناس أن يأخذوا جميعا حظهم من هذا الإعلان.. إن كان لهذا الإعلان حكمة، وكان له أثر! ولا بد أن يكون له حكمة وأثر، وإلا لما كان هناك داعية له.
إن مثل هذه الاعتراضات قد دارت فى كثير من الرءوس التي واجهت تلك المقولات التي تقال فى المسيح، وفى تجسد الله فى الجسد الذي اتخذه من عذراء! وقد أجاب عليها الذين آمنوا بهذه المقولات، ورضوا بها واطمأنوا إليها..
وإنه لا بأس من أن نعرض هنا نماذج من تلك الاعتراضات، ودفع المعترضين عليها، ثم تعليقنا على هذه الدفوع.
اعتراض: - «إن الأنبياء كانوا يقومون بإعلان الله للبشر وهدايتهم(4/96)
إليه.. لذلك لم يكن هناك داع لأن يقوم الله تعالى بمهمة كان يقوم بها نفر من عبيده! فما تأويل هذا؟» .
وجواب: «إن الأنبياء لم يعلنوا للبشر ذات الله، بل قاموا فقط بتبليغ أقواله لهم.. إذ فضلا عن أنهم مثل غيرهم من الناس، غير معصومين من الخطيئة، الأمر الذي لا يجعلهم أهلا لإعلان ذات الله، فهم أيضا محدودون فى ذواتهم، والمحدودون لا يستطيعون أن يعلنوا غير المحدود.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن غرض التجسّد لم يكن مجرد إعلان ذاته لليشر، بل الظهور بينهم بحالة مدركة لهم، لكى يستطيعوا معرفته والاقتراب منه، والتوافق معه- اتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له إطلاقا» «1» .. والذي يرد على هذا الاعتراض هو رجل من رجال الدين المسيحي! وعالم من علماء المسيحية «2» .
وتعليق: وندع مقولته فى عصمة الأنبياء، وأنهم لهذا ليسوا أهلا لإعلان ذات الله.. ونسأل ما الغاية من إعلان ذات الله؟ وما أثر هذا لإعلان؟ ألا يكفى الإعلان عن آثاره، وأعماله، لتكون عند الناس شاهدا على وجوده، وعلى ماله من صفات الجلال والكمال؟
إن الناس يتمثلون ذوات القادة، والزعماء، والعلماء فى آثارهم وأعمالهم، دون أن يروهم أو يتصلوا بهم.. ومع هذا يحبّون منهم من يحبون، ويطيعون من يطيعون، وينقادون لمن ينقادون، بقدر ما يقع فى نفوسهم مما لهم من آثار وأعمال! ..
ثم ألا يكون هذا الوجود كله، بما فيه من آيات، وما يشتمل عليه من عجائب وأسرار تقف أمامها العقول مشدوهة، وتنظر إليها الأبصار خاشعة-
__________
(1- 2) الله- طرق إعلانه عن ذاته للأستاذ عوض سمعان ص 82 وما بعدها.(4/97)
ألا يكون هذا إعلانا واضحا عن الله؟ ثم ألا يكون فيما يجىء به رسل الله وأنبياؤه من دعوات تكشف عن هذا الوجود، وتجلّى للأبصار والعقول ما غشّى عليها الجهل والضلال منه- ألا يكون فى هذا ما يكشف للناس عن وجود الله، وعظمة الله، وجلال الله، حتى يجىء الله نفسه للناس ليقول لهم: ها أنا ذا؟
اعتراض آخر.. يقول: إن التوافق مع الله لا يتوقف على رؤيته بالعين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله، ولذلك لم يكن هناك داع لأن يتجسد الله.. إذ أنه موجود فى كل مكان.. وفى أقواله لنا ما يكفى نفوسنا لإدراك كل شىء عنه وبالتالى للتوافق معه! وجواب: «حقا إن التوافق مع الله لا يتوقف على رؤية العين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله.. لكن هل تستطيع النفس أن تدرك شيئا عن الله من مجرد السمع أو القراءة عنه؟ الجواب: طبعا لا، لأن النفس كما قلنا محدودة، والله غير محدود، والمحدود لا يدرك من تلقاء ذاته غير المحدود، لذلك كان من البديهي أنه إذا أراد الله أن يجعل ذاته مدركا لنفوسنا- وعمل مثل هذا يتفق مع ذاته وصفاته كل الاتفاق- أن يظهر لنابهيئة محسوسة، نستطيع عن طريقها الاتصال به، وهذه هى الهيئة التي تنازل واتخذها، له المجد!» «1» .
وتعليق: هذا الجواب ليس بالذي يسدّ هذه الثغرة التي أوجدها الاعتراض، الذي يجاب عليه بهذا الجواب! فإذا كان الإيمان بالله لا يكمل ولا يتم بمجرد السمع أو القراءة عن الله، بل لا بد من رؤيته مجسسدا، فمعنى هذا أن جميع الذين لم يروا الله مجسدا فى المسيح هم على تلك الصفة.. إيمانهم ناقص، لا يتم إلا برؤية الله مجسدا فى المسيح،
__________
(1) المصدر السابق.(4/98)
ومعنى هذا أيضا أن إيمان جميع الذين سبقوا المسيح من الأنبياء والرسل وأتباعهم إيمان ناقص، وكذلك إيمان أتباع المسيح جميعا الذين لم يروه رأى العين! فما الجواب؟ وأظن لا جواب! اعتراض ثالث: «إن كان ولا بد من تجسّد الله.. فلماذا لم يظهر بالهيئة التي تليق بمجده وبهائه، حتى تهابه الناس وتخضع له؟» وجواب: «إن غرض الله من التجسد، لم يكن لإظهار عظمته، أو إثارة وإعجاب الناس به (لأن تصرفا كهذا لا يصدر إلا من الناقص، الراغب فى تعظيم الناس له) بل هو جمعهم حوله لكى يمتّعهم بحبّه وعطفه، ويخلصهم من خطاياهم وضعفتهم، حتى تكون لهم معه حياة روحية سعيدة، وبما أنه لو كان تعالى قد ظهر لهم بهيئة تناسب مجده الأزلى لارتعب الناس منه، ولما استطاع واحد منهم أن يدنو إليه- كان البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، وهى الهيئة البشرية، لكى تتحقق أغراضه هذه، كما أنه لو كان قد تجنب الظهور بمجده الخاص الذي يرعب الناس، وظهر فقط بإحدى مظاهر العظمة الأرضية، لحرم متوسطو الحال والفقراء من التمتع به، وهؤلاء- كما نعلم- هم السواد الأعظم من البشر، وهم فى جملتهم أكثر من الأغنياء استعدادا لمعرفته والسير فى سبيله، لذلك كان من البديهي أيضا ألا يظهر بأى مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية كذلك، بل يظهر بالمظهر العادي، الذي ظهر به فعلا، لأنه هو الذي يفسح المجال أمام جميع الناس للاقتراب إليه والاتصال به، والإفادة منه «1» .
وتعليق وهذا الجواب أيضا أبعد من أن يدفع الاعتراض المعترض به..
فالله إذ ظهر هذا الظهور الذي هو أقرب إلى الخفاء والتستر، منه إلى أي
__________
(1) المصدر السابق ص 85.(4/99)
شىء آخر، إذ لم ير الناس- الذين رأوه شيئا منه.. إنهم لم يروا إلا إنسانا..
مجرد إنسان يقال عنه، أو قيل عنه- فيما بعد- إنه هو الله! فأين الله الذي رآه الناس على أنه الله- وأين الناس الذين رأوه على تلك الصورة؟ لا جواب!.
ثم إن الذين رأوه، هم قلّة فى الناس، لا يكادون يذكرون إلى تلك الأعداد التي لا حصر لها من الذين لم يروا المسيح، ولم يضمهم إليه، ويمتعهم بمحبته! واعتراض رابع: إذا كان المسيح هو الله.. فلماذا لم يعلن ذلك صراحة أمام الناس، حتى يؤمنوا جميعا به؟» .
وجواب: «لا يخفى لدى العاقل أنه لو كان المسيح قد أعلن للناس عن حقيقة ذاته قبل أن يختبروها بأنفسهم، لكانوا قد اعتبروه محترفا ومدعيا، ولما كانوا قد آمنوا به إطلاقا.. لكن شاء أن يستنتجوا هم حقيقة ذاته، من حياته، وأعماله، لكى لا يكون إيمانهم به نظريا أو سماعيا، بل إيمانا اختباريا عمليا ...
«ومع كل فقد أعلن السيد المسيح عن حقيقة ذاته بكل صراحة للذين كانوا يشكّون فى شخصيته، أو لا يستطيعون الكشف عنها..
فقد قال مرة لأعمى كان- له المجد- قد شفاه: «أتؤمن بابن الله؟» فلما سأله هذا: «من هو يا سيد لأومن به؟ أجاب- له المجد: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو» فقال له الأعمى: أو من يا سيد، وسجد له «1» » .
وتعليق: المسيح، كما هو ظاهر من هذا القول، لم يعلن أنه هو الله، بل قال إنه «ابن الله» . وللبنوة هذه معنى كان معروفا عند الناس إذ ذاك فى
__________
(1) المصدر السابق ص 88.(4/100)
الكتب المقدسة.. وطبيعى أن هذا الأعمى لم يكن عنده علم بالأقانيم الثلاثة التي يمثل الابن وجها من وجوه الله بها.. والتي عرفت بعد ذلك بزمن طويل.
فإذا اعترف بأن المسيح ابن الله، كان اعترافه بأن المسيح ذات مستقلة عن الله.. فالمسيح ابن، والله أب.. والأب غير الابن..
أما القول بأن المسيح لم يعلن عن ألوهيته حتى يختبرها الناس فى أعماله وآثاره، فقد كانت نتيجة هذا الاختبار هو صلب المسيح كما يؤمن بذلك الذين آمنوا بألوهيته.. وهى نتيجة ناطقة ببطلان هذا القول..
واعتراض خامس: «إن كان ولا بد من تجسد الله، فلماذا لم يظهر فى العالم رجلا كامل النمو، بدلا من ولادته من امرأة، ومروره فى أدوار الطفولة والصبا، التي لم يفعل فيها شيئا مذكورا؟» .
وجواب: «إن السنّة التي وضعها الله للأفراد والجماعات هى النمو والتقدم، وبناء على ذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح- وقد رضى أن يكون إنسانا- طفلا، يتدرج فى النمو، قامة وعقلا، وتتدرج معه الجماعة المحيطة به يقظة ووعيا، تتهيأ بسببه لقبول المسيح والاستماع إليه..
كما أننا إذا وضعنا قبلة أنظارنا أن غرض الله من التجسد لم يكن مجرد إعلان ذاته لنا، بل الاتحاد الجوهري بنا، لكى يكون الرأس الفعلى أو الحقيقي لجنسنا (عوضا عن آدم الأرضىّ الذي بانتسابنا إليه، وتوالدنا منه قد ورثنا الطبيعة الخاطئة، وورثنا معها قضاء الموت الأبدى) حتى نستطيع بدورنا أن نتحد بالله اتحادا عمليا حقيقيا- اتضح لنا أنه لو كان قد ظهر كامل النمو، أو بتعبير آخر ظهر دون أن يأخذ جسدا من جنسنا، لكان قد ظل غريبا عنا، ومفارقا لنا، وبالتبعية لما كان رأسا لنا، ولما كان لنا نحن صلة فعلية به، لكن بتفضله بالولادة من جنسنا، قد اتحد بنا، وأصبح لنا بدورنا أن نتحد به، اتحاد(4/101)
الأغصان بالكرمة، وبذلك تحققت أغراضه السامية بالتجسد «1» » .
وتعليق: لقد انحرف هنا الجواب أيضا عن الرد المباشر على الاعتراض..
وهو لماذا لم يظهر «الله» حين تجسد، رجلا كامل النمو، بدلا من أن يمر فى تلك الأدوار التي مرّ فيها.؟ وقد أجاب المجيب إجابة متهافتة، وإذ شعر بهذا، فقد اتجه اتجاها آخر بالإجابة على هذا الاعتراض، وهو أن الله قد اتحد بجنسنا لكى نتحد نحن به، لأن الجنس أشكل بجنسه! وكان على المتصدّى للرد على هذا الاعتراض أن يعلل لتجسد الله- لا فى جسد إنسانى وحسب- بل وبمرور هذا التجسد فى جميع أدوار الحياة الإنسانية من الميلاد إلى الممات.! ولو أنه فعل لوجد أن المسيح الذي تجسد الله فيه قد مات شابا، فلم يمرّ فى أدوار الكهولة، والشيخوخة! وكان منطق الردّ يقضى بأن يمر المسيح أو الله المتجسد فى المسيح، فى جميع هذه الأدوار، حتى يلبس الإنسانية كلها، وبهذا يمكن أن يكون رأسا لها! ثم ماذا يقول المجيب على هذا الاعتراض، عن حياة المسيح فى رحم أمه، ثم فى دور طفولته، وهو فى قيد الضعف والعجز، لا يملك من أمر نفسه شيئا ... ؟
واعتراض سادس: «إذا كان المسيح هو الله.. فلماذا ظهر فى أماكن محدّدة، ولم يظهر فى جميع الأمكنة، حتى يراه جميع الناس، ويؤمنوا به؟
وجوابه: إذا رجعنا إلى العصر الذي عاش فيه المسيح على الأرض، وجدنا أن الشعب الوحيد الذي كان يؤمن بالله إيمانا خالصا من كل زيغ، هو الشعب
__________
(1) المصدر نفسه ص 100.(4/102)
اليهودي، ولذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح بوصفه «الله المتأنّس» ، بين اليهود لأنهم أقرب الناس إلى الإيمان به «1» ! .. وكان من البديهي أيضا أن يظل بينهم حتى يعرفوه حق المعرفة، ويؤمنوا به كل الإيمان، ولكن لما رفضوه على الرغم من الأدلة الكتابية والاختبارية التي تثبت حقيقة ذاته «2» - اختار من بينهم أشخاصا كانوا أكثر استعدادا من غيرهم لمعرفته والتوافق معه، وقضى مدة طويلة فى تدريبهم وتعليمهم «3» ، حتى عرفوا بعد قيامته من بين الأموات حقيقة ذاته كل المعرفة «4» ، ثم كلفهم بعد ذلك أن يحملوا رسالته، ليس إلى اليهود وحدهم، بل إلى كل الأمم (متى 28: 18) [وهذا يناقض ما نطق به المسيح: «إلى أمم لا تمضوا: [متى 10: 5] «وإذا أضفنا إلى هذا: (أولا) أن فلسطين التي ظهر فيها المسيح لم يره كل شخص من سكانها، بل إن كثيرين لم يروه إطلاقا، وأنه لو كان قد انتقل إلى كل بلاد العالم لكان كثيرون أيضا من سكانها لا يرونه. و (ثانيا) أن معرفة الله فى المسيح لا تتوقف على رؤية العين، بل على الإيمان به بالقلب، وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه، إذا كانوا قد
__________
(1) وشاهد هذا أنهم كذبوه، وبهتوه، وطعنوه فى شرف مولده، وفى عفة أمه.. ثم ساقوه إلى الصلب، فصلبوه!! كما يقولون.
(2) ومفهوم هذا أن الله قدر فلم يحسن التقدير، واختار فلم يحسن الاختيار، وهل يكون «الله» الذي يلبس ثوب الإنسان، ويضع نفسه فى إهابه منزها عن هذا النقص؟
(3) انظر إلى «الله» هذا الذي يعانى ما يعانى فى تعليم الناس وتدريبهم..
أهو يخرج عن طبيعة البشر العاجزين الضعفاء؟
(4) انظر كيف عجز «الله» هذا، عن أن يعرف نفسه للخاصة الذين اختارهم من بين البشر إنه لم يستطع أن يعرفهم به إلا بعد أن مثل أمامهم عملية الموت فى نفسه، فمات، وقبر، ثم قام من الأموات!(4/103)
آمنوا به!! ويستوى الذين رأوه والذين لم يروه إذا كانوا لم يؤمنوا به!» .
وتعليق: ونقف عند هذا المقطع الأخير من الجواب.. ونسأل: إذا كانت معرفة الله لا تتوقف على رؤيته بالعين، بل على الإيمان به بالقلب- وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه من المؤمنين به وغير المؤمنين- فلماذا إذن هذا التجسد لله؟ وما حكمته، إذا كان يستوى فى ذلك الذين رأوه والذين لم يروه؟ ثم لم هذه البلبلة وهذا الاضطراب، وهذه الفتن التي تجىء من وراء القول بتجسد الله؟ وإن أقلّ ما فيه أنه يفتح باب الادعاء على مصراعيه، لكل من يدّعى أنه الله، وأن الله قد تجسّد فيه! وفى هذا ما فيه من التعمية على الناس، والتشويش على المؤمنين بالله!؟
واعتراض سابع: «إن تجسد الله، إما أن يظل إلى آخر الدهور، فتدوم فوائده، وإما أن يكون مؤقتا، وحينئذ لا يكون هناك مبرر لتمتع جيل خاص برؤيته فى الجسد، دون غيره من الأجيال» .
وجوابه: «بما أنه مع ظهور الله فى الجسد فى العالم، ورؤية الناس لأعماله ومعجزاته، استمر معظمهم فى شرورهم وآثامهم. وبما أنه تعالى يريد أن يكون الإيمان به مقترنا كل الاقتران بحياة القداسة.. وبما أن حياة القداسة لا تتأتّى بواسطة الاقتناع النظري بحقيقة الله، بل بواسطة الاتصال الروحي به.. وبما أن هذا الاتصال لا يتولد عن النظر إليه بعين الجسد الخارجية، بل عن النظر إليه بعين الإيمان الباطنية- إذن كان من البديهي أن يقتصر الرب فى أمر ظهوره بالجسد على المدة التي قضاها فى العالم (وهذه والحمد لله-(4/104)
يقول المؤلف- كانت كافية كل الكفاية لإثبات شخصيته، وإظهار محبته للبشر أجمعين، حتى تكون علاقتهم به ليس العلاقة الجسدية، بل العلاقة الروحية ... ) «1» .
والتعليق: وإذن فقد كان ظهور الله متجسدا فى تلك المدة المحدودة، فى الزمان والمكان- كان ذلك لمجرد إثبات شخصيته! ولكن لمن؟
لجماعة معدودة من الناس.. فى جيل محدود من أجيالهم، وفى رقعة محدودة من أوطانهم.. وإذن فقد كان على الله أن يقدّم «بطاقة» شخصية إلى كل إنسان، فى كل زمان، وفى كل مكان.. وإلا كان من حق الناس أن يجهلوه ولا يعترفوا به! مشكلات كثيرة أثارها تجسّد الله فى المسيح.. فى إنسان معروف للناس، رأوه رأى العين، يعالج من شئون الحياة ما يعالجون، ويأتى ما يأتون، ويذر ما يذرون.. ثم يعود فيطلع عليهم من عالم الأموات، فإذا هو الله «رب العالمين!!» كان يمكن أن تكون هذه الدعوى أكثر احتمالا، وأقرب إلى الواقعية لو أن الناس قد التقوا بدعوى ألوهية المسيح حال حياته، حيث يتاح لهم النظر إليه من قرب، واختبار أحواله عن واقع.. وأدخل من هذا فى باب الاحتمال والواقعية لو أن المسيح لم يلتق بالناس ولم يلتق به الناس إلا رجلا كاملا، لم يروا فيه ضعف الطفولة، وعجزها، وتحكّم الضرورات الإنسانية فيها، وخضوعه خضوعا مطلقا ليد من يرعاه ويقوم بأموره!
__________
(1) الله- طرق إعلانه عن ذاته ص- 104.(4/105)
وقد رأينا الدفوع التي دفعت بها هذه الاعتراضات وأشباهها، وأنها كانت دفوعا هزيلة متهافته، لا تغنى من الحق شيئا، ولا تزيد الأمر إلا غموضا على غموض، وشبها فوق شبه! حلّ أضاف إلى المشكلة مشكلات:
وأمر آخر من أمر المسيح «الإله» زاد العقدة عقدا، وأضاف إلى المشكلة مشكلات.. وهو هذا الفهم الجديد للألوهية، ذلك الفهم الذي لم تعرفه الدعوات السماوية من أمر الإله، فى هذا الوصف الكاشف لذاته، والتشريح المكيّف لتلك الذات.. حيث ظهر القول بتلك الأقانيم أو التعيّنات الثلاثة «لله» واعتباره ثلاثة فى واحد، وواحدا فى ثلاثة.. هم: الأب، والابن، وروح القدس! هذه المقولة قد وضعت المسيح «الله» وضعا جانبيا فى الذات الإلهية..
فلم يكن هو «الله» «كلّ الله» وإنما هو «الابن» ظاهرا، ثم هو فى الوقت نفسه الأب والروح القدس، قائما وراء هذا الظاهر! إنها عملية معقدة! وحلقة مفرغة لا يدرى أحد أين طرفاها!! فالمسيح إنسان، وإله..
إنسان كامل.. وإله كامل..
وانظر كيف يجتمع الإنسان والإله فى كيان واحد! .. شخصية مزدوجة، وجهها إله، وظهرها إنسان! والمسيح.. ابن، وأب، وروح قدس! والابن هو الله..!
والأب هو الله..!(4/106)
وروح القدس هو الله! والأب، والابن، وروح القدس، وهم الله! إنها ألغاز وطلاسم، لا يمكن أن يتصورها العقل إلا إذا اصطنع لها التشبيهات، والتخيلات! ولعل أقرب صورة تمثل هذا المفهوم لله، هو القمر، ومنازله المختلفة..
فالقمر يكون هلالا.. فبدرا.. فمحاقا..
وهو هو القمر.!
فإذا كان هلالا ففى كيانه البدر والمحاق! وإذا كان بدرا فمن ورائه المحاق والهلال! وإذا كان محاقا.. فبين يديه الهلال والبدر! ومع هذا فإن الناس لا يقولون عن الهلال إنه بدر أو محاق. ولا يقولون عن البدر إنه محاق أو هلال.. إن لكل وجه من هذه الوجوه مفهوما خاصّا عند الناس! ولكن لو كان لله تعينات، ووجوه كوجوه القمر، فإن معنى هذا أن «الله» متحول متغيّر.. يلبس أثوابا مختلفة، ويبدو فى وجوه متعددة! والمؤمنون بالله- ومنهم أتباع المسيح- مؤمنون بأن الله لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا يتحول من حال إلى حال أبدا! ثم من جهة أخرى ... لا يرى الذي يؤمن بألوهية المسيح- على هذا المفهوم- إلا وجها واحدا من «الله» وهو وجه «الابن» أو أقنوم الابن..
ولهذا فإنه يحدّق دائما فى هذا الوجه، ويتعامل معه، دون أن يكون للوجهين الآخرين حساب أو تقدير، فى مجال الشعور والوجدان، وإن كان لهما فى مجال(4/107)
البحث والدرس حساب وتقدير عند من لهم قدرة على البحث والدرس! إن «المسيح» الذي يمثل أقنوم «الابن» فى «الله» هو وحده الذي يتعامل معه أتباع المسيح.. فهو الله المسيح! وهو الله الابن! أما «بقية» الله، أو الجوانب الأخرى من الله، فهى شىء وراء هذا الحساب، وهذا التقدير!! والشعور الذي يقوم فى كيان «المؤمن» بالله على هذا الوجه، شعور يتسلط عليه إحساس منه، بإيثار بعض «الله» على بعض، وأن الله أبعاضا.. هذا التصور، لا يمكن أن يتخلّص من الإحساس به أي مؤمن بالله المسيح، ولو حاول ذلك وأجهد نفسه فى المحاولة! فالمؤمن بالله المسيح، إنما يعنيه من الله هذا الوجه المطل عليه فى شخص المسيح، وهو أقنوم «الابن» الذي تجسد الله به فى هذا الجسد! ألم نقل إن الحلّ الذي أريد به إيجاد تسوية لألوهية «المسيح» قد أضاف إلى المشكلة مشكلات، وزاد عقدها عقدا؟
وبلى! فإن القول بأن المسيح هو «الله» .. كلّ الله.. بجميع صفاته وأقانيمه، وتعيّناته- هذا القول أقرب إلى العقل من القول بأن «المسيح» هو الله متجسدا فى أقنوم «الابن» دون الأقنومين الآخرين اللذين يقال إنهما لله، وهما الأب وروح القدس! إن القول بتجسد «الله» فى أقنوم الابن، الذي منه كان المسيح، ثم القول بأن المسيح هو الله- يجعل المسيح ذا صور ثلاث: إنسانا، وإلها وبعض إله.(4/108)
وهذه الصور الثلاث تتخايل دائما- مجتمعة ومتفرقة- فى عينى من يعتقد فى ألوهية المسيح.. فكلما ذكر المرء «المسيح» وقعت فى تصوره هذه الصور الثلاث.. تجتمع، وتتفرق، ويختلط بعضها ببعض، فتتشكل منها صور وأشكال..!
العقل.. والمسيح الإنسان:
الوجه الإنسانى فى المسيح، هو أبرز هذه الوجوه الثلاثة، التي تتخايل منه، لمن ينظر إليه على اعتبار أنه «الله» «مصمتا» مجملا، أو الله «مفككا» مفصلا.!
فالمسيح الإنسان قد رآه الناس رأى العين، وقد وصفه الواصفون وصف رؤية وعيان.. فهو حقيقة ماثلة فى عين من يؤمنون بألوهيته.. فضلا عن الذين لا يؤمنون به إلها!! وقد استجاب المؤمنون بالمسيح الإله، لهذا المعطيات التي أعطاها الشهود الحسّى لهم منه، فتمثلوه- وهو الله- حاضرا معهم فى جسده، الذي رأوه رؤية بصرية، أو خبرية.. فصوروه. وصنعوا له التماثيل، وليدا، ومصلوبا، وصاعدا إلى السماء. بعد قيامته من الأموات! إن المسيح الإنسان هو الذي يملأ قلوب المؤمنين بأنه هو الله، وإنهم- مهما جهدوا- لن يستطيعوا أن يتمثلوا الله فى حال من الأحوال، إلا فى صورة المسيح الإنسان الذي رأوه فى صوره المختلفة التي تمثلوها له، وصوروه، أو مثلوه عليها! ولهذا فقد غلبت صورة المسيح الإنسان على كلّ تصور لله، ولهذا أيضا كانت صورة «المسيح» الإنسان فى عينى، وفى قلب كل مؤمن بأنه «الله» .(4/109)
ونسأل:
وماذا لو استقام المسيح على وجه واحد.. فكان إنسانا لم يخالطه شىء من الألوهية، أو كان إلها لم تشبه شائبة من البشرية؟ إن أعدل صورة للإنسان هو أن يكون إنسانا فى كل شىء.. فى ظاهر أمره وباطنه جميعا.
فأعضاؤه، وحواسّه، إذا خرج منها شىء عن حدود البشرية، ومألوفها..
فسد أمره، واضطرب وجوده بين الناس! وانظر كيف يكون حال إنسان له رجل واحدة بدل اثنتين، أو كان له أربع عيون بدلا من عينين، أو أن عينيه ركبتا فوق رأسه، أو أن حاسة بصره كانت أشبه بالمجهر، أو أن حاسة سمعه كانت كمكبرات الأصوات.. أترى مثل هذا الإنسان يهنؤه طعام، أو يستقيم له أمر؟
وقل مثل هذا فى كيانه الداخلى.. فى عواطفه ونوازعه، وفى أفكاره وخواطره.. إنه إن خرج فى شىء من ذلك عن حدود البشرية، فى أعلا ذراها، أو أدنى مستوياتها، تعس وشقى! إن الغراب الذي يلبس جلد الطاووس.. ليس غرابا، وليس طاووسا.. بل ليس من عالم الطير إطلاقا! والمسيح- صلوات الله وسلامه عليه- تحدّث سيرته عن إنسان كرم فى الإنسانية غرسه، وطاب ثمره، فكان غرّة فى جبينها، ودرة فى تاجها، ونجما لامعا فى سمائها، ومصباحا هاديا فى أرضها.. هيهات أن تلد الأمهات من يدانيه، نبلا، وطهرا، واستقامة وعفّة.. إلا من كان من الصفوة المتخيّرة من رسل الله وأنبيائه! فالمسيح- الإنسان- أمل من آمال الإنسانية، ومنزع من منازعها،(4/110)
وحلم من أحلامها.. قد ظفرت به حقيقة واقعة، فرأت فيه الإنسان كيف يستعلى على شهواته، وكيف يقهر هواه، وكيف يبلغ به خلقه فى العالم الأرضى ما لا تبلغ الملائكة فى عالمها العلوي! وإنه لكسب عظيم للإنسانية أن يكون «المسيح» الإنسان واحدا منها، إذ به وبمن شابهه أو داناه، من الأنبياء، والحكماء، والقادة، والمصلحين- تثقل موازين الإنسانية، ويرتفع قدرها، ويستقيم خطوها، وتثبت أقدامها على طريق الحق، والخير، والسلام! وانظر كيف يكون حال الإنسانية من الجدب والعقم، فى خلقها، وفى تفكيرها، لو أن هؤلاء العباقرة، وأولئك الرءوس الشوامخ الذين تلدهم الحياة بين الحين والحين- أضيفوا إلى عالم غير عالم البشر، فكانوا من الجن، أو الملائكة، أو الآلهة.. أو أي خلق آخر مما يكبر فى صدور الناس؟
إن هذه الفتوح العظيمة التي حققتها الإنسانية على هذه الأرض، فى ميادين العلم والفنّ، وما أخرج العلم والفن من ثمرات عمرت بها الحياة، وقامت بها تلك الحضارة التي تملأ وجوه الأرض، حياة وعمرانا- هذه الفتوح العظيمة هى من صنع الإنسان، ومن وحي العباقرة والملهمين من الناس! فلو أن الإنسانية لم تلد هؤلاء العباقرة والملهمين من أبنائها، لظلت تحبو فى طفولتها، وتعيش فى هذا المستوي الطفولىّ، الذي لا يرتفع بها كثيرا عن مرتبة الحيوان! وحول الإنسانية، وفى محيطها قوى غيبية لا حدّ لقدرتها، ولا نفاد لحولها وقوتها.. كالجن والملائكة مثلا.. ومع هذا فإن الإنسان لم يفد منها شيئا، فى صراعه مع الحياة، ولا فى غزواته لكشف أسرارها!.
ولقد تتعلق عيون الناس وآمالهم قرونا وأجيالا طويلة بهذه القوى الغيبية(4/111)
تريد عونها ومساندتها، فى الإمساك بسفينتها المضطربة بين متلاطم الأمواج..
ولكن الذي كان يطلع على الإنسانية دائما، هو واحد من أبنائها، يستجيب لندائها، ويحقق ما اتجهت إليه أنظارها، وتفتحت له آمالها..
ولو ارتفع المسيح إلى مرتبة الألوهية، وخرج من حساب الإنسانية، لخفّ ميزان النّاس، ولحرموا هذا الخير الكثير الذي يجدونه فى تلك الكلمات المشرقة المسعدة، التي تطلع عليهم من فم إنسان، ومن قلب إنسان، ومن تفكير إنسان ... ثم لمّا نزعت بهم نازعة إلى تمثّل سيرته، واقتفاء أثره، إلا إذا حسبوه فى سجلّ الإنسانية، وعدوّه إنسانا من الناس.. أما إذا أضيف إلى الآلهة، وحسب فى عدادها، فلا يقع فى نفس إنسان أن يتشبه به، أو يحذو حذوه.. فذاك إله، وهذا إنسان.. وأين الإنسان من الإله؟
لذلك طريق ولهذا طريق!.
والأمر أكثر من هذا خسارة على الإنسانية وتفويتا لما يرجى لها من خير.. لو أن «المسيح» كان هو «الله» الذي يؤمن به المؤمنون، ويتعبّد له المتعبّدون! وانظر كيف يكون هذا الحساب! إنّ «الله» الذي يؤمن به المؤمنون.. أزلىّ أبدى.!
فهو هو لم يتغيّر ولم يتبدّل، ولن يتغيّر أو يتبدل، ولم يزد ولم ينقص، ولن يزيد ولن ينقص! و «المسيح» الذي ظهر فى فترة ما، لأعين الناس الذين رأوه، ليس إلا «الله» الأزلى الأبدى.. على ما يؤمن المؤمنون بألوهيته..
وظهور الله فى هذا «الجسد» لم يغيّر من ذات الله شيئا!(4/112)
فالله هو الله- فى جسد المسيح، وفى غير جسد المسيح.. أو فى أي جسد آخر..
بشرى، أو غير بشرى!.
وإذن فليس هنا «الله» و «المسيح» ..
وإذن- أيضا- فلا ذات إلا ذات واحدة، تمثلّ الألوهية، هى:
الله أو المسيح!.
فالله- كما قلنا- ذات واحدة، لم ولن تتبدل أو تتغيّر، ولم ولن تزيد أو تنقص، وهذا هو ما يقول به أتباع المسيح.. كما يقول به المؤمنون بالله.
فالقول بألوهية المسيح، وبأنه الله، قول لا يدخل منه على الألوهية شىء، فلا يضيف إلى ذات الله بهاء، ولا جلالا، بل إن العكس هو الصحيح، إذ نزل بقدر الله، وعفّر ذاته بتراب الأرض، وعرض وجهه للبصق والصّفع، وأقام جسده على الصليب مشدودا، تدقّ يداه وقدماه بالمسامير، ويستسقى فيسقى المرّ المذاب، ويصرخ صرخات ضارعة مستيئسة، ولا راحم، ولا مجيب! وتعالى الله عند ذلك علوّا كبيرا.
إن «الله» المسيح، قد كشف فى هذه الأحوال عن إله لا حول له ولا قوة، يصارع الخطيئة التي غرسها بيده فى كيان الإنسان.. (ونعم غرسها بيده، إذ كان الشيطان هو الذي ساقه إليها، أو ساقها إليه، والشيطان من صنعة يد الله، بلا شك) ثم يحتال الله لذلك، فلا تسعفه الحيل إلا بأن يتخلّق فى رحم امرأة، ويولد منها، ويرضع من ثديها، حتى يشبّ ويكون رجلا، فيتخذ له تلاميذ وأتباعا، يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه.. ثم ينتهى أمره إلى الموت صلبا، ليكون بهذا الموت ذبيحة، لغفران الخطيئة التي أخطأها آدم فى عصيانه أمر الله!.(4/113)
أرأيت أعجب من هذا العجب! إنسان يخطىء فى حق الله، ويخرج عن طاعته..
فلا يعاقبه الله، ولا يأخذه بجريرته! ولو وقف الأمر عند هذا الحد، لكان مفهوما مقبولا.. إنسان أخطأ، ورب غفور رحيم! ولكن الذي لا يفهم، ولا يقبل، هو أن يجىء الله، لكى يغفر جريمة هذا الإنسان، فيربّى نفسه فى حجر الإنسانية، ثم إذا أصبح «حملا» صالحا للذبح، ذبح نفسه، ليكون كفارة لهذا الذنب الذي ارتكبه فى حقه عبد من عبيده! وندع هذا الحساب المغلوط، شكلا وموضوعا.. لمن يقيم خلله، إن كان فى الناس من يحسن البناء على خواء، ويقيم صرحا فى الهواء.
ونسأل: أين «المسيح» الإنسان؟
أين ذلك الوجه المشرق الوضيء الذي طالع فيه الناس سمات الإنسانية، فى نبلها، وطهرها، وعفتها، ورحمتها، وحكمتها؟ أين ذلك الإنسان الذي عاش فى الناس فآنس وحشتهم، وفتح لهم طرقا مستقيمة إلى معالم الخير، والنور، والسلام؟
إنه لا وجود له فى عالم الناس..!
إنه لم يكن إلا «الله» .. ولم تكن تلك الفترة التي رآه الناس فيها فى صورة إنسان- إلا حلما من تلك الأحلام المسعدة، التي يصحون بعدها على الواقع الذي يعيشون فيه! هكذا هو فى زى الإله الذي ألبسوه إياه.(4/114)
إن المسيح «الله» .. لا حساب له في عالم الناس.!
وإنها لخسارة فادحة محققة للإنسانية، إذ تفتقد المسيح إنسانا، حين تراه إلها..
ثم تتطلع إليه مقام الألوهية، فلا ترى له وجودا.. لأنه عاش على الأرض وصلب، ودفن فى الأرض.. وأن من كان هذا شأنه، فلن يعود إلى مقام الألوهية أبدا، على فرض أنه كان الإله، وكان الله رب العالمين..
إن مخايل الإنسانية وصفاتها، ومشخصاتها لن تفارقه بحال، ولن تزايل أنظار الناظرين إليه، والمؤمنين به على تلك الصفة..
أما الله سبحانه وتعالى، فهو الله الذي تنزّه عن التجسد والتشكل.
الله وحده.. لا شريك له! الله فى عظمته وجلاله.. قبل المسيح.. وبعد المسيح! الله الذي آمن به آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وجميع أنبياء الله، ورسله، ومن استجاب لهم، وسلك سبيلهم!(4/115)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
6- سورة الأنعام
أسماؤها: أشهر أسمائها: الأنعام، لكثرة ما ذكر فيها من لفظ «أنعام» وتسمى الحجّة، لأنها اشتملت علما كثيرا من دلائل حجة النبوة.
نزولها: ملكية.. إلا ست آيات نزلت بالمدينة..
وقيل إن السورة نزلت دفعة واحدة، ما عدا هذه الآيات الست.
عدد آياتها: مائة وخمس وستون آية.
عدد كلماتها: ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة.
عدد حروفها: اثنا عشر ألفا ومئتان وأربعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآية: (1) [سورة الأنعام (6) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
التفسير: تفتتح هذه السورة الكريمة، بالحمد، لمستحقّ الحمد، سبحانه وتعالى، ذى القدرة والطول، الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شىء قدير، فتلك صفته- سبحانه وتعالى- التي كانت مختم السورة السابقة، والتي أضيف بها هذا الوجود كله إليه، لا شريك له فيه، ملكه بسلطانه، واستولى عليه بقدرته.. ومن كان هذا شأنه، وتلك صفته، فلا متوجّه إلا إليه، ولا حمد إلّا له.
فقوله سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» قصر للحمد عليه وحده، وهو حمد مطلوب(4/116)
من كل كائن أن يسبّح لله به، إذ هو الذي خلقه وأوجده من عدم.. والوجود بالإضافة إلى العدم نعمة تستأهل الشكر، وتستوجب الحمد.. فأى موجود- على أية صفة، وعلى أي حال- هو نفحة من نفحات الله سبحانه، وعطاء من عطائه، وصنعة من صنعته، وليس كذلك العدم، الذي هو فناء مطلق، وتيه وضياع أبدىّ.. إنه لا شىء، وشىء خير من لا شىء! إن أي موجود- على أية صفة وعلى أي حال- هو مجلى قدرة الله، وآية من آيات تلك القدرة الخالقة المبدعة المصوّرة، وإشارة دالة على وجود الخالق، إذ لا يعرف الخالق إلا بما خلق..
وفى أول ما تلقّى النبىّ الكريم من ربّه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» فكانت صفة الربوبية والخلق أول ما صافح أذن النبىّ، ومسّ شغاف قلبه من صفات الحق جلّ وعلا.. فالربوبية والخلق صفتان متلازمتان ... إذ لا ربوبية إلا لمربوبين، ولا خلق بغير ربوبية، تمسك الخلق، وتحفظ عليهم وجودهم..
ومن هنا ندرك بعض السرّ فى أن كانت فاتحة الكتاب، مفتتحا لرسالة الإسلام وكتابها الكريم، وأن كانت صلاتنا- وهى عماد ديننا- وتسبيحا بالفاتحة، وأن كان الحمد مفتتح الفاتحة.
وقوله سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» هو صفة الله، المحمود بما خلق من السموات والأرض، وما أبدع فى خلقه، وخالف بين مخلوقاته، فجعل الظلمات وجعل النور..
وهنا أمور يجب الوقوف عندها:
فأولا: جمع السموات وإفراد الأرض..
وفى القرآن الكريم، جاءت السموات بلفظ الجمع، كما جاءت بلفظ المفرد:
هكذا «السماء» .. ولم تجىء الأرض إلا بلفظ المفرد هكذا: «الأرض» .(4/117)
فما سر هذا؟
ومدلول اللغة يقضى بأن الجمع أكثر من المفرد عددا.. فالجمع، أكثر من اثنين، إلى ما تنتهى إليه المعدودات من عدد.. والمفرد واحد، لا يزيد..
هذا فى الأشياء المتفقة نوعا أو جنسا..
فهل يكون ذلك فى المختلف من الأنواع والأجناس؟ وهل إذا كان الجمع أكثر عددا، هل يكون أكبر جرما وقدرا؟
والجواب: أن ذلك ليس بالحتم اللازم، فقد يكون الجمع مع كثرته عددا، أقلّ من المفرد، جرما وقدرا..
فألوف الألوف من النمل مثلا، لا تعدل الفيل جرما.. وألوف الألوف من الحصا، لا تعدل حصاة من ذهب.
والسؤال الوارد هنا: هل جمع السموات وإفراد الأرض، يقضى بأن تكون السموات أكبر جرما وأعظم قدرا من الأرض؟
وللإجابة على هذا، ننظر فى القرآن الكريم، فنجد أن السموات ذكرت جمعا، فى أكثر من مائة وخمسين موضعا، كما ذكرت بلفظ المفرد فى نحو مئة وعشرين موضعا..!
وأنها حين تذكر جمعا يكون فى مقابلها الأرض بلفظ المفرد.. هكذا:
«السموات والأرض» .. يكاد ذلك يكون مطردا فى معظم القرآن.. مثل قوله تعالى:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» (190: آل عمران) . وقوله سبحانه: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» (255: البقرة) وقوله: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ(4/118)
وَالْأَرْضِ»
(77: النحل) .. «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (86: المؤمنون) «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» (3: سبأ) وهكذا تجمع السموات، وتفرد الأرض فى كل مقام يراد فيه عرض جلال الله، وعظمة قدرته، وسعة ملكه، ليكون فى ذلك العرض ما يدعو إلى التأمل والنظر، وتوجيه البصائر والأبصار إلى ماوراء هذا الأفق المحدود الذي يعيش فيه من لا يمدون أبصارهم إلى أكثر من مواقع أقدامهم.
وأما حين تذكر السماء مفردة، فتارة يكون فى مقابلها الأرض، وتارة تذكر وحدها، غير مقترنة بالأرض، وهى فى كلا الحالين لا يراد بها جرمها وبناؤها الكونى، وإنما يراد بها أنها جهة علوّ بالنسبة للأرض، وما على الأرض..
مثل قوله تعالى:
«وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ» .. وقوله سبحانه: «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» (11: الطارق) والرجع: هو المطر، والصدع:
تشقق الأرض حين يخرج منها النبات. وقوله: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» (7: الذاريات) والحبك: الطرائق الحسنة بين النجوم.
وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (24: الروم) وقوله سبحانه: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» (5: السجدة) وقوله: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً» (64: غافر) وقوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً» (22: البقرة) .(4/119)
ومن هذا نرى أن التعبير القرآنى عن السموات بلفظ الجمع يرد دائما حيث يراد المقابلة بينها وبين الأرض، لا من حيث الوضع علوا وسفلا، وإنما من حيث البناء التركيبى لكل منهما، وأن السموات عوالم متعددة، والأرض بالنسبة لها أشبه بالمفرد بالنسبة لجمعه، وأنهما إن اختلفتا اسما، فقد اتفقتا صفة، بأنهما آيتان من آيات الله الدالة على علمه، وقدرته، وحكمته..
وحين ينظر الناظر إلى السماء نظرا مباشرا، غير معتمد على كشوفات العلم ومقرراته، فإنه يرى فى السماء من دلائل القدرة الإلهية والإبداع الرباني ما لا يراه فى الأرض، ولهذا كان أول مالفت إبراهيم- عليه السلام- إلى الله، ما راعه من ملكوت السموات، فى بنائها وارتفاعها، سقفا محفوظا بغير عمد، وما زينت به من كواكب.. «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (76- 78: الأنعام) .
هذا ما يبدو للنظر المجرد، البعيد عن معطيات العلم ومقرراته.. السماء أكبر جرما من الأرض، وأوسع مدى، وأكثر محتوى للعجائب والغرائب..
فإذا ووزنت بالأرض من تلك الجهة، فهى جمع والأرض مفرد.. هى سماوات والأرض أرض أو سماء! ثم إذا كشف العلم أن الأرض ليست إلا ذرّة سابحة فى فضاء هذا الكون العظيم، لا تعدو أن تكون قطرة من محيط- إذا كشف العلم هذا كان للمسلم العالم أن يرى «السموات» جمعا يدخل فى محتواه كل حقيقة يقررها العلم، وتبلغها مقاييسه، وتنكشف لرؤيته أو لرؤاه.. من اتساع وبسطة، وامتداد، بحيث لا يرى الأرض إلا أرضا، هى ذرة من رمال الصحارى(4/120)
أو شواطىء البحار، بالإضافة إلى هذا الكون العظيم.! فالسموات بصيغة الجمع صالحة لأن يدخل فيها من أعداد السماء ما لا حصر له.. بلا قيود ولا حدود آية واحدة، جاءت فى القرآن الكريم فجمعت بين السموات والأرض بما يشعر بالمساواة بينهما، وهى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (12: الطلاق) .
فالمثليّة هنا قد حملها المفسرون على المثلية فى العدد، وأنه كما أن هناك سبع سموات، فهناك سبع أرضين.. وقد أكثروا من القول فى هذه الأرضين، وفى اسم كل أرض، كما قالوا ذلك فى السموات السبع، واسم كل سماء..
وتحديد السموات بأنها سبع، يعنى أنها سبعة أكوان، ولا يدرى كنه هذا الكون، ولا العوالم التي يحتويها إلا الله سبحانه وتعالى، وأما ما بلغه علمنا من أكوان السموات، فلا يعدو أن يكون أفقا محدودا من آفاق هذه الأكوان، أو موجة على صدر محيطه الغمر الرحيب.
وأما المثلية بين السموات والأرض فى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» فليس من الحتم أن تكون مثلية فى العدد، كما فهمها عليه المفسرون، ولعله من الصواب أن يكون المراد هو المثلية فى الإبداع والقدرة التي تظهر فيها عظمة الصانع، وقدرته، وحكمته، وعلمه.. فليس الأمر أمر جرم عظيم، وآخر صغير.. وإنما هو ما يتجلى فى أي جرم- مهما صغر- من دقة الصنعة، وإحكام البناء، وروعة التكوين..
فليس الجبل فى ضخامة جرمه بأعظم من الذرة قدرا، ولا أظهر منها بيانا، للدلالة على قدرة الصانع، وروعة إبداعه، وسلطان علمه، وذلك فى نظر من له بصيرة نافذة، وإدراك سليم..(4/121)
الفيل فى ضخامة جسمه، وقوة احتماله، ليس أبلغ من النملة فى الدلالة على قدرة الله، وعلمه، وحكمته..
بل ربما كانت النملة فى جرمها الصغير تحمل من الأجهزة العاملة، مالا يحمله الفيل فى كيانه الضخم العظيم..
وإذن فلكى تكون الأرض فى صغرها مثل السموات فى كبرها، وامتداد آفاقها، ينبغى أن يكون النظر إليها بعين المستبصر الباحث، الخبير..
فإنه حينئذ تصغر السموات، وتصبح أي رقعة من الأرض أكثر من سماء، وأكبر من سماوات.. إذ كان سلطان الإنسان على الأرض، وعمله فيها، على حين لا سلطان له على السماء، ليكشف أسرارها، ويقف على عوالمها التي لا تنتهى حدودها..
وإذن- مرة أحرى- فهذه المناظرة التي بين السموات والأرض، فى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» هى إشارة سماوية إلى الإنسان أن يكشف مجاهل هذه الأرض التي يعيش عليها، وأن يفتش فى الكشف عن أسرارها، فإنه إن فعل لم يستصغر الكوكب الذي يعيش فيه، ولوجد فيه ما يذهل ويروع من آيات الله.
وثانيا: قوله تعالى: «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» مع قوله تعالى فى السموات والأرض «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ..
فهل ثمة فرق بين الخلق والجعل؟ أم أن الخلق هو الجعل، والجعل هو الخلق؟ وأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى هو أسلوب من أساليب القرآن، تحاشيا للتكرار وثقله، كما يقول بذلك المفسرون؟
والقول بأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى، إنما داعيته هى أن ينأى القرآن به عن الرتّابة والثقل بتكرار اللفظ- هو قول إن قيل به فى أساليب(4/122)
البلغاء، فلن يقبل فى نظم القرآن، الذي يعلو ببلاغته عن هذا المعيار الإنسانى..
فإذا كرر القرآن الكريم اللفظ مرة ومرة ومرات، لم ينزله ذلك قيد شعرة عن مكانه السامي من الفصاحة والبيان، وجاء التكرار كلا تكرار، فى روعة الأداء، وتجاوب النغم، وحلاوة الجرس.. وكم كرّر القرآن من ألفاظ، وحروف، فكان اجتماعها إعجازا من إعجاز القرآن، وآية من آيات رب العالمين! وسنعرص لهذا فى بحث خاص به إن شاء الله.
فلا بد إذن أن يكون لهذا الاختلاف فى النظم بين «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» داعية، استدعته وغاية أربد به تحقيقها.
والقرآن الكريم قد فرق بين الخلق والجعل فى المعنى، كما هما مفترقان فى اللفظ..
«فالخلق» فى القرآن- فى كل موضع ورد فيه- هو الإيجاد، إيحاد غير الموجود، وإظهاره للوجود..
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» .. «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» .. «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» .. فالخلق، وهو الإيجاد من عدم، هو مما انفرد به الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان من صفاته الكريمة: «الخالق» .
أما «الجعل» فهو إضافة تلحق المخلوق، وتكشف عن صفته، وتبرز طبيعته.. هو توجيه الخالق للمخلوق، ليعطى وظيفته، ويحقق وجوده..
«إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها» (7: الكهف) .. «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» (9- 11: النبأ) ..
«وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» ، (24: السجدة) .. «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (143: البقرة) .(4/123)
بل إن «الجعل» يضاف إلى الإنسان، ويحسب له، أو عليه، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (19 الزخرف) ويقول سبحانه: «أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (19: التوبة) ويقول: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» (النحل 57) .
وننظر فى قوله تعالى:
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» فنجد أن السموات والأرض، قد خلقنا بيد القدرة القادرة، فكان فعل الخلق «خلق» مطلوبا لتحقيق هذا المعنى المراد هنا..
ونجد أن الظلمات والنور، وإن كانا مخلوقين لله، إلا أن الخلق غير مراد هنا، وإنما المراد وظيفة هذين المخلوقين، وأنهما الثّوبان اللذان يلبسان المخلوقات، أو يلبسان الكوكب الأرضى الذي نعيش عليه، ونشهد آثارهما فيه.
وثالثا: جمع الظلمات، وإفراد النور.
ماذا وراء الجمع هناك والإفراد هنا؟
إن الظلام كثيف ثقيل، والنور شفيف رقيق.. هكذا موقعهما على العين.. الظلام كأنه ظلمات بعضها فوق بعض.. إذا أقبل عليها النور أزاحها طبقة طبقة..
هذا فى واقع الحسّ..
ومن جهة أخرى، فإن الظلام وحشة وعمى وضلال، ومن هنا تتشعب طرقه، وتتعدد مسالك الهائمين فيه.. أما النور فهو أمن وهدى وحق.. وجه(4/124)
واحد، وطريق واحد.. من قصد وجها غير وجهه ضل، ومن سلك طريقا غير طريقه هلك.
هذا بعض ما ينكشف من قدرة الله، وعلمه وحكمته، فيما تعرضه كلمات الله: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» .
وقد كان جديرا بالإنسان، وقد منحه الله نظرا يبصر، وأذنا تسمع، وعقلا يعقل ويدرك، ومشاعر تتأثر وتنفعل- كان جديرا به أن يرى الخالق فى هذه الأكوان التي أبدعها، وفى هذا الوجود الذي أقامه، ولكن كثيرا من الناس يذهله اشتغاله بنفسه، وبدواعى نزعاته وأهوائه، عن أن يفتح قلبه لهذا الوجود، ولذلك فهو يعيش مغلقا على نفسه، مقوقعا فى ظلمات جهله وسفهه..
«وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) .
وكثير من الناس أيضا، يرى، ويبصر، ويعقل، ثم يركبه شيطانه، فيغمض عينه عما رأى، ويصمّ أذنه عما سمع، ويتهم عقله فيما عقل، وإذا هو ممن يمكرون بآيات الله، ويولّون وجوههم عن الله إلى آلهة اتخذوها، وأرباب صطنعوها وعبدوها..
«ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي ثمّ بعد هذه الآيات البينات، يكون فى الناس من يكفر بالله، ويجعلون له أندادا، يسوّون بينهم وبينه، ويجعلونهم عدلا له وندا؟
وفى العطف بحرف «ثمّ» ما يشير إلى التهديد والوعيد لهؤلاء الذين كفروا بالله، بعد أن ملأ الله عليهم هذا الوجود بالآيات الناطقة بوجوده، الدالّة على كمال قدرته، وشمول علمه، وبسطة سلطانه.. ففى هذا العطف(4/125)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
تعقيب على المعطوف، وهو تعقيب فيه تراخ وامتداد فى مسافات الزمان والمكان بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا يؤذن بالمفارقة البعيدة بين المتعاطفين اللذين كان من شأنهما التشاكل والتلاحم.. ولكن كفر الكافرين بالله يجعلهم أبعد من أن يتعاطفوا مع آيات الله، وأن ينتفعوا بها، ويهتدوا بهديها: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. ولو كان ما أعقب هذه الآيات هو التعرف على الله والإيمان به، لجاء النظم القرآنى عطفا بالفاء، على هذا النحو مثلا:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» .. فعرفه وآمن به أصحاب الأبصار، وذوو البصائر.. من عباده..
الآيات: (2- 5) [سورة الأنعام (6) : الآيات 2 الى 5]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
التفسير: الذين كفروا بربهم، وعموا عن آياته التي تملأ الوجود فى سمائه وأرضه.. عموا كذلك عن النظر فى أنفسهم، فلم يروا أنفسهم، وهم على تلك الصورة البالغة العاقلة.
ماذا كانوا قبل أن يكونوا؟ ومن أي شىء كان كونهم؟. إنهم من طين(4/126)
هذه الأرض التي يطئونها بأقدامهم، ويمشون عليها اختيالا، ويقومون فوقها آلهة يطاولون الله ربّ العالمين، ويحادّونه، ويأبون الولاء له، والخضوع لسلطانه.. هكذا الإنسان كما وصفه خالقه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) .
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» هو إشارة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه خلق من هذا الطين كائنا، عاقلا، ناطقا، متصرفا، سميعا، بصيرا.. ثم هو إشارة أخرى إلى ضالة قدر الإنسان، وصغاره..
ومهانته، بالنسبة لجلال قدرة الله وكماله وعظمته.. وأن الله الذي خلق من هذا الطين المهين كائنا كريما، قادر على أن يعيد هذا الكائن إلى مكانه الذي جاء منه، وهو الطين، أو ما هو دون الطّين قذارة ومهانة! وقوله سبحانه: «ثُمَّ قَضى أَجَلًا» .
قضى: أي مكث حتى وفّى الزمن المقدور له، مثل قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» وقوله: «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» .
وفاعل الفعل «قضى» ضمير يعود إلى الطين.
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى بدأ خلق الإنسان من طين، وأن هذا الطين مكث زمنا، ينتقل من حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، حتى كان منه هذا الإنسان.
وفى العطف بالحرف «ثمّ» ما يشعر بامتداد الزمن وتطاوله، فى تلك الدورة الطويلة التي انتقل بها الإنسان من عالم الطين إلى عالم البشر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا(4/127)
لِآدَمَ»
فالخلق مرحلة من مراحل تطور الكائن البشرى.. خلق أولا، أي بدئ فى خلقه، ثم صوّر، أي تنقل من حال إلى حال، متصاعدا نحو الكمال، حتى إذا استكمل وجوده البشرى وصار إنسانا، كان خلقا آخر، وعالما غير العالم الذي جاء منه.. وهذا ما يدل عليه قوله سبحانه «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» ..
فهناك خلق، أي بدء خلق، فتعديل فى هذا الخلق، أي تطور وتنقل من حال إلى حال.. حتى بلغ الصورة التي شاء الله سبحانه وتعالى الوقوف بالإنسان عندها، وإخراجه عليها.
وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» هو إشارة إلى الأجل الذي يعيشه الإنسان، كإنسان فى هذه الحياة.. والتقدير: وهناك أجل مسمى يقضيه الإنسان، هو مكتوب عند الله.
وهذا الأجل هو المحسوب على الإنسان، إذ فيه يكون أهلا للتكليف، والحساب والجزاء.. ومن هنا أضيف هذا الأجل إلى الله سبحانه وتعالى، وحسب أنه أجل مقضىّ عند الله، فيه يعرف الإنسان ربّه، ويتعامل معه..
وفى إضافة هذا الأجل إلى الله سبحانه، إشارة إلى أن الإنسان كائن مضاف إلى الله، إضافة تكريم، اختص بها من بين كثير من الكائنات، وهذا من شأنه أن يحمل الإنسان على أن يحثّ الخطا إلى الله، وأن يدنو منه، ويتعرف إليه، ويتعامل معه.. ليكون أهلا للإضافة إلى الله.. كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .
وقوله تعالى: «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» إشارة إلى ما فى الإنسان من ضلال وعمى عن الله، وأنه مع هذه الآيات البينات، وتلك النعم والألطاف التي يسوقها(4/128)
سبحانه إلى النّاس، فإنهم يمترون فى الله، ويشكّون فى وجوده، أو فى قدرته، أو فى البعث والجزاء.. إلى غير ذلك مما هم فيه مختلفون.
وقوله سبحانه: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» هو استعراض لقدرة الله وعلمه، وأنه هو الإله الخالق للسموات والأرض، والمالك لهما، والمتصرف فيهما، لا يملك أحد معه شيئا، ولا لأحد معه تصريف فى هذا الوجود..
وإذ كان الله على تلك الصفة، فإنّه يعلم بعلمه كل شىء فى هذا الوجود، ظاهره وباطنه، جليّه وخفيّه.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) .
والإنسان صنعة الله.. خلقه من طين، وتنقل به من خلق إلى خلق، حتى صار هذا الكائن البشرى، العاقل، المدرك- أفيخفى على الله من أمره شىء؟ وكيف وقد صنعه بيده، ورباه ونشّأه، وأمسك عليه حياته، وعدّ عليه أنفاسه، وأحصى نبضات قلبه؟ ألا يعلم الإنسان كل خافية من صنعة صنعها، أو مخترع اخترعه؟ فكيف بعلم الله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم؟
وفى هذا الاستعراض لعلم الله وقدرته استدعاء للإنسان الشارد عن الله، الغافل عن ذكره، المستخفّ بشرائعه- أن يعود إلى الله، وأن يخشاه، ويتقى محارمه، حيث يرى الله كلّ ما يعمل، ويعلم ما يخفى وما يعلن..
وقوله تعالى: «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» هو تشنيع على الكافرين، وإعراض عنهم، حيث أعرضوا عن الله، واستخفّوا بآياته، ومكروا بها.. ولهذا لم يخاطبهم الله خطاب حضور، بل أنذرهم إنذار غيبة، لأنهم مبعدون من رحمة الله، غائبون بوجودهم عنه، مشغولون بأهوائهم وضلالاتهم عن ذكره.(4/129)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
وفى قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» - ما يكشف عن وجه هؤلاء الذين أعرضوا عن آيات الله، الله، وكفروا بها.. وأن القرآن الكريم وهو الحق من الله، والآية المشرقة من آياته، لم يلقه هؤلاء الضالون إلا بالتكذيب والإعراض والاستهزاء..
فصبرا، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، يوم يعرضون على الله بهذا الإثم العظيم الذي حملوه، من التكذيب لكتاب الله، والاستهزاء بآياته..
وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» جاء الفعل «يستهزئون» بدلا من الفعل الذي يطلبه النظم وهو «يكذبون» ..
إذ جاء وصفهم بأنهم كذبوا، فكان مقتضى هذا الوصف أن تجىء المجازاة عن التكذيب، لا عن الاستهزاء.
وهذا من القرآن الكريم آية من آيات إعجازه، إذ يحمّل بهذا النظم المعجز فعل التكذيب، معنى التكذيب والاستهزاء معا.. فهم لم يكذبوا وحسب، بل أتبعوا التكذيب سخرية واستهزاء! وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى:
«فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
الآية (6) [سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)(4/130)
التفسير: القرن مائة سنة من الزمان، والمراد به هنا أهل هذا القرن، الذي ولدوا وعاشوا، وماتوا، فيه.. والمدرار: المطر الغزير المتتابع..
وهذه شواهد محسوسة ونذر قائمة بين يدى الناس، يرفعها الله سبحانه وتعالى لهم، بعد أن رفع لعقولهم ومدركاتهم كثيرا من الشواهد والنذر، فلم يبصروها ولم ينتفعوا بها..
فأين تلك الأمم التي كانت أكثر أموالا وأولادا، وأعزّ قوة وسلطانا من أهل مكة، بما ساق الله إليهم من نعم، وما مكنّ لهم فى الأرض، وما بسط لهم من سلطان عليها، فعمروها أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون، ولكنهم حين مكروا بآيات وكفروا بنعمه، لم يكن لهم من أموالهم وأولادهم، وسلطانهم- عاصم يعصمهم من نقمة الله، فصبّ عليهم المهلكات، فأصبحوا كهشيم تذروه الرياح..؟
فأين عاد؟ وأين ثمود؟ تلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.. يراها المشركون وهم يمرون عليها، فى غدوهم ورواحهم مع تجارتهم الغادية الرائحة بين مكة والشام..
وأين سبأ؟ وأين ما كان فيها من جنات وعيون، ونعمة كانوا فيها فاكهين؟
لقد صارت يبابا خرابا.. يرى المشركون أطلالها فى رحلتهم شتاء إلى اليمن تجارا، قد ألهتهم أموالهم وتجارتهم عن النظر فيها، وأخذ العبرة منها.
لقد هلكت عاد وهلكت ثمود، وذهبت سبأ.. وخلفهم آخرون..
وسيهلك هؤلاء المشركون من أهل مكة.. وسيخلفهم غيرهم ...
إنهم لن يخلّدوا بما جمعوا من مال، وما استكثروا من بنين، وما بلغوا من جاه وسلطان..(4/131)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
إنهم سيهلكون كما هلك غيرهم، وإنهم لن يعمّروا عمر الزمان، فما هم إلا جيل من أجيال الناس، وقرن من قرون الزمان، ولن يمضى هذا القرن الذي هم فيه حتى يكونوا ترابا فى التراب، ليس معهم مما جمعوا إلا هذا الشرك الذي هم فيه.. والذي سيوردهم موارد العذاب المهين..
وفى لفظ «قرن» فى قوله تعالى: «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» إشارة إلى مدى عمر الإنسان فى هذه الحياة، وأنه محصور فى هذا الإطار من الزمن.. يزيد قليلا أو ينقص قليلا، بل إن ذلك هو عمر الجماعة الإنسانية كلها.. تمر بها القرون قرنا قرنا، وفى كل قرن زرع جديد، قائم على الزرع الذي تم حصاده، مما كان زرعا للقرن الماضي.. وهكذا الدنيا زرع وحصاد، وحصاد وزرع!
الآيات: (7- 11) [سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 11]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
التفسير: تعرض هذه الآيات ما كان عليه مشركو مكة من ضلال وعناد، فى لقائهم للدعوة الإسلامية، ووقوفهم منها هذا الموقف العنادىّ، الممعن فى(4/132)
العناد والتحدّى.. فقد ركبوا رءوسهم، واتبعوا أهواءهم، واعتصموا بما هم فيه من شرك وضلال.. وهكذا كل من يلقى الأمور بظهره، وينظر إلى الأشياء بعين هواه، لا يرى الحقّ أبدا، حيث لا يستمع لكلمة ناصح، أو يستجيب لدعوة داع..
وهؤلاء المشركون.. لن تتغيّر حالهم أبدا، ولن يتحولوا عمّا ركبهم من شرك وضلال، ولو جاءهم النبىّ بكل آية.
وقوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» يكشف عن هذا العناد الذي انعقدت عليهم قلوب الكافرين من أهل مكة، وأنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو نزّل عليهم كتاب من السماء، مكتوب فى قرطاس يرونه، ويلمسونه بأيديهم..
والمراد بالذين كفروا هنا، هم الذين كتب الله عليهم الشرك من مشركى مكة، الذين لم يدخلوا فى الإسلام، وماتوا على الكفر.. وهم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (6: البقرة) فالخطاب فى قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» لا يراد به جميع المشركين من أهل مكة، الذين ووجهوا بهذا الحكم، وإنما يراد به تلك الجماعة التي ظلت سادرة فى غيها وضلالها، إلى أن ماتت على كفرها وشركها.
وقوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» هو من مقترحات هؤلاء الكافرين الذين ماتوا على كفرهم.. إنهم يأبون أن يقبلوا إنسانا بشرا يحدّثهم عن الله، ويجىء إليهم بكلماته.. وقد قالها من قبل أهل ثمود، قوم صالح عليه السلام، كما أخبر القرآن الكريم عنهم: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقالُوا(4/133)
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ»
(23- 25: القمر) وهذا الذي يلقى به المشركون النبىّ من تحدّ وعناد، باقتراحهم أن يجىء معه ملك من السماء، يزكّيه عندهم- هو من بعض ما كانوا يقترحون، مما تمليه أهواؤهم، ويدعوهم إليه ضلالهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) .
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على مقترحهم هذا بقوله: «وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» فنزول الملك يعنى أنه آية محسوسة، ظاهرة قاهرة، لا مجال للابتلاء والاختيار فيها، فمن أنكرها فهو منكر لوجوده كله، ظاهرا وباطنا، ومن كان هذا شأنه فقد استحق أن يؤخذ بجريرته، دون مهل لابتلاء أو اختبار بعد هذا.. ومن أجل ذلك، كانت المعجزات الحسيّة التي يحملها الأنبياء إلى أقوامهم، تحمل معها نذر الإهلاك لهم، إذا هم كذبوا بها، كما كان ذلك فى عصى موسى، التي كان الغرق جزاء كل من كفر بها، وكناقة صالح، التي هلك بها قومه، ثمود..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» إشارة إلى أن العقاب سيقع بالمكذبين من غير مهل، لو نزل الملك من السماء، كما اقترحوا.. ثم كذبوا!(4/134)
ولكن الله سبحانه وتعالى، لم يستجب لمقترحهم هذا، تكريما للنبىّ الكريم، وتحقيقا لوعده الذي وعده فى قوله: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) .
وقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي لو جعلنا الرسول المرسل إليهم ملكا- كما يقترحون- لجعلناه فى أعينهم رجلا، أي لأنكروا وجود الملك بينهم، وتعذّر عليهم الحياة معه.. إنهم والملك طبيعتان مختلفتان، لا يقع الانسجام والاطمئنان بينهما، وإلى هذا أشار الله سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» (95: الإسراء) .
فقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» يشير إلى اختلاف الطبيعة البشرية والطبيعة الملكية، وأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يبعث إلى البشر ملكا رسولا إليهم لاقتضت حكمته أن يلبس هذا الملك صورة البشر، حتى يسكن إليه الناس، ويكون بينه وبينهم لقاء وإلف.. فالجنس لا يألف غير جنسه، ولا يسكن إلا إليه.
وقوله تعالى: «وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي ولو جاءهم الملك فى صورة إنسان، لما ارتفع هذا اللّبس، وهذا الشك والوسواس، ولبقى حالهم مع الملك فى صورة إنسان، هو حالهم مع الإنسان، يحمل رسالة من الله رب العالمين.
فالقضية بالنسبة لهؤلاء المعاندين، هى هكذا..
يطلبون أن يكون رسول الله إليهم ملكا من ملائكة الرحمن.
والملك غير ممكن أن يلقوه على صورته.. بل لا بد أن يكون على صورة إنسان..(4/135)
والإنسان فى نظرهم هو الإنسان.. سواء أكان ملكا تحوّل إلى إنسان أم كان إنسانا أصلا..
وإذن فالمشكلة قائمة عندهم، والشك منعقد عليهم.. لا يؤمنون برسول إنسان، ولن يكون الرسول إلا إنسانا منهم.
وقوله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء له، مما يلقى من المشركين من عناد، وما يساق إليه منهم من ضر وأذى.. فتلك هى سبيل حملة الهدى من عباد الله.. فكم لقى رسل الله من أقوامهم من عنت وبلاء، حتى لقد قتل بعضهم، ومثّل به أشنع تمثيل.. ولكن العاقبة للحق والخير، والنصر لدعوة الحق والخير.. والويل والخذلان والخزي لأولئك الذين كذّبوا برسل الله وسخروا منهم واستهزءوا بهم.. «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» أي أحاط بهم واشتمل عليهم استهزاؤهم وسخريتهم، فهذا الاستهزاء هو الذي أوردهم موارد الهالكين فى الدنيا، وأنزلهم منازل أصحاب النار فى الآخرة.
فإن شك هؤلاء المكذبون، المستهزءون بآيات الله وبرسول الله.. إن شك هؤلاء فى المصير الذي هم صائرون إليه، فلينظروا فيما كان لأمثالهم، الذين كذبوا بآيات الله وبرسل الله، «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» لقد أخذهم الله بكفرهم وعنادهم، وأرسل عليهم الصواعق، وصبّ عليهم البلاء، وإذا هم فى لحظة خاطفة جثث هامدة، وأشلاء ممزقة.. وإذا هم صائرون إلى مصير يلقون فيه العذاب الأليم.. «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .(4/136)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
الآيتان: (12- 13) [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
التفسير: قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» هو سؤال من الحق جلّ وعلا، على لسان نبيّه الكريم، وهو سؤال وارد على خاطر كل ذى لبّ.. فهذا الوجود بما فيه من عجائب وغرائب، لا يمر عاقل على آية من آياته، إلّا وقف عندها، ونظر فيها، واجتهد فى التعرف على أسرارها.. ثم سأل نفسه أو سألته نفسه، عن صانعها: من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟
وما تزال هذه الأسئلة تلحّ عليه حتى ينسب هذا الوجود إلى صانع عظيم قدير، ليس كمثله شىء، لا يسأل عنه: بأين؟ ولا كيف؟ .. إذ هو فوق كل أين، وغير كل كيف..
وقوله تعالى: «قُلْ لِلَّهِ» هو جواب قاطع، لا جواب غيره، عن هذا السؤال، الذي مطلوب من كل عاقل أن يسأله نفسه، وأن يجيب عليه..
وسيهديه نظره وعقله إلى هذا الجواب الذي أجاب به الحق سبحانه وتعالى:
«قُلْ لِلَّهِ» - فالمالك لهذا الوجود، القائم على كل موجود، هو الله رب العالمين، لا شريك له فى سلطانه.
وقوله تعالى: «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» أي الذي كتب على نفسه الرحمة، - وتلك صفة من صفات الله- هو الذي له ما فى السموات وما فى الأرض..(4/137)
ومعنى كتب على نفسه الرحمة، أي أوجبها سبحانه وتعالى على نفسه، حيث اقتضتها حكمته، واستدعاها فضله..
فالملك الذي بين يدى المالك سبحانه وتعالى، هو من آثار رحمة الله.. تلك الرحمة العامة الشاملة التي تمسّ كل مخلوق، وتنال البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.. ولولا هذه الرحمة لما تنفس الكافر نفسا فى هذه الحياة، ولما أمهل فى محادّته لله، وعدوانه على رسله، ولكن رحمة الله التي وسعت كل شىء، لم يحرم الكافر نصيبه منها، فأفسح الله له فى الحياة، ليرجع إليه، ويصلح من أمره ما أفسده.
فإذا مضى الكافر على كفره، ثم أخذ بذنبه، كان من رحمة الله أن يؤدب وأن يعاقب، ففى هذا العقاب إصلاح لنفسه التي فسدت، وصقل لمعدنه الذي أكله الصدأ! وقوله تعالى: «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» فى توكيد الفعل «ليجمعنكم» بالقسم وبنون التوكيد، إشارة إلى أن البعث أمر كتبه الله سبحانه وتعالى على نفسه، كما كتب الرحمة، وأن البعث هو رحمة من رحمة الله، إذ هو إعادة الحياة التي ذهب بها الموت، والحياة نعمة من نعم الله، ورحمة من رحمته.. إنها نعمة تستوجب الشكر، والحمد لله رب العالمين: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) .
وفى تعدية الفعل «ليجمعنكم» بحرف الجرّ «إلى» إشارة إلى أن الجمع هو استدعاء من جهات شتى، ودعوة قاهرة إلى مكان معلوم، تصبّ فيه وفود المدعوين، وتجتمع إليه.. فمعنى الجمع، هو السّوق، أي ليسوقنكم إلى يوم القيامة، إذ كان يوم القيامة هو موعد اللقاء الذي يلتقى عنده الموتى، المبعوثون(4/138)
من القبور.. «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (51: يس) .
وقوله تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أي أن الفساد الذي اشتملت عليه نفوس أهل الضلال، هو الذي حجبهم عن الإيمان، وصار بهم إلى طريق الكفر والضلال.. وهذا يعنى أن فى الكافرين- قبل كفرهم- نفوسا مهيأة لهذا الكفر، مستعدة له، لما فيها من فساد، وهذا الفساد من شأنه أن يرفض الطيّب، ويقبل الخبيث الفاسد، الذي يلائمه، ويتفاعل معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (10: البقرة) .
وقوله تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» فهذه قلوب لا تقبل خيرا، ولا تمسك به، ولهذا ختم الله عليها، فلم يسمعها كلماته، ولو أنها سمعت كلمات الله ما قبلتها ولا استجابت لها.
وقوله تعالى: «وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو استكمال للجواب الذي أجيب به على قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فكأنه قيل: قل لله ما فى السموات وما فى الأرض، وله كذلك ما سكن فى اللّيل والنهار، أي ما اشتمل عليه الليل والنهار من موجودات..
فكل ما طلع عليه النهار، واستولى عليه سلطان الضوء، وكل ما غشيه الليل، واستولى عليه سلطان الظلام، هو فى ملك الله، وتحت سلطان علمه وسمعه.(4/139)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
الآيات: (14- 16) [سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
التفسير: الولىّ: السيد، والمعين.. فاطر السموات والأرض: أي خالقهما ابتداء.
وقوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا» استفهام إنكارى، وكأنه ينكر على نفسه أن تدعوه إلى أن يتخذ من دون الله وليّا ومعينا، أو ينكر على غيره أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة..
والمعنى: إنى لا أتخذ وليّا ومعتمدا أعتمد عليه، وأستعين به، غير الله، ذى الحول والطول، وذى القدرة التي لا يعجزها شى.. تلك القدرة التي كان من صنعتها هذا الوجود كلّه، فى سماواته وأرضه، أوجدهما- سبحانه- ابتداء على غير مثال «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .
وهذا الاستفهام الإنكارىّ، أقوى قوة، فى إظهار الولاء الخالص لله، والثبات عليه- من الخبر التقريرىّ بالولاء، إذ فيه إنكار لموالاة غير الله أولا، ثم إقبال على موالاته سبحانه، ثانيا، وفى هذه العملية إثارة للعقل وتحريك للوجدان، ومواجهة لمن يدعوهم الدّاعون أن يتخذوا أولياء من دون الله.. حتى إذا أنكرهم العقل ولفظهم الشعور، أقبل المرء على الله، وقد صفّى حسابه مع هذه الضلالات القائمة على طريقه إلى الله، فيلقى ربّه بكيانه كله، ويلقى إليه بولائه خالصا..
وقوله تعالى: «وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ» أي فالله المستحقّ لأن يتخذه الناس وليّا، ومعتمدا، هو الذي فطر السموات والأرض، وهو الذي يقوت(4/140)
المخلوقات ويطعمها، ويمدّها بما يحفظ وجودها، دون أن يكون لهذا مقابل..
وإنما هو فضل وكرم من ربّ العالمين، المستغنى عن كلّ عون، الغنىّ عن كل مخلوق.. وكيف لمن كان مصدر العطاء أن يكون محتاجا إلى عطاء؟
وكيف لمن يستمدّ منه العون أن يكون محتاجا إلى معين؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله سبحانه: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» هذا ما أمر به النبىّ من ربّه، وهو أن يكون أول من أسلم وجهه لله، وأول من ألقى بنفسه بين يديه، ووالاه.. إذ كان صلى الله عليه وسلم- هو مفتتح دعوة الإسلام، وحامل رسالتها إلى المسلمين، فكان أول من آمن بها، واستقام على هديها.. وذلك بعد أن استدلّ على خالقه بتفكيره فى خلقه، وأنكر أن يتحذ وليّا من دونه، وهو الذي فطر السموات والأرض.. وهو الذي يطعم ولا يطعم، فإذا جاءت دعوة الله تعالى إليه صادفت تلك الدعوة قلبا مستقبلا لها..
والأمر هنا، هو الدعوة إلى الإيمان بالله، من الله، وإلى نبى الله، وليس فى هذا الأمر إلزام ولا قهر، ولكن النبىّ الكريم فى استجابته لربّه، وفى مبادرته إلى الاستجابة، واحتفائه بها، وشدّ نفسه إليها، وعقد قلبه عليها كل أولئك قد جعل الدّعوة الإلهية أمرا يتلقّاه النبىّ بكيانه كله، ويعطيه كل ما قدر عليه من قوة وعزم.
وقوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» هو عطف على الأمر المفهوم من قوله تعالى: «أُمِرْتُ» أي أن الله سبحانه وتعالى أمرنى بأن أكون أول من أسلم، فقال لى: كن أول من أسلم، ونهانى عن أن أشرك به فقال لى: ولا تكوننّ من المشركين..
وقوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»(4/141)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
هو بيان لبعض دواعى الإيمان بالله فى نفس النبىّ، وفى نفس كل مؤمن بالله، وهو أن الخوف من عذاب الله يوم القيامة، وطلب النجاة من هول هذا اليوم، هو داع صارخ يدعو الإنسان إلى أن يهرب من هذا البلاء، إلى الإيمان بالله، واستجابة دعوته التي يدعو بها عباد الله.. فمن أبى، وعصى أن يستجيب لله ويؤمن بالله، فهذا يوم الحساب أمامه، والنار مثواه.
وقوله سبحانه: «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ» أي أن من ينجو من عذاب هذا اليوم، ويسلم من الوقوع تحت وطأته- فهذا من فضل الله عليه، ورحمته به، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان بالله، والولاء له، والامتثال لأمره.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» إذ لا فوز بعد هذا الفوز، ولا ربح أعظم من هذا الربح.. حيث خلص الإنسان بنفسه من العذاب، ثم لم يقف به الأمر عند هذا الحدّ من الفوز والفلاح، بل أخذ بيده بعد هذا إلى جنات النعيم، وإذا هو فيمن رضى الله عنهم، وأفاض عليهم الجزيل من عطاياه ومننه.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» .!
الآيات: (17- 19) [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)(4/142)
التفسير: المسّ: لمس الشيء برفق..
وقوله تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» عرض لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه هو الذي بيده النفع والضرّ، وأن أقسى ما يصيب الإنسان من ضرّ هو لمسة خفيفة، محفوفة برحمة الله ولطفه، ولولا ذلك لما احتملها بشر.. وكذلك ما ينال الإنسان من خير، هو قطرة من فضل الله، محفوفة بحكمته وتقديره، ولولا ذلك لفاضت فملأت على الإنسان دنياه، ولما وجد لنفسه متنفّسا فيها..
فإذا مسّ الإنسان ضرّ فهو من الله سبحانه، ولا يرجى لكشف هذا الضرّ غيره.. لأنه مما قضى به، ولا رادّ لقضائه الذي قضاه، إلا ما كان من لطفه ورحمته اللذين يحفّان بقضائه، فيمضى على ما قضاه، ولكن تقوم إلى جانب ذلك فى كيان الإنسان مشاعر تستقبل هذا القضاء برضى، وتحتمله فى صبر، حتى يأذن الله برفع هذا الضرّ، وكشفه.. وهذا هو بعض اللطف فى القضاء.
وإذا مسّ الإنسان خير، فهو كذلك مما قضى الله به، وأراده، ويسرّ الإنسان له.. وفى تقديم الشر على الخير هنا ما يملأ مشاعر الإنسان خوفا من الله، وتعلقا به، واتجاها إليه، فإن الإنسان فى الخير كثيرا ما يذهل عن الله، ويغفل عن ذكره.. ولكنه فى حال الشدّة والضرّ يذكر الله ويهتف به، ويمدّ يده إليه كما يقول سبحانه: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» (8: الزمر) .
وكما يقول: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (83: الإسراء) .. فما أقلّ أولئك الذين يجدون فى(4/143)
نعم الله طريقا يصلهم إلى الله، ويقرّبهم منه، ويقيمهم على الشكر والحمد، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) أما فى البلاء، وأما فى الشدة، فإن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، يذكرون الله، ويهتفون به، حتى فرعون، فإنه حين أدركه الغرق، قال آمنت! ..
وهكذا الناس.. تدنيهم الشدائد من الله، وتقربهم منه.. وإنها لنعمة تلك الشدائد، التي توجّه الإنسان إلى الله، لو أنه استقام على طريقه إلى الله، ولم يكن من الخائنين لنفسه، الذين يمكرون بآيات الله..
قوله تعالى: «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» أي أنه ذو السلطان القائم فوق عباده، يملكهم ولا يملكونه، ويقضى عليهم ولا يقضون عليه، ويعطى ويمنع، ويعزّ ويذل: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (26: آل عمران) .
وليس سلطان الله سبحانه، القائم فوق عباده، الآخذ على جوارحهم ومشاعرهم ومدركاتهم- ليس بالسلطان المستبدّ الجهول، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنما هو سلطان قائم بالعدل، والحكمة، والعلم والقدرة، وما كان كذلك، فهو سلطان الرحمة والإحسان..
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» إشارة إلى هذا السلطان القاهر الغالب، وأنه بيد حكيم خبير، يضع كل شىء موضعه، بحكمة الحكيم، وخبرة الخبير، فيأخذ مكانه الذي هو له، فى أحسن وضع، وأكمل صورة، فى ملك الله: «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ.. الْبَصَرَ.. هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» (3: الملك) .(4/144)
وقوله تعالى: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» هو استدعاء لهؤلاء المكابرين المعاندين، الذين ينظرون إلى هذا الوجود على أنه لهم وحدهم، وأن كل ما فيه تبع لأهوائهم: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» (71: المؤمنون) .. فإذا سمع هؤلاء المكابرون هذا النّداء، وقيل لهم: «أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» عندكم، تأخذون بشهادتهم عليكم، فى الحكم بينى وبينكم فيما أدعوكم إليه، من الإيمان بالله، وأنى رسول الله إليكم، أحمل إليكم كلمته، وأوجه وجوهكم وقلوبكم إليه؟ ما الشاهد الذي تكبرون شهادته، وتنزلون على ما يشهد به؟
ولا يمهلهم الله أن يجيبوا، لأنهم لا يجيبون إلّا ضلالا، ولا يقولون إلا زورا وبهتانا، بل يلقاهم بالشاهد الذي إن لم يقبلوا شهادته اختيارا قبلوها قسرا واضطرارا، لأنه الشاهد الذي يحكم ولا معقب لحكمه، والقاضي الذي يقضى ولا راد لقضائه.. إنه هو الله ربّ العالمين.
«قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» .
هذا هو الشاهد، والحكم بينى وبينكم، فردّوا عليه شهادته إن استطعتم! وقوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» تلك هى القضية التي بينى وبينكم، وقد أدليت بشهادتى فيها، بين يدى أحكم الحاكمين..
«وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» من ربّ العالمين «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» وأحذركم من عذاب يوم عظيم، إن أنتم لم تصدقوا برسالتى، ولم تؤمنوا بما بين يدىّ مما أوحى إلىّ، ولست رسولا إليكم وحدكم، بل إن رسالتى إليكم وإلى كل من تبلغه، وتصل إليه بلساني، أو بلسان من يدعو بها، فهى رسالة عامة للناس جميعا، فمن بلغته ولم يؤمن بها، فقد حقّ عليه ما حقّ على الكافرين منكم «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» وفى عطف قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» على قوله تعالى: «اللَّهُ(4/145)
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»
تفويت على أولئك المكابرين المعاندين أن يجدوا فسحة من الوقت يردّون بها الشاهد الذي أشهده الرسول عليهم، وإلغاء لكل شاهد يقيمونه فى هذا الموقف غير الله سبحانه وتعالى، وقطع للجاجهم وعنادهم، وإمساك بآذانهم أن تنحرف عن هذا الموقف الذي هم فيه.
وقوله تعالى: «أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى» هو تقرير لهم من الرسول، وهم فى هذا الموقف، بعد أن أوقفهم بين يدى الله، وأشهده عليهم..
ومع هذا، فإن العناد لا يزال مستوليا عليهم، وإن اللجاج لا يزال يضرب بأمواجه فوقهم..
ولهذا، فإن الرسول الكريم، لا ينتظر جوابهم، إذ كان جوابا منحرفا عن الحق، بعيدا عن الهدى.. فليتركهم وشأنهم، وبين أيديهم دعوة الحق، وأمامهم طريق الهدى، فإن أطاعوا فقد اهتدوا، وإن تولّوا فإنما هم فى ضلال وخسران.. أما الرسول الكريم، فعلى الطريق الذي أقامه الله عليه.. «قُلْ لا أَشْهَدُ» أن مع الله آلهة أخرى. «قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» .
وفى قوله تعالى: «قُلْ» تثبيت للنبى من ربّه، ووضع للكلمة التي ينبغى أن يقولها، على لسانه وفى قلبه.. يتلقاها من الله، فتلتقى مع الكلمة التي يريد أن يقولها، فإذا هى نور فى قلبه، وقوة فى عزمه، وطمأنينة فى صدره، ولطف عظم من ألطاف ربه.. وفى تكرار «قل» مع كل قول من الله تعالى لهم، كمال عناية، وتمام رعاية من الله سبحانه «للنبى» حيث يجد مع كل نفس يتنفّسه، وحي السماء يقول له: قل.. قل.. قل.. وبهذا يشتدّ عزمه، وتثبت فى لقاء الكافرين قدمه.(4/146)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
الآيتان: (20- 21) [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
التفسير: قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» هو استدعاء لأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، لأخذ شهادتهم فى هذا الكتاب الذي بين يدىّ النبىّ، والذي يواجه به المشركين من العرب، فيلقونه بالتكذيب والاستهزاء.. وأهل الكتاب هؤلاء يعرفون صدق الرسول، وصدق ما جاء به، معرفة محققة مستيقنة، كما يعرفون أبناءهم، حيث لا تختلط على أحدهم وجوه أبنائه بغيرهم.. ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، وبالكتاب الذي معهم، لآمنوا بمحمد وبالكتاب الذي معه، ولكنهم كتموا شهادة الحقّ..
بغيا وحسدا.. فخرسوا، ولم ينطقوا، أو نطقوا كذبا وبهتانا.. إنهم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» بالرسول وبما معه من كلمات الله، ولا يؤمنون بكتابهم الذي فى أيديهم، وذلك خسران بعد خسران، وضلال فوق ضلال.
وقوله سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» ، هو تهديد ووعيد للكافرين من أهل الكتاب هؤلاء، الذين افتروا على الله الكذب، فحرّفوا كلماته، وبدّلوا آياته، وقالوا فى محمد وفى كتابه، غير ما عرفوه من كتاب الله عندهم، فإن لم يكن منهم فى هذا تحريف ولا تبديل، فقد كان منهم تكذيب لآيات الله، بتأويلها تأويلا فاسدا، وحملها على مفاهيم منكرة، تحجب وجه الحق فيما فى كتابهم من دلائل تدلّ على النبىّ، وتحدد صفته، وصفة رسالته.
وقوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» حكم على أهل الكتاب، الذين ظلموا الحقّ، وظلموا أنفسهم، فضلوا وأضلوا.. وذلك هو الخسران المبين.(4/147)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
الآيات: (22- 24) [سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
التفسير: ومن هذا الموقف الذي دعى إليه المشركون وأهل الكتاب إلى مواجهة الرسول الكريم، وأخذ شهادتهم فيه، وفى الكتاب الذي بين يديه- من هذا الموقف ينتقل هؤلاء جميعا انتقالا سريعا إلى موقف آخر، هو موقف الحشر يوم القيامة.. وإذا هم يلقون الجزاء الذي يستحقونه، لكفرهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله.
«وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ؟ ويتلفت القوم إلى هؤلاء الشركاء الذين يسألهم الحقّ جلّ وعلا عنهم، فلا يجدون لهم أثرا، ويخيّل إليهم من ضلالهم أن جسم الجريمة قد اختفى، وأنهم لن يؤخذوا بهذا الجرم الذي لا يقوم شاهد على وجوده.. فيقولون كذبا، وبهتانا: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» .. يقسمون بالله ويؤمنون به، ويدعونه ربّهم، إمعانا فى الكذب، وتعلقا بالوهم، للفرار من هذا الموقف الرهيب! وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ»
إشارة إلى أن هذا القول الذي قالوه هو فتنة أخرى، إذ ما زالوا على ضلالهم القديم، وتصورهم الفاسد، وأنه تعالى لا يعلم ما قدّموا وما أخّروا، وما أسرّوا وما أعلنوا.. فسمّى سبحانه وتعالى هذا القول منهم فتنة.. ولم يقل سبحانه: ثم لم يكن قولهم، أو جوابهم.. إذ كان قولهم هذا، هو فتنة لهم وضلال مبين.(4/148)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
وفى قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» تشنيع عليهم، وفضح لسوء معتقدهم فى الله، ودعوة للناس أن يروهم وهم متلبسون بهذا الضلال المبين..
وإنهم إذ قالوا هذا القول المفضوح، قد كذبوا على أنفسهم، وغذّوها بالخداع والضلال، أما الحقيقة فهى قائمة عليهم، ممسكة بهم، «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (4: البقرة) .
وقوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» إشارة إلى أن ما كانوا يعبدونهم من دون الله، قد أخلوا أيديهم منهم، وتبرءوا من الصلة التي أقامها هؤلاء المشركون معهم. «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (40- 41 سبأ) ... «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» (166: البقرة) .
الآيات: (25- 26) [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
التفسير: ومن هذا الموقف الذي سيقوا فيه إلى يوم القيامة، وإلى الحساب والمساءلة، وقطع الحجة عليهم- من هذا الموقف ردّوا إلى موقفهم الأول، حين كانوا فى مواجهة النبىّ، وفى عنادهم له، وتصدّيهم لدعوته..(4/149)
وكان الجدير بهم- لو عقلوا- أن تتأثر وجداناتهم بهذه الإثارات التي تتغيّر بها معالم الوجود فى أعينهم، حين ينقلون من الدنيا إلى الآخرة، ثم يردّون من الآخرة إلى الدنيا.. ولكنهم ظلوا على حال واحدة، حتى لكأنهم أحجار لا تحسّ ولا تعقل.
وفى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» استحضار لهؤلاء المشركين الضالين من موقف الحشر، الذي نقلتهم إليه الآيات القرآنية السابقة نقلا قاهرا، وأحضرتهم مشاهد المحاكمة والمساءلة- إلى ما كانوا فيه من مواجهة النبىّ، وتحدّيه، وتكذيبه، والاستهزاء به..
فمن هؤلاء المشركين الضالين من يستمع إلى النبىّ، وما يرتّل من كلمات الله، ولكنه استماع لا يحدث فيهم أثرا.. فلا تنفذ كلمات الله إلى آذانهم، ولا تبلغ مواطن الإحساس من قلوبهم، فقد أصمّ الله آذانهم، وأعمى قلوبهم..
«إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» . (57: الكهف) والأكنّة جمع كنان، مثل قناع وأقنعة، وزنا ومعنى، أي أنه ضرب على قلوبهم حجاز يقطع ما بينها وبين موارد العالم الخارجي، فلا تحسّ شيئا، ولا تنفعل لشىء.
والوقر: الصمم يصيب حاسة السّمع.
فقد ختم الله على قلوب هؤلاء القوم، وعلى سمعهم، فلا يسمعون خيرا، ولا يعقلونه، فهم- والحال كذلك- لن يهتدوا أبدا، «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها» .. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41: المائدة) .
وختم الله على القلوب، هو تركها على ما هى عليه من ضلال وعمى.. دون أن يمدّها بأمداد لطفه، وعونه، إذ كانت هى لا تستجيب لخير، ولا تتقبل هدى: «وَلَوْ عَلِمَ(4/150)
اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»
(23: الأنفال) .
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ» يكشف عن طبيعة هؤلاء القوم.
وأنهم لا يتحركون إلا إلى الشرّ، ولا يعملون إلا لما هو شرّ..
فهم إذا جاءوا إلى النبىّ، لم يجيئوا لطلب حق، أو تعرّف على خير، وإنما هم يجيئون للمجادلة، والسّفاهة، والاستهزاء.. إن الحال التي تتلبس بهم، وتستولى عليهم، وهم يسعون إلى لقاء النبي، والاستماع إليه- هى المجادلة، والمماحكة، ولا شىء غير هذا..
وقوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» هو بيان لما تكشفت عنه حالهم، وانتهى إليه أمرهم، من هذا الموقف الذي جاءوا فيه إلى النبي، مستمعين مجادلين، لا طلاب علم واستفادة..
والأساطير جمع أسطورة، وهى ما كان من واردات الخيالات والأوهام، وملفقات الأحاديث.. فهذا هو حكمهم على ما استمعوا إليه من كلام الله: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» وتلك هى أسلحة المكابرين المعاندين فى معركتهم الخاسرة مع الحق.. فحين تسقط من أيديهم كل حجة، يلقون بهذه الترهات وتلك الأباطيل، لتكون وقاية لهم مما لبسهم من خزى وما لحقهم من هزيمة..
وفى وصفهم بالكفر، هكذا: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من أن يقال:
«يقولون» هو حكم عليهم بالكفر، وإدانة لهم به، إذ قالوا عن القرآن الكريم: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .
وقوله سبحانه: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ» .. الضمير فى «عنه» يعود إلى القرآن الكريم، الملحوظ فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» .
وجناية هؤلاء المشركين هنا جناية غليظة، وجرمهم فظيع شنيع.. إذ لم(4/151)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
يكتفوا بأن يكفروا بالقرآن، ويقولوا فيه ما يقولون، من زور وبهتان، وإنما وقفوا فى وجه من يطلبون الهدى منه، وحالوا بينهم وبين النبىّ أن يلقوه وأن يسمعوا كلمات الله منه.. وفدّم نهيهم الناس وصدّهم عن لقاء النبىّ والاستماع إليه، على نأيهم هم بأنفسهم عنه، وعزل عقولهم وقلوبهم عن لقائه، وهم إنما صدّوا أولا وكفروا، ثم كانت فعلتهم بعد هذا هى نهى غيرهم، وضمهم إلى جانبهم- ولكن لما كان صدّهم الناس عن رسول الله أمرا واقعا، وحكما قاطعا، ولم يكن أمرا مستحدثا منهم، وإنما الذي استحدثوه بعد أن أخذوا هذا الموقف لأنفسهم، هو أنهم جاءوا إلى غيرهم ليأخذوا معهم هذا الموقف الذي هم فيه- فكان من الحكمة فى لقاء المجرمين بجرمهم، أن يواجهوا أولا بما أحدثوا من جرم وهو صدّ الناس، ثم يساق إليهم بعد ذلك ما كان لهم من سابقة فى هذا الباب، وهو صدّ أنفسهم.
وقوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» كشف للمصير السيّء الذي صيّرهم إليه هذا الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم، من الصدود عن دعوة الإسلام، وصدّ الناس عنها.. إنهم أهلكوا بذلك أنفسهم، وأوردوها موارد البوار والخسران، وإن كانوا لا يشعرون أنهم إلى هذا المصير هم صائرون، لما استولى عليهم من غفلة، وما غشيهم من ضلال.
وإن فى قوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» نافية، بمعنى ما.
الآيات: (27- 29) [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 29]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)(4/152)
التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
هو ردّة أخرى لهؤلاء المكذبين الضالين، إلى موقف الحساب والجزاء فى الآخرة.. وفى كل مرّة يواجهون فى الآخرة، التي حشروا إليها حشرا وهم أحياء فى ديارهم وبين أهليهم- يواجهون مرحلة من مراحل الحساب فى هذا اليوم العظيم..
ففى المرّة الأولى ووجهوا بشركهم: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. ففى هذه المواجهة كشف لهم عن التهمة، وعن تلبّسهم بها، دون أن يستمعوا إلى الحكم وإلى العقوبة التي يؤخذون بها..
ثم ردّوا إلى الدنيا مرّة أخرى، ليواجهوا النبىّ من جديد بكفرهم وعنادهم وليصلوا ما انقطع، بهذه الرحلة التي حشروا فيها للحساب والمساءلة، وليلقوا النبي بما كانوا يلقونه به من تكذيب واستهزاء..
ثم هؤلاء هم يردّون مرة ثانية إلى موقف الحساب يوم القيامة، ولكن لا ليحاسبوا من جديد، فقد حوسبوا من قبل، وأسقط فى أيديهم، وقامت الحجة عليهم، وإنما ليستمعوا إلى الحكم فى جنايتهم التي جنوها على أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» .. فهاهم أولاء على حفير جهنم، يساقون إليها سوقا عنيفا.. ولكنهم ما إن يعاينوا هذا البلاء الذي يفتح فاه ليبتلعهم، حتى يضطربوا ويفزعوا. ويقولون: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ» ؟ وأنّى لهم أن يردّوا؟ ثم ماذا تنفعهم الرّدّة إلى الحياة مرة أخرى؟ ألم يكن فيما عرض الله عليهم من موقف الحساب والجزاء، وهم فى دنياهم التي كانوا(4/153)
فيها- ألم يكن فى هذا تجربة لهم، لو أنهم أحسنوا النظر إليها، وانتفعوا بمعطياتها؟
إنهم لن يرجعوا أبدا عما هم فيه من ضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية الواردة بعد هذا فى قوله سبحانه: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .
وفى قوله تعالى: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» ما يسأل عنه..
وهو: ما وجه النصب للفعل «ولا نكذب» مع عطفه على الفعل المرفوع قبله:
«يا لَيْتَنا نُرَدُّ» ؟
القراءة المشهورة: «ولا نكذب بالنصب» وقد قرئ «ولا نكذب» بالرفع عطفا على «نردّ» .
ووجه النصب أن «ليت» تفيد التمني، بمعنى نتمنى أن نردّ، ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.. فسلّطت على الفعل «نردّ» باعتبار، لفظها، ثم سلطت على الفعل «نكذب» باعتبار معناها! وقوله تعالى: «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» هو إضراب على أمانيّهم التي تمنوها، وتيئيس لهم منها، لأنها أمان لم تجىء إلا عن خوف وهلع من هذا الموقف الذي هم فيه، حين انكشف لهم ما كانوا يخفون من شرك بالله، وما يجرّهم إليه هذا الشرك من مصير مشئوم، وعذاب أليم..
وقوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» هو فضح لكلماتهم الكاذبة، التي أجراها على ألسنتهم سوء الموقف، ولفح السعير!! وقوله تعالى: «وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» .
هكذا كان دينهم فى الحياة الدنيا، دين يقطع أصحابه عن النظر فيما وراء هذه الحياة الدنيا التي استغواهم فيها الغىّ، وركبهم الضلال، فأضافوا وجودهم كله(4/154)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
إلى هذه الأيام التي يعيشونها من مولدهم إلى موتهم.. ومن هنا أخذوا كل ما قدروا على أخذه فى الحياة، بحق أو باطل، وأغرقوا أنفسهم فيما وقع لأيديهم من مطعوم أو مشروب، حلالا كان أو حراما.. إنهم أشبه بالجنود ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، ينفقون فيها كل درهم معهم، ثم يغدون إلى الحرب مفلسين، إذ لا ينتظرون حياة بعد يومهم هذا!
الآيات: (30- 32) [سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 32]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
التفسير: وهذا مشهد آخر من مشاهد القيامة، يساق إليه المشركون، وهم أحياء فى دنياهم التي آمنوا بها وأنكروا ما وراءها.. من بعث، وحساب وجزاء..
وهم فى هذا المشهد يتقلّبون فى النار، التي حكم عليهم بها، فى المشهد السابق، حيث قال تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ... الآية» وحيث كان لهم قبل مشهد الحكم مشهد آخر، هو مشهد المحاكمة، فى قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» .(4/155)
فهم وقد انتهى بهم المطاف إلى النار، يصلون سعيرها، ويذوقون عذابها- لن يتركوا هكذا وما هم فيه من بلاء، بل يسألون سؤال تأنيب، وتعذيب:
«أليس هذا بالحق؟» أي أليس هذا اليوم وما تلقون فيه، قد جاءكم بالحق الذي كنتم تكذبون به؟
وفى حسرة قاتلة، وفى أنفاس لاهثة مبهورة، وفى كلمات حزينة متقطعة دامية، تتحرك شفاههم بها فى إعياء وتثاقل- يجىء منهم هذا الصوت الخفيض فى أنين ذليل: «بلى وربنا» .. هذا هو جوابهم، وهذا هو ما استطاعوا أن يحركوا شفاههم به.. كلمتان من أخف الكلمات، وأقلها حروفا، ولو استطاعوا النطق لأكثروا من القول والاعتذار فى هذا المقام، ولو جدوها فرصة فى إظهار النّدم، والاستعطاف! ولكن أنّى لهم ذلك وهم فى هذا البلاء العظيم؟
«بلى وربنا» هكذا جوابهم.. نبرتان هامستان، يخطفانهما من كيانهم خطفا، ثم يعودون إلى أنفسهم فى لهفة، حتى لكأنهم يحاولون إطفاء النار المشتملة عليهم..!
ولكنهم ما يكادون ينصرفون إلى أنفسهم، يعالجون الهمّ الذي هم فيه، حتى يقرعهم صوت الحق: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ، وإذا النار تشتد سعيرا، وتعلوا لهيبا، لتذيقهم العذاب الذي آذنها به الله سبحانه وتعالى أن تذيقهم إياه!! وفى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ» هو مقابل لقوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» فالمراد بالوقوف هنا الحبس المقيم، يقال وقف فلان نفسه على هذا الأمر، أي لزمه، ولم يتحوّل عنه- ومنه قول إمرئ القيس:
وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل(4/156)
وقوله تعالى: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها» هو تقرير عن هذا الموقف، الذي انكشف فيه للكافرين ما كانوا فيه من غفلة وضلال، وفى هذا التقرير، يرى كل ضال غافل، المصير الذي ينتهى به ضلاله وغفلته إليه، وهو الخسران والضياع والهلاك..
«حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» أي فجأة على غير انتظار، إذ كانوا على تكذيب قاطع بهذا اليوم، فإذا طلع عليهم كان ذلك مباغتا لهم ومفاجئا..
«قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها» وإنها لحسرة تطول، لا نهاية لها، حيث أفلت من أيديهم ما كان يمكن أن يعدّوه لهذا اليوم الذي أنكروه، ولم يعملوا له حسابا..
والتفريط: التقصير، بخلاف الإفراط، الذي هو المبالغة فى المطلوب، وتجاوز الحدّ فيه.
والضمير فى قوله تعالى: «فِيها» يعود إلى الساعة، وهى يوم القيامة قوله تعالى: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» .
الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل.. أي أنهم يجيئون إلى يوم القيامة محملين بأحمال ثقيلة، من الآثام، تنوء بها ظهورهم.. «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» فما أشأم ذلك الحمل، وما أسوأه، إذ كان هو الجريمة التي تدين حامله، والشهادة التي تشهد عليه، وتجرّه إلى النار..
وقوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» هو تعقيب على هذا الحكم الذي حكم به سبحانه على أهل الضلال والكفر.. فقد غرّتهم الحياة الدنيا، وألهتهم عن الآخرة، فلم يعملوا لها ولم يقدموا ليومها، زادا ينفعهم فى هذا الموقف العصيب..(4/157)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
وهكذا هى الدنيا، لعب ولهو، إذا وقف الإنسان نفسه عليها، وحبس وجوده على مظاهرها، دون أن يلتفت إلى ما بعدها، من لقاء الله، وموقف الحساب بين يديه.. ولكنه إن التفت إلى الآخرة التي وراء هذه الحياة الدنيا، لم تكن هذه الحياة الدنيا لعبا ولهوا، وإنما تكون حياة جادّة عاملة، تجمع الدنيا والآخرة معا، وبهذا تتفتح أمام الإنسان آفاق فسيحة للعمل الطيب المثمر، الذي إن فاته حظّه منه فى الدنيا، فلن يفوته ثوابه العظيم منه فى الآخرة.. ومن هنا كانت حياة المؤمنين بالله واليوم الآخر، حياة عامرة بالعمل والكفاح والجهاد..
إذ كان على المؤمن أن يملأ بوجوده وكفاحه دنياه وآخرته جميعا.. أما الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإن حياتهم فراغ فى فراغ، يدورون فيه حول أنفسهم، كما يدور الأطفال فى لهوهم ولعبهم.
قوله تعالى: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» إذ عملوا لها، وآثروها على الدنيا، وقدّموا ما يبقى على ما يفنى، فكانت عاقبتهم السلامة والعافية، والخلود فى جنّات النعيم..
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» إثارة لذوى العقول أن ينظروا لأنفسهم، وأن يزنوا أمرهم مع الدنيا على ميزان سليم.. فإنهم لو فعلوا لعرفوا أن الدار الآخرة خير وأبقى!
الآيات: (33- 34) [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 34]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)(4/158)
التفسير: بعد أن عرض الله للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هذا العرض الكاشف للمشركين، وما يلقون فى موقف الحساب من خزى وهوان، وما يذوقون فى جهنم من نكال وعذاب- بعد هذا العرض الذي يرى فيه النبىّ عاقبة المكذبين به- يلقى الله سبحانه النبىّ الكريم بهذه المواساة الكريمة، وهذا العزاء الجميل، لما يلقاه من قومه من تكذيب له، واستهزاء به..
وفى قوله تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» استجابة لسكاة النبىّ قبل أن يشكو، وفى هذا تطمين لقلبه، وتثبيت لقدمه، وأن الله يرعاه، ويعلم ما يجد فى نفسه من حزن وألم، لما يرميه به قومه من باطل القول، وزور الكلم.. وهم يعلمون أنه الإنسان الذي لا يكذب أبدا..
وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ردّ اعتبار للنبىّ عند هؤلاء الذين اتهموه بالكذب زورا وبهتانا.. وقد كشف الله ما فى نفوسهم عن النبي ورأيهم فيه.. فهم فى دخيلة أنفسهم لا يكذبون «محمدا» .. إنهم يعلمون عن يقين أنه ما قال ولن يقول كلمة الكذب. بل هو عندهم فوق مستوى الشبهة فيما يشين الناس، وينزل من قدرهم.. «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .. إنهم لظلمهم، وعنادهم يرون الحق ويستيقنونه، ثم لا تطاوعهم أنفسهم على الإقرار به، والولاء له.. ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها.. وهكذا يفعل العناد بأهله، ويقطع عليهم الطريق إلى الحق والهدى، ويحجزهم عنه الخبر والفلاح.
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين.. إنهم لا يكذبون محمدا ولكنّهم يكذبون بآيات الله التي بين يديه.. فانظر كيف هذا التناقض العجيب منهم.. يؤمنون بمحمد وبصدقه(4/159)
كإنسان، ويأخذون شهادته على كل ما يقول فيما هو من شئون دنياهم.. فإذا جاءهم بآيات ناطقة من عند الله، وقال لهم إنها كلام الله، وأنه رسول الله بها إليهم، أنكروا عليه هذا القول بنسبتها إلى الله، وقالوا: إنها سحر ساحر، وتلقيات ممسوس! ولو عقلوا لما وجدوا لهذا القول مستندا من عقل أو منطق..
إذ كيف لا يتّهم إنسان بالكذب فى حال، ثم يتهم به فى حال أخرى؟ إن الإنسان وحدة متكاملة، فى خلقه، فإمّا أن يكون صادقا لا يكذب، وإما أن يكون ممن لا يتحرّى الصدق فى كلّ قول.. وقد عرفوا «محمدا» أنه صادق على وجه واحد، مدة حياته معهم، من مولده إلى مبعثه.. لم تجرب عليه كذبة قط.. فكيف يكذب بعد الأربعين؟ وكيف يكذب أشنع الكذب، وأفحشه، بتلك الدعوى التي يدعيها على الله ربّ العالمين؟ ذلك محال، بل وأكثر من محال، لأن شواهد الصّدق ودلائله ناطقة فى كلام الله، مستغنية عن صدق من يجىء إلى الناس بها ويعرضهم عليها.. فكيف إذا كان من يجيئهم بها ويعرضها عليهم، غير متّهم بكذب، أو مجرب عليه شهادة زور عندهم؟
قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا» (34: الأنعام) هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ورحمات من ربّ رحيم تتنزّل عليه، وهو فى مواجهة هذا العناد والعنت الذي يلقاه من قومه.. وفى هذا العزاء يرى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مشاهد كثيرة لهذا المشهد الذي يعيش فيه.. فهناك رسل كثيرون من رسل الله قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا فى أنفسهم من سفهاء قومهم، ولكنهم اعتصموا بالصبر، واحتملوا الأذى فى سبيل الرسالة الكريمة التي شرفّهم الله بها..
فهذا نوح عليه السلام- يلقاه قومه بالنكير والاستهزاء، ويلاحقونه بالأذى والضرّ- وفى هذا يقول الله على لسانه: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ(4/160)
إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ»
(35: هود) .
وقد أخذهم الله بهذا المنكر.. فأغرقهم ونجّى نوحا ومن معه:
«فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» (119- 120: الشعراء) .
وهذا هود- عليه السلام- يلقى قومه داعيا إلى الله، مبشرا ومنذرا بآياته، فتكون قولتهم له: «يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» (53- 54: هود) .. ثم كانت عاقبتهم عاقبة كل ظالم.. فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) .
وهكذا كان الشأن مع صالح، ولوط، ومع كلّ نبى أعنته قومه، وكذبوا بآيات الله التي بين يديه.. النجاة والسلامة للنبىّ والمؤمنين به، والهلاك والدّمار لمن كذبوا به، وبآيات ربه..
وفى هذا أسوة للنبىّ، وللمؤمنين معه.. فليحتمل الأذى، وليصبر على الضرّ، وليحتمل المؤمنون الأذى وليصبروا على الضرّ، فإنّ العاقبة له ولهم، وإن النصر للحق ولمن ينصرون الحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» فتلك هى سنّة فى الذين خلوا، ولن تتخلّف آثارها فى حاضر أو مستقبل.. فإن أحكام الله لا تنقض وكلماته لن تتبدّل..(4/161)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» تذكير للنبىّ بما قصّ الله- سبحانه- عليه من قصص الأولين، فليعد النبىّ إلى هذا القصص، ولينظر إلى ما فيه من عبر وعظات.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» (120: هود) . ويقول: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» (111: يوسف) .
الآية: (35) [سورة الأنعام (6) : آية 35]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
التفسير: وإذ استمع النبي إلى كلمات ربه، وما تحمل إليه من مواساة كريمة، وعزاء جميل، فقد وجب على النبي أن يطمئن قلبه، وتسكن نفسه ويذهب حزنه وحسرته، على ما يلقى من قومه.. فإذا كان قد بقي فى نفس النبي شىء من تلك العوارض التي عرضت له من قومه، وإن كانت لا تزال به توازع الحزن والحسرة عليهم، فإن السماء ليس عندها ما تقدمه لهم من وسائل الإقناع، بعد أن قدمت لهم ما قدمت من آيات، وما ساقت إليهم من نذر! فإن وجد النبي القدرة من نفسه على أن يأتيهم بما يقنعهم، ويحملهم على التصديق به، وبما يدعوهم إليه، فليفعل!! وهذه هى الأرض تحت قدميه، والسماء فوق رأسه، فإن استطاع أن يشق الأرض أو يرقى السماء بسلّم ليأتيهم بآية مقنعة، فليفعل وهيهات هيهات!!(4/162)
«وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ؟» أي إن شقّ عليك إعراض قومك عنك، فحاول- إن استطعت- أن تشق الأرض، أو ترقى فى السّماء، لتأتيهم بما يقترحون عليك من آيات! وليس هذا دعوة من الله سبحانه للنبىّ أن يفعل هذا، وإنما هو صرف له عن هذا اللغو الذي يلغوا به قومه، من مقترحات يقترحونها عليه، وتيئيس لهم من أن يكون لهذا اللّغو قبول عنده..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» إشارة إلى أن ما قدمته السّماء من آيات هو القدر المطلوب لهداية من فيه استعداد لقبول الحق، حين تلوح أماراته، وتظهر له دلائله.. وليس من حكمة السّماء أن تقهر الناس قهرا على الإيمان، ولا أن تحملهم حملا على الهدى، فإن مثل هذا الإيمان الذي يجىء إليه الإنسان قهرا وقسرا، هو إيمان لا دخل لكسب الإنسان فيه، ولا جزاء له عليه، إذ أنه ليس من سعيه وكسبه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» (39- 41: النجم) .. ولو أراد سبحانه وتعالى أن يدخل الناس جميعا فى الإيمان لفعل، ولوضع بين يدى المعاندين والكافرين والمشركين من الآيات القاهرة ما يحملهم على الإيمان، حيث لا يجدون معها سبيلا إلى الإنكار والجحد.. ولكنّه سبحانه أراد أن يكون للإنسان تقديره وتفكيره، فيما يحمل إليه رسل الله من آيات، يرى فيها العقلاء دلائل الحق، وأمارات الهدى، ولا يرى فيها الضّالون والمعاندون شيئا يفتح لهم الطريق إلى الله.. وفى هذا ابتلاء وامتحان، «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» .. «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» فما قوة فى هذا الوجود تردّ مشيئة الله، ونفاذ ما يشاء.. ولكنّه سبحانه وضع(4/163)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
الإنسان بهذا الوضع الذي يكون له فيه مجال للاختيار، «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) .
قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ» هو عزل للنبىّ عن أن يكون ممن يجهلون حكمة الله هذه، وسنّته فى خلقه، وفى هذا وقاية للنبىّ من أن تطرقه طوارق الأسى والحسرة على من تخلّف عن الدعوة التي يدعو بها، ولوى وجهه عن الحق الذي بين يديه، من ذوى قرابته، ومن يريد لهم الخير ممن يحبّهم.. «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) .
الآيات: (36- 38) [سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 38]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
التفسير: فى قوله تعالى فى الآية (35) «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين المعاندين، قد أضلّهم الله لعنادهم وكفرهم، وتركهم وما اختاروا من ضلال وشرك.. ذلك لأنهم عموا عن آيات الله، وأبوا أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لها..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» بيان لحال هؤلاء(4/164)
الكافرين المعاندين، وأنهم لن يسمعوا كلمة الحق، ولن يعطوها آذانا واعية، ولهذا كان من الحكمة ألا يلحّ عليهم أحد بما يدعوهم إليه من حقّ وهدى، فإنهم لن يسمعوا، ولو سمعوا ما استجابوا.. «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» أي الذين يسمعون سمعا عاقلا متدبرا.. يصغى، ويفكر، ويعقل.. أما هؤلاء وإن كانت لهم آذان يسمعون بها فإنها تصبح ثقيلة عند سماع الحق، كأن بها وقرا، لأن قلوبهم مريضة، وعقولهم سفيهة، «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (23: الأنفال) .
وقوله تعالى: «وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» معطوف على قوله سبحانه: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» أي أن هذين الأمرين من واد واحد، إذ هما ممكنان واقعان فى قدرة الله: استجابة الذين يسمعون ويعقلون، لما يسمعونه ويعقلونه، وبعث لأموات من قبورهم يوم القيامة.
وفى الجمع بين الأمرين دلالتان:
أولاهما: أن الناس لهم كسب ولهم إرادة، وقدرة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» وأن الله سبحانه وتعالى لم يكلّف الناس إلّا ما هو ملائم لطبيعتهم، مناسب لقدرتهم، أما ما فوق ذلك فلم يكلّفوا به، ولم يحاسبوا عليه، كبعث الموتى، الذي هو مما لله وحده «والموتى يبعثهم الله» .
وثانيتهما: أن الضّالين المعاندين من الناس، الذين لم يستمعوا للحق، ولم يستجيبوا له، قد وضعوا بذلك أنفسهم موضع العجز المطلق، أمام هذا الأمر الممكن الذي دعوا إليه، فكأنهم والأموات سواء.. فكما يستحيل على الأموات أن يبعثوا من تلقاء أنفسهم، كذلك يستحيل على هؤلاء الضالين المعاندين أن يستمعوا للهدى وأن يستجيبوا له بطبيعتهم.. والأموات يبعثون حين يريد الله بعثهم ودعوتهم إليه، والضالون الشاردون عن الله، يهديهم الله، إذا أراد لهم(4/165)
الهداية، ودعاهم إلى طريقه.. ولكن هؤلاء الضالين المعاندين لن يدعوهم الله إليه، ولن يهديهم إلى الحق، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» .. فهم وقد كان الإيمان بالله من الممكنات لهم، قد جعلوه بعنادهم وضلالهم مستحيلا يحتاج إلى قدرة فوق قدرتهم، هى قدرة الله تعالى، وإذ تخلّى الله عنهم وأخلاهم لقدرتهم، فلن يهتدوا إذن أبدا.. وإن الله- سبحانه- يبعث الموتى، ولكنه لا يهدى هؤلاء الضالين العاندين.
وفى هذا تيئيس لهم، وخذلان مبين، وخزى فاضح، ووعيد بالحساب الشديد، والعذاب الأليم.
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» الضمير فى «يرجعون» ، يعود إلى هؤلاء المعاندين، الذين لن يهتدوا أبدا، إلى أن يموتوا، ثم يبعثوا مع الموتى..
ثم يرجعون إلى الله، للحساب والجزاء.. وهذا هو سرّ العطف «بثم» الذي يفيد التراخي الزمنيّ.. فهم إذ خوطبوا كانوا أحياء.. ثم يبعثون، ثم يحشرون» قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» هو بيان لموقف هؤلاء الضالين المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا لله ولرسوله، وأصبح قبولهم الإيمان أمرا مستحيلا فى مواجهة ما جاءهم به النبىّ، ولن يكون لهم نظر وكسب فيما كان يدعوهم إليه من إيمان، بعد أن تأتيهم الآيات التي يقترحونها..
«وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» والآية التي يقترحونها هى معجزة مادية، يرونها بأعينهم. كما يقول الله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ(4/166)
كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا»
(الإسراء: 90- 91- 92) وفى قولهم «من ربّه» كفر صريح بالله، واتهام للنبىّ بأن له ربّا غير الرّبّ الذي يعرفونه، ويتقربون بالأوثان إليه.
وفى قوله تعالى «نُزِّلَ» إشارة إلى أن الآية التي يطلبونها هى آية حسّية، تتحرك بين الناس، ويتحرك الناس بين يديها.. فهى- والأمر كذلك- شىء مغاير للآيات القرآنية التي تنزل على النبىّ، فلا يكون لها هذا الأثر الحسّى، الذي يبعث فى الحياة هزّة، وثورة ظاهرتين للعيان! وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» فليس أمام قدرة الله ما يعجز، وقد نزّل الله كثيرا من الآيات الحسّية كهذه الآيات التي يقترحونها، ولكن كثيرا من الناس كفر بها، وخادع حواسه وخان عقله فيها..
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى جهل هؤلاء المكذبين، فوق ما هم فيه من ضلال وكفر.. ولو علموا لرأوا أن هذا المقترح الذي يقترحونه. فيه هلاكهم ودمارهم.. حيث ذلك هو الجزاء الذي يعقب التكذيب بالمعجزات الحسيّة، التي هلك المكذبون بها، حين جاءتهم على يد الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، ولوط، وموسى، وعيسى.
قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» إشارة إلى أن عالم الأحياء، من إنسان، وحيوان، وطير، يرجع إلى أصل واحد، كانت منه جميع هذه المخلوقات، فى أنواعها وأجناسها..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» تسوية بين عالم الإنسان، وعالم الحيوان، فى إقامة كل جنس من أجناس الحيوان، على نظام فى حياته، وفى(4/167)
أسلوب معيشته، وتوالده، وصلات أفراده بعضها ببعض أو صلاته بالقريب والبعيد منه من أجناس الحيوان- أشبه بنظام المجتمع الإنسانى.
فكما أن الناس يمسكهم نظام، ويضبط حياتهم سلوك، وتربط بينهم عادات، وتحكمهم قوانين، فكذلك كل جنس من أجناس الحيوان، وكل نوع من أنواعه.. له عالمه الذي يعيش فيه، وله تقاليده، وعادانه، ولغته التي يتفاهم بها، وله سلطانه الذي يأخذ به الخارجين على نظام الجماعة، المتمردين على أوضاعها المستقرة فيها..
وفى قوله تعالى: «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» - ما يسأل عنه:
لماذا كان ذكر الجناحين هنا، مع أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟ وهل هناك طائر يطير بغير جناحين؟ وإذا كان من الطير ما يطير بلا جناحين، فهل يخرج من هذا الحكم الذي قضى الله به على الدواب والطير؟
والجواب على هذا، هو أن أجناس الطير كثيرة، متفاوتة القدر، مختلفة الحجم والصورة، من النّسر، والصقر، إلى البعوضة، والذرّة.. وكلها ذات جناحين تطير بهما، ومن هذه الطيور ما لا ترى العين جناحيه، ولا يكاد يتصور العقل أنه يحمل أجنحة، وفى ذكر القرآن للأجنحة التي لكل طائر، ما يدعو الإنسان إلى إعادة النظر وإمعانه فى هذه المخلوقات الضئيلة، وفى دقة تركيبها، وروعة بنائها، وأنها- على صغر جرمها- عالم متكامل، فى تكوينه، قد أودعت يد القدرة فيه من الأجهزة، والحواس، ما أودعته فى أرقى الكائنات الحية، من قوى، ومشاعر، ومدركات..
وفى القرآن الكريم كشوف رائدة، رائعة، عن عالم الحيوان، وما أودع الخالق العظيم فيه من قوّى وأسرار، لا تقلّ روعة وإحكاما، عما فى الإنسان،(4/168)
الذي ينظر إلى وجوده بين هذه المخلوقات وكأنه إله، وكأنها هى من نافلة الحياة، أو من نفاياتها بالنسبة له!! فهذه النملة- على صغر جرمها، وضآلة شأنها.. تقف من سليمان موقف الندّ للندّ، وتتصدى له، وهو فى بهاء ملكه، ومظاهر عظمته، وقد حشر له الجنّ والإنس والطير، فى مظاهرة ولاء، واستعراض انقياد وخضوع، وإذا النملة التي يمرّ بها سليمان، فلا يأبه لها، ولا يحفل بها، بل ولا يكاد يذكر عن أمرها شيئا، وهو متخم بهذا السلطان العظيم الذي بين يديه- إذا هذه النملة تلقى سليمان لقاء مثيرا، وتحاجّه فى منطق قاهر، لا يقلّ عن منطق سلطانه القوى المبين، فيعجب لهذا الذي يأتيه من قبل أضعف المخلوقات شأنا، وأهونها قدرا، وإذا سلطانه الذي بين يديه يهتزّ، ثم يتهاوى، وإذا هو والنملة على سواء..
إنها تقوم على دولة لا تقلّ عن دولته، نظاما وإحكاما وروعة، وإنها لتقوم على رعية تسوسها بالرأفة والحكمة، وتحوطها بالرّعاية والعناية، وتوفر لها الأمن والسلامة، بما لا يكون إلا من القلّة القليلة من أصحاب الحكم والسلطان..!
ونستمع إلى قوله تعالى: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» (17- 19: النمل) وإذا نستمع إلى كلمات الله هذه، نكاد ننصرف بأبصارنا ومشاعرنا عن سليمان، عليه السلام، وحشوده الحاشدة، من الجنّ والإنس والطير، إلى هذا(4/169)
المجتمع الضئيل من النمل، وإلى هذه النملة التي تقوم على سياسته، وتدبير أمره..
بل إن سليمان نفسه، لينصرف عن حشوده تلك، حين تلقاه النملة هذا اللقاء المثير، وإذا هو منها بين يدى قدرة القدير، وحكمة الحكيم، فلا يملك إلا أن يتوجه بكيانه كله إلى الله، ضارعا بالحمد والشكر: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» .. وليس ببعيد أن تكون النملة- فيما رأى سليمان- ممن عدّهم من عباد الله الصالحين، الذين دعا الله أن يلحقه بهم، ويدخله فى زمرتهم! والهدهد، وقصته مع سليمان، لا تقل روعة وعجبا من قصة النملة، فقد جاء إلى سليمان، وهو فى أبّهة ملكه، وعظمة سلطانه، وبين يديه ما سخّر الله له من الجن والإنس والطير- جاءه وهو فى هذا السلطان العظيم، ليلقاه بهذا الخبر، وليلقى به إليه فى صورة من هو أكثر منه علما، وأكبر سلطانا، وإن كان- فيما يظهر منه- ضئيل الشأن، باهت القدر، فيقول لسليمان: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» !! هكذا المتمكّن من نفسه الواثق من وجوده، يقول قولة الحق، فى غير خوف أو تردد! وكأن الهدهد إنما يثأر بهذا لنفسه، وللجماعة المسخرة لسليمان، حين توعّد الهدهد على ملأ منها بقوله: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .. فجاءه بهذا الجواب القوىّ المبين! ففى هذه النملة التي تمثّل الدوابّ على الأرض، وهذا الهدهد الذي يمثل ما طار بجناحيه فى السماء، شاهدان يشهدان بأن هذه الكائنات التي تعيش معنا على هذا الكوكب الأرضى، من دواب الأرض، وطير السماء، هى أمم مثل الأمة الإنسانية، فى وحدة التكوين والتنظيم، والمشاعر، والمدارك،(4/170)
وغيرها، من تلك التي لا تكون الأمة أمة إلا بها..
فالأمة لا تسمى أمة، إلا إذا كان بناؤها الذي تقوم عليه ينتظم جميع الأفراد الذين يدخلون فى حسابها، وينتسبون إليها، بمعنى أن يكون بين أفراد الأمة من قوى التلاحم والترابط ما يجمع بعضهم إلى بعض، ويؤلّف منهم جسدا اجتماعيا أشبه بجسد الكائن الحىّ وما بين أعضائه، من ترابط، وتساند، وانسجام! ومن هنا يمكن أن تتغير نظرة الإنسان إلى عالم الحيوان، وأن يفتح له العلم الحديث آفاقا جديدة فى دراسة علم الحيوان، فلا يقف عند حدود دراسة جسدية له، تدور حول الوظائف العضوية وما يتصل بها، بل ينبغى أن يتجاوز العلم هذه الدراسة إلى دراسات نفسية، وعقلية أيضا.. بحيث يكون من موضوعات هذه الدراسات: لغة الحيوان.. بجميع أجناسه وأنواعه، وعن طريق التعرف إلى هذه اللغة يمكن التعرّف على معارف عالم الحيوان، ونظرته إلى الكون، وصراعه مع الطبيعة، ووسائله التي بلغها فى التغلب عليها..
ولربما يقع للعلم فى هذه الدراسات، من أسرار وعجائب، ما لم يقع له إلى اليوم من أسرار وعجائب!.
وإنّ عجزا من الإنسان، وقصورا فى علمه، هو الذي وقف به على شاطىء هذا المحيط العظيم من عالم الحيوان، فلم يعرف كيف يتفاهم مع الحيوانات، ويترجم مشاعرها وإحساسها، ويفسّر حركاتها وسكناتها.. وليس بغير العلم تنفتح مغالق هذه العوالم.. ويوم يبلغ الإنسان من العلم ما يستطيع به الالتحام مع عالم الحيوان والتفاهم معه، يومئذ يكون الإنسان بحق هو سيد هذا العالم الأرضى، وخليفة الله فيه، وإلا فهو ليس بالسيد ولا بالخليفة، إذ لا سيادة لمن لا يعرف كيف يخاطب المسودين له، ولا خلافة لمن لا يحسن الفهم(4/171)
عمن هو خليفة عليهم.. وإنه ما انقادت تلك الجماعات من الجن والإنس والطير لسليمان، إلا بعد أن أوتى من العلم ما أقدره على فهم هذه الجماعات، والتفاهم معها..
وقوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» .
اختلف فى الكتاب هنا: أهو اللوح المحفوظ، أم هو القرآن الكريم..؟
ولعل الأقرب إلى مفهوم الآية الكريمة هنا، هو «القرآن الكريم» حيث يبيّن فى آياته هذه أصولا، وأحكاما، ومقررات تندرج تحتها جميع المعارف الإنسانية، التي بلغها العقل، والتي فى مقدوره أن يبلغها يوما ما..
وإذا لم يكن القرآن الكريم قد كشف الغطاء عن هذه المعارف، فإنما ذلك ليثير فى الإنسان دوافع النظر والبحث، وليترك لعقله مجال الحركة والصراع، فينتصر حينا، وينهزم حينا، وهو فى انتصاراته وهزائمه، سيّد نفسه، وقائد سفينة حياته، وحسب القرآن الكريم فى هذا أن يومىء إليه من بعيد إلى مواطن الصيد، التي يلقى بشباكه فيها، فتجىء إليه بصيد وفير.
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» الضمير فى ربهم يعود إلى هذه المخلوقات كلها، من دواب الأرض، وطيور السماء..
وقد اختلف فى حشر هذه الكائنات من حيوان ووحش وطير.. وهل تحاسب؟ وإذا حوسبت فهل تعذّب أو تنعّم، كما يحاسب الإنسان ويعذب أو ينعم؟
ولا شك فى أنها ستحشر إلى الله، فهذا صريح بنص القرآن فى هذه الآية، وفى قوله تعالى: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» (5: التكرير) .. أما ما وراء هذا فأمره إلى الله، وعلمه عند علام الغيوب.(4/172)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
الآيات: (39- 41) [سورة الأنعام (6) : الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
التفسير: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ» استدعاء لهؤلاء المكذبين الضّالين، من بين عوالم الأحياء كلها، التي عرضها الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة، فى قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» .
وفى هذا الاستدعاء، ينعزل الضالون المكذبون بالله وآياته، عن هذا الوجود، كما يعزل المرضى بأمراض خبيثة عن الأصحاء! وهؤلاء الضالون المكذبون، هم فى حقيقتهم مصابون بأمراض خبيثة، لا فى أبدانهم، ولكن فى عقولهم..
إنهم كما وصفهم الحق جلّ وعلا: «صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ» .
وانظر إلى هذا الإنسان الأصم الأبكم الذي يحتويه الظلام ويشتمل عليه! إنه أصمّ لا يسمع.. أي لا يصل إليه من العالم الخارجي مسموع.
وإنه أبكم، لا ينطق.. أي لا يصل منه إلى العالم الخارجي منطوق.(4/173)
فهو- والحال كذلك- مصمت مغلق، لا يتصل بشىء، ولا يتصل به شىء.
ثم إنه- بعد هذا كله- أعمى، لا يرى شيئا، حتى جوارحه التي معه، من يد أو رجل!! هذا هو حال الذين كفروا بآيات الله..
إنهم كائنات ميّتة، وإن بدت حيّة، فى صورة الأحياء.. فقد تعطلت حواسّهم، وأظلمت قلوبهم وعقولهم، وبهذا لم يكن بينهم وبين آيات الله تعامل، بسمع، أو نظر، أو عقل! وقوله تعالى: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو عرض لمشيئة الله، وقدرته، وحكمته.. وأنه سبحانه وتعالى هو مالك الملك، إليه يرجع الأمر كلّه..
وهؤلاء اللذين عصوا الله، وضلّوا عن سبيله، لا يظنون أنّهم أصحاب قوة وسلطان.. إنهم أذلّاء ضعفاء لا يملكون شيئا.. حتى هذا الضلال الذي هم فيه.. إنه ليس لهم، وليس من واردات حولهم وقوّتهم.. إن هناك سلطانا فوق سلطانهم، وقدرة فوق قدرتهم، وبذلك السلطان وبتلك القدرة هم محكومون، وهم صائرون إلى هذا المصير المشئوم الذي هم فيه.. فليموتوا كمدا وحسرة.. إنهم ممن شاء الله أن يضلّهم، لأنهم أهل لما أراده الله بهم! وهؤلاء الذين استجابوا لله، وآمنوا، واستقاموا على طريقه القويم، إنما كانت استجابتهم، يدعوة من الله، وتوفيق لهم منه، إلى الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أخذ بأيديهم إليه، وأدخلهم فى عباده الصالحين، ولولا ذلك لكان شأنهم شأن هؤلاء الضالين، الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم،(4/174)
وأن ينزلهم منازل الإكرام عنده.. فليهنئهم هذا الرضوان، وليسعدوا بما آتاهم الله من فضله..
وفى مشيئة الله، ومشيئة العباد، كثر القول، واختلفت المقولات، وتعدّدت الآراء، وتشعبت مذاهب الرأى، فكان من ذلك مقولات كثيرة:
فى الجبر والاختيار، وفى القضاء والقدر، وفى الثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما يتّصل بمشيئة الله، ومشيئة عباده.. وهل للعباد مع مشيئة الله مشيئة؟ وهل إذا كانت لهم مشيئة أفلا ينقص ذلك من كمال الله وقدرته؟ وإذا لم يكن لهم مشيئة فكيف يثابون ويعاقبون على ما لا مشيئة لهم فيه؟ إنهم مسيّرون لا مخيّرون.. وعدل الله يقضى ألا يحاسب إنسان على ما ليس من كسبه؟
وهكذا تتشعب مذاهب القول، وتختلف وجوه الرأى، ويحتدم الصراع بين أصحاب المقولات، ويلتحم القتال زمنا طويلا، يترامى فيه المقاتلون بكل ما يقع لأيديهم من أسلحة، فى مجال الرأى حينا، وفى ميدان الحرب بالرماح والسيوف حينا..
هذا، وسنعرض لهذا الموضوع، فى بحث خاص إن شاء الله.
وقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» تسفية وتجريم لهؤلاء الذين أشركوا بالله، وضلّوا عن سبيله.. فإن هؤلاء الضالّين المشركين، إذا كربتهم الكروب، وأحاط بهم البلاء، وعاينوا الموت، تنبهت فيهم قوى الإدراك التي كانوا قد عطلوها، ووضحت لهم الحقيقة التي ضلّوا الطريق إليها، فرأوا أنه لا إله إلا الله وحده، وأنه هو الذي يملك دفع هذه الشدائد، ويقدر عليها.. هنالك يدعون الله، ويضرعون إليه، أن يكشف الضرّ، ويرفع البلاء!(4/175)
وتلك هى حال الإنسان، فى الشدائد يجتمع رأيه، وتتفتح ملكاته، فيرى الواقع على حقيقته، فإذا زالت الشدة، وانفسح الأمل، أعطى زمامه لهواه، وأسلم وجوده لشيطانه، وعاد إلى ما كان فيه من ضلال وكفر.. «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (8: الزمر) وقوله تعالى: «أَرَأَيْتَكُمْ» .. الاستفهام يراد به التقرير.. أي أجيبوا على هذا السؤال الذي أنا سائلكم عنه..
وأصل هذا الفعل «أرأيتم» مخاطبا به هؤلاء المشركين خطابا مباشرا..
ولكن لما كان بين هؤلاء المشركين وبين عقولهم حواجز من الضلالات والمنكرات، فقد جاء خطابهم على تلك الصورة، الفريدة، التي تجمع بين مخاطبين، والمخاطب واحد، حتى لكأنه ذاتان، أو ذات منقسمة على نفسها.
وفى قوله تعالى: «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» .. المراد بالعذاب هنا هو ما يأخذهم به لله من عقاب شديد فى الدنيا، كما أخذ به الضالين المكذبين من قبلهم..
وعطف قوله تعالى: «أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» على قوله تعالى: «عَذابُ اللَّهِ» لبيان أن هذا العذاب الذي يندرون به، هو عذاب شديد، أشبه بأهوال يوم القيامة..
ومن أجل هذا، كان وقوع المشركين تحت وطأة هذا العذاب داعية لهم إلى أن ينخلعوا عما كانوا فيه من غفلة، واستخفاف، بما يشغلهم من مطالب الحياة الجسدية، التي أعطوها وجودهم كله..، وأن يولّوا وجوههم إلى الله.
ففى مواجهة الشدائد القاسية التي تتهدد وجود الإنسان، وتشرف به على(4/176)
الهلاك، تنحلّ قوى الجسد، وتتبخر الأهواء المتسلطة عليه، وهنا يجد العقل سماء صافية تسطع فيها أنواره، كما تجد الروح مجالا للحركة والعمل، وإذا الإنسان بعقله وقد تخلص من الضباب الذي انعقد عليه، وبروحه التي انطلقت من قيود هذا الجسد المعربد، وإذا الإنسان هنا، يعاين الحقيقة، ويرى الحق، فيؤمن، إن كان كافرا، ويستيقن، إن كان مؤمنا.
وهذا أشبه بحال من يعالج سكرات الموت، فإنه يرى ماوراء المادة من شواهد الحياة الآخرة، فيؤمن إن كان كافرا، حيث لا ينفعه إيمانه، ويتوب إن كان عاصيا، حين لا تنفعه التوبة.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى لفرعون، وقد آمن بعد أن أدركه الغرق، وأشرف على الموت: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (91: يونس) ويقول سبحانه فيمن يتوب وهو فى مواجهة الموت: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» (18: النساء) .
وقوله: «أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ اعتراف هؤلاء المشركين بالله.
وجوابهم فى تلك الحال التي يسألون فيها، وهم فى أمن عافية، لا يذكرون معها تلك الحال التي يكونون فيها تحت قهر البلاء والشدة، أو فى مواجهة أهوال القيامة- جوابهم فى تلك الحال، لا يكون إلا جحودا لله، وكفرا به، واستغناء عنه.
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إشارة إلى هذا الجواب الذي سيعطونه فى تلك الحال، وأنه ليس الجواب الذي يعطونه لو كانوا فى مواجهة المحنة(4/177)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
والبلاء، ولهذا جاء قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» كاشفا عن حالهم تلك، وأنهم لو صدقوا أنفسهم، وتدبروا الموقف وتصوّروه على حقيقته، لكان جوابهم: لن ندعو غير الله، ولن نشرك به أحدا.. ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا.. ولهذا ضرب الله على الجواب المنتظر منهم، وتولّى سبحانه الجواب عنهم، وألزمهم به إلزام من يؤمنون بالله، ويقدرونه حق قدره، فقال تعالى:
«بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» أي إنكم مع ما تقولون الآن من كذب وشرك، وأنتم فى سعة من أمركم، ستقولون هذا القول الحق، وأنتم فى يد البلاء والمحنة..
وقوله تعالى: «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» أي أنه سبحانه هو الذي سيكشف الضرّ الذي نزل بكم، وصرعتم به إليه، على حين هرب من وجوهكم، وفرّ من بين أيديكم، تلك الآلهة الباطلة التي كنتم تتعاملون معها، وتركنون فى أموركم إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» لأنها تفاهات لا تذكر فى ساعة الجدّ، ولا يتعامل معها سفيه حين يثوب إليه عازب عقله.
الآيات: (42- 45) [سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)(4/178)