قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
وَالْكُسُوفَاتِ، فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ يَكْسِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَأَدْنَاهَا الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَهُوَ يَكْسِفُ مَا فَوْقَهُ، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهَرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمَرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ وَهِيَ الثَّوَابِتُ فَفِي فَلَكٍ ثَامِنٍ يُسَمُّونَهُ فَلَكَ الثَّوَابِتِ، وَالْمُتَشَرِّعُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ هُوَ الْكُرْسِيُّ، وَالْفَلَكُ التَّاسِعُ وَهُوَ الْأَطْلَسُ وَالْأَثِيرُ عِنْدَهُمُ الَّذِي حَرَكَتُهُ عَلَى خِلَافِ حَرَكَةِ سَائِرِ الْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَرَكَتَهُ مَبْدَأُ الْحَرَكَاتِ وَهِيَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَسَائِرُ الْأَفْلَاكِ عَكْسُهُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَمَعَهَا يَدُورُ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ تَبَعًا وَلَكِنْ لِلسَّيَّارَةِ حَرَكَةٌ مُعَاكِسَةٌ لِحَرَكَةِ أَفْلَاكِهَا فَإِنَّهَا تَسِيرُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَكُّلٌ يَقْطَعُ فَلَكَهُ بِحَسْبِهِ، فَالْقَمَرُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، وَالشَّمْسُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَزُحَلُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً مَرَّةً، وَذَلِكَ بِحَسْبِ اتِّسَاعِ أَفْلَاكِهَا وَإِنْ كَانَتْ حركة الجميع فِي السُّرْعَةِ مُتَنَاسِبَةً، هَذَا مُلَخَّصُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَسْنَا بِصَدَدِ بَيَانِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أن الله سبحانه وتعالى خلق سبع سموات طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أَيْ فَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِنَارَةِ فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا أُنْمُوذَجًا عَلَى حِدَةٍ لِيُعْرَفَ اللَّيْلُ والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر للقمر مَنَازِلَ وَبُرُوجًا وَفَاوَتَ نُورَهُ فَتَارَةً يَزْدَادُ حَتَّى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر لِيَدُلَّ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً هَذَا اسْمُ مصدر والإتيان به هاهنا أَحْسَنُ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أَيْ إِذَا مُتُّمْ وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أَيْ بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا وَقَرَّرَهَا وَثَبَّتَهَا بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ الشُّمِّ الشَّامِخَاتِ لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أَيْ خَلَقَهَا لَكُمْ لِتَسْتَقِرُّوا عَلَيْهَا وَتَسْلُكُوا فِيهَا أَيْنَ شِئْتُمْ مِنْ نَوَاحِيهَا وَأَرْجَائِهَا وَأَقْطَارِهَا، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُنَبِّهُهُمْ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ على قدرة الله وعظمته في خلق السموات وَالْأَرْضِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ جَعَلَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَالْأَرْضَ مِهَادًا وَأَوْسَعَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ رِزْقِهِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُوَحَّدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَا نظير له ولا عديل وَلَا نِدَّ وَلَا كُفْءَ، وَلَا صَاحِبَةَ وَلَا وَلَدَ وَلَا وَزِيرَ وَلَا مُشِيرَ بَلْ هُوَ العلي الكبير.
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 24]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)(8/247)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْهَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، أَنَّهُ مَعَ الْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذكره والدعوة المتنوعة المشتملة عَلَى التَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى أَنَّهُمْ عَصَوْهُ وخالفوه وكذبوه، وَاتَّبَعُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا مِمَّنْ غَفَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمُتِّعَ بِمَالٍ وَأَوْلَادٍ وَهِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اسْتِدْرَاجٌ وَإِنْظَارٌ لَا إِكْرَامٌ وَلِهَذَا قَالَ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً قُرِئَ وَوُلْدُهُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً قَالَ مُجَاهِدٌ: كُبَّاراً أَيْ عَظِيمًا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
كُبَّاراً أَيْ كَبِيرًا وَالْعَرَبُ تَقُولُ أَمْرٌ عَجِيبٌ وَعُجَابٌ وَعُجَّابٌ، وَرَجُلٌ حُسَانٌ وَحُسَّانٌ وَجُمَالٌ وَجُمَّالٌ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى واحد «1» ، والمعنى في قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أَيْ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي تَسْوِيلِهِمْ لهم أنهم عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى كَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [سَبَأٍ: 33] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ: أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادَ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجُرُفِ عند سبأ، وأما يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحَمِيرَ لِآلِ ذِي كَلَاعٍ وَهِيَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ «2» . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوُ هَذَا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ أَصْنَامٌ كَانَتْ تُعْبَدُ فِي زَمَنِ نُوحٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى عَنْ محمد بن قيس وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شِيثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ قَالَ:
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 253.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 71.
(3) تفسير الطبري 12/ 254.(8/248)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
أخبرني جُوَيْبِرٌ وَمُقَاتِلٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعُونَ وَلَدًا، عِشْرُونَ غُلَامًا وَعِشْرُونَ جَارِيَةً، فَكَانَ مِمَّنْ عَاشَ مِنْهُمْ هَابِيلُ وَقَابِيلُ وَصَالِحٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَالَّذِي كَانَ سَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، وَوَدٌّ وَكَانَ وَدٌّ يُقَالُ لَهُ شِيثَ وَيُقَالُ لَهُ هِبَةُ اللَّهِ، وَكَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ سَوَّدُوهُ، وَوُلِدَ لَهُ سُوَاعٌ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدَّبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي حَزْرَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: اشْتَكَى آدَمُ عليه السّلام وعنده بنوه ود ويغوث وَسُوَاعٌ وَنَسْرٌ قَالَ وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي الْمُطَهِّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَمَا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ، قال: ثم ذكروا رَجُلًا مُسْلِمًا وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ فَلَمَّا مات اعتكفوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُمْ عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ قَالَ إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَهَلْ لَكَمَ أَنْ أُصَوِّرَ لَكُمْ مِثْلَهُ فَيَكُونَ فِي نَادِيكُمْ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَصُوِّرَ لَهُمْ مَثَلُهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ قَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ في منزل كل رجل مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ فَيَكُونَ لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ: وَتَنَاسَلُوا وَدَرَسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ دون الله: الصنم الذي سموه ودا.
وقوله تعالى: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً يَعْنِي الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَضَلُّوا بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَإِنَّهُ اسْتَمَرَّتْ عِبَادَتُهَا فِي الْقُرُونِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 35- 36] وقوله تعالى: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا دُعَاءٌ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ لِتَمَرُّدِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ كَمَا دَعَا موسى على فرعون وملئه فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ: 88] وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيَّيْنِ فِي قَوْمِهِ وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جاءهم به.
[سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
يَقُولُ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ وقرئ خطاياهم أُغْرِقُوا أَيْ مِنْ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ(8/249)
وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا أَيْ نُقِلُوا مِنْ تَيَّارِ الْبِحَارِ إِلَى حَرَارَةِ النَّارِ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُعِينٌ وَلَا مُغِيثٌ وَلَا مُجِيرٌ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ الله كقوله تعالى: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هُودٍ:
43] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أَيْ لَا تَتْرُكْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَحَدًا ولا دومريا وَهَذِهِ مِنْ صِيَغِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: دَيَّاراً وَاحِدًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ:
الدَّيَّارُ الَّذِي يَسْكُنُ الدَّارَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى وَلَدَ نُوحٍ لِصُلْبِهِ الَّذِي اعْتَزَلَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 43] .
وقال ابن أبي حاتم: قرأ عَلَى يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، أخبرني شبيب بن سعيد عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لَرَحِمَ امْرَأَةً لَمَّا رَأَتِ الْمَاءَ حَمَلَتْ وَلَدَهَا ثُمَّ صَعِدَتِ الْجَبَلَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ صَعِدَتْ بِهِ مَنْكِبَهَا فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ مَنْكِبَهَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَأْسَهَا رَفَعَتْ وَلَدَهَا بِيَدِهَا، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمِ هَذِهِ الْمَرْأَةَ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَنَجَّى اللَّهُ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ الَّذِينَ أمره الله بحملهم معه.
وقوله تعالى: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ أَيْ إِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَ مِنْهُمْ أَحَدًا أَضَلُّوا عِبَادَكَ، أَيِ الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ بَعْدَهُمْ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أَيْ فَاجِرًا فِي الْأَعْمَالِ كَافِرَ الْقَلْبِ وَذَلِكَ لِخِبْرَتِهِ بِهِمْ وَمُكْثِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَسْجِدِي، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهُوَ أَنَّهُ دَعَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ أَنْبَأَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التَّجِيبِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَوْ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» «2» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ بِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هذا الوجه.
وقوله تعالى: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ دُعَاءٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ اقْتِدَاءً بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَقَوْلُهُ تعالى: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً قَالَ السُّدِّيُّ:
__________
(1) المسند 3/ 38.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب باب 16، والترمذي في الزهد باب 56.(8/250)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
إِلَّا هَلَاكًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا خَسَارًا أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْجِنِّ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبَرَ قَوْمَهُ أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أَيْ إِلَى السَّدَادِ وَالنَّجَاحِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الْأَحْقَافِ: 29] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
جَدُّ رَبِّنا أَيْ فِعْلُهُ وَأَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَدُّ اللَّهِ آلَاؤُهُ وَقُدْرَتُهُ وَنِعْمَتُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: جَلَالُ رَبِّنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَعَالَى جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ وَأَمْرُهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَعَالَى أَمْرُ رَبِّنَا: وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَابْنُ جُرَيْجٍ: تَعَالَى ذِكْرُهُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَعالى جَدُّ رَبِّنا أَيْ تَعَالَى رَبُّنَا، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْجَدُّ أَبٌ وَلَوْ عَلِمَتِ الْجِنُّ أَنَّ فِي الْإِنْسِ جِدًّا مَا قَالُوا تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا، فَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلَكِنْ لَسْتُ أَفْهَمُ مَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَلَعَلَّهُ قَدْ سقط شيء والله أعلم.
وقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً أَيْ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، أَيْ قَالَتْ الْجِنُّ: تنزه الرب جل جلاله حِينَ أَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ ثُمَّ قَالُوا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ سَفِيهُنا يَعْنُونَ إِبْلِيسَ شَطَطاً قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: شَطَطاً أَيْ جَوْرًا، وَقَالَ ابن زيد: أي ظُلْمًا كَبِيرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ سَفِيهُنَا اسْمَ جِنْسٍ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً أَوْ(8/251)
وَلَدًا، وَلِهَذَا قَالُوا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أَيْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أَيْ باطلا وزورا، ولهذا قالوا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ مَا حَسِبْنَا أَنَّ الإنس والجن يتمالؤون على الكذب على الله تعالى فِي نِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَآمَنَّا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يكذبون على الله في ذلك.
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أَيْ كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فَضْلًا عَلَى الْإِنْسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يعوذون بنا إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا أَوْ مَكَانًا مُوحِشًا مِنَ البراري وغيرها، كما كانت عَادَةُ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَعُوذُونَ بِعَظِيمِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ الْجَانِّ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِشَيْءٍ يَسُوؤُهُمْ، كَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بِلَادَ أَعْدَائِهِ فِي جِوَارِ رَجُلٍ كَبِيرٍ وَذِمَامِهِ وَخَفَارَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ أَنَّ الْإِنْسَ يَعُوذُونَ بِهِمْ مِنْ خَوْفِهِمْ منهم زادوهم رهقا أي خوفا وإرهابا وذعرا حتى بقوا أَشَدَّ مِنْهُمْ مَخَافَةً وَأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أَيْ إِثْمًا وَازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ جَرَاءَةً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً: أَيِ ازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ جُرْأَةً وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ بِأَهْلِهِ فَيَأْتِي الْأَرْضَ فَيَنْزِلُهَا فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنَ الْجِنِّ أَنْ أُضَرَّ أَنَا فِيهِ أَوْ مَالِي أَوْ وَلَدِي أَوْ ماشيتي، قال قتادة: فإذا عاذبهم مِنْ دُونِ اللَّهِ رَهِقَتْهُمُ الْجِنُّ الْأَذَى عِنْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَفْرَقُونَ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا يَفْرَقُ الْإِنْسُ مِنْهُمْ أَوْ أشد، فكان الْإِنْسُ إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا هَرَبَ الْجِنُّ فَيَقُولُ سَيِّدُ الْقَوْمِ نَعُوذُ بِسَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، فَقَالَ الْجِنُّ نَرَاهُمْ يَفْرَقُونَ مِنَّا كَمَا نَفْرَقُ مِنْهُمْ فَدَنَوْا مِنَ الْإِنْسِ فَأَصَابُوهُمْ بِالْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، فذلك قول الله عز وجل: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي إثما. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ رَهَقاً أَيْ خَوْفًا وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أَيْ إِثْمًا، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: زَادَ الْكُفَّارَ طُغْيَانًا.
وَقَالَ ابن حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ- يَعْنِي الْمُزَنِيَّ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَرْدِمِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي مِنَ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ فَوَثَبَ الرَّاعِي فَقَالَ:
يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارَكَ، فَنَادَى مُنَادٍ لَا نَرَاهُ يَقُولُ: يَا سِرْحَانُ «1» أَرْسِلْهُ. فَأَتَى الحمل يشتد «2»
__________
(1) السرحان: الأسد، وقيل: الذئب.
(2) يشتدّ: أي يسرع.(8/252)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
حَتَّى دَخَلَ فِي الْغَنَمِ لَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعَيِّ نَحْوُهُ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الذِّئْبُ الَّذِي أَخَذَ الْحَمَلَ، وَهُوَ ولد الشاة، كان جِنِّيًّا حَتَّى يُرْهِبَ الْإِنْسِيَّ وَيَخَافُ مِنْهُ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ لَمَّا اسْتَجَارَ بِهِ لِيُضِلَّهُ وَيُهِينَهُ ويخرجه عن دينه والله أعلم. وقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أَيْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ رَسُولًا، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ «1» .
[سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 10]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْجِنِّ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِهِ لَهُ أَنَّ السَّمَاءَ مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَحُفِظَتْ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا، وَطُرِدَتِ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَقَاعِدِهَا الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَيُلْقُوهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكَهَنَةِ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِطُ وَلَا يُدْرَى مَنِ الصَّادِقُ، وَهَذَا مِنْ لطف الله تعالى بِخَلْقِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ الْجِنِّ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أَيْ مَنْ يَرُومُ أَنْ يَسْتَرِقَ السمع يَجِدْ لَهُ شِهَابًا مُرْصِدًا لَهُ لَا يَتَخَطَّاهُ ولا يتعداه بل يمحقه اليوم وَيُهْلِكُهُ.
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أَيْ مَا نَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا، وَهَذَا مِنْ أَدَبِهِمْ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَسْنَدُوا الشَّرَّ إِلَى غَيْرِ فَاعِلٍ وَالْخَيْرَ أَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» «2» وَقَدْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِكَثِيرٍ بَلْ فِي الْأَحْيَانِ بَعْدَ الْأَحْيَانِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ: «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» فَقُلْنَا: كُنَّا نَقُولُ يُولَدُ عَظِيمٌ، يَمُوتُ عَظِيمٌ فَقَالَ: «لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ» «3» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ بِتَمَامِهِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ فَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُفِظَتْ مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاءُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَتَمَرَّدَ فِي طُغْيَانِهِ مَنْ بَقِيَ كَمَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ:
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 265.
(2) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 201، والنسائي في الافتتاح باب 17.
(3) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 34، باب 3.(8/253)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] الْآيَةَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ وَالرَّمْيُ بِهَا، هَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَانْزَعَجُوا لَهُ وَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لِخَرَابِ الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا رسولا رُجِمُوا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ لَمَّا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ، فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ وَيُسَيِّبُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عبد يا ليل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وسلّم، وإن نظرتم فلم تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ.
فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا فكفوا عن أقوالهم وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فَحَدَّثُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا، فَأَتَوْهُ فَشَمَّ فَقَالَ:
صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ، فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نُصَيْبِينَ فَقَدِمُوا مَكَّةَ فَوَجَدُوا نبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ «1» تُصِيبُهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ عَلَى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ مِنْ (كِتَابِ السِّيرَةِ) الْمُطَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[سورة الجن (72) : الآيات 11 الى 17]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
يقول تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا مُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أَيْ غَيْرُ ذَلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ مِنَّا الْمُؤْمِنُ وَمِنَّا الْكَافِرُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَادُ فِي أَمَالِيهِ: حَدَّثَنَا أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ بَحْشَلُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بن سليمان وهو أَبُو الشَّعْثَاءِ الْحَضْرَمِيُّ شَيْخُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ تَرَوَّحَ إِلَيْنَا جِنِّيٌّ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ الْأُرْزَ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ بِهِ فَجَعَلْتُ أَرَى اللُّقَمَ تُرْفَعُ وَلَا أَرَى أَحَدًا، فَقُلْتُ فِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي فِينَا؟ قَالَ: نَعَمْ فقلت فما الرافضة فيكم؟
__________
(1) الكلاكل: الصدور.(8/254)
قَالَ: شَرُّنَا. عَرَضْتُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ فَقَالَ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الْأَعْمَشِ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ بَعْضَ الْجَنِّ وَأَنَا فِي مَنَزَلٍ لِي بالليل ينشد: [الطويل]
قُلُوبٌ بَرَاهَا الْحُبُّ حَتَّى تَعَلَّقَتْ ... مَذَاهِبُهَا فِي كُلِّ غَرْبٍ وَشَارِقِ
تَهِيمُ بِحُبِّ اللَّهِ وَاللَّهُ ربها ... معلّقة بالله دون الخلائق
وقوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أَيْ نَعْلَمُ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ حَاكِمَةٌ عَلَيْنَا وَأَنَّا لَا نُعْجِزُهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ أَمْعَنَّا فِي الْهَرَبِ فَإِنَّهُ عَلَيْنَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنَّا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ مَفْخَرٌ لَهُمْ وَشَرَفٌ رَفِيعٌ وَصِفَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَوْلُهُمْ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: فَلَا يَخَافُ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ غَيْرَ سَيِّئَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طَهَ: 112] وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أَيْ مِنَّا الْمُسْلِمُ وَمِنَّا الْقَاسِطُ، وَهُوَ الْجَائِرُ عَنِ الْحَقِّ النَّاكِبُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمُقْسِطِ فَإِنَّهُ الْعَادِلُ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أَيْ طَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمُ النَّجَاةَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
أَيْ وَقُودًا تُسَعَّرُ بهم.
وقوله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ: [أَحَدُهُمَا] وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ الْقَاسِطُونَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَعَدَلُوا إِلَيْهَا وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً أَيْ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سِعَةُ الرِّزْقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] وكقوله تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 96] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أَيْ لِنَخْتَبِرَهُمْ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لِنَفْتِنَهُمْ لِنَبْتَلِيَهُمْ مَنْ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْهِدَايَةِ مِمَّنْ يَرْتَدُّ إِلَى الْغَوَايَةِ.
[ذِكْرُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ] قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يَعْنِي بِالِاسْتِقَامَةِ الطَّاعَةَ «1» ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ قَالَ: الْإِسْلَامُ وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يَقُولُ: لَوْ آمَنُوا كُلُّهُمْ لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أَيْ: طَرِيقَةِ الْحَقِّ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أَيْ لِنَبْتَلِيَهُمْ بِهِ.
وقال مقاتل: نزلت فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ مُنِعُوا الْمَطَرَ سَبْعَ سنين.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 268.(8/255)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
[وَالْقَوْلُ الثَّانِي] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الضلال لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً أَيْ لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ استدراجا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَامِ: 44] وَكَقَوْلِهِ:
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55- 56] وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بن حميد، فإنه قال في قوله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أَيْ طَرِيقَةِ الضَّلَالَةِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ كَيْسَانَ وَلَهُ اتِّجَاهٌ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً أَيْ عذابا مشقا شَدِيدًا مُوجِعًا مُؤْلِمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: عَذاباً صَعَداً
أَيْ مَشَقَّةً لَا رَاحَةَ مَعَهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: بئر فيها.
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 24]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ أن يوحدوه في محال عِبَادَتِهِ وَلَا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ وَلَا يُشْرَكُ به، كما قال قتادة في قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَحْدَهُ «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ بِنْتِ السُّدِّيِّ، أَخْبَرَنَا رَجُلٌ سَمَّاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَوْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ إِيلِيَّا بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَتِ الْجِنُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لَنَا فنشهد معك الصلوات في مسجدك، فأنزل الله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً يَقُولُ:
صَلُّوا لَا تُخَالِطُوا النَّاسَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مَحْمُودٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قَالَ: قَالَتِ الْجِنُّ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ ونحن ناؤون؟ أي بعيدون عنك، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عَنْكَ؟ فَنَزَلَتْ وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 271.
(2) تفسير الطبري 12/ 271. [.....](8/256)
وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: نَزَلَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
نَزَلَتْ فِي أَعْضَاءِ السُّجُودِ، أَيْ هِيَ لِلَّهِ فَلَا تَسْجُدُوا بِهَا لِغَيْرِهِ. وَذَكَرُوا عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ على سبعة أعظم: على الجبهة- أشار بيده إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» «1» ، وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كَادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْحِرْصِ لَمَّا سَمِعُوهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَدَنَوْا مِنْهُ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ هَذَا قَوْلٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ: لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قَالَ: لَمَّا رَأَوْهُ يُصَلِّي وَأَصْحَابُهُ يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قال: عَجِبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ قَالَ: فَقَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ كَادَتِ الْعَرَبُ تَلْبُدُ عَلَيْهِ جَمِيعًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قَالَ: تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه، وهذا قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وهو اختيار ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أَيْ قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَمَّا آذَوْهُ وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ لِيُبْطِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ واجتمعوا على عداوته إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أَيْ إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَسْتَجِيرُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.
وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أَيْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ وَعَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِي هِدَايَتِكُمْ وَلَا غَوَايَتِكُمْ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُجِيرُهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أَيْ لَوْ عَصَيْتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِنْقَاذِي مِنْ عَذَابِهِ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ:
لَا مَلْجَأَ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي
__________
(1) أخرجه البخاري في المواقيت باب 11، ومسلم في الصلاة حديث 227، 229.
(2) تفسير الطبري 12/ 272.(8/257)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
لَا نَصِيرَ وَلَا مَلْجَأَ وَفِي رِوَايَةٍ: لَا وَلِيَّ وَلَا مَوْئِلَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مُسْتَثْنَى من قوله: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً ... إِلَّا بَلاغاً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أَيْ لَا يُجِيرُنِي مِنْهُ وَيُخَلِّصُنِي إِلَّا إِبْلَاغِي الرِّسَالَةَ الَّتِي أَوْجَبَ أَدَاءَهَا عَلَيَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أَيْ أَنَمَا أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ فَمَنْ يَعْصِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ جَزَاءٌ عَلَى ذَلِكَ نَارُ جَهَنَّمَ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ منها. وقوله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أَيْ حَتَّى إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَا يُوعِدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَيَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا، هُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُوَحِّدُونَ لله تعالى، أي بل المشركون لَا نَاصِرَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُمْ أَقَلُّ عَدَدًا من جنود الله عز وجل.
[سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ إِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِوَقْتِ السَّاعَةِ وَلَا يَدْرِي أَقَرِيبٌ وَقْتُهَا أَمْ بَعِيدٌ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أَيْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسّلام لَا يُؤَلِّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ نَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ.
وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ فَلَا يُجِيبُ عَنْهَا، وَلَمَّا تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ كَانَ فِيمَا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَأَخْبِرْنِي عن السَّاعَةُ؟ قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» وَلَمَّا نَادَاهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَيْحَكَ إِنَّهَا كَائِنَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُعِدَّ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَكِنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ:
«فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بَنِي آدَمَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنما توعدون لآت» .
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، وتفسير سورة 31، باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 1، 5، 7، وأبو داود في السنة باب 16، والترمذي في الإيمان باب 4، والنسائي في الإيمان باب 5، 6، وابن ماجة في المقدمة باب 9، والفتن باب 25، وأحمد في المسند 2/ 426.(8/258)
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ «1» فِي آخِرِ كِتَابِ الملاحم: حدثنا موسى بن سهل، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ» انْفَرَدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ عَنْ شُرَيحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «إني لأرجو أن لا تَعْجَزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ» قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ عَامٍ. انْفَرَدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [الْبَقَرَةِ: 225] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا إِنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ وَإِنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا مما أطلعه تعالى عليه، ولهذا قَالَ:
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ وَهَذَا يَعُمُّ الرسول الملكي والبشري.
ثم قال تعالى: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي يخصه بِمَزِيدِ مُعَقِّبَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيُسَاوِقُونَهُ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فقيل إنه عائد على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قَالَ: أَرْبَعَةُ حَفَظَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ جِبْرِيلَ لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ الْقَمِّيِّ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قَالَ: لِيَعْلَمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ عَنِ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَفِظَتْهَا وَدَفَعَتْ عَنْهَا، وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قَالَ: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قَالَ: لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وفي هذا
__________
(1) كتاب الملاحم باب 18.
(2) تفسير الطبري 12/ 277.(8/259)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
نَظَرٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَرَأَ يَعْقُوبُ لِيُعْلَمَ بِالضَّمِّ أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي زَادِ الْمَسِيرِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْفَظُ رُسُلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَدَاءِ رسالاته ويحفظ ما ينزله إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ لِيَعْلَمَ أَنَّ قَدْ أَبْلَغُوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143] وكقوله تعالى:
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 11] إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً. آخر تفسير سورة الجن، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْحَافِظُ أبو بكر بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عن جابر قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقَالُوا: سموا هذا الرجل اسما يصد النَّاسُ عَنْهُ، فَقَالُوا: كَاهِنٌ. قَالُوا: لَيْسَ بِكَاهِنٍ. قَالُوا: مَجْنُونٌ. قَالُوا: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. قَالُوا: سَاحِرٌ.
قَالُوا: لَيْسَ بِسَاحِرٍ، فَتَفَرَّقَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى ذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ وَتَدَثَّرَ فِيهَا. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرُ: 1] ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: مُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ العلم واحتملوا حديثه لكنه تَفَرَّدَ بِأَحَادِيثَ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ التَّزَمُّلَ وَهُوَ التَّغَطِّي فِي اللَّيْلِ وَيَنْهَضَ إِلَى الْقِيَامِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [السَّجْدَةِ: 16] وكذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَثِلًا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ كان واجبا(8/260)
عَلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] وَهَاهُنَا بَيَّنَ لَهُ مِقْدَارَ مَا يَقُومُ فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يَعْنِي يَا أَيُّهَا النَّائِمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُزَّمِّلُ فِي ثِيَابِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: نَزَلَتْ وَهُوَ مُتَزَمِّلٌ بِقَطِيفَةٍ، وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قَالَ: يا محمد زملت القرآن وقوله تعالى: نِصْفَهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أَيْ أَمَرْنَاكَ أَنْ تَقُومَ نِصْفَ اللَّيْلِ بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ قَلِيلٍ لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أَيِ اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَوْنًا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، قالت عائشة رضي الله عنها: كَانَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلِ مِنْهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «1» عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ أم سلمة رضي الله عنها أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 1- 4] «2» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يقال لقارئ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» «4» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّرْتِيلِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ «5» وَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» «6» و «لقد أوتي
__________
(1) كتاب فضائل القرآن باب 29.
(2) أخرجه أبو داود في الحروف باب 1، والترمذي في ثواب القرآن باب 23، وأحمد في المسند 6/ 302.
(3) المسند 2/ 192.
(4) أخرجه أبو داود في الوتر باب 20، والترمذي في ثواب القرآن باب 18.
(5) أخرجه البخاري في التوحيد باب 52، وأبو داود في الوتر باب 20، والنسائي في الافتتاح باب 83، وابن ماجة في الإقامة باب 176، والدارمي في فضائل القرآن باب 34، وأحمد في المسند 4/ 283، 285، 296، 304.
(6) أخرجه البخاري في التوحيد باب 44، وأبو داود في الوتر باب 20، والدارمي في الصلاة باب 171، وفضائل القرآن باب 34، وأحمد في المسند 1/ 172، 175، 179.(8/261)
هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» «1» يَعْنِي أَبَا مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ كُنْتَ تَسْمَعُ قِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا: وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الرَّمْلِ وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ «2» الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ، رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ. فَقَالَ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ فِي ركعة «3» .
وقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيِ الْعَمَلُ بِهِ وَقِيلَ: ثَقِيلٌ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنْ عَظَمَتِهِ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثابت رضي الله عنه: أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَكَادَتْ تَرُضُّ فَخِذِي «4» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْمَعُ صَلَاصِلَ ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تُقْبَضُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَفِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فقال: «أحيانا يأتي فِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا «6» ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «7» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: إِنْ كَانَ لِيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا «8» ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «9» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابن ثور عن معمر عن
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 31، ومسلم في المسافرين حديث 235، 236.
(2) أي لا تسرعوا في قراءته كما تسرعوا في قراءة الشعر، والهذّ: سرعة القطع.
(3) أخرجه البخاري في الأذان باب 106، وأحمد في المسند 1/ 417. [.....]
(4) أخرجه البخاري في الصلاة باب 12، وتفسير سورة 4، باب 18.
(5) المسند 2/ 222.
(6) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب 2.
(7) المسند 6/ 118.
(8) الجران: باطن العنق، والمعنى: أنها تثبت في مكانها.
(9) تفسير الطبري 12/ 280.(8/262)
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَضَعَتْ جِرَانَهَا، فَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحَرَّكَ حَتَّى يُسَرَّى عَنْهُ وَهَذَا مُرْسَلٌ، الْجِرَانُ هُوَ بَاطِنُ الْعُنُقِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ ثَقِيلٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَعًا، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، كَمَا ثَقُلَ فِي الدُّنْيَا ثَقُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الموازين.
وقوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَشَأَ، قَامَ بِالْحَبَشَةِ، وَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، يُقَالُ نَشَأَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ وَقَتَادَةُ وَسَالِمٌ وَأَبُو حَازِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرُ: وَالْغَرَضُ أَنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ سَاعَاتُهُ وَأَوْقَاتُهُ وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنْهُ تُسَمَّى نَاشِئَةً وَهِيَ الْآنَّاتُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ هُوَ أَشَدُّ مُوَاطَأَةً بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَأَجْمَعُ عَلَى التلاوة، ولهذا قال تعالى: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا أَيْ أَجْمَعُ لِلْخَاطِرِ فِي أَدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَتَفَهُّمِهَا مِنْ قِيَامِ النَّهَارِ، لِأَنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ النَّاسِ وَلَغَطِ الْأَصْوَاتِ وأوقات المعاش، وقال الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وَأَصْوَبُ قِيلًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّمَا نَقْرَؤُهَا وَأَقْوَمُ قِيلًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَصْوَبَ وَأَقْوَمَ وأهيأ وأشباه هذا واحد.
ولهذا قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: الفراغ والنوم، وقال أبو العالية ومجاهد وأبو مَالِكٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: فَرَاغًا طَوِيلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَرَاغًا وَبُغْيَةً وَمُنْقَلَبًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ سَبْحاً طَوِيلًا تَطَوُّعًا كَثِيرًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ في قوله تعالى: سَبْحاً طَوِيلًا قَالَ:
لِحَوَائِجِكَ فَأَفْرِغْ لِدِينِكَ اللَّيْلَ، قَالَ وَهَذَا حِينَ كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً ثم إن الله تبارك وتعالى منّ على عباده فَخَفَّفَهَا وَوَضَعَهَا وَقَرَأَ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إلى آخر الآية ثم قرأ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ- حتى بلغ- فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ اللَّيْلَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلْثَهُ ثُمَّ جَاءَ أَمْرٌ أُوْسَعُ وَأَفْسَحُ وَضَعَ الْفَرِيضَةَ عنه وعن أمته فقال وقال تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ كَمَا قَالَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبِيعَ عَقَارًا لَهُ بِهَا، وَيَجْعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ثُمَّ يُجَاهِدُ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَقِيَ رَهْطًا مِنْ قَوْمِهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّ رَهْطًا مِنْ قَوْمِهِ سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فقال: «أليس
__________
(1) المسند 6/ 54.(8/263)
لكم فيّ أسوة حسنة؟» فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَشْهَدَهُمْ عَلَى رَجْعَتِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنِ الْوِتْرِ فَقَالَ: أَلَّا أُنَبِّئُكَ بِأَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: ائْتِ عَائِشَةَ فسلها ثُمَّ ارْجِعْ إِلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ. قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى حَكِيمِ بْنِ أَفْلَحَ فَاسْتَلْحَقْتُهُ إِلَيْهَا «1» فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِبِهَا «2» إِنِّي نَهَيْتُهَا أَنْ تَقُولَ فِي هَاتَيْنِ الشِّيعَتَيْنِ «3» شَيْئًا فَأَبَتْ فِيهِمَا إِلَّا مُضِيًّا، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ مَعِي فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا فَقَالَتْ: حَكِيمٌ وَعَرَفَتْهُ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَتْ: من هذا الذي مَعَكَ؟ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ. قَالَتْ: مَنْ هشام؟ قال: ابن عامر. قالت:
فترحمت عليه وقالت: نعم المرء كان عامرا. قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ ثُمَّ بَدَا لِي قِيَامُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ قيام رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتِ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا مِنْ بَعْدِ فَرِيضَةٍ.
فَهَمَمْتُ أَنْ أَقْوَمَ ثُمَّ بَدَا لِي وِتْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتِ: كُنَّا نَعُدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ لِمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ثم يصلي ثمان ركعات ولا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إِلَّا عِنْدَ الثَّامِنَةِ، فَيَجْلِسُ وَيَذْكُرُ ربه تعالى ويدعو ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقول ليصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله وحده ثم يدعوه ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ أَوْ مَرَضٌ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ. فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِهَا فَقَالَ: صَدَقَتْ أَمَا لَوْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَأَتَيْتُهَا حَتَّى تُشَافِهَنِي مُشَافَهَةً، هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِتَمَامِهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «4» فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بنحوه.
[طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها فِي هَذَا الْمَعْنَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنَا ابن وكيع،
__________
(1) استلحقته إليها: أي طلبت منه مرافقته إياي في الذهاب إليها.
(2) ما أنا بقاربها: أي لن اقترب منها، أو لا أريد قربها.
(3) أي أصحاب الجمل وشيعة علي.
(4) كتاب المسافرين حديث 139.
(5) تفسير الطبري 12/ 279.(8/264)
حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ قَالَا جَمِيعًا، وَاللَّفْظُ لِابْنِ وَكِيعٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طحلاء عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَجْعَلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرًا يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَتَسَامَعَ النَّاسُ بِهِ فَاجْتَمَعُوا فَخَرَجَ كَالْمُغْضَبِ، وَكَانَ بِهِمْ رَحِيمًا، فَخَشِيَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ» وَنَزَلَ الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَرْبِطُ الْحَبْلَ وَيَتَعَلَّقُ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ فَرَأَى اللَّهُ مَا يَبْتَغُونَ مِنْ رِضْوَانِهِ فَرَحِمَهُمْ فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ وَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ زِيَادَةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذَا السِّيَاقُ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَكِّيَّةٌ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ إِنَّ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ غَرِيبٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سِمَاكٍ الْحَنَفِيِّ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ أَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا قَرِيبٌ مِنْ سَنَةٍ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قَامُوا حَوْلًا حتى ورت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ قَالَ: فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ. وَكَذَا قال الحسن الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: فَقُلْتُ يَعْنِي لِعَائِشَةَ أَخْبِرِينَا عَنْ قيام رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتِ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُلْتُ بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّهَا كَانَتْ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَحُبِسَ آخِرُهَا فِي السَّمَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ نَزَلَ، وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قَامُوا حَوْلًا أَوْ حَوْلَيْنِ حَتَّى انْتَفَخَتْ سُوقُهُمْ وَأَقْدَامُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تخفيفها بعد في آخر السورة.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 280.(8/265)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قَالَ: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَقُومُ اللَّيْلَ كَمَا أَمَرَهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أصحابه يقومون معه فأنزل الله تعالى عَلَيْهِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ بِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ خفف الله تعالى عَنْهُمْ وَرَحِمَهُمْ فَأَنْزَلَ بَعْدَ هَذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ- إلى قوله تعالى- فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ فوسع الله تعالى وله الحمد ولم يضيق.
وقوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أَيْ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِهِ وَانْقَطِعْ إِلَيْهِ وَتَفَرَّغْ لِعِبَادَتِهِ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَشْغَالِكَ وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ من أمور دنياك كما قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشَّرْحِ: 7] أَيْ إِذَا فَرَغْتَ من أشغالك فَانْصَبْ فِي طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ لِتَكُونَ فَارِغَ الْبَالِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ بِمَعْنَاهُ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَعَطِيَّةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أَيْ أَخْلِصْ لَهُ العبادة، وقال الحسن: اجتهد وابتل إِلَيْهِ نَفْسَكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : يُقَالُ لِلْعَابِدِ متبتل، ومنه الحديث المروي: نَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ يَعْنِي الِانْقِطَاعَ إِلَى الْعِبَادَةِ وترك التزوج.
وقوله تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ في المشارق والمغارب الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَكَمَا أَفْرَدْتَهُ بِالْعِبَادَةِ فأفرده بالتوكل فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هُودٍ: 123] وكقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4] وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا الْأَمْرُ بِإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 18]
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ سُفَهَاءِ قومه، وأن يهجرهم
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 279. [.....]
(2) تفسير الطبري 12/ 286.(8/266)
هَجْرًا جَمِيلًا وَهُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ ثم قال له متهددا لكفار قومه ومتوعدا، وَهُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ أَيْ دَعْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ الْمُتْرَفِينَ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَهُمْ يُطَالِبُونَ مِنَ الْحُقُوقِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أَيْ رُوَيْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لُقْمَانَ: 24] ، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَهِيَ الْقُيُودُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَطَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَأَبُو مجلز والضحاك وحماد بن أبي سليمان وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَجَحِيماً وَهِيَ السَّعِيرُ الْمُضْطَرِمَةُ وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْشَبُ فِي الْحَلْقِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أَيْ تُزَلْزَلُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أَيْ تَصِيرُ كَكُثْبَانِ الرَّمْلِ بَعْدَ مَا كَانَتْ حِجَارَةً صَمَّاءَ ثُمَّ إِنَّهَا تُنْسَفُ نَسْفًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ذَهَبَ حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا أَيْ وَادِيًا وَلَا أَمْتًا أَيْ رَابِيَةً، وَمَعْنَاهُ لَا شَيْءَ يَنْخَفِضُ وَلَا شَيْءَ يَرْتَفِعُ.
ثم قال تعالى مُخَاطِبًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْمُرَادُ سَائِرُ النَّاسِ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ أَيْ بِأَعْمَالِكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ أَخْذاً وَبِيلًا أَيْ شَدِيدًا أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْتُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا هَذَا الرَّسُولَ فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى [النَّازِعَاتِ: 25] وَأَنْتُمْ أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم، لِأَنَّ رَسُولَكُمْ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَوْلُهُ تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْماً مَعْمُولًا لِتَتَّقُونَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَيْفَ تَخَافُونَ أَيُّهَا النَّاسُ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوَلَدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوا بِهِ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِكَفَرْتُمْ فَعَلَى الْأَوَّلِ كَيْفَ يَحْصُلُ لَكُمْ أَمَانٌ مِنْ يَوْمِ هَذَا الْفَزَعِ الْعَظِيمِ إِنْ كَفَرْتُمْ، وَعَلَى الثَّانِي كَيْفَ يَحْصُلُ لَكُمْ تَقْوَى إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَحَدْتُمُوهُ، وَكِلَاهُمَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً أَيْ مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِهِ وَزَلَازِلِهِ وبلابله، وذلك حين يقول الله تعالى لآدم ابعث النَّارِ فَيَقُولُ مِنْ كَمْ. فَيَقُولُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَرَأَ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً قَالَ: «ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ قُمْ فَابْعَثْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعَثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ مِنْ كَمْ يَا رَبِّ؟
قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَيَنْجُو وَاحِدٌ» فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَرَفَ ذَلِكَ(8/267)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ حِينَ أَبْصَرَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ «إِنَّ بَنِي آدَمَ كَثِيرٌ، وَإِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ مِنْهُمْ رَجُلٌ حتى ينتشر لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُلٍ فَفِيهِمْ وَفِي أَشْبَاهِهِمْ جُنَّةٌ لَكُمْ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْ بِسَبَبِهِ مِنْ شِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِيدُ الضمير على الله تعالى: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ هَاهُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أَيْ كَانَ وَعْدُ هَذَا الْيَوْمِ مَفْعُولًا أَيْ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ وكائنا لا محيد عنه.
[سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ أَيِ السُّورَةَ تَذْكِرَةٌ أَيْ يَتَذَكَّرُ بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَلِهَذَا قال تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيْ ممن شاء الله تعالى هِدَايَتَهُ كَمَا قَيَّدَهُ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان: 30] .
ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أَيْ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ تَارَةً يعتدلان وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا مِنْ هَذَا عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أَيِ الفرض الذي أوجبه عليكم فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِوَقْتٍ أَيْ وَلَكِنْ قُومُوا مِنَ اللَّيْلِ مَا تَيَسَّرَ، وَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 110] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله بهذه الآية وهي قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يجب تعين قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ بَلْ لَوْ قَرَأَ بِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَوْ بِآيَةٍ، أَجْزَأَهُ وَاعْتَضَدُوا بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» «1» وَقَدْ أَجَابَهُمُ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» «2» ، وَفِي صحيح مسلم عن أبي
__________
(1) أخرجه البخاري في الاستئذان باب 18، ومسلم في الصلاة حديث 45.
(2) أخرجه الترمذي في المواقيت باب 69، وابن ماجة في الإقامة باب 11. ومسلم في الصلاة حديث 38.(8/268)
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بأم القرآن فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ» «1» وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ أَبِي هريرة مَرْفُوعًا «لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ بأم القرآن» .
وقوله تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ذَوُو أَعْذَارٍ فِي تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ مَرْضَى لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَمُسَافِرِينَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، وَآخَرِينَ مَشْغُولِينَ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بَلِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنِ الْقِتَالُ شُرِعَ بَعْدُ، فَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الإخبار بالمغيبات المستقبلة، ولهذا قال تعالى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ أَيْ قُومُوا بِمَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَدِ اسْتَظْهَرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ وَلَا يَقُومُ بِهِ إِنَّمَا يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، قَالَ يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ لَعَنَ اللَّهُ ذَاكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ [يُوسُفَ: 68] وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ [الْأَنْعَامِ: 91] قُلْتُ: يا أبا سعيد، قال الله تعالى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ نَعَمْ وَلَوْ خَمْسَ آيَاتٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَرَى حَقًّا وَاجِبًا عَلَى حَمَلَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقُومُوا وَلَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي اللَّيْلِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، فَقَالَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» «3» فَقِيلَ مَعْنَاهُ نَامَ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ، وَقِيلَ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ: وَفِي السُّنَنِ «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» «4» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» «5» وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بكر بن عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ إِيجَابِهِ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ فَرَقَدٍ الْجُدِّيُّ، حَدَّثَنَا أبو مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الزُّبَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ مِنْ وَلَدِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ قَالَ: «مِائَةُ آيَةٍ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا لَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي معجم الطبراني رحمه الله تعالى.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 41.
(2) تفسير الطبري 12/ 294.
(3) أخرجه البخاري في التهجد باب 13، ومسلم في المسافرين حديث 205.
(4) أخرجه أبو داود في الوتر باب 1، والترمذي في الوتر باب 5، والنسائي في قيام الليل باب 27، وابن ماجة في الإقامة باب 114، وأحمد في المسند 1/ 110، 143، 144، 148.
(5) أخرجه أبو داود في الوتر باب 2، وأحمد في المسند 2/ 443، 5/ 357.(8/269)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أَيْ أَقِيمُوا صَلَاتَكُمُ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ لِمَنْ قَالَ إِنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ لَكِنَّ مَقَادِيرَ النُّصُبِ وَالْمَخْرَجِ لَمْ تُبَيَّنْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنَّ تَطَوَّعَ» «1» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يَعْنِي مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِي عَلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ وَأَوْفَرَهُ، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] وقوله تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أَيْ جَمِيعُ ما تقدموه بين أيديكم فهو لَكُمْ حَاصِلٌ وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَبْقَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَنْ مَالِ وَارِثِهِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ قَالَ: «اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ» قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّمَا مَالُ أَحَدِكُمْ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» «2» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طريق أَبِي مُعَاوِيَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ فِي أُمُورِكُمْ كُلِّهَا فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ، آخر تفسير سورة المزمل، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 34، ومسلم في الإيمان حديث 8.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 12، والنسائي في الوصايا باب 1، وأحمد في المسند 1/ 382.(8/270)
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْقُرْآنِ نُزُولًا قَوْلُهُ تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] كما سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُلْتُ: يَقُولُونَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتَ لِي فَقَالَ جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا- قَالَ- فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا- قَالَ- فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» هَكَذَا سَاقَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ:
أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ فترة الوحي فقال في حديثه: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السماء فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَثَثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فزملوني، فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ- إِلَى- فَاهْجُرْ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرُّجْزُ الْأَوْثَانُ- ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ» «2» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَهَذَا السِّيَاقُ هُوَ الْمَحْفُوظُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ الْوَحْيُ قَبْلَ هَذَا لِقَوْلِهِ: «فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ» وَهُوَ جِبْرِيلُ حِينَ أَتَاهُ بِقَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [الْعَلَقِ: 1- 5] ثُمَّ إِنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ هَذَا فَتْرَةٌ ثُمَّ نَزَلَ الْمَلَكُ بَعْدَ هَذَا.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ هَذِهِ السُّورَةُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بِحِرَاءٍ الْآنَ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض فجثيت مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُمْ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 74، باب 1.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 74، باب 1، ومسلم في الإيمان حديث 255، 257.
(3) المسند 3/ 325.(8/271)
وَتَتَابَعَ» «1» أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ السِّمْسَارُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ صَنَعَ لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِسَاحِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَاهِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِكَاهِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاعِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِشَاعِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سِحْرٌ يُؤْثَرْ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَزِنَ وَقَنَّعَ رَأْسَهُ وَتَدَثَّرَ، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ أَيْ شَمِّرْ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ وَأَنْذِرِ النَّاسَ، وَبِهَذَا حَصَلَ الْإِرْسَالُ كَمَا حَصَلَ بِالْأَوَّلِ النُّبُوَّةُ.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أَيْ عَظِّمْ. وَقَوْلُهُ تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ الْأَجْلَحُ الْكِنْدِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرَةٍ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثقفي: [الطويل]
فَإَنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «2»
وَقَالَ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْآيَةِ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَقِيُّ الثِّيَابِ وَفِي رِوَايَةٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَطَهِّرْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: مِنَ الْإِثْمِ، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: نَفْسَكَ لَيْسَ ثيابك، وفي رواية عنه وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، وَكَذَا قَالَ أَبُو رَزِينٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَيْ لَسْتَ بِكَاهِنٍ وَلَا سَاحِرٍ فَأَعْرِضْ عَمَّا قَالُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَيْ طَهِّرْهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الرَّجُلَ إِذَا نَكَثَ وَلَمْ يف بعهد الله إنه لدنس الثِّيَابِ، وَإِذَا وَفَّى وَأَصْلَحَ إِنَّهُ لَمُطَهَّرُ الثِّيَابِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: لَا تَلْبِسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ. وقال الشاعر: [الطويل]
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 7، ومسلم في الإيمان حديث 256. [.....]
(2) يروى البيت:
إني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من خزية أتقنّع
وهو لغيلان في لسان العرب (طهر) ، وتهذيب اللغة 6/ 172، 15/ 154 وتاج العروس (طهر) ، وتفسير الطبري 12/ 298، والبحر المحيط 6/ 46، 8/ 363، ولابن مطر المازني في معجم الشعراء ص 468، والمرصع ص 278، ولبرذع بن عدي الأوسي في مجالس ثعلب ص 253، وبلا نسبة في لسان العرب (ثوب) ، (قط) ، وأساس البلاغة (قنع) ، (خزي) ، وتاج العروس (ثوب) ، (قنع) .(8/272)
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ ... فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ «1»
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ يعني لا تكن ثِيَابُكَ الَّتِي تَلْبَسُ مِنْ مَكْسَبٍ غَيْرِ طَائِبٍ، وَيُقَالُ: لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَيِ اغْسِلْهَا بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَتَطَهَّرُونَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَأَنْ يُطَهِّرَ ثِيَابَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ طَهَارَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الثِّيَابَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ امرؤ القيس: [الطويل]
أَفَاطِمَ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ هَجْرِي فَأَجْمِلِي «2»
وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَقَلْبَكَ وَنِيَّتَكَ فَطَهِّرْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي والحسن البصري: وخلقك فحسن، وقوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالرُّجْزَ وَهُوَ الْأَصْنَامُ فَاهْجُرْ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الْأَوْثَانُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أَيِ اتْرُكِ الْمَعْصِيَةَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَلْزَمُ تَلَبُّسُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. [الأعراف: 142] .
وقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُعْطِ الْعَطِيَّةَ تَلْتَمِسُ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَلَا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِكَ عَلَى رَبِّكَ تَسْتَكْثِرُهُ وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ خُصَيْفٌ عَنْ مجاهد في قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قَالَ: لَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَ: تَمْنُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَضْعُفُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ تَسْتَكْثِرُهُمْ بِهَا تَأْخُذُ عَلَيْهِ
__________
(1) البيت للسموأل في ديوانه ص 90، وشرح شواهد المغني 2/ 531، ومغني اللبيب 1/ 196، وله أو لعبد الملك بن عبد الرّحيم الحارثي المعروف بالجلاح الحارثي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 110، والمقاصد النحوية 2/ 76، ولدكين بن رجاء في الشعر والشعراء 2/ 612.
(2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 12، 13، والبيت الأول في الجنى الداني ص 35، وخزانة الأدب 11/ 222، والدرر 3/ 16، وشرح شواهد المغني 1/ 20، والمقاصد النحوية 4/ 289، وتاج العروس (عنز) ، (زمع) ، (دلل) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 67، ورصف المباني ص 52، وشرح الأشموني 2/ 467، ومغني اللبيب 1/ 13، وهمع الهوامع 1/ 172، والبيت الثاني في أساس البلاغة (ثوب) ، وكتاب الجيم 7/ 257، ولسان العرب (ثوب) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نظف) ، وتاج العروس (ثوب) .(8/273)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَالْأَظْهَرُ القول الأول، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أَيِ اجْعَلْ صَبْرَكَ عَلَى أَذَاهُمْ لِوَجْهِ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ إبراهيم النخعي: اصبر على عطيتك لله عز وجل. وقوله تَعَالَى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ النَّاقُورِ الصُّورِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كَهَيْئَةِ الْقَرْنِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ ينتظر متى يؤمر فينفخ؟» فقال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» «1» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْبَاطٍ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ فُضَيْلٍ وَأَسْبَاطٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُطَرِّفٍ بِهِ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابن عباس به.
وقوله تعالى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أَيْ شَدِيدٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أَيْ غَيْرُ سَهْلٍ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [الْقَمَرِ: 8] ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ شَهِقَ شَهْقَةً ثم خرّ ميتا رحمه الله تعالى.
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 30]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِهَذَا الْخَبِيثِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا فَكَفَرَ بِأَنْعُمِ اللَّهِ وَبَدَّلَهَا كُفْرًا وَقَابَلَهَا بِالْجُحُودِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ وَقَدْ عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ نعمه حيث قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أَيْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَحْدَهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا ولد ثم رزقه الله تعالى: مَالًا مَمْدُوداً أَيْ وَاسِعًا كَثِيرًا قِيلَ أَلْفُ دِينَارٍ وَقِيلَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَرْضًا يستغلها، وقيل غير ذلك وجعل له بنين شُهُوداً قَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَغِيبُونَ أَيْ حُضُورًا عنده لا يسافرون بالتجارات بَلْ مَوَالِيهِمْ وَأُجَرَاؤُهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُمْ: وَهُمْ قُعُودٌ عِنْدَ أَبِيهِمْ يَتَمَتَّعُ بِهِمْ وَيَتَمَلَّى بِهِمْ، وَكَانُوا فِيمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو مَالِكٍ وَعَاصِمُ بن عمر بن قتادة ثلاثة عشر،
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 73.
(2) تفسير الطبري 12/ 304.(8/274)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ كَانُوا عَشْرَةً وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النِّعْمَةِ وَهُوَ إِقَامَتُهُمْ عِنْدَهُ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أَيْ مَكَّنْتُهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَالِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أَيْ مُعَانِدًا وَهُوَ الْكُفْرُ عَلَى نِعَمِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ قَالَ الله تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ، وَالصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نار يصعد فيه الكافر سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوِي بِهِ كَذَلِكَ فِيهِ أَبَدًا» «2» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْأَشْيَبِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» عَنْ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ وَفِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفِ بِعَلَّانَ الْمِصْرِيِّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مِنْجَابٌ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهَنِيِّ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قَالَ: «هُوَ جَبَلٌ فِي النَّارِ مِنْ نَارٍ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهُ فَإِذَا وَضَعَ يَدَهُ ذَابَتْ وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ، فَإِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ ذَابَتْ وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ «4» مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ ابن عباس: صعودا صخرة فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أَيْ مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابًا لَا رَاحَةَ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جرير.
وقوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أَيْ إِنَّمَا أَرْهَقْنَاهُ صُعُودًا أَيْ قَرَّبْنَاهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّاقِّ لِبُعْدِهِ عَنِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أَيْ تَرَوَّى مَاذَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ فَفَكَّرَ مَاذَا يَخْتَلِقُ مِنَ الْمَقَالِ وَقَدَّرَ أَيْ تَرَوَّى فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ ثُمَّ نَظَرَ أَيْ أَعَادَ النَّظْرَةَ وَالتَّرَوِّيَ ثُمَّ عَبَسَ أَيْ قَبَضَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَطَّبَ وَبَسَرَ أَيْ كَلَحَ وَكَرِهَ وَمِنْهُ قول توبة بن الحمير: [الطويل]
وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا صُدُودٌ رَأَيْتُهُ ... وَإِعْرَاضُهَا عَنْ حَاجَتِي وَبُسُورُهَا «5»
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ أَيْ صرف عن الحق ورجع القهقهرى مُسْتَكْبِرًا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْقُرْآنِ فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أَيْ هَذَا سِحْرٌ يَنْقُلُهُ محمد عن غيره ممن قَبْلَهُ وَيَحْكِيهِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أَيْ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ، وهذا المذكور في هذا السياق
__________
(1) المسند 3/ 75.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 21، باب 1.
(3) تفسير الطبري 12/ 308.
(4) تفسير الطبري 12/ 308.
(5) البيت في تفسير الطبري 12/ 309.(8/275)
هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ أَحَدُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ دَخَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ يَا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فو الله مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا بِسَحْرٍ وَلَا بِهَذْيٍ مِنَ الْجُنُونِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ كَلَامِ اللَّهِ فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ قُرَيْشٍ ائْتَمَرُوا وقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبو قُرَيْشٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ لِلْوَلِيدِ: أَلَمْ تر إلى قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ؟ فَقَالَ: أَلَسْتُ أَكْثَرَهُمْ مَالًا وَوَلَدًا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَقَدْ تَحَدَّثَ بِهِ عَشِيرَتِي؟ فَلَا وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ وَلَا عُمَرَ وَلَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَمَا قَوْلُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- إِلَى قَوْلِهِ- لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: زَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ نَظَرْتُ فِيمَا قَالَ الرَّجُلُ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَإِنَّ لَهُ لحلاوة، وإنه عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وَمَا أَشُكُّ أَنَّهُ سِحْرٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ الْآيَةَ.
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قَبَضَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَكَلَحَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ أَيْ عَمُّ إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ يُعْطُونَكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا تَتَعَرَّضُ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ قد علمت قريش أني أكثرهم مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يُعْلِمُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لِمَا قَالَ وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قال فماذا أقول فيه، فو الله مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي وَلَا أَعْلَمُ بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لَحَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يَعْلَى، وَقَالَ وَاللَّهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حتى تقول فيه، قال فدعني حتى أتفكر فيه، فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثره عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتْ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- حَتَّى بَلَغَ- تِسْعَةَ عَشَرَ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَقَدْ زَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيُجْمِعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى قَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلْحَجِّ لِيَصُدُّوهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: شَاعِرٌ وَقَالَ آخَرُونَ: سَاحِرٌ وَقَالَ آخَرُونَ: كَاهِنٌ وَقَالَ آخَرُونَ:
مَجْنُونٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ:
48] كُلُّ هَذَا وَالْوَلِيدُ يُفَكِّرُ فِيمَا يَقُولُهُ فِيهِ، ففكر وقدر ونظر وعبس وبسر، فقال:
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 309.(8/276)
إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أَيْ سَأَغْمُرُهُ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، ثم قال تعالى: وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ وَهَذَا تَهْوِيلٌ لِأَمْرِهَا وتفخيم، ثم فسر ذلك بقوله تعالى: لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ أَيْ تَأْكُلُ لُحُومَهُمْ وَعُرُوقَهُمْ وَعَصَبَهُمْ وَجُلُودَهُمْ ثُمَّ تُبَدَّلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهم.
وقوله تعالى: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْ لِلْجِلْدِ، وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: تَلْفَحُ الْجِلْدَ لَفْحَةً فَتَدَعُهُ أَسْوَدَ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَلُوحُ أَجْسَادُهُمْ عَلَيْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ أَيْ حَرَّاقَةٌ لِلْجِلْدِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَحْرِقُ بَشْرَةَ الإنسان. وقوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أَيْ مِنْ مُقَدِّمِي الزَّبَانِيَةِ عَظِيمٌ خَلْقُهُمْ غَلِيظٌ خُلُقُهُمْ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنِي حارث عن عامر عن البراء في قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قَالَ: إِنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء الرجل فأخبر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ سَاعَتَئِذٍ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ:
«ادْعُهُمْ أَمَا إِنِّي سَائِلُهُمْ عَنْ تُرْبَةِ الجنة إن أتوني، أما إنها در مكة بيضاء» فجاؤوه فَسَأَلُوهُ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ فَأَهْوَى بِأَصَابِعِ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ وَأَمْسَكَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَالَ: «أَخْبِرُونِي عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ» فَقَالُوا: أَخْبِرْهُمْ يَا ابْنَ سَلَامٍ، فَقَالَ: كَأَنَّهَا خُبْزَةٌ بَيْضَاءُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما إِنَّ الْخُبْزَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الدَّرْمَكِ» هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ.
وَالْمَشْهُورُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا مِنْدَهْ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ وَيَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ غُلِبَ أَصْحَابُكَ الْيَوْمَ. فَقَالَ: «بِأَيِّ شَيْءٍ؟» قَالَ: سَأَلَتْهُمْ يَهُودُ هَلْ أَعْلَمَكُمْ نَبِيُّكُمْ عِدَّةَ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالُوا:
لَا نَعْلَمُ حَتَّى نَسْأَلَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَغُلِبَ قَوْمٌ سُئِلُوا عَمَّا لا يعلمون فقالوا لَا نَعْلَمُ حَتَّى نَسْأَلَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم؟ علي بأعداء الله لكنهم قد سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً» فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ كَمْ عدة خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «هَكَذَا» وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ ثُمَّ طَبَّقَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ وَعَقَدَ وَاحِدَةً وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنْ سُئِلْتُمْ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ فَهِيَ الدَّرْمَكُ» فَلَمَّا سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِعِدَّةِ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ؟» فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: خُبْزَةٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ: «الْخُبْزُ مِنَ الدَّرْمَكِ» «1» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ بِهِ، وَقَالَ هُوَ وَالْبَزَّارُ لَا يعرف إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ سُفْيَانَ فقص الدرمك فقط.
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 74، باب 4، وأحمد في المسند 3/ 361.(8/277)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
يَقُولُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أَيْ خزانها إِلَّا مَلائِكَةً زَبَانِيَةً غِلَاظًا شِدَادًا، وَذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي قريش حين ذكروا عَدَدَ الْخَزَنَةِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ لِوَاحِدٍ منهم فتغلبونهم، فقال الله تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أَيْ شَدِيدِي الْخَلْقِ لَا يُقَاوَمُونَ وَلَا يُغَالَبُونَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَا الْأَشُدَّيْنِ وَاسْمُهُ كَلْدَةُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ خَلَفٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اكْفُونِي مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ إِعْجَابًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْقُوَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرَةِ وَيُجَاذِبُهُ عَشْرَةٌ لِيَنْتَزِعُوهُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ فَيَتَمَزَّقُ الْجِلْدُ وَلَا يَتَزَحْزَحُ عَنْهُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَارَعَتِهِ، وَقَالَ إِنْ صَرَعْتَنِي آمَنْتُ بِكَ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا فَلَمْ يُؤْمِنْ، قَالَ وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ إِسْحَاقَ خَبَرَ الْمُصَارَعَةِ إِلَى رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ.
(قُلْتُ) : وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَاهُ والله أعلم.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ إِنَّمَا ذَكَرْنَا عِدَّتَهُمْ أَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ اخْتِبَارًا مِنَّا لِلنَّاسِ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ حَقٌّ فَإِنَّهُ نَطَقَ بِمُطَابَقَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي إلى إيمانهم أي بِمَا يَشْهَدُونَ مِنْ صِدْقِ إِخْبَارِ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أَيْ يَقُولُونَ مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا هَاهُنَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أَيْ مِنْ مِثْلِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ يَتَأَكَّدُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ أَقْوَامٍ وَيَتَزَلْزَلُ عِنْدَ آخَرِينَ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
وقوله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أَيْ مَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ وَكَثْرَتَهُمْ إِلَّا هُوَ تَعَالَى لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ فَقَطْ، كَمَا قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ والجهالة من الفلاسفة اليونانيين ومن شايعهم مِنَ الْمِلَّتَيْنِ الَّذِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فَأَرَادُوا تَنْزِيلَهَا عَلَى الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ التِّسْعَةِ الَّتِي اخْتَرَعُوا دَعْوَاهَا وَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَأُفْهِمُوا صَدْرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِآخِرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.(8/278)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: «فَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ فِي كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ» «1» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ مُورِقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ «3» ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ إسرائيل، وقال الترمذي حديث حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا خَيْرُ بْنُ عَرَفَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ مَرْوَانَ الرُّقِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما في السموات السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ مَلَكٌ رَاكِعٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ إِلَّا أَنَّا لَمْ نُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟» قَالُوا: مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ. مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ» .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَهْزَاذَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاذٍ الْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيُّ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ وَذَلِكَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» [الصَّافَّاتِ: 165] وَهَذَا مَرْفُوعٌ غَرِيبٌ جِدًّا ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إن من السموات سَمَاءً مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جبهة ملك أو قدماه قائم ثُمَّ قَرَأَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 6، ومناقب الأنصار باب 42، ومسلم في الإيمان حديث 264، والنسائي في الصلاة باب 1، وأحمد في المسند 4/ 207، 209، 210.
(2) المسند 5/ 173. [.....]
(3) أخرجه الترمذي في الزهد باب 9، وابن ماجة في الزهد باب 19.(8/279)
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ، حَدَّثَنَا أبو جعفر بن مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أُمِّهِ، حدثنا المغيرة بن عمر بْنِ عَطِيَّةَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، حدثني سليمان بن أيوب عن سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ بَنِي الْحُبُلِيِّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الرَّبِيعِ مَنْ بَنِي سَالِمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ عَنْ أَبِيهِ الْعَلَاءِ بْنِ سَعْدٍ وَقَدْ شَهِدَ الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: «هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟» قَالُوا: وَمَا تَسَمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ ساجد وقالت الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْفَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ جَاءَ وَالصَّلَاةُ قَائِمَةٌ وَنَفَرٌ ثَلَاثَةٌ جُلُوسٌ أَحَدُهُمْ أَبُو جَحْشٍ اللَّيْثِيُّ، فَقَالَ: قُومُوا فَصَّلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ اثْنَانِ وَأَبَى أَبُو جَحْشٍ أَنْ يَقُومَ وَقَالَ لَا أَقُومُ حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ هُوَ أَقْوَى مِنِّي ذِرَاعَيْنِ وَأَشَدُّ مِنِّي بَطْشًا، فَيَصْرَعُنِي ثُمَّ يَدُسُّ وَجْهِي فِي التُّرَابِ، قَالَ عُمَرُ فَصَرَعْتُهُ وَدَسَسْتُ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَحَجَزَنِي عَنْهُ فَخَرَجَ عُمَرُ مُغْضَبًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا رَأْيُكَ يَا أَبَا حَفْصٍ؟» فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن رضي عمر رحمة، والله على ذلك لَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَنِي بِرَأْسِ الْخَبِيثِ» فَقَامَ عُمَرُ يُوَجَّهُ نَحْوَهُ فَلَمَّا أَبْعَدَ نَادَاهُ فَقَالَ: «اجْلِسْ حتى أخبرك بغنى الرب تبارك وتعالى عن صلاة أبي جحش وإن لله تعالى فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَلَائِكَةً خُشُوعًا لَا يَرْفَعُونَ رؤوسهم حتى تقوم الساعة، فإذا قامت رفعوا رؤوسهم ثُمَّ قَالُوا رَبَّنَا مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَإِنَّ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ مَلَائِكَةً سُجُودًا لا يرفعون رؤوسهم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ رَفَعُوا رؤوسهم وقالوا سبحانك ربنا مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ» .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَمَا يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَمَّا أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَأَمَّا أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَيَقُولُونَ سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَأَمَّا أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَيَقُولُونَ سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَقُلْهَا يَا عُمَرُ فِي صَلَاتِكَ، فَقَالَ عُمَرُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالَّذِي كُنْتَ عَلَّمْتَنِي وَأَمَرْتَنِي أَنْ أَقُولَهُ فِي صَلَاتِي؟ فَقَالَ: «قُلْ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً» وَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ أن يقوله: «أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ، وَأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سخطك، وأعوذ بك منك جل وجهك» هذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا بَلْ مُنْكَرٌ نَكَارَةً شَدِيدَةً، وَإِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ وَالدَّارُقُطْنِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَنَّهُ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَرُبَّمَا لُقِّنَ وَكُتُبُهُ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ مَرَّةً هُوَ مُضْطَرِبٌ وَشَيْخُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ أَبُو قَتَادَةَ الْجُمَحِيُّ تُكَلِّمَ فِيهِ أَيْضًا، وَالْعَجَبُ مِنَ(8/280)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ كَيْفَ رَوَاهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ، وَلَا عَرَّفَ بِحَالِهِ، وَلَا تَعَرَّضَ لِضَعْفِ بَعْضِ رِجَالِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا بِنَحْوِهِ وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا قَرِيبًا مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَهْزَاذَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ وَهُوَ يَخْطُبُنَا عَلَى مِنْبَرِ الْمَدَائِنِ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ خِيفَتِهِ مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ مِنْهُ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى مَلَكٍ يُصَلِّي، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ ملائكة ركوعا لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا رفعوا رؤوسهم نَظَرُوا إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ لا بأس به.
وقوله تعالى: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: وَما هِيَ أَيِ النَّارُ الَّتِي وصفت إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ثم قال تعالى: كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أَيْ وَلَّى وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أَيْ أَشْرَقَ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أَيِ الْعَظَائِمِ يَعْنِي النَّارَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَيْ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَقْبَلَ النِّذَارَةَ وَيَهْتَدِيَ لِلْحَقِّ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا ويولي ويردها.
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
كَلاَّ بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أَيْ مُعْتَقَلَةٌ بِعَمَلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فَإِنَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أَيْ يَسْأَلُونَ الْمُجْرِمِينَ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ وَأُولَئِكَ فِي الدِّرْكَاتِ قَائِلِينَ لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي ما عبدنا الله وَلَا أَحْسَنَّا إِلَى خَلْقِهِ مِنْ جِنْسِنَا وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أَيْ نَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا نَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلَّمَا غَوِيَ غَاوٍ غَوَيْنَا مَعَهُ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموت كقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما هُوَ- يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ- فَقَدْ جَاءَهُ اليقين من(8/281)
رَبِّهِ» «1» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي من كان متصفا بمثل هذه الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفَاعَةُ شَافِعٍ فِيهِ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تُنْجِعُ إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، فَأَمَّا مَنْ وَافَى اللَّهَ كَافِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَهُ النَّارُ لَا مَحَالَةَ خَالِدًا فِيهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أَيْ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الكفرة الذين قبلك عما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَتُذَكِّرُهُمْ بِهِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي نِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ حُمُرٌ مِنْ حُمُرِ الْوَحْشِ إِذَا فَرَّتْ مِمَّنْ يُرِيدُ صَيْدَهَا من أسد، قاله أبو هريرة وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَوْ رَامٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَسَدُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَيُقَالُ لَهُ بِالْحَبَشِيَّةِ قَسْوَرَةٌ، وبالفارسية شير، وبالنبطية أويا.
وقوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أَيْ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مجاهد وغيره، كقوله تَعَالَى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُؤْتُوا بَرَاءَةً بِغَيْرِ عمل، فقوله تعالى:
كَلَّا بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أَيْ إِنَّمَا أَفْسَدَهُمْ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِهَا وَتَكْذِيبُهُمْ بِوُقُوعِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ أَيْ حَقًّا إِنَّ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] . وقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [التكوير: 29] أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُخَافَ مِنْهُ وَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ. قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، أَخْبَرَنِي سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَقَالَ «قَالَ رَبُّكُمْ أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلَا يُجْعَلْ مَعِي إِلَهٌ فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهًا كَانَ أَهْلًا أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» «3» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ المعافى ابن عِمْرَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَطْعِيِّ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَسُهَيْلٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ سُهَيْلٍ به، وهكذا رواه أبو يعلى
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب 3، ومناقب الأنصار باب 46، والشهادات باب 30، وأحمد في المسند 6/ 436.
(2) المسند 3/ 142، 243.
(3) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 74، باب 4، وابن ماجة في الزهد باب 35.(8/282)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
وَالْبَزَّارُ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ الْقُطَعِيِّ بِهِ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْقِيَامَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لَا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
قَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا جَازَ الْإِتْيَانُ بِلَا قَبْلَ الْقَسَمِ لتأكيد النفي.
والمقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد وَالرَّدُّ عَلَى مَا يَزْعُمُهُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْعِبَادِ ومن عَدَمِ بَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قَالَ الْحَسَنُ:
أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا، هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَعْرَجِ أَنَّهُمَا قرءا «لَأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَهَذَا يُوَجِّهُ قَوْلَ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْقَسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَفَى الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَمَعْرُوفٌ وَأَمَّا النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ فَقَالَ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَاللَّهِ مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ. مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي، مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي، مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا مَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ: بَلَغَنَا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكٍ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَةَ عَنْ قَوْلِهِ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قَالَ: يَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَوْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إسرائيل به.(8/283)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قَالَ: تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عباس عن ذلك فقال: هي النفس اللؤوم، وقال ابن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَلُومُ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّوَّامَةُ الْمَذْمُومَةُ، وَقَالَ قتادة اللَّوَّامَةِ الفاجرة. وقال ابن جرير: وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى والأشبه بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ أَنَّهَا الَّتِي تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَتَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيُظَنُّ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى إِعَادَةِ عِظَامِهِ وَجَمْعِهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وقال سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْ نَجْعَلَهُ خُفًّا أَوْ حَافِرًا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أن قوله تعالى: قادِرِينَ حال من قوله تعالى: نَجْمَعَ أَيْ أَيُظَنُّ الْإِنْسَانُ أَنَا لَا نَجْمَعُ عِظَامَهُ؟ بَلَى سَنَجْمَعُهَا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ أَيْ قُدْرَتُنَا صَالِحَةٌ لِجَمْعِهَا، وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَاهُ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ فَنَجْعَلُ بَنَانَهُ وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ مُسْتَوِيَةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ قَالَ سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَمْضِي قُدُمًا، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يَعْنِي الْأَمَلَ، يَقُولُ الْإِنْسَانُ أَعْمَلُ ثُمَّ أَتُوبُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْكُفْرُ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ لِيَمْضِيَ أَمَامَهُ رَاكِبًا رَأْسَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُلْقَى ابْنُ آدَمَ إِلَّا تَنْزِعُ نَفْسَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ قُدُمًا قُدُمًا إِلَّا من عصمه الله تعالى، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ الَّذِي يَعْجَلُ الذُّنُوبَ وَيُسَوِّفُ التَّوْبَةَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَافِرُ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمُرَادِ، وَلِهَذَا قَالَ بعده يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أَيْ يَقُولُ مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا سُؤَالُهُ سُؤَالُ اسْتِبْعَادٍ لِوُقُوعِهِ وَتَكْذِيبٌ لِوُجُودِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سَبَأٍ: 29- 30] .
وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بَرِقَ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ حَارَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إبراهيم: 43] أي بَلْ يَنْظُرُونَ مِنَ الْفَزَعِ هَكَذَا وَهَكَذَا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ بَصَرٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ شِدَّةِ الرعب، وقرأ آخرون برق بالفتح وهو
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 327.(8/284)
قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَبْصَارَ تَنْبَهِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَخْشَعُ وَتَحَارُ وَتَذِلُّ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ وَمَنْ عِظَمِ مَا تُشَاهِدُهُ يوم القيامة من الأمور.
وقوله تعالى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب ضوؤه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ قَالَ مُجَاهِدٌ:
كُوِّرَا، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التَّكْوِيرِ:
1] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَجُمِعَ بَيْنَ الشمس والقمر.
وقوله تعالى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أَيْ إِذَا عَايَنَ ابْنُ آدَمَ هَذِهِ الْأَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَئِذٍ يُرِيدُ أَنْ يَفِرَّ وَيَقُولُ أَيْنَ الْمَفَرُّ أَيْ هَلْ مِنْ مَلْجَأٍ أَوْ مَوْئِلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أي لا نجاة، وهذه الآية كقوله تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشُّورَى: 47] أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، وَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: لَا وَزَرَ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَعْتَصِمُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أَيِ الْمَرْجِعُ والمصير.
ثم قال تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
أَيْ يُخْبَرُ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْفِ: 49] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أَيْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ عَالِمٌ بِمَا فَعَلَهُ وَلَوِ اعْتَذَرَ وَأَنْكَرَ، وكما قَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاءِ: 14] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
يَقُولُ: سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَجَوَارِحُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِذَا شِئْتَ وَاللَّهِ رَأَيْتَهُ بَصِيرًا بِعُيُوبِ النَّاسِ وَذُنُوبِهِمْ غَافِلًا عَنْ ذُنُوبِهِ. وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبًا يَا ابْنَ آدَمَ تُبْصِرُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَتَتْرُكُ الْجِذْلَ فِي عَيْنِكَ لَا تُبْصِرُهُ!.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
وَلَوْ جَادَلَ عَنْهَا فَهُوَ بَصِيرٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
وَلَوِ اعْتَذَرَ يَوْمَئِذٍ بِبَاطِلٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
حُجَّتَهُ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
يَقُولُ: لَوْ ألقى ثيابه. وقال الضحاك: ولو ألقى سُتُورَهُ وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمَّوْنَ السِّتْرَ الْمِعْذَارَ. وَالصَّحِيحُ قول مجاهد وأصحابه كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] كقوله تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [الْمُجَادَلَةِ: 18] وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
هِيَ الِاعْتِذَارُ أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَقَالَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النَّحْلِ: 87] فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النَّحْلِ:
28] وَقَوْلُهُمْ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] .(8/285)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25]
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
هَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّيهِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى أَخْذِهِ وَيُسَابِقُ الْمَلَكَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا جَاءَهُ الملك بالوحي أن يستمع له وتكفل الله لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي صَدْرِهِ وَأَنْ يُيَسِّرَهُ لأدائه على الوجه الذي ألقاه عليه، وَأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ وَيُفَسِّرَهُ وَيُوَضِّحَهُ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى جَمْعُهُ فِي صَدْرِهِ وَالثَّانِيَةُ تِلَاوَتُهُ وَالثَّالِثَةُ تَفْسِيرُهُ وإيضاح معناه. ولهذا قال تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
أَيْ بالقرآن كما قال تعالى:
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] ثم قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أَيْ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ
أَيْ أَنْ تَقْرَأَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ
أَيْ إِذَا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أَيْ فَاسْتَمَعْ لَهُ ثُمَّ اقْرَأْهُ كَمَا أَقْرَأَكَ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أَيْ بَعْدَ حِفْظِهِ وَتِلَاوَتِهِ نُبَيِّنُهُ لَكَ وَنُوَضِّحُهُ وَنُلْهِمُكَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَدْنَا وَشَرَعْنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً فَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ قَالَ: فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، وَقَالَ لِي سَعِيدٌ: وَأَنَا أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأُهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ كَمَا أَقْرَأَهُ «2» . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ بِهِ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَلْقَى مِنْهُ شِدَّةٌ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ عُرِفَ فِي تَحْرِيكِهِ شَفَتَيْهِ يَتَلَقَّى أَوَّلَهُ وَيُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْسَى أَوَّلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ آخِرِهِ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
وَهَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذلك.
__________
(1) المسند 1/ 343.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 75، باب 1، والترمذي في تفسير سورة 75، باب 1، والنسائي في الافتتاح باب 37.(8/286)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
قَالَ: كَانَ لَا يَفْتُرُ مِنَ القراءة مخافة أن ينساه فقال الله تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أَنْ نَجْمَعَهُ لَكَ وَقُرْآنَهُ
أَنْ نُقْرِئَكَ فَلَا تَنْسَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ تَبْيِينَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَكَذَا قال قتادة.
وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ أَيْ إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمُخَالَفَةِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الْحَقِّ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، إِنَّهُمْ إِنَّمَا هِمَّتُهُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ وَهُمْ لَاهُونَ مُتَشَاغِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ مِنَ النَّضَارَةِ أَيْ حَسَنَةٌ بَهِيَّةٌ مُشْرِقَةٌ مَسْرُورَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أَيْ تَرَاهُ عَيَانًا كَمَا رَوَاهُ البخاري رحمه الله تعالى فِي صَحِيحِهِ «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا» «2» . وَقَدْ ثَبَتَتْ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا مَنْعُهَا، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَة وهما في الصحيحين أنا نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ دُونَهُمَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَذَلِكَ» «3» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هذا القمر! فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» «4» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» «5» . وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ- قَالَ- يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ وَهِيَ الزِّيَادَةُ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «6» وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ «إِنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ يَضْحَكُ» «7» يَعْنِي فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْعَرَصَاتِ وفي
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 339.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب 24.
(3) أخرجه البخاري في التوحيد باب 24، ومسلم في الإيمان حديث 302.
(4) أخرجه البخاري في التوحيد باب 24، ومسلم في الإيمان حديث 299.
(5) أخرجه البخاري في التوحيد باب 24، ومسلم في الإيمان حديث 296.
(6) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 297.
(7) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 316. [.....](8/287)
رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عبد الملك بن أبحر، حَدَّثَنَا ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وَجْهِ اللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» «2» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنِ شَبَابَةَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ ثُوَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ فذكره، قال: ورواه عبد الملك بن أبحر عَنْ ثُوَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ ثُوَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عن ابن عمر ولم يَرْفَعْهُ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَأَوْرَدْنَا الْأَحَادِيثَ بِطُرُقِهَا وَأَلْفَاظِهَا مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَرَّقًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.
وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُدَاةِ الْأَنَامِ، وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بإلى مُفْرَدُ الْآلَاءِ وَهِيَ النِّعَمُ كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ مِنْ رَبِّهَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ مُجَاهِدٍ وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ أَيْضًا فَقَدْ أَبْعَدَ هَذَا الْقَائِلُ النُّجْعَةَ وَأَبْطَلَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ:
15] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: ما حجب الكفار إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْأَبْرَارَ يَرَوْنَهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا دَلَّ عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ عَنِ الْحَسَنِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ قَالَ حَسَنَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْضُرَ وَهِيَ تَنْظُرُ إلى الخالق.
وقوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ هَذِهِ وُجُوهُ الْفُجَّارِ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَاسِرَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: كَالِحَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَغَيَّرَ أَلْوَانُهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ باسِرَةٌ أَيْ عَابِسَةٌ تَظُنُّ أَيْ تَسْتَيْقِنُ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: دَاهِيَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَرٌّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ. تَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا هَالِكَةٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَظُنُّ أن ستدخل النار، وهذا المقام كقوله تعالى:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وكقوله تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 38- 42] وكقوله تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى نَارًا حامِيَةً- إِلَى قَوْلِهِ- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الْغَاشِيَةِ: 2- 10] فِي أَشْبَاهِ ذلك من الآيات والسياقات.
__________
(1) المسند 2/ 13.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 75، باب 2.
(3) تفسير الطبري 12/ 343.(8/288)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ ثَبَّتَنَا اللَّهُ هُنَالِكَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فَقَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ إِنْ جَعْلَنَا (كَلَّا) رَادِعَةً فَمَعْنَاهَا لَسْتَ يَا ابن آدم هناك تكذب بِمَا أُخْبِرْتَ بِهِ بَلْ صَارَ ذَلِكَ عِنْدَكَ عَيَانًا، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا بِمَعْنَى «حَقًّا» فَظَاهِرٌ، أَيْ حَقًّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ أَيِ انْتُزِعَتْ رُوحُكَ مِنْ جَسَدِكَ وَبَلَغْتَ تَرَاقِيَكَ، وَالتَّرَاقِي جَمْعُ تَرْقُوَةٍ وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، كقوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْوَاقِعَةِ: 83- 87] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَيُذْكَرُ هَاهُنَا حَدِيثُ بُسْرِ بْنِ جِحَاشٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يس. وَالتَّرَاقِي جَمْعُ تَرْقُوَةٍ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْحُلْقُومِ.
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
قَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنْ رَاقٍ يَرْقِي، وَكَذَا قَالَ أَبُو قِلَابَةَ:
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
أَيْ مَنْ طَبِيبٌ شَافٍ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَبُو رَجَاءٍ الْكَلْبِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ مَنْ راقٍ
قَالَ: قِيلَ مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؟ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قَالَ: الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ يَقُولُ آخِرُ يَوْمٍ من أيام الدُّنْيَا وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ فَتَلْتَقِي الشدة بالشدة إلا من رحمه اللَّهُ «1» . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَاءٌ بِبَلَاءٍ، وقال الحسن البصري في قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هُمَّا سَاقَاكَ إِذَا الْتَفَّتَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَاتَتْ رِجْلَاهُ فَلَمْ تَحْمِلَاهُ وقد كان عليهما جَوَّالًا، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ: هُوَ لَفُّهُمَا فِي الْكَفَنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ روحه.
وقوله تعالى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وذلك أن الروح ترفع إلى السموات، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: رُدُّوا عَبْدِي إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 347.(8/289)
أَخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطَّوِيلِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [الأنعام: 61- 62] .
وقوله جل وعلا: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُكَذِّبًا لِلْحَقِّ بِقَلْبِهِ مُتَوَلِّيًا عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ بَاطِنًا وَلَا ظاهرا، ولهذا قال تَعَالَى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَيْ جَذِلًا أَشِرًا بَطِرًا كَسْلَانًا لَا هِمَّةَ لَهُ وَلَا عمل، كما قال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 34] .
وقال تعالى: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أَيْ يَرْجِعَ بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً [الِانْشِقَاقِ: 13- 15] وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَيْ يَخْتَالُ: وَقَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَتَبَخْتَرُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى وَهَذَا تَهْدِيدٌ ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به المتبختر في مشيه أَيْ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَمْشِيَ هَكَذَا وَقَدْ كَفَرْتَ بِخَالِقِكَ وَبَارِئِكَ كَمَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هذا على سبيل التهكم والتهديد، كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] وَكَقَوْلِهِ تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 46] وَكَقَوْلِهِ تعالى: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزُّمَرِ: 15] وَكَقَوْلِهِ جل جلاله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: 40] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قُلْتُ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى قَالَ: قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْلٍ ثُمَّ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ.
وقال أبو عبد الرّحمن النسائي: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى؟
قَالَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جهل ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى وَعِيدٌ عَلَى أَثَرِ وَعِيدٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ أَبَا جهل أخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ ثُمَّ قَالَ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَاللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ شَيْئًا وَإِنِّي لَأَعَزُّ من مشى بين جبليها.
وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي لَا يُبْعَثُ. وَقَالَ(8/290)
مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْحَالَيْنِ أَيْ لَيْسَ يُتْرَكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُتْرَكُ فِي قَبْرِهِ سُدًى لَا يُبْعَثُ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ فِي الدُّنْيَا مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْجَهْلِ وَالْعِنَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أَيْ أَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نُطْفَةً ضَعِيفَةً مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. يُمْنَى: يُرَاقُ مِنَ الْأَصْلَابِ فِي الْأَرْحَامِ.
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى أَيْ فَصَارَ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ شُكِّلَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَ خَلْقًا آخَرَ سَوِيًّا سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ. وَلِهَذَا قال تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى.
ثُمَّ قَالَ تعالى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أَيْ أَمَا هَذَا الَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْخَلْقَ السَّوِيَّ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ الضَّعِيفَةِ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ وَتَنَاوُلُ الْقُدْرَةِ لِلْإِعَادَةِ إِمَّا بِطْرِيقِ الْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبُدَاءَةِ وَإِمَّا مساوية على القولين في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 37] وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرُّومِ بَيَانُهُ وَتَقْرِيرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ فَوْقَ سَطْحٍ يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا قَرَأَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فَبَلَى، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ فَكَانَ إِذَا قَرَأَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قَالَ سُبْحَانَكَ فَبَلَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ «1» وَلَمْ يُسَمِّ هَذَا الصَّحَابِيَّ وَلَا يُضَرُّ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، وَمَنْ قَرَأَ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى قَوْلُهُ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فليقل بلى، ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ [المرسلات: 1] فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: 50] فَلْيَقُلْ «آمَنَّا بِاللَّهِ» «2» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سفيان بن عيينة به وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لَهُ مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: رَجُلُ
__________
(1) كتاب الصلاة باب 149.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 150، والترمذي في تفسير سورة 95 باب 1، وأحمد في المسند 2/ 249.(8/291)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
صدق عن أبي هريرة.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قوله تعالى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ «سُبْحَانَكَ وبلى» ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قَالَ: سُبْحَانَكَ فَبَلَى. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْإِنْسَانِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الم تَنْزِيلُ السجدة وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ «2» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ أَسْوَدُ، فَلَمَّا بَلَغَ صِفَةَ الْجِنَانِ زَفَرَ زَفْرَةً فَخَرَجَتْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَخْرَجَ نَفْسَ صَاحِبِكُمْ- أَوْ قَالَ أَخِيكُمْ- الشَّوْقُ إِلَى الْجَنَّةِ» مُرْسَلٌ غَرِيبٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَوْجَدَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يكن شيئا يذكر لحقارته وضعفه فقال تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ فقال جل جلاله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أَيْ أخلاط، والمشج والمشيج: الشيء المختلط بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ يَعْنِي مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ إِذَا اجْتَمَعَا وَاخْتَلَطَا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ وَحَالٍ إِلَى حَالٍ وَلَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ، وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَمْشَاجُ هُوَ اخْتِلَاطُ ماء الرجل بماء المرأة.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 352.
(2) أخرجه مسلم في الجمعة حديث 64، 66.(8/292)
وقوله تعالى: نَبْتَلِيهِ أي نختبره كقوله جل جلاله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الْمُلْكِ: 2] فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ جَعَلَنَا لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا يَتَمَكَّنُ بهما من الطاعة والمعصية.
وقوله جل وعلا: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أَيْ بَيَّنَّاهُ لَهُ وَوَضَّحْنَاهُ وبصرناه به كقوله جل وعلا:
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] وكقوله جل وعلا: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] أَيْ بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَطِيَّةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ أنهم قالوا في قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ يَعْنِي خُرُوجَهُ مِنَ الرَّحِمِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ تَقْدِيرُهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ إِمَّا شَقِيٌّ وَإِمَّا سَعِيدٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كل النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا أَوْ مُعْتِقُهَا» «1» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ» قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: «أُمَرَاءٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ وَلَا يَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ وَسَيَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي. يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، الصَّوْمُ جَنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَالصَّلَاةُ قربات- أَوْ قَالَ بُرْهَانٌ- يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ، يَا كَعْبُ، النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا» وَرَوَاهُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ به.
وقد تقدم في سورة الروم عند قوله جل جلاله فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرُّومِ:
30] من رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ محمد عن
__________
(1) أخرجه مسلم في الطهارة حديث 1.
(2) المسند 3/ 321.
(3) أخرجه أحمد في المسند 3/ 353.
(4) المسند 2/ 323.(8/293)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ إِلَّا بِبَابِهِ رَايَتَانِ:
رَايَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيْطَانٍ، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبُّ اللَّهُ اتَّبَعَهُ الْمَلَكُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشَّيْطَانِ حتى يرجع إلى بيته» .
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 12]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَرْصَدَهُ لِلْكَافِرِينَ مِنْ خَلْقِهِ بِهِ مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّعِيرِ، وَهُوَ اللَّهَبُ وَالْحَرِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا قال تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غَافِرٍ: 71- 72] وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنَ السَّعِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْكَافُورِ مِنَ التَّبْرِيدِ وَالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّذَاذَةِ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: بَرْدُ الْكَافُورِ فِي طِيبِ الزَّنْجَبِيلِ وَلِهَذَا قَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أَيْ هَذَا الَّذِي مُزِجَ لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْكَافُورِ هُوَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَرْفًا بِلَا مَزْجٍ ويروون بها، ولهذا ضمن يشرب معنى يَرْوَى حَتَّى عَدَّاهُ بِالْبَاءِ وَنَصَبَ عَيْنًا عَلَى التَّمْيِيزِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الشَّرَابُ فِي طِيبِهِ كَالْكَافُورِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ عَيْنٍ كَافُورٍ، وقال بعضهم: يجوز أن يكون منصوبا بيشرب حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَوْلُهُ تعالى: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أَيْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاؤُوا وَأَيْنَ شَاؤُوا مِنْ قُصُورِهِمْ وَدُورِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ، وَالتَّفْجِيرُ هُوَ الْإِنْبَاعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] وَقَالَ وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الْكَهْفِ: 33] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يَقُودُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يصرفونها حيث شاؤوا، وقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
أَيْ يَتَعَبَّدُونَ لِلَّهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ وَمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ النَّذْرِ.
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَيْلِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 357، 358.(8/294)
عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» «1» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ. وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا خِيفَةً مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْمَعَادِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي شَرُهُ مُسْتَطِيرٌ أَيْ مُنْتَشِرٌ عَامٌّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاشِيًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَطَارَ وَاللَّهِ شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ حتى ملأ السموات والأرض، وقال ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الزجاجة واستطال، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صَدْعًا عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا «3»
يَعْنِي مُمْتَدًّا فَاشِيًا. وقوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ قِيلَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلُوا الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الطَّعَامِ أَيْ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي حَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [البقرة: 177] .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَهَى عِنَبًا أَوَّلَ مَا جَاءَ الْعِنَبُ فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ، يَعْنِي امْرَأَتَهُ، فاشترت عنقودا بدرهم فاتبع الرسول سائل فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ قَالَ السَّائِلُ:
السَّائِلَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ، فَأَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا فَاتَّبَعَ الرَّسُولَ السَّائِلُ، فلما دخل قال السَّائِلَ: فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ، فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ إِلَى السَّائِلِ فَقَالَتْ وَاللَّهِ إِنْ عُدْتَ لَا تُصِيبُ مِنْهُ خَيْرًا أَبَدًا، ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ بِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمَلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ» «4» أَيْ فِي حَالِ مَحَبَّتِكَ لِلْمَالِ وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَحَاجَتِكَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أَمَّا الْمِسْكِينُ وَالْيَتِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا وَصِفَتُهُمَا، وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أُسَرَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يُكْرِمُوا الْأُسَارَى، فَكَانُوا يُقَدِّمُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عند الغداء، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الْعَبِيدُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لعموم الآية للمسلم والمشرك، وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وقتادة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأيمان باب 28، ومالك في النذور حديث 8. [.....]
(2) تفسير الطبري 12/ 359.
(3) يروى البيت:
فبانت وقد أورثت في الفؤاد ... صدعا يخالط عثارها
وهو في ديوان الأعشى ص 367، وتهذيب اللغة 2/ 326، وتاج العروس (عثر) ، ولسان العرب (عثر) ، وتفسير الطبري 12/ 359، والبيت بلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 444.
(4) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 92.(8/295)
وَقَدْ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حَدِيثٍ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ آخِرَ مَا أَوْصَى أَنْ جَعَلَ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» «1» قال مجاهد: هو المحبوس، أي يطعمون الطعام لهؤلاء وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ قَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أَيْ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَرِضَاهُ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بِهَا وَلَا أَنْ تَشْكُرُونَا عِنْدَ النَّاسِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ. لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً أَيْ إِنَّمَا نَفْعَلُ هَذَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَتَلَقَّانَا بِلُطْفِهِ فِي الْيَوْمِ الْعَبُوسِ الْقَمْطَرِيرِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَبُوساً ضَيِّقًا، قَمْطَرِيراً طَوِيلًا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً قال: يَعْبَسُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ مِثْلُ الْقَطْرَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَبُوساً العابس الشفتين قَمْطَرِيراً قال: يقبيض الْوَجْهِ بِالْبُسُورِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْهَوْلِ، قَمْطَرِيراً تَقْلِيصُ الْجَبِينِ وَمَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْهَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، الْعُبُوسُ الشَّرُّ، وَالْقَمْطَرِيرُ الشَّدِيدُ، وَأَوْضَحُ الْعِبَارَاتِ، وَأَجْلَاهَا، وَأَحْلَاهَا، وَأَعْلَاهَا وَأَوْلَاهَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَالْقَمْطَرِيرُ هُوَ الشَّدِيدُ يُقَالُ: هُوَ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرُ وَيَوْمٌ عَصِيبٌ وَعَصَبْصَبٌ، وَقَدِ اقْمَطَرَّ الْيَوْمُ يَقْمَطِرُّ اقْمِطْرَارًا، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهَا في البلاء والشدة ومنه قول بعضهم: [الطويل]
بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلَاءَنَا؟ ... عَلَيْكُمْ إِذَا مَا كَانَ يَوْمُ قُمَاطِرَ «3»
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّجَانُسِ الْبَلِيغِ فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أَيْ آمَنَهُمْ مِمَّا خَافُوا مِنْهُ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أَيْ فِي وُجُوهِهِمْ وَسُرُوراً أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عَبَسَ: 38- 39] وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الْوَجْهُ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 78، 3/ 117، 6/ 290، 311، 315، 321.
(2) تفسير الطبري 12/ 361.
(3) البيت بلا نسبة في لسان العرب (قمطر) ، وتاج العروس (قمطر) ، وديوان الأدب 2/ 57، وتفسير الطبري 12/ 361.(8/296)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
فلقة قمر «1» ، وقالت عائشة رضي الله عنها: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ «2» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أَيْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ أَعْطَاهُمْ وَنَوَّلَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ جَنَّةً وَحَرِيراً أَيْ مَنْزِلًا رَحْبًا وعيشا رغيدا وَلِبَاسًا حَسَنًا. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ سُورَةُ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ فَلَمَّا بَلَغَ الْقَارِئُ إِلَى قَوْلِهِ تعالى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً قَالَ: بِمَا صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أنشد يقول: [الطويل]
كَمْ قَتِيلٌ بِشَهْوَةٍ وَأَسِيرٌ ... أُفٍّ مِنْ مُشْتَهِي خِلَافَ الْجَمِيلِ
شَهَوَاتُ الْإِنْسَانِ تُوْرِثُهُ الذُّلَّ ... وَتُلْقِيهِ في البلاء الطويل
[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
يُخْبَرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَمَا أسبغ عليهم من الفضل العميم فقال تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَذَكَرَ الْخِلَافِ فِي الِاتِّكَاءِ هَلْ هُوَ الِاضْطِجَاعُ أَوِ التَّمَرْفُقُ أَوِ التَّرَبُّعُ أَوِ التَّمَكُّنُ فِي الْجُلُوسِ، وَأَنَّ الأرائك هي السرر تحت الحجال.
وقوله تعالى: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرٌّ مُزْعِجٌ وَلَا بَرْدٌ مُؤْلِمٌ بَلْ هِيَ مِزَاجٌ وَاحِدٌ دَائِمٌ سَرْمَدِيٌّ لَا يبغون عنها حولا وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أَيْ قَرِيبَةٌ إِلَيْهِمْ أَغْصَانُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أَيْ مَتَى تَعَاطَاهُ دَنَا الْقَطْفُ إِلَيْهِ وَتَدَلَّى مِنْ أَعْلَى غُصْنِهِ كَأَنَّهُ سَامِعٌ طَائِعٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الأخرى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرّحمن: 54] وقال جل وعلا: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 23] قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا إن قام ارتفعت معه بقدره، وإن قعد تذللت له حتى ينالها، وإن اضطجع تذللت له حتى ينالها فذلك قوله تعالى:
تَذْلِيلًا وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا شَوْكٌ وَلَا بُعْدُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَرْضُ الْجَنَّةِ من ورق وترابها من الْمِسْكُ، وَأُصُولُ شَجَرِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَفْنَانُهَا من اللؤلؤ الرطب والزبرجد
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب باب 23، والمغازي باب 79، وتفسير سورة 9، باب 18، ومسلم في التوبة حديث 53، والترمذي في تفسير سورة 9، باب 17، وأحمد في المسند 6/ 389، 39.
(2) أخرجه البخاري في المناقب باب 23، ومسلم في الرضاع حديث 38.(8/297)
وَالْيَاقُوتِ وَالْوَرَقِ وَالثَّمَرِ بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَنْ أَكَلَ منها قائما لم تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.
وقوله جلت عظمته: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أَيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْخَدَمُ بِأَوَانِي الطَّعَامِ وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابِ الشَّرَابِ وَهِيَ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عرى لها ولا خراطيم، وقوله قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ فَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِخَبَرِ كَانَ أَيْ كَانَتْ قَوَارِيرَ، وَالثَّانِي مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أو تمييز لأنه بينه بقوله جل وعلا: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: بَيَاضُ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجِ وَالْقَوَارِيرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ زُجَاجٍ، فَهَذِهِ الْأَكْوَابُ هِيَ مِنْ فِضَّةٍ وَهِيَ مَعَ هَذَا شَفَّافَةٌ يُرَى مَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيتُمْ فِي الدُّنْيَا شَبَهُهُ إِلَّا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم: وقوله تعالى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً أَيْ عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ لَا تَزِيدُ عَنْهُ وَلَا تَنْقُصُ بَلْ هِيَ مُعَدَّةٌ لذلك مقدرة بحسب ري صاحبها، وهذا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ الله بن عبيد بْنِ عُمَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، وَقَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِاعْتِنَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً قُدِّرَتْ لِلْكَفِّ وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَلَى قَدْرِ أكف الخادم، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ في القدر والري.
وقوله تعالى: وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أَيْ وَيُسْقَوْنَ يَعْنِي الْأَبْرَارَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَكْوَابِ كَأْساً أَيْ خَمْرًا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا فَتَارَةً يُمْزَجُ لَهُمُ الشَّرَابُ بِالْكَافُورِ وَهُوَ بَارِدٌ، وَتَارَةً بِالزَّنْجَبِيلِ وَهُوَ حَارٌّ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ، وَهَؤُلَاءِ يُمْزَجُ لَهُمْ مِنْ هَذَا تَارَةً وَمِنْ هَذَا تَارَةً، وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَإِنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا صرفا كما قال قتادة وغير واحد: وقد تقدم قوله جل وعلا عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ وَقَالَ هَاهُنَا: عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أَيِ الزَّنْجَبِيلُ عَيْنٌ في الجنة تسمى سلسبيلا، وقال عِكْرِمَةُ: اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَلَاسَةِ سَيْلِهَا وَحِدَّةِ جَرْيِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا عَيْنٌ سَلِسَةٌ مستفيد مَاؤُهَا، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَلَاسَتِهَا فِي الْحَلْقِ وَاخْتَارَ هُوَ أَنَّهَا تَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أَيْ يَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلْخِدْمَةِ وِلْدَانٌ مِنْ وِلْدَانِ الْجَنَّةِ مُخَلَّدُونَ أَيْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُخَلَّدُونَ عَلَيْهَا لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْهَا لَا تَزِيدُ أَعْمَارُهُمْ عَنْ تِلْكَ السِّنِّ، وَمَنْ فَسَرَّهُمْ بِأَنَّهُمْ مُخَرَّصُونَ فِي آذَانِهِمُ الْأَقْرِطَةَ فَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْمَعْنَى بِذَلِكَ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ لَهُ ذَلِكَ دون الكبير.(8/298)
وقوله تعالى: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أَيْ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ السَّادَةِ وَكَثْرَتِهِمْ وَصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ وَحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَحُلِيِّهِمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا، وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا وَلَا فِي الْمَنْظَرِ أَحْسَنُ من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. وقال قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: مَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ خَادِمٍ كُلُّ خَادِمٍ عَلَى عَمَلٍ مَا عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
وَقَوْلُهُ جل وعلا: وَإِذا رَأَيْتَ أَيْ وَإِذَا رَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ ثَمَّ أَيْ هُنَاكَ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَسَعَتِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أَيْ مَمْلَكَةً لِلَّهِ هُنَاكَ عَظِيمَةً وَسُلْطَانًا بَاهِرًا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآخَرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَيْهَا: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طَرِيقِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ» «1» فَإِذَا كَانَ هَذَا عَطَاؤُهُ تَعَالَى لِأَدْنَى مَنْ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مَنْزِلَةً وَأَحْظَى عِنْدَهُ تَعَالَى؟
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عمار الموصلي، حدثنا عقبة بْنُ سَالِمٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْ وَاسْتَفْهِمْ» فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلْتُمْ عَلَيْنَا بِالصُّوَرِ وَالْأَلْوَانِ وَالنُّبُوَّةِ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ آمَنْتُ بِمَا آمَنْتَ بِهِ وعملت بما عَمِلْتَ بِهِ إِنِّي لَكَائِنٌ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُرَى بَيَاضُ الْأَسْوَدِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍّ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ» فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَهْلَكُ بَعْدَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَمَلِ لَوْ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لَأَثْقَلَهُ فَتَقُومُ النعمة أو نعم الله فتكاد تستنفد ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ- إلى قوله- مُلْكاً كَبِيراً فَقَالَ الْحَبَشِيُّ: وَإِنَّ عَيْنِي لَتَرَى مَا تَرَى عَيْنَاكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ «نَعَمْ» فَاسْتَبْكَى حَتَّى فَاضَتْ نَفْسُهُ. قَالَ ابْنُ عمر: ولقد رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدليه في حفرته بيده.
وقوله جل جلاله: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ أَيْ لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا الْحَرِيرُ وَمِنْهُ سُنْدُسٌ وَهُوَ رَفِيعُ الْحَرِيرِ كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِي أَبْدَانَهُمْ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مِنْهُ مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ وَهُوَ مِمَّا يَلِي الظَّاهِرَ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللِّبَاسِ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَهَذِهِ صِفَةُ
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2/ 13، والترمذي في تفسير سورة 75، باب 2.(8/299)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الْحَجِّ: 23] وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى زِينَةَ الظَّاهِرِ بِالْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ قَالَ بَعْدَهُ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أَيْ طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة، كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْتَهَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَجَدُوا هُنَالِكَ عَيْنَيْنِ، فَكَأَنَّمَا أُلْهِمُوا ذَلِكَ فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى، ثُمَّ اغْتَسَلُوا مِنَ الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن.
وقوله تعالى: إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لَهُمْ وإحسانا إليهم كما قال تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة:
24] وكقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43] وقوله تعالى: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي جزاكم الله تعالى على القليل بالكثير.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أنزله عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَنْزِيلًا: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أَيْ كَمَا أَكْرَمْتُكَ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيُدَبِّرُكَ بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أَيْ لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنْ أَرَادُوا صَدَّكَ عَمًّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ بَلْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فَالْآثِمُ هُوَ الْفَاجِرُ فِي أَفْعَالِهِ وَالْكَفُورُ هُوَ الْكَافِرُ قلبه.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا كقوله تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] وكقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 1- 4] ثُمَّ قال تعالى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالِانْصِبَابِ إِلَيْهَا وَتَرْكِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثم قال تعالى: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي خَلْقَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أَيْ وَإِذَا شِئْنَا بَعَثْنَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَّلْنَاهُمْ(8/300)
فَأَعَدْنَاهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْبُدَاءَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أَيْ وَإِذَا شِئْنَا أتينا بقوم آخرين غيرهم كقوله تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً [النِّسَاءِ: 133] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: 19- 20] .
ثم قال تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ يَعْنِي هَذِهِ السُّورَةَ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا أَيْ من شاء اهتدى بالقرآن كقوله تَعَالَى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً [النساء: 39] الآية، ثم قال تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَهْدِيَ نَفْسَهُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَا يُجْرِ لِنَفْسِهِ نَفْعًا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ فَيُيَسِّرُهَا لَهُ وَيُقَيِّضُ لَهُ أَسْبَابَهَا، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ فَيَصْرِفُهُ عَنِ الْهُدَى. وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ثُمَّ قَالَ: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أَيْ يهدي من يشاء ويضل من يشاء فمن يَهْدِهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ له.
آخر تفسير سورة الإنسان، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ- هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ بِمِنًى إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاتِ فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لِأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتُلُوهَا» فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا» «1» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ يقرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقالت: يا بني أذكرتني بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ أَنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ «3» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من طريق مالك به.
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 77، باب 1، ومسلم في السّلام حديث 137.
(2) المسند 6/ 338.
(3) أخرجه البخاري في الأذان باب 98، ومسلم في الصلاة حديث 173.(8/301)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هريرة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً قال: الملائكة، وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَأَبِي الضُّحَى وَمُجَاهِدٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الرُّسُلُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ قال: سألت ابن مسعود عن المرسلات عُرْفًا قَالَ: الرِّيحُ.
وَكَذَا قَالَ فِي فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً إِنَّهَا الرِّيحُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ بِالْعُرْفِ أَوْ كَعُرْفِ الْفَرَسِ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ هِيَ الرِّيَاحُ إِذَا هَبَّتْ شَيْئًا فَشَيْئًا؟ وَقَطَعَ بأن العاصفات عصفا الرِّيَاحُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، وممن قال ذلك في العاصفات عصفا أَيْضًا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالسُّدِّيُّ وَتَوَقَّفَ في الناشرات نَشْرًا هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الرِّيحُ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ النَّاشِرَاتِ نَشْرًا هي الْمَطَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرْسَلَاتِ هِيَ الرِّيَاحُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحِجْرِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 57] وَهَكَذَا الْعَاصِفَاتُ هِيَ الرِّيَاحُ، يقال عصفت الرياح إِذَا هَبَّتْ بِتَصْوِيتٍ، وَكَذَا النَّاشِرَاتُ هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ كَمَا يشاء الرب عز وجل.
وقوله تعالى: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَلَا خِلَافَ هَاهُنَا فَإِنَّهَا تَنْزِلَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى الرُّسُلِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالْغَيِّ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَتُلْقِي إِلَى الرُّسُلِ وَحْيًا فِيهِ إِعْذَارٌ إِلَى الْخَلْقِ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ عقاب الله إن خالفوا أمره.
وقوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ أَيْ مَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ وَجَمْعِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَمُجَازَاةِ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، إِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَواقِعٌ أَيْ لَكَائِنٌ لَا(8/302)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
محالة. ثم قال تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أَيْ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا كَقَوْلِهِ تعالى: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: 2] وكقوله تعالى: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 2] وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أَيِ انْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ وَتَدَلَّتْ أَرْجَاؤُهَا وَوَهَتْ أَطْرَافُهَا.
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أَيْ ذُهِبَ بِهَا فَلَا يبقى لها عين ولا أثر كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 105- 107] الآية. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكفه: 47] وقوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جُمِعَتْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [الْمَائِدَةِ: 109] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أُقِّتَتْ أُجِّلَتْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عن إبراهيم أُقِّتَتْ أو عدت وكأنه يجعلها كقوله تَعَالَى:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] .
ثم قال تعالى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يَقُولُ تَعَالَى لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتِ الرُّسُلُ وَأُرْجِئَ أَمْرُهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إِبْرَاهِيمَ: 47- 48] وهو يوم الفصل كما قال تعالى: لِيَوْمِ الْفَصْلِ ثم قال تعالى مُعَظِّمًا لِشَأْنِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ غَدًا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ وَلَا يَصِحُّ.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
يَقُولُ تَعَالَى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يَعْنِي مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الْمُخَالِفِينَ لِمَا جَاءُوهُمْ بِهِ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أَيْ ممن أشبههم ولهذا قال تعالى: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قَالَهُ ابن جرير «1» . ثم قال تعالى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ وَمُحْتَجًّا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالْبُدَاءَةِ:
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَيْ ضَعِيفٍ حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يس فِي حَدِيثِ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ «ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟» «2» .
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 384.
(2) أخرجه أحمد في المسند 4/ 210. [.....](8/303)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ يَعْنِي جَمَعْنَاهُ فِي الرَّحِمِ وَهُوَ قَرَارُ الْمَاءِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالرَّحِمِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ حَافِظٌ لِمَا أُوْدِعَ فِيهِ من الماء. وقوله تعالى: إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يَعْنِي إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَلِهَذَا قال تعالى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثُمَّ قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كِفاتاً كُنَّا وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُكْفَتُ الْمَيِّتُ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ بَطْنُهَا لِأَمْوَاتِكُمْ وَظَهْرُهَا لِأَحْيَائِكُمْ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ يَعْنِي الْجِبَالَ أَرْسَى بِهَا الْأَرْضَ لِئَلَّا تَمِيدَ وَتَضْطَرِبَ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عَذْبًا زُلَالًا مِنَ السَّحَابِ أَوْ مِمَّا أَنْبَعَهُ اللَّهُ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ وَيْلٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَسْتَمِرُّ على تكذيبه وكفره.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40]
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار الْمُكَذِّبِينَ بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يَعْنِي لَهَبُ النَّارِ إِذَا ارْتَفَعَ وَصَعِدَ مَعَهُ دُخَانٌ فَمِنْ شِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ أَنَّ لَهُ ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أَيْ ظِلُّ الدُّخَانِ الْمُقَابِلُ لِلَّهَبِ لَا ظَلِيلٌ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ يَعْنِي وَلَا يَقِيهِمْ حَرَّ اللَّهَبِ. وَقَوْلُهُ تعالى: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أَيْ يَتَطَايَرُ الشَّرَرُ مِنْ لَهَبِهَا كَالْقَصْرِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالْحُصُونِ، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ: يَعْنِي أصول الشجر.
كأنه جمالات صُفْرٌ أَيْ كَالْإِبِلِ السُّودِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَنِ ابْنِ عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: جمالات صُفْرٌ يَعْنِي حِبَالُ السُّفُنِ، وَعَنْهُ أَعْنِي ابْنَ عباس: جِمالَتٌ صُفْرٌ قِطَعُ نُحَاسٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى أنبأنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قَالَ: كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ فَنَرْفَعُهُ للبناء فنسميه القصر كأنه جمالات صُفْرٌ حِبَالُ السُّفُنِ تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرجال.
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 77، باب 2، 3.(8/304)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ أَيْ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِيهِ لِيَعْتَذِرُوا بَلْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، وَعَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ حَالَاتٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً وَعَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً، لِيَدُلَّ عَلَى شِدَّةِ الْأَهْوَالِ وَالزَّلَازِلِ يَوْمَئِذٍ، وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْدَ كُلِّ فَصْلٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
وقوله تعالى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ مِنَ الْخَالِقِ تعالى لِعِبَادِهِ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَهُمْ بِقُدْرَتِهِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ. وقوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ أَيْ إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى أَنْ تَتَخَلَّصُوا مِنْ قَبْضَتِي وَتَنْجُوا مِنْ حُكْمِي فَافْعَلُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [الرَّحْمَنِ: 33] وقد قال تَعَالَى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً [هُودٍ: 57] وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي» .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَإِذَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ عُبَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ والآخرين في صعيد وَاحِدٍ يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَقُولُ اللَّهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ الْيَوْمَ لَا يَنْجُو مِنِّي جَبَّارٌ عَنِيدٌ، وَلَا شَيْطَانٌ مَرِيدٌ، فَقَالَ عَبْدُ الله بن عمرو: فإنا نحدث يومئذ أنها تخرج عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَتَنْطَلِقُ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ النَّاسِ نَادَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى ثَلَاثَةٍ أَنَا أَعْرَفُ بِهِمْ مِنَ الْأَبِ بِوَلَدِهِ وَمِنَ الْأَخِ بِأَخِيهِ لَا يُغَيِّبُهُمْ عَنِّي وَزَرٌ وَلَا تُخْفِيهِمْ عَنِّي خَافِيَةٌ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَكُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَكُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَتَقْذِفُ بِهِمْ فِي النَّارِ قَبْلَ الْحِسَابِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، إِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَيْ بِخِلَافِ ما أولئك الأشقياء فيه من ظلل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، وقوله تعالى: وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي ومن سَائِرِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ مَهْمَا(8/305)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
طَلَبُوا وَجَدُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ هَذَا جزاؤنا لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ خِطَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَأَمَرَهُمْ أَمْرَ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ فَقَالَ تَعَالَى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا أَيْ مُدَّةً قَلِيلَةً قَرِيبَةً قَصِيرَةً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أَيْ ثُمَّ تُسَاقُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لُقْمَانَ: 24] : وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69- 70] وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ أَيْ إِذَا أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَصَلِّينِ مَعَ الْجَمَاعَةِ امْتَنَعُوا مِنْ ذلك واستكبروا عنه، ولهذا قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم قال تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أَيْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ فَبِأَيِّ كَلَامٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الْجَاثِيَةِ: 6] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ:
سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا بَدَوِيًّا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ إِذَا قَرَأَ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً- فَقَرَأَ- فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ. آخِرُ تفسير سورة المرسلات، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ النَّبَأِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَسَاؤُلِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْكَارًا لِوُقُوعِهَا عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي عن أي شيء يتساءلون عن أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ، يَعْنِي(8/306)
الْخَبَرَ الْهَائِلَ الْمُفْظِعَ الْبَاهِرَ، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: النَّبَأُ الْعَظِيمُ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
هُوَ الْقُرْآنُ «1» . وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يَعْنِي النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مُؤْمِنٌ بِهِ وَكَافِرٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمُنْكِرِي الْقِيَامَةِ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ. ثُمَّ شرع تبارك وَتَعَالَى يُبَيِّنُ قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ وَالْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أَيْ مُمَهَّدَةٌ لِلْخَلَائِقِ ذَلُولًا لَهُمْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً وَالْجِبالَ أَوْتاداً أَيْ جَعَلَهَا لَهَا أَوْتَادًا أَرْسَاهَا بِهَا وَثَبَّتَهَا وَقَرَّرَهَا حَتَّى سَكَنَتْ وَلَمْ تَضْطَرِبْ بِمَنْ عَلَيْهَا.
ثم قال تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً يعني ذكرا وأنثى يتمتع كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَيَحْصُلُ التَّنَاسُلُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 20] وقوله تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ قَطْعًا لِلْحَرَكَةِ لِتَحْصُلَ الرَّاحَةُ مِنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ وَالسَّعْيِ فِي الْمَعَايِشِ فِي عَرْضِ النَّهَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الآية في سورة الفرقان جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفُرْقَانِ: 47] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا أَيْ يَغْشَى النَّاسَ ظَلَامُهُ وَسَوَادُهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس: 4] وقال الشاعر: [الطويل]
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أَوْ حِينَ نَصَّبَتْ ... لَهُ مِنْ خَذَا آذَانِهَا وَهْوَ جَانِحُ «2»
وَقَالَ قَتَادَةُ في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي سكنا، وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي جعلناه مشرقا نيرا مُضِيئًا لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالذِّهَابِ وَالْمَجِيءِ لِلْمَعَاشِ وَالتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تعالى: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني السموات السَّبْعَ فِي اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا وَتَزْيِينِهَا بالكواكب الثوابت والسيارات ولهذا قال تعالى: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يَعْنِي الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ الَّتِي يَتَوَهَّجُ ضَوْؤُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ كلهم.
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْمُعْصِراتِ الرِّيحُ «3» ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قَالَ: الرِّيَاحُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَزَيْدُ بن أسلم وابنه
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 395.
(2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 897، وأدب الكاتب ص 214، والخصائص 2/ 365، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 582.
(3) انظر تفسير الطبري 12/ 398.(8/307)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِنَّهَا الرِّيَاحُ، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهَا تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ مِنَ السَّحَابِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس من الْمُعْصِرَاتِ أَيْ مِنَ السَّحَابِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ السَّحَابُ الَّتِي تَتَحَلَّبُ بِالْمَطَرِ وَلَمْ تُمْطِرْ بَعْدُ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُعْصِرٌ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَلَمْ تَحِضْ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: مِنَ الْمُعْصِراتِ يعني السموات وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْصِرَاتِ السحاب كما قال تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الرُّومِ: 48] أَيْ من بينه.
وقوله جل وعلا: مَاءً ثَجَّاجاً قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: ثَجَّاجاً مُنْصَبًّا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مُتَتَابِعًا وَقَالَ ابن زيد: كثيرا، وقال ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ الْكَثْرَةِ الثَّجُّ وَإِنَّمَا الثَّجُّ الصَّبُّ الْمُتَتَابِعُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» «2» يَعْنِي صَبَّ دِمَاءِ الْبُدْنِ هَكَذَا قَالَ، قُلْتُ وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَحَاضَةِ حِينَ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ» يَعْنِي أن تحتشي بالقطن فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا «3» ، وَهَذَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الثَّجِّ فِي الصَّبِّ الْمُتَتَابِعِ الْكَثِيرِ، وَاللَّهُ أعلم.
وقوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أَيْ لِنَخْرِجَ بِهَذَا الْمَاءِ الْكَثِيرِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ الْمُبَارَكِ حَبًّا يُدَّخَرُ لِلْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ وَنَباتاً أَيْ خَضِرًا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَجَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ مِنْ ثَمَرَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَطَعُومٍ وَرَوَائِحَ مُتَفَاوِتَةٍ وإن كان ذلك فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُجْتَمَعًا وَلِهَذَا قَالَ وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَلْفافاً مُجْتَمِعَةً، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرَّعْدِ: 4] .
__________
(1) تفسير 12/ 400.
(2) أخرجه الترمذي في الحج باب 14، وتفسير سورة 3، باب 6، وابن ماجة في المناسك باب 6، والدارمي في المناسك باب 8.
(3) أخرجه أبو داود في الطهارة باب 109، والترمذي في الطهارة باب 95، وابن ماجة في الطهارة باب 117، وأحمد في المسند 6/ 382، 439، 440.(8/308)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفَصْلِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِأَجَلٍ مَعْدُودٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هُودِ: 104] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً قَالَ مُجَاهِدٌ: زمرا زُمَرًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي تَأْتِي كُلُّ أمة مع رسولها، كقوله تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» قَالُوا: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ «أَبَيْتُ» قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ «أَبَيْتُ» قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ «أَبَيْتُ» قَالَ «ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً أَيْ طُرُقًا وَمَسَالِكَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً كقوله تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل:
88] وكقوله تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: 5] وَقَالَ هَاهُنَا: فَكانَتْ سَراباً أَيْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا شيء وليست بشيء وبعد هَذَا تَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، كما قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طَهَ: 105- 107] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف: 47] وقوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أَيْ مُرْصَدَةً مُعَدَّةً لِلطَّاغِينَ وَهُمُ الْمَرَدَةُ الْعُصَاةُ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ مَآباً أَيْ مَرْجِعًا وَمُنْقَلَبًا وَمَصِيرًا وَنُزُلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ وقتادة في قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ حَتَّى يَجْتَازَ بِالنَّارِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَوَازٌ نَجَا وَإِلَّا احْتَبَسَ، وَقَالَ سفيان الثوري: عليها ثلاث قناطر.
وقوله تعالى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا وَهِيَ جَمْعُ حُقْبٍ وَهُوَ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مِهْرَانَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَمَّارِ الدُّهْنِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِهِلَالٍ الْهَجَرِيِّ: مَا تَجِدُونَ الْحُقْبَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ؟ قَالَ: نَجِدُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا كُلُّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ أَيْضًا سَبْعُونَ سَنَةً كَذَلِكَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: الْحُقْبُ أَرْبَعُونَ سَنَةً كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مما تعدون، رواهما ابن أبي حاتم.
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 78، باب 1.(8/309)
وَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ الحقب الواحد ثلاثمائة سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْأَسْفَذْنِيِّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً قال: فالحقب شَهْرٍ، الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَالْحُقْبُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَالْقَاسِمُ هُوَ وَالرَّاوِي عَنْهُ وَهُوَ جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ كِلَاهُمَا مَتْرُوكٌ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِرْدَاسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو الْمُعَلَّى قَالَ: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ: هَلْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يُخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَحَدٌ حَتَّى يَمْكُثَ فِيهَا أَحْقَابًا» قَالَ: والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ بَصْرِيٌّ مَشْهُورٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً سَبْعُمِائَةُ حُقْبٍ، كُلُّ حُقْبٍ سَبْعُونَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وَقَدْ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ منسوخة بقوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً.
وَقَالَ خَالِدُ بن معدان: هذه الآية وقوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ «2» ثُمَّ قال: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً متعلقا بقوله تعالى:
لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً ثُمَّ يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَابًا مِنْ شَكْلٍ آخَرَ وَنَوْعٍ آخَرَ ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا انْقِضَاءَ لَهَا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ سالم: سمعت الحسن يسأل عن قوله تعالى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً قَالَ: أَمَّا الْأَحْقَابُ فَلَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ إِلَّا الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُقْبَ سَبْعُونَ سَنَةً كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً وهو ما لا انقطاع له وكلما مَضَى حُقْبٌ جَاءَ حُقْبٌ بَعْدَهُ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحُقْبَ ثَمَانُونَ سَنَةً وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لَا يَعْلَمُ عِدَّةَ هذه الأحقاب إلا الله عز وجل، وذكر لنا أن الْحُقْبَ الْوَاحِدَ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يوما، وكل يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، رَوَاهُمَا أَيْضًا ابن جرير.
وقوله تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً أَيْ لَا يَجِدُونَ فِي جَهَنَّمَ بَرْدًا لِقُلُوبِهِمْ وَلَا شرابا طيبا يتغذون به ولهذا قال تعالى: إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَثْنَى من
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 404.
(2) تفسير الطبري 12/ 404.(8/310)
الْبَرْدِ الْحَمِيمَ وَمِنَ الشَّرَابِ الْغَسَاقَ، وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، فَأَمَّا الْحَمِيمُ فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وَحُمُوُّهُ وَالْغَسَّاقُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَرَقِهِمْ وَدُمُوعِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ فَهُوَ بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ بَرْدِهِ وَلَا يُوَاجَهُ مَنْ نَتَنِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْغَسَّاقِ فِي سُورَةِ ص بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ- أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ- قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً يَعْنِي النَّوْمَ كما قال الكندي: [الكامل]
بَرَدَتْ مَرَاشِفُهَا عَلَيَّ فَصَدَّنِي ... عَنْهَا وَعَنْ قُبُلَاتِهَا الْبَرْدُ «1»
يَعْنِي بِالْبَرْدِ النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَحَدٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عن أبي عبيدة والكسائي أيضا. وقوله تعالى: جَزاءً وِفاقاً أَيْ هَذَا الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وِفْقَ أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وغير واحد.
ثم قال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً أَيْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثَمَّ دَارًا يُجَازَوْنَ فِيهَا وَيُحَاسَبُونَ وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أَيْ وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى خَلْقِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، فَيُقَابِلُونَهَا بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ. وَقَوْلُهُ: كِذَّاباً أَيْ تَكْذِيبًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ، قَالُوا: وَقَدْ سُمِعَ أَعْرَابِيٌّ يَسْتَفْتِي الْفَرَّاءَ عَلَى الْمَرْوَةِ: الْحَلْقُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوِ الْقِصَارُ؟ وَأَنْشَدَ بعضهم: [الطويل]
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطْتَنِي عَنْ صَحَابَتِي ... وَعَنْ حوج قضاؤها من شفائيا «2»
وقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً أَيْ وَقَدْ عَلِمْنَا أَعْمَالَ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ وَكَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَقَوْلُهُ تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ: ذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا مِنْ جِنْسِهِ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: 58] ، قَالَ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أشد من هذه الآية فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قَالَ: فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ أَبَدًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ الصُّورِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا جَسْرُ بْنُ فَرْقَدَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ عَنْ أَشَدِّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قرأ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قال:
«أهلك الْقَوْمُ بِمَعَاصِيهِمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» جِسْرُ بْنُ فرقد ضعيف الحديث بالكلية.
__________
(1) البيت للكندي في تفسير الطبري 12/ 406 وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 295، والاشتقاق ص 478، والأزمنة والأمكنة 2/ 15.
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (كذب) ، (حوج) ، (قضي) ، والمخصص 12/ 222، وأساس البلاغة (لوي) ، وتاج العروس (كذب) ، (حوج) ، (قضي) .(8/311)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ السُّعَدَاءِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ تعالى من الكرامة والنعيم المقيم فقال تعالى:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مُتَنَزَّهًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فَازُوا فَنَجَوْا مِنَ النار. والأظهر هَاهُنَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ حَدائِقَ وَهِيَ الْبَسَاتِينُ مِنَ النَّخِيلِ وَغَيْرِهَا وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً أَيْ وَحُورًا كَوَاعِبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كَواعِبَ أَيْ نَوَاهِدَ، يَعْنُونَ أَنْ ثُدُيَّهُنْ نَوَاهِدَ لَمْ يَتَدَلَّيْنَ لِأَنَّهُنَّ أبكار عرب أتراب أي في سن واحد كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بن تيم، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو الْغَيْثِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ قُمُصَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِتَبْدُوَ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ وَإِنَّ السَّحَابَةَ لَتَمُرُّ بِهِمْ فَتُنَادِيهِمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ؟ حتى أنها لتمطرهم الكواعب الأتراب» .
وقوله تعالى: وَكَأْساً دِهاقاً قال ابن عباس: مملوءة ومتتابعة. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: صَافِيَةٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ دِهاقاً الْمَلْأَى الْمُتْرَعَةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وسعيد بن جبير هي المتتابعة. وقوله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً كَقَوْلِهِ: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطَّوْرِ: 23] أَيْ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ لَاغٍ عَارٍ عَنِ الْفَائِدَةِ وَلَا إِثْمٌ كَذِبٌ، بَلْ هِيَ دَارُ السَّلَامِ وَكُلُّ مَا فِيهَا سَالِمٌ مِنَ النَّقْصِ وَقَوْلُهُ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَعْطَاهُمُوهُ بِفَضْلِهِ وَمَنَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ عَطاءً حِساباً أَيْ كَافِيًا وافيا شَامِلًا كَثِيرًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَعْطَانِي فَأَحْسَبَنِي أَيْ كَفَانِي وَمِنْهُ حَسْبِيَ اللَّهُ أَيِ اللَّهُ كَافِيَّ.
[سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 40]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَأَنَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الَّذِي شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شيء، وقوله تعالى: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ابْتِدَاءِ مُخَاطَبَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:
255] وكقوله تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105] وقوله تَعَالَى. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ هَاهُنَا مَا هو؟ على أقوال(8/312)
[أحدها] ما رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ [الثَّانِي] هُمْ بَنُو آدَمَ قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مِمَّا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهُ [الثَّالِثُ] أَنَّهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ وَلَا بِبَشَرٍ، وَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْأَعْمَشُ [الرَّابِعُ] هُوَ جِبْرِيلُ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والضحاك، ويستشهد لهذا القول بقوله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 193- 194] وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الروح هو أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ وَأَقْرَبُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وصاحب الوحي.
[الخامس] أَنَّهُ الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى:
52] الآية. [وَالسَّادِسُ] أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَدْرِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قَالَ: هُوَ مَلِكٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الرُّوحُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ هُوَ أعظم من السموات وَمِنَ الْجِبَالِ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله تعالى مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفًا وَحْدَهُ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْسٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ الله بن روق بن هبيرة، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ:
سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا لَوْ قِيلَ لَهُ الْتَقِمِ السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ بِلَقْمَةٍ وَاحِدَةٍ لَفَعَلَ. تَسْبِيحُهُ سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَكُونُ مِمَّا تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فَلَمْ يَقْطَعُ بِوَاحِدٍ من هذه الأقوال كلها والأشبه عندي والله أعلم أنهم بنو آدم.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ كَقَوْلِهِ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هُودٍ: 105] وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ» «2» وقوله تعالى: وَقالَ صَواباً أَيْ حَقًّا وَمِنَ الْحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ وعكرمة، وقوله تعالى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أَيِ الْكَائِنُ لَا مَحَالَةَ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أَيْ مرجعا طريقا يَهْتَدِي إِلَيْهِ وَمَنْهَجًا يَمُرُّ بِهِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَأَكُّدِ وُقُوعِهِ صَارَ قَرِيبًا لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آت آت وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
أَيْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا.
قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا كقوله تعالى: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً [الكهف: 49] وكقوله تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: 13] .
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 415.
(2) أخرجه البخاري في الأذان باب 129، والتوحيد باب 24، ومسلم في الإيمان حديث 299. [.....](8/313)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
أَيْ يَوَدُّ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا تُرَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خُلِقَ وَلَا خَرَجَ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ حِينَ عَايَنَ عَذَابَ اللَّهِ وَنَظَرَ إِلَى أَعْمَالِهِ الْفَاسِدَةِ قَدْ سُطِّرَتْ عَلَيْهِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَقِيلَ إِنَّمَا يَوَدُّ ذَلِكَ حِينَ يَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَيَفْصِلُ بَيْنَهَا بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهَا قَالَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا فَتَصِيرُ تُرَابًا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الكافرا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
أَيْ كُنْتُ حَيَوَانًا فَأَرْجِعُ إِلَى التُّرَابِ، وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ الْمَشْهُورِ، وَوَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا. آخِرُ تفسير سورة النبأ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ النَّازِعَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَأَبُو الضُّحَى وَالسُّدِّيُّ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً الْمَلَائِكَةُ يَعْنُونَ حِينَ تُنْزَعُ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بِسُهُولَةٍ وَكَأَنَّمَا حَلَّتْهُ مِنْ نَشَاطٍ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّازِعاتِ هِيَ أَنْفُسُ الْكُفَّارِ تُنْزَعُ ثُمَّ تُنْشَطُ ثُمَّ تَغْرَقُ فِي النَّارِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً الْمَوْتُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً هِيَ النُّجُومُ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَالنَّازِعاتِ وَالنَّاشِطاتِ هِيَ الْقِسِيُّ فِي الْقِتَالِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الأكثرون. وأما قوله تعالى: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً الْمَوْتُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، هِيَ السُّفُنُ.(8/314)
وقوله تعالى: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمَسْرُوقٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: سَبَقَتْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمَوْتُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تعالى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قَالَ عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، زَادَ الْحَسَنُ: تُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ يَعْنِي بِأَمْرِ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي هَذَا وَلَمْ يَقْطَعِ ابْنُ جَرِيرٍ بِالْمُرَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إلا أنه حكى في «المدبرات أَمْرًا» أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا أَثْبَتَ وَلَا نَفَى.
وقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَمًّا النَّفْخَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَعَنْ مجاهد: أما الأولى وهي قوله جل وعلا: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ فَكَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [الْمُزَّمِّلِ: 14] وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ الرَّادِفَةُ فَهِيَ كَقَوْلِهِ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: 14] .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتَيْ كُلَّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: «إِذًا يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ» «2» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ مِثْلِهِ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بما فيه» .
وقوله تعالى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي خَائِفَةٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِهَا وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَيْهَا لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ ذَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ مِمَّا عَايَنَتْ مِنَ الْأَهْوَالِ. وقوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ قال بقولهم في إنكار المعاد. يستعبدون وُقُوعَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَصِيرِ إِلَى الْحَافِرَةِ وَهِيَ الْقُبُورُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَبَعْدَ تَمَزُّقِ أَجْسَادِهِمْ وَتَفَتُّتِ عظامهم ونخورها، ولهذا قالوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَقُرِئَ نَاخِرَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيُّ بَالِيَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعَظَمُ إِذَا بَلِيَ وَدَخَلَتْ الرِّيحُ فِيهِ.
قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ: الْحَافِرَةُ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحَافِرَةُ النار، وما أكثر
__________
(1) المسند 5/ 136.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 43، والترمذي في القيامة باب 23.(8/315)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
أسماءها! هِيَ النَّارُ وَالْجَحِيمُ وَسَقَرُ وَجَهَنَّمُ وَالْهَاوِيَةُ وَالْحَافِرَةُ وَلَظَى وَالْحُطَمَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لَئِنْ أَحْيَانَا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ لَنَخْسَرَنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أَيْ فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهِ وَلَا تَأْكِيدَ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ الله تَعَالَى إِسْرَافِيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، فَإِذَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ عز وجل ينظرون، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 52] وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: 50] وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النَّحْلِ: 77] .
قَالَ مُجَاهِدٌ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ إبراهيم التيمي: أشد ما يكون الرب عز وجل غَضِبًا عَلَى خَلْقِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَجْرَةٌ مِنَ الْغَضَبِ، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ النَّفْخَةُ الآخرة.
وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قال ابن عباس: الساهرة الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وابن زيد: الساهرة وَجْهُ الْأَرْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا بِأَسْفَلِهَا فَأُخْرِجُوا إلى أعلاها، قال والساهرة المكان المستوي، وقال الثوري: الساهرة أَرْضُ الشَّامِ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ: الساهرة أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: السَّاهِرَةُ جَبَلٌ إِلَى جَانِبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ قتادة أيضا:
الساهرة جَهَنَّمُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا غَرِيبَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْأَرْضُ وَجْهُهَا الْأَعْلَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا خَزْرُ بْنُ الْمُبَارَكِ الشَّيْخُ الصَّالِحُ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ خَالِيَةٌ كَالْخُبْزَةِ النَّقِيِّ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يقول اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] ويقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طَهَ: 105- 107] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْفِ: 47] وَبَرَزَتِ الْأَرْضُ الَّتِي عَلَيْهَا الْجِبَالُ وَهِيَ لَا تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ وَهِيَ أَرْضٌ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ ولم يهراق عليها دم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ابتعثه إلى فرعون،(8/316)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
وأيده الله بِالْمُعْجِزَاتِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ حَتَّى أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَكَذَلِكَ عَاقِبَةُ مَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى فقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أَيْ هَلْ سَمِعْتَ بِخَبَرِهِ إِذْ ناداهُ رَبُّهُ أَيْ كَلَّمَهُ نِدَاءٍ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أَيِ الْمُطَهَّرِ طُوىً وَهُوَ اسْمُ الْوَادِي عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أَيْ تَجَبَّرَ وَتَمَرَّدَ وَعَتَا.
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أَيْ قُلْ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ تُجِيبَ إِلَى طَرِيقَةٍ وَمَسْلَكٍ تَزَّكَّى به وتسلم وَتُطِيعُ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أَيْ أَدُلُّكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ فَتَخْشى أَيْ فَيَصِيرُ قَلْبُكَ خَاضِعًا له مطيعا خاشعا بعد ما كَانَ قَاسِيًا خَبِيثًا بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى يَعْنِي فَأَظْهَرَ لَهُ مُوسَى مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقِّ حُجَّةً قَوِيَّةً وَدَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَكَذَّبَ وَعَصى أَيْ فَكَذَّبَ بِالْحَقِّ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كفر بقلبه فَلَمْ يَنْفَعِلْ لِمُوسَى بِبَاطِنِهِ وَلَا بِظَاهِرِهِ وَعِلْمُهُ بأن ما جاء به حَقٌّ لَا يُلْزِمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِلْمُ الْقَلْبِ وَالْإِيمَانُ عَمَلُهُ وَهُوَ الانقياد للحق والخضوع له.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى أَيْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ جَمْعُهُ السَّحَرَةَ لِيُقَابِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ المعجزات الباهرات فَحَشَرَ فَنادى أَيْ فِي قَوْمِهِ فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَالَهَا فِرْعَوْنٌ بَعْدَ قَوْلِهِ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] بِأَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ انْتِقَامًا جَعَلَهُ بِهِ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هُودٍ: 99] كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص: 41] وهذا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَلِمَتَاهُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَقِيلَ كُفْرُهُ وَعِصْيَانُهُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لمن يتعظ وينزجر.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي إِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ: أَأَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ يَعْنِي بَلِ السَّمَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] وقوله تعالى: بَناها فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ:
رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها أَيْ جَعَلَهَا عَالِيَةَ الْبِنَاءِ بَعِيدَةَ الْفَنَاءِ مُسْتَوِيَةَ الْأَرْجَاءِ مكللة بالكواكب في(8/317)
الليلة الظلماء، وقوله تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها أَيْ جَعَلَ لَيْلَهَا مُظْلِمًا أَسْوَدَ حَالِكًا وَنَهَارَهَا مُضِيئًا مُشْرِقًا نَيِّرًا واضحا، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَغْطَشَ لَيْلَهَا أَظْلَمَهُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أنار نهارها.
وقوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فسره بقوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ خلق السَّمَاءِ وَلَكِنْ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مَا كَانَ فِيهَا بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دَحاها وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّقَ فِيهَا الْأَنْهَارَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالسُّبُلَ وَالْآكَامَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها وَقَدْ تَقَدَّمَ تقرير ذلك هنالك.
وقوله تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها أَيْ قَرَّرَهَا وَأَثْبَتَهَا وَأَكَّدَهَا فِي أماكنها وهو الحكيم العليم، الرؤوف بِخَلْقِهِ الرَّحِيمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ فَتَعَجَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ فَقَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ نَعَمْ: الْحَدِيدُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ نَعَمْ: النَّارُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ، قَالَ: نَعَمْ الْمَاءُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ الرِّيحُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بيمينه يخفيها عن شَمَالِهِ» «1» .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ وَقَالَتْ تَخْلُقُ عَلَيَّ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ يُلْقُونَ عَلَيَّ نَتَنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَلَيَّ بِالْخَطَايَا، فَأَرْسَاهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ فَمِنْهَا مَا تَرَوْنَ وَمِنْهَا مَا لَا تَرَوْنَ، وَكَانَ أَوَّلُ قَرَارِ الْأَرْضِ كَلَحْمِ الْجَزُورِ إِذَا نُحِرَ يَخْتَلِجُ لحمه. غريب جدا.
وقوله تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أَيْ دَحَا الْأَرْضَ فَأَنْبَعَ عُيُونَهَا، وَأَظْهَرَ مَكْنُونَهَا، وَأَجْرَى أَنْهَارَهَا، وَأَنْبَتَ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا وَثِمَارَهَا. وَثَبَّتَ جِبَالَهَا لِتَسْتَقِرَّ بِأَهْلِهَا وَيَقَرُّ قَرَارُهَا، كُلُّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِخَلْقِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَرْكَبُونَهَا مُدَّةَ احتياجهم إليها
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 113، باب 3، وأحمد في المسند 3/ 124.
(2) تفسير الطبري 12/ 439.(8/318)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
في هذا الدَّارِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمَدُ وَيَنْقَضِيَ الْأَجَلُ.
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 46]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
يَقُولُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَطُمُّ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ هَائِلٍ مُفْظِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَرِ: 46] يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى أَيْ حِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ابْنُ آدَمَ جميع عمله خيره وشره كما قال تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفَجْرِ: 23] وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أَيْ أَظْهَرَتْ لِلنَّاظِرِينَ فَرَآهَا النَّاسُ عِيَانًا فَأَمَّا مَنْ طَغى أَيْ تَمَرَّدَ وَعَتَا وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ قَدَّمَهَا عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وَأُخْرَاهُ.
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أَيْ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَحِيمِ وَإِنَّ مَطْعَمَهُ مِنَ الزَّقُّومِ وَمَشْرَبَهُ مِنَ الْحَمِيمِ وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أَيْ خَافَ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَافَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا وَرَدَّهَا إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أَيْ مُنْقَلَبُهُ وَمَصِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ لَيْسَ عِلْمُهَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ بَلْ مَرَدُّهَا وَمَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ وَقْتَهَا عَلَى التَّعْيِينِ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الْأَعْرَافِ: 187] وَقَالَ هَاهُنَا إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةُ قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السائل» «1» .
وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أَيْ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِتُنْذِرَ النَّاسَ وَتُحَذِّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ فَمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَخَافَ مَقَامَهُ وَوَعِيدَهُ اتَّبَعَكَ فَأَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَالْخَيْبَةُ وَالْخَسَارُ عَلَى مَنْ كذبك وخالفك. وقوله تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أَيْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَانَتْ عَشِيَّةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ ضحى من يوم، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أَمَّا عَشِيَّةً فَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ ضُحاها مَا بَيْنَ طُلُوعِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، وتفسير سورة 31، باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 1، 5، 7، وأبو داود في السنة باب 16، والترمذي في الإيمان باب 4، والنسائي في الإيمان باب 5، 6، وابن ماجة في المقدمة باب 9، والفتن باب 25، وأحمد في المسند 2/ 426.(8/319)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
الشَّمْسِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقْتُ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِ الْقَوْمِ حِينَ عَايَنُوا الْآخِرَةَ «1» .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّازِعَاتِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ عَبَسَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُخَاطِبُ بَعْضَ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ وَقَدْ طَمَعَ فِي إِسْلَامِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهُ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا، فَجَعَلَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ وَيُلِحُّ عَلَيْهِ، وَوَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَوْ كَفَّ سَاعَتَهُ تِلْكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَاطَبَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ طَمَعًا وَرَغْبَةً فِي هِدَايَتِهِ. وَعَبَسَ فِي وَجْهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَعْرَضَ عَنْهُ وأقبل على الآخر فأنزل الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَيْ يَحْصُلُ لَهُ زَكَاةٌ وَطَهَارَةٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَيْ يَحْصُلُ لَهُ اتِّعَاظٌ وَانْزِجَارٌ عَنِ الْمَحَارِمِ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أَيْ أَمَّا الْغَنِيُّ فَأَنْتَ تَتَعَرَّضُ لَهُ لَعَلَّهُ يَهْتَدِي.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أَيْ مَا أَنْتَ بِمُطَالَبٍ بِهِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ زَكَاةٌ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى أَيْ يَقْصِدُكَ وَيَؤُمُّكَ لِيَهْتَدِيَ بِمَا تَقُولُ لَهُ: فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أَيْ تَتَشَاغَلُ، وَمِنْ هَاهُنَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يَخُصَّ بِالْإِنْذَارِ أَحَدًا، بَلْ يُسَاوِي فِيهِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالضَّعِيفِ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَالسَّادَةِ وَالْعَبِيدِ وَالرِّجَالِ والنساء والصغار والكبار، ثم الله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه في قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَلِّمُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى فَكَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يكرمه.
قال قتادة: أخبرني أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ يَعْنِي ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقَالَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي قال:
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 442.
(2) تفسير الطبري 12/ 443.(8/320)
هذا ما عرضنا على هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ أَرْشِدْنِي، قَالَتْ وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَتْ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ وَيَقُولُ: «أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟» فَيَقُولُ: لَا! فَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى «1» وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ: كَذَلِكَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ يَتَصَدَّى لَهُمْ كَثِيرًا وَيَحْرِصُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أعمى يقال له عبد الله ابن أُمِّ مَكْتُومٍ يَمْشِي وَهُوَ يُنَاجِيهِمْ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَسْتَقْرِئُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَسَ فِي وَجْهِهِ وَتَوَلَّى وَكَرِهَ كَلَامَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِينَ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجْوَاهُ وَأَخَذَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ أَمَسَكَ الله بعض بصره وخفق برأسه ثم أنزل الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى.
فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِ مَا نَزَلَ أَكْرَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَهُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما حَاجَتُكَ؟ هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيْءٍ؟ - وَإِذَا ذَهَبَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ- هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ؟» وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى فِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حدثني يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» وهو الأعمى الذي أنزل الله تعالى فِيهِ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَكَانَ يُؤَذِّنُ مَعَ بِلَالٍ، قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ فَلَمْ يَكْ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ حِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ أَذِّنْ. وَهَكَذَا ذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الله ويقال عمرو، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 80، باب 1، ومالك في القرآن حديث 8.
(2) تفسير الطبري 12/ 443.(8/321)
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ أَوِ الْوَصِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي إِبْلَاغِ الْعِلْمِ مِنْ شَرِيفِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ يَعْنِي الْقُرْآنَ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره ويحتمل عود الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه.
وقوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ أَوِ الْعِظَةُ وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ بَلْ جَمِيعُ الْقُرْآنِ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أَيْ مُعَظَّمَةٍ مُوَقَّرَةٍ مَرْفُوعَةٍ أَيْ عَالِيَةِ الْقَدْرِ مُطَهَّرَةٍ أَيْ مِنَ الدنس والزيادة والنقص. وقوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْقُرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّفَرَةُ بِالنَّبَطِيَّةِ الْقُرَّاءُ، وقال ابن جرير «1» : والصحيح أَنَّ السَّفَرَةَ الْمَلَائِكَةُ وَالسَّفَرَةُ يَعْنِي بَيْنَ اللَّهِ تعالى وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَمِنْهُ يُقَالُ السَّفِيرُ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الصُّلْحِ وَالْخَيْرِ كَمَا قَالَ الشاعر: [الوافر]
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَمَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ «2»
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «3» : سَفَرَةٌ: الْمَلَائِكَةُ، سَفَرَتْ أَصْلَحَتْ بَيْنَهُمْ وَجَعَلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بوحي الله تعالى وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ. وَقَوْلُهُ تعالى: كِرامٍ بَرَرَةٍ أَيْ خُلُقُهُمْ كَرِيمٌ حَسَنٌ شَرِيفٌ وَأَخْلَاقُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ بَارَّةٌ طَاهِرَةٌ كَامِلَةٌ وَمِنْ هَاهُنَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالرَّشَادِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ» «5» أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طريق قتادة به.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 446.
(2) البيت بلا نسبة في تفسير الطبري 12/ 446، وتفسير البحر المحيط 8/ 417، وفتح القدير 5/ 383.
(3) كتاب التفسير، تفسير سورة 80، في الترجمة.
(4) المسند 6/ 48، 94، 98، 110، 170، 192، 239، 266.
(5) أخرجه البخاري في تفسير سورة 80، ومسلم في المسافرين حديث 244، وأبو داود في الوتر باب 14، والترمذي في ثواب القرآن باب 13، وابن ماجة في الأدب باب 52، والدارمي في فضائل القرآن باب 11. [.....](8/322)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32]
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُتِلَ الْإِنْسانُ لُعِنَ الْإِنْسَانُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ: وَهَذَا لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ لِكَثْرَةِ تَكْذِيبِهِ بِلَا مُسْتَنَدٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ وعدم العلم، قال ابن جريج ما أَكْفَرَهُ أي مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَهُ كَافِرًا أي ما حمله على التكذيب بالمعاد. وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي وقال قتادة مَا أَكْفَرَهُ مَا أَلْعَنَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُ كَيْفَ خَلَقَهُ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ وَأَنَّهُ قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أَيْ قَدَّرَ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ يَسَّرَ عَلَيْهِ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وقال مجاهد:
هذه كقوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] أي بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه عمله، وكذا قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ والله أعلم. وقوله تعالى: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أَيْ إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ لَهُ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أَيْ جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَبَرْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَقْبَرَهُ اللَّهُ، وَعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّوْرِ وَأَعْضَبَهُ اللَّهُ وَبَتَرْتُ ذَنَبَ الْبَعِيرِ وَأَبْتَرَهُ اللَّهُ، وَطَرَدْتُ عَنِّي فُلَانًا وَأَطْرَدَهُ اللَّهُ، أَيْ جَعَلَهُ طَرِيدًا، قال الأعشى: [السريع]
لو أسندت ميتا إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر «2»
وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أَيْ بَعَثَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمِنْهُ يُقَالُ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الرُّومِ: 20] ، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً [الْبَقَرَةِ: 259] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنْ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْكُلُ التُّرَابُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ» قِيلَ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مثل حبة خردل منه تنشؤون» «3» وهذا الحديث ثابت في الصحيحين مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَفْظُهُ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ مِنْهُ خلق وفيه يركب» «4» .
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 447، ولفظه: وفي قوله أَكْفَرَهُ وجهان: أحدهما: التعجب من كفره، مع إحسان الله إليه، وأيادنه عنده، والآخر: ما الذي أكفره، أي أيّ شيء أكفره؟.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 189، ومقاييس اللغة 5/ 47، وتفسير البحر المحيط 8/ 420، وتفسير الطبري 12/ 448.
(3) أخرجه مسلم في الفتن حديث 142، في المسند في الجنائز باب 117، وأحمد في المسند 2/ 428، 3/ 28.
(4) أخرجه البخاري في تفسير سورة 39، باب 3، وأبو داود في السنة باب 22، ومالك في الجنائز حديث 49.(8/323)
وقوله تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ قَالَ ابْنُ جرير «1» : يقول جل ثناؤه كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ يَقُولُ: لَمْ يُؤَدِّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أبي نجيح عن مجاهد قوله تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ قَالَ: لَا يقضي أحدا أَبَدًا كُلَّ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَلَمْ أَجِدْ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ كَلَامًا سِوَى هَذَا، وَالَّذِي يَقَعُ لِي فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أَيْ بَعَثَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ أَيْ لَا يَفْعَلُهُ الْآنَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ وَيَفْرَغَ القدر من بني آدم ممن كتب الله لَهُ أَنْ سَيُوجَدُ مِنْهُمْ وَيُخْرَجُ إِلَى الدُّنْيَا، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ تَعَالَى كَوْنًا وَقَدَرًا فَإِذَا تَنَاهَى ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْشَرَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ وَأَعَادَهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: قَالَ عُزَيْرٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي فَإِنَّ الْقُبُورَ هِيَ بَطْنُ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الْأَرْضَ هِيَ أُمُّ الْخَلْقِ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ مَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ وَتَمَّتْ هَذِهِ الْقُبُورُ الَّتِي مَدَّ اللَّهُ لَهَا انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا وَمَاتَ مَنْ عَلَيْهَا وَلَفَظَتِ الْأَرْضُ مَا فِي جَوْفِهَا وَأَخْرَجَتِ القبور ما فيها، وهذا شبيه بما قلناه مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بالصواب.
وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ فِيهِ امْتِنَانٌ وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ بِإِحْيَاءِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ عَلَى إحياء الأجسام بعد ما كَانَتْ عَظَامًا بَالِيَةً وَتُرَابًا مُتَمَزِّقًا أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أَيْ أَسْكَنَاهُ فِيهَا فَدَخَلَ فِي تُخُومِهَا وَتَخَلَّلَ فِي أَجْزَاءِ الْحَبِّ الْمُودَعِ فِيهَا فَنَبَتَ وَارْتَفَعَ وَظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً فَالْحَبُّ كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْعِنَبُ مَعْرُوفٌ وَالْقَضْبُ هُوَ الْفَصْفَصَةُ الَّتِي تَأْكُلُهَا الدَّوَابُّ رطبة، ويقال لها القت أيضا، وقال ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَضْبُ الْعَلَفُ.
وَزَيْتُوناً وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَهُوَ أُدْمٌ وَعَصِيرُهُ أُدْمٌ وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ وَيُدَّهَنُ به وَنَخْلًا يؤكل بلحا وبسرا وَرُطَبًا وَتَمْرًا وَنِيئًا وَمَطْبُوخًا وَيُعْتَصَرُ مِنْهُ رُبٌّ وَخَلٌّ وَحَدائِقَ غُلْباً أَيْ بَسَاتِينُ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: غُلْباً نَخْلٌ غِلَاظٌ كِرَامٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْحَدَائِقُ كُلُّ مَا الْتَفَّ وَاجْتَمَعَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: غُلْباً الشَّجَرُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدائِقَ غُلْباً أَيْ طِوَالٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: غُلْبًا أَيْ غِلَاظُ الْأَوْسَاطِ. وَفِي رِوَايَةٍ غِلَاظُ الرِّقَابِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّجُلِ إِذَا كَانَ غَلِيظَ الرَّقَبَةِ قِيلَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لأغلب، رواه ابن أبي حاتم
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 448.(8/324)
وأنشد ابن جرير للفرزدق: [الوافر]
عَوَى فَأَثَارَ أَغْلَبَ ضَيْغَمِيًا ... فَوَيْلَ ابْنَ الْمَرَاغَةِ ما استثار «1»
وقوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا أما الفاكهة فكل مَا يَتَفَكَّهُ بِهِ مِنَ الثِّمَارِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْفَاكِهَةُ كُلُّ مَا أُكِلَ رَطْبًا، وَالْأَبُّ، مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَلَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ: هُوَ الْحَشِيشُ لِلْبَهَائِمِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ: الْأَبُّ الْكَلَأُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: الْأَبُّ لِلْبَهَائِمِ كَالْفَاكِهَةِ لِبَنِي آدَمَ، وَعَنْ عَطَاءٍ: كُلُّ شَيْءٍ نَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَبٌّ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَيْءٍ أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو الأب.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَبُّ نَبْتُ الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: عَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: الْأَبُّ مَا أَنْبَتَتِ الأرض للأنعام وهذا لفظ حديث أبي كريب. وقال أبو السائب في حديثه. مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ الْأَنْعَامُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَبُّ الْكَلَأُ وَالْمَرْعَى، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ، وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق رضي الله عنه.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه عَبَسَ وَتَوَلَّى فَلَمَّا أَتَيَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَفاكِهَةً وَأَبًّا قال: قد عرفنا الْفَاكِهَةُ فَمَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ: لَعَمْرُكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ أَنَسٍ بِهِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ شَكْلَهُ وَجِنْسَهُ وَعَيْنَهُ وَإِلَّا فَهُوَ وَكُلُّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ:
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا وقوله تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أَيْ عِيشَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ في هذه الدار إلى يوم القيامة.
__________
(1) البيت في ديوان الفرزدق ص 355، وتفسير الطبري 12/ 450.
(2) تفسير الطبري 12/ 451.(8/325)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّاخَّةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عباده، وقال ابْنُ جَرِيرٍ «1» : لَعَلَّهُ اسْمٌ لِلنَّفْخَةِ فِي الصُّورِ وقال البغوي: الصاخة يعني صيحة يوم الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ أَيْ تُبَالِغُ فِي إِسْمَاعِهَا حَتَّى تَكَادَ تُصِمُّهَا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ أَيْ يَرَاهُمْ وَيَفِرُّ مِنْهُمْ وَيَبْتَعِدُ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْهَوْلَ عَظِيمٌ وَالْخَطْبَ جَلِيلٌ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: يَلْقَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَيَقُولُ لَهَا: يَا هَذِهِ أَيُّ بَعْلٍ كُنْتُ لَكِ؟ فَتَقُولُ: نِعْمَ الْبَعْلُ كُنْتَ وَتُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَتْ فَيَقُولُ لَهَا: فَإِنِّي أَطْلُبُ إِلَيْكِ الْيَوْمَ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَهَبِينَهَا لِي لَعَلِّي أَنْجُو مِمَّا تَرَيْنَ، فَتَقُولُ لَهُ: مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَخَافُ. قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقَى ابْنَهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ أَيُّ وَالِدٍ كُنْتُ لَكَ؟ فَيُثْنِي بِخَيْرٍ.
فَيَقُولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى. فَيَقُولُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَتَخَوَّفُ فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ أَنَّهُ إِذَا طُلِبَ إِلَى كُلٍّ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَلَائِقِ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، حَتَّى إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقُولُ لَا أَسْأَلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي لَا أَسْأَلُهُ مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ قَالَ قَتَادَةُ: الْأَحَبُّ فَالْأَحَبُّ وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ هُوَ فِي شُغُلٍ شَاغِلٍ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ أَبُو زَيْدٍ الْعَبَّادَانِيُّ عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا» قال: فقالت زوجته يا رسول الله ننظر أو يرى بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ؟ قَالَ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ- أَوْ قَالَ: مَا أَشْغَلَهُ عَنِ النَّظَرِ-» «2» .
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَارِمٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ وَهُوَ أَبُو زَيْدٍ الْأَحْوَلُ الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَيُبْصِرُ أَوْ يَرَى بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ؟ قَالَ: يَا فُلَانَةُ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ثم قال الترمذي:
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 453.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 80، باب 2، والنسائي في الجنائز باب 118.(8/326)
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» فَقَالَتْ عَائِشَةُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ فَقَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ انْفَرَدَ بِهِ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا الفضل بن موسى عن عائذ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سألت عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي ساءلتك عن حديث فتخبرني أنت به قال: «إِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ» قَالَتْ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الرِّجَالُ؟ قَالَ «حُفَاةً عراة» ثم انتظرت ساعة فقالت: يا رسول اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النِّسَاءُ؟ قَالَ: كَذَلِكَ حُفَاةً عراة» قالت: وا سوأتاه مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ: «وَعَنْ أَيِّ ذَلِكَ تَسْأَلِينَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ آيَةٌ لَا يَضُرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثِيَابٌ أَوْ لَا يَكُونُ» .
قَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ هِيَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم الشريحي أنبأنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَبَلَغَ شُحُومَ الآذان، فقلت يا رسول الله: وا سوأتاه يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: «قَدْ شُغِلَ النَّاسُ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جِدًّا وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى بِهِ وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عائذ بن شريح ضعيف وفي حديثه ضعف.
وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أَيْ يَكُونُ الناس هنالك فريقين وجوه مُسْفِرَةٌ أَيْ مُسْتَنِيرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أَيْ مَسْرُورَةٌ فرحة من السرور في قُلُوبِهِمْ قَدْ ظَهَرَ الْبِشْرُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَهَؤُلَاءِ هم أَهْلُ الْجَنَّةِ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أَيْ يَعْلُوهَا وَيَغْشَاهَا قَتَرَةٌ أَيْ سَوَادٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سَهْلِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدٌ مَوْلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُلْجِمُ الْكَافِرَ الْعَرَقُ ثُمَّ تَقَعُ الْغَبَرَةُ عَلَى وجوههم» قال فهو قوله تعالى:
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أَيْ يَغْشَاهَا سَوَادُ الْوُجُوهِ وَقَوْلُهُ تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أَيِ الْكَفَرَةُ قُلُوبُهُمْ الْفَجَرَةُ فِي أَعْمَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: 27] . آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ عَبَسَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.(8/327)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
تَفْسِيرُ
سُورَةِ التَّكْوِيرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَحِيرٍ الْقَاصُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ الصَّنْعَانِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «2» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ يَعْنِي أَظْلَمَتْ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: ذَهَبَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اضْمَحَلَّتْ وَذَهَبَتْ، وَكَذَا قال الضحاك وقال قتادة: ذهب ضوؤها، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُوِّرَتْ غُوِّرَتْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: كُوِّرَتْ يَعْنِي رُمِيَ بِهَا، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كُوِّرَتْ أُلْقِيَتْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: نُكِّسَتْ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَقَعُ فِي الْأَرْضِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّكْوِيرَ جَمْعُ الشَّيْءِ بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض، فمعنى قوله تعالى:
كُوِّرَتْ جَمْعُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ لُفَّتْ فَرَمَى بِهَا، وَإِذَا فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ ذَهَبَ ضوؤها.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَجِيلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قَالَ يُكَوِّرُ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا دَبُّورًا فَتُضْرِمُهَا نَارًا، وَكَذَا قَالَ عَامِرُ الشَّعْبِيُّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابن يزيد بن أبي
__________
(1) المسند 2/ 27، 36، 100.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 81، باب 1.
(3) تفسير الطبري 12/ 457.(8/328)
مَرْيَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قَالَ: «كُوِّرَتْ فِي جَهَنَّمَ» .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا موسى بن محمد بن حبان حَدَّثَنَا دُرُسْتُ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «الشمس والقمر نوران عَقِيرَانِ فِي النَّارِ» هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ ضَعِيفٌ، وَالَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ «1» ، وَهَذَا لَفْظُهُ وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ بِدْءِ الْخَلْقِ وَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يَذْكُرَهُ هَاهُنَا أَوْ يُكَرِّرَهُ كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي أَمْثَالِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فَجَوَّدَ إِيرَادَهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ الْحَسَنُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَحَدَّثَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ نُورَانِ فِي النَّارِ عقيران يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: - أَحْسَبُهُ قَالَ- وَمَا ذَنْبُهُمَا. ثُمَّ قَالَ لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يَرْوِ عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وقوله تعالى: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أَيِ انْتَثَرَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 2] وَأَصْلُ الِانْكِدَارِ الِانْصِبَابُ. قَالَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَيْنَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاخْتَلَطَتْ فَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ فَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ.
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قَالَ: اخْتَلَطَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قَالَ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قَالَ: قَالَتِ الْجِنُّ نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ، قَالَ فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا هو نار تتأجج، قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا، قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَمَاتَتْهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَهَذَا لَفْظُهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِبَعْضِهِ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وأبو
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 4.
(2) تفسير الطبري 12/ 460. [.....](8/329)
صَالِحٍ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالضَّحَّاكُ فِي قوله جلا وعلا: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أَيْ تَنَاثَرَتْ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أَيْ تَغَيَّرَتْ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ قَالَ «انْكَدَرَتْ» فِي جَهَنَّمَ وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عِيسَى وَأُمِّهِ وَلَوْ رَضِيَا أَنْ يُعْبَدَا لَدَخَلَاهَا» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أَيْ زَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَنُسِفَتْ فَتَرَكَتِ الْأَرْضَ قَاعًا صَفْصَفًا وَقَوْلُهُ: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: عِشَارُ الْإِبِلِ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
عُطِّلَتْ تُرِكَتْ وَسُيِّبَتْ وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكُ، أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ:
لَمْ تَحْلِبْ وَلَمْ تُصَرَّ تَخَلَّى مِنْهَا أَرْبَابُهَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تُرِكَتْ لَا رَاعِيَ لَهَا وَالْمَعْنَى فِي هَذَا كُلِّهِ مُتَقَارِبٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِشَارَ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ خِيَارُهَا وَالْحَوَامِلُ مِنْهَا الَّتِي قَدْ وَصَلَتْ فِي حَمْلِهَا إِلَى الشهر العاشر- واحدتها عُشَرَاءُ وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ اسْمُهَا حَتَّى تَضَعَ- قَدِ اشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهَا وَعَنْ كَفَالَتِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ مَا كَانُوا أَرْغَبَ شَيْءٍ فِيهَا بِمَا دَهَمَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْمُفْظِعِ الْهَائِلِ، وهو أمر يوم الْقِيَامَةِ وَانْعِقَادُ أَسْبَابِهَا وَوُقُوعِ مُقَدِّمَاتِهَا وَقِيلَ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرَاهَا أَصْحَابُهَا كَذَلِكَ لا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي الْعِشَارِ إنها السحاب تعطل عَنِ الْمَسِيرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِخَرَابِ الدُّنْيَا وقيل إِنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي تُعَشَّرُ، وَقِيلَ إِنَّهَا الدِّيَارُ التي كانت تسكن تعطلت لِذَهَابِ أَهْلِهَا. حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةُ وَرَجَّحَ أَنَّهَا الْإِبِلُ وَعَزَاهُ إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. (قلت) : لَا يُعْرَفُ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ سِوَاهُ وَاللَّهُ أعلم.
وقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أَيْ جُمِعَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الْأَنْعَامِ: 38] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذُّبَابُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ هَذِهِ الْخَلَائِقَ مُوَافِيَةً فَيَقْضِي اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ حَشْرُهَا مَوْتُهَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطوسي حدثنا عباد بن العوام حدثنا حُصَيْنٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قَالَ حَشْرُ الْبَهَائِمِ موتها، وحشر كل شيء الموت غير الْجِنُّ وَالْإِنْسُ فَإِنَّهُمَا يُوقَفَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قَالَ أَتَى عَلَيْهَا أَمْرُ اللَّهِ، قَالَ سُفْيَانُ قَالَ أَبِي فَذَكَرْتُهُ لِعِكْرِمَةَ فَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَشْرُهَا مَوْتُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قال
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 459.(8/330)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ اخْتَلَطَتْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُولَى قَوْلُ مَنْ قَالَ حُشِرَتْ جُمِعَتْ قَالَ الله تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي مجموعة.
وقوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَيْنَ جَهَنَّمُ؟ قَالَ الْبَحْرُ فَقَالَ مَا أَرَاهُ إِلَّا صَادِقًا وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: 6] وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ يُرْسِلُ اللَّهُ عليها الرياح الدَّبُّورِ فَتُسَعِّرُهَا وَتَصِيرُ نَارًا تَأَجَّجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الكلام على ذلك عند قوله تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: 6] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ النَّفَّاطُ- شَيْخٌ صَالِحٌ يُشْبِهُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ- عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَحْرَ بَرَكَةٌ- يَعْنِي بَحْرَ الرُّومِ، وَسَطَ الْأَرْضِ وَالْأَنْهَارُ كُلُّهَا تَصُبُّ فِيهِ وَالْبَحْرُ الْكَبِيرُ يَصُبُّ فِيهِ، وَأَسْفَلُهُ آبَارٌ مُطَبَّقَةٌ بِالنُّحَاسِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُسْجِرَ وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» «2» الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ. وَقَالَ مجاهد والحسن بن مسلم:
سُجِّرَتْ أو قدت وَقَالَ الْحَسَنُ: يَبِسَتْ وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: غَاضَ ماؤها فذهب فلم يُبْقِ فِيهَا قَطْرَةً، وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: سُجِّرَتْ فجرت، وقال السدي: فتحت وصيرت، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: سُجِّرَتْ فَاضَتْ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أَيْ جُمِعَ كُلُّ شَكْلٍ إلى نظيره كقوله تَعَالَى:
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: 220] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ- قَالَ- الضُّرَبَاءُ كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ» وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الْوَاقِعَةِ: 7- 10] قَالَ هُمُ الضُّرَبَاءُ.
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أن عمر بن الخطاب خَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فَقَالَ: تَزَوُّجُهَا أَنْ تُؤَلَّفَ كُلُّ شِيعَةٍ إِلَى شِيعَتِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ هُمَا الرَّجُلَانِ يَعْمَلَانِ الْعَمَلَ فَيَدْخُلَانِ بِهِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النُّعْمَانِ قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: يقرن بين الرجل الصالح
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 460.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 9.(8/331)
مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَيُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ السُّوءِ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ فِي النَّارِ فَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَنْفُسِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَا تَقُولُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ؟ فَسَكَتُوا قَالَ: وَلَكِنْ أعلمه هُوَ الرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ قَرَأَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قَالَ ذَلِكَ حِينَ يَكُونُ النَّاسُ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عن مجاهد وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال، والأمثال مِنَ النَّاسِ جُمِعَ بَيْنَهُمْ، وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وهو الصحيح.
[قول آخر] في قوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سرار عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَسِيلُ وَادٍ مَنْ أَصْلِ الْعَرْشِ مِنْ مَاءٍ فِيمَا بَيْنَ الصَّيْحَتَيْنِ وَمِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا، فَيَنْبُتُ مِنْهُ كُلُّ خَلْقٍ بَلِيَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوْ طَيْرٍ أَوْ دَابَّةٍ، وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِمْ مَارٌّ قَدْ عَرَفَهُمْ قبل ذلك لعرفهم على وجه الْأَرْضِ قَدْ نَبَتُوا، ثُمَّ تُرْسَلُ الْأَرْوَاحُ فَتَزَوَّجُ الْأَجْسَادُ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَيْضًا فِي قوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أَيْ زُوِّجَتْ بِالْأَبْدَانِ. وَقِيلَ: زُوِّجَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحُورِ الْعِينِ وَزُوِّجَ الْكَافِرُونَ بِالشَّيَاطِينِ حكاه القرطبي في التذكرة.
وقوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ هَكَذَا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ سئلت.
والموؤودة هِيَ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدُسُّونَهَا فِي التراب كراهية البنات، فيوم القيامة تسأل الموؤودة عَلَى أَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لقاتلها، فإنه إذا سُئِلَ الْمَظْلُومُ فَمَا ظَنُّ الظَّالِمِ إِذًا؟ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ أَيْ سَأَلَتْ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الضُّحَى: سَأَلَتْ أَيْ طَالَبَتْ بِدَمِهَا. وَعَنِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ مثله.
وقد وردت أحاديث تتعلق بالموؤودة فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ. حَدَّثَنَا سَعِيدٌ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ وَهُوَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ جذامة بَنْتِ وَهْبٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ:
«لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ «3» فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ فَإِذَا هُمْ يغيلون أولادهم ولا يضر
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 462.
(2) المسند 6/ 434.
(3) الغيلة: أن يجامع الرجل زوجته وهي ترضع.(8/332)
أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا» ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الوأد الخفي وهو الموؤودة سُئِلَتْ» «1» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرّحمن المقري وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ السَّيْلَحِينِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّنَا مُلَيْكَةَ كَانَتْ تَصِلُ الرَّحِمَ وَتُقِرِّي الضَّيْفَ وَتَفْعَلُ، هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا؟
قَالَ: «لَا» قُلْنَا: فَإِنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ أُخْتًا لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا؟ قال «الوائدة والموؤودة فِي النَّارِ إِلَّا أَنْ يُدْرِكَ الْوَائِدَةَ الْإِسْلَامُ فَيَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهَا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَأَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم:
«الوائدة والموؤودة فِي النَّارِ» وَقَالَ أَحْمَدُ «3» أَيْضًا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَتْنِي حَسْنَاءُ ابْنَةُ مُعَاوِيَةَ الصَّرِيمِيَّةُ عَنْ عَمِّهَا قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ:
«النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ والموؤودة فِي الْجَنَّةِ» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «الموؤودة فِي الْجَنَّةِ» هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ في النار فقد كذب يقول الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْمَدْفُونَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قَالَ: جَاءَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَأَدْتُ بَنَاتٍ لِي فِي الجاهلية قال: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي صَاحِبُ إِبِلٍ قَالَ: «فَانْحَرْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَدَنَةً» قَالَ الحافظ أبو بكر
__________
(1) أخرجه مسلم في النكاح حديث 140، 141، وأبو داود في الطب باب 16، والترمذي في الطب باب 27، والنسائي في النكاح باب 54، والدارمي في النكاح باب 33، ومالك في الرضاع حديث 17.
(2) المسند 3/ 478، وأخرجه أيضا أبو داود في السنة باب 17.
(3) المسند 5/ 58.(8/333)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
البزار: خولف فيه عبد الرزاق ولم يكتبه إِلَّا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَأَدْتُ ثَمَانِ بَنَاتٍ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ «فَأَهْدِ إِنْ شِئْتَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَدَنَةً» .
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَدِمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَأَدْتُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ابْنَةً لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَالَ: «أَعْتِقْ عَدَدَهُنَّ نَسَمًا» قَالَ: فَأَعْتَقَ عَدَدَهُنَّ نَسَمًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ جَاءَ بِمِائَةِ نَاقَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ صَدَقَةُ قُومِي عَلَى أَثَرِ مَا صَنَعْتُ بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب: فكنا نريحها ونسميها القيسية.
وقوله تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قَالَ الضَّحَّاكُ: أُعْطِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ صَحِيفَتَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَا ابْنَ آدَمَ تُمْلَى فِيهَا ثُمَّ تُطْوَى ثُمَّ تُنْشَرُ عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَنْظُرْ رَجُلٌ ماذا يملي في صحيفته.
وقوله تعالى: وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قَالَ مُجَاهِدٌ: اجْتُذِبَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُشِفَتْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَنْكَشِطُ فَتَذْهَبُ. وَقَوْلُهُ تعالى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ قَالَ السُّدِّيُّ: أُحْمِيَتْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أُوقَدَتْ قَالَ: وَإِنَّمَا يُسَعِّرُهَا غَضَبُ اللَّهِ وخطايا بني آدم. وقوله تعالى: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: أَيْ قَرُبَتْ إِلَى أهلها وقوله تعالى:
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْ إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ حِينَئِذٍ تَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَأُحْضِرَ ذَلِكَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30] وقال تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[الْقِيَامَةِ: 13] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ حدثنا ابن المبارك، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قَالَ عُمَرُ: لَمَّا بَلَغَ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ قال: لهذا أجري الحديث.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ «1» ورواه النسائي عن بندار
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 201.(8/334)
عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ بِهِ نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُرَادٍ عَنْ عَلِيٍّ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ تَخْنِسُ بِالنَّهَارِ وَتَظْهَرُ بِاللَّيْلِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ بْنِ حَرْبٍ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَرْعَرَةَ، سمعت عليا وسئل عن لا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ فَقَالَ: هِيَ النُّجُومُ تَخْنِسُ بِالنَّهَارِ وَتَكْنُسُ بِاللَّيْلِ. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ صَحِيحٌ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ وَهُوَ السَّهْمِيُّ الْكُوفِيُّ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: رَوَى عَنْ عَلِيٍّ وَرَوَى عَنْهُ سِمَاكٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيُّ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا فالله أَعْلَمُ، وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهَا النُّجُومُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا النُّجُومُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ بكر بن عبد الله في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ الدَّرَارِيُّ الَّتِي تَجْرِي تَسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقَ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، إِنَّمَا قِيلَ لِلنُّجُومِ الْخُنَّسُ أَيْ فِي حَالِ طُلُوعِهَا ثُمَّ هِيَ جِوَارٌ فِي فَلَكِهَا وَفِي حَالِ غَيْبُوبَتِهَا يُقَالُ لَهَا كُنَّسٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ أَوَى الظَّبْيُ إِلَى كُنَاسَةٍ إِذَا تَغَيَّبَ فِيهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ قَالَ بَقَرُ الْوَحْشِ، وَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ ما هي با عَمْرُو؟ قُلْتُ الْبَقَرُ قَالَ وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، وَكَذَا رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس الْجَوارِ الْكُنَّسِ قال البقر تَكْنُسُ إِلَى الظِّلِّ وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ الظِّبَاءُ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ هِيَ الظِّبَاءُ وَالْبَقَرُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا تَذَاكَرَا هَذِهِ الْآيَةَ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِمُجَاهِدٍ قُلْ فِيهَا بِمَا سَمِعْتَ، قَالَ:
فَقَالَ مُجَاهِدٌ كُنَّا نَسْمَعُ فِيهَا شَيْئًا وَنَاسٌ يَقُولُونَ إِنَّهَا النُّجُومُ، قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ قُلْ فِيهَا بِمَا سَمِعْتَ، قَالَ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّهَا بَقَرُ الْوَحْشِ حِينَ تكنس في حجرتها، قال: فقال
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 467.
(2) تفسير الطبري 12/ 467.
(3) تفسير الطبري 12/ 468.(8/335)
إِبْرَاهِيمُ إِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى عَلَيٍّ، هَذَا كَمَا رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ ضَمَّنَ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى والأعلى الأسفل، وتوقف ابن جرير في المراد بقوله: بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ هَلْ هُوَ النُّجُومُ أَوِ الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا.
وقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا إِقْبَالُهُ بظلامه وقال مُجَاهِدٌ أَظْلَمَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا نَشَأَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِذَا غَشَّى النَّاسَ، وَكَذَا قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذا عَسْعَسَ إِذَا أَدْبَرَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِذا عَسْعَسَ أَيْ إِذَا ذَهَبَ فَتَوَلَّى.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ثَوَّبَ الْمُثَوِّبُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُونَ عَنِ الْوِتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ هَذَا حِينَ أَدْبَرَ حَسَنٌ.
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِذا عَسْعَسَ إِذَا أَدْبَرَ قَالَ لِقَوْلِهِ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أَيْ أضاء، واستشهد بقول الشاعر أيضا: [رجز]
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهُ تَنَفَّسَا ... وَانَجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا «2»
أَيْ أَدْبَرَ، وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بقوله إِذا عَسْعَسَ إِذَا أَقْبَلَ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ في الإدبار أيضا لكن الإقبال هاهنا أنسب، كأنه أقسم بِاللَّيْلِ وَظَلَامِهِ إِذَا أَقْبَلَ وَبِالْفَجْرِ وَضِيَائِهِ إِذَا أشرق كما قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْلِ: 1- 2] وقال تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى: 1- 2] وَقَالَ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَامِ: 96] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ: إِنَّ لَفْظَةَ عَسْعَسَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أن يراد كل منهما والله أعلم. وقال ابْنُ جَرِيرٍ «3» : وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَزْعُمُ أَنَّ عَسْعَسَ دَنَا مِنْ أَوَّلِهِ وَأَظْلَمَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ أَبُو الْبِلَادِ النَّحْوِيُّ ينشد بيتا.
[السريع]
عسعس حتى لو يشا ادَّنَا ... كَانَ لَهُ مِنِ ضَوْئِهِ مَقْبِسُ «4»
يُرِيدُ لَوْ يَشَاءُ إِذْ دَنَا أُدْغِمَ الذَّالَ فِي الدال، قال الفراء وكانوا يزعمون أن هذا البيت مصنوع وقوله
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 471. [.....]
(2) البيت لعلقمة بن قرط في ديوانه ص 28، والمحتسب 1/ 157، وتفسير الطبري 12/ 471، وتفسير البحر المحيط 8/ 422.
(3) تفسير الطبري 12/ 471.
(4) البيت لامرئ القيس في زيادات ديوانه ص 463، والأضداد لابن الأنباري ص 27، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 1/ 78، ولسان العرب (عسس) ، وكتاب العين 1/ 74، وتاج العروس (عسس) ، ومقاييس اللغة 4/ 42.(8/336)
تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا طَلَعَ، وَقَالَ قَتَادَةُ، إِذَا أَضَاءَ وَأَقْبَلَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا نَشَأَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبين.
وقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَيْ مَلَكٌ شَرِيفٌ حَسَنُ الْخَلْقِ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ والضحاك وغيرهم ذِي قُوَّةٍ كقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ [النَّجْمِ: 5- 6] أَيْ شَدِيدُ الْخَلْقِ شَدِيدُ الْبَطْشِ وَالْفِعْلِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أَيْ لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، قَالَ أبو صالح في قوله تعالى:
عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ قَالَ جِبْرِيلُ يَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَهُوَ مَسْمُوعُ الْقَوْلِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى قَالَ قَتَادَةُ مُطاعٍ ثَمَّ أَيْ فِي السَّمَوَاتِ يَعْنِي لَيْسَ هُوَ مِنْ أَفْنَادِ الْمَلَائِكَةِ بَلْ هُوَ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَشْرَافِ مُعْتَنَى بِهِ انْتُخِبَ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ العظيمة.
وقوله تعالى: أَمِينٍ صِفَةٌ لِجِبْرِيلَ بِالْأَمَانَةِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا أَنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ يُزَكِّي عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْمَلَكِيَّ جِبْرِيلَ كَمَا زَكَّى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْبَشَرِيَّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَأَبُو صَالِحٍ وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يَعْنِي وَلَقَدْ رَأَى مُحَمَّدُ جِبْرِيلَ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةُ جَنَاحٍ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أَيِ الْبَيِّنُ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ الْأَوْلَى الَّتِي كَانَتْ بِالْبَطْحَاءِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمِ: 5- 10] كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذلك وتقريره، والدليل عليه أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إِلَّا هذه الرؤيا وَهِيَ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى [النَّجْمِ: 13- 16] فَتِلْكَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أَيْ وَمَا محمد على ما أنزله الله إليه بضنين أَيْ بِمُتَّهَمٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالضَّادِ أَيْ بِبَخِيلٍ بَلْ يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ظَنِينٌ وَضَنِينٌ سَوَاءٌ أَيْ مَا هُوَ بِكَاذِبٍ وَمَا هُوَ بِفَاجِرٍ. وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ وَالضَّنِينُ الْبَخِيلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
كَانَ الْقُرْآنُ غَيْبًا فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَمَا ضَنَّ به على الناس بل نشره وبلغه وَبَذَلَهُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَهُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» قراءة الضاد.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 473.(8/337)
قُلْتُ: وَكِلَاهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وقوله تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أَيْ وَمَا هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ وَلَا يُرِيدُهُ وَلَا يَنْبَغِي له كما قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشُّعَرَاءِ: 210- 212] ، وقوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أَيْ فَأَيْنَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي تَكْذِيبِكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ مَعَ ظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ وَبَيَانِ كونه حقا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِوَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ قَدِمُوا مُسْلِمِينَ وَأَمَرَهُمْ فَتَلَوْا عَلَيْهِ شَيْئًا من قرآن مسيلمة الكذاب الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْهَذَيَانِ وَالرَّكَاكَةِ فَقَالَ: ويحكم أين تذهب عقولكم؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ، أَيْ مِنْ إِلَهٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أَيْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَعَنْ طَاعَتِهِ.
وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَتَّعِظُونَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أَيْ مَنْ أَرَادَ الْهِدَايَةَ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مَنْجَاةٌ لَهُ وَهِدَايَةٌ، وَلَا هِدَايَةَ فِيمَا سِوَاهُ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ لَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ مَوْكُولَةً إِلَيْكُمْ فَمَنْ شَاءَ اهْتَدَى وَمَنْ شَاءَ ضَلَّ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ تَابِعٌ لمشيئة الله تعالى رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْأَمْرُ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ فأنزل الله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّكْوِيرِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الِانْفِطَارِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَدَامَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَامَ مُعَاذٌ فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَطَوَّلَ فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفتان أنت يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ كُنْتَ عَنْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالضُّحَى، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ» «1» وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَكِنْ ذُكِرَ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ في إفراد النسائي. وقد تقدم مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْقِيَامَةِ رَأْيَ عَيْنٍ فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت» «2» .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 74، ومسلم في الصلاة حديث 178، والنسائي في الافتتاح باب 70.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 81، باب 1، وأحمد في المسند 2/ 27، 36، 100.(8/338)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
يَقُولُ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أَيِ انشقت كما قال تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أَيْ تَسَاقَطَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَجَّرَ اللَّهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَجَّرَ اللَّهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فذهب ماؤها، وقال قتادة: اختلط عذبها بمالحها.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُلِئَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُحِثَتْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تُبَعْثَرُ تُحَرَّكُ فَيَخْرُجُ مَنْ فِيهَا عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا حَصَلَ هَذَا. وقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ هَذَا تَهْدِيدٌ لَا كَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ الْكَرِيمِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ غَرَّهُ كَرَمُهُ، بَلِ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
مَا غَرَّكَ يَا ابْنَ آدَمَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أَيِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَقْدَمْتَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَقَابَلْتَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «يَقُولُ اللَّهُ تعالى يوم القيامة يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟» .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَنَّ عُمَرَ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فَقَالَ عُمَرُ: الْجَهْلُ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْبَكَّاءُ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَرَّهُ وَاللَّهِ جَهْلُهُ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ وَالْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ شَيْءٌ، مَا غَرَّ ابْنَ آدَمَ غَيْرُ هَذَا الْعَدْوِ الشَّيْطَانِ.
وَقَالَ الْفَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَوْ قَالَ لِي مَا غَرَّكَ بِي لَقُلْتُ: سُتُورُكَ الْمُرْخَاةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لَوْ قَالَ لِي مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لَقُلْتُ: غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ: إِنَّمَا قَالَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَأَنَّهُ لَقَّنَهُ الْإِجَابَةَ وَهَذَا الَّذِي تَخَيَّلَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَيْسَ بِطَائِلٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلَ الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور، وقد حَكَى الْبَغَوِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمَا قَالَا: نزلت هذه الآية في الأخنس بْنِ شَرِيقٍ ضَرَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَاقَبْ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ فَأَنْزَلَ الله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.(8/339)
وقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أَيْ مَا غَرَّكَ بِالرَّبِّ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أَيْ جعلك سويا مستقيما مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ مُنْتَصِبَهَا فِي أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ وَالْأَشْكَالِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا حَرِيزٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ جِحَاشٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي قُلْتَ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «2» عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عن عبد الرّحمن بن ميسرة.
وقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ شَبَهِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا مُطَهَّرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «مَا وُلِدَ لَكَ؟» قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَسَى أَنْ يُولَدَ لِي إِمَّا غُلَامٌ وَإِمَّا جَارِيَةٌ. قَالَ «فَمَنْ يُشْبِهُ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ عَسَى أَنْ يُشْبِهَ إِمَّا أَبَاهُ وَإِمَّا أُمَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا: «مَهْ لَا تَقُولَنَّ هَكَذَا إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَحْضَرَهَا اللَّهُ تعالى كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ؟ أَمَا قَرَأْتَ هذه الآية في كتاب الله تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ قَالَ: شكلك.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُطَهَّرِ بْنِ الْهَيْثَمِ بِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ فَيْصَلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ لَيْسَ بِالثَّابِتِ، لَأَنَّ مُطَهَّرَ بْنَ الْهَيْثَمِ قَالَ فِيهِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ كَانَ مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ، يُرْوَى عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مَا لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الْأَثْبَاتِ، وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، قَالَ «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا» قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «فَهَلْ فِيهَا مَنْ أَوْرَقَ» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ» قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزْعَةَ عِرْقٍ. قَالَ:
«وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزْعَةَ عِرْقٍ» «4» .
وقد قال عكرمة في قوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ قِرْدٍ وَإِنْ شَاءَ فِي صورة خنزير، وكذا قال أبو صالح فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ إِنْ شاء في صورة
__________
(1) المسند 4/ 210.
(2) كتاب الوصايا باب 4.
(3) تفسير الطبري 12/ 479، 480.
(4) أخرجه البخاري في الطلاق باب 26، ومسلم في اللعان حديث 18، 20.(8/340)
كَلْبٍ وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ حِمَارٍ وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ «1» . وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ قَالَ: قَادِرٌ وَاللَّهِ رَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَى شَكْلٍ قَبِيحٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُنْكَرَةِ الْخَلْقِ، وَلَكِنْ بِقُدْرَتِهِ وَلُطْفِهِ وَحِلْمِهِ يَخْلُقُهُ عَلَى شَكْلٍ حَسَنٍ مُسْتَقِيمٍ مُعْتَدِلٍ تَامٍّ حسن المنظر والهيئة.
وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي إِنَّمَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى مُوَاجَهَةِ الْكَرِيمِ وَمُقَابَلَتِهِ بِالْمَعَاصِي تَكْذِيبٌ فِي قُلُوبِكُمْ بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ يَعْنِي وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَمَلَائِكَةً حَفَظَةً كِرَامًا فَلَا تُقَابِلُوهُمْ بِالْقَبَائِحِ فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ عَلَيْكُمْ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع سفيان ومسعر عن علقمة بن مرثد حدثنا عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْرِمُوا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إِحْدَى حَالَتَيْنِ الْجَنَابَةِ وَالْغَائِطِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فليستتر بجرم حَائِطٍ أَوْ بِبَعِيرِهِ أَوْ لِيَسْتُرْهُ أَخُوهُ» .
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فَوَصَلَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنِ التَّعَرِّي فَاسْتَحْيُوا مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ الَّذِينَ مَعَكُمْ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لَا يفارقونكم إلا عند ثَلَاثِ حَالَاتٍ: الْغَائِطِ وَالْجَنَابَةِ وَالْغُسْلِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حَائِطٍ أَوْ بِبَعِيرِهِ» ثُمَّ قَالَ حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ: لَيِّنُ الْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ وَاحْتُمِلَ حَدِيثُهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيُّ حَدَّثَنَا تَمَّامُ بْنُ نَجِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ يَعْنِي الْبَصْرِيَّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَفِظَا فِي يَوْمٍ فَيَرَى فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ وفي آخرها استغفارا إِلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيِ الصَّحِيفَةِ» ثُمَّ قَالَ تَفَرَّدَ بِهِ تَمَّامُ بْنُ نَجِيحٍ وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ.
(قُلْتُ) : وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَرَمَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِالْوَضْعِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا أَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْقُلُوسِيُّ حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ حِمْرَانَ حَدَّثَنَا سَلَامٌ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَعْرِفُونَ بَنِي آدَمَ- وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَيَعْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ- فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ وَقَالُوا أَفْلَحَ اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، نَجَا اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، وَإِذَا نَظَرُوا إلى عبد يعمل بمعصية الله
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 479.(8/341)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
ذكروه بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ وَقَالُوا هَلَكَ اللَّيْلَةَ فُلَانٌ» ، ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: سَلَامٌ هَذَا أَحْسَبُهُ سَلَامٌ الْمَدَائِنِيُّ وهو لين الحديث.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَصِيرُ الْأَبْرَارُ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِالْمَعَاصِي، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَارِبٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ الْأَبْرَارَ لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ» ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْفُجَّارُ مِنَ الْجَحِيمِ وَالْعَذَابِ الْمُقِيمِ وَلِهَذَا قَالَ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أَيْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْقِيَامَةِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أَيْ لَا يَغِيبُونَ عَنِ الْعَذَابِ سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَلَا يُجَابُونَ إِلَى مَا يَسْأَلُونَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الرَّاحَةِ ولو يوما واحدا.
وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ يوم القيامة ثم أكده بقوله تعالى:
ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أَيْ لَا يَقْدِرُ وَاحِدٌ عَلَى نَفْعِ أَحَدٍ وَلَا خَلَاصِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا حَدِيثَ «يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَلِهَذَا قَالَ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ كَقَوْلِهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] وَكَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفُرْقَانِ: 16] وَكَقَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] قَالَ قَتَادَةُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والأمر والله اليوم لله، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أَحَدٌ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سورة المطففين
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
قَالَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقَيْلٍ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ قَالَا:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بن واقد، حدثني أبي عن يزيد وهو ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ النَّحْوِيِّ مَوْلَى قُرَيْشٍ(8/342)
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَحَسَّنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ هِلَالِ بْنِ طَلْقٍ قال: بينما أَنَا أَسِيرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَنْ أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلا أهل مكة أو أهل الْمَدِينَةِ قَالَ: حَقٌّ لَهُمْ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تعالى يَقُولُ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ ضِرَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمُكْتِبِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيُوَفُّونَ الْكَيْلَ، قَالَ:
وَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُوَفُّوا الْكَيْلَ وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ- حَتَّى بَلَغَ- يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ والمراد بِالتَّطْفِيفِ هَاهُنَا الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِمَّا بِالِازْدِيَادِ إِنِ اقْتَضَى مِنَ النَّاسِ وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ إِنْ قَضَاهُمُ، وَلِهَذَا فَسَّرَ تَعَالَى الْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أَيْ مِنَ النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ أَيْ يَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ بِالْوَافِي وَالزَّائِدِ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَيْ يَنْقِصُونَ، والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا مُتَعَدِّيًا وَيَكُونُ هُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا ضَمِيرًا مُؤَكِّدًا لِلْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ كالوا ووزنوا وَيُحْذَفُ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ فِي الْكَيْلِ والميزان فقال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: 35] وقال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[الأنعام: 152] وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَنِ: 9] وَأَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَ شُعَيْبٍ وَدَمَّرَهُمْ عَلَى مَا كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُتَوَعِّدًا لَهُمْ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أي ما يَخَافُ أُولَئِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الْهَوْلِ كَثِيرِ الْفَزَعِ جَلِيلِ الْخَطْبِ، مَنْ خَسِرَ فيه أدخل نارا حامية؟ وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ يَقُومُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا فِي مَوْقِفٍ صَعْبٍ حَرِجٍ ضَيِّقٍ ضَنْكٍ عَلَى الْمُجْرِمِ وَيَغْشَاهُمْ مِنْ أَمْرِ الله تعالى مَا تَعْجِزُ الْقُوَى وَالْحَوَاسُّ عَنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» «3» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ من حديث مالك وعبد الله بن
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في التجارات باب 35.
(2) تفسير الطبري 12/ 483.
(3) أخرجه البخاري في الرقاق باب 47، وتفسير سورة 83، ومسلم في الجنة حديث 60، وأحمد في المسند 2/ 13، 19. [.....](8/343)
عَوْنٍ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ بِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ من الطريقين أيضا، وكذلك رواه أيوب بن يحيى وصالح بن كيسان وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «1» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرِّجَالَ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ يَعْنِي ابْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشمس من العباد حتى تكون قدر مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ- قَالَ- فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا» «3» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سُوَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جَابِرٍ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ ويزاد في حرها كذا كذا، تَغْلِي مِنْهَا الْهَوَامُّ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يلجمه العرق» . الفرد بِهِ أَحْمَدُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عشانة حيي بْنُ يُؤْمِنَ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده هَكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ» وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِشَارَةً، انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ سَبْعِينَ سَنَةً لَا يَتَكَلَّمُونَ، وَقِيلَ يَقُومُونَ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ يَقُومُونَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَيُقْضَى بَيْنَهُمْ فِي مِقْدَارِ عَشْرَةِ آلَافِ سَنَةٍ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
__________
(1) المسند 2/ 31.
(2) المسند 6/ 3، 4.
(3) أخرجه مسلم في الجنة حديث 62، والترمذي في القيامة باب 2.
(4) المسند 5/ 254.
(5) المسند 4/ 157.(8/344)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
سَنَةٍ» «1» .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَوْنِ الزِّيَادَيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَجْلَانَ، سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ الْمَدَنِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَشِيرِ الْغِفَارِيِّ: «كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةَ سَنَةٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا يؤمر فيهم بِأَمْرٍ؟» قَالَ بَشِيرٌ: الْمُسْتَعَانُ اللَّهُ، قَالَ «فَإِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسُوءِ الْحِسَابِ» وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بِهِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «2» . وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقُومُونَ أربعين سنة رافعي رؤوسهم إِلَى السَّمَاءِ لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ قَدْ أَلْجَمَ الْعَرَقُ بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يَقُومُونَ مِائَةَ سَنَةٍ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَوَارِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ قِيَامَ اللَّيْلِ: يَكَبِّرُ عَشْرًا وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي» وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ القيامة «3» .
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 17]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
يقول تعالى حَقًّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أَيْ إِنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ لَفِي سِجِّينٍ فِعِيلٍ مِنَ السِّجْنِ وَهُوَ الضِّيِقُ، كَمَا يُقَالُ: فِسِّيقٌ وَشِرِّيبٌ وَخِمِّيرٌ وَسِكِّيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَظُمَ أَمْرُهُ فقال تعالى: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ أَيْ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَسِجْنٌ مُقِيمٌ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ، ثُمَّ قَدْ قَالَ قَائِلُونَ: هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ:
يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رُوحِ الْكَافِرِ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ «4» . وَسَجِّينٌ هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقِيلَ: صَخْرَةٌ تَحْتَ الأرض السابعة خضراء، وقيل بئر في جهنم.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2/ 262، ومسلم في الزكاة حديث 24، 26.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 119.
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 119، والنسائي في قيام الليل باب 9، والاستعاذة باب 63، وابن ماجة في الإقامة باب 180.
(4) أخرجه أحمد في المسند 4/ 287، 288.(8/345)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» فِي ذَلِكَ حَدِيثًا غَرِيبًا مُنْكَرًا لَا يَصِحُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ مُوسَى بن مشكان الواسطي، حدثنا نصر بن خزيمة الْوَاسِطِيُّ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطَّى وَأَمَّا سِجِّينٌ فَمَفْتُوحٌ» وَالصَّحِيحُ أَنْ سِجِّينًا مَأْخُوذٌ مِنَ السَّجْنِ وَهُوَ الضِّيقُ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلُّ مَا تَسَافَلَ مِنْهَا ضَاقَ وَكُلُّ مَا تَعَالَى مِنْهَا اتَّسَعَ، فَإِنَّ الْأَفْلَاكَ السَّبْعَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْسَعُ وَأَعْلَى مِنَ الَّذِي دُونَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَوْسَعُ مِنَ الَّتِي دُونَهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ السُّفُولُ الْمُطْلَقُ وَالْمَحَلُّ الْأَضْيَقُ إِلَى الْمَرْكَزِ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَلَمَّا كَانَ مَصِيرُ الْفُجَّارِ إِلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ أَسْفَلُ السَّافِلِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّينِ: 5] وَقَالَ هَاهُنَا: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ وَهُوَ يَجْمَعُ الضِّيقَ وَالسُّفُولَ كَمَا قَالَ تعالى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان: 13] .
وقوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى سِجِّينٍ أَيْ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ لَا يُزَادُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ أَحَدٌ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كعب القرظي ثم قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ إِذَا صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ السِّجْنِ وَالْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ وَيْلٌ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لِفُلَانٍ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ النَّاسَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» «2» .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْمُكَذِّبِينَ الْفُجَّارِ الْكَفَرَةِ: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ وَلَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَ أَمْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أَيْ مُعْتَدٍ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ وَالْمُجَاوَزَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ وَالْأَثِيمِ فِي أَقْوَالِهِ إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِنْ خَاصَمَ فَجَرَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إذا سمع كلام الله تعالى مِنَ الرَّسُولِ يُكَذِّبُ بِهِ وَيَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُفْتَعَلٌ مَجْمُوعٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّحْلِ: 24] وقال تَعَالَى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] قال الله تعالى:
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 488.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب باب 80، والترمذي في الزهد باب 10، والدارمي في الاستئذان باب 66، وأحمد في المسند 5/ 3، 5، 6.(8/346)
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا كَمَا قَالُوا إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا حَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الرَّيْنِ الَّذِي قَدْ لَبِسَ قُلُوبَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ.
وَالرَّيْنُ يَعْتَرِي قُلُوبَ الْكَافِرِينَ، وَالْغَيْمُ لِلْأَبْرَارِ وَالْغَيْنُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فذلك قول اللَّهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ «1» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نكت في قلبه نكتة سوداء، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فهو الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ» . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ فيموت، وكذا قال مجاهد بن جبير وقتادة وابن زيد وغيرهم.
وقوله تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أَيْ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْزِلٌ وَنُزُلٌ سِجِّينٌ ثُمَّ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ ذَلِكَ مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عبد الله الشافعي: وفي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ.
كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ منطوق قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22- 23] وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ رُؤْيَةٌ بِالْأَبْصَارِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وفي روضات الجنات الْفَاخِرَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْمِنْقَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبيد عن الحسن في قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قَالَ: يُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ ثُمَّ يُحْجَبُ عَنْهُ الْكَافِرُونَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ يَوْمٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً أَوْ كَلَامًا هذا
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 231، والترمذي في تفسير سورة 83، باب 1، وابن ماجة في الزهد باب 29، ومالك في الكلام حديث 18، وأحمد في المسند 2/ 297، وتفسير الطبري 12/ 490.
(2) المسند 2/ 297.
(3) تفسير الطبري 12/ 492. [.....](8/347)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
معناه، وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أَيْ ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا الْحِرْمَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ والتصغير والتحقير.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
يَقُولُ تَعَالَى: حَقًّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ وَهُمْ بِخِلَافِ الْفُجَّارِ لَفِي عِلِّيِّينَ أَيْ مَصِيرُهُمْ إِلَى عِلِّيِّينَ وَهُوَ بِخِلَافِ سِجِّينٍ. قَالَ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ سِجِّينٍ قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ، وَسَأَلَهُ عَنْ عِلِّيِّينَ فَقَالَ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا السَّمَاءُ السَّابِعَةُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَفِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ فِي السَّمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عِلِّيُّونَ سَاقُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: عِلِّيُّونَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلِّيِّينَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَكُلَّمَا عَلَا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهُ وَمُفَخِّمًا شَأْنَهُ وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ ثم قال تعالى مُؤَكِّدًا لِمَا كَتَبَ لَهُمْ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَشْهَدُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ وَجَنَّاتٍ فِيهَا فَضْلٌ عَمِيمٌ عَلَى الْأَرائِكِ وَهِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَالِ يَنْظُرُونَ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ فِي مُلْكِهِمْ وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَلَا يَبِيدُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وهذا مقابل لِمَا وُصِفَ بِهِ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَذَكَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُبَاحُونَ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى سُرُرِهِمْ وَفُرُشِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ» «1» وَقَوْلُهُ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أَيْ تَعْرِفُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أَيْ صِفَةَ التَّرَافَةِ وَالْحِشْمَةِ وَالسُّرُورِ وَالدِّعَةِ وَالرِّيَاسَةِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ العظيم.
وقوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ أَيْ يُسْقَوْنَ مِنْ خمر من الجنة، والرحيق من
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 75، باب 2، وأحمد في المسند 2/ 13.(8/348)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ سَعْدٍ أَبِي الْمُجَاهِدِ الطَّائِيِّ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَرَاهُ قَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: خِتامُهُ مِسْكٌ أَيْ خَلْطُهُ مِسْكٌ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
طَيَّبَ اللَّهُ لَهُمُ الْخَمْرَ فَكَانَ آخِرُ شَيْءٍ جُعِلَ فِيهَا مِسْكٌ خُتِمَ بِمِسْكٍ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ خِتامُهُ مِسْكٌ أَيْ عَاقِبَتُهُ مِسْكٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ «2» ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ خِتامُهُ مِسْكٌ قَالَ: شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَجَدَ طِيبَهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ خِتامُهُ مِسْكٌ قَالَ: طِيبُهُ مسك.
وقوله تعالى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أَيْ وَفِي مِثْلِ هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون، كقوله تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، وقوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أَيْ: وَمِزَاجُ هَذَا الرَّحِيقِ الْمَوْصُوفِ مِنْ تَسْنِيمٍ أَيْ مِنْ شَرَابٍ يُقَالُ لَهُ تَسْنِيمٌ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهُ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ، وَلِهَذَا قَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أَيْ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا، قَالَهُ ابْنُ مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم.
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَحْتَقِرُونَهُمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْمُؤْمِنِينَ يَتَغَامَزُونَ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُحْتَقِرِينَ لَهُمْ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أَيْ إِذَا انْقَلَبَ أَيْ رَجَعَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمُ انْقَلَبُوا إِلَيْهَا فَاكِهِينَ أَيْ مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَمَعَ هَذَا مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَلِ اشْتَغَلُوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم وَيَحْسُدُونَهُمْ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أَيْ لِكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أَيْ وَمَا بعث هؤلاء المجرمون حافظين على
__________
(1) المسند 3/ 13، 14.
(2) تفسير الطبري 12/ 498.(8/349)
هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَلَا كُلِّفُوا بِهِمْ؟ فَلِمَ اشْتَغَلُوا بِهِمْ وَجَعَلُوهُمْ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 108- 111] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا فَالْيَوْمَ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا ضَحِكَ بِهِمْ أُولَئِكَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أَيْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ زَعَمَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ لَيْسُوا بِضَالِّينَ بَلْ هُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ يَنْظُرُونَ إلى ربهم في دار كرامته. وقوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ عَلَى مَا كَانُوا يُقَابِلُونَ به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أَمْ لَا، يَعْنِي قَدْ جُوزُوا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وأتمه وأكمله. آخر تفسير سورة المطففين، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الِانْشِقَاقِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سَجَدَ فِيهَا «1» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ له. فقال: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ طِرْخَانَ التَّيْمِيِّ به، وقد رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، زَادَ النَّسَائِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [الأعلى: 1] .
__________
(1) أخرج حديث السجود. البخاري في الأذان باب 100، 101، وسجود القرآن باب 7، 11، وتفسير سورة 84 في الترجمة، ومسلم في المساجد حديث 107- 111، وأبو داود في السجود باب 4، والترمذي في الجمعة باب 50، والنسائي في الافتتاح باب 51، 52، 53، وابن ماجة في الإقامة باب 71، ومالك في القرآن حديث 12.(8/350)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
يَقُولُ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أَيْ: اسْتَمَعَتْ لِرَبِّهَا وَأَطَاعَتْ أَمْرَهُ فِيمَا أمرها به من الانشقاق وذلك يوم القيامة وَحُقَّتْ أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أَمْرَهُ لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَذَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أَيْ: بُسِطَتْ وَفُرِشَتْ وَوُسِّعَتْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَاللَّهِ مَا رَآهُ قَبْلَهَا، فَأَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدَقَ ثُمَّ أُشَفَّعُ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ- قَالَ- وهو المقام المحمود» .
وقوله تعالى: وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ أَيْ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَتَخَلَّتْ مِنْهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدٌ وَقَتَادَةُ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي إنك سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ سَعْيًا وَعَامَلٌ عَمَلًا فَمُلاقِيهِ ثُمَّ إِنَّكَ سَتَلْقَى مَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ أو شر. ويشهد لذلك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَأَحَبِبْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلَاقِيهِ» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعِيدُ الضَّمِيرَ عَلَى قَوْلِهِ رَبِّكَ أَيْ فَمُلَاقٍ رَبَّكَ، وَمَعْنَاهُ فَيُجَازِيكَ بِعَمَلِكَ وَيُكَافِئُكَ عَلَى سَعْيِكَ، وَعَلَى هَذَا فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَلَازِمٌ، قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً يَقُولُ: تَعْمَلُ عَمَلًا تَلْقَى اللَّهَ بِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً إِنَّ كَدْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ لَضَعِيفٌ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ كَدْحُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ ولا قوة إلا بالله ثم قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً أَيْ سَهْلًا بِلَا تَعْسِيرٍ أَيْ لا يحقق عليه جميع دقائق
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 505.(8/351)
أعماله فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة.
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» قَالَتْ فَقُلْتُ: أفليس قال الله تعالى: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ بِالْحِسَابِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْعَرْضُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ» «2» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا رَوحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عامر الخزاز عن ابن أبي مليكة عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مُعَذَّبًا» فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قَالَ: «ذَاكَ الْعَرْضُ إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» وَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى إِصْبَعِهِ كَأَنَّهُ يَنْكُتُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ وَاسْمُهُ حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنِ الْحَرِيشِ بْنِ الْخِرِّيتِ أَخِي الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ- أَوْ مَنْ حُوسِبَ- عُذِّبَ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّمَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ عَرْضٌ على الله تعالى وَهُوَ يَرَاهُمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ:
«اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا» فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: «أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهُ إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَا عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ هَلَكَ» صحيح على شرط مسلم.
وقوله تَعَالَى: وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أَيْ وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ: قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: مَسْرُوراً أي فرحا مُغْتَبِطًا بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تعملون أعمالا لا تعرف ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله
__________
(1) المسند 6/ 47.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 84، باب 1، ومسلم في الجنة حديث 79، 80، وأبو داود في الجنائز باب 8، والترمذي في تفسير سورة 84، باب 1.
(3) تفسير الطبري 12/ 507.
(4) تفسير الطبري 12/ 507.
(5) تفسير الطبري 12/ 507.
(6) المسند 6/ 48.(8/352)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
فمسرور أو مكظوم.
وقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أَيْ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ تُثْنَى يَدُهُ إِلَى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أَيْ خَسَارًا وَهَلَاكًا وَيَصْلى سَعِيراً إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أَيْ فَرِحًا لَا يُفَكِّرُ فِي الْعَوَاقِبِ وَلَا يَخَافُ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الْفَرَحُ الْيَسِيرُ الْحُزْنَ الطَّوِيلَ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أَيْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَلَا يُعِيدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَالْحَوْرُ هُوَ الرُّجُوعُ قَالَ اللَّهُ: بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً يَعْنِي بَلَى سَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا بَدَأَهُ وَيُجَازِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا فَإِنَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا أَيْ عَلِيمًا خبيرا.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمَكْحُولٍ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَبُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجَشُونِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنِ ابْنِ لَبِيبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الشَّفَقُ الْبَيَاضُ، فَالشَّفَقُ هُوَ حُمْرَةُ الْأُفُقِ إِمَّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَإِمَّا بَعْدَ غُرُوبِهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَإِذَا ذَهَبَ قِيلَ غَابَ الشَّفَقُ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّفَقُ بَقِيَّةُ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَحُمْرَتُهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْعَتَمَةِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ الشَّفَقُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ» «1» فَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْخَلِيلُ. وَلَكِنْ صَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ الشَّفَقُ الشَّمْسُ رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا قَرْنُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أَيْ جَمَعَ كَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : أَقْسَمَ اللَّهُ بِالنَّهَارِ مُدْبِرًا وَبِاللَّيْلِ مُقْبِلًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: الشَّفَقُ اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ وَقَالُوا هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَما وَسَقَ وَمَا جَمَعَ، قَالَ قَتَادَةُ:
وَمَا جَمَعَ مِنْ نَجْمٍ ودابة، واستشهد ابن عباس بقول الشاعر: [رجز]
__________
(1) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 43، 48، وأحمد في المسند 2/ 210، 223.
(2) تفسير الطبري 12/ 511.(8/353)
مستوسقات لو يجدن سائقا «1»
وقد قَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ يَقُولُ مَا سَاقَ مِنْ ظُلْمَةٍ إِذَا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ كل شيء إلى مأواه، وقوله تعالى: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا اجْتَمَعَ وَاسْتَوَى، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ إِذَا اسْتَوَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا اجْتَمَعَ إِذَا امْتَلَأَ، وَقَالَ قَتَادَةُ إِذَا اسْتَدَارَ وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ إِذَا تَكَامَلَ نُورُهُ وَأَبْدَرَ جَعَلَهُ مُقَابِلًا لِلَّيْلِ وَمَا وَسَقَ.
وقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ قَالَ هَذَا نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» ، هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَدَ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ نَبِيُّكُمْ مَرْفُوعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مِنْ قَالَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَمَا قَالَ أَنَسٌ: لَا يَأْتِي عَامٍ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُرَّةُ الطَّيِّبُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ هَذَا يَعْنِي الْمُرَادُ بِهَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّ هَذَا، ونبيكم يُكَوَّنَانِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَعَلَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ويؤيد هذا المعنى قراءة عمرو ابن مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامَّةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ لَتَرْكَبُنَّ بفتح التاء والباء.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ: لَتَرْكَبُنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءً. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ (قُلْتُ) : يَعْنُونَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَالسُّدِّيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ منزلا على منزل، وكذا
__________
(1) الرجز للعجاج في ديوانه 2/ 307، وتاج العروس (وسق) ، ولسان العرب (وسق) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 9/ 235، وديوان الأدب 3/ 283، ولسان العرب (وسق) ، وتفسير الطبري 12/ 511. [.....]
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 84، باب 2.
(3) تفسير الطبري 12/ 513، 514.(8/354)
رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ وَزَادَ وَيُقَالُ أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ نَفْسُهُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أَعْمَالُ مَنْ قَبْلِكُمْ مَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ (قُلْتُ) : كَأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ «فَمَنْ؟» «1» وَهَذَا مُحْتَمَلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ فِي كُلِّ عِشْرِينَ سَنَةً تُحْدِثُونَ أَمْرًا لَمْ تكونوا عليه، وقال الأعمش حدثنا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ. قَالَ السَّمَاءُ تَنْشَقُّ ثُمَّ تَحْمَرُّ ثُمَّ تَكُونُ لَوْنًا بَعْدَ لَوْنٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابن مسعود: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ السَّمَاءُ مَرَّةً كَالدِّهَانِ وَمَرَّةً تَنْشَقُّ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي حَالًا بَعْدَ حَالٍ، ثُمَّ قَالَ وَرَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ قَوَمٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا خَسِيسٌ أَمْرُهُمْ فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَةِ، وَآخَرُونَ كَانُوا أَشْرَافًا فِي الدُّنْيَا فَاتَّضَعُوا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ فطيما بعد ما كان رضيعا، وشيخا بعد ما كَانَ شَابًّا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يَقُولُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، رَخَاءً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَشِدَّةً بَعْدَ رَخَاءٍ، وَغِنًى بَعْدَ فَقْرٍ، وَفَقْرًا بَعْدَ غِنًى، وَصِحَّةً بَعْدَ سَقَمٍ، وَسَقَمًا بَعْدَ صِحَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَاهِرٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرِ عَنْ جَابِرٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَفِي غَفْلَةٍ مِمَّا خُلِقَ لَهُ إِنَّ الله تعالى إِذَا أَرَادَ خَلْقَهُ قَالَ لِلْمَلِكِ اكْتُبْ رِزْقَهُ اكْتُبْ أَجَلَهُ اكْتُبْ أَثَرَهُ.
اكْتُبْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا. ثُمَّ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْمَلَكُ وَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا آخَرَ فَيَحْفَظُهُ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْمَلَكُ ثُمَّ يُوكِلُ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، فَإِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ارْتَفَعَ ذَانِكَ الْمَلَكَانِ وَجَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ، فَإِذَا دَخَلَ قَبْرَهُ رَدَ الرُّوحَ فِي جَسَدِهِ ثُمَّ ارْتَفَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ وَجَاءَهُ مَلَكَا الْقَبْرِ فَامْتَحَنَاهُ ثُمَّ يَرْتَفِعَانِ، فَإِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ انْحَطَّ عَلَيْهِ مَلَكُ الْحَسَنَاتِ وَمَلَكُ السَّيِّئَاتِ فَانْتَشَطَا كِتَابًا مَعْقُودًا فِي عُنُقِهِ ثُمَّ حَضَرَا مَعَهُ وَاحِدٌ سَائِقًا وَآخَرُ شَهِيدًا، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ: «حَالًا بَعْدَ حَالٍ» ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ قُدَّامَكُمْ لَأَمْرًا عَظِيمًا لَا تَقْدِرُونَهُ فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَإِسْنَادُهُ فِيهِ ضُعَفَاءُ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 125.(8/355)
ثم قال ابن جرير «1» بعد ما حَكَى أَقْوَالَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ:
وَالصَّوَابُ مِنَ التَّأْوِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَتَرْكَبُنَّ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَأَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَالْمُرَادُ بذلك وإن كان الخطاب موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمِيعُ النَّاسِ وَأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ مِنْ شَدَائِدِ يَوْمِ القيامة وأهواله أحوالا.
وقوله تعالى: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ أَيْ فَمَاذَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا لَهُمْ إذا قرئت عليهم آيات الله وَكَلَامَهُ وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ إِعْظَامًا وإكراما واحتراما؟ وقوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أَيْ مِنْ سَجِيَّتِهِمُ التَّكْذِيبُ وَالْعِنَادُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَقِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:
يَكْتُمُونَ فِي صُدُورِهِمْ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ فَأَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ عذابا أليما.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ يَعْنِي لَكِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِقُلُوبِهِمْ وعملوا الصالحات أي بِجَوَارِحِهِمْ لَهُمْ أَجْرٌ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ وَحَاصِلُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هُودٍ: 108] وَقَالَ السُّدِّيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ مَمْنُونٍ غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ مَمْنُونٍ عليهم، وهذا القول الأخير عَنْ بَعْضِهِمْ قَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ الْمِنَّةُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ حَالٍ وَآنٍ وَلَحْظَةٍ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا بِأَعْمَالِهِمْ فَلَهُ عَلَيْهِمُ الْمِنَّةُ دَائِمًا سَرْمَدًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَبَدًا، وَلِهَذَا يُلْهَمُونَ تَسْبِيحَهُ وَتَحْمِيدَهُ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. آخر تفسير سورة الانشقاق. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْبُرُوجِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا زريق بْنُ أَبِي سَلْمَى حَدَّثَنَا أَبُو الْمُهَزِّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ب السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ «3» وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن عباد السدوسي
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 516.
(2) المسند 2/ 326، 327.
(3) المسند 2/ 327.(8/356)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
سَمِعْتُ أَبَا الْمُهَزِّمِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات فِي الْعِشَاءِ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)
يقسم تعالى بِالسَّمَاءِ وَبُرُوجِهَا وَهِيَ النُّجُومُ الْعِظَامُ كَمَا تَقَدَّمَ بيان ذلك في قوله تَعَالَى:
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفُرْقَانِ: 61] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: الْبُرُوجُ النُّجُومُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْبُرُوجُ الَّتِي فِيهَا الْحَرَسُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ رَافِعٍ: الْبُرُوجُ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ، وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ الْخَلْقُ الْحَسَنُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» أَنَّهَا مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، تَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شهرا ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستمر ليلتين.
وقوله تعالى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْغُزِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشاهِدٍ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ فِيهَا مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ وَمَشْهُودٍ يَوْمُ عَرَفَةَ» وَهَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ وَيُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثَانِ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَمَّا عَلِيٌّ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا يُونُسُ فَلَمْ يَعْدُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ يَعْنِي الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمٌ مَشْهُودٌ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ «3» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يونس،
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 518.
(2) المسند 2/ 298.
(3) المسند 2/ 298، 299.(8/357)
سَمِعْتُ عَمَّارًا مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَلَمْ أَرَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَإِنَّ الْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ ذَخَرَهُ اللَّهُ لَنَا» .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ سَيِّدَ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ» . وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
الشَّاهِدُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ شِبَاكٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ: سَأَلْتَ أَحَدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمرو ابن الزُّبَيْرِ فَقَالَا:
يَوْمَ الذَّبْحِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ثُمَّ قَرَأَ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «4» .
وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:
وَمَشْهُودٍ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: الشَّاهِدُ ابْنُ آدَمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ اللَّهُ وَالْمَشْهُودُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ: الشَّاهِدُ الْإِنْسَانُ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عن ابن عَبَّاسٍ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ الشَّاهِدُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْمَشْهُودُ يوم القيامة، وبه عن سفيان
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 520.
(2) تفسير الطبري 12/ 521.
(3) تفسير الطبري 12/ 521.
(4) انظر تفسير الطبري 12/ 521.
(5) تفسير الطبري 12/ 522. [.....](8/358)
الثَّوْرِيُّ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: يَوْمُ الذَّبْحِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ يَعْنِي الشَّاهِدَ وَالْمَشْهُودَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَشْهُودُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ:
حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الشَّاهِدُ اللَّهُ، وَتَلَا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وَالْمَشْهُودُ نَحْنُ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ.
وقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أَيْ لُعِنُ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ وَهِيَ الْحَفِيرُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَمَدُوا إِلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فقهر وهم وَأَرَادُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ فَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُخْدُودًا وَأَجَّجُوا فِيهِ نَارًا وَأَعَدُّوا لَهَا وَقُودًا يُسَعِّرُونَهَا بِهِ، ثُمَّ أَرَادُوهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ فَقَذَفُوهُمْ فِيهَا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أَيْ مُشَاهِدُونَ لِمَا يُفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أَيْ وَمَا كَانَ لَهُمْ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِجَنَابِهِ الْمَنِيعِ الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَدَّرَ عَلَى عِبَادِهِ هَؤُلَاءِ هَذَا الَّذِي وَقَعَ بِهِمْ بِأَيْدِي الْكُفَّارِ بِهِ فَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ وَإِنْ خَفِيَ سَبَبُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
ثُمَّ قال تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنْ تَمَامِ الصفة أنه المالك لجميع السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَيْ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شيء في جميع السموات وَالْأَرْضِ وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْ هم؟ فعن علي أَنَّهُمْ أَهْلُ فَارِسٍ حِينَ أَرَادَ مَلِكُهُمْ تَحْلِيلَ تزويج المحارم، فامتنع عليهم عُلَمَاؤُهُمْ فَعَمَدَ إِلَى حَفْرِ أُخْدُودٍ فَقَذَفَ فِيهِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ فِيهِمْ تَحْلِيلُ الْمَحَارِمِ إِلَى الْيَوْمِ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا بِالْيَمَنِ اقْتَتَلَ مُؤْمِنُوهُمْ وَمُشْرِكُوهُمْ، فَغَلَبَ مُؤْمِنُوهُمْ عَلَى كُفَّارِهِمْ ثُمَّ اقْتَتَلُوا فَغَلَبَ الْكُفَّارُ الْمُؤْمِنِينَ فَخَدُّوا لَهُمُ الْأَخَادِيدَ وَأَحْرَقُوهُمْ فِيهَا، وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ وَاحِدُهُمْ حَبَشِيٌّ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ قَالَ: نَاسٌ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدُّوا أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ نَارًا ثُمَّ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ الْأُخْدُودِ رِجَالًا وَنِسَاءً فَعُرِضُوا عَلَيْهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذلك.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 522.(8/359)
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سلمة عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم ملك وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبُرَ السَّاحِرُ قَالَ للملك إني قد كبر سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي، فَادْفَعْ إِلَيَّ غُلَامًا لِأُعْلِّمُهُ السِّحْرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وكان بين السحر وَبَيْنَ الْمَلِكِ رَاهِبٌ فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى الرَّاهِبِ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ، وَكَانَ إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حسبك وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ ضَرَبُوهُ وَقَالُوا مَا حَبَسَكَ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ أَتَى على دابة عظيمة فظيعة قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا. فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبُّ إِلَى الله أم أمر السحر، قَالَ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ، وَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأُخْبِرَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَسَائِرَ الْأَدْوَاءِ وَيَشْفِيهِمْ، وكان للملك جليس فَعَمِيَ فَسَمِعَ بِهِ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ اشْفِنِي وَلَكَ مَا هَاهُنَا أَجْمَعُ، فَقَالَ مَا أَنَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَآمَنَ فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ.
ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ يَا فُلَانُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟
فَقَالَ رَبِّي: فَقَالَ أَنَا قَالَ لَا، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ! قَالَ مَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ أَنَا؟ قَالَ لَا. قَالَ أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَأَتَى بِالرَّاهِبِ فَقَالَ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ لِلْأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ إِلَى الْأَرْضِ.
وَقَالَ لِلْغُلَامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَدَهْدِهُوهُ «2» مِنْ فَوْقِهِ، فَذَهَبُوا بِهِ فَلَمَّا عَلَوْا بِهِ الْجَبَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ مَا فَعَلَ أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ فِي قُرْقُورٍ «3» فَقَالَ إِذَا لَجَجْتُمْ بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَغَرِّقُوهُ فِي الْبَحْرِ فَلَجَّجُوا بِهِ الْبَحْرَ فَقَالَ الْغُلَامُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فغرقوا أجمعون.
__________
(1) المسند 6/ 16، 18.
(2) دهدهوه: أي دحرجوه.
(3) القرقور: سفينة صغيرة.(8/360)
وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي، قَالَ وَمَا هُوَ؟ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ وَتَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَفَعَلَ وَوَضْعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ قَوْسِهِ ثُمَّ رَمَاهُ وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ. فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ فَقَدَ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ فِيهَا الْأَخَادِيدُ وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعَوْهُ وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، قَالَ فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ فَقَالَ الصَّبِيُّ:
اصْبِرِي يَا أُمَّاهُ فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» .
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «1» فِي آخِرِ الصَّحِيحِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عن أحمد بن سلمان عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ بِهِ وَاخْتَصَرُوا أَوَّلَهُ، وَقَدْ جَوَّدَهُ الْإِمَامُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فَرَوَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ- الْمَعْنَى وَاحِدٌ- قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا صلى العصر همس والهمس في بعض قولهم تَحْرِيكُ شَفَتَيْهِ كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا صَلَّيْتَ الْعَصْرَ هَمَسْتَ، قَالَ: «إِنْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أُعْجِبَ بِأُمَّتِهِ فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ.
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ أَنْ أَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، فَاخْتَارُوا النِّقْمَةَ، فسلط الله عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا» قَالَ: وَكَانَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ: كَانَ مَلِكٌ من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يتكهن لَهُ، فَقَالَ الْكَاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا أَوْ قَالَ: فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي هَذَا، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ- حَتَّى بَلَغَ- الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
قَالَ: فأما الغلام فإنه دفن، فَيُذْكَرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِصْبُعُهُ عَلَى صُدْغِهِ كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ «2» ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَهَذَا السِّيَاقُ لَيْسَ فِيهِ صَرَاحَةٌ، أَنَّ سِيَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَخْبَارِ النَّصَارَى والله أعلم.
__________
(1) كتاب الزهد حديث 73.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 85، باب 2.(8/361)
وَقَدْ أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي السِّيرَةِ «1» بِسِيَاقٍ آخَرَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَحَدَّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ- وَنَجْرَانُ هِيَ الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي إِلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ- سَاحِرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السِّحْرَ، فَلَمَّا نَزَلَهَا فَيْمُونُ وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ، قالوا: نزلها رجل فابتنى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا السَّاحِرُ، وَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إِلَى ذَلِكَ السَّاحِرِ يُعَلِمُهُمُ السِّحْرَ.
فَبَعَثَ الثَّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ فَجَعَلَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى أَسْلَمَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إِذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَكَانَ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ إِيَّاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ أَخْشَى ضَعْفَكَ عَنْهُ، وَالثَّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ، وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ عَمَدَ إِلَى أَقْدَاحٍ فَجَمَعَهَا ثُمَّ لَمْ يُبْقِ لِلَّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إِلَّا كتبه في قدح لكل اسم قدح، حتى إذا حصاها أَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قَدَحًا قَدَحًا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقَدَحِهِ، فَوَثَبَ الْقَدَحُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ يَضُرُهُ شَيْءٌ، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ صَاحِبَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الذي قد كَتَمَهُ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هُوَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ فقال أَيِ ابْنَ أَخِي قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ.
فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ إِذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يلق أحدا به ضر إلا قال له: يَا عَبْدِ اللَّهِ أَتُوَحِّدُ اللَّهَ وَتَدْخُلُ فِي دِينِي، وَأَدْعُو اللَّهَ لَكَ فَيُعَافِيَكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُسْلِمُ، فَيَدْعُو اللَّهَ لَهُ، فَيُشْفَى حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرٌّ إِلَّا أَتَاهُ، فَاتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَدَعَا لَهُ، فَعُوفِيَ حَتَّى رُفِعَ شَأْنُهُ إِلَى مَلِكِ نَجْرَانَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ، قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَقَعُ إِلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ بَأْسٌ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إِلَى مِيَاهِ نَجْرَانَ بُحُورٌ لَا يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ فَيُلْقَى بِهِ فِيهَا، فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: إِنَّكَ وَاللَّهِ لَا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ سُلِّطْتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتَنِي، قَالَ: فَوَحَّدَ اللَّهَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ، وَهَلَكَ الملك مكانه واستجمع أهل نجران
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 34، 36.(8/362)
عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ، ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ أَهْلَ دِينِهِمْ مِنَ الْأَحْدَاثِ، فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الثامر فالله أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، قَالَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنْدِهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ أَوِ الْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، فَخَدَّ الْأُخْدُودَ فَحَرَّقَ بِالنَّارِ وَقَتَلَ بِالسَّيْفِ، وَمَثَّلَ بِهِمْ حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ هُوَ ذُو نُوَاسٍ وَاسْمُهُ زُرْعَةُ، وَيُسَمَّى فِي زَمَانِ مَمْلَكَتِهِ بِيُوسُفَ، وَهُوَ ابْنُ تِبَانَ أَسْعَدُ أَبِي كَرْبٍّ وَهُوَ تُبَّعٌ الَّذِي غَزَا الْمَدِينَةَ وَكَسَى الْكَعْبَةَ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ حِبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ تَهَوُّدُ مَنْ تَهَوَّدَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى يَدَيْهِمَا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مَبْسُوطًا، فَقَتَلَ ذُو نُوَاسٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأُخْدُودِ عِشْرِينَ أَلْفًا وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُقَالُ لَهُ دَوْسٌ ذُو ثَعْلَبَانِ، ذَهَبَ فارسا وطردوا وراءه فلم يقدروا عَلَيْهِ فَذَهَبَ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ فَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ يَقْدُمُهُمْ أَرْيَاطُ وَأَبْرَهَةُ فَاسْتَنْقَذُوا الْيَمَنَ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ، وَذَهَبَ ذُو نُوَاسٍ هَارِبًا فَلَجَّجَ فِي الْبَحْرِ فَغَرِقَ، وَاسْتَمَرَّ مُلْكُ الْحَبَشَةِ فِي أَيْدِي النَّصَارَى سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ الْحِمْيَرِيُّ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى لَمَّا اسْتَجَاشَ بِكِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، فأرسل معه من في السجون فكانوا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِمِائَةٍ، فَفَتَحَ بِهِمُ الْيَمَنَ وَرَجَعَ الْمُلْكُ إِلَى حِمْيَرَ، وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: 1] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ «1» : وَحَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَفَرَ خَرِبَةً مَنْ خَرِبِ نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ تَحْتَ دَفْنٍ فِيهَا قَاعِدًا وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ مُمْسِكًا عَلَيْهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا أَخَذْتَ يده عنها تفجرت دَمًا، وَإِذَا أَرْسَلْتَ يَدَهُ رُدَّتْ عَلَيْهَا فَأَمْسَكَتْ دَمَهَا وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ رَبِّيَ اللَّهُ، فَكُتِبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِهِ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِمْ أَنْ أَقِرُّوهُ عَلَى حَالِهِ وَرُدُّوا عَلَيْهِ الدَّفْنَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا رَحِمَهُ الله: حدثنا أبو بلال الأشعري،
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 36، 37.(8/363)
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا افْتَتَحَ أَصْبَهَانَ وَجَدَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ قَدْ سَقَطَ، فَبَنَاهُ فَسَقَطَ ثُمَّ بَنَاهُ فَسَقَطَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ تَحْتَهُ رَجُلًا صَالِحًا، فَحَفَرَ الْأَسَاسَ فَوَجَدَ فِيهِ رَجُلًا قَائِمًا مَعَهُ سَيْفٌ فِيهِ مَكْتُوبٌ:
أَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ نَقَمْتُ عَلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، فَاسْتَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى وَبَنَى الْحَائِطَ فَثَبَتَ. (قُلْتُ) : هُوَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمَيُّ، أَحَدُ مُلُوكِ جُرْهُمِ الَّذِينَ وَلُوا أَمْرَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ وَلَدِ نَبْتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَلَدُ الْحَارِثِ هَذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ هُوَ آخِرُ مُلُوكِ جُرْهُمَ بِمَكَّةَ لَمَّا أَخْرَجَتْهُمْ خُزَاعَةُ وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي شِعْرِهِ الَّذِي قَالَ ابْنُ هِشَامٍ «1» إِنَّهُ أول شعر قالته العرب: [الطويل]
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ «2»
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ قَدِيمًا بَعْدَ زَمَانِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقُرْبٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الْفَتْرَةِ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ فِي الْيَمَنِ زَمَانَ تُبَّعٍ وَفِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ زَمَانَ قُسْطَنْطِينَ حِينَ صَرَفَ النَّصَارَى قِبْلَتَهُمْ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ، فَاتَّخَذُوا أَتُّونًا وَأُلْقِيَ فِيهِ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ، وَفِي العراق في أرض بابل بختنصر الذي صنع الصَّنَمَ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ وَصَاحِبَاهُ عُزَرْيَا وَمِيشَائِيلُ فَأَوْقَدَ لَهُمْ أَتُّونًا وَأَلْقَى فِيهِ الْحَطَبَ وَالنَّارَ ثُمَّ أَلْقَاهُمَا فِيهِ، فجعلها الله تعالى عَلَيْهِمَا بَرْدًا وَسَلَامًا وَأَنْقَذَهُمَا مِنْهَا وَأَلْقَى فِيهَا الَّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِ، وَهُمْ تِسْعَةُ رَهْطٍ فَأَكَلَتْهُمُ النَّارُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً: خَدٌّ بِالْعِرَاقِ، وَخَدٌّ بِالشَّامِ، وَخَدٌّ بِالْيَمَنِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: كَانَتِ الأخدود ثلاثة: واحد بنجران باليمن والأخرى بالشام والأخرى بفارس حرقوا بالنار، أَمَّا الَّتِي بِالشَّامِ فَهُوَ أَنْطَنَانُوسُ الرُّومِيُّ، وَأَمَّا الَّتِي بِفَارِسَ فَهُوَ بُخْتُنَصَّرُ، وَأَمَّا الَّتِي بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَهُوَ يُوسُفُ ذُو نُوَاسٍ، فَأَمَّا الَّتِي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 115، 116.
(2) البيت الأول لعمرو بن الحارث بن مضاض أو للحارث الجرهمي في لسان العرب (حجن) . وبلا نسبة في شرح قطر الندي ص 159. والبيت الثاني للحارث الجرهمي في لسان العرب (حجن) ، ولعمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي في تاج العروس (شرح خطبة المصنف) ، ومعجم البلدان (مكة) ، ولمضاض بن عمرو الجرهمي في معجم البلدان (الحجون) ، ولشاعر جرهم في معجم البلدان (مأرب) .(8/364)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
بِنَجْرَانَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ هُوَ ابْنُ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قَالَ:
سَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا وَقَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ وَصَارُوا أحزابا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرُّومُ: 32] ، اعْتَزَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ سَكَنُوهَا وَأَقَامُوا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ [البينة: 5] ، فكان هَذَا أَمْرُهُمْ حَتَّى سَمِعَ بِهِمْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَحُدِّثَ حَدِيثَهُمْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي اتَّخَذُوا، وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ وَقَالُوا لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَعْبُدُوا هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي عَبَدْتُ فَإِنِّي قَاتِلُكُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَخَدَّ أُخْدُودًا مِنْ نَارٍ وَقَالَ لَهُمُ الْجَبَّارُ وَوَقَفَهُمْ عَلَيْهَا: اخْتَارُوا هَذِهِ أَوِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَذُرِّيَّةٌ فَفَزِعَتِ الذُّرِّيَّةُ، فَقَالُوا لَهُمْ أي آباؤهم لَا نَارَ مِنْ بَعْدِ الْيَوْمِ فَوَقَعُوا فِيهَا، فَقُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمْ حَرُّهَا وَخَرَجَتِ النَّارُ مِنْ مَكَانِهَا فَأَحَاطَتْ بِالْجَبَّارِينَ فَأَحْرَقَهُمُ اللَّهُ بِهَا فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ بِهِ نحوه.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أَيْ حَرَقُوا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبْزَى ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أَيْ لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا فَعَلُوا وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا أَسْلَفُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ والمغفرة.
[سورة البروج (85) : الآيات 11 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بِخِلَافِ مَا أُعِدَّ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْحَرِيقِ وَالْجَحِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ: ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ثم قال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أَيْ إِنَّ بَطْشَهُ وَانْتِقَامَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ لَشَدِيدٌ عَظِيمٌ قَوِيٌّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ كَمَا يَشَاءُ فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أقرب، ولهذا قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أَيْ مِنْ قُوَّتِهِ وقدرته التامة يبدئ الخلق ويعيده كما
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 525.(8/365)
بَدَأَهُ بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ.
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ أَيْ يَغْفِرُ ذَنْبَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَخَضَعَ لَدَيْهِ وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَالْوَدُودُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ الْحَبِيبُ ذُو الْعَرْشِ أَيْ صَاحِبُ الْعَرْشِ العظيم العالي على جميع الخلائق، والمجيد فِيهِ قِرَاءَتَانِ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ وَكِلَاهُمَا مَعْنًى صَحِيحٌ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أَيْ مَهْمَا أَرَادَ فِعْلَهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِعَظَمَتِهِ وَقَهْرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ: هَلْ نَظَرَ إِلَيْكَ الطَّبِيبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا فَمَا قَالُ لَكَ؟ قَالَ:
قَالَ لِي إِنِّي فَعَّالٌ لما أريد.
وقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أَيْ هَلْ بَلَغَكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ الَّتِي لَمْ يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أَيْ إِذَا أَخَذَ الظَّالِمَ أَخَذَهُ أَخْذًا أَلِيمًا شَدِيدًا أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فقام يستمع فقال: «نعم قد جاءني» .
وقوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أَيْ هُمْ فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ وَكُفْرٍ وَعِنَادٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ قَاهِرٌ لَا يَفُوتُونَهُ وَلَا يُعْجِزُونَهُ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أَيْ عَظِيمٌ كَرِيمٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أَيْ هُوَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مَحْفُوظٌ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ سُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ في قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قَالَ: إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فِي جَبْهَةِ إِسْرَافِيلَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بن صالح أن أبا الأعبس هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمَانَ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ قَضَى اللَّهُ: الْقُرْآنُ، فَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَّا وَهُوَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ بَيْنَ عَيْنَيْ إِسْرَافِيلَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ عِنْدَ اللَّهِ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يُنَزِّلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَدْ رَوَى الْبَغَوِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقِ بْنِ بِشْرٍ: أَخْبَرَنِي مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده، دينه الإسلام
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 531.(8/366)
وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وحافتاه من الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَلَمُهُ نُورٌ، وَكَلَامُهُ مَعْقُودٌ بِالْعَرْشِ، وَأَصْلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ.
وقال مُقَاتِلٌ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ صَفَحَاتُهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ، لله فيه في كُلَّ يَوْمٍ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةُ لَحْظَةٍ، يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُمِيتُ وَيُحْيِي وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ» آخر تفسير سورة البروج، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الطَّارِقِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْهُ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَبِي جَبَلٍ الْعَدْوَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَبْصَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَشْرِقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عصى حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي عِنْدَهُمُ النَّصْرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حَتَّى خَتَمَهَا قَالَ: فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ قَالَ: فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ فَقَالُوا: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْنَاهُ «1» ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ الْمَغْرِبَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفتان أنت يَا مُعَاذُ! مَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقْرَأَ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحوها؟» «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 335.
(2) أخرجه النسائي في الافتتاح باب 70. [.....](8/367)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
يقسم تبارك وتعالى بِالسَّمَاءِ وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ ولهذا قال تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ثُمَّ قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا سُمِّيَ النَّجْمُ طَارِقًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَى بِاللَّيْلِ وَيَخْتَفِي بِالنَّهَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ نَهَى أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا «1» أَيْ يَأْتِيَهُمْ فَجْأَةً بِاللَّيْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الدُّعَاءِ «إِلَّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» «2» . وقوله تعالى: الثَّاقِبُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُضِيءُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَثْقُبُ الشَّيَاطِينَ إِذَا أُرْسِلَ عَلَيْهَا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هو مضيء ومحرق للشيطان.
وقوله تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أَيْ كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ يَحْرُسُهَا مِنَ الْآفَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:
11] . وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ تَنْبِيهٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى ضَعْفِ أَصْلِهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وقوله تعالى:
خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَعْنِي الْمَنِيُّ يَخْرُجُ دفقا من الرجل والمرأة، فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ، بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ يَعْنِي صُلْبَ الرَّجُلِ وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ صَدْرُهَا.
وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ أَصْفَرَ رَقِيقٍ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مِنْهُمَا، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مِسْعَرٍ، سَمِعْتُ الْحَكَمَ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ قَالَ: هَذِهِ التَّرَائِبُ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَرِيبَةُ الْمَرْأَةِ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّرَائِبُ بَيْنَ ثَدْيَيْهَا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ:
التَّرَائِبُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى الصَّدْرِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: التَّرَائِبُ أَسْفَلُ مِنَ التَّرَاقِي، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: التَّرَائِبُ أَرْبَعَةُ أَضْلَاعٍ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ: التَّرَائِبُ بَيْنَ الثَّدْيَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عن معمر بن أبي
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح باب 120، ومسلم في الإمارة حديث 180، 184.
(2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 419.(8/368)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
حَبِيبَةَ الْمَدَنِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ قَالَ: هُوَ عُصَارَةُ الْقَلْبِ مِنْ هُنَاكَ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَعَنْ قَتَادَةَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ من بين صلبه ونحره.
وقوله تعالى: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ فِيهِ قَوْلَانِ [أَحَدُهُمَا] عَلَى رَجْعِ هَذَا الْمَاءِ الدَّافِقِ، إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ لَقَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا. [وَالْقَوْلُ الثَّانِي] إِنَّهُ عَلَى رَجْعِ هَذَا الْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ أَيْ إِعَادَتُهُ وَبَعْثُهُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ لَقَادِرٌ لأن من قدر على البداءة قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَ بِهِ الضَّحَّاكُ واختاره ابن جرير ولهذا قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ أَيْ تَظْهَرُ وَتَبْدُو وَيَبْقَى السِّرُّ عَلَانِيَةً وَالْمَكْنُونُ مَشْهُورًا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» «1» وَقَوْلُهُ تعالى: فَما لَهُ أَيِ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُوَّةٍ أَيْ فِي نَفْسِهِ وَلا ناصِرٍ أَيْ مِنْ خَارِجٍ مِنْهُ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا يستطيع له أحد ذلك.
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّجْعُ الْمَطَرُ، وَعَنْهُ: هُوَ السَّحَابُ فِيهِ الْمَطَرُ، وَعَنْهُ وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ تُمْطِرُ ثُمَّ تُمْطِرُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُرْجِعُ رِزْقَ الْعِبَادِ كُلَّ عَامٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكُوا وَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ «2» ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَرْجِعُ نُجُومُهَا وَشَمْسُهَا وَقَمَرُهَا يَأْتِينَ مِنْ هَاهُنَا وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ انْصِدَاعُهَا عَنِ النَّبَاتِ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو مَالِكٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ آخَرُ: حُكْمٌ عَدْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي بل هو جد حق، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً أَيْ يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى خِلَافِ القرآن، ثم قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَيْ أَنْظِرْهُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي قليلا أي وسترى مَاذَا أُحِلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ والهلاك كَمَا قَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لُقْمَانَ: 24] آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الطارق، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجزية باب 22، والأدب باب 99، ومسلم في الجهاد حديث 8، 10، 17.
(2) تفسير الطبري 12/ 539.(8/369)
تفسير
سورة الأعلى
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ جَاءَ فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا «1» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ: «هَلَّا صَلَّيْتَ بِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، والشَّمْسِ وَضُحاها واللَّيْلِ إِذا يَغْشى» «3» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْعِيدَيْنِ بِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] وَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَرَأَهُمَا جَمِيعًا «5» .
هَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ وَجَرِيرٍ وَشُعْبَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَمِسْعَرٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النُّعْمَانِ، وَلَا يُعْرَفُ لِحَبِيبٍ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بِهِ، كما رواه
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 87، باب 1.
(2) المسند 1/ 96.
(3) أخرجه البخاري في الأذان باب 63، ومسلم في الصلاة حديث 47، 48.
(4) المسند 4/ 271.
(5) أخرجه مسلم في الجمعة حديث 62، وأبو داود في الصلاة باب 124، 134، 147، 149، 150، 236، والترمذي في الوتر باب 9، والجمعة باب 22، 33، والنسائي في الجمعة باب 39، 40، وابن ماجة في الإقامة باب 10، 20، 48، 90، 115، 157.(8/370)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
الجماعة فالله أَعْلَمُ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ بِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَرَأَهُمَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وعبد الرّحمن ابن أَبْزَى وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ، زَادَتْ عَائِشَةُ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَهَكَذَا رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ وَأَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ عجلان وعبد الله ابن مَسْعُودٍ وَعُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لأوردنا ما تيسر لنا مِنْ أَسَانِيدَ ذَلِكَ وَمُتُونِهِ، وَلَكِنْ فِي الْإِرْشَادِ بِهَذَا الِاخْتِصَارِ كِفَايَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سُورَةُ الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُوسَى يَعْنِي ابْنَ أَيُّوبَ الْغَافِقِيَّ، حَدَّثَنَا عَمِّي إِيَاسُ بْنُ عَامِرٍ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ: لَمَّا نَزَلَتْ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 74] قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» فَلَمَّا نَزَلَتْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» «2» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ وكيع به قال وخولف فِيهِ وَكِيعٌ رَوَاهُ أَبُو وَكِيعٍ وَشُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حكام عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ إِذَا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَإِذَا قرأ
__________
(1) المسند 4/ 155.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 147، وابن ماجة في الإقامة باب 90، 115، 157.
(3) تفسير الطبري 12/ 542.(8/371)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 1] فَأَتَى عَلَى آخِرِهَا أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الْقِيَامَةِ: 40] يَقُولُ: سُبْحَانَكَ وَبَلَى، وَقَالَ قَتَادَةُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَقَوْلُهُ تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أَيْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَسَوَّى كل مخلوق في أحسن الهيئات.
وقوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قَالَ مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِلشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِفِرْعَوْنَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] أَيْ قَدَّرَ قَدْرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء» «1» وقوله تعالى: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أَيْ مِنْ جَمِيعِ صُنُوفِ النَّبَاتَاتِ وَالزُّرُوعِ فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَشِيمًا مُتَغَيِّرًا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ نَحْوُهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَأَنَّ مَعْنَى الكلام والذي أخرج المرعى، أَحْوى أَخْضَرُ إِلَى السَّوَادِ فَجَعَلَهُ غُثَاءً بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَوَابٍ لِمُخَالَفَتِهِ أَقْوَالَ أهل التأويل، وقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ أَيْ يَا مُحَمَّدُ فَلا تَنْسى وَهَذَا إخبار من الله تعالى وَوَعْدٌ مِنْهُ لَهُ. بِأَنَّهُ سَيُقْرِئُهُ قِرَاءَةً لَا يَنْسَاهَا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْسَى شَيْئًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَلا تَنْسى طلب، وجعل مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا مَا يَقَعُ مِنَ النسخ أي لا تنسى أي ما نقرئك إلا ما يشاء اللَّهُ رَفْعَهُ فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَهُ. وَقَوْلُهُ تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى أَيْ يَعْلَمُ مَا يَجْهَرُ بِهِ الْعِبَادُ وَمَا يُخْفُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أَيْ نُسَهِّلُ عَلَيْكَ أَفْعَالَ الْخَيْرِ وَأَقْوَالَهُ وَنُشَرِّعُ لَكَ شَرْعًا سَهْلًا سَمْحًا مُسْتَقِيمًا عَدْلًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ ولا حرج ولا عسر. وقوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى
أَيْ ذَكِّرْ حَيْثُ تَنْفَعُ التَّذْكِرَةُ، وَمِنْ هَاهُنَا يُؤْخَذُ الْأَدَبُ فِي نَشْرِ الْعِلْمِ فَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ، وَقَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ الله ورسوله، وقوله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أَيْ سَيَتَّعِظُ بِمَا تُبَلِّغُهُ يا محمد من قبله يَخْشَى اللَّهَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي لا يموت فيستريح ولا يحيى حَيَاةً تَنْفَعُهُ بَلْ هِيَ مُضِرَّةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بِسَبَبِهَا يَشْعُرُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنْ أَلِيمِ
__________
(1) أخرجه مسلم في القدر حديث 16، والترمذي في القدر باب 18، وأحمد في المسند 2/ 169.
(2) تفسير الطبري 12/ 544. [.....](8/372)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
الْعَذَابِ وَأَنْوَاعِ النَّكَالِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ يَعْنِي التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ وَأَمَّا أُنَاسٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمُ الرَّحْمَةَ فَيُمِيتُهُمْ فِي النَّارِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشُّفَعَاءُ فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ أَنْصَارَهُ فَيُنْبِتَهُمْ- أَوْ قَالَ- ينبتون- في نهر الحياة- أَوْ قَالَ الْحَيَاةِ- أَوْ قَالَ الْحَيَوَانِ- أَوْ قَالَ نَهَرِ الْجَنَّةِ- فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرَوْنَ الشَّجَرَةَ تَكُونُ خَضْرَاءَ ثم تَكُونُ صَفْرَاءَ ثُمَّ تَكُونُ خَضْرَاءَ؟ قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «2» أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَلَكِنْ أُنَاسٌ- أَوْ كَمَا قَالَ- تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ- أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ- فَيُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ «3» ضَبَائِرَ فَنَبَتُوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ حِينَئِذٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بالبادية «4» ، ورواه مسلم من حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَشُعْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أبي سلمة سعيد بن يزيد بِهِ مِثْلَهُ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ «5» أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُ اللَّهُ إِخْرَاجَهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ يُرِيدُ اللَّهُ إِخْرَاجَهُمْ يُمِيتُهُمْ فِيهَا إِمَاتَةً حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا، ثُمَّ يَخْرُجُونَ ضَبَائِرَ فَيُلْقَوْنَ عَلَى أنهار الجنة فيرش عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى إِخْبَارًا عَنْ أَهْلِ النَّارِ: وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزُّخْرُفِ: 77] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فَاطِرٍ: 36] إِلَى غَيْرِ ذلك من الآيات في هذا المعنى.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
يَقُولُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أَيْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وتابع ما أنزل الله
__________
(1) المسند 3/ 5.
(2) المسند 3/ 11.
(3) ضبائر ضبائر: أي جماعات جماعات.
(4) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 306، وابن ماجة في الزهد باب 37.
(5) المسند 3/ 20.(8/373)
على الرسول صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أَيْ أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَطَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالًا لِشَرْعِ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ أحمد العزرمي، حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» .
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قَالَ: «هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا» ثُمَّ قَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْآمُلِيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي خَلْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ فَقَالَ لِي: إِذَا غَدَوْتَ غَدًا إِلَى الْعِيدِ فَمُرَّ بِي، قَالَ: فَمَرَرْتُ بِهِ فَقَالَ: هَلْ طَعِمْتَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَضْتَ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَاءِ؟ قُلْتُ: نعم. قال:
فأخبرني ما فعلت زكاتك! قُلْتَ: قَدْ وَجَّهْتَهَا قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُكَ لِهَذَا ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَرَوْنَ صَدَقَةً أَفْضَلَ مِنْهَا وَمِنْ سِقَايَةِ الماء.
(قلت) : وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ سَائِلٌ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَلْيُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ صَلَاتِهِ زَكَاتَهُ فَإِنَّ الله تعالى يَقُولُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى زَكَّى مَالَهُ وَأَرْضَى خَالِقَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ تُقَدِّمُونَهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ وَتُبْدُونَهَا عَلَى مَا فِيهِ نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَنِيَّةٌ فَانِيَةٌ وَالْآخِرَةَ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى وَيَهْتَمُّ بِمَا يَزُولُ عَنْهُ قَرِيبًا وَيَتْرُكُ الِاهْتِمَامَ بِدَارِ الْبَقَاءِ وَالْخُلْدِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ذُوَيْدٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حمزة عن عطاء
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 547.
(2) المسند 6/ 71.
(3) تفسير الطبري 12/ 548.(8/374)
عَنْ عَرْفَجَةِ الثَّقَفِيِّ قَالَ اسْتَقْرَأْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى- فَلَمَّا بَلَغَ- بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا تَرَكَ الْقِرَاءَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ فَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا لِأَنَّا رَأَيْنَا زِينَتَهَا وَنِسَاءَهَا وَطَعَامَهَا وَشَرَابَهَا، وَزُوِيَتْ عَنَّا الْآخِرَةُ فَاخْتَرْنَا هَذَا الْعَاجِلَ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ وَالْهَضْمِ أَوْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ أَحَبِّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو بِهِ مِثْلَهُ سَوَاءً.
وقوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ كُلُّ هَذَا- أَوْ كَانَ هَذَا- فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ أَسْنَدَ الثِّقَاتَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ هَذَا، وَحَدِيثًا آخر رواه مثل هَذَا.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: كُلُّهَا في صحف إبراهيم وموسى، ولما نَزَلَتْ وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 36] قَالَ:
وَفَّى إبراهيم أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْمِ: 37] يَعْنِي أن هذه الآية كقوله تعالى فِي سُورَةِ النَّجْمِ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 36- 42] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهِنَّ.
وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مِهْرَانَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أبيه عن عكرمة في قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يَقُولُ: الْآيَاتُ الَّتِي فِي سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قِصَّةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ثم قال تعالى: إِنَّ هَذَا أَيْ مَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وهذا الذي اختاره حسن قوي، وقد
__________
(1) المسند 4/ 412.(8/375)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ نَحْوُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبِّحْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْغَاشِيَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] وَالْغَاشِيَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: بِمَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ مَعَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ قال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «1» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ بِهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى نَارًا حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
الْغَاشِيَةُ: مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ لِأَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ وَتَعُمُّهُمْ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ فَقَامَ يَسْتَمِعُ وَيَقُولُ: «نَعَمْ قَدْ جَاءَنِي» وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أَيْ ذَلِيلَةٌ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَخْشَعُ وَلَا يَنْفَعُهَا عَمَلُهَا.
وقوله تعالى: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ أَيْ قَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا وَنَصَبَتْ فِيهِ وَصَلِيَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا حَامِيَةً. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِمْرَانَ الْجَوْنِيَّ يَقُولُ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ بِدَيْرِ رَاهِبٍ، قَالَ فَنَادَاهُ يَا رَاهِبُ، فَأَشْرَفَ قَالَ فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ:
ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى نَارًا حامِيَةً فذاك الذي أبكاني.
__________
(1) أخرجه مسلم في الجمعة حديث 62، 63، وأبو داود في الصلاة باب 236، والنسائي في الجمعة باب 39، 40، وابن ماجة في الإقامة باب 90، 157، ومالك في الجمعة حديث 19.(8/376)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ النَّصَارَى، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ عامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بالمعاصي وناصِبَةٌ فِي النَّارِ بِالْعَذَابِ وَالْأَغْلَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ تَصْلى نَارًا حامِيَةً أَيْ حَارَةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أَيْ قَدِ انْتَهَى حَرُّهَا وَغَلَيَانُهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد والحسن والسدي. وقوله تَعَالَى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: شجر من النار، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الزَّقُّومُ، وَعَنْهُ أَنَّهَا الْحِجَارَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَقَتَادَةُ: هُوَ الشِّبْرِقُ، قَالَ قَتَادَةُ: قُرَيْشٌ تُسَمِّيهِ فِي الرَّبِيعِ الشِّبْرِقُ وَفِي الصَّيْفِ الضَّرِيعُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: وَهُوَ شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ لَاطِئَةٌ بِالْأَرْضِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : قَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ الضَّرِيعَ إِذَا يَبِسَ وَهُوَ سُمٌّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ عن قتادة هُوَ الشِّبْرِقُ إِذَا يَبِسَ سُمِّي الضَّرِيعَ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ مِنْ شَرِّ الطَّعَامِ وَأَبْشَعِهِ وَأَخْبَثِهِ، وقوله تعالى: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ يَعْنِي لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودٌ وَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ محذور.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 16]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْأَشْقِيَاءِ ثَنَّى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ فَقَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ناعِمَةٌ أَيْ يُعْرَفُ النَّعِيمُ فِيهَا وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ بِسَعْيِهَا، وَقَالَ سُفْيَانُ لِسَعْيِها راضِيَةٌ قد رضيت عملها. وقوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أَيْ رَفِيعَةٌ بَهِيَّةٌ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أَيْ لا تسمع فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ كما قال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مَرْيَمَ: 62] وقال تعالى: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطَّوْرِ: 23] وَقَالَ تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: 25- 26] فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ أَيْ سَارِحَةٌ وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَيْنًا وَاحِدَةً وَإِنَّمَا هَذَا جِنْسٌ يَعْنِي فِيهَا عُيُونٌ جَارِيَاتٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرِئَ عَلَى الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْبَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفْجُرُ مِنْ تَحْتِ تِلَالِ- أَوْ مِنْ تَحْتِ جِبَالِ- الْمِسْكِ» فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أَيْ عَالِيَةٌ نَاعِمَةٌ كَثِيرَةُ الْفَرْشِ مُرْتَفِعَةُ السُّمْكِ عَلَيْهَا الْحُورُ الْعِينُ، قَالُوا فَإِذَا أَرَادَ وَلِيُ اللَّهِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى تِلْكَ السُّرُرِ الْعَالِيَةِ تَوَاضَعَتْ لَهُ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ يَعْنِي أَوَانِي الشُّرْبِ مُعَدَّةٌ مُرْصَدَةٌ لِمَنْ أرادها من أربابها.
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 88، في الترجمة.
(2) راجع الحاشية السابقة.(8/377)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّمَارِقُ الْوَسَائِدُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وغيرهم، وقوله تعالى: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الزَّرَابِيُّ الْبُسُطُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَمَعْنَى مَبْثُوثَةٍ أَيْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا لِمَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ عَلَيْهَا، وذكر هَاهُنَا هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ الْمُعَافِرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ مِنْ مُشَمِّرٍ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خطر لها «1» ، وهي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ، وَحَبْرَةٍ وَنَعْمَةٍ، فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قَالَ الْقَوْمُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ «2» ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ عَنِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ به.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ فَإِنَّهَا خَلْقٌ عَجِيبٌ وَتَرْكِيبُهَا غَرِيبٌ، فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَلِينُ لِلْحَمْلِ الثَّقِيلِ وَتَنْقَادُ لِلْقَائِدِ الضَّعِيفِ وَتُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِوَبَرِهَا وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَنُبِّهُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ كَانَتِ الْإِبِلُ، وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ! أَيْ كَيْفَ رَفَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْأَرْضِ هَذَا الرَّفْعَ الْعَظِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أَيْ جعلت منصوبة فإنها قَائِمَةً ثَابِتَةً رَاسِيَةً لِئَلَّا تَمِيدَ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَعَادِنِ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أَيْ كَيْفَ بُسِطَتْ وَمُدَّتْ وَمُهِّدَتْ، فَنَبَّهَ الْبَدَوِيَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ بَعِيرِهِ الَّذِي هُوَ رَاكِبٌ عَلَيْهِ وَالسَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَ رَأْسِهِ، وَالْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَهُ وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِ ذَلِكَ وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف، وَأَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، وَهَكَذَا أَقْسَمَ ضِمَامٌ فِي سُؤَالِهِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) لا خطر لها: أي لا مثل لها.
(2) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب 39. [.....](8/378)
كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ.
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: «صَدَقَ» قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟» قَالَ: «اللَّهُ» قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ:
«اللَّهُ» قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: «اللَّهُ» قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا؟ قَالَ: «صَدَقَ» قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: وزعم رسولك أن علينا زكاة أَمْوَالِنَا؟ قَالَ «صَدَقَ» قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟
قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: «صَدَقَ» قَالَ: ثُمَّ وَلَّى فَقَالَ: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» «2» .
وقد رواه مسلم عن عمر النَّاقِدِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ بِهِ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ بِهِ بِطُولِهِ وَقَالَ في آخره: وأنبأنا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَثِيرًا مَا كَانَ يُحَدِّثُ عَنِ امْرَأَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ مَعَهَا ابْنٌ صغير لَهَا تَرْعَى غَنَمًا، فَقَالَ لَهَا ابْنُهَا: يَا أُمَّهْ مَنْ خَلَقَكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ أَبِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَنِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْجَبَلَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْغَنَمَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: فَإِنِّي لَأَسْمَعُ لِلَّهِ شَأْنًا وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا هَذَا. قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا بِهَذَا، فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ الْمَدِينِيُّ ضَعَّفَهُ وَلَدُهُ الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ.
وقوله تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي فذكر يا محمد الناس بما
__________
(1) المسند 3/ 143، 193.
(2) أخرجه البخاري في العلم باب 6، ومسلم في الإيمان حديث 9، 10، والترمذي في الزكاة باب 2، والنسائي في الصيام باب 1.(8/379)
أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ولهذا قال: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] أي لست تخلق الإيمان في قلوبهم، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَسْتَ بِالَّذِي تُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ثُمَّ قَرَأَ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «1» وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ بِهِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُونِ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ أَيْ تَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِأَرْكَانِهِ وَكَفَرَ بِالْحَقِّ بِجِنَانِهِ وَلِسَانِهِ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الْقِيَامَةِ: 31- 32] وَلِهَذَا قَالَ:
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ مَرَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَلْيَنِ كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ» ، تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَعَلِيُّ بْنُ خَالِدٍ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مَا هَاهُنَا، رَوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وعنه سعيد بن أبي هلال، وقوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أَيْ: مَرْجِعَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ أَيْ نَحْنُ نُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنُجَازِيهِمْ بِهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْفَجْرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قال النسائي: أنبأنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْحَكَمِ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ صلاة، فجاء رجل فصلى معه، فطول
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 17، والاعتصام باب 28، ومسلم في الإيمان حديث 24، 26، والترمذي في الإيمان باب 1، وتفسير سورة 88، وابن ماجة في الفتن باب 1. وأحمد في المسند 1/ 11، 19، 36، 48، 2/ 314، 377، 423، 439، 475، 482، 502، 528، 3/ 295، 300، 332، 394، 5/ 246.
(2) المسند 5/ 258.(8/380)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ مُنَافِقٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ الْفَتَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: جِئْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَطَوَّلَ عَلَيَّ، فَانْصَرَفْتُ وَصَلَّيْتُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فعلفت ناقتي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1]- وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس: 1]- وَالْفَجْرِ- وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] » «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
أَمَّا الْفَجْرُ فَمَعْرُوفٌ وَهُوَ الصُّبْحُ، قَالَهُ عَلَيٌّ وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي، وعن مسروق ومحمد بن كعب ومجاهد: الْمُرَادُ بِهِ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً، وَهُوَ خَاتِمَةُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ الَّتِي تُفْعَلُ عِنْدَهُ كَمَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ النَّهَارِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْمُرَادُ بِهَا عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «2» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ:
«وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، حَكَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَحَدٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو كُدَيْنَةَ عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَيالٍ عَشْرٍ قَالَ: هُوَ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي خَيْرُ بْنُ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعُ يَوْمُ النَّحْرِ» ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدَةَ بن عبد الله، وكل مِنْهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ زيد بن الحباب به، وهذا إسناد
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 178، والنسائي في الإقامة باب 39، 41، والافتتاح باب 70.
(2) أخرجه البخاري في العيدين باب 11، وابن ماجة في الصيام باب 39.
(3) المسند 3/ 327.
(4) تفسير الطبري 12/ 562، 563.(8/381)
رِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ وَعِنْدِي أَنَّ الْمَتْنَ في رفعه نكارة والله أعلم.
وقوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ لِكَوْنِهِ التَّاسِعَ، وَأَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ لِكَوْنِهِ الْعَاشِرَ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا [قَوْلٌ ثَانٍ] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ وَاصِلِ بْنِ السائب قال:
سألت عطاء عن قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قُلْتُ: صَلَاتُنَا وِتْرَنَا هَذَا؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْوَتْرَ لَيْلَةُ الْأَضْحَى [قَوْلٌ ثَالِثٌ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ النُّعْمَانِ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنِي بِمَكَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، فَقَالَ: الشفع قول اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203] والوتر قوله تعالى: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 203] وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُرْتَفِعِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: الشَّفْعُ أَوْسَطُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالْوَتْرُ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» «1» .
[قَوْلٌ رَابِعٌ] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ شَفْعٌ وَوِتْرٌ أَقْسَمَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَالَ: اللَّهُ وِتْرٌ وَاحِدٌ، وَأَنْتُمْ شَفْعٌ، وَيُقَالُ الشَّفْعُ صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْوَتْرُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ.
[قَوْلٌ خَامِسٌ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَالَ: الشَّفْعُ الزَّوْجُ، وَالْوَتْرُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُجَاهِدٍ: اللَّهُ الْوَتْرُ وَخَلْقُهُ الشَّفْعُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ شَفْعٌ. السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَنَحْوُ هَذَا، وَنَحَا مُجَاهِدٌ فِي هَذَا مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذَّارِيَاتِ: 49] أَيْ لِتَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ [قَوْلٌ سَادِسٌ] قَالَ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ هُوَ الْعَدَدُ مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وَتْرٌ.
[قَوْلٌ سَابِعٌ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ] رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطَوَانِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ أَخْبَرَنِي عَيَّاشُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي خَيْرُ بْنُ نُعَيْمٍ عن أبي
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات باب 69، ومسلم في الذكر حديث 5، 6، وأبو داود في الوتر باب 1، والترمذي في الوتر باب 2، والنسائي في قيام الليل باب 27، وابن ماجة في الإقامة باب 114.(8/382)
الزبير عن جابر أن رسول الله قَالَ: «الشَّفْعُ الْيَوْمَانِ وَالْوَتَرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ» هَكَذَا وَرَدَ هَذَا الْخَبَرُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّفْظِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَمَا رَوَاهُ هُوَ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ الصَّلَاةُ مِنْهَا شَفْعٌ كَالرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّنَائِيَّةِ، وَمِنْهَا وَتْرٌ كَالْمَغْرِبِ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ وَهِيَ وَتْرُ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْوِتْرِ فِي آخِرِ التَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَالَ هِيَ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَمَوْقُوفٌ وَلَفْظُهُ خَاصٌّ بِالْمَكْتُوبَةِ وَقَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ عَامٌّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ أَنَّ شَيْخًا حَدَّثَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ: «هِيَ الصَّلَاةُ بَعْضُهَا شَفْعٌ وَبَعْضُهَا وَتْرٌ» هَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُسْنَدِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنِ عَفَّانَ وَعَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وكلاهما عَنْ هَمَّامٍ، وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ، عَنْ شَيْخٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ «2» عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَأَبِي دَاوُدَ، كِلَاهُمَا عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ عَنْ عِمْرَانَ نَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قُلْتُ) : وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَّامُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ الضُّبَعِيِّ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ، هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَجَعَلَ الشَّيْخَ الْبَصْرِيَّ هُوَ عِمْرَانَ بْنَ عصام.
وهكذا رواه ابن جرير «3» : أخبرنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَالَ: «هِيَ الصَّلَاةُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ» فَأَسْقَطَ ذِكْرَ الشَّيْخِ الْمُبْهَمِ، وَتَفَرَّدَ بِهِ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الضُّبَعِيُّ أَبُو عُمَارَةَ الْبَصْرِيُّ إِمَامُ مَسْجِدِ بَنِي ضُبَيْعَةَ. وَهُوَ وَالِدُ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ، رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ وَابْنُهُ أَبُو جَمْرَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ، وَذَكَرَهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ في التابعين من أهل
__________
(1) المسند 4/ 437.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 89، باب 1.
(3) تفسير الطبري 12/ 563.(8/383)
الْبَصْرَةِ، وَكَانَ شَرِيفًا نَبِيلًا حَظِيًّا عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، ثُمَّ قَتَلَهُ يَوْمَ الزَّاوِيَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ لِخُرُوجِهِ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَعِنْدِي أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يَجْزِمِ ابْنُ جَرِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ.
وقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ إِذَا ذَهَبَ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ حَتَّى يُذْهِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَابْنِ زَيْدٍ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ إِذَا سَارَ، وَهَذَا يُمْكِنُ حمله على ما قال ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ ذَهَبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِذَا سَارَ أَيْ أَقْبَلَ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ هَذَا أَنْسَبُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَالْفَجْرِ فَإِنَّ الْفَجْرَ هُوَ إِقْبَالُ النَّهَارِ وَإِدْبَارُ اللَّيْلِ، فَإِذَا حُمِلَ قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ عَلَى إِقْبَالِهِ كَانَ قَسَمًا بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِ النَّهَارِ وَبِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التَّكْوِيرِ: 17- 18] وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أَيْ يَجْرِي، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قَالَ: اسْرِ يَا سَارِ وَلَا تبيتن إلا بجمع، وقوله تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أَيْ لذي عقل ولب ودين وحجا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمِنْهُ حِجْرُ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الطَّائِفَ مِنَ اللُّصُوقِ بِجِدَارِهِ الشَّامِيِّ، وَمِنْهُ حِجْرُ الْيَمَامَةِ، وَحَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا مَنَعَهُ التَّصَرُّفَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفُرْقَانِ:
22] كُلُّ هَذَا مِنْ قَبِيلٍ وَاحِدٍ، وَمَعْنًى مُتَقَارِبٍ، وَهَذَا الْقَسَمُ هُوَ بِأَوْقَاتِ الْعِبَادَةِ وَبِنَفْسِ الْعِبَادَةِ مِنْ حَجٍّ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ عِبَادُهُ الْمُتَّقُونَ الْمُطِيعُونَ لَهُ، الخائفون منه المتواضعون لديه الخاضعون لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ وَعِبَادَتَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ قَالَ بَعْدَهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُتَمَرِّدِينَ عُتَاةً جَبَّارِينَ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ مُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ جَاحِدِينَ لِكُتُبِهِ، فَذَكَرَ تَعَالَى كَيْفَ أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَحَادِيثَ وَعِبَرًا فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ وَهَؤُلَاءِ عَادٌ الْأَوْلَى وَهُمْ أَوْلَادُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ عَوْصَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولَهُ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَمَنْ آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 7- 10] وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ لِيَعْتَبِرَ بِمَصْرَعِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ عَطْفُ بيان زيادة تعريف بهم.(8/384)
وقوله تعالى: ذاتِ الْعِمادِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ بُيُوتَ الشَّعْرِ الَّتِي تُرْفَعُ بِالْأَعْمِدَةِ الشِّدَادِ وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ خِلْقَةً وَأَقْوَاهُمْ بَطْشًا، وَلِهَذَا ذَكَّرَهُمْ هُودٌ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ فَقَالَ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ... فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فُصِّلَتْ: 15] وَقَالَ هَاهُنَا: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أَيِ الْقَبِيلَةُ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْ مِثْلَهَا فِي بِلَادِهِمْ لِقُوَّتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ وَعِظَمِ تَرْكِيبِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِرَمَ، أُمَّةٌ قَدِيمَةٌ يَعْنِي عَادًا الْأُولَى، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّ إِرَمَ بَيْتُ مملكة عاد، وهذا قول حسن جيد وقوي، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: ذاتِ الْعِمادِ كانوا أهل عمد لَا يُقِيمُونَ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ ذاتِ الْعِمادِ لِطُولِهِمْ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَرَدَّ الثَّانِي فَأَصَابَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أَعَادَ ابْنُ زَيْدٍ الضَّمِيرَ عَلَى الْعِمَادِ لِارْتِفَاعِهَا وَقَالَ: بَنَوْا عُمُدًا بِالْأَحْقَافِ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَأَمَّا قَتَادَةُ وَابْنُ جَرِيرٍ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْقَبِيلَةِ أَيْ لَمْ يَخْلُقْ مِثْلَ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ فِي الْبِلَادِ يَعْنِي فِي زَمَانِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ الَّتِي لَمْ يُعْمَلْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَإِنَّمَا قَالَ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتَبِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ الْمِقْدَامِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ فَقَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ منهم يأتي على الصخرة فَيَحْمِلُهَا عَلَى الْحَيِّ فَيُهْلِكُهُمْ» ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ كِتَابًا وقد سَمَّى حَيْثُ قَرَأَهُ أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ وَأَنَا الَّذِي رَفَعْتُ الْعِمَادَ وَأَنَا الَّذِي شَدَدْتُ بِذِرَاعِي نَظَرَ وَاحِدٍ وَأَنَا الَّذِي كَنَزْتُ كَنْزًا عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(قُلْتُ) : فَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِمَادُ أَبْنِيَةً بَنَوْهَا أَوْ أَعْمِدَةَ بُيُوتِهِمْ لِلْبَدْوِ أَوْ سِلَاحًا يُقَاتِلُونَ بِهِ أَوْ طُولَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، فَهُمْ قَبِيلَةٌ وَأُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ الْمَقْرُونُونَ بِثَمُودَ كَمَا هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مَدِينَةٌ إِمَّا دِمَشْقُ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعِكْرِمَةَ، أَوِ إِسْكَنْدَرِيَّةُ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْقُرَظِيِّ أَوْ غَيْرُهُمَا فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَلْتَئِمُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ إِنْ جَعَلَ ذَلِكَ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَّسِقُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ، ثُمَّ الْمُرَادُ إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِهْلَاكِ الْقَبِيلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِعَادٍ(8/385)
وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ بَأْسِهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ مَدِينَةٍ أَوْ إِقْلِيمٍ.
وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِكَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قُصُورُهَا وَدَوْرُهَا وَبَسَاتِينُهَا، وَإِنَّ حَصْبَاءَهَا لَآلِئٌ وَجَوَاهِرُ وَتُرَابُهَا بَنَادِقُ الْمِسْكِ وَأَنْهَارُهَا سَارِحَةٌ وَثِمَارُهَا سَاقِطَةٌ، وَدُورُهَا لَا أَنِيسَ بِهَا وَسُورُهَا وَأَبْوَابُهَا تَصْفَرُّ لَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ فَتَارَةٌ تَكُونُ بِأَرْضِ الشَّامِ وَتَارَةٌ بِالْيَمَنِ وَتَارَةٌ بِالْعِرَاقِ وَتَارَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ خُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ مِنْ وَضْعِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ لِيَخْتَبِرُوا بِذَلِكَ عُقُولَ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ أَنْ تُصَدِّقَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلَابَةَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ ذَهَبَ فِي طَلَبِ أَبَاعِرَ لَهُ شَرَدَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتِيهُ فِي ابْتِغَائِهَا إِذْ اطلع عَلَى مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ لَهَا سُورٌ وَأَبْوَابٌ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدِينَةِ الذَّهَبِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَأَنَّهُ رَجَعَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ فَذَهَبُوا مَعَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قَالَ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قِصَّةَ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ هَاهُنَا مُطَوَّلَةً جِدًّا فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَيْسَ يَصِحُّ إِسْنَادُهَا، وَلَوْ صَحَّ إِلَى ذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ فَقَدْ يَكُونُ اخْتَلَقَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ أَصَابَهُ نَوْعٌ مِنَ الْهَوَسِ وَالْخَبَالِ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالطَّامِعِينَ وَالْمُتَحَيِّلِينَ مِنْ وُجُودِ مَطَالِبَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فِيهَا قَنَاطِيرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وألوان الجواهر واليواقيت واللئالئ وَالْإِكْسِيرِ الْكَبِيرِ، لَكِنْ عَلَيْهَا مَوَانِعُ تَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالْأَخْذِ مِنْهَا، فَيَحْتَالُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَالضَّعَفَةِ وَالسُّفَهَاءِ فَيَأْكُلُونَهَا بِالْبَاطِلِ فِي صَرْفِهَا فِي بَخَاخِيرَ وَعَقَاقِيرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ وَيَطْنِزُونَ بِهِمْ، وَالَّذِي يُجْزَمُ بِهِ أَنَّ فِي الْأَرْضِ دَفَائِنَ جَاهِلِيَّةً وَإِسْلَامِيَّةً وَكُنُوزًا كَثِيرَةً مَنْ ظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَمْكَنَهُ تَحْوِيلُهُ، فَأَمَّا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي زَعَمُوهَا فَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ وَبُهْتٌ وَلَمْ يصح في ذلك شيء مما يقولونه إِلَّا عَنْ نَقْلِهِمْ أَوْ نَقْلِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْهَادِي لِلصَّوَابِ.
وَقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ «1» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِرَمَ قَبِيلَةً أَوْ بَلْدَةً كَانَتْ عَادٌ تَسْكُنُهَا فَلِذَلِكَ لَمْ تُصْرَفْ، فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقَبِيلَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ:
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ يَعْنِي يَقْطَعُونَ الصَّخْرَ بِالْوَادِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْحِتُونَهَا وَيَخْرِقُونَهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمِنْهُ يُقَالُ مُجْتَابِي النِّمَارَ إِذَا خَرَقُوهَا، وَاجْتَابَ الثَّوْبَ إِذَا فَتَحَهُ وَمِنْهُ الْجَيْبُ أَيْضًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشُّعَرَاءِ: 149] ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر: [الطويل]
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 566.(8/386)
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَائِدٌ ... كَمَا بَادَ حَيٌّ مِنْ شَنِيفٍ وَمَارِدِ «1»
هُمْ ضَرَبُوا فِي كُلِ صَمَّاءَ صَعْدَةً ... بِأَيْدٍ شِدَادٍ أَيَّدَاتِ السَّوَاعِدِ
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا عَرَبًا وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ عَادٍ مُسْتَقْصَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عن إعادته.
وقوله تعالى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَوْتَادُ الْجُنُودُ الَّذِينَ يَشُدُّونَ لَهُ أَمْرَهُ، وَيُقَالُ كَانَ فِرْعَوْنُ يُوتِدُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ فِي أَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ يُعَلِّقُهُمْ بِهَا «2» ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ يُوتِدُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ، وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ. قَالَ السُّدِّيُّ: كان يربط الرجل في كُلُّ قَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِهِ فِي وَتَدٍ ثُمَّ يُرْسِلُ عَلَيْهِ صَخْرَةً عَظِيمَةً فَتَشْدَخُهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بلغنا أنه كان لَهُ مَطَالٌّ وَمَلَاعِبٌ يَلْعَبُ لَهُ تَحْتَهَا مِنْ أَوْتَادٍ وَحِبَالٍ، وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ: قِيلَ لِفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ لِأَنَّهُ ضَرَبَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رحى عظيمة حتى ماتت.
وقوله تعالى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أَيْ تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ بِالْإِفْسَادِ وَالْأَذِيَّةِ لِلنَّاسِ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ وَأَحَلَّ بِهِمْ عُقُوبَةً، لَا يَرُدُّهَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْمَعُ وَيَرَى يَعْنِي يَرْصُدُ خَلْقَهُ فِيمَا يَعْمَلُونَ وَيُجَازِي كلا بسعيه في الدنيا والآخرة، وَسَيُعْرَضُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ ويقال كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ الظُّلْمِ الجور. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَفِي صِحَّتِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْبَيْسَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَدَى الْحَقِّ أَسِيرٌ، يَا مُعَاذُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْكُنُ رَوْعُهُ وَلَا يَأْمَنُ اضْطِرَابُهُ حَتَّى يُخَلَّفَ جِسْرَ جَهَنَّمَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، يَا مُعَاذُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَيَّدَهُ الْقُرْآنُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَعَنْ أَنْ يَهْلَكَ فِيهَا هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَالْقُرْآنُ دَلِيلُهُ، وَالْخَوْفُ مَحَجَّتُهُ، وَالشَّوْقُ مَطِيَّتُهُ، وَالصَّلَاةُ كَهْفُهُ، وَالصَّوْمُ جَنَّتُهُ، وَالصَّدَقَةُ فِكَاكُهُ، وَالصِّدْقُ أَمِيرُهُ، وَالْحَيَاءُ وَزِيرُهُ، وَرَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمِرْصَادِ» .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يُونُسُ الْحَذَّاءُ وَأَبُو حَمْزَةَ مَجْهُولَانِ وَأَبُو حَمْزَةَ عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلٌ. وَلَوْ كَانَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ لَكَانَ حَسَنًا أَيْ لَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ لَكَانَ حَسَنًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حدثنا
__________
(1) البيتان بلا نسبة في تفسير الطبري 12/ 571، وفي التفسير «من شنيق» بدل «من شنيف» ، و «كل صلاء» بدل «كل صمّاء» . [.....]
(2) انظر تفسير الطبري 12/ 570.(8/387)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
أَبِي، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَيْفَعَ عن ابن عَبْدٍ الْكُلَاعِيِّ أَنَّهُ سَمِعَهُ وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ يَقُولُ: إِنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَ قَنَاطِرَ قَالَ: وَالصِّرَاطُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ:
فَيَحْبِسُ الْخَلَائِقَ عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ الْأُولَى فيقول قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قَالَ: فَيُحَاسَبُونَ عَلَى الصَّلَاةِ وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا، قَالَ: فَيَهْلِكُ فِيهَا مَنْ هَلَكَ وَيَنْجُو مَنْ نَجَا، فَإِذَا بَلَغُوا الْقَنْطَرَةَ الثَّانِيَةَ حُوسِبُوا عَلَى الْأَمَانَةِ كَيْفَ أَدَّوْهَا وَكَيْفَ خَانُوهَا، قَالَ: فَيَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ وَيَنْجُو مَنْ نَجَا، فَإِذَا بَلَغُوا الْقَنْطَرَةَ الثَّالِثَةَ سُئِلُوا عَنِ الرَّحِمِ كَيْفَ وَصَلُوهَا وَكَيْفَ قَطَعُوهَا، قَالَ: فَيَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ وَيَنْجُو مَنْ نَجَا، قَالَ: وَالرَّحِمُ يَوْمَئِذٍ مُتَدَلِّيَةٌ إِلَى الْهُوِيِّ فِي جَهَنَّمَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ مَنْ وَصَلَنِي فَصِلْهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ، قَالَ: وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ هَكَذَا أورد هذا الأثر ولم يذكر تمامه.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 20]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي اعْتِقَادِهِ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ لِيَخْتَبِرَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِكْرَامٌ لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ:
55- 56] وَكَذَلِكَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَامْتَحَنَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِهَانَةٌ لَهُ. قَالَ الله تعالى: كَلَّا أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ: إِذَا كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ فقيرا بأن يصبر.
وقوله تعالى: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ فِيهِ أَمْرٌ بِالْإِكْرَامِ لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عن يزيد بْنِ أَبِي عَتَّابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ- ثُمَّ قَالَ بِأُصْبُعِهِ- أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ، حَدَّثَنِي أبي عن سهل يعني ابن سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ يَعْنِي لَا يَأْمُرُونَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَيُحِثُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ
__________
(1) كتاب الأدب باب 123.(8/388)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
يَعْنِي الْمِيرَاثَ أَكْلًا لَمًّا أَيْ مِنْ أَيِّ جهة حصل لهم ذلك مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي كثيرا، زاد بعضهم فاحشا.
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 30]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ، فَقَالَ تعالى: كَلَّا أَيْ حَقًّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أَيْ وُطِئَتْ وَمُهِّدَتْ وَسُوِّيَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَقَامَ الْخَلَائِقُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّهِمْ وَجاءَ رَبُّكَ يَعْنِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَسْتَشْفِعُونَ إِلَيْهِ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ عَلَى الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه، بعد ما يَسْأَلُونَ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَاكُمْ حَتَّى تَنْتَهِيَ النَّوْبَةُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: «أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا» فَيَذْهَبُ فيشفع عند الله تعالى فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ تعالى فِي ذَلِكَ.
وَهِيَ أَوَّلُ الشَّفَاعَاتِ وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، فيجيء الرب تبارك وتعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» «1» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَوْلُهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عبد الله قوله.
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أَيْ عَمَلَهُ وَمَا كَانَ أَسْلَفَهُ فِي قَدِيمِ دَهْرِهِ وَحَدِيثِهِ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي وكيف تنفعه الذكرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي يَعْنِي يَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي إِنْ كَانَ عَاصِيًا وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ ازْدَادَ مِنَ الطَّاعَاتِ إِنْ كَانَ طَائِعًا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «2» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَوْ أَنَّ عَبْدًا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى أَنْ يموت هرما في طاعة الله
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنة حديث 29، والترمذي في جهنم باب 1.
(2) المسند 4/ 185.(8/389)
لحقره يوم القيامة، ولودّ أنه رد إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
وَرَوَاهُ بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عن عتبة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ تَعْذِيبِ اللَّهِ مَنْ عَصَاهُ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أَيْ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ قَبْضًا وَوَثْقًا مِنَ الزَّبَانِيَةِ لِمَنْ كَفَرَ بِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وهذا فِي حَقِّ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَالظَّالِمِينَ، فَأَمَّا النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَهِيَ السَّاكِنَةُ الثَّابِتَةُ الدَّائِرَةُ مَعَ الْحَقِّ فَيُقَالُ لَهَا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أَيْ إِلَى جِوَارِهِ وَثَوَابِهِ وَمَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ فِي جَنَّتِهِ راضِيَةً أَيْ فِي نَفْسِهَا مَرْضِيَّةً أَيْ قَدْ رَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا فَادْخُلِي فِي عِبادِي أَيْ فِي جُمْلَتِهِمْ وَادْخُلِي جَنَّتِي وَهَذَا يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ احتضاره وعند قيامه من قبره، فكذلك هَاهُنَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَيَمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُقَالُ لِلْأَرْوَاحِ الْمُطْمَئِنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ يَعْنِي صَاحِبُكِ وَهُوَ بَدَنُهَا الَّذِي كَانَتْ تُعَمِّرُهُ فِي الدُّنْيَا راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا فَادْخُلِي فِي عَبْدِي وَادْخُلِي جَنَّتِي وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ غريب، والظاهر الأول لقوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 62] وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ [غَافِرٍ: 43] أَيْ إِلَى حُكْمِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً قَالَ: نَزَلَتْ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ سَيُقَالُ لَكَ هَذَا» ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ هذا لحسن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُ لَكَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ يَمَانٍ بِهِ وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الْجَزَرِيُّ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَجَاءَ طير لم ير على خلقته فَدَخَلَ نَعْشَهُ ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى شَفِيرِ القبر لا يدري من تلاها
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 581.(8/390)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ورواه الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَجْلَانَ الْأَفْطَسِ بِهِ فَذَكَرَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْهَرَوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِشُكْرٍ فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ بِسَنَدِهِ عَنْ قُبَاثِ بْنِ رَزِينٍ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ: أُسِرْتُ فِي بِلَادِ الرُّومِ فَجَمَعَنَا الْمَلِكُ وَعَرَضَ عَلَيْنَا دِينَهُ عَلَى أَنَّ مَنِ امْتَنَعَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَارْتَدَّ ثَلَاثَةٌ وَجَاءَ الرَّابِعُ فَامْتَنَعَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ رَأْسُهُ فِي نَهْرٍ هُنَاكَ فَرَسَبَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ طَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَنَظَرَ إِلَى أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: يَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ثُمَّ غَاصَ فِي الْمَاءِ، قَالَ فَكَادَتِ النَّصَارَى أَنْ يُسْلِمُوا وَوَقَعَ سَرِيرُ الْمَلِكِ وَرَجَعَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ وَجَاءَ الْفِدَاءُ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فَخَلَّصَنَا.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ رَوَاحَةَ بِنْتِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهَا حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَفْسًا بِكَ مُطَمْئِنَةً تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ» ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ وبر أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ رَوَاحَةَ هَذَا وَاحِدُ أُمِّهِ، آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَجْرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْبَلَدِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
هذا قسم من الله تبارك وتعالى بِمَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فِي حَالِ كَوْنِ السَّاكِنِ فِيهَا حَالًا لِيُنَبِّهَ عَلَى عَظَمَةِ قَدْرِهَا فِي حَالِ إِحْرَامِ أَهْلِهَا، قَالَ خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ لَا رَدَّ عَلَيْهِمْ. أَقْسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ(8/391)
يَعْنِي مَكَّةَ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُقَابِلَ بِهِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَعَطِيَّةَ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَا أَصَبْتَ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ لَكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ: أَنْتَ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا إِثْمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قالوه وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ. «إِنَّ هذا البلد حرم اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ «1» ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم» «2» .
وقوله تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ خَصِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ الْوَالِدُ الَّذِي يَلِدُ وَمَا وَلَدَ الْعَاقِرُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي بِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْوَالِدُ الْعَاقِرُ وَمَا وَلَدَ الَّذِي يَلِدُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَخُصَيْفٌ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمْ: يَعْنِي بِالْوَالِدِ آدَمَ وَمَا وَلَدَ وَلَدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَأَصْحَابُهُ حَسَنٌ قَوِيٌّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِأُمِّ الْقُرَى وهي أم الْمَسَاكِنُ أَقْسَمَ بَعْدَهُ بِالسَّاكِنِ وَهُوَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ وَوَلَدُهُ، وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَذُرِّيَّتُهُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَخَيْثَمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ يَعْنِي مُنْتَصِبًا، زَادَ ابن عباس في رواية عنه منتصبا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْكَبَدُ الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَمَعْنَى هذا القول لقد خلقناه سويا مستقيما كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ [الِانْفِطَارِ: 6- 7] وَكَقَوْلِهِ تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّينِ: 4] وقال ابن جُرَيْجٍ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كَبَدٍ قَالَ فِي شِدَّةِ خَلْقٍ أَلَمْ تَرَ إِلَيْهِ وذكر مولده ونبات أسنانه، وقال مُجَاهِدٌ فِي كَبَدٍ نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ ثُمَّ مُضْغَةٌ يَتَكَبَّدُ فِي الْخَلْقِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كقوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَأَرْضَعَتْهُ كُرْهًا ومعيشته كره فهو يكابد ذلك.
__________
(1) لا يختلى خلاه: أي لا يقطع شجرة، والخلا: النبت الرطب.
(2) أخرجه البخاري في العلم باب 39، ومسلم في الحج حديث 445، 447، 464.
(3) تفسير الطبري 12/ 586.(8/392)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ فِي شِدَّةٍ وَطَلَبِ مَعِيشَةٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
فِي شِدَّةٍ وَطُولٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي مَشَقَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ سَأَلَ رَجُلًا مَنِ الْأَنْصَارِ عن قول الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: فِي قِيَامِهِ وَاعْتِدَالِهِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَوْدُودٍ سَمِعْتُ الْحَسَنَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: يُكَابِدُ أَمْرًا مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَأَمْرًا مَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُكَابِدُ مَضَايِقَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الْآخِرَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: آدَمُ خُلِقَ فِي السَّمَاءِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْكَبَدُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُكَابَدَةُ الْأُمُورِ ومشاقها.
وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَأْخُذُ مَالَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ: ابْنُ آدَمَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يُسْأَلَ عَنْ هَذَا الْمَالِ مَنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قال الله عز وجل، وقوله تعالى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً أَيْ يَقُولُ ابْنُ آدَمَ أَنْفَقْتُ مَالًا لُبَدًا أَيْ كَثِيرًا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَا قال غيره من السلف: وقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ أَيْ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِساناً أَيْ يَنْطِقُ بِهِ فَيُعَبِّرُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَشَفَتَيْنِ يَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْكَلَامِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَجَمَالًا لِوَجْهِهِ وَفَمِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الرَّبِيعِ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ نِعَمًا عِظَامًا لَا تُحْصِي عَدَدَهَا وَلَا تُطِيقُ شُكْرَهَا، وَإِنَّ مِمَّا أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ جَعَلْتُ لَكَ عَيْنَيْنِ تَنْظُرُ بِهِمَا وَجَعَلْتُ لَهُمَا غِطَاءً، فَانْظُرْ بِعَيْنَيْكَ إِلَى مَا أَحْلَلْتُ لَكَ، وَإِنْ رَأَيْتَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَطْبِقْ عَلَيْهِمَا غِطَاءَهُمَا، وَجَعَلْتُ لَكَ لِسَانًا وَجَعَلْتُ لَهُ غُلَافًا فَانْطِقْ بِمَا أَمَرْتُكَ وَأَحْلَلْتُ لك، فإن عرض عليك مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَغْلِقْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ. وَجَعَلْتُ لَكَ فَرْجًا وَجَعَلْتُ لَكَ سِتْرًا، فَأَصِبْ بِفَرْجِكَ ما أحللت لك، فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك، ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَا تَحْمِلُ سُخْطِي وَلَا تطيق انتقامي» .
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ الطريقين قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي وَائِلٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي آخَرِينَ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمَا نَجْدَانِ فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» تَفَرَّدَ بِهِ سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُقَالُ سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ(8/393)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وَالْجُوزَجَانِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: تَرَكْتُ حَدِيثَهُ لِاضْطِرَابِهِ، وَرَوَى خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مُنْكَرَةً كُلَّهَا مَا أَعْرِفُ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا يُشْبِهُ حَدِيثُهُ حَدِيثَ الْحَسَنِ- يَعْنِي الْبَصْرِيَّ- لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ أَنَسٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا النَّجْدَانِ نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» وَكَذَا رواه حبيب ابن الشهيد ومعمر وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَأَبُو وَهْبٍ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، وَهَكَذَا أَرْسَلَهُ قَتَادَةُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أبو أحمد الزبيري حدثنا عيسى بن عفان عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ الثَّدْيَيْنِ، وَرُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي حَازِمٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ وكيع عن عيسى بن عفان بِهِ ثُمَّ قَالَ:
وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَنَظِيرُ هذه الآية قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 2- 3] .
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي عطية عن ابن عمر في قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ أي دخل الْعَقَبَةَ قَالَ:
جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ هُوَ سَبْعُونَ دَرَجَةً فِي جَهَنَّمَ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قَالَ عَقَبَةٌ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ثُمَّ أخبر تعالى عَنِ اقْتِحَامِهَا فَقَالَ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ وقال ابن زيد فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيْ أَفَلَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الَّتِي فيها النجاة والخير ثم بينها فقال تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ قُرِئَ فَكُّ رَقَبَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَقُرِئَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَفِيهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَالرَّقَبَةُ مَفْعُولُهُ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هريرة يقول: قال
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 592.
(2) تفسير الطبري 12/ 592.
(3) المسند 2/ 422.(8/394)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إرب- أي عضو- مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْتِقُ بِالْيَدِ الْيَدَ وَبِالرِّجْلِ الرِّجْلَ وَبِالْفَرْجِ الْفَرْجَ» «1» .
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: نَعَمْ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لِغُلَامٍ لَهُ أَفْرَهَ غِلْمَانِهِ: ادْعُ مُطَرِّفًا، فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَاهُ البخاري، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ بِهِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ الَّذِي أَعْتَقَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ فِيهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ وَفَاءَ كل عظم من عظامه عظما من عظامه محررا من النار، وأيما امرأة أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ وَفَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهَا مِنَ النَّارِ» رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» هَكَذَا وَأَبُو نَجِيحٍ هَذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْسَةَ السُّلَمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا حيوة بن شريح، حدثنا بقية حدثني بُجَيْرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنِ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسَلِمَةً كَانَتْ فِدْيَتَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا حَرِيزٌ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ أَنْ شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ تَزَيُّدٌ وَلَا نِسْيَانٌ. قَالَ عَمْرٍو:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ عُضْوًا بِعُضْوٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فَبَلَغَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ كَانَ كَمُعْتِقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ» «5» وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بَعْضَهُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ، حَدَّثَنَا لُقْمَانُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ، قَالَ السُّلَمِيُّ: قُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِ انْتِقَاصٌ وَلَا وَهْمٌ، قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كانت له نورا
__________
(1) أخرجه مسلم في الكفارات باب 6، ومسلم في العتق حديث 22، 23، والترمذي في النذور باب 14.
(2) تفسير الطبري 12/ 593.
(3) المسند 4/ 386. [.....]
(4) المسند 4/ 113.
(5) أخرجه أبو داود في العتاق باب 14، والترمذي في النذور باب 20، وابن ماجة في العتق باب 4.
(6) المسند 4/ 386.(8/395)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلَغَ بِهِ الْعَدُّوَ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ كَانَ لَهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ يُدْخِلُهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ مِنْهَا» وَهَذِهِ أسانيد جيدة قوية، ولله الحمد.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَبُو دَاوُدَ «1» : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ عَنِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنِ الْغَرِيفِ بْنِ عَيَّاشٍ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، فَغَضِبَ وَقَالَ: إِنْ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قُلْنَا:
إِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ يَعْنِي النَّارَ بِالْقَتْلِ فَقَالَ: «أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ» ، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنِ الْغَرِيفِ بْنِ عَيَّاشٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ وَاثِلَةَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مُسْلِمَةٍ فَهُوَ فِدَاؤُهُ مِنَ النَّارِ» ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْخَفَّافُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ قَيْسًا الْجُذَامِيَّ حَدَّثَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَهِيَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ «3» مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو أَحْمَدَ قَالَا: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجَلِيُّ مَنْ بَنِي بَجِيلَةَ مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنُ مُصَرِّفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أو ليستا بِوَاحِدَةٍ، قَالَ: «لَا إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا، وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ «5» ، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا من الخير» .
وقوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذِي مَجَاعَةٍ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَالسَّغَبُ هُوَ الجوع، وقال إبراهيم النخعي: في يوم
__________
(1) كتاب العتاق باب 13.
(2) المسند 4/ 150.
(3) المسند 4/ 147.
(4) المسند 4/ 299.
(5) المنحة الوكوف: غزيرة اللبيب.(8/396)
الطَّعَامُ فِيهِ عَزِيزٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي يَوْمٍ مشتهى فيه الطعام «1» .
وقوله تعالى: يَتِيماً أَيْ أَطْعِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَيْ ذَا قَرَابَةٍ مِنْهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ «2» أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ حَفْصَةَ بنت سيرين عن سلمان بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» «3» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ أَيْ فَقِيرًا مُدْقِعًا لَاصِقًا بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الدَّقْعَاءُ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَا مَتْرَبَةٍ هُوَ الْمَطْرُوحُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ وَلَا شَيْءَ يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ هُوَ الَّذِي لَصِقَ بِالدَّقْعَاءِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: هُوَ الْبَعِيدُ التُّرْبَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يَعْنِي الْغَرِيبَ عَنْ وَطَنِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْفَقِيرُ الْمَدْيُونُ الْمُحْتَاجُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، هُوَ الَّذِي لَا أَحَدَ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُوَ ذُو الْعِيَالِ، وَكُلُّ هَذِهِ قريبة المعنى.
وقوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ الطَّاهِرَةِ مُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ مُحْتَسِبٌ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] وقال تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل: 97] الآية.
وقوله تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أَيْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ صَالِحًا «الْمُتَوَاصِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاسِ وَعَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي الحديث الشريف الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» «4» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» «5» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ ابْنِ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَرْوِيهِ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا» «6» .
وَقَوْلُهُ تعالى أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ من أصحاب اليمين.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 595.
(2) المسند 4/ 214.
(3) أخرجه الترمذي في الزكاة باب 26، والنسائي في الزكاة باب 22، 82، وابن ماجة في الزكاة باب 28.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب باب 58، والترمذي في البر باب 16.
(5) أخرجه البخاري في التوحيد باب 2، ومسلم في الفضائل حديث 66، والترمذي في البر باب 16، والزهد باب 48، وأحمد في المسند 3/ 40.
(6) أخرجه أبو داود في الأدب باب 58. [.....](8/397)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أَيْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أَيْ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا! قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ مُؤْصَدَةٌ أَيْ مُطْبَقَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُغْلَقَةُ الْأَبْوَابِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَصَدَ الْبَابَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ أَيْ أَغْلَقَهُ وَسَيَأْتِي فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي سُورَةِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ مُؤْصَدَةٌ حَيْطٌ لَا بَابَ لَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ مُؤْصَدَةٌ مُطْبِقَةٌ فَلَا ضَوْءَ فِيهَا وَلَا فُرَجَ وَلَا خُرُوجَ مِنْهَا آخِرَ الْأَبَدِ، وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ بِكُلِّ جَبَّارٍ وَكُلِّ شَيْطَانٍ وَكُلِّ مَنْ كَانَ يَخَافُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا شره، فأوثقوا بالحديد ثُمَّ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ أَوْصَدُوهَا عَلَيْهِمْ أَيْ أَطْبَقُوهَا، قَالَ: فَلَا وَاللَّهِ لَا تَسْتَقِرُّ أَقْدَامُهُمْ عَلَى قَرَارٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى أَدِيمِ سَمَاءٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا تَلْتَقِي جُفُونُ أَعْيُنِهِمْ عَلَى غَمْضِ نَوْمٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَارِدَ شَرَابٍ أَبَدًا، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَلَدِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
تفسير
سورة الشمس
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ: «هَلَّا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؟» «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّمْسِ وَضُحاها أَيْ وَضَوْئِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَضُحاها النَّهَارُ كُلُّهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالشَّمْسِ وَنَهَارِهَا لِأَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ الظَّاهِرَ هُوَ النَّهَارُ وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها قَالَ مُجَاهِدٌ: تَبِعَهَا، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها قَالَ:
يَتْلُو النَّهَارَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذا تَلاها لَيْلَةَ الْهِلَالِ إِذَا سَقَطَتِ الشَّمْسُ رُؤِيَ الْهِلَالُ، وَقَالَ ابن
__________
(1) تقدم الحديث في كثير من السور التي قبل.
(2) تفسير الطبري 12/ 599.(8/398)
زَيْدٍ، هُوَ يَتْلُوهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ ثُمَّ هِيَ تَتْلُوهُ وَهُوَ يَتَقَدَّمُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِذَا تَلَاهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ. وقوله تعالى: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها قَالَ مُجَاهِدٌ: أَضَاءَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها إِذَا غَشِيَهَا النَّهَارُ، وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَعْنَى وَالنَّهَارُ إِذَا جَلَّا الظُّلْمَةِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا.
(قُلْتُ) وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أَيِ البسيطة لكان أولى ولصح تأويله في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها فَكَانَ أَجْوَدْ وَأَقْوَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها إنه كقوله تعالى: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَاخْتَارَ عَوْدَ الضَّمِيرِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الشَّمْسِ لِجَرَيَانِ ذِكْرِهَا، وَقَالُوا في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها يَعْنِي إِذَا يَغْشَى الشَّمْسَ حِينَ تَغِيبُ فَتُظْلِمُ الْآفَاقُ.
وَقَالَ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ صَفْوَانَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ ذِي حَمَامَةَ قَالَ: إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ غَشِيَ عِبَادِي خَلْقِي الْعَظِيمُ فَاللَّيْلُ يَهَابُهُ وَالَّذِي خَلَقَهُ أَحَقُّ أَنْ يَهَابَ. رَوَاهُ ابن أبي حاتم، وقوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا هَاهُنَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى وَالسَّمَاءِ وَبِنَائِهَا، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَنْ يَعْنِي وَالسَّمَاءِ وَبَانِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ والبناء هو الرفع كقوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ- أَيْ بِقُوَّةٍ- وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 47- 48] وَهَكَذَا قَوْلُهُ تعالى:
وَالْأَرْضِ وَما طَحاها قَالَ مُجَاهِدٌ: طَحاها دَحَاهَا، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما طَحاها أَيْ خَلَقَ فِيهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَحاها قَسَمَهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ زَيْدٍ طَحاها بَسَطَهَا، وَهَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
طَحَوْتُهُ مِثْلُ دَحَوْتُهُ أي بسطته.
وقوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أَيْ خَلَقَهَا سَوِيَّةً مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرُّومِ:
30] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» «1» أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ» «2» .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب 79، وتفسير سورة 30، باب 1، ومسلم في القدر حديث 22، وأحمد في المسند 2/ 233، 275، 393.
(2) أخرجه مسلم في الجنة حديث 63.(8/399)
وقوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أَيْ فَأَرْشَدَهَا إِلَى فُجُورِهَا وتقواها أي بين ذلك لها وَهَدَاهَا إِلَى مَا قُدِّرَ لَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها بَيَّنَ لَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْهَمَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ قَالَا:
حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَقِيلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ قَالَ:
قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حصين: أرأيت ما يعمل الناس فيه وَيَتَكَادَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ؟
قُلْتُ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ قَالَ: فَفَزِعْتُ مِنْهُ فَزَعًا شَدِيدًا قَالَ: قُلْتُ لَهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، قال:
سددك الله إنما سألتك لِأَخْبَرَ عَقْلَكَ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ أَوْ جُهَيْنَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَتَكَادَحُونَ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَمْ شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صلّى الله عليه وسلّم وَأَكَّدَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: «بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ» قَالَ: فَفِيمَ نَعْمَلُ؟ قَالَ: «مَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ يُهَيِّئُهُ لها وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «2» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ به.
وقوله تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ أَيْ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ وَالرَّذَائِلِ، وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جبير وكقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الْأَعْلَى: 14- 15] وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ دَسَّسَهَا أَيْ أَخْمَلَهَا وَوَضَعَ مِنْهَا بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا عَنِ الْهُدَى حَتَّى رَكِبَ الْمَعَاصِيَ وَتَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّى اللَّهُ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أَبِي وَأَبُو زُرْعَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ يَعْنِي عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ عَنْ جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول في قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ من حديث مَالِكٍ بِهِ، وَجُوَيْبِرٌ هَذَا هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ متروك الحديث، والضحاك
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 602، 603.
(2) أخرجه مسلم في القدر حديث 10، وأحمد في المسند 4/ 438.(8/400)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وَقَفَ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، وَخَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقرأ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» قَالَ «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» لَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صَالِحِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا فَقَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَضْجَعِهِ فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَهُوَ يَقُولُ «رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» تَفَرَّدَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ. اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ. وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» قَالَ زَيْدٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَاهُنَّ ونحن نعلمكموهن «3» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ به.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ثَمُودَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْبَغْيِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِطَغْواها أَيْ بِأَجْمَعِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا، فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ تَكْذِيبًا فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا جاءهم به رسولهم عليه الصلاة والسّلام مِنَ الْهُدَى وَالْيَقِينِ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أَيْ أشقى القبيلة وهو قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَهُوَ أُحَيْمِرُ ثمود، وهو الذي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] الآية. وكان هذا الرجل عزيزا
__________
(1) المسند 6/ 209.
(2) المسند 4/ 371.
(3) أخرجه مسلم في الذكر حديث 73.(8/401)
فِيهِمْ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ نَسِيبًا رَئِيسًا مُطَاعًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ النَّاقَةَ وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا فَقَالَ: «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ» «2» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَمُسْلِمٌ فِي صِفَةِ النَّارِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ من سننيهما، وكذا ابن جرير «3» وابن أبي حاتم عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: «أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟» قَالَ: بَلَى. قَالَ: «رَجُلَانِ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا- يَعْنِي قَرْنَهُ- حَتَّى تَبْتَلَّ منه هذه» يعني لحيته.
وقوله تعالى: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يَعْنِي صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ ناقَةَ اللَّهِ أَيِ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ أَنْ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ وَسُقْياها أَيْ لَا تَعْتَدُوا عَلَيْهَا فِي سُقْيَاهَا فَإِنَّ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ ولكم شرب يوم معلوم، قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها أَيْ كَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ أَنْ عَقَرُوا النَّاقَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنَ الصَّخْرَةِ آيَةً لَهُمْ وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ أَيْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ فَسَوَّاها أَيْ فَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ نَازِلَةً عَلَيْهِمْ عَلَى السَّوَاءِ.
قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم وذكرهم، فَلَمَّا اشْتَرَكَ الْقَوْمُ فِي عَقْرِهَا دَمْدَمَ اللَّهُ عليهم بذنبهم فسواها. وقوله تعالى:
وَلا يَخافُ وَقُرِئَ فَلَا يَخَافُ عُقْباها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَخَافُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ تَبِعَةً، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: وَلا يَخافُ عُقْباها أَيْ لَمْ يَخَفِ الَّذِي عَقَرَهَا عَاقِبَةَ ما صنع، والقول الأول أولى لدلالة لسياق عليه والله أعلم. آخر تفسير سورة والشمس وضحاها، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ اللَّيْلِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ: «فَهَلَّا صَلَّيْتَ بِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:
__________
(1) المسند 4/ 17.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 91، باب 1، ومسلم في الجنة حديث 49، والترمذي في تفسير سورة 91.
(3) تفسير الطبري 12/ 605.(8/402)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
1] ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» [الليل: 1] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ المغيرة عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّامَ، فَدَخَلَ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَلِيسًا صَالِحًا قَالَ فَجَلَسَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ يَقْرَأُ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى قَالَ عَلْقَمَةُ: وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زال هؤلاء حتى شككوني ثم قال أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ الْوِسَادِ وَصَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَالَّذِي أُجِيرَ من الشيطان عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «2» هَاهُنَا وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَيَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالُوا كُلُّنَا، قَالَ: أَيُّكُمْ أَحْفَظُ؟ فَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى - قَالَ- وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ: أَشْهَدُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدون أَنْ أَقْرَأَ وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وَاللَّهِ لا أتابعهم، هذا لفظ البخاري. وهكذا قَرَأَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَرَفَعَهُ أبو الدرداء، وأما الجمهور فقرؤوا ذلك كما هو المثبت فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامُ الْعُثْمَانِيُّ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى أَيْ إِذَا غَشِيَ الْخَلِيقَةَ بِظَلَامِهِ وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أَيْ بِضِيَائِهِ وَإِشْرَاقِهِ.
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى كقوله تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النَّبَأِ: 8] وَكَقَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: 49] وَلَمَّا كَانَ الْقَسَمُ بِهَذِهِ الأشياء المتضادة كان المقسم عليه أيضا متضادا، ولهذا قال تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أَيْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا مُتَضَادَّةٌ أَيْضًا وَمُتَخَالِفَةٌ فَمِنْ فَاعِلٍ خَيْرًا وَمِنْ فَاعِلٍ شَرًّا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى أَيْ أَعْطَى مَا أُمِرَ بِإِخْرَاجِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي أُمُورِهِ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أَيْ بِالْمُجَازَاةِ عَلَى ذَلِكَ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ خُصَيْفٌ بِالثَّوَابِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي
__________
(1) المسند 6/ 449.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 92، في الترجمة. [.....](8/403)
بِالْخَلَفِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أَيْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أَيْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قَالَ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَقَالَ مَرَّةٍ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُسْنَى قَالَ: «الْحُسْنَى: الجنة» .
وقوله تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي لِلْخَيْرِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَعْنِي لِلْجَنَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَمِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ أَيْ بِمَا عِنْدَهُ وَاسْتَغْنى قَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ بَخِلَ بِمَالِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أَيْ بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أَيْ لِطَرِيقِ الشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْأَنْعَامِ: 110] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُجَازِي مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ بِالتَّوْفِيقِ لَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الشَّرَّ بِالْخِذْلَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرٍ مُقَدَّرٍ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
[رِوَايَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ أَنَّ أَبَاهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَعْمَلُ عَلَى مَا فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى أَمْرٍ مُؤْتَنِفٍ؟ قَالَ «بَلْ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ» قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» .
[رِوَايَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى إِلَى قَوْلِهِ لِلْعُسْرى.
وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَوَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِنَحْوِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عن جرير عن منصور عَنْ سَعِيدِ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وقعدنا حوله ومعه
__________
(1) المسند 1/ 5، 6.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 92، باب 6.(8/404)
مِخْصَرَةٌ «1» فَنَكَسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ- أَوْ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ «2» - إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ» فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ على كتابنا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مَنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مَنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ فَقَالَ: «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فيسيرون إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى «3» وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سعيد بْنِ عُبَيْدَةَ بِهِ.
[رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا نَعْمَلُ فِيهِ أَفِي أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ أَوْ مُبْتَدَأٍ أَوْ مُبْتَدَعٍ؟ قَالَ: «فِيمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَاعْمَلْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ لِلسَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ لِلشَّقَاءِ «5» ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْقَدْرِ عَنْ بُنْدَارٍ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «6» : حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَعْمَلُ لِأَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ لِأَمْرٍ نَسْتَأْنِفُهُ؟ فَقَالَ: «لِأَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ» فَقَالَ سُرَاقَةُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ «7» عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «8» : حَدَّثَنِي يُونُسُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَأَلَ غُلَامَانِ شَابَّانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَعْمَلُ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَوْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ؟ فَقَالَ: «بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ» قَالَا: فَفِيمَ الْعَمَلُ إذا؟ قال: «اعملوا فكل عامل ميسر
__________
(1) المخصرة: ما أخذه الإنسان بيده من عصا، أو عكازة، أو قضيب.
(2) نفس منفوسة: أي نفس مولودة.
(3) أخرجه البخاري في الجنائز باب 83، ومسلم في القدر حديث 6، 7، وأبو داود في السنة باب 16، والترمذي في تفسير سورة 92.
(4) المسند 2/ 52.
(5) أخرجه الترمذي في القدر باب 3.
(6) تفسير الطبري 12/ 617.
(7) كتاب القدر حديث 8.
(8) تفسير الطبري 12/ 617.(8/405)
لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ» قَالَا: فَالْآنَ نَجِدُّ وَنَعْمَلُ.
[رِوَايَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حدثنا هشيم بْنُ خَارِجَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ عُتْبَةَ السُّلَمِيُّ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا نَعْمَلُ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَمْ شَيْءٌ نَسْتَأْنِفُهُ؟ قَالَ «بَلْ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ» فقالوا: فَكَيْفَ بِالْعَمَلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «كُلُّ امْرِئٍ مُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ قَتَادَةُ، حَدَّثَنِي خُلَيْدٌ الْعَصَرِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إِلَّا وَبِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطِّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عمر العدني، حدثني الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عباس أن رجلا كان له نخيل، ومنها نخلة فرعها في دَارِ رَجُلٍ صَالِحٍ فَقِيرٍ ذِي عِيَالٍ، فَإِذَا جاء الرجل فدخل داره فيأخذ التمرة من نخلته فتسقط التمرة، فيأخذها صبيان الرجل الفقير، فينزل من نخلته فينزع التمرة من أيديهم، وإن أدخل أحدهم التمرة فِي فَمِهِ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي حَلْقِ الْغُلَامِ ونزع التمرة مَنْ حَلْقِهِ، فَشَكَا ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ صَاحِبِ النَّخْلَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ» وَلَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ فَقَالَ له: «أَعْطِنِي نَخْلَتَكَ الَّتِي فَرْعُهَا فِي دَارِ فُلَانٍ وَلَكَ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَعْطَيْتُ وَلَكِنْ يُعْجِبُنِي ثَمَرُهَا وَإِنَّ لِي لَنَخْلًا كَثِيرًا مَا فِيهَا نَخْلَةٌ أَعْجَبُ إِلَيَّ ثَمَرَةً مِنْ ثَمَرِهَا، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ كَانَ يَسْمَعُ الْكَلَامَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ صَاحِبِ النَّخْلَةِ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَنَا أَخَذْتُ النَّخْلَةَ فَصَارَتْ لِي النخلة فأعطيتك إياها أتعطيني مَا أَعْطَيْتَهُ بِهَا نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» .
ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ لَقِيَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ وَلِكِلَاهُمَا نَخْلٌ، فَقَالَ لَهُ: أُخْبِرُكَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَعْطَانِي بِنَخْلَتِي الْمَائِلَةِ فِي دَارِ فُلَانٍ نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ قَدْ أَعْطَيْتُ وَلَكِنْ يُعْجِبُنِي ثَمَرُهَا، فَسَكَتَ عَنْهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ: أراك إِذَا بِعْتَهَا، قَالَ لَا إِلَّا أَنْ أُعْطَى بِهَا شَيْئًا وَلَا أَظُنُّنِي أُعْطَاهُ، قَالَ:
وَمَا مناك؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ نَخْلَةً، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ جِئْتَ بأمر عظيم، نخلتك تطلب بها أربعين
__________
(1) المسند 6/ 441.
(2) تفسير الطبري 12/ 613.(8/406)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
نَخْلَةً؟ ثُمَّ سَكَتَا وَأَنْشَأَ فِي كَلَامٍ آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا أَعْطَيْتُكَ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً، فَقَالَ: أَشْهِدْ لِي إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَأَمَرَ بِأُنَاسٍ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ نَخْلِي أَرْبَعِينَ نَخْلَةً بِنَخْلَتِهِ الَّتِي فَرْعُهَا فِي دار فلان بن فُلَانٍ.
ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَوُّلُ؟ فَقَالَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ: قَدْ رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ لَيْسَ بيني وبينك بيع لم نفترق، فقال لَهُ: قَدْ أَقَالَكَ اللَّهُ وَلَسْتُ بِأَحْمَقَ حِينَ أَعْطَيْتُكَ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً بِنَخْلَتِكَ الْمَائِلَةِ، فَقَالَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ: قَدْ رَضِيتُ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا أُرِيدُ، قَالَ: تُعْطِينِيهَا عَلَى سَاقٍ، ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: هِيَ لَكَ عَلَى سَاقٍ، وَأَوْقَفَ لَهُ شُهُودًا وَعَدَّ لَهُ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً عَلَى سَاقٍ، فَتَفَرَّقَا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّخْلَةَ الْمَائِلَةَ فِي دَارِ فُلَانٍ قَدْ صَارَتْ لِي فَهِيَ لَكَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّجُلِ صَاحِبِ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ «النَّخْلَةُ لَكَ وَلِعِيَالِكَ» قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى - إِلَى قَوْلِهِ- فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه: حدثنا هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كان أبو بكر رضي الله عنه يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يُعْتِقُ عَجَائِزَ وَنِسَاءً إِذَا أَسْلَمْنَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ أَرَاكَ تَعْتِقُ أُنَاسًا ضُعَفَاءَ فَلَوْ أَنَّكَ تَعْتِقُ رِجَالًا جُلَدَاءَ يَقُومُونَ مَعَكَ وَيَمْنَعُونَكَ وَيَدْفَعُونَ عَنْكَ، فَقَالَ: أَيْ أَبَتِ إِنَّمَا أُرِيدُ- أَظُنُّهُ قَالَ- مَا عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِيهِ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى.
وقوله تَعَالَى: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ إِذَا مَاتَ وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِذَا تَرَدَّى في النار.
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أَيْ نُبَيِّنُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى وَصَلَ إِلَى اللَّهِ وَجَعَلَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ حكاه ابن جرير، وقوله
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 614.(8/407)
تعالى: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُنَا وأنا المتصرف فيهما وقوله تعالى:
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ تَوَهَّجُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ» حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِالسُّوقِ لَسَمِعَهُ مِنْ مَقَامِي هَذَا، قَالَ: حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثني شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ.
الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تُوضَعُ فِي أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دِمَاغُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «3» .
وَقَالَ مُسْلِمٌ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدَّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لأهونهم عذابا» .
وقوله تعالى: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أَيْ لَا يَدْخُلُهَا دُخُولًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ إِلَّا الْأَشْقَى ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: الَّذِي كَذَّبَ أَيْ بِقَلْبِهِ وَتَوَلَّى أَيْ عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ وَأَرْكَانِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِيٌّ» قِيلَ: وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِطَاعَةٍ وَلَا يَتْرُكُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا يُونُسُ وَسُرَيْجٌ قَالَا: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى» قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «7» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ فُلَيْحٍ بِهِ.
__________
(1) المسند 4/ 272. [.....]
(2) المسند 4/ 274.
(3) كتاب الرقاق باب 51.
(4) كتاب الإيمان حديث 360، 364.
(5) المسند 2/ 349.
(6) المسند 2/ 361.
(7) كتاب الاعتصام باب 2.(8/408)
وقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى أَيْ وَسَيُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الْأَتْقَى ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أَيْ يَصْرِفُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ لِيُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي ليس بذله ماله فِي مُكَافَأَةِ مَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ مَعْرُوفًا، فَهُوَ يُعْطِي فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا دَفَعَهُ ذَلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أَيْ طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ رُؤْيَتُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يَرْضى أَيْ وَلَسَوْفَ يَرْضَى مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا وَأَوْلَى الْأُمَّةِ بِعُمُومِهَا فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى وَلَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ وَنُصْرَةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ مِنَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ يَوْمَ صُلْحِ الحديبية: أما والله لولا يدلك كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ «1» .
وَكَانَ الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإن كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ القبائل فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْهَا ضَرُورَةٌ فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» «2» .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ اللَّيْلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الضُّحَى
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ الْمُقْرِئِ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عِكْرِمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بن قسطنطين وشبل بن عباد، فلما
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 2/ 313.
(2) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي باب 5، ومسلم في الزكاة حديث 84، 85.(8/409)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
بَلَغْتُ وَالضُّحَى قَالَا لِي: كَبِّرْ حَتَّى تَخْتِمَ مَعَ خَاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ فَإِنَّا قَرَأْنَا عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ فَأَمَرَنَا بِذَلِكَ وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَهُ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ أُبَيٌّ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله الْبَزِّيُّ مِنْ وَلَدِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ، فَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَقَالَ: لَا أُحَدِّثُ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ قَالَ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ حَكَى الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُكَبِّرُ هَذَا التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ:
أَحْسَنْتَ وَأَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي مَوْضِعِ هَذَا التَّكْبِيرِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكَبِّرُ مِنْ آخِرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] ، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ آخِرِ وَالضُّحى، وَكَيْفِيَّةُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَيَقْتَصِرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إلا الله والله أكبر. وذكر القراء فِي مُنَاسَبَةِ التَّكْبِيرِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى أَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَرَ تِلْكَ الْمُدَّةَ ثم جاء الْمَلَكُ فَأَوْحَى إِلَيْهِ وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السُّورَةَ بِتَمَامِهَا كَبَّرَ فَرَحًا وَسُرُورًا، وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصِحَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ، فالله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبًا يَقُولُ: اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَأَتَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «2» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ «3» من طرق عن الأسود بن
__________
(1) المسند 4/ 312، 313.
(2) أخرجه البخاري في التهجد باب 4، وفضائل القرآن باب 1، وتفسير سورة 93، في الترجمة، باب 1، ومسلم الجهاد حديث 114، 115، والنسائي في الافتتاح باب 70، والترمذي في تفسير سورة 93، باب 1.
(3) تفسير الطبري 12/ 623.(8/410)
قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، ثُمَّ الْعَلَقِيُّ بِهِ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعَ جُنْدُبًا قَالَ أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ وُدِّعَ محمدا ربه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جُنْدُبًا يَقُولُ رُمِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ فِي أُصْبُعُهُ فَقَالَ: «هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ؟» .
قَالَ فَمَكَثَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا يَقُومُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إلا قد تركك فَنَزَلَتْ وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وَالسِّيَاقُ لِأَبِي سَعِيدٍ، قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ أُمُّ جَمِيلٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ، وَذُكِرَ أَنَّ أُصْبَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَمِيَتْ، وَقَوْلُهُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي اتَّفَقَ أَنَّهُ مَوْزُونٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَكِنَّ الْغَرِيبَ هَاهُنَا جَعْلُهُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ الْقِيَامِ وَنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا قَدْ قَلَاكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وَقَالَ أَيْضًا «2» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا فَقَالَتْ خَدِيجَةُ إِنِّي أَرَى رَبَّكَ قَدْ قَلَاكَ مِمَّا نَرَى مِنْ جَزَعِكَ، قَالَ فَنَزَلَتْ وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى إِلَى آخِرِهَا فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَلَعَلَّ ذِكْرَ خَدِيجَةَ لَيْسَ مَحْفُوظًا أَوْ قَالَتْهُ عَلَى وَجْهِ التَّأَسُّفِ والحزن، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ الَّتِي أَوْحَاهَا جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَبَدَّى لَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَدَنَا إِلَيْهِ وَتَدَلَّى مُنْهَبِطًا عَلَيْهِ وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
قَالَ: قَالَ لَهُ هَذِهِ السُّورَةَ وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ أَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ أَيَّامًا فَتَغَيَّرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالضُّحَى وَمَا جَعَلَ فِيهِ مِنَ الضِّيَاءِ وَاللَّيْلِ إِذا سَجى أَيْ سَكَنَ فَأَظْلَمَ وَادْلَهَمَّ؟ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قدرة خالق هذا وهذا كما قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْلِ: 1- 2] وَقَالَ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96] .
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 623.
(2) تفسير الطبري 12/ 624.(8/411)
وقوله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ أَيْ مَا تَرَكَكَ وَما قَلى أَيْ وَمَا أَبْغَضَكَ.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي وللدار الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَأَعْظَمَهُمْ لَهَا إِطْرَاحًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَتِهِ، وَلَمَّا خُيِّرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بَيْنَ الْخُلْدِ فِي الدُّنْيَا إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الصَّيْرُورَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما لي وللدنيا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» «2» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حسن صحيح.
وقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ يُعْطِيهِ حَتَّى يُرْضِيَهُ فِي أُمَّتِهِ، وَفِيمَا أَعَدَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ نَهْرُ الْكَوْثَرِ الَّذِي حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ وَطِينُهُ مِسْكٍ أَذْفَرَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَنْزًا كَنْزًا فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى فَأَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ أَلْفَ قَصْرٍ فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ طَرِيقِهِ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِثْلُ هَذَا مَا يُقَالُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رضاء محمد صلّى الله عليه وسلّم أن لا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِذَلِكَ الشَّفَاعَةَ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يُعَدِّدُ نِعَمَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:
__________
(1) المسند 1/ 391. [.....]
(2) أخرجه الترمذي في الزهد باب 44، وابن ماجة في الزهد باب 3.
(3) تفسير الطبري 12/ 624.
(4) تفسير الطبري 12/ 624.(8/412)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ حَمْلٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقِيلَ بَعْدَ أَنْ وُلِدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتُّ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَ فِي كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانِ سِنِينَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ وَيُوَقِّرُهُ وَيَكُفُّ عَنْهُ أَذَى قَوْمِهِ بَعْدَ أَنِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ، هَذَا وَأَبُو طَالِبٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَجُهَّالُهُمْ فَاخْتَارَ اللَّهُ لَهُ الْهِجْرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى بَلَدِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَمَا أَجْرَى اللَّهُ سُنَّتَهُ عَلَى الْوَجْهِ الأتم الأكمل، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ وَحَاطُوهُ وَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ حِفْظِ اللَّهِ لَهُ وَكِلَاءَتِهِ وَعِنَايَتِهِ به.
وقوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى:
52] الآية. ومنهم من قال إن المراد بهذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضَلَّ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ صَغِيرٌ ثُمَّ رَجَعَ، وَقِيلَ إِنَّهُ ضَلَّ وَهُوَ مَعَ عَمِّهِ فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَكَانَ رَاكِبًا نَاقَةً فِي الليل، فجاء إبليس فعدل بِهَا عَنِ الطَّرِيقِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَنَفَخَ إِبْلِيسَ نَفْخَةً ذَهَبَ مِنْهَا إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ عَدَلَ بالراحلة إلى الطريق حكاهما البغوي، وقوله تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أَيْ كُنْتَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ فَأَغْنَاكَ اللَّهُ عَمَّنْ سِوَاهُ فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ مَقَامَيِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ مَنَازِلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» «2» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتاه» «3» .
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أَيْ كَمَا كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَاكَ اللَّهُ فَلَا تَقْهَرِ الْيَتِيمَ أَيْ لَا تُذِلَّهُ وَتَنْهَرْهُ وَتُهِنْهُ وَلَكِنْ أَحْسِنْ إِلَيْهِ وَتَلَطَّفْ بِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أَيْ وَكَمَا كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ فَلَا تَنْهَرِ السَّائِلَ فِي الْعِلْمِ الْمُسْتَرْشِدَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أَيْ وَكَمَا كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ فَلَا تَنْهَرِ السَّائِلَ فِي الْعِلْمِ
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 625.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 15، ومسلم في الزكاة حديث 120، والترمذي في الزهد باب 40، وابن ماجة في الزهد باب 9، وأحمد في المسند 2/ 312، 315.
(3) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 125.(8/413)
الْمُسْتَرْشِدَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أَيْ فَلَا تَكُنْ جَبَّارًا وَلَا مُتَكَبِّرًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا فَظًّا عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي رُدَّ الْمِسْكِينَ بِرَحْمَةٍ وَلِينٍ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أَيْ وَكَمَا كُنْتَ عَائِلًا فَقِيرًا فَأَغْنَاكَ اللَّهُ فَحَدِّثْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ كَمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ النَّبَوِيِّ: «وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثِنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قابليها وأتمها علينا» «1» وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ:
كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ أَنْ يُحَدَّثَ بِهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الله ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شَكْرٌ وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» «3» إسناده ضَعِيفٌ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، قَالَ: «لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» «4» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» «5» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ وَقَالَ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «6» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُبْلِي بَلَاءً فَذَكَرَهُ فقد شكره، ومن كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ جَابِرٍ كَرِهُوهُ فَلَمْ يُسَمُّوهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ الَّتِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قَالَ: مَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ فحدث إخوانك، وقال
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 178.
(2) تفسير الطبري 12/ 625.
(3) أخرجه أحمد في المسند 4/ 278، 375.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب باب 11، والترمذي في القيامة باب 44، وأحمد في المسند 3/ 200، 204.
(5) أخرجه أبو داود في الأدب باب 11، والترمذي في البر باب 35.
(6) كتاب الأدب باب 11.(8/414)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، مَا جَاءَكَ اللَّهُ مِنْ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ مِنَ النُّبُوَّةِ فَحَدِّثْ بِهَا وَاذْكُرْهَا وادع إليها، قال: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ ما أنعم بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ سِرًّا إِلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَافْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الضُّحَى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
تفسير
سورة الشرح
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
يَقُولُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يَعْنِي أَمَا شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ أَيْ نَوَّرْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ فَسِيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَامِ: 125] وَكَمَا شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ كَذَلِكَ جَعَلَ شَرْعَهُ فَسِيحًا وَاسِعًا سَمْحًا سَهْلًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا إِصْرَ وَلَا ضِيقَ وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ شَرْحُ صَدْرِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ هَاهُنَا، وهذا وإن كان واقعا ليلة الإسراء كما رواه مالك بن صعصعة، وَلَكِنْ لَا مُنَافَاةَ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ شَرْحِ صَدْرِهِ الَّذِي فُعِلَ بِصَدْرِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَمَا نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا، فالله أعلم.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أُبَيِّ بن كعب، حدثني أبو مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ مُعَاذٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كان جريئا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَوَّلُ مَا رَأَيْتَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ؟
فَاسْتَوَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَقَالَ «لَقَدْ سَأَلْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي لَفِي الصَّحْرَاءِ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ وَإِذَا بِكَلَامٍ فَوْقَ رَأْسِي وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ نَعَمْ فَاسْتَقْبَلَانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا لِخَلْقٍ قَطُّ وَأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا مِنْ خَلْقٍ قَطُّ، وَثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ فَأَقْبَلَا إِلَيَّ يَمْشِيَانِ حَتَّى أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَضُدِي لَا أَجِدُ لِأَحَدِهِمَا مَسًّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَضْجِعْهُ فَأَضْجَعَانِي بِلَا قَصْرٍ وَلَا هَصْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: افْلِقْ صَدْرَهُ فَهَوَى أَحَدُهُمَا إِلَى صَدْرِي فَفَلَقَهُ فِيمَا أَرَى بِلَا دَمٍ وَلَا وَجَعٍ، فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجِ الْغِلَّ وَالْحَسَدَ، فَأَخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا، فَقَالَ لَهُ أَدْخِلِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ فَإِذَا مِثْلُ الَّذِي أَخْرَجَ شَبَهُ الْفِضَّةِ ثُمَّ هَزَّ إبهام
__________
(1) المسند 5/ 139.(8/415)
رِجْلِي الْيُمْنَى فَقَالَ: اغْدُ وَاسْلَمْ، فَرَجَعْتُ بِهَا أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير» .
وقوله تعالى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ بِمَعْنَى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ الْإِنْقَاضُ الصَّوْتُ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي أثقلك حمله، وقوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بِهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم عن يونس عن عَبْدِ الْأَعْلَى بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وددت أني لم أسأله، قلت قد كان قَبْلِي أَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فأغنيتك؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ» .
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيُّ، حَدَّثَنَا موسى بن سهل الجويني، حدثنا أحمد بن القاسم بن بهزان الْهِيَتِيُّ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْتُ يَا رَبِّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا وَقَدْ كَرَّمْتَهُ جَعَلْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَمُوسَى كَلِيمًا، وَسَخَّرْتَ لِدَاوُدَ الْجِبَالَ، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينَ، وَأَحْيَيْتَ لِعِيسَى الْمَوْتَى فما جعلت لي؟
قال أو ليس قَدْ أَعْطَيْتُكَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنِّي لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي وَجَعَلْتُ صُدُورَ أُمَّتِكَ أَنَاجِيلَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ظَاهِرًا وَلَمْ أُعْطِهَا أُمَّةً، وَأَعْطَيْتُكَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ عَرْشِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» وَحَكَى الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَذَانُ يَعْنِي ذِكْرَهُ فِيهِ وَأَوْرَدَ من شعر حسان بن ثابت: [الطويل]
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 627. [.....](8/416)
أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ ... مِنَ اللَّهِ مِنْ نُورٍ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ «1»
وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَقَالَ آخَرُونَ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَنَوَّهَ بِهِ حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَنْ يَأْمُرُوا أُمَمَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ، ثم شهد ذِكْرَهُ فِي أُمَّتِهِ فَلَا يُذْكَرُ اللَّهُ إِلَّا ذُكِرَ مَعَهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الصَّرْصَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
لَا يَصِحُّ الْأَذَانُ فِي الْفَرْضِ إِلَّا ... بَاسْمِهِ الْعَذْبِ فِي الْفَمِ الْمَرْضِيِّ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا لَا يَصِحُّ أَذَانُنَا ... وَلَا فَرْضُنَا إِنْ لَمْ نُكَرِّرْهُ فِيهِمَا
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُوجَدُ الْيُسْرُ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ حَمَّادِ بن أبي خُوَارٍ أَبُو الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا عَائِذُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحِيَالَهُ حجر، فقال: لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ، عن حميد بن حماد وَلَفْظُهُ: «لَوْ جَاءَ الْعُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ هَذَا الحجر لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يُخْرِجَهُ» ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنِ أَنَسٍ إِلَّا عَائِذُ بْنُ شُرَيْحٍ.
[قُلْتُ] وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: فِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ، وَلَكِنْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ، حَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ، حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ لَا يَغْلِبُ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنِ اثْنَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابن ثور عن معمر عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ:
خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مَسْرُورًا فَرِحًا وَهُوَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا.
وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: «لَنْ يغلب
__________
(1) الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص 338، والبيت الثالث في خزانة الأدب 1/ 223.
(2) تفسير الطبري 12/ 628.(8/417)
عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعُسْرَ مُعَرَّفٌ في الحالتين فَهُوَ مُفْرَدٌ وَالْيُسْرُ مُنَكَّرٌ، فَتَعَدَّدَ وَلِهَذَا قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» يَعْنِي قَوْلَهُ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فَالْعُسْرُ الْأَوَّلُ عَيْنُ الثَّانِي وَالْيُسْرُ تَعَدَّدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «نزلت الْمَعُونَةَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَدْرِ الْمَؤُونَةِ، وَنَزَّلَ الصَّبْرَ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ» وَمِمَّا يُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
صَبْرًا جَمِيلًا مَا أَقْرَبَ الْفَرَجَا ... مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي الْأُمُورِ نَجَا
مَنْ صَدَقَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذًى ... وَمَنْ رَجَاهُ يَكُونُ حَيْثُ رَجَا
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ:
إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ ... وَضَاقَ لِمَا به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت ... وأرسلت فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوبُ
وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا ... وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الْأَرِيبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ ... يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ... فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى ... ذَرْعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ
كَمُلَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُهَا ... فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا تفرج
وقوله تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أَيْ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا وَقَطَعْتَ علائقها فانصب إلى الْعِبَادَةِ وَقُمْ إِلَيْهَا نَشِيطًا فَارِغَ الْبَالِ وَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ النِّيَّةَ وَالرَّغْبَةَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ على صحته: «لا صلاة بحضرة الطعام وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» «1» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فابدؤوا بِالْعَشَاءِ» «2» قَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَقُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِرَبِّكَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي حَاجَتِكَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَعَنِ ابْنِ عِيَاضٍ نَحْوُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد حديث 67، وأبو داود في الطهارة باب 43، والدارمي في الصلاة باب 137، وأحمد في المسند 6/ 43، 54، 73.
(2) أخرجه البخاري في الأذان باب 42، والأطعمة باب 58، ومسلم في المساجد حديث 64، 66، وأبو داود في الأطعمة باب 10، والترمذي في المواقيت باب 145، والنسائي في الإمامة باب 51، وابن ماجة في الإقامة باب 34، والدارمي في الصلاة باب 58، وأحمد في المسند 3/ 100، 110، 161، 231، 238، 249، 4/ 49، 54، 6/ 40، 51، 149، 291، 303، 314.(8/418)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
بَعْدَ فَرَاغِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ جَالِسٌ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، يَعْنِي فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالضَّحَّاكُ: فَإِذا فَرَغْتَ أَيْ مِنَ الْجِهَادِ فَانْصَبْ أَيْ فِي الْعِبَادَةِ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ وقال الثَّوْرِيُّ: اجْعَلْ نِيَّتَكَ وَرَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ أَلَمْ نَشْرَحْ، وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
تفسير
سورة التين
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ مَالِكٌ وَشُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ في سفره فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ «1» ، أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالتِّينِ مَسْجِدُ دِمَشْقَ، وَقِيلَ: هِيَ نَفْسُهَا، وَقِيلَ الْجَبَلُ الَّذِي عِنْدَهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ «2» : هُوَ مَسْجِدُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي عَلَى الْجُودِيِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ تِينِكُمْ هَذَا وَالزَّيْتُونِ قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ هَذَا الزَّيْتُونُ الَّذِي تَعْصِرُونَ وَطُورِ سِينِينَ قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عليه السّلام، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يَعْنِي مَكَّةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحُسْنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَابْنُ زيد وكعب الأحبار ولا خلاف في
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب 100، 102، وتفسير سورة 95، في الترجمة، باب 1، والتوحيد باب 52، ومسلم في الصلاة حديث 175، 177، وأبو داود في الصلاة باب 150، والسفر باب 6، والترمذي في الصلاة باب 114، وتفسير سورة 95، باب 1، والنسائي في الافتتاح باب 72، 73، وابن ماجة في الإقامة باب 10، ومالك في النداء حديث 27، وأحمد في المسند 4/ 298، 302.
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن 20/ 111.(8/419)
ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: هَذِهِ مَحَالُّ ثَلَاثَةٌ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ:
[فَالْأَوَّلُ] مَحَلَّةُ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السّلام. [وَالثَّانِي] طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ.
[وَالثَّالِثُ] مَكَّةُ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْأَمِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فِيهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَفِي آخِرِ التَّوْرَاةِ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ: جَاءَ اللَّهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ- يَعْنِي الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ- وَأَشْرَقَ مِنْ سَاعِيرَ- يعني جبل بَيْتَ الْمَقْدِسِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ مِنْهُ عِيسَى- وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ- يَعْنِي جِبَالَ مَكَّةَ التي أرسل الله منها محمدا صلّى الله عليه وسلّم فذكرهم مخبرا عنهم عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي الزَّمَانِ، وَلِهَذَا أَقْسَمَ بِالْأَشْرَفِ ثُمَّ الْأَشْرَفِ مِنْهُ ثُمَّ بالأشرف منهما.
وقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَشَكْلٍ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ سَوِيَّ الْأَعْضَاءِ حَسَنَهَا ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أَيْ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ إِنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ وَيَتَّبِعِ الرُّسُلَ وَلِهَذَا قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أَيْ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وروي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ حَتَّى قَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَمَا حَسُنَ اسْتِثْنَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْهَرَمَ قَدْ يُصِيبُ بعضهم، وإنما المراد ما ذكرناه كقوله تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: 1- 3] وَقَوْلُهُ: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثم قال: فَما يُكَذِّبُكَ أي يَا ابْنَ آدَمَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَيْ بِالْجَزَاءِ في المعاد، ولقد علمت البداءة وعرفت أن مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّجْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَأَيُّ شَيْءٍ يَحْمِلُكَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْمَعَادِ وَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا؟ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ عَنَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، عَنَى بِهِ الْإِنْسَانَ وَهَكَذَا قَالَ عكرمة وغيره. وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أَيْ أَمَا هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا، وَمِنْ عَدْلِهِ أَنْ يُقِيمَ الْقِيَامَةَ فَيُنْصِفَ للمظلوم فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ ظَلَمَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «فَإِذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَأَتَى عَلَى آخِرِهَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ من الشاهدين» .
آخر تفسير سورة التين والزيتون ولله الحمد والمنة.(8/420)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
تفسير
سورة العلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ- وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فيتزود لمثلها حتى فاجأه الوحي وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ اقْرَأْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ- قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فغطني مِنِّي الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ- حَتَّى بَلَغَ- مَا لَمْ يَعْلَمْ قَالَ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ: «يَا خَدِيجَةُ ما لي؟» وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيت على نفسي» .
فقالت له: كلا أبشر فو الله لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الْحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ قد تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْتَبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ على موسى، ليتني فيها جذعا ليتني أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو مخرجي هُمْ؟» فَقَالَ وَرَقَةُ:
نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا، حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كي يتردى من رؤوس شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًا، فَيَسْكُنُ بِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقَرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ فَإِذَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ الْجَبَلِ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ له مثل
__________
(1) المسند 6/ 232، 233.(8/421)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
ذَلِكَ «1» وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَمَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا لِلْبُخَارِيِّ مُسْتَقْصًى، فَمَنْ أَرَادَهُ فَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَأَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ، وَهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحِمَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَفِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمِهِ تَعَالَى أَنْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ الْقَدْرُ الذي امتاز به أبو البشرية آدَمُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْعِلْمُ تَارَةً يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي اللِّسَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْكِتَابَةِ بِالْبَنَانِ ذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ وَالرَّسْمِيُّ يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَلِهَذَا قَالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَفِي الْأَثَرِ: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ» «2» ، وَفِيهِ أَيْضًا: «مَنْ عَمِلِ بِمَا عَلِمَ ورثه الله علم ما لم يكن يعلم» .
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ ذُو فَرَحٍ وَأَشَرٍ وَبَطَرٍ وَطُغْيَانٍ إِذَا رَأَى نَفْسَهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَكَثُرَ مَالُهُ، ثُمَّ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ وَوَعَظَهُ فَقَالَ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أَيْ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ وَسَيُحَاسِبُكَ عَلَى مَالِكِ مِنْ أَيْنَ جَمَعْتَهُ وَفِيمَ صَرَفْتَهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ عَوْنٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ صَاحِبُ الْعِلْمِ وَصَاحِبُ الدُّنْيَا وَلَا يَسْتَوِيَانِ، فَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيَزْدَادُ رضى الرَّحْمَنِ وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى وَقَالَ لِلْآخَرِ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا» «3» .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، تَوَعَّدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ البيت فوعظه تَعَالَى بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَوَّلًا فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَيْ فَمَا ظَنُّكَ إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَنْهَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ المستقيمة في فعله أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب 3، وتفسير سورة 96، باب 1، والتعبير باب 1، ومسلم في الإيمان حديث 252.
(2) أخرجه الدارمي في المقدمة باب 43.
(3) أخرجه الدارمي في المقدمة باب 32.(8/422)
وَأَنْتَ تَزْجُرُهُ وَتَتَوَعَّدُهُ عَلَى صِلَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أَيْ أَمَا عَلِمَ هَذَا النَّاهِي لِهَذَا الْمُهْتَدِي أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ. وَسَيُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا وَمُتَهَدِّدًا: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أَيْ لَئِنْ لَمْ يَرْجِعْ عما هو فيه من الشقاق والعناد لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أَيْ لَنَسِمَنَّهَا سَوَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ قَالَ: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ يَعْنِي نَاصِيَةَ أَبِي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في أفعالها فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أَيْ قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ أَيْ لِيَدَعُهُمْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يَغْلِبُ أَحِزْبُنَا أَوْ حِزْبُهُ؟.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لئن فعل لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» ثُمَّ قَالَ تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ «1» . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عمرو به.
وروى أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بن أبي هند عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ وَتَوَعَّدَهُ فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَهَرَهُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا فَأَنْزَلَ الله فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «3» وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَاعَتِهِ (4) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يزيد أَبُو يَزِيدَ، حَدَّثَنَا فُرَاتٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ قَالَ: فَقَالَ: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يصلي عند المقام
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 96، باب 4، ومسلم في المنافقين حديث 38، والترمذي في تفسير سورة 96، باب 1، وأحمد في المسند 1/ 386، 2/ 370.
(2) تفسير الطبري 12/ 649.
(3) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 96، باب 2، وأحمد في المسند 1/ 256.
(4) المسند 1/ 248. [.....]
(5) تفسير الطبري 12/ 649.(8/423)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
لَأَقْتُلَنَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ هذه الآية لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى، فَقِيلَ:
مَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا» قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ «2» ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ به.
وقوله تعالى: كَلَّا لَا تُطِعْهُ يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ لَا تُطِعْهُ فِيمَا يَنْهَاكَ عَنْهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَثْرَتِهَا، وَصَلِّ حَيْثُ شِئْتَ، وَلَا تُبَالِهِ فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ وَهُوَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» «3» وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ اقرأ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْقَدْرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 649.
(2) أخرجه مسلم في المنافقين حديث 38، وأحمد في المسند 2/ 370.
(3) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 215.(8/424)
يخبر تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخَانِ: 3] وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَهِيَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَظِّمًا لِشَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي اخْتَصَّهَا بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهَا فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ «1» عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:
لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: 1] يَا مُحَمَّدُ، يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ وَنَزَلَتْ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يَوْمًا. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حديث القاسم بن الفضل، وقد قيل عن الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنَ والقاسم بن الفضل الحداني هو ثقة وثقه يحيى القطان وعبد الرّحمن بن مَهْدِيٍّ قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُقَالُ يوسف بن مازن رجل مجهول ولا يعرف هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنَ بِهِ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ يُوسُفَ هَذَا مَجْهُولٌ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سلمة وخالد الحذاء يونس بْنُ عُبَيْدٍ، وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ مَشْهُورٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: هُوَ ثِقَةٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنَ كَذَا قَالَ وَهَذَا يَقْتَضِي اضْطِرَابًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُنْكَرٌ جِدًّا، قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
(قُلْتُ) وَقَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيِّ إِنَّهُ حَسَبَ مُدَّةَ بَنِي أُمَيَّةَ فَوَجَدَهَا ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ حِينَ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْإِمْرَةَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَاجْتَمَعَتِ الْبَيْعَةُ لِمُعَاوِيَةَ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَامَ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فِيهَا مُتَتَابِعِينَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْهُمْ إِلَّا مُدَّةَ دَوْلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَرَمَيْنِ، وَالْأَهْوَازِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ قَرِيبًا مِنْ تِسْعِ سِنِينَ، لَكِنْ لَمْ تَزُلْ يدهم عن الإمرة بالكلية،
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 97، باب 1.(8/425)
بَلْ عَنْ بَعْضِ الْبِلَادِ إِلَى أَنِ اسْتَلَبَهُمْ بَنُو الْعَبَّاسِ الْخِلَافَةَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ مُدَّتِهِمُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَذَلِكَ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَإِنَّ الْأَلْفَ شهر عبارة عن ثلاثة وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ الْفَضْلِ أَسْقَطَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَيَّامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وعلى هذا فيقارب مَا قَالَهُ لِلصِّحَّةَ فِي الْحِسَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سِيقَ لِذَمِّ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ، فَإِنَّ تَفْضِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَيَّامِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ أَيَّامِهِمْ، فَإِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ شَرِيفَةٌ جِدًّا وَالسُّورَةُ الْكَرِيمَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَدْحِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَكَيْفَ تُمْدَحُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّتِي هِيَ مَذْمُومَةٌ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ ... إِذَا قِيلَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ الْعَصَا
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا أَنْتَ فَضَّلْتَ امْرَأً ذَا بَرَاعَةٍ ... عَلَى نَاقِصٍ كَانَ الْمَدِيحُ مِنَ النَّقْصِ
ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ من الآية أن الْأَلْفِ شَهْرٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ هِيَ أَيَّامُ بَنِي أُمَيَّةَ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةُ، فَكَيْفَ يُحَالُ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ هِيَ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْآيَةِ وَلَا مَعْنَاهَا، وَالْمِنْبَرُ إِنَّمَا صُنِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فهذا كله مما يدل على ضعف الْحَدِيثِ وَنَكَارَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ يَعْنِي ابْنَ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ قَالَ: فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حكام بن مسلم عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَاحِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا، لَمْ يَعْصَوْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَذَكَرَ أَيُّوبَ وزكريا وحزقيل ابن الْعَجُوزِ وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ، قَالَ: فَعَجِبَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَلِكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَجِبَتْ أُمَّتُكَ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدَ أَنْزَلَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 653.(8/426)
وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْتَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ مَعَهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قَالَ: عَمَلُهَا وصيامها وَقِيَامُهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ: عَمَلٌ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا أفضل من عبادة ألف شهر ليس فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ لَا مَا عَدَاهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِبَاطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ «1» وَكَمَا جَاءَ فِي قَاصِدِ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَنِيَّةٍ صَالِحَةٍ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشَابِهَةِ لِذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهَرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَعْدِلُ عِبَادَتُهَا عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «3» .
وقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أَيْ يَكْثُرُ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَيُحِيطُونَ بِحِلَقِ الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِصِدْقٍ تَعْظِيمًا لَهُ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيلَ هُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سورة النبأ والله أعلم.
وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: سَلَامُ هِيَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ:
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ هِيَ قَالَ: هِيَ سَالِمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا أَوْ يَعْمَلَ فِيهَا أَذًى، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: تُقْضَى فِيهَا الْأُمُورُ وَتُقَدَّرُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] .
__________
(1) المسند 1/ 62، 65، 66، 75.
(2) المسند 2/ 230، 385، 425.
(3) أخرجه البخاري في الإيمان باب 25، 27، والصوم باب 6، ومسلم في المسافرين حديث 173 176.(8/427)
وقوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قَالَ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ مِنْ كُلِّ امرى سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ عَنْ عَلِيٍّ أَثَرًا غَرِيبًا فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَمُرُورِهِمْ عَلَى الْمُصَلِّينَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَحُصُولِ الْبَرَكَةِ لِلْمُصَلِّينَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا مُطَوَّلًا جِدًّا، فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى صُحْبَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ وَدُعَائِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَعْنِي الْقَطَّانَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال في ليلة القدر: «إنها ليلة سابعة أو تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى» . وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ قَالَ: لَا يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
سَلامٌ هِيَ يَعْنِي هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ إِلَى مطلع الفجر.
ويؤيد هذا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي، مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَهِيَ لَيْلَةٌ وِتْرٍ:
تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ خَامِسَةٍ أَوْ ثَالِثَةٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فيها قمرا ساطعا ساكنة ساجية لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَأَنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ» وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَفِي الْمَتْنِ غَرَابَةٌ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا زَمْعَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «ليلة سمحة طلقة بلجة لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ وَتُصْبِحُ شَمْسُ صَبِيحَتِهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَأُنْسِيتُهَا وَهِيَ فِي العشر الأواخر من لياليها وهي طَلْقَةٌ بِلُجَةٌ لَا حَارَةً وَلَا بَارِدَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا» .
[فَصْلٌ] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَوْ هِيَ مِنْ خصائص هذه
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 654.
(2) المسند 5/ 324.(8/428)
الْأُمَّةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِي أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارُ أمته أن لا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَحَكَى الْخَطَابِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَنَقَلَهُ الراضي جَازِمًا بِهِ عَنِ الْمَذْهَبِ، وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِينَ كَمَا هي في أمتنا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «1» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَرْثَدٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: كَيْفَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالَ: أَنَا كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْهَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي رَمَضَانَ هِيَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ» قُلْتُ: تَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قُلْتُ:
فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قال: «التمسوها في العشر الأول والعشر الآخر» ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدَّثَ ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ قُلْتُ: فِي أَيَّ الْعَشْرَيْنِ هِيَ؟ قَالَ: «ابْتَغَوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا» .
ثُمَّ حدث رسول الله ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ؟ فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ وَقَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ وَفِيهِ أَنَّهَا تَكُونُ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ طَوَائِفِ الشِّيعَةِ مَنْ رَفْعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ» لِأَنَّ الْمُرَادَ رُفِعُ عِلْمُ وَقْتِهَا عينا. وفيه دلالة على أن لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَخْتَصُّ وُقُوعُهَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ، لَا كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَنَّهَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وترتجي فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ «2» فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا فَقَالَ: «بَابُ بَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ» حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: «هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ» ، وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ،
__________
(1) المسند 5/ 171.
(2) كتاب رمضان باب 7.(8/429)
إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَالَ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَأَوْقَفَاهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أَنَّهَا ترتجى في كل شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ الرَّافِعِيُّ جِدًّا.
[فَصْلٌ] ثُمَّ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا تكون فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، يُحْكَى هَذَا عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَقِيلَ إِنَّهَا تَقَعُ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَرَوَى فِيهِ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَعَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ وَكَانَتْ لَيْلَةُ جُمُعَةٍ هِيَ السابعة عشرة مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي صَبِيحَتِهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بدر وهي الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: يَوْمَ الْفُرْقانِ. وَقِيلَ لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقِيلَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جبريل فقال: الذي تطلب أمامك ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا صبيحة عشرين من رمضان قال: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي أُنْسِيتُهَا وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأواخر في وِتْرٍ وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ» . وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدًا مِنَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ فَمُطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ، وَفِي لَفْظٍ فِي صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ «1» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، وَقِيلَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ قَرِيبُ السِّيَاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» إِسْنَادُهُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَصْبَغَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عن أبي عبد الله الصنابحي قال: قَالَ أَخْبَرَنِي بِلَالٌ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَالْحُسْنِ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ أنها ليلة
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب 135، ومسلم في الصيام حديث 211. [.....]
(2) المسند 6/ 12.(8/430)
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» وَقِيلَ تَكُونُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» فَسَّرَهُ كَثِيرُونَ بِلَيَالِي الْأَوْتَارِ وَهُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْأَشْفَاعِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ إِنَّهَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها ليلة سبع وعشرين.
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ عَبْدَةَ وَعَاصِمًا عَنْ زِرٍّ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ يُقِمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ، قُلْتُ وَكَيْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا، تَطْلُعُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لا شعاع لها يعني الشَّمْسَ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ زِرٍّ عَنْ أَبِي فَذَكَرَهُ وَفِيهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهَا لَفِي رمضان يحلف ما يستثني، وو الله إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تطلع الشمس في صبيحتها بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا.
وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السلف وهو الجادة من مذهب الإمام أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ حَاوَلَ اسْتِخْرَاجَ كَوْنِهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: هِيَ لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة فالله أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَعَاصِمٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا عِكْرِمَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لِعُمَرَ إِنِّي لَأَعْلَمُ- أَوْ إِنِّي لَأَظُنُّ- أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ فَقَالَ عُمَرُ:
وأي لَيْلَةٍ هِيَ؟ فَقُلْتُ سَابِعَةٌ تَمْضِي- أَوْ سَابِعَةٌ تبقى- من العشر الأواخر فقال عمر: من أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَسَبْعَ أَرْضِينَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الشَّهْرَ يَدُورُ عَلَى سَبْعٍ وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ سَبْعٌ وَرَمْيُ الْجِمَارِ سَبْعٌ لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا، فَقَالَ عُمَرُ لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ، وَكَانَ قَتَادَةُ يَزِيدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، قَالَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً [عبس: 27] الآية. وهذا إسناد جيد قوي ومتن غريب جدا فالله أعلم.
__________
(1) المسند 5/ 130.(8/431)
وَقِيلَ إِنَّهَا تَكُونُ فِي لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فِي رَمَضَانَ التمسوها فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنَّهَا فِي وَتْرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَهُوَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ القدر: «إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن الملائكة تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقِيلَ إِنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ آنِفًا، وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ يَعْنِي الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» «3» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ القدر «إنها آخر ليلة» .
[فصل] قال الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم جوابا للسائل إذا قيل له أنلتمس لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ؟ يَقُولُ «نَعَمْ» وإنما ليلة القدر مُعَيَّنَةٌ لَا تَنْتَقِلُ. نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السبع الأواخر» «4» وفيهما أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَيُحْتَجُّ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنَ الشَّهْرِ بما رواه البخاري «5» في صحيحه عن
__________
(1) المسند 5/ 320.
(2) المسند 2/ 519.
(3) أخرجه الترمذي الصوم باب 72.
(4) أخرجه البخاري في القدر باب 2، 3، ومسلم في الصيام حديث 205، 206.
(5) كتاب القدر باب 4.(8/432)
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مَنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مُسْتَمِرَّةَ التَّعْيِينِ لَمَا حَصَلَ لهم العلم بعينها في كل سنة، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إِلَّا ذَلِكَ الْعَامِ فَقَطْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُعْلِمَهُمْ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ فَقَطْ وَقَوْلُهُ: «فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ» فِيهِ اسْتِئْنَاسٌ لِمَا يُقَالُ إِنَّ الْمُمَارَاةَ تَقْطَعُ الفائدة والعلم النافع كما جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» «1» وَقَوْلُهُ «فَرُفِعَتْ» أَيْ رُفِعَ عِلْمُ تعيينها لَكُمْ لَا أَنَّهَا رُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوُجُودِ كَمَا يَقُولُهُ جَهَلَةُ الشِّيعَةِ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» .
وَقَوْلُهُ: «وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ» يَعْنِي عَدَمُ تَعْيِينِهَا لَكُمْ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً اجْتَهَدْ طُلَّابُهَا فِي ابْتِغَائِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّ رَجَائِهَا، فَكَانَ أَكْثَرَ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمُوا عَيْنَهَا فَإِنَّهَا كَانَتِ الْهِمَمُ تَتَقَاصَرُ عَلَى قِيَامِهَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْهَامَهَا لِتَعُمَّ الْعِبَادَةُ جَمِيعَ الشَّهْرِ فِي ابْتِغَائِهَا، وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ في العشر الأخير أَكْثَرَ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ «2» ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَلَهُمَا عَنِ ابْنُ عُمَرَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ «3» أَخْرَجَاهُ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا وَشَدَّ الْمِئْزَرَ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اعْتِزَالُ النِّسَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرَيْنِ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ في جميع ليالي العشر تَطَلُّبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخْرَى رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.
لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ إياس
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب 22.
(2) أخرجه البخاري في الاعتكاف باب 1، ومسلم في الاعتكاف حديث 4.
(3) أخرجه البخاري في القدر باب 5، ومسلم في الاعتكاف حديث 7.
(4) المسند 6/ 66، 67.
(5) المسند 6/ 182.(8/433)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو؟ قَالَ:
«قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» «1» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال «قولي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ وَقَالَ هَذَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» .
[ذُكِرَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ يَتَعَلَّقُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ يَعْنِي الرَّاسِبِيَّ عن هلال بن أَبِي جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ فَهِيَ عَلَى حَدِّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ، عُلُوُّهَا فِي الْجَنَّةِ وَعُرُوقُهَا وَأَغْصَانُهَا مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ، فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَغْصَانِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعِ شَعْرَةٍ مِنْهَا مَلَكٌ وَمَقَامُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَسَطِهَا فَيُنَادِي اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي كل ليلة القدر مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَلَيْسَ فِيهِمْ مَلَكٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ للمؤمنين.
فينزلون مع جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ إِمَّا سَاجِدٌ وَإِمَّا قَائِمٌ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْعَةٌ أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ بَعْضُ أَمَاكِنِكُمُ الَّتِي تَطْرَحُونَ فِيهَا الْخَبَثَ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ سَكْرَانٌ أَوْ بَيْتٌ فِيهِ مُسْكِرٌ أَوْ بَيْتٌ فِيهِ وَثَنٌ مَنْصُوبٌ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ جَرَسٌ مُعَلَّقٌ أَوْ مَبْوَلَةٌ أَوْ مَكَانٌ فِيهِ كَسَاحَةِ الْبَيْتِ، فَلَا يَزَالُونَ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا صَافَحَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَإِنَّ ذلك من مصافحة جبريل.
وذكر كعب أن مَنْ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بواحدة ونجاه مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ، فَقُلْنَا لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ صَادِقًا، فَقَالَ كعب الأحبار: وَهَلْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا كُلُّ صَادِقٍ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَتَثْقُلُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ حَتَّى كَأَنَّهَا عَلَى ظَهْرِهِ جَبَلٌ، فَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ هَكَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَجْهِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الشَّمْسِ فَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَتَصِيرُ الشَّمْسُ لَا شُعَاعَ لَهَا ثُمَّ يدعو ملكا
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات باب 84، وابن ماجة في الدعاء باب 5.(8/434)
مَلَكًا فَيَصْعَدُ فَيَجْتَمِعُ نُورُ الْمَلَائِكَةِ وَنُورُ جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَلَا تَزَالُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا ذَلِكَ مُتَحَيِّرَةً، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَهَمْ ذَلِكَ فِي دُعَاءٍ وَرَحْمَةٍ واستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولمن صام رمضان إيمانا واحتسابا، ودعا لِمَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ إِنْ عَاشَ إِلَى قَابِلٍ صام رمضان لله، فإذا أمسوا دخلوا إلى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا حِلَقًا فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ وعن امرأة امرأة، فيحدثونهم حتى يقولوا ما فَعَلَ فُلَانٌ وَكَيْفَ وَجَدْتُمُوهُ الْعَامَ؟
فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا عَامَ أَوَّلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مُتَعَبِّدًا، وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ مُبْتَدِعًا، وَوَجَدْنَا فُلَانًا مُبْتَدِعًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ عَابِدًا، قَالَ: فَيَكُفُّونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِذَلِكَ وَيَقْبَلُونَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا، وَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يَذْكُرَانِ اللَّهَ وَوَجَدْنَا فُلَانًا رَاكِعًا وَفُلَانًا سَاجِدًا، وَوَجَدْنَاهُ تَالِيًا لِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ حَتَّى يَنْتَهُوا مَكَانَهُمْ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: فَتَقُولُ لَهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، يَا سُكَّانِي حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ وَسَمُّوهُمْ لِي، فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنِّي أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ لَهَا وَيَحْكُونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، ثُمَّ تُقْبِلُ الْجَنَّةُ عَلَى السِّدْرَةِ فَتَقُولُ: أَخْبِرِينِي بِمَا أَخْبَرَكِ سُكَّانُكِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَتُخْبِرُهَا.
قَالَ: فَتَقُولُ الْجَنَّةُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ، اللَّهُمَّ عَجِّلْهُمْ إِلَيَّ فَيَبْلُغُ جِبْرِيلُ مَكَانَهَ قَبْلَهُمْ، فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: وَجَدْتُ فُلَانًا سَاجِدًا فَاغْفِرْ لَهُ، فَيَغْفِرُ لَهُ، فَيَسْمَعُ جِبْرِيلُ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيَقُولُونَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ وَمَغْفِرَتُهُ لِفُلَانٍ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَانًا الَّذِي وَجَدْتُهُ عَامَ أَوَّلَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَوَجَدْتُهُ الْعَامَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَتَوَلَّى عَمَّا أُمِرَ بِهِ فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ إِنْ تَابَ فَأَعْتَبَنِي قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ غَفَرْتُ لَهُ. فَيَقُولُ جِبْرِيلُ لَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي أَنْتَ أَرْحَمُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنْ عِبَادِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، قال: فيرتج العرش وما حوله والحجب والسموات وَمِنْ فِيهِنَّ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ. قَالَ وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ بعد رمضان أن لا يَعْصِيَ اللَّهَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا حِسَابٍ، آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
تفسير
سورة البينة
مَدَنِيَّةٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ هو ابْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عن
__________
(1) المسند 3/ 489. [.....](8/435)
عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَيَّةَ الْبَدْرِيَّ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَى آخِرِهَا قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي «إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ» قَالَ أُبَيٌّ:
وَقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «نَعَمْ» قَالَ: فَبَكَى أُبَيٌّ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سمعت قتادة يحدث أن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ «نَعَمْ» فَبَكَى «2» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَسْلَمُ الْمُنْقِرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ ذُكِرْتُ هُنَاكَ؟ قَالَ «نَعَمْ» فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ. قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي وَاللَّهُ يَقُولُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونُسَ: 58] قَالَ مُؤَمَّلٌ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ فِي الْحَدِيثِ؟
قَالَ: نَعَمْ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَجَّاجٌ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ- قَالَ فَقَرَأَ- لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ- قَالَ فَقَرَأَ فِيهَا- وَلَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ سَأَلَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ فَأُعْطِيَهُ لَسَأَلَ ثَانِيًا، وَلَوْ سَأَلَ ثَانِيًا فَأُعْطِيَهُ لَسَأَلَ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَإِنَّ ذَلِكَ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ غَيْرُ الْمُشْرِكَةِ وَلَا الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ وَمَنْ يَفْعَلُ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ» «5» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خُلَيْدٍ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ القرآن» قال:
__________
(1) المسند 3/ 130.
(2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب 16، وتفسير سورة 98، في الترجمة، باب 1، ومسلم في فضائل الصحابة حديث 122، والترمذي في المناقب باب 32، 64.
(3) المسند 5/ 123.
(4) المسند 5/ 131، 132.
(5) أخرجه الترمذي في المناقب باب 32- 64.(8/436)
بِاللَّهِ آمَنْتُ وَعَلَى يَدِكَ أَسْلَمْتُ وَمِنْكَ تَعَلَّمْتُ، قَالَ: فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْلَ، قَالَ: فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذُكِرْتُ هُنَاكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ بِاسْمِكَ وَنَسَبِكَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى» قَالَ: فَاقْرَأْ إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا غَرِيبُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالثَّابِتُ مَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ تَثْبِيتًا لَهُ وَزِيَادَةً لِإِيمَانِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْهُ- كَانَ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى إِنْسَانٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى خِلَافِ مَا أَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْرَأَهُمَا وَقَالَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا «أَصَبْتَ» قَالَ أُبَيُّ: فَأَخَذَنِي مِنَ الشَّكِّ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ، قَالَ أُبَيُّ: فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقًا، وَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ فَقَالَ: عَلَى حَرْفَيْنِ» فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ، كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَ هذا الحديث بطرقه ولفظه فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وفيها رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: 3] قَرَأَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةَ إِبْلَاغٍ وَتَثْبِيتٍ وَإِنْذَارٍ، لَا قِرَاءَةَ تَعَلُّمٍ وَاسْتِذْكَارٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ عَنْ تلك الأسئلة وكان فيما قال أو لم تَكُنْ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ، قَالَ: «بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ» فَلَمَّا رَجَعُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْفَتْحِ دعا عمر بن الخطاب فقرأها عَلَيْهِ وَفِيهَا قَوْلُهُ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] الآية كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْجَعْفَرِيِّ الْمَدَنِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنُ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ الْمَدَنِيِّ، حَدَّثَنِي فُضَيْلٌ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فيقول أبشر عبدي فوعزتي لأمكنن لَكَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَرْضَى» حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ نَظِيرٍ الْمُزَنِيِّ- أَوْ الْمَدَنِيِّ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيَقُولُ أَبْشِرْ عَبْدِي، فَوَعِزَّتِي لَا أَنْسَاكَ عَلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَأُمَكِّنَنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَرْضَى» .(8/437)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالنِّيرَانِ مِنَ الْعَرَبِ وَمِنَ الْعَجَمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ يَعْنِي مُنْتَهِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ الحق وهكذا قَالَ قَتَادَةُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. ثُمَّ فَسَّرَ الْبَيِّنَةَ بِقَوْلِهِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مُكْتَتَبٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ، كَقَوْلِهِ: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس:
13- 16] ، وقوله تعالى: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قِيمَةٌ عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ لَيْسَ فِيهَا خَطَأٌ لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ قَتَادَةُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ مستقيمة معتدلة، وقوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آلِ عِمْرَانَ: 105] يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَنَا، بَعْدَ مَا أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِمْ وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرِقٍ: «أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ النَّصَارَى اختلفوا على ثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أنا عليه وأصحابي» «1» .
وقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ: 25] وَلِهَذَا قَالَ: حُنَفاءَ أَيْ مُتَحَنِّفِينَ عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النَّحْلِ: 36] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ الْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَهِيَ أَشْرَفُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَيْ الْمِلَّةُ الْقَائِمَةُ الْعَادِلَةُ أَوِ الْأُمَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الْمُعْتَدِلَةُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الآية الكريمة أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ:
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة باب 1، والترمذي في الإيمان باب 18، وابن ماجة في الفتن باب 17، وأحمد في المسند 2/ 332، 3/ 120، 145.(8/438)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
[سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مآل الفجار من أهل كفرة الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الْمُخَالِفِينَ لَكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُرْسَلَةِ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَيْ مَاكِثِينَ لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أَيْ شَرُّ الْخَلِيقَةِ الَّتِي بَرَأَهَا اللَّهُ وَذَرَأَهَا ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَبْدَانِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ:
أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.
ثم قال تعالى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أَيْ بِلَا انْفِصَالٍ وَلَا انْقِضَاءٍ وَلَا فَرَاغٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَمَقَامُ رِضَاهُ عَنْهُمْ أَعْلَى مِمَّا أُوتُوهُ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَرَضُوا عَنْهُ فِيمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْفَضْلِ العميم.
وقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أَيْ هَذَا الْجَزَاءُ حَاصِلٌ لِمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَاتَّقَاهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وعبده كأنه يراه وعلم أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «رَجُلٌ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا كَانَتْ هَيْعَةٌ اسْتَوَى عَلَيْهِ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «رَجُلٌ فِي ثُلَّةٍ مِنْ غَنَمِهِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الْبَرِيَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى قَالَ: «الَّذِي يَسْأَلُ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطِي بِهِ» .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ لَمْ يكن، ولله الحمد والمنة.
تفسير
سورة الزلزلة
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ عباس عن
__________
(1) المسند 2/ 396.
(2) المسند 2/ 169.(8/439)
عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» ، قَالَ لَهُ: «اقْرَأْ ثَلَاثًا من ذوات الراء» فقال له الرجل: كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: «فاقرأ من ذوات حم» فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، فَقَالَ «اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ» فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً فَأَقْرَأَهُ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحق نبيا لَا أَزْيَدُ عَلَيْهَا أَبَدًا، ثُمَّ أَدْبَرَ الرِّجْلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ، أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ- ثُمَّ قَالَ- عَلَيَّ بِهِ- فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ- أُمِرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ» فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا مَنِيحَةَ أُنْثَى فَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: «لَا وَلَكِنَّكَ تَأْخُذُ من شعرك وتقلم أظافرك وَتَقُصُّ شَارِبَكَ وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ فَذَاكَ تَمَامُ أُضْحِيَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» «1» وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والنسائي من حديث أبي عبد الرّحمن المقرئي بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَلْمِ بْنِ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتِ عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ» ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ سَلْمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْحَرَشِيِّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَلْمٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وإِذا زُلْزِلَتِ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ» هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ «3» أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ. حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا يَمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْعَنْزِيُّ، حَدَّثَنَا عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَمَانِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا عُقَبَةُ بْنُ مُكَرَّمٍ الْعَمِّيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «هَلْ تَزَوَّجْتَ يَا فُلَانُ» قَالَ:
لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ؟ - قَالَ: «أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- قَالَ بَلَى- قَالَ- ثُلُثُ الْقُرْآنِ- قَالَ أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ - قَالَ بَلَى. قَالَ رُبُعُ الْقُرْآنِ- قَالَ- أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ؟ - قَالَ بَلَى قَالَ- رُبُعُ الْقُرْآنِ- قَالَ- أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ- قَالَ بَلَى، قَالَ- رُبُعُ الْقُرْآنِ، تَزَوَّجْ تَزَوَّجْ» ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، تَفَرَّدَ بِهِنَّ ثَلَاثَتِهِنَّ التِّرْمِذِيُّ لَمْ يَرْوِهِنَّ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الكتب.
__________
(1) أخرجه أبو داود في رمضان باب 9.
(2) كتاب ثواب القرآن باب 10.
(3) كتاب ثواب القرآن باب 10.(8/440)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أَيْ تَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها يَعْنِي أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجُّ: 1] وَكَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 3- 4] .
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تلقي الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُتِلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ رَحِمِي وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا» «1» .
وَقَوْلُهُ عز وجل: وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها أَيْ اسْتَنْكَرَ أَمْرَهَا بَعْدَ مَا كَانَتْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى ظَهْرِهَا أَيْ تَقَلَّبَتِ الْحَالُ فَصَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً قَدْ جَاءَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى ما قد أعده لَهَا مِنَ الزِّلْزَالِ الَّذِي لَا مَحِيدَ لَهَا عَنْهُ، ثُمَّ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَحِينَئِذٍ اسْتَنْكَرَ النَّاسُ أَمْرَهَا وَتَبَدَّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لله الواحد القهار.
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها أَيْ تُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ الْعَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ:
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ تَقُولَ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا» «3» ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعَ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيَّ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحفظوا
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 2، 6.
(2) المسند 2/ 374.
(3) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 99، باب 1. [.....](8/441)
مِنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٌ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا وهي مخبرة» .
وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : أَوْحَى لَهَا وَأَوْحَى إِلَيْهَا وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْحى لَها أَيْ أَوْحَى إِلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُضَمَّنٌ بِمَعْنَى أَذِنَ لَهَا. وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قَالَ: قَالَ لَهَا رَبُّهَا قُولِي فَقَالَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوْحى لَها أَيْ أَمَرَهَا، وَقَالَ القرظي: أمرها أن تنشق عنهم.
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً أَيْ يَرْجِعُونَ عَنْ موقف الْحِسَابِ أَشْتاتاً أَيْ أَنْوَاعًا وَأَصْنَافًا مَا بَيْنَ شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ مَأْمُورٍ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَأْمُورٍ بِهِ إِلَى النَّارِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
يَتَصَدَّعُونَ أَشْتَاتًا فَلَا يَجْتَمِعُونَ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَشْتاتاً فِرَقًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي ليعلموا بِمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلِهَذَا قَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ، لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ طِيَلَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ فِي الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أن تسقى بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا ورياء وَنِوَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ» فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ «3» مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْفَرَزْدَقِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال: حسبي لا أبالي أن لا أَسْمَعَ غَيْرَهَا. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عن إبراهيم بن محمد بن يونس الْمُؤَدِّبِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَعْصَعَةُ عَمُّ الفرزدق فذكره.
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 99، باب 1.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 99، باب 1.
(3) كتاب الزكاة حديث 24.
(4) المسند 5/ 59.(8/442)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» «1» وله أيضا في الصَّحِيحِ «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ» «2» وفي الصحيح أيضا «يا معشر نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» «3» يَعْنِي ظِلْفَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحَرَّقٍ» «4» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِعِنَبَةٍ وَقَالَتْ: كَمْ فِيهَا مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ «6» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «7» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:
«يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا» «8» وَرَوَاهُ النَّسَائِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ بَانَكَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «9» : حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُجْزَى بِمَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ، وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تُوفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: فِي كِتَابِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، أَنَّ أبا
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 34، والزكاة باب 10، والرقاق باب 51، والتوحيد باب 36.
(2) أخرجه أبو داود في اللباس باب 24، وأحمد في المسند 3/ 482، 483، 5/ 63، 64.
(3) أخرجه البخاري في الهبة باب 1، والأدب باب 30، ومسلم في الزكاة حديث 91.
(4) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 33، والترمذي في الزكاة باب 29، والنسائي في الزكاة باب 70، ومالك في صفة النبي حديث 1، وأحمد في المسند 4/ 70، 5/ 381، 6/ 382، 383، 434، 438.
(5) المسند 6/ 79.
(6) أخرجه مالك في الصدقة حديث 6.
(7) المسند 6/ 151.
(8) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب 29.
(9) تفسير الطبري 12/ 662.(8/443)
بَكْرٍ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ يَعْقُوبَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عن قِلَابَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَذَكَرَهُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاعِدٌ فَبَكَى حِينَ أُنْزِلَتْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ السُّورَةُ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لَخَلَقَ اللَّهُ أُمَّةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَعْرُوفُ بِعَلَّانَ الْمِصْرِيِّ قَالَا حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَرَاءٍ عَمَلِيَ؟ قَالَ «نَعَمْ» قُلْتُ: تِلْكَ الْكِبَارُ الْكِبَارُ. قَالَ «نَعَمْ» قُلْتُ: الصِّغَارُ الصِّغَارُ قَالَ «نَعَمْ» قُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّي! قَالَ: «أَبْشِرْ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بعشرة أَمْثَالِهَا- يَعْنِي إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ- وَيُضَاعِفُ اللَّهُ لمن يشاء والسيئة بمثلها أو يعفو اللَّهُ وَلَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ» قُلْتُ:
وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ» قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَمْ يَرْوِ هَذَا غَيْرُ ابْنِ لَهِيعَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الْإِنْسَانِ: 8] كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْجَرُونَ عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ إذا أَعْطَوْهُ، فَيَجِيءُ الْمِسْكِينُ إِلَى أَبْوَابِهِمْ، فَيَسْتَقِلُّونَ أَنْ يُعْطُوهُ التَّمْرَةَ وَالْكَسْرَةَ وَالْجَوْزَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَرُدُّونَهُ، وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ، إِنَّمَا نُؤْجَرُ عَلَى مَا نُعْطِي وَنَحْنُ نُحِبُّهُ، وَكَانَ آخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُلَامُونَ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ: الْكَذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْغِيبَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. يَقُولُونَ: إِنَّمَا وَعُدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَرَغَّبَهُمْ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَحَذَّرَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، فَنَزَلَتْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ يَعْنِي وَزْنَ أَصْغَرِ النَّمْلِ خَيْراً يَرَهُ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ وَيَسُرُّهُ ذَلِكَ، قَالَ:
يَكْتُبُ لِكُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَبِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضا بكل واحد عَشْرٌ وَيَمْحُو عَنْهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ فإذا زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ دَخَلَ الجنة.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 663، وفيه يحيى بن عبد الله بدل حيي بن عبد الله. [.....](8/444)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا وَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الزلزلة وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْعَادِيَاتِ
وَهِيَ مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
يُقْسِمُ تَعَالَى بِالْخَيْلِ إِذَا أُجْرِيَتْ فِي سَبِيلِهِ فَعَدَتْ وَضَبَحَتْ وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْفَرَسِ حِينَ تَعْدُو فَالْمُورِياتِ قَدْحاً يَعْنِي اصْطِكَاكَ نِعَالِهَا لِلصَّخْرِ فَتَقْدَحُ مِنْهُ النَّارَ فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يَعْنِي الْإِغَارَةَ وَقْتَ الصَّبَاحِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغير صباحا ويستمع الأذان فإن سمع أذانا وإلا أغار. وقوله تعالى: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً يَعْنِي غُبَارًا فِي مَكَانِ مُعْتَرَكِ الْخُيُولِ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أَيْ تَوَسَّطْنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ كُلُّهُنَّ جُمَعَ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ:
الْإِبِلُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ الْإِبِلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ، فَبَلَغَ عَلِيًّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ:
مَا كَانَتْ لَنَا خَيْلٌ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنما كان فِي سَرِيَّةٍ بُعِثَتْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الْحِجْرِ جَالِسًا جاءني رجل فسألني عن الْعادِياتِ ضَبْحاً فَقُلْتُ لَهُ: الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى اللَّيْلِ فَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ وَيُورُونَ نَارَهُمْ فَانْفَتَلَ عَنِّي فَذَهَبَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عِنْدُ سِقَايَةِ زمزم فسأله عن الْعادِياتِ ضَبْحاً فَقَالَ: سَأَلْتَ عَنْهَا أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نعم، سألت
__________
(1) المسند 1/ 402، 403.
(2) تفسير الطبري 12/ 666.(8/445)
ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُهُ لِي، فَلَمَّا وقف على رأسه قال: أتفتي النَّاسَ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ أَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرٌ وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا؟ إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَزَعْتُ عَنْ قَوْلِي وَرَجَعْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قال علي: إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ فَإِذَا أَوَوْا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَوْرُوا النِّيرَانَ، وَقَالَ العوفي وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ.
وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ إِنَّهَا الْإِبِلُ جَمَاعَةً مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وعبيد بن عمير، وقال بقول ابْنِ عَبَّاسٍ آخَرُونَ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وقتادة والضحاك واختاره ابن جرير، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: مَا ضَبَحَتْ دَابَّةٌ قَطُّ إِلَّا فَرَسٌ أَوْ كَلْبٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَصِفُ الضَّبْحَ أَحْ أَحْ، وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً يَعْنِي بِحَوَافِرِهَا، وَقِيلَ أَسْعَرْنَ الْحَرْبَ بَيْنَ رُكْبَانِهِنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ فَالْمُورِياتِ قَدْحاً يَعْنِي مَكْرَ الرِّجَالِ وَقِيلَ هُوَ إِيقَادُ النَّارِ إِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نِيرَانُ الْقَبَائِلِ، وَقَالَ: مَنْ فَسَّرَهَا بِالْخَيْلِ هُوَ إِيقَادُ النَّارِ بالمزدلفة. قال ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا الْخَيْلُ حِينَ تقدح بحوافرها.
وقوله تعالى: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي إِغَارَةَ الْخَيْلِ صُبْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ هُوَ الدَّفْعُ صُبْحًا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى. وَقَالُوا كُلُّهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي إِذَا حَلَّتْ فِيهِ، أَثَارَتْ بِهِ الْغُبَارَ إِمَّا في حج أو غزو وقوله تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكَ: يَعْنِي جَمْعَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَوَسَطْنَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ جَمِيعُهُنَّ وَيَكُونُ جَمْعًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيْعٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَيْلًا فَأَشْهَرَتْ شَهْرًا لَا يَأْتِيهِ مِنْهَا خَبَرٌ، فَنَزَلَتْ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ضَبَحَتْ بِأَرْجُلِهَا فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قَدَحَتْ بِحَوَافِرِهَا الْحِجَارَةَ فَأَوْرَتْ نَارًا فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً صَبَّحَتِ الْقَوْمَ بِغَارَةٍ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أَثَارَتْ بِحَوَافِرِهَا التُّرَابَ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قَالَ: صَبَّحَتِ القوم جميعا.
وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عليه بمعنى إنه بنعم ربه لكفور جحود قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو الضُّحَى وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ، وَالضَّحَّاكُ وَالْحُسْنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ زَيْدٍ: الْكَنُودُ الْكَفُورُ، قال الحسن: الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه.(8/446)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ- قال- الكنود الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ وَيَمْنَعُ رَفْدَهُ» رواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ فَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رواه ابن جرير أيضا من حديث جرير بْنِ عُثْمَانَ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ هَانِئٍ عَنْ أبي أمامة موقوفا. وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ قَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ:
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِشَهِيدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْإِنْسَانِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَهِيدٌ أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِ أَيْ ظَاهِرٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: 17] .
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَيْ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ وَهُوَ الْمَالُ لَشَدِيدٌ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ [أَحَدُهُمَا] أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَالِ [وَالثَّانِي] وَإِنَّهُ لَحَرِيصٌ بَخِيلٌ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَكِلَاهُمَا صحيح. ثم قال تبارك وتعالى مُزَهِّدًا فِي الدُّنْيَا وَمُرَغِّبًا فِي الْآخِرَةِ وَمُنَبِّهًا عَلَى مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ وَمَا يَسْتَقْبِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْوَالِ: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ أَيْ أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَ فِي نُفُوسِهِمْ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أَيْ لَعَالِمٌ بِجَمِيعِ ما كانوا يصنعون ويعملون ومجازيهم عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
آخر تفسير سورة العاديات، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْقَارِعَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
الْقَارِعَةِ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَالْحَاقَّةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْغَاشِيَةِ وغير ذلك. ثم قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهَا وَمُهَوِّلًا لِشَأْنِهَا: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أَيْ فِي انْتِشَارِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ كأنهم فراش مبثوث كما قال تعالى في الآية الأخرى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: 7] .(8/447)
وقوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ يَعْنِي قَدْ صَارَتْ كَأَنَّهَا الصُّوفُ الْمَنْفُوشُ الَّذِي قَدْ شَرَعَ فِي الذَّهَابِ وَالتَّمَزُّقِ. قَالَ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: العهن الصوف ثم أخبر تعالى عما يؤول إِلَيْهِ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الكرامة والإهانة بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أَيْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أَيْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ.
وقوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قِيلَ مَعْنَاهُ فَهُوَ سَاقِطٌ هَاوٍ بِأُمِّ رَأْسِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِأُمِّهِ يَعْنِي دِمَاغَهُ، رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابن عباس وعكرمة وأبي صالح وقتادة، وقال قَتَادَةُ: يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ يَهْوُونَ فِي النَّارِ عَلَى رؤوسهم، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَأُمُّهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَصِيرُ فِي الْمَعَادِ إِلَيْهَا هاوِيَةٌ وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْهَاوِيَةِ أُمُّهُ لِأَنَّهُ لَا مَأْوَى لَهُ غَيْرَهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْهَاوِيَةُ النَّارُ هِيَ أُمَّهُ وَمَأْوَاهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَأْوِي إِلَيْهَا وَقَرَأَ وَمَأْواهُمُ النَّارُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ النَّارُ وَهِيَ مَأْوَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْهَاوِيَةِ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى قَالَ: إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ذُهِبَ بِرُوحِهِ إِلَى أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُونَ رَوِّحُوا أَخَاكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ في غم الدنيا، قال ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول: مات، أو ما جَاءَكُمْ فَيَقُولُونَ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويَهْ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي كِتَابِ صِفَةِ النَّارِ- أَجَارَنَا اللَّهُ تعالى منها بمنه وكرمه- وقوله تعالى: نارٌ حامِيَةٌ أَيْ حَارَّةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ قَوِيَّةُ اللهب وَالسَّعِيرِ.
قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً؟
فَقَالَ: «إِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وستين جزاء» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ:
«أَنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 677.
(2) تفسير الطبري 12/ 677.
(3) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 10، ومسلم في الجنة حديث 30.
(4) المسند 2/ 467.(8/448)
سمعت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً؟ فَقَالَ: «لَقَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا حَرًّا فَحَرًّا» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ على شرط مسلم، وروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» وهذا على شرط الصحيحين وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مسلم في صحيحه من طريق «2» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا» .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ محمد الدراوردي عن سهل عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ» تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الخلال، حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُدْرُونَ مَا مَثَلُ نَارِكُمْ هَذِهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ؟ لَهِيَ أَشَدُّ سَوَادًا مِنْ دُخَانِ نَارِكُمْ هَذِهِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْ يحيى بن بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أو قد عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» «4» وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «5» مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدَيِّ عَنْ ابن أَبِي سَعِيدٍ وَعَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصيف، فأشد ما تجدون في الشتاء
__________
(1) المسند 2/ 244.
(2) بياض بالأصل.
(3) المسند 2/ 379.
(4) أخرجه الترمذي في جهنم باب 8، وابن ماجة في الزهد باب 38.
(5) المسند 2/ 432، 439، 3/ 13، 78.(8/449)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
مِنْ بَرْدِهَا وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الصَّيْفِ مِنْ حَرِّهَا» «1» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحُرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فيح جهنم» «2» .
آخر تفسير سورة القارعة، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ التَّكَاثُرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
يقول تعالى: أشغلكم حُبُّ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا وَزَهْرَتُهَا عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ وَابْتِغَائِهَا، وَتَمَادَى بِكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَكُمُ الْمَوْتُ وَزُرْتُمُ الْمَقَابِرَ وَصِرْتُمْ مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يحيى الوقاد المصري حدثني خالد بن عبد الدائم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ- عَنِ الطَّاعَةِ- حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ- حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَوْتُ» وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ في الرقاق منه وقال أخبرنا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يَعْنِي «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ» «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شعبة سمعت قتادة يحدث عن مطرف يعني ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الشَّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟» «5» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي من طريق شعبة به.
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 10، ومسلم في المساجد حديث 185، 187.
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 10، ومسلم في المساجد حديث 180، 184.
(3) أخرجه البخاري في الرقاق باب 10. [.....]
(4) المسند 4/ 24.
(5) أخرجه مسلم في الزهد حديث 3، والترمذي في تفسير سورة 102، باب 1، والنسائي في الوصايا باب 1.(8/450)
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِي مَالِي، وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ» تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ «1» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» «2» وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يهرم ابن آدم ويبقى مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» «4» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وذكر الحافظ بن عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَاسْمُهُ الضَّحَّاكُ أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَجُلٍ دِرْهَمًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الدِّرْهَمُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لِي، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ لَكَ إِذَا أَنْفَقْتَهُ فِي أَجْرٍ أَوِ ابْتِغَاءِ شُكْرٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَحْنَفُ مُتَمَثِّلًا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أَنْتَ لِلْمَالِ إِذَا أَمْسَكْتَهُ ... فَإِذَا أَنْفَقْتَهُ فَالْمَالُ لَكْ «5»
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا أَبُو أسامة قال صالح بن حبان حَدَّثَنِي عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: نزلت في قبلتين مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا فِيكُمْ مِثْلُ فلان ابن فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، تَفَاخَرُوا بِالْأَحْيَاءِ ثُمَّ قَالُوا انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانٍ يشيرون إلى القبور، وَمِثْلُ فُلَانٍ، وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيمَا رَأَيْتُمْ عِبْرَةٌ وَشُغْلٌ وَقَالَ قَتَادَةُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَكْثَرُ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، وَنَحْنُ أَعَدُّ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ كُلُّ يَوْمٍ يَتَسَاقَطُونَ إِلَى آخِرِهِمْ، وَاللَّهِ مَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كُلُّهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أَيْ صِرْتُمْ إِلَيْهَا وَدُفِنْتُمْ فِيهَا، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يَعُودُهُ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَالَ:
__________
(1) كتاب الزهد حديث 4.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 42، ومسلم في الزهد حديث 5، والترمذي في الزهد باب 46، والنسائي في الجنائز باب 52، وأحمد في المسند 3/ 110.
(3) المسند 3/ 115.
(4) أخرجه البخاري في الرقاق باب 10، ومسلم في الزكاة حديث 115.
(5) البيت لبعض المحدثين في عيون الأخبار لابن قتيبة 3/ 181.(8/451)
قُلْتَ طَهُورٌ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شيخ كبير، تزيره القبور، قال: «فنعم إذن» «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ الرَّازِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «2» عَنْ أبي كريب عن حكام بن سالم بِهِ، وَقَالَ غَرِيبٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سلمة بن أبي دَاوُدَ الْعُرَضِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمَلِيحِ الرَّقِّيُّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَرَأَ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ فلبث هنيهة ثم قال: يَا مَيْمُونُ مَا أَرَى الْمَقَابِرَ إِلَّا زِيَارَةً، وَمَا لِلزَّائِرِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى منزله. وقال أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ أي إلى جنة أو إلى نَارٍ، وَهَكَذَا ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ سَمِعَ رَجُلًا يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ، فَقَالَ بُعِثَ الْيَوْمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَيْ إِنَّ الزَّائِرَ سَيَرْحَلُ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ.
وقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ هَذَا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، وقال الضحاك: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني أيها الْكُفَّارَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يَعْنِي أَيُّهَا المؤمنون، وقوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيْ لَوْ عَلِمْتُمْ حَقَّ الْعِلْمِ لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ، ثُمَّ قَالَ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ هَذَا تَفْسِيرُ الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ توعدهم بهذا الحال، وهي رؤية أهل النار إذا زفرت زفرة واحدة خَرَّ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ، وقوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أَيْ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالرِّزْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا إِذَا قَابَلْتُمْ بِهِ نِعَمَهُ مِنْ شُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْخَزَّازُ الْمُقِرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى أَبُو خَالِدٍ الْخَزَّازُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ فِي المسجد فقال:
«ما أخرجك هذه الساعة؟» فقال: أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قَالَ أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قال:
__________
(1) أخرجه البخاري في المرضى باب 10، 14، والتوحيد باب 31، والمناقب باب 25، وأحمد في المسند 3/ 250.
(2) كتاب، التفسير، تفسير سورة 102، باب 1.(8/452)
فَقَعَدَ عُمَرُ وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُهُمَا ثُمَّ قَالَ: «هَلْ بِكُمَا مِنْ قُوَّةٍ تَنْطَلِقَانِ إِلَى هَذَا النَّخْلِ فَتُصِيبَانِ طَعَامًا وَشَرَابًا وَظِلًّا؟» قُلْنَا: نَعَمْ.
قَالَ: «مُرُّوا بِنَا إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ التَّيْهَانِ أَبِي الْهَيْثَمِ الْأَنْصَارِيِّ» قَالَ: فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأُمُّ الْهَيْثَمِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ تَسْمَعُ الْكَلَامَ تُرِيدُ أَنْ يَزِيدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّلَامِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ خَرَجَتْ أَمُّ الْهَيْثَمِ تَسْعَى خَلْفَهُمْ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ سَمِعْتُ تسليمك ولكن أردت أن تزيدني مِنْ سَلَامِكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرًا» ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ لَا أَرَاهُ؟» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ قَرِيبٌ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ الْمَاءَ، ادْخُلُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي السَّاعَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَبَسَطَتْ بِسَاطًا تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ فَفَرِحَ بِهِمْ وَقَرَّتْ عَيْنَاهُ بِهِمْ، فَصَعِدَ عَلَى نَخْلَةٍ فَصَرَمَ لَهُمْ أَعْذَاقًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«حَسْبُكَ يَا أَبَا الهيثم» فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْكُلُونَ مِنْ بُسْرِهِ وَمِنْ رُطَبِهِ وَمِنْ تَذْنُوبِهِ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بِمَاءٍ فَشَرِبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ» ، هَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّدَائِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ جَالِسَانِ إِذْ جَاءَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمَا هَاهُنَا؟» قَالَا: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجْنَا مِنْ بُيُوتِنَا إِلَّا الْجُوعُ. قَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ» فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَيْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَرْأَةُ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟» فَقَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مَاءً، فَجَاءَ صَاحِبُهُمْ يَحْمِلُ قِرْبَتَهُ فَقَالَ: مَرْحَبًا، مَا زار العباد شيء أفضل من نبي زَارَنِي الْيَوْمَ، فَعَلَّقَ قِرْبَتَهُ بِكَرْبِ نَخْلَةٍ وَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ؟» فَقَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونُوا الَّذِينَ تَخْتَارُونَ عَلَى أَعْيُنِكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ الشفرة فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ» فَذَبَحَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فَأَكَلُوا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ فَلَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَبْتُمْ هَذَا فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ» «2» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه بِنَحْوٍ مَنْ هَذَا السِّيَاقِ وَهَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، حَدَّثَنَا حَشْرَجٌ عَنْ أبي نصيرة عَنْ أَبِي عَسِيبٍ، يَعْنِي مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَمَرَّ بِي فَدَعَانِي فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، ثم مر بأبي
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 681، وفيه الحسن بن علي الصدائي.
(2) أخرجه مسلم في الأشربة حديث 140، وابن ماجة في الذبائح باب 7.
(3) المسند 5/ 81.(8/453)
بَكْرٍ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: «أَطْعِمْنَا بسرا» فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ وَقَالَ: «لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا رسول الله إنا لمسئولون عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
قَالَ: «نَعَمْ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: خِرْقَةٌ لَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ، أَوْ كَسْرَةٌ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ جُحْرٌ يدخل فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَمَّارٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رُطَبًا وَشَرِبُوا مَاءً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ «2» مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ جَابِرٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ، وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ فَعَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ» .
وَقَالَ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن حبيب، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ قَالَ كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فَطَلَعَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَاكَ طَيِّبَ النَّفْسِ، قَالَ: «أَجَلْ» ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «5» عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ «6» : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنِ الضحاك بن عبد الرّحمن بن عزرم الأشعري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ- يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ- الْعَبْدُ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ ألم نصح لك بدنك وَنَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الوليد بن مسلم عن
__________
(1) المسند 3/ 351.
(2) كتاب الوصايا باب 4. [.....]
(3) المسند 5/ 429.
(4) المسند 5/ 372، 380، 381.
(5) كتاب التجارات باب 1.
(6) كتاب التفسير، تفسير سورة 102، باب 5.(8/454)
عبد الله بن العلاء بن زبير بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ يَحْيَى بْنِ حَاطِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التمر والماء قال: «إن ذلك سيكون» «1» وقد رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِهِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالَتِ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّ نَعِيمٍ نَحْنُ فِيهِ وَإِنَّمَا نَأْكُلُ فِي أَنْصَافِ بُطُونِنَا خُبْزَ الشَّعِيرِ؟
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لَهُمْ أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَظُنُّهُ عَنْ عَامِرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالَ «الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ» وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ يَعْنِي شِبَعَ الْبُطُونِ وَبَارِدَ الشَّرَابِ وَظِلَالَ الْمَسَاكِنِ وَاعْتِدَالَ الْخَلْقِ وَلَذَّةَ النَّوْمِ، ورواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: حَتَّى عَنْ شَرْبَةِ عَسَلٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ كُلِّ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: من النعيم الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ. مِنَ النَّعِيمِ أكل السمن والعسل بِالْخَبْزِ النَّقِيِّ وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا أَشْمَلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالَ: النَّعِيمُ صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ يَسْأَلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيمَا اسْتَعْمَلُوهَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» «2» وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي شُكْرِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ لَا يَقُومُونَ بِوَاجِبِهِمَا وَمَنْ لَا يَقُومُ بِحَقِّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ مَغْبُونٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى المروزي، حدثنا علي بن الحسين بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أَبِي فَزَارَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَوْقَ الْإِزَارِ
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 102، باب 3، 4، وأحمد في المسند 5/ 429.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 1، والترمذي في الزهد باب 1، وابن ماجة في الزهد باب 15، وأحمد في المسند 1/ 344.(8/455)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
وظل الحائط والخبز، يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ يُسْأَلُ عَنْهُ» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ عَفَّانُ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ عَفَّانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- يَا ابْنَ آدَمَ حَمَلْتُكَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَزَوَّجْتُكَ النِّسَاءَ وَجَعَلْتُكَ تَرْبَعُ وَتَرْأَسُ فَأَيْنَ شُكْرُ ذَلِكَ؟» تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّكَاثُرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْعَصْرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ ذَكَرُوا أَنَّ عَمْرَو بن العاص وقد على مسيلمة الكذاب، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَمْرٌو، فقال له مسليمة: مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى صَاحِبِكُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؟ فقال: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ سُورَةٌ وَجِيزَةٌ بَلِيغَةٌ فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ فَفَكَّرَ مُسَيْلِمَةُ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ:
وَقَدْ أُنْزِلَ عَلِيَّ مِثْلُهَا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: يَا وَبْرُ يَا وَبْرُ، إنما أنت أذنان وصدر وسترك حفر نقر، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا عَمْرُو؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ.
وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الْخَرَائِطِيَّ أسند في كتابه المعروف (بمساوئ الْأَخْلَاقِ) فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. وَالْوَبْرُ دُوَيْبَةٌ تُشْبِهُ الْهِرَّ أَعْظَمُ شَيْءٍ فِيهِ أُذُنَاهُ وَصَدْرُهُ وَبَاقِيهِ دَمِيمٌ، فَأَرَادَ مُسَيْلِمَةُ أَنَّ يَرَكِّبَ مِنْ هَذَا الْهَذَيَانِ مَا يُعَارِضُ بِهِ الْقُرْآنَ. فَلَمْ يَرُجْ ذَلِكَ عَلَى عَابِدِ الْأَوْثَانِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عن ثابت عن عبيد الله بن حصن قَالَ:
كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يفترقا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
__________
(1) المسند 2/ 492.(8/456)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الْعَصْرُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ حَرَكَاتُ بَنِي آدَمَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ:
هُوَ الْعَشِيُّ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ أَيْ فِي خَسَارَةٍ وَهَلَاكٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَاسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ عَنِ الْخُسْرَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَهُوَ أَدَاءُ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكُ المحرمات وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْأَقْدَارِ وَأَذَى مَنْ يُؤْذِي مِمَّنْ يَأْمُرُونَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَصْرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الهمزة
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الْهَمَّازُ بِالْقَوْلِ وَاللَّمَّازُ بِالْفِعْلِ يَعْنِي يزدري الناس وَيَنْتَقِصُ بِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قوله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَمِ: 11] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، طَعَّانٍ مِعْيَابٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنس: الهمزة يهمزة قي وجهه واللمزة من خلفه وقال قتادة: الهمزة واللمزة لسانه وَعَيْنِهِ وَيَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِمْ «1» . وَقَالَ مجاهد: الهمزة باليدين وَالْعَيْنِ وَاللُّمَزَةُ بِاللِّسَانِ وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمَزَةٌ لُحُومُ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وَقِيلَ غَيْرُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هي عامة.
وقوله تعالى: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ أَيْ جَمَعَهُ بَعْضَهُ على بعض وأحصى عدده كقوله تعالى:
وَجَمَعَ فَأَوْعى [الْمَعَارِجِ: 18] قَالَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ أَلْهَاهُ مَالُهُ بِالنَّهَارِ هَذَا إِلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ نَامَ كَأَنَّهُ جِيفَةً منتنة.
وقوله تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أَيْ يَظُنُّ أَنَّ جَمْعَهُ الْمَالَ يُخْلِدُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَلَّا أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ وَلَا كَمَا حَسِبَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أَيْ لَيُلْقَيَنَّ هَذَا الَّذِي جَمَعَ مَالًا فَعَدَّدَهُ في الحطمة وهي اسم صفة من أسماء النار لِأَنَّهَا تُحَطِّمُ مَنْ فِيهَا وَلِهَذَا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ قال ثابت البناني:
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 687.(8/457)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
تَحْرِقُهُمْ إِلَى الْأَفْئِدَةِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ ثُمَّ يَقُولُ لَقَدْ بَلَغَ مِنْهُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ يَبْكِي، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ فُؤَادَهُ حَذْوَ حَلْقِهِ ترجع على جسده.
وقوله تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أَيْ مُطْبَقَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَلَدِ. وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سِرَاجٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ خَرْزَاذَ، حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ أَشْرَسَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ قَالَ: مُطْبَقَةٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي صالح قوله ولم يرفعه.
وقوله تعالى: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: عَمَدٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ مِنْ نَارٍ، وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ يَعْنِي الْأَبْوَابُ هِيَ الممددة، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود: إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَدْخَلَهُمْ فِي عمد ممددة عَلَيْهِمْ بِعِمَادٍ وَفِي أَعْنَاقِهِمُ السَّلَاسِلُ فَسَدَّتْ بِهَا الْأَبْوَابَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِعَمَدٍ فِي النَّارِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ يَعْنِي الْقُيُودَ الثقال.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْفِيلِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
هَذِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ فِيمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى هَدْمِ الْكَعْبَةِ، وَمَحْوِ أَثَرِهَا مِنَ الْوُجُودِ فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ وَأَرْغَمَ أنوفهم وَخَيَّبَ سَعْيَهُمْ وَأَضَلَّ عَمَلَهُمْ، وَرَدَّهُمْ بِشَرِّ خَيْبَةٍ، وَكَانُوا قَوْمًا نَصَارَى وَكَانَ دِينُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَقْرَبَ حَالًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ وَالتَّوْطِئَةِ لِمَبْعَثِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وُلِدَ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ وَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ: لَمْ نَنْصُرْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ عَلَى الْحَبَشَةِ لخيرتكم عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ صِيَانَةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي سَنُشَرِّفُهُ وَنُعَظِّمُهُ وَنُوَقِّرُهُ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَهَذِهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَالتَّقْرِيبِ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ أَنَّ ذَا نُوَاسٍ، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ وَكَانَ مشركا وهو الَّذِي قَتَلَ أَصْحَابَ(8/458)
الْأُخْدُودِ، وَكَانُوا نَصَارَى وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا دَوْسُ ذُو ثَعْلَبَانِ فَذَهَبَ فَاسْتَغَاثَ بِقَيْصَرَ مَلَكِ الشَّامِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَكَتَبَ لَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلَكِ الْحَبَشَةِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ، فَبَعَثَ مَعَهُ أَمِيرَيْنِ أَرِيَاطَ وَأَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَاحِ أَبَا يَكْسُومَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَدَخَلُوا الْيَمَنَ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَاسْتَلَبُوا الْمُلْكَ مِنْ حِمْيَرَ وَهَلَكَ ذُو نُوَاسٍ غَرِيقًا فِي الْبَحْرِ.
وَاسْتَقَلَّ الْحَبَشَةُ بِمُلْكِ الْيَمَنِ وَعَلَيْهِمْ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ أَرِيَاطُ وَأَبْرَهَةُ، فَاخْتَلَفَا فِي أَمْرِهِمَا وَتَصَاوَلَا وَتَقَاتَلَا وَتَصَافَّا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى اصْطِدَامِ الْجَيْشَيْنِ بَيْنَنَا وَلَكِنْ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ، فَأَيُّنَا قَتَلَ الْآخَرَ اسْتَقَلَّ بَعْدَهُ بِالْمُلْكِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَتَبَارَزَا وَخَلْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَنَاةٌ، فَحَمَلَ أَرِيَاطُ عَلَى أَبَرْهَةَ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَشَرَمَ أَنْفَهُ وَفَمَهُ وَشَقَّ وَجْهَهُ، وَحَمَلَ عَتَوْدَةُ مَوْلَى أَبَرْهَةَ عَلَى أَرِيَاطَ فَقَتَلَهُ وَرَجَعَ أَبَرْهَةُ جَرِيحًا فَدَاوَى جُرْحَهُ فَبَرِأَ وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ جَيْشِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ يَلُومُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَيَتَوَعَّدُهُ وَيَحْلِفُ لَيَطَأَنَّ بِلَادَهُ وَيَجِزَّنَّ نَاصِيَتَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبَرْهَةُ يَتَرَقَّقُ لَهُ وَيُصَانِعُهُ وَبَعَثَ مع رسوله بهدايا وتحف وبجراب فيه مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ.
وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، فَأَرْسَلَهَا مَعَهُ وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ لِيَطَأَ الْمَلِكُ عَلَى هَذَا الْجِرَابِ فَيَبِرُّ قَسَمَهُ، وَهَذِهِ نَاصِيَتِي قَدْ بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ فَلَمَّا وَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَعْجَبَهُ مِنْهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ.
وَأَرْسَلَ أَبَرْهَةُ يَقُولُ لِلنَّجَاشِيِّ إِنِّي سَأَبْنِي لَكَ كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْيَمَنِ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهَا مِثْلُهَا، فَشَرَعَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ هَائِلَةٍ بِصَنْعَاءَ رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ عَالِيَةَ الْفِنَاءِ مُزَخْرَفَةَ الْأَرْجَاءِ سَمَّتْهَا الْعَرَبُ الْقُلَّيْسَ لِارْتِفَاعِهَا لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهَا تَكَادُ تَسْقُطُ قُلُنْسُوَتُهُ عَنْ رَأْسِهِ مِنَ ارْتِفَاعِ بِنَائِهَا، وَعَزَمَ أَبَرْهَةُ الْأَشْرَمُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا كَمَا يُحَجُّ إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ، وَنَادَى بِذَلِكَ فِي مَمْلَكَتِهِ فَكَرِهَتِ الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيَّةُ وَالْقَحْطَانِيَّةُ ذَلِكَ، وَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى قَصَدَهَا بَعْضُهُمْ وَتَوَصَّلَ إِلَى أَنْ دَخْلَهَا لَيْلًا، فَأَحْدَثَ فِيهَا وَكَرَّ رَاجِعًا، فَلَمَّا رَأَى السَّدَنَةُ ذَلِكَ الحدث رفعوا أمره إِلَى مَلِكِهِمْ أَبَرْهَةَ، وَقَالُوا لَهُ إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا بَعْضُ قُرَيْشٍ غَضَبًا لِبَيْتِهِمُ الَّذِي ضَاهَيْتَ هَذَا بِهِ، فَأَقْسَمَ أَبَرْهَةُ لَيَسِيرَنَّ إِلَى بَيْتِ مَكَّةَ وَلَيُخَرِّبَنَّهُ حَجَرًا حَجَرًا.
وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلُوهَا فَأَجَّجُوا فِيهَا نَارًا وَكَانَ يَوْمًا فِيهِ هَوَاءٌ شَدِيدٌ، فاحترقت وسقطت إلى الأرض، فتأهب أبرهة لذلك وسار فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمْرَمٍ لِئَلَّا يَصُدَّهُ أَحَدٌ عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ فِيلًا عَظِيمًا كَبِيرَ الْجُثَّةِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يُقَالُ لَهُ مَحْمُودٌ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ لِذَلِكَ، وَيُقَالُ كَانَ مَعَهُ أَيْضًا ثَمَانِيَةُ أَفْيَالٍ، وَقِيلَ اثنا عشر فيلا غيره فالله أَعْلَمُ. يَعْنِي لِيَهْدِمَ بِهِ الْكَعْبَةَ بِأَنْ يَجْعَلَ السَّلَاسِلَ فِي الْأَرْكَانِ وَتُوضَعَ فِي عُنُقِ الْفِيلِ ثُمَّ يُزْجَرَ لِيُلْقِيَ الْحَائِطَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْعَرَبُ بِمَسِيرِهِ أَعْظَمُوا ذَلِكَ جِدًّا وَرَأَوْا أَنَّ حَقًا عَلَيْهِمُ الْمُحَاجَبَةُ دُونَ الْبَيْتِ، وَرَدُّ من أراده بكيد.(8/459)
فخرج إليه رجل مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبَرْهَةَ وَجِهَادِهِ عَنْ بيت الله، وما يريده مِنْ هَدْمِهِ وَخَرَابِهِ، فَأَجَابُوهُ وَقَاتَلُوا أَبَرْهَةَ فَهَزَمَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَرَامَةِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ وَأُسِرَ ذُو نَفْرٍ، فَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ ثُمَّ مَضَى لِوَجْهِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خثعم اعترض له نفيل بن حبيب الخثعمي فِي قَوْمِهِ شَهْرَانُ وَنَاهِسُ فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ أَبَرْهَةُ وَأُسِرَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ فَأَرَادَ قَتْلَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ لِيَدُلَّهُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ.
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا ثَقِيفٌ وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ الَّذِي عِنْدَهُمْ الَّذِي يُسَمُّونَهُ اللَّاتَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رُغَالٍ دَلِيلًا، فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى الْمُغَمْسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ نَزَلَ بِهِ. وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْحِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ فِي السَّرْحِ مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ الَّذِي أَغَارَ عَلَى السَّرْحِ بِأَمْرِ أَبَرْهَةَ أَمِيرِ الْمُقَدِّمَةِ، وَكَانَ يقال له الأسود بن مقصود فَهَجَاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَبَعَثَ أَبَرْهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِأَشْرَفِ قُرَيْشٍ وَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، فَجَاءَ حُنَاطَةُ فَدُلَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَبَلَّغَهُ عَنْ أَبَرْهَةَ مَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يخلي بينه وبينه فو الله مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ فَاذْهَبْ مَعِي إِلَيْهِ، فَذَهَبَ مَعَهُ.
فَلَمَّا رَآهُ أبرهة أجله، وكان عبد المطلب رجلا جسيما حَسَنَ الْمَنْظَرِ، وَنَزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْبِسَاطِ وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ ما حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: إِنَّ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي، فَقَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ.
قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَعَرَضُوا عَلَى أَبَرْهَةَ ثُلْثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَرَدَّ أَبَرْهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ والتحصن في رؤوس الْجِبَالِ تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخْذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ: [مجزوء الكامل]
لا همّ إنّ المرء يمنع ... رحله فامنع حلالك «1»
__________
(1) البيتان لعبد المطلب بن هاشم في لسان العرب (محل) ، (حلل) ، (غدا) ، وتاج العروس (محل) ، (غدا) .(8/460)
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبدا مِحَالَكَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ المطلب حلقة الباب ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال، وذكر مقاتل بن سلمان أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ لَعَلَّ بَعْضُ الْجَيْشِ يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حق فينتقم الله منهم، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَكَانَ اسْمُهُ مَحْمُودًا، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ نَحْوَ مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ وَقَالَ:
ابْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ فَبَرَكَ الْفِيلُ وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أُصْعِدَ فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بِهَا لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ.
وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحُمُّصِ والعدس ولا يصيب مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ. وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، هَذَا وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ وَعَرَبِ الْحِجَازِ يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نفيل يقول: [رجز]
أين المفرّ والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الْغَالِبْ «1»
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ نُفَيْلٌ فِي ذلك أيضا: [الوافر]
أَلَا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا ... نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الإصباح عينا
ودينة لَوْ رَأَيْتِ وَلَا تَرَيْهِ ... لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا
إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي ... وَلَمْ تأس عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا ... وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
فَكُلُّ القوم تسأل عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
وَذَكَرَ الواقدي بإسناده أَنَّهُمْ لَمَّا تَعْبَئُوا لِدُخُولِ الْحَرَمِ وَهَيَّئُوا الْفِيلَ جَعَلُوا لَا يَصْرِفُونَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا، فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ رَبَضَ وَصَاحَ، وَجَعَلَ أَبَرْهَةُ يَحْمِلُ عَلَى سَائِسِ الْفِيلِ وَيَنْهَرُهُ وَيَضْرِبُهُ لِيَقْهَرَ الْفِيلَ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ، وَطَالَ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ، هَذَا
__________
(1) الرجز لنفيل بن حبيب الحميري في الدرر 6/ 146، وشرح شواهد المغني ص 705، والمقاصد النحوية 4/ 123، وتفسير الطبري 12/ 698، وسيرة ابن هشام 1/ 53، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 498، ومغني اللبيب ص 296، وهمع الهوامع 2/ 138.(8/461)
وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة فيهم المطعم بن عدي وعمرو بن عائد بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو الثقفي على حراء ينظرون مَا الْحَبَشَةُ يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا يَلْقُونَ مِنْ أَمْرِ الْفِيلِ وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ أَيْ قِطَعًا قِطَعًا صُفْرًا دُونَ الْحَمَامِ وَأَرْجُلُهَا حُمْرٌ، ومع كل طائر ثلاثة أَحْجَارٍ وَجَاءَتْ فَحَلَّقَتْ عَلَيْهِمْ وَأَرْسَلَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارَ عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ جَاءُوا بِفِيلَيْنِ فَأَمَّا مَحْمُودٌ فَرَبَضَ وَأَمَّا الْآخَرُ فَشَجُعَ فَحُصِبَ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ مَعَهُمْ فِيَلَةٌ فَأَمَّا مَحْمُودٌ وَهُوَ فِيلُ الْمَلِكِ فَرَبَضَ لِيَقْتَدِيَ بِهِ بَقِيَّةُ الْفِيَلَةِ، وَكَانَ فِيهَا فِيلٌ تَشَجَّعَ فَحُصِبَ فَهَرَبَتْ بَقِيَّةُ الْفِيَلَةِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ. لَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ سَرِيعًا وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا وهم هاربون، وكان أبرهة ممن تساقط عضوا عضوا حتى مات ببلاد خثعم وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَيَهْلَكُونَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ وَأُصِيبَ أَبَرْهَةُ فِي جَسَدِهِ وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ، وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابُوا مَالًا جَزِيلًا مِنْ أَسْلَابِهِمْ وَمَا كَانَ مَعَهُمْ، وَأَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَصَابَ يَوْمَئِذٍ من الذهب ما ملأ حفرة. قال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ أَوَّلَ مَا رُؤِيَتِ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُؤِيَ بِهِ مَرَائِرُ الشَّجَرِ الْحَرْمَلِ وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشْرِ ذَلِكَ الْعَامُ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيمَا يَعُدُّ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ... لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْشٍ: 1- 4] أَيْ لِئَلَّا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ «1» : الْأَبَابِيلُ الْجَمَاعَاتُ وَلَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِوَاحِدَةٍ. قَالَ: وَأَمَّا السِّجِّيلُ فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النَّحْوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ الشَّدِيدُ الصُّلْبُ. قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ سَنْجُ وَجِلُّ يَعْنِي بِالسَّنْجِ الْحَجَرَ وَالْجِلِّ الطِّينُ. يَقُولُ الْحِجَارَةُ مِنْ هَذَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْحَجَرِ وَالطِّينِ. قَالَ:
وَالْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقْضَبُ وَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ، انْتَهَى ما ذكره.
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 55.(8/462)
وَقَدْ قَالَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ طَيْراً أَبابِيلَ قَالَ الْفَرَقُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: أَبَابِيلُ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: الْأَبَابِيلُ الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَبَابِيلُ شَتَّى مُتَتَابِعَةٌ مُجْتَمِعَةٌ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْأَبَابِيلُ الْمُخْتَلِفَةُ تَأْتِي مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا أَتَتْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَقَالَ الكسائي: سَمِعْتُ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ إِبِّيلٍ.
وقال ابن جرير «1» : حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنِي دَاوُدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أنه قال في قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ هِيَ الْأَقَاطِيعُ كَالْإِبِلِ الْمُؤَبَّلَةِ، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ عباس وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ قال: لهم خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلب. وحدثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنُ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قوله تعالى: طَيْراً أَبابِيلَ.
قَالَ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا خَرَجَتْ من البحر لها رؤوس كرؤوس السِّبَاعِ وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ طَيْراً أَبابِيلَ قَالَ: هي طيور سود بحرية في مناقيرها وأظافرها الْحِجَارَةُ «2» ، وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا لَهَا مَنَاقِيرُ صُفْرٌ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: كَانَتِ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ مِثْلَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا عنقاء مغرب «3» . ورواه عَنْهُمُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أُنْشِئَتْ مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ كُلُّ طَيْرٍ منها يحمل ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ مُجَزَّعَةٍ حَجَرَيْنِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرًا فِي مِنْقَارِهِ، قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى صُفَّتْ عَلَى رؤوسهم ثُمَّ صَاحَتْ وَأَلْقَتْ مَا فِي أَرْجُلِهَا وَمَنَاقِيرِهَا، فَمَا يَقَعُ حَجَرٌ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ من جسده إلا خرج مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، قَالَ طِينٌ فِي حِجَارَةٍ سَنْكُ وَكِلُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يعني التبن الذي تسميه العامة هبور، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدٍ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الْعَصْفُ التِّبْنُ وَالْمَأْكُولُ الْقَصِيلُ يُجَزُّ لِلدَّوَابِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: العصف القشرة التي على الحبة
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 692، وفيه: حدثني ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى.
(2) انظر تفسير الطبري 12/ 693.
(3) العنقاء المغرب: طائر من طيور الأساطير، مجهول الشكل، لم يره أحد والعرب تكنى به عن الداهية، والمغرب: المبعد في البلاد. [.....](8/463)
كَالْغُلَافِ عَلَى الْحِنْطَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ وَوَرَقُ الْبَقْلِ إِذَا أَكَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فَرَاثَتْهُ فَصَارَ دَرِينًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ وَرَدَّهُمْ بِكَيْدِهِمْ وَغَيْظِهِمْ، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَهْلَكَ عَامَّتَهُمْ وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ مخبر إِلَّا وَهُوَ جَرِيحٌ كَمَا جَرَى لِمَلِكِهِمْ أَبْرَهَةَ فَإِنَّهُ انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ حِينَ وَصَلَ إلى بلده صنعاء، وأخبرهم بما جَرَى لَهُمْ ثُمَّ مَاتَ فَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَكْسُومُ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبَرْهَةَ، ثُمَّ خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الحميري إلى كسرى فاستعانه عَلَى الْحَبَشَةِ فَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنْ جُيُوشِهِ فَقَاتَلُوا معه فرد لله إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَمَا كَانَ فِي آبَائِهِمْ مِنَ الْمُلْكِ وَجَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلتَّهْنِئَةِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَا مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ عِنْدَ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ حَيْثُ يَذْبَحُ الْمُشْرِكُونَ ذَبَائِحَهُمْ.
(قُلْتُ) : كَانَ اسْمُ قَائِدِ الْفِيلِ أُنَيْسًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَبَرْهَةَ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ وَإِنَّمَا بَعَثَ عَلَى الجيش رجلا يقال له شمر بن مقصود، وَكَانَ الْجَيْشُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَذَكَرَ أَنَّ الطَّيْرَ طَرَقَتْهُمْ لَيْلًا فَأَصْبَحُوا صَرْعَى، وَهَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ قَدْ قَوَّاهُ وَرَجَّحَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ الْحَبَشِيَّ قَدِمَ مَكَّةَ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السياقات والأشعار، وهكذا روي عن ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أبرهة بعث الأسود بن مقصود عَلَى كَتِيبَةٍ مَعَهُمُ الْفِيلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قُدُومَ أبرهة نفسه، والصحيح قدومه ولعل ابن مقصود كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ «1» شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ فِيمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ فَمِنْ ذلك شعر عبد الله بن الزبعرى: [الطويل]
تَنَكَّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إِنَّهَا ... كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا
لَمْ تُخْلَقِ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ ... إِذْ لَا عَزِيزَ مِنَ الْأَنَامِ يَرُومُهَا
سَائِلْ أَمِيرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى ... فَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلَيْمُهَا
سِتُّونَ أَلْفًا لَمْ يَؤُوبُوا أَرْضَهُمْ ... بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الِإْيَابِ سَقِيمُهَا
كَانَتْ بِهَا عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهَمُ ... وَاللَّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقِيمُهَا
وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الأسلت الأنصاري المري: [المتقارب]
ومن صنعه يوم فيل الحبوش ... إذ كل ما بعثوه رزم «2»
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 58.
(2) الأبيات في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 57، والبيت الأخير بلا نسبة في لسان العرب (ثأج) ، وتاج العروس (ثأج) .(8/464)
مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ شَرَمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ
وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إِذَا يَمَّمُوهُ قَفَاهُ كلم
فولى وأدبر أَدْرَاجِهِ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمْ
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْقِهِمْ حَاصِبًا ... يَلُفُّهُمْ مِثْلَ لَفِّ القزم
يحض عَلَى الصَّبْرِ أَحْبَارُهُمْ ... وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمْ
وقال أبو الصلت بن رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ، وَيُرْوَى لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بن أبي ربيعة:
[الخفيف]
إِنَّ آيَاتِ رَبِّنَا بَاقِيَاتٌ ... مَا يُمَارِي فِيهِنَّ إِلَّا الْكَفُورُ «1»
خُلِقَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَكُلٌّ ... مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ
ثُمَّ يَجْلُو النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيمٌ ... بِمَهَاةٍ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ
حَبَسَ الْفِيلَ بِالْمُغَمَّسِ حَتَّى ... صَارَ يَحْبُو كَأَنَّهُ مَعْقُورُ
لَازِمًا حَلْقُهُ الْجَرَّانَ كما قطر ... من ظهر كبكب محذور
حَوْلَهُ مِنْ مُلُوكِ كِنْدَةَ أَبْطَالُ ... مَلَاوِيثُ فِي الْحُرُوبِ صُقُورُ
خَلَّفُوهُ ثُمَّ ابْذَعَرُّوا جَمِيعًا ... كُلُّهُمْ عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ
كُلُّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ ... اللَّهِ إِلَّا دِينُ الْحَنِيفَةِ بُورُ
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَطَلَّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ فَزَجَرُوهَا فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ أَيْ حَرَنَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ- ثُمَّ قَالَ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا» ثُمَّ زَجَرَهَا فَقَامَتْ «2» . وَالْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ:
«إِنَّ اللَّهَ حَبْسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ قَدْ عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فليبلغ الشاهد الغائب» «3» .
آخر تفسير سورة الفيل، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) الأبيات في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 38، والبيت الثالث في لسان العرب (مها) ، وتاج العروس (مها) ، وبلا نسبة في المخصص 9/ 21، ورواية الديوان «ثم يجلو الظلام» بدل «ثم يجلو النهار» .
(2) أخرجه البخاري في الجهاد باب 59.
(3) أخرجه البخاري في العلم باب 39، ومسلم في الحج حديث 447، 448.(8/465)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
تفسير
سورة قُرَيْشٍ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ [ذِكْرُ حَدِيثٍ غَرِيبٍ فِي فَضْلِهَا] قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْخِلَافِيَّاتِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الصَّيْرَفِيُّ بِمَرْوَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن عبد الله المديني، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، حَدَّثَنِي عثمان بن عبد الله أَبِي عَتِيقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِلَالٍ: أَنِّي مِنْهُمْ وَأَنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ وَالْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ فِيهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ نَصَرَهُمْ عَلَى الْفِيلِ، وَأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُهُ غَيْرُهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ- ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
هَذِهِ السُّورَةُ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ كَتَبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمَا حَبَسْنَا عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَأَهْلَكْنَا أَهْلَهُ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ أَيْ لِائْتِلَافِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ آمِنِينَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَأْلَفُونَهُ مِنَ الرِّحْلَةِ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ فِي الْمَتَاجِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى بَلَدِهِمْ آمِنِينَ فِي أَسْفَارِهِمْ لِعَظَمَتِهِمْ عِنْدَ النَّاسِ لِكَوْنِهِمْ سُكَّانَ حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنْ عَرَفَهُمُ احْتَرَمَهُمْ بَلْ مَنْ صُوفِيَ إِلَيْهِمْ وسار معهم أمن بهم، وهذا حَالُهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ وَرِحْلَتِهِمْ فِي شِتَائِهِمْ وَصَيْفِهِمْ، وَأَمَّا فِي حَالِ إِقَامَتِهِمْ فِي الْبَلَدِ فَكَمَا قال اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ولهذا قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَمُفَسِّرٌ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ تعالى: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ.
قال ابْنُ جَرِيرٍ «1» : الصَّوَابُ أَنَّ اللَّامَ لَامُ التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ يَقُولُ اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، قَالَ وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 701.(8/466)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فقال: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أَيْ فَلْيُوَحِّدُوهُ بِالْعِبَادَةِ كَمَا جَعَلَ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا وَبَيْتًا مُحَرَّمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النَّمْلِ: 91] وَقَوْلُهُ تعالى:
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أَيْ هُوَ رَبُّ الْبَيْتِ، وَهُوَ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أَيْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ وَالرُّخْصِ فَلْيُفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يَعْبُدُوا مِنْ دُونِهِ صَنَمًا وَلَا نِدًّا وَلَا وَثَنًا، وَلِهَذَا مَنِ اسْتَجَابَ لِهَذَا الْأَمْرِ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ أَمْنِ الدُّنْيَا وَأَمْنِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ عَصَاهُ سَلَبَهُمَا مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النَّحْلِ: 112- 113] .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْعَدَنِيُّ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يقول: «ويل لكم قُرَيْشٍ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ» ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنَا عِيسَى يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ وَيَحْكُمُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَكُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَكُمْ مِنْ خَوْفٍ» هَكَذَا رَأَيْتُهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَصَوَابُهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَعَلَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ فِي النُّسْخَةِ أَوْ فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
آخر تفسير سورة لإيلاف قريش ولله الحمد والمنة.
تفسير
سورة الْمَاعُونُ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
يَقُولُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ وَهُوَ الْمَعَادُ وَالْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أَيْ هُوَ الَّذِي يَقْهَرُ الْيَتِيمَ وَيَظْلِمُهُ حَقَّهُ وَلَا يُطْعِمُهُ وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفَجْرِ: 17- 18] يَعْنِي الْفَقِيرَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يَقُومُ بأوده وكفايته، ثم قال(8/467)
تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي الْعَلَانِيَةِ وَلَا يُصَلُّونَ فِي السِّرِّ ولهذا قال: لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَقَدِ الْتَزَمُوا بِهَا ثُمَّ هُمْ عَنْهَا سَاهُونَ، إِمَّا عَنْ فِعْلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا عَنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا فَيُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَهُ مَسْرُوقٌ وأبو الضحى.
وقال عطاء بن دينار: الحمد لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ وَلَمْ يَقِلْ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، وَإِمَّا عَنْ وَقْتِهَا الْأَوَّلِ فَيُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخِرِهِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، وَإِمَّا عَنْ أَدَائِهَا بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِمَّا عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَالتَّدَبُّرِ لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله ولكن مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِسْطٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَدْ تم له نَصِيبُهُ مِنْهَا وَكَمُلَ لَهُ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ.
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهُ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» «1» فَهَذَا آخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ الَّتِي هِيَ الْوُسْطَى كَمَا ثَبَتَ بِهِ النَّصُّ إلى آخر وقتها، وهو وقت الكراهة، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَنَقَرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَا خَشَعَ فِيهَا أَيْضًا، وَلِهَذَا قَالَ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْقِيَامِ إِلَيْهَا مُرَاءَاةَ النَّاسِ لا ابتغاء وجه الله، فهو كما إذا لم يصل بالكلية. قال الله تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النِّسَاءِ:
142] وَقَالَ تعالى هاهنا: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبْدَوَيْهِ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا تَسْتَعِيذُ جَهَنَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ أعد ذلك لِلْمُرَائِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لِحَامِلِ كِتَابِ اللَّهِ وَلِلْمُصَّدِّقِ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ وَلِلْحَاجِّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلِلْخَارِجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَذَكَّرُوا الرِّيَاءَ فَقَالَ رَجُلٌ يُكَنَّى بِأَبِي يَزِيدَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ» وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ وَيَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد حديث 195، وأبو داود في الصلاة باب 5، والترمذي في المواقيت باب 6، والنسائي في المواقيت باب 9، وأحمد في المسند 3/ 149.
(2) المسند 2/ 162، 195، 212، 223، 224.(8/468)
فَذَكَرَهُ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِلَّهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ رِيَاءً، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَصَلِّي فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَعْجَبَنِي ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كُتِبَ لَكَ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ نِعْمَ الْحَدِيثُ لِلْمُرَائِينَ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ مُتَوَسِّطٌ، وَرِوَايَتُهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَزِيزَةٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْهُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو سِنَانٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ يُسِرُّهُ، فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» «1» . وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ بُنْدَارٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ، وَاسْمُهُ ضِرَارُ ابن مُرَّةَ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ وَقَدْ رَوَاهُ الأعمش وغيره عن حبيب عن أبي صالح مُرْسَلًا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ شَيْبَانَ النَّحْوِيِّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ لَوْ أُعْطِيَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ جَمِيعِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي إِنْ صَلَّى لَمْ يَرْجُ خَيْرَ صِلَاتِهِ وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخَفْ رَبَّهُ» فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَشَيْخُهُ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» أَيْضًا: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَارِقٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عن وقتها» قلت: وَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا يَحْتَمِلُ تَرْكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ ويحتمل صَلَاتَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا شَرْعًا أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْ أول الْوَقْتُ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِيهِ موقوفا:
سهوا عنها حتى ضاع الوقت، وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادًا وَقَدْ ضَعَّفَ الْبَيْهَقِيُّ رَفْعَهُ وصحح وقفه وكذلك الحاكم.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد باب 49، وابن ماجة في الزهد باب 25.
(2) تفسير الطبري 12/ 708.
(3) تفسير الطبري 12/ 708.(8/469)
وقوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أَيْ لَا أَحْسَنُوا عِبَادَةَ رَبِّهِمْ وَلَا أَحْسَنُوا إِلَى خَلْقِهِ حَتَّى وَلَا بِإِعَارَةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ أُولَى وَأُولَى، وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ عَلِيٌّ: الْمَاعُونُ الزَّكَاةُ، وَكَذَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عمر، وبه يقول محمد بن الحنيفة وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالزَّهْرِيُّ وَالْحُسْنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ صَلَّى رَاءَى وَإِنْ فَاتَتْهُ لِمَ يَأْسَ عَلَيْهَا وَيَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ وَفِي لَفْظٍ صَدَقَةَ مَالِهِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ ظَهَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّوْهَا، وَضَمِنَتِ الزَّكَاةُ فَمَنَعُوهَا. وَقَالَ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ أَنَّ أَبَا الْعُبَيْدَيْنِ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْمَاعُونِ فَقَالَ: هُوَ مَا يَتَعَاوَرُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الفأس والقدر. وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْمَاعُونِ فَقَالَ: هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ وَسَعْدِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْمَاعُونَ الدَّلْوُ وَالْفَأْسُ وَالْقِدْرُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُنَّ، وَحَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عِيَاضٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَاعُونِ فَقَالَ:
مَا يَتَعَاوَرُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ الْفَأْسُ وَالدَّلْوُ وَشَبَهُهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الفلاس، حدثنا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ونحن نقول منع الْمَاعُونُ مَنْعُ الدَّلْوِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ «3» .
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُلٌّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَكُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِيَّةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْمَاعُونُ الْعَوَارِي الْقِدْرُ وَالْمِيزَانُ وَالدَّلْوُ. وَقَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ يَعْنِي مَتَاعَ الْبَيْتِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وسعيد بن
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 710.
(2) تفسير الطبري 12/ 714.
(3) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 32. [.....](8/470)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّهَا الْعَارِيَّةُ لِلْأَمْتِعَةِ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قَالَ: لم يجيء أَهْلُهَا بَعْدُ: وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَمْنَعُونَ الطَّاعَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَمْنَعُونَ الْعَارِيَّةَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ: الْمَاعُونُ مَنْعُ النَّاسِ الْفَأْسَ وَالْقِدْرَ وَالدَّلْوَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ رَأْسُ الْمَاعُونِ زَكَاةُ الْمَالِ وَأَدْنَاهُ الْمُنْخُلُ وَالدَّلْوُ وَالْإِبْرَةُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبَى حَاتِمٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا وَتَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُعَاوَنَةِ بِمَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قَالَ: الْمَعْرُوفُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قَالَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ: الْمَالُ وَرَوَى هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا عَجِيبًا فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو زُرْعَةَ قَالَا، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا دُلْهَمُ بْنُ دَهْثَمٍ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ النُّمَيْرِيُّ. حَدَّثَنِي قُرَّةُ بْنُ دُعْمُوصٍ النُّمَيْرِيُّ أَنَّهُمْ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا! قَالَ: «لا تمنعوا الْمَاعُونَ» قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمَاعُونُ؟ قَالَ: «فِي الْحَجَرِ وَفِي الْحَدِيدَةِ وَفِي الْمَاءِ» قالوا: فأي الحديدة؟
قال: «قدروكم النُّحَاسُ وَحَدِيدُ الْفَأْسِ الَّذِي تَمْتَهِنُونَ بِهِ» قَالُوا: وما الحجر؟ قال: «قدروكم الْحِجَارَةُ» غَرِيبٌ جِدًّا وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الصَّحَابَةِ تَرْجَمَةَ عَلِيٍّ النُّمَيْرِيِّ فقال: روى ابن قانع بسنده إلى عامر بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ فُلَانٍ النُّمَيْرِيِّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ إِذَا لَقِيَهُ حَيَّاهُ بِالسَّلَامِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ الْمَاعُونَ» قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمَاعُونُ؟ قَالَ «الْحَجَرُ والحديد وأشباه ذلك» والله أعلم.
آخر تفسير سورة الماعون ولله الحمد والمنة.
تفسير
سورة الكوثر
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)(8/471)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك قال:
أغفى رسول الله إغفاءة، فرفع رأسه متبسما إِمَّا قَالَ لَهُمْ وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها فقال: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدَ الْكَوَاكِبِ يُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الإسناد الثلاثي، وهذا السياق عن مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عن أنس بن مالك.
وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنه يشخب فيه ميزابان من السماء من نهر الكوثر وأن آنيته عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مسلم وأبو داود والنسائي من طريق علي بن مسهر ومحمد بن فضيل، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفَظُ مُسْلِمٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، قلنا: ما أضحك يا رسول الله. قال: «لقد أُنْزِلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ثُمَّ قَالَ «أتدرون ما هو الْكَوْثَرُ؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: - فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كثير وهو حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عدد النجوم في السماء، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ» «2» .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ السُّورَةِ، وَأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مَعَهَا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا وَإِذَا حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ فضربت بيدي في تربته فإذا مسك أذفر وإذا حصباؤه اللُّؤْلُؤُ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قال
__________
(1) المسند 3/ 102.
(2) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 53، وأبو داود في السنة باب 23، والنسائي في الافتتاح باب 21.
(3) المسند 2/ 247.
(4) المسند 3/ 103.(8/472)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَا يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» «1» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: «أَتَيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ» «2» وهو لَفْظُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بن بلال عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُنَا قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَى به جبريل إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ عَلَيْهِ قَصْرٌ من اللؤلؤ وَزَبَرْجَدٍ، فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ قَالَ:
«يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا النَّهْرُ؟ قَالَ: هُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ» وَقَدْ تقدم حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم قال: «بينما أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ عَرَضَ لِي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فَقَالَ الْمَلَكُ- الَّذِي مَعَهُ- أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى أَرْضِهِ فَأَخْرَجَ مِنْ طِينِهِ الْمِسْكَ» وَكَذَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ طِرْخَانَ وَمَعْمَرٌ وَهَمَامٌ وَغَيْرُهُمْ عن قتادة به.
قال ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، حدثنا أبو أيوب العباس، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عبد الوهاب ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَوْثَرِ فَقَالَ: «هُوَ نَهْرٌ أعطانيه الله تعالى في الجنة ترابه مسك أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ تَرِدُهُ طير أعناقها مثل أعناق الجزر» وقال أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا لِنَاعِمَةٌ قَالَ «أَكْلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» .
وَقَالَ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الكوثر؟ قال: «هو نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أَعْطَانِيهِ رَبِّي لَهُوَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ» قَالَ عُمَرُ: يَا رسول الله إنها لناعمة. قال: «أكلها أنعم مِنْهَا يَا عُمَرُ» رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَوْثَرِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 108، باب 1، والرقاق باب 53.
(2) انظر التخريج السابق.
(3) تفسير الطبري 12/ 717.
(4) تفسير الطبري 12/ 720.
(5) المسند 3/ 220، 221.(8/473)
عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قالت: نهر أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ «1» ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ زَكَرِيَّا وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَمُطَرِّفٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُطَرَّفٍ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ شَاطِئَاهُ در مجوف، وقال إسرائيل: هو نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ مِنَ الْآنِيَةِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ شَقِيقٍ أَوْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدِّثِينِي عَنِ الْكَوْثَرِ قَالَتْ: نَهْرٌ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ وَمَا بُطْنَانُ الْجَنَّةِ؟ قَالَتْ: وَسَطُهَا حَافَّتَاهُ قُصُورُ اللؤلؤ والياقوت وترابه المسك وحصباؤه اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي نجيح عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مِنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ الْكَوْثَرِ فليجعل إصبعيه في أذنيه، هذا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَعَائِشَةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ رَجُلٍ عَنْهَا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَسْمَعُ نَظِيرَ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ يَسْمَعُهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ «3» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نهر في الجنة قال سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حديث هشيم عن أبي بسر وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَعُمُّ النَّهْرَ وَغَيْرَهُ لِأَنَّ الْكَوْثَرَ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ وَالْحُسْنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ النُّبُوَّةُ، وَالْقُرْآنُ وَثَوَابُ الْآخِرَةِ وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالنَّهْرِ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ يَجْرِي عَلَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس نحو ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 108، باب 1، وأحمد في المسند 6/ 281.
(2) تفسير الطبري 12/ 717.
(3) كتاب التفسير، تفسير سورة 108، باب 1.(8/474)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، يَجْرِي عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، مَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ بْنِ السَّائِبِ بِهِ مِثْلَهُ مَوْقُوفًا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حفص، حدثنا ورقاء قال: وقال عطاء عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَى اللُّؤْلُؤِ وَمَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» «3» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ بِهِ مَرْفُوعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: قَالَ لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكَوْثَرِ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لِلْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ يَجْرِي عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ المطلب يوما فلم يجده، سأل عنه امرأته وَكَانَتْ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ آنِفًا عَامِدًا نَحْوَكَ فَأَظُنُّهُ أَخْطَأَكَ في بعض أزقة بني النجار، أو لا تَدْخُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَدَخَلَ فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ حَيْسًا فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم هَنِيئًا لَكَ وَمَرِيئًا، لَقَدْ جِئْتَ وَأَنَا أُرِيدَ أَنْ آتِيَكَ فَأُهَنِّيَكَ وَأَمْرِيَكَ أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَارَةَ أَنَّكَ أُعْطِيتَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى الْكَوْثَرَ فَقَالَ:
«أَجَلْ وَعَرَضُهُ- يَعْنِي أَرْضَهُ- يَاقُوتٌ وَمَرْجَانٌ وَزَبَرْجَدٌ وَلُؤْلُؤٌ» .
حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّ هَذَا سِيَاقٌ حَسَنٌ، وَقَدْ صَحَّ أَصْلُ هَذَا بل قد تواتر من طرق تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وكذلك أحاديث الحوض، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ حَوْضٌ فِي الجنة.
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 717، 718.
(2) المسند 2/ 158. [.....]
(3) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 108، باب 3، وابن ماجة في الزهد باب 39.
(4) تفسير الطبري 12/ 720.
(5) تفسير الطبري 12/ 721.(8/475)
وقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أَيْ كَمَا أَعْطَيْنَاكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْرُ الَّذِي تَقَدَّمَ صِفَتُهُ، فَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ صَلَاتَكَ الْمَكْتُوبَةَ وَالنَّافِلَةَ وَنَحْرَكَ فَاعْبُدْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَانْحَرْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَامِ: 162- 163] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: يَعْنِي بِذَلِكَ نَحْرَ الْبُدْنِ وَنَحْوِهَا.
وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ وعطاء الخراساني والحكم وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السلف، وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون مِنَ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالذَّبْحِ عَلَى غَيْرِ اسْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام: 121] الآية، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَانْحَرْ وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى على اليد الْيُسْرَى تَحْتَ النَّحْرِ، يُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَلَا يَصِحُّ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ وَعَنْ أَبِي جعفر الباقر وَانْحَرْ يعني رفع الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ وَانْحَرْ أَيْ واستقبل بِنَحْرِكَ الْقِبْلَةَ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا مُنْكَرًا جِدًّا فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ إبراهيم القاضي سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نَبَاتَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا رَبِّي؟» فَقَالَ: لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلَاةِ ارْفَعْ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ وَإِذَا رَكَعْتَ وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا سَجَدْتَ فَإِنَّهَا صَلَاتُنَا وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةً وَزِينَةُ الصَّلَاةِ رَفَعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بْنِ حَاتِمٍ بِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ:
وَانْحَرْ أَيْ ارْفَعْ صُلْبَكَ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَاعْتَدِلْ وَأَبْرِزْ نَحْرَكَ يَعْنِي بِهِ الِاعْتِدَالَ، رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم وكل هَذِهِ الْأَقْوَالِ غَرِيبَةٌ جِدًّا، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْرِ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الْعِيدَ ثُمَّ يَنْحَرُ نُسُكَهُ وَيَقُولُ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نُسُكَ لَهُ» فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نَيَّارٍ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ. قَالَ:
«شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ» قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عِنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ أَفَتُجْزِئُ عَنِّي؟ قال:
«تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» «1» .
__________
(1) أخرجه البخاري في العيدين باب 5، 23، وأبو داود في الأضاحي باب 50، والنسائي في العيدين باب 17.(8/476)
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : وَالصَّوَابُ قَوْلُ من قال إن مَعْنَى ذَلِكَ فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ كُلَّهَا لِرَبِّكَ خَالِصًا دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَكَذَلِكَ نَحْرَكَ اجْعَلْهُ لَهُ دُونَ الْأَوْثَانِ شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ الَّذِي لَا كِفَاءَ لَهُ وَخَصَّكَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعَطَاءٌ. وقوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أَيْ إِنَّ مُبْغِضَكَ يَا مُحَمَّدُ وَمُبْغِضَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ وَالنُّورِ الْمُبِينِ هُوَ الْأَبْتَرُ الْأَقَلُّ الْأَذَلُّ الْمُنْقَطِعُ ذِكْرُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ:
نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ «2» عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ: كَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، فَإِذَا هَلَكَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، وَقَالَ شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ: نَزَلَتْ فِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعْيطٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يحيى الحساني، حدثنا ابن أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: أَنْتَ سَيِّدُهُمْ أَلَّا ترى إلى هذا الصبي الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ فَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ فَنَزَلَتْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وهكذا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَعَنْ عَطَاءٍ قال: نَزَلَتْ فِي أَبِي لَهَبٍ، وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ ابن لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ أَبُو لهب إلى المشركين فقال بُتِرَ مُحَمَّدٌ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَنْهُ: إِنَّ شانِئَكَ يَعْنِي عَدُّوَّكَ، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ مِمَّنْ ذُكِرَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَبْتَرُ الْفَرْدُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا مَاتَ ذُكُورُ الرَّجُلِ قَالُوا بُتِرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبْنَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَبْتَرَ الَّذِي إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، فَتَوَهَّمُوا لجهلهم أنه إذا مات بنوه انقطع ذِكْرُهُ، وَحَاشَا وَكَلَّا بَلْ قَدْ أَبْقَى اللَّهُ ذكره على رؤوس الْأَشْهَادِ، وَأَوْجَبَ شَرْعَهُ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ، مُسْتَمِرًّا على دوام الآباد، إلى يوم المحشر وَالْمَعَادِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ التَّنَادِّ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ، وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
تفسير
سورة الْكَافِرُونَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «3» عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَبِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 723، 724.
(2) انظر سيرة ابن هشام 1/ 393.
(3) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 98، 99، 100.(8/477)
فِي رَكْعَتِي الطَّوَافِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي رَكْعَتِي الْفَجْرِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، قَبْلَ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً أَوْ بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «2» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أربعا وعشرين مرة أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَالَ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ بِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» ، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ وإذا زُلْزِلَتِ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أبو إسحاق عن فروة بن نَوْفَلٍ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لَهُ: «هَلْ لَكَ فِي رَبِيبَةٍ لَنَا تَكْفُلُهَا؟» قَالَ: أَرَاهَا زَيْنَبَ، قَالَ ثُمَّ جَاءَ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا قَالَ: «مَا فَعَلَتِ الْجَارِيَةُ؟» قَالَ: تَرَكْتُهَا عِنْدَ أُمِّهَا. قَالَ: «فَمَجِيءُ مَا جَاءَ بِكَ» قَالَ: جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي قَالَ: «اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْقَطْرَانِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الطُّفَيْلِ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ أَخُو زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حَتَّى تَمُرَّ بِآخِرِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عن جابر عن معقل الزبيدي عن عبد الرّحمن بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَرَأَ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حتى يختمها.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6»
: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عن
__________
(1) المسند 2/ 24.
(2) المسند 2/ 99.
(3) المسند 2/ 94.
(4) أخرجه الترمذي في المواقيت باب 189، 191، والنسائي في الافتتاح باب 68، وابن ماجة في الإقامة باب 100، 101، 102.
(5) المسند 5/ 456.
(6) المسند 2/ 298، 4/ 57، 6/ 6.(8/478)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
الْحَارِثِ بْنِ جَبَلَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي، قَالَ: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ مِنَ اللَّيْلِ فَاقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» والله أعلم.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ جَابِرٍ عن معقل الزبيدي عن عبد البر أخضر أو أحمر أن رسول الله كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حَتَّى يَخْتِمَهَا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَهِيَ آمِرَةٌ بالإخلاص فيه فقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يشمل كُلَّ كَافِرٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ الْمُوَاجَهِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ دَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ سَنَةً، وَيَعْبُدُونَ مَعْبُودَهُ سَنَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ وَأَمَرَ رَسُولَهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَالَ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يَعْنِي مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، فما هَاهُنَا بِمَعْنَى مَنْ، ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أَيْ وَلَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمْ أَيْ لَا أَسْلُكُهَا وَلَا أَقْتَدِي بِهَا وَإِنَّمَا أَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أَيْ لَا تَقْتَدُونَ بِأَوَامِرَ اللَّهِ وَشَرْعِهِ فِي عِبَادَتِهِ، بَلْ قَدِ اخْتَرَعْتُمْ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ كَمَا قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النَّجْمِ: 23] .
فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ مَا هُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الْعَابِدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْبُودٍ يعبده وعبادة يسلكها إليه، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم وَأَتْبَاعُهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِمَا شَرَعَهُ، وَلِهَذَا كَانَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَيْ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ ولا طريق إليه إلا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ عِبَادَةً لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يُونُسَ: 44] وَقَالَ: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [الشورى: 15] .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1»
يُقَالُ: لَكُمْ دِينُكُمْ الْكَفْرُ وَلِيَ دِينِ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَقُلْ دِينِي لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالنُّونِ فَحُذِفَ الْيَاءُ كَمَا قَالَ: فَهُوَ يَهْدِينِ ويَشْفِينِ [الشُّعَرَاءِ: 80] وَقَالَ غَيْرُهُ:
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْآنَ وَلَا أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَةِ: 64] انْتَهَى مَا ذكره.
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 109، في الترجمة. [.....](8/479)
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ «1»
عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْحِ: 5- 6] وَكَقَوْلِهِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التَّكَاثُرِ: 6- 7] وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ كَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أقوال [أولها] ما ذكرناه أولا [والثاني] مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْمَاضِي وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ [الثَّالِثُ] أَنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ مَحْضٌ [وَثَمَّ قَوْلٌ رَابِعٌ] نَصَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ نَفْيُ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ نَفْيُ قَبُولِهِ لِذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ النَّفْيَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ آكَدُ، فَكَأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ وَكَوْنُهُ قَابِلًا لِذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْوُقُوعِ وَنَفْيُ الْإِمْكَانِ الشَّرْعِيِّ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، تُورِثُهُ الْيَهُودُ مِنَ النَّصَارَى وَبِالْعَكْسِ إذ كَانَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ أَوْ سَبَبٌ يُتَوَارَثُ بِهِ لِأَنَّ الْأَدْيَانَ مَا عَدَا الْإِسْلَامِ كُلَّهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْبُطْلَانِ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى عَدَمِ تَوْرِيثِ النَّصَارَى مِنَ الْيَهُودِ، وَبِالْعَكْسِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» «2» .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ قُلْ يَا أيها الكافرون.
تفسير
سورة النصر
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَعْدِلُ رُبْعَ القرآن، وإذا زُلْزِلَتِ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ ح وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عُتْبَةَ، أَتَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال صدقت «3» .
وروى الحافظان أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بن عبيدة الربذي عن صدقة بن
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 728.
(2) أخرجه أبو داود في الفرائض باب 10، والترمذي في الفرائض باب 16، وابن ماجة في الفرائض باب 6، والدارمي في الفرائض باب 29، وأحمد في المسند 2/ 195.
(3) أخرجه مسلم في التفسير حديث 21.(8/480)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرَحَلَتْ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَذَكَرَ خُطْبَتَهُ الْمَشْهُورَةَ وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَارُ، حَدَّثَنَا الْأَسْفَاطِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي» فَبَكَتْ ثُمَّ ضَحِكَتْ وَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ ثُمَّ قَالَ: «اصْبِرِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لِحَاقًا بِي» فَضَحِكْتُ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ كَمَا سَيَأْتِي بِدُونِ ذِكْرِ فَاطِمَةَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «1»
: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ:
لِمَ يُدْخِلْ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يوم فأدخلني معهم فما رأيت أَنَّهُ دَعَانِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ:
مَا تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مِهْرَانَ عَنِ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ نَحْوَهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2»
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعيت إلي نفسي» فإنه مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ: وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّهَا أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعي إليه.
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 110، باب 1.
(2) المسند 1/ 217.(8/481)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1»
: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، حدثنا الحسن بْنُ عِيسَى الْحَنَفِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ:
«اللَّهُ أَكْبَرُ! اللَّهُ أَكْبَرُ! جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ! جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ- قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟
قَالَ- قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» ثُمَّ رواه عن الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ قَالَ: نُعِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ حِينَ نَزَلَتْ، قَالَ: فَأَخَذَ بِأَشَدِّ مَا كَانَ قَطُّ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ «جَاءَ الْفَتْحُ وَنَصْرُ اللَّهِ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: «قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لينة طباعهم، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2»
: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، فَقِيلَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ السُّورَةُ كُلُّهَا، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ نُعِيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ «3» .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ جَمِيعًا إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4»
أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى خَتَمَهَا فَقَالَ: «النَّاسُ حَيِّزٌ وَأَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌّ- وَقَالَ- لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: كَذَبْتَ، وَعِنْدَهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَاعِدَانِ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَوْ شَاءَ هَذَانِ لَحَدَّثَاكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عِرَافَةِ قَوْمِهِ. وَهَذَا يَخْشَى أَنْ تَنْزِعَهُ عن الصدقة. فرفع مروان عليه الدرة
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 729.
(2) المسند 1/ 344.
(3) أخرجه أحمد في المسند 1/ 356.
(4) المسند 3/ 22، 5/ 187.(8/482)
لِيَضْرِبَهُ فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا: صَدَقَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ مَرْوَانُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: «لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَلَكِنْ إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» «1»
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
فَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَشْكُرَهُ وَنُسَبِّحَهُ، يَعْنِي نُصَلِّي له وَنَسْتَغْفِرَهُ.
مَعْنَى مَلِيحٌ صَحِيحٌ وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقْتَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هِيَ صَلَاةُ الضُّحَى، وَأُجِيبُوا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا فَكَيْفَ صَلَّاهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَدْ كَانَ مُسَافِرًا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ، وَلِهَذَا أَقَامَ فِيهَا إِلَى آخِرِ شهر رمضان قريبا من تسع عَشَرَ يَوْمًا، يُقْصِرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ هُوَ وَجَمِيعُ الْجَيْشِ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَإِنَّمَا كَانَتْ صَلَاةُ الْفَتْحِ.
قَالُوا: فَيُسْتَحَبُّ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ إِذَا فَتَحَ بَلَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُهُ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَهَكَذَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ فَتَحَ الْمَدَائِنَ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلِّيهَا كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ كَمَا وَرَدَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
وَأَمَّا مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نُعِيَ فِيهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الْكَرِيمَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا فَتَحْتَ مَكَّةَ وَهِيَ قَرْيَتُكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَقَدْ فَرَغَ شُغْلُنَا بِكَ فِي الدُّنْيَا فَتَهَيَّأْ لِلْقُدُومِ عَلَيْنَا وَالْوُفُودِ إِلَيْنَا، فَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، وَلِهَذَا قَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.
قَالَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إِلَى آخِرِ السورة قال: نعيت لرسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ حِينَ أُنْزِلَتْ فَأَخَذَ فِي أَشَدِّ مَا كَانَ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ: «جَاءَ الْفَتْحُ وَجَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: «قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ لَيِّنَةٌ قُلُوبُهُمُ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ وَالْفِقْهُ يَمَانٍ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ «سُبْحَانَكَ
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 1، 27، ومسلم في الإمارة حديث 85.(8/483)
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ «1»
وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2»
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ في آخر أمره من قوله: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ» وَقَالَ: «إِنَّ رَبِّي كَانَ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي وَأَمَرَنِي إِذَا رَأَيْتُهَا أَنْ أُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ وَأَسْتَغْفِرَهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، فَقَدْ رَأَيْتُهَا إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً
وَرَوَاهُ مسلم «3»
مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4»
: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ حَدَّثَنَا حَفْصٌ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي آخِرِ أَمْرِهِ لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَذْهَبُ وَلَا يَجِيءُ إِلَّا قَالَ:
«سُبْحَانَ الله وبحمده» فقلت: يا رسول الله رأيتك تُكْثِرُ مِنْ سُبْحَانِ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، لَا تَذْهَبُ وَلَا تَجِيءُ وَلَا تَقُومُ وَلَا تَقْعُدُ إِلَّا قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ قَالَ: «إِنِّي أُمِرْتُ بِهَا- فَقَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، غَرِيبٌ، وَقَدْ كَتَبْنَا حَدِيثَ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ فَيُكْتَبُ هَاهُنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5»
: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ كَانَ يُكْثِرُ إِذَا قَرَأَهَا وَرَكَعَ أَنْ يَقُولَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ثَلَاثًا تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هَاهُنَا فَتْحُ مَكَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا، فَإِنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ كَانَتْ تَتَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهَا فَتْحَ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنْ ظَهَرَ عَلَى قَوْمِهِ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمْ تَمْضِ سَنَتَانِ حَتَّى اسْتَوْسَقَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إِيمَانًا، وَلَمْ يَبْقَ فِي سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَّا مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ «6»
فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْفَتْحُ بَادَرَ كُلُّ قوم
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 110، باب 2، ومسلم في الصلاة حديث 217، وأبو داود في الصلاة باب 148، والنسائي في التطبيق باب 64، 65، وابن ماجة في الإقامة باب 20، وأحمد في المسند 6/ 43، 49، 190.
(2) المسند 6/ 35.
(3) كتاب الصلاة حديث 220.
(4) تفسير الطبري 12/ 731. [.....]
(5) المسند 1/ 388.
(6) كتاب المغازي باب 53.(8/484)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
بِإِسْلَامِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتِ الْأَحْيَاءُ تَتَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهَا فَتْحَ مَكَّةِ، يَقُولُونَ دَعُوهُ وَقَوْمَهُ فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ الْحَدِيثُ، وَقَدْ حَرَّرْنَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي كتابنا «السيرة» فمن أراده فَلْيُرَاجِعْهُ هُنَاكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1»
: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ حَدَّثَنِي جَارٌ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ عَنِ افْتِرَاقِ النَّاسِ وَمَا أَحْدَثُوا، فَجَعَلَ جَابِرٌ يَبْكِي ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجًا» .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ النصر، ولله الحمد والمنة.
تفسير
سورة المسد
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «2»
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَصَعِدَ الْجَبَلَ فَنَادَى:
«يَا صَبَاحَاهَ» فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ أَكَنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ - قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: - فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ:
أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ تَبًّا لَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى آخِرِهَا وَفِي رِوَايَةٍ فَقَامَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «3»
الْأَوَّلُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَالثَّانِي خَبَرٌ عَنْهُ، فَأَبُو لَهَبٍ هَذَا هُوَ أَحَدُ أَعْمَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وكنيته أبو عتيبة وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَبَا لَهَبٍ لِإِشْرَاقِ وَجْهِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبُغْضَةِ لَهُ وَالِازْدِرَاءِ بِهِ وَالتَّنَقُّصِ لَهُ وَلِدِينِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4»
: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَبَّادٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ وكان جاهليا فأسلم قال: رأيت
__________
(1) المسند 3/ 343.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 111، باب 1، 2، 3.
(3) أخرجه البخاري في الجنائز باب 98، وتفسير سورة 26، باب 2، وتفسير سورة 34، باب 2.
(4) المسند 4/ 341.(8/485)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا» وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ، يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ سُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ قَالَ أَبُو الزِّنَادِ قُلْتُ لِرَبِيعَةَ كُنْتُ يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ أَنِّي أَزَفْرُ الْقِرْبَةَ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ «1» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «2»
: حَدَّثَنِي حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عَبَّادٍ الدِّيلِيَّ يَقُولُ: إِنِّي لَمَعَ أَبِي رَجُلٌ شَابٌّ أَنْظُرُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل ووراءه رجل أحول وضيء الوجه ذُو جُمَّةٍ، يَقِفُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَبِيلَةِ فَيَقُولُ: «يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُنَفِّذَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ» وَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ الْآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ: يَا بَنِي فُلَانٍ هَذَا يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ تَسْلُخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تَسْمَعُوا لَهُ وَلَا تَتَّبِعُوهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ «3»
أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي خسر وخاب وَضَلَّ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ وَتَبَّ أَيْ وَقَدْ تَبَّ تحقق خسارته وهلاكه.
وقوله تعالى: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَما كَسَبَ يَعْنِي وَلَدَهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْحُسْنِ وَابْنِ سِيرِينَ مِثْلَهُ، وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم لما دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، قَالَ أَبُو لَهَبٍ: إن كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا فَإِنِّي أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب الأليم بمالي وولدي فأنزل الله تعالى مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي ذات لهب وشرر وَإِحْرَاقٍ شَدِيدٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ سَادَاتِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ، وَاسْمُهَا أَرْوَى بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِهَا عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ وَعِنَادِهِ. فَلِهَذَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَوْنًا عَلَيْهِ فِي عَذَابِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ولهذا قال تعالى: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ يَعْنِي تَحْمِلُ الْحَطَبَ فَتُلْقِي عَلَى زَوْجِهَا لِيَزْدَادَ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَهِيَ مُهَيَّأَةٌ لِذَلِكَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ: مِنْ مَسَدِّ النَّارِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحُسْنِ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
__________
(1) المسند 4/ 341، 342.
(2) سيرة ابن هشام 1/ 423.
(3) المسند 3/ 492.(8/486)
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةَ الْجَدَلِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ: كَانَتْ تَضَعُ الشَّوْكَ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن جرير: كَانَتْ تُعَيِّرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ، وَكَانَتْ تَحْتَطِبُ فَعُيِّرَتْ بِذَلِكَ، كَذَا حَكَاهُ ولن يَعْزُهُ إِلَى أَحَدٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
كَانَتْ لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ فَقَالَتْ لَأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ يَعْنِي فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ بِهَا حَبْلًا فِي جِيدِهَا مِنْ مَسَدِ النَّارَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُلَيْمٍ مَوْلَى الشَّعْبِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْمَسَدُّ اللِّيفُ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْمَسَدُّ سِلْسِلَةٌ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وعن الثوري:
هي قِلَادَةٌ مِنْ نَارٍ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَسَدُ اللِّيفُ، وَالْمَسَدُ أَيْضًا حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ أَوْ خُوصٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ أَوْ أَوْبَارِهَا، وَمَسَدْتُ الْحَبْلَ أُمْسِدُهُ مَسْدًا إِذَا أَجَدْتُ فَتْلَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أَيْ طَوْقٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ يُسَمَّوْنَ الْبَكْرَةَ مَسَدًا؟ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو زُرْعَةَ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ عن أبي بدوس عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ وَهِيَ تَقُولُ: [رجز]
مُذَمَّمًا أَبَيْنَا ... وَدِينَهُ قَلَيْنَا
وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بكر قال: يا رسول الله لقد أَقْبَلَتْ وَأَنَا أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَرَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الْإِسْرَاءِ: 45] فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي أُخْبِرْتُ أن صاحبك هجاني، فقال: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا قَالَ: وَقَالَ الْوَلِيدُ فِي حَدِيثِهِ أَوْ غَيْرِهِ: فَعَثَرَتْ أُمُّ جَمِيلٍ فِي مِرْطِهَا وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَتْ: تَعِسَ مُذَمَّمٌ، فَقَالَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
إِنِّي لَحِصَانُ فَمَا أكلم، وثقاف فما أعلم، وكلتانا مِنْ بَنِي الْعَمِّ، وَقُرَيْشٌ بَعْدُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَنَحَّيْتَ لَا تُؤْذِيكَ بِشَيْءٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنِهَا» فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ هَجَانَا صَاحِبُكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ ما ينطق بِالشِّعْرِ وَلَا يَتَفَوَّهُ بِهِ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَمُصَدِّقٌ، فلما ولّت قال أبو بكر: مَا رَأَتْكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا زَالَ مَلَكٌ يَسْتُرُنِي حَتَّى وَلَّتْ» .(8/487)
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى بِأَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنقها حبل من نَارِ جَهَنَّمَ تُرْفَعُ بِهِ إِلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ ترمى إِلَى أَسْفَلِهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ دَائِمًا، قَالَ أَبُو الخطاب بن دحية في كتاب التَّنْوِيرِ، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ وَعَبَّرَ بِالْمَسَدِ عَنْ حَبْلِ الدَّلْوِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنُورِيُّ فِي كِتَابِ النَّبَاتِ: كُلُّ مَسَدٍ رِشَاءٌ، وَأَنْشَدَ في ذلك: [رجز]
وَبَكْرَةً وَمِحْوَرًا صِرَارًا ... وَمَسَدًا مِنْ أَبَقٍ مُغَارًا
قال: والأبق القنب. وقال الآخر: [رجز]
يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعَوَّذْ مِنِّي ... إِنْ تَكُ لَدْنًا لَيِّنَا فَإِنِّي «1»
مَا شِئْتَ مِنْ أَشْمَطَ مُقْسَئِنَّ
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ مُنْذُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِالشَّقَاءِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُقَيِّضْ لَهُمَا أَنْ يُؤْمِنَا وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمَا لا باطنا ولا ظاهرا، لَا مُسِرًّا وَلَا مُعْلِنًا، فَكَانَ هَذَا مِنْ أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة، آخر تفسير السورة، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْإِخْلَاصِ
وَهِيَ مكية
(ذكر سبب نزولها وفضلها)
قال الإمام أحمد «2»
: حدثنا أبو سعيد مُحَمَّدُ بْنُ مُيَسَّرٍ الصَّاغَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا محمد «انسب لنا ربك، فأنزل الله تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «3»
وَابْنُ جَرِيرٍ «4»
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَحْمُودُ بن خداش عن أبي سعيد مُحَمَّدِ بْنِ مُيَسَّرٍ بِهِ زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ والترمذي قال الصَّمَدُ
__________
(1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (مسد) (قسن) ، وتاج العروس (مسد) ، (قسن) ، وجمهرة اللغة ص 1089، 1220، وكتاب العين 5/ 79، ومقاييس اللغة 5/ 87، والمخصص 2/ 95، وتهذيب اللغة 8/ 409، 12/ 380.
(2) المسند 5/ 133، 134.
(3) كتاب التفسير، تفسير سورة 112، باب 1.
(4) تفسير الطبري 12/ 740.(8/488)
الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُوَلَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلا سيورث، وإن الله عز وجل لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وَلَمْ يَكُنْ له شبيه وَلَا عَدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سعيد مُحَمَّدِ بْنِ مُيَسِّرٍ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فذكره مرسلا ثم لم يذكر حدثنا، ثم قال الترمذي: وهذا أصح من حديث أبي سعيد.
[حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ] قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلى آخرها إسناد متقارب، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ سُرَيْجٍ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَطَّارُ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قال الطبراني: ورواه الْفِرْيَابِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ مُرْسَلًا، ثُمَّ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الطَّائِفِيِّ، عَنِ الْوَازِعِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ نِسْبَةٌ وَنِسْبَةُ اللَّهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ وَالصَّمَدُ لَيْسَ بِأَجْوَفَ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ فِي فَضْلِهَا] قَالَ الْبُخَارِيُّ «1»
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ الذُهْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صلاتهم فيختم بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ» فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ» هَكَذَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْقِطُ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ الذُّهْلِيِّ وَيَجْعَلُهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ «2»
وَالنَّسَائِيُّ «3»
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الحارث، عن سعيد بن أبي هلال بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْبُخَارِيُّ «4» فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أنس رضي الله
__________
(1) كتاب التوحيد باب 1. [.....]
(2) كتاب صلاة المسافرين حديث 98.
(3) كتاب الافتتاح باب 39.
(4) كتاب الأذان باب 106.(8/489)
عنه قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افتتح بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ كان يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ: فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِالْأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بها، وإما تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكَتْكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: «يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» قَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» .
هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ «1» فِي جَامِعِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ سَوَاءً، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ. قَالَ:
وَرَوَى مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قَالَ: «إِنَّ حُبَّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» وَهَذَا الَّذِي عَلَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» فِي مُسْنَدِهِ مُتَّصِلًا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» .
[حَدِيثٌ فِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلْثَ القرآن] قال البخاري «3» : حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالَّهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لِتَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ» زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «4» أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَالْقَعْنَبِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «5» عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَحَدِيثُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَسْنَدَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عن مالك به.
__________
(1) كتاب ثواب القرآن باب 10.
(2) المسند 3/ 141.
(3) كتاب التوحيد باب 1.
(4) كتاب فضائل القرآن باب 13.
(5) كتاب الوتر باب 4، 18.(8/490)
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ والضحاك المشرقي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ:
«أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلْثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ» فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلْثُ الْقُرْآنِ» تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيِّ الْمَشْرِقِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سعيد، قال الفربري: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ وَعَنِ الضَّحَّاكِ مُسْنَدٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَاتَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ يَقْرَأُ اللَّيْلَ كله بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنها لَتَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ- أَوْ ثُلْثَهُ-» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَّا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُومَ بِثُلْثِ الْقُرْآنِ كُلَّ لَيْلَةٍ» ؟ فَقَالُوا: وَهَلْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟
قَالَ: فَإِنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُلْثُ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَسْمَعُ أَبَا أَيُّوبَ فَقَالَ:
«صَدَقَ أَبُو أَيُّوبَ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ «4» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، أَخْبَرَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلْثَ الْقُرْآنِ» فَحُشِدَ مَنْ حُشِدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلْثَ الْقُرْآنِ» إِنِّي لَأَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي قُلْتُ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلْثَ الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «5» فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَاسْمُ أَبِي حَازِمٍ سَلْمَانُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ عن
__________
(1) كتاب فضائل القرآن باب 14.
(2) المسند 3/ 15.
(3) المسند 2/ 173.
(4) كتاب ثواب القرآن باب 11.
(5) كتاب صلاة المسافرين حديث 259.
(6) المسند 5/ 418، 419. [.....](8/491)
مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلْثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ فَإِنَّهُ مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ قَرَأَ لَيْلَتَئِذٍ ثُلْثَ الْقُرْآنِ» هَذَا حَدِيثٌ تُسَاعِيُّ الْإِسْنَادِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «1» وَالنَّسَائِيُّ «2» كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بُنْدَارٍ زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَقُتَيْبَةُ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ بِهِ فَصَارَ لَهُمَا عُشَارِيًّا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ امْرَأَةِ أَبَى أَيُّوبَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ بِهِ، وَحَسَّنَهُ ثُمَّ قَالَ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مَسْعُودٍ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَحْسَنَ مِنْ رِوَايَةِ زَائِدَةَ، وَتَابَعَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ إِسْرَائِيلُ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَنْصُورٍ وَاضْطَرَبُوا فِيهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَوْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «من قرأ بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ بِثُلْثِ الْقُرْآنِ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بِهِ. وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عمرو بن ميمون عن أبي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «4» عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيِّ عَنْ وَكِيعٍ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ أَبِي السُّمَيْطِ حَدَّثَنَا قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ يَوْمٍ ثُلْثَ الْقُرْآنِ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَزُ، قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أجزاء فقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُلْثُ الْقُرْآنِ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ «6» والنسائي من حديث قتادة به.
__________
(1) كتاب ثواب القرآن باب 11.
(2) كتاب الافتتاح باب 67.
(3) المسند 4/ 122.
(4) كتاب الأدب باب 52.
(5) المسند 1/ 447.
(6) كتاب صلاة المسافرين حديث 263.(8/492)
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَوْفٍ، عَنْ أُمِّهِ وَهِيَ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، تعدل ثلث القرآن» وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَوْلَهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثُوهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِمَنْ صَلَّى بِهَا» .
[حَدِيثٌ آخَرُ فِي كَوْنِ قِرَاءَتِهَا تُوجِبُ الْجَنَّةَ] قَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ «2» عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَقْبَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ- قُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ قَالَ- الْجَنَّةُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «3» وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» .
[حَدِيثٌ فِي تَكْرَارِ قِرَاءَتِهَا] قَالَ الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا قطر بْنُ نُسَيْرٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ الْقُرَشِيُّ، حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يقول: «ألا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي لَيْلَةٍ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ» هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَأَجْوَدُ مِنْهُ.
[حديث آخر] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَسِيدِ بْنِ أَبِي أَسِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أصابنا عطش وَظُلْمَةٌ فَانْتَظَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا، فَخَرَجَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ:
«قُلْ» فَسَكَتُّ. قَالَ «قُلْ» قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تمسي وحين تصبح ثلاثا، تكفيك كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» «4» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَذَكَرَهُ ولفظه «تكفك كل شيء» .
__________
(1) المسند 6/ 403، 404.
(2) الموطأ، كتاب القرآن حديث 17- 19.
(3) كتاب ثواب القرآن باب 10.
(4) أخرجه أبو داود في الوتر باب 19، والنسائي في الاستعاذة باب 1، وأحمد في المسند 5/ 312.(8/493)
[حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حدثني لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ عَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كفوا أحد، عشر مرات كتب الله له أربعين أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَالْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ، ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ بِمُرَّةَ.
[حَدِيثٌ آخر] قال الإمام أَحْمَدُ «2» أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا زَبَّانَ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ» فَقَالَ عُمَرُ: إِذًا نَسْتَكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُقَيْلٍ زَهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، قَالَ الدَّارِمَيُّ: وَكَانَ مِنَ الْأَبْدَالِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا.
عِشْرِينَ مَرَّةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً بَنَى اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَةَ قُصُورٍ فِي الْجَنَّةِ» فَقَالَ عمر بن الخطاب: إذا نكثر قُصُورُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ» «3» وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الموصلي: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ الْعَطَّارُ، أَخْبَرَتْنِي أُمُّ كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيَّةُ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ خَمْسِينَ مَرَّةً غفر الله لَهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً» إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هو الله أحد في يوم مِائَتَيْ مَرَّةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ حسنة إلا أن يكون عليه دين» ، إسناد ضَعِيفٌ، حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «4» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْبَصْرِيِّ عَنْ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ بِهِ.
وَلَفَظُهُ: «مَنْ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مُحِيَ عَنْهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً إلا أن يكون عليه دين» .
__________
(1) المسند 4/ 103.
(2) المسند 3/ 437.
(3) أخرجه الدارمي في فضائل القرآن باب 24.
(4) كتاب ثواب القرآن باب 11، أخرجه الترمذي في الدعوات باب 63، وابن ماجة في الدعاء باب 90، وأبو داود في الوتر باب 18. [.....](8/494)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عَبْدِي ادْخُلْ عَلَى يَمِينِكَ الْجَنَّةَ» ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ أَغْلَبَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مَرَّةٍ حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ ذُنُوبَ مِائَتَيْ سَنَةٍ» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ إِلَّا الْحَسَنُ بن أبي جعفر والأغلب ابن تَمِيمٍ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي سُوءِ الْحِفْظِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] فِي الدُّعَاءِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ. قَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَهُ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمَ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] فِي قِرَاءَتِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا بِشْرُ بن منصور عن عمر بن شيبان عَنْ أَبِي شَدَّادٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ الْإِيمَانِ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ، وَزُوِّجَ مِنَ الْحَوَرِ الْعِينِ حَيْثُ شَاءَ، مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلِهِ، وَأَدَّى دَيْنًا خَفِيًّا، وَقَرَأَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوْ إِحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ «أَوْ إِحْدَاهُنَّ» .
[حَدِيثٌ] فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ السَّرَّاجُ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حِينَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ نَفَتِ الْفَقْرَ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَالْجِيرَانِ» إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
[حَدِيثٌ] فِي الْإِكْثَارِ مِنْ قِرَاءَتِهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنِ العلاء أبي مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ. قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ وَشُعَاعٍ وَنُورٍ، لَمْ نَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى بِمِثْلِهِ، فأتى جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يا جبريل مالي أرى الشمس طلعت اليوم بضياء وشعاع ونور لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ بِمِثْلِهِ فِيمَا مَضَى؟» قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيُّ،(8/495)
مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. قَالَ: «وَفِيمَ ذَلِكَ؟» قَالَ:
كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ وَفِي مَمْشَاهُ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ فَهَلْ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَقْبِضَ لَكَ الْأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنِ الْعَلَاءِ أَبِي محمد وهو متهم بالوضع، والله أَعْلَمُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمِ الشَّامِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ عِنْدِي عَنْ مَحْمُودٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيُّ، فَتُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ.
عَلَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ الْأَرْضَ فَلَمْ تَبْقَ شَجَرَةٌ وَلَا أَكَمَةٌ إِلَّا تَضَعْضَعَتْ، فَرَفَعَ سَرِيرَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَخَلْفُهُ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ صَفٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا جِبْرِيلُ بِمَ نَالَ هَذِهِ الْمَنِزَلَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟» قَالَ: بِحُبِّهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ الْمُؤَذِّنِ عَنْ مَحْبُوبِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَمَحْبُوبُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] فِي فَضْلِهَا مَعَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فابتدأته فأخذته بيده فقلت: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بم نجاة المؤمن؟ قال: يا عقبة أخرس لِسَانَكَ وَلِيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» قَالَ: ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأَنِي فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: «يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ أَلَّا أَعُلِّمُكَ خَيْرَ ثَلَاثِ سُوَرٍ أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ» ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: فأقرأني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ لَا تَنْسَهُنَّ وَلَا تَبِتْ لَيْلَةً حَتَّى تَقْرَأَهُنَّ» قَالَ:
فَمَا نَسِيتُهُنَّ مُنْذُ قَالَ لَا تَنْسَهُنَّ وَمَا بِتُّ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى أَقْرَأَهُنَّ، قَالَ عُقْبَةُ: ثُمَّ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» رَوَى التِّرْمِذِيُّ «2» بَعْضَهُ فِي الزُّهْدِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يزيد، فقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ:
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَسَيِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَثْعَمِيِّ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُجَاهِدٍ اللَّخْمِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً تَفَرَّدَ بِهِ أحمد.
__________
(1) المسند 4/ 158، 159.
(2) كتاب الزهد باب 61.(8/496)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
[حَدِيثٌ آخَرُ] فِي الِاسْتِشْفَاءِ بِهِنَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» «1» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عُقَيْلٍ بِهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ. لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ نَعْبُدُ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، وَقَالَتِ الْمَجُوسُ: نَحْنُ نَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَقَالَتِ الْمُشْرِكُونَ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يَعْنِي هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ وَلَا نَدِيدَ وَلَا شَبِيهَ وَلَا عَدِيلَ، وَلَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَحَدٍ فِي الْإِثْبَاتِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وأفعاله.
وقوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ قَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يعني الّذي يصمد إليه الخلائق فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَسَائِلِهِمْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ. وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارٍ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، وَرَوَاهُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الصَّمَدُ السَّيِّدُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا الصَّمَدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُطْعَمُ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ هُوَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كَأَنَّهُ جَعَلَ مَا بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَهُوَ تَفْسِيرٌ جَيِّدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَطِيَّةُ
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 14، وأبو داود في الأدب باب 98، والترمذي في الدعاء باب 21، وأحمد في المسند 6/ 116، 154.(8/497)
الْعَوْفِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ له.
وقال سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ الصَّمَدُ الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ «1» ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ أَيْضًا الصَّمَدُ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَكَذَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ سَاقَ أَكْثَرَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ، وَقَالَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رُومِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن سعيد قائد الأعمش، حدثنا صالح بن حبان عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ قَالَ: «الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ» وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ بَعْدَ إِيرَادِهِ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الصَّمَدِ: وَكُلُّ هَذِهِ صَحِيحَةٌ وَهِيَ صِفَاتُ رَبِّنَا عَزَّ وجل، هو الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، وَهُوَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَهُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ. وقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَيْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَلَا صَاحِبَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يَعْنِي لَا صَاحِبَةَ لَهُ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 101] أَيْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نَظِيرٌ يُسَامِيهِ أَوْ قَرِيبٌ يُدَانِيهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مَرْيَمَ: 88- 95] .
وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 26- 27] وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 158- 159] وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» «2» وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 743.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب 3، والأدب باب 71، ومسلم في المنافقين حديث 49، 50، وأحمد في المسند 4/ 401، 405.(8/498)
إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلِيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كُفُوًا أَحَدٌ» «1» وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِمِثْلِهِ تَفَرَّدَ بِهِمَا مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، ولله الحمد والمنة.
تفسير
سورة الفلق
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قُلْتُ لأبي بن كعب إن ابن مسعود لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ فَقَالَ:
أَشْهَدُ أن رسول الله أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقُلْتُهَا، قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، فَقُلْتُهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ وَعَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابن مسعود يحكي المعوذتين مِنَ الْمُصْحَفِ، فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي:
«قِيلَ لِي قُلْ فَقُلْتُ» فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَقَالَ:
«قِيلَ لِي فَقُلْتُ لَكُمْ فَقُولُوا» قَالَ أَبِي: فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ نَقُولُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قِيلَ لِي فَقُلْتُ» فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبَدَةَ وَعَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْأَزْرَقُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ بَهْرَامَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كَانَ عبد الله يحكي الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْمُصْحَفِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا. وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ بِهِمَا، وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يزيد قال: كان عبد الله يحكي
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 2، باب 8، والنسائي في الجنائز باب 117، وأحمد في المسند 2/ 351.
(2) المسند 5/ 129.
(3) أخرجه البخاري في تفسير سورة 112، وتفسير سورة 113.(8/499)
الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفِهِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلَنَا عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قِيلَ لِي فَقُلْتُ» «1» وَهَذَا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء وأن ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُمَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أثبتوهما فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ وَنَفَّذُوهَا إِلَى سَائِرِ الْآفَاقِ كذلك ولله الحمد والمنة.
وقد روى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قط قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «2» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقْبٍ مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ إِذْ قَالَ لِي «يَا عُقْبَةُ أَلَا تَرْكَبُ» قَالَ: فَأَشْفَقْتُ أَنْ تَكُونَ مَعْصِيَةً، قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبْتُ هنيهة ثم ركب ثم قال: «يا عقبة أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ» قُلْتُ:
بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فأقرأني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ بهما ثم مربي فقال: «كيف رأيت يا عقبة اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَكُلَّمَا قُمْتَ» «4» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جَابِرٍ بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حديث ابن وهب عن معن بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُقْبَةَ بِهِ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرُّعَيْنِيُّ وَأَبُو مَرْحُومٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ «6» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ علي بن رباح، وقال الترمذي: غريب.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 129، 130.
(2) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 264، والترمذي في تفسير سورة 113- 114، باب 2، والنسائي في الاستعاذة باب 1، وأحمد في المسند 4/ 144.
(3) المسند 4/ 144.
(4) أخرجه أبو داود في الوتر باب 19، والنسائي في الاستعاذة باب 1.
(5) المسند 4/ 155.
(6) أخرجه أبو داود في الوتر باب 19، والترمذي في ثواب القرآن باب 12، والنسائي في الاستعاذة باب 1. [.....](8/500)
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ حَدَّثَنَا بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ فَرَكِبَهَا، فَأَخَذَ عُقْبَةُ يَقُودُهَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» فَأَعَادَهَا لَهُ حَتَّى قَرَأَهَا فَعَرَفَ أَنِّي لَمْ أَفْرَحْ بِهَا جِدًّا فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تَهَاوَنْتَ بِهَا؟ فَمَا قُمْتَ تَصِلِي بِشَيْءٍ مِثْلِهَا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ «3» عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ بَقِيَّةَ بِهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ النَّسَائِيُّ «4» : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ عَنْ زِيَادٍ أَبِي الْأَسَدِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَعَوَّذُوا بِمِثْلِ هَذَيْنَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ النَّسَائِيُّ «5» : أخبرنا قتيبة، حدثنا الليث عن أبي عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمُقْبِرِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ قل» قلت: مَاذَا أَقُولُ؟ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قَالَ «قُلْ» قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» فَقَرَأْتُهَا حَتَّى أَتَيْتُ على آخرها، ثم قال: «قل فقلت: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قُلْ أعوذ برب الناس» فقرأتها ثم أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «مَا سأل سائل بمثلها ولا استعاذ مستعيذ بمثلها» .
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ النَّسَائِيُّ «6» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ النَّسَائِيُّ «7» : أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَسْلَمَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ اتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راكب فوضعت يدي على قدميه
__________
(1) المسند 4/ 146.
(2) المسند 4/ 149.
(3) كتاب الاستعاذة باب 1.
(4) كتاب الاستعاذة باب 1.
(5) كتاب الاستعاذة باب 1.
(6) كتاب الاستعاذة باب 1.
(7) راجع الحاشية السابقة.(8/501)
فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ: «لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَنْفَعَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ النَّسَائِيُّ «1» : أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى ابن أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَائِشٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَا ابْنَ عَائِشٍ أَلَا أَدُلُّكَ- أَوْ أَلَا أُخْبِرُكَ- بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «قُلِ أعوذ برب الفلق- وقل أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ هَاتَانِ السُّورَتَانِ» فَهَذِهِ طُرُقٌ عَنْ عُقْبَةَ كَالْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ وَفَرْوَةَ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ «أَلَا أُعَلِّمُكَ ثَلَاثَ سُوَرٍ لِمَ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهُنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ- وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا جريري عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ:
قَالَ رَجُلٌ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَالنَّاسُ يَعْتَقِبُونَ وَفِي الظَّهْرِ قِلَّةٌ، فَحَانَتْ نَزْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزْلَتِي، فَلَحِقَنِي فَضَرَبَ مِنْ بَعْدِي مَنْكِبِيَّ فَقَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأتها مَعَهُ ثُمَّ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأتها مَعَهُ فَقَالَ: «إِذَا صَلَّيْتَ فَاقْرَأْ بِهِمَا» الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ النَّسَائِيُّ «3» : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيِّ هُوَ ابْنُ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ ثُمَّ قال لي «قل» قلت:
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ لِي: قُلْ. قُلْتُ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ لِي «قل» قلت: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا فتعوذ وما تَعَوَّذَ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمِثْلِهِنَّ قَطُّ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ النسائي «4» : أنبأنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَبُو حَفْصٍ، حَدَّثَنَا بَدَلٌ، حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو طَلْحَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ يَا جَابِرُ» قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قال «اقرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
__________
(1) كتاب الاستعاذة باب 1.
(2) المسند 5/ 24، 79.
(3) كتاب الاستعاذة باب 1.
(4) راجع الحاشية السابقة.(8/502)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
- وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقَرَأْتُهُمَا فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهِمَا وَلَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا» وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ وَيَنْفُثُ فِي كَفَّيْهِ، وَيَمْسَحُ بِهِمَا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا «1» ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَعْنٍ وَبِشْرِ بْنِ عُمَرَ ثَمَانِيَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ ن مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الْإِنْسَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا «2» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ الْفَلَقُ الصُّبْحُ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفَلَقِ الصُّبْحُ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ وَالْحُسْنِ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ وَمَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِثْلَ هَذَا، قَالَ الْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ «3» : وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ [الْأَنْعَامِ: 96] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفَلَقِ الْخَلْقِ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهِ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ الْفَلَقِ بَيْتٌ فِي جَهَنَّمَ، إِذَا فُتِحَ صَاحَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ آبَائِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا الْفَلَقِ جُبٌّ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، فَإِذَا كُشِفَ عَنْهُ، خَرَجَتْ مِنْهُ نار تضج مِنْهُ جَهَنَّمُ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ مَا يَخْرُجُ منه، وكذا روي عن عمرو بن عنبسة وابن
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 14، ومسلم في السّلام حديث 51، وأبو داود في الطب باب.
19، وابن ماجة في الطب باب 38، ومالك في العين حديث 10.
(2) أخرجه الترمذي في الطب باب 16، والنسائي في الاستعاذة باب 37، وابن ماجة في الطب باب 33.
(3) تفسير الطبري 12/ 748. [.....](8/503)
عباس وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُنْكَرٌ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ مُوسَى بن مشكان الواسطي، حدثنا نصر بن خزيمة الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطَّى» إِسْنَادُهُ غَرِيبٌ وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ الْفَلَقِ من أسماء جهنم، وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ فَلَقُ الصُّبْحِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيُّ «2» في صحيحه رحمه الله تعالى.
وقوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ أَيْ مِنْ شَرِّ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: جَهَنَّمُ وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ مِمَّا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ قَالَ مُجَاهِدٌ:
غَاسِقُ اللَّيْلِ إِذَا وَقَبَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ، وكذا رواه ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَخُصَيْفٌ والحسن وقتادة: إذا وقب إِنَّهُ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، وَعَنْ عَطِيَّةَ وَقَتَادَةَ: إِذَا وَقَبَ اللَّيْلُ إِذَا ذَهَبَ، وَقَالَ أَبُو الْمُهَزِّمِ عَنْ أَبِي هريرة وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ الكوكب، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ الْغَاسِقُ سقوط الثريا، وكانت الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا، وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ طلوعها «3» .
قال ابن جرير «4» : ولهؤلاء من الآثار مَا حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ.
أَخِي هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ- النَّجْمُ الْغَاسِقُ» (قُلْتُ) وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْقَمَرُ.
(قُلْتُ) وَعُمْدَةُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عَنِ ابن أبي ذئب عن الحارث بن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي فأراني القمر حين طلع وَقَالَ: «تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الْغَاسِقِ إِذَا وَقَبَ» «6» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي ذئب عن خاله
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 746.
(2) تفسير سورة 113، في الترجمة.
(3) انظر تفسير الطبري 12/ 749.
(4) تفسير الطبري 12/ 749.
(5) المسند 6/ 61، 206، 215، 237، 252.
(6) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 113، 114، باب 1.(8/504)
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَفَظُهُ «تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَإِنَّ هَذَا الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» وَلَفَظُ النَّسَائِيِّ «تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، هَذَا الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وهو آية اللَّيْلُ إِذَا وَلَجَ هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَنَا لِأَنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ وَلَا يُوجَدُ لَهُ سُلْطَانٌ إِلَّا فِيهِ، وَكَذَلِكَ النُّجُومُ لَا تُضِيءُ إلا بالليل فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحُسْنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي السَّوَاحِرَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا رَقَيْنَ وَنَفَثْنَ فِي الْعُقْدِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَقْرَبُ إلى الشِّرْكِ مِنْ رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْمَجَانِينِ، وَفِي الْحَدِيثِ الآخر أن جبريل جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
اشْتَكَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ «نَعَمْ» فَقَالَ: باسم اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُؤْذِيكَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ «2» ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْ شَكْوَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ سُحِرَ، ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَشَفَاهُ وَرَدَّ كيد السحرة الحساد من اليهود في رؤوسهم، وَجَعَلَ تَدْمِيرَهُمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ وَفَضَحَهُمْ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُعَاتِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، بَلْ كَفَى اللَّهُ وَشَفَى وَعَافَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حبان عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مَنْ الْيَهُودِ فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا. قَالَ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهَا مَنْ يَجِيءُ بِهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه فاستخرجها فجاءه بِهَا فَحَلَّلَهَا، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِيِّ، وَلَا رَآهُ فِي وجهه حَتَّى مَاتَ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ «4» عَنْ هَنَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ الضَّرِيرِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ، فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ، فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَعْلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيِّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ «5» ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ، قال
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 750.
(2) أخرجه الترمذي في الجنائز باب 4، وابن ماجة في الطب باب 36، وأحمد في المسند 3/ 28، 56.
(3) المسند 4/ 367.
(4) كتاب التحريم باب 20.
(5) المطبوب: المسحور والعرب تكنى بالطب عن السحر. تفاؤلا بالبراء، كما كنوا بالسليم عن اللديغ.(8/505)
لَبِيَدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حليف اليهود كان منافقا، قال: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ «1» ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ «2» في بئر ذروان» قالت:
فأتى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ: «هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا وَكَأَنَّ مَاءَهَا نقاعة «3» الحناء وكأن نخلها رؤوس الشياطين» قال: فاستخرج فقلت: أفلا تَنَشَّرْتَ؟ «4» فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا» «5» .
وَأَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَأَبِي ضَمْرَةَ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي أُسَامَةُ وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وَفِيهِ قَالَتْ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَعِنْدَهُ فَأَمَرَ بِالْبِئْرِ فَدُفِنَتْ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ أَيْضًا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ هِشَامٍ بِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» أَيْضًا عَنْ إبراهيم بن خالد عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لبث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي وَلَا يَأْتِي، فَأَتَاهُ مَلَكَانِ فَجَلَسَ أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا بَالُهُ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْمُفَسِّرُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ غُلَامٌ مِنَ الْيَهُودِ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَبَّتْ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخَذَ مُشَاطَةَ رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِدَّةَ من أسنان مُشْطِهِ، فَأَعْطَاهَا الْيَهُودَ فَسَحَرُوهُ فِيهَا.
وَكَانَ الَّذِي تولى ذلك رجل منهم يقال له ابن أَعْصَمَ، ثُمَّ دَسَّهَا فِي بِئْرٍ لِبَنِي زُرَيْقٍ يقال له ذَرْوَانُ، فَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَثَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ وَلَبِثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، وَجَعَلَ يَذُوبُ وَلَا يَدْرِي مَا عَرَاهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ نائم إذ أتاه مَلَكَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخِرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ:
طُبَّ، قَالَ: وَمَا طُبَّ؟ قَالَ: سُحِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ سَحَرَهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيُّ.
قَالَ: وَبِمَ طَبَّهُ؟ قَالَ: بِمُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان. والجف قشر الطلع، والرعوفة حَجَرٌ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ نَاتِئٌ يَقُومُ عَلَيْهِ الماتح «7» ،
__________
(1) المشاقة: المشاطة، وهي الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط.
(2) رعوفة البئر: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت، تكون ناتئة هناك، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقي عليها، وبئر ذروان: بئر لبني زريق بالمدينة.
(3) النقاعة: ما أنقع فيه الشيء، وهو هنا الماء الذي أنقع فيه الحناء. [.....]
(4) النشرة: نوع من الرقية والعلاج. أي هلا طلبت العلاج.
(5) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 11، والطب باب 47، 49، والأدب باب 56، والدعوات باب 57، ومسلم في السّلام حديث 43، وابن ماجة في الطب باب 45، وأحمد في المسند 6/ 96.
(6) المسند 6/ 63.
(7) الماتح: هو المستسقي من البئر بالدلو.(8/506)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
فَانْتَبَهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَذْعُورًا، وَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَمَا شَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنِي بِدَائِي» ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَنَزَحُوا مَاءَ الْبِئْرِ كَأَنَّهُ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، ثُمَّ رَفَعُوا الصَّخْرَةَ وَأَخْرَجُوا الْجُفَّ فَإِذَا فِيهِ مُشَاطَةُ رَأْسِهِ وَأَسْنَانٌ مِنْ مُشْطِهِ، وَإِذَا فيه وتر معقود فيه اثنا عشر عُقْدَةً مَغْرُوزَةً بِالْإِبَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى السُّورَتَيْنِ فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً حِينَ انْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ الْأَخِيرَةُ، فَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ وَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ حَاسِدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ. فَقَالُوا: يَا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَفَلَا نَأْخُذُ الْخَبِيثَ نَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَقَدَ شفاني الله وأكره أن أثير عَلَى النَّاسِ شَرًّا» هَكَذَا أَوْرَدَهُ بِلَا إِسْنَادٍ وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ وَلِبَعْضِهِ شواهد مما تقدم، والله أعلم.
تفسير
سورة الناس
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
هَذِهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: الرُّبُوبِيَّةُ وَالْمُلْكُ وَالْإِلَهِيَّةُ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مَخْلُوقَةٌ لَهُ مَمْلُوكَةٌ عَبِيدٌ لَهُ، فَأَمَرَ الْمُسْتَعِيذَ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِالْمُتَّصِفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ الْمُوَكَّلُ بِالْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا وَلَهُ قَرِينٌ يُزَيِّنُ لَهُ الْفَوَاحِشَ وَلَا يألوه جهدا في الخبال، والمعصوم من عصمه اللَّهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ وُكِلَ بِهِ قَرِينَةٌ» قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» «1» ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عن أنس في قصة زيارة صفية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٍ، وَخُرُوجِهِ مَعَهَا لَيْلًا لِيَرُدَّهَا إِلَى مَنْزِلِهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيِيٍّ» فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا- أَوْ قَالَ شَرًّا» «2» ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ حَدَّثَنَا عِدِيُّ بْنُ أَبِي عِمَارَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ النُّمَيْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ
__________
(1) أخرجه مسلم في صفات المنافقين حديث 69، وأحمد في المسند 1/ 385، 397، 401، 460.
(2) أخرجه البخاري في الأحكام باب 21.(8/507)
خَطْمَهُ «1» عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ ذَكَرَ الله خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ» غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ»
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَثَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارُهُ فَقُلْتُ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ تَعَاظَمَ وَقَالَ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ وَإِذَا قُلْتَ: بِاسْمِ اللَّهِ تَصَاغَرَ حَتَّى يصير مثل الذباب وغلب، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ مَتَى ذَكَرَ اللَّهَ تَصَاغَرَ الشَّيْطَانُ وَغُلِبَ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اللَّهَ تَعَاظَمَ وَغَلَبَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَأَبَسَ بِهِ كَمَا يَبِسُ «4» الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ، فَإِذَا سَكَنَ لَهُ زَنَقَهُ أَوْ أَلْجَمَهُ» قَالَ أبو هريرة رضي الله عنه: وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ أَمَّا الْمَزْنُوقُ فَتَرَاهُ مَائِلًا كَذَا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، وَأَمَّا الْمُلْجَمُ فَفَاتِحٌ فَاهُ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَسَ «5» ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ: ذُكِرَ لِي أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوِ الْوَسْوَاسَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَعِنْدَ الْفَرَحِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَسَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْوَسْواسِ قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُ فَإِذَا أطيع خنس «6» .
وقوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ هَلْ يَخْتَصُّ هَذَا بِبَنِي آدَمَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ أَوْ يَعُمُّ بَنِي آدَمَ وَالْجِنَّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَيَكُونُونَ قَدْ دَخَلُوا فِي لَفْظِ النَّاسِ تَغْلِيبًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «7» : وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِيهِمْ رِجَالٌ مِنَ الْجِنِّ فَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ. وقوله تعالى:
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ:
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ الثاني وقيل لقوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تفسير للذي
__________
(1) خطمه: أي أنفه.
(2) المسند 5/ 59.
(3) المسند 2/ 230.
(4) يقال: بسست الناقة وأبسستها: إذا سقتها وزجرتها وقلت لها: بس بس.
(5) انظر تفسير الطبري 12/ 752.
(6) انظر تفسير الطبري 12/ 753.
(7) تفسير الطبري 12/ 753، ولفظه: فإن قال قائل: فالجن ناس، فيقال: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ والناس. قيل: قد سماهم الله في هذا الموضع ناسا، كما سماهم في موضع آخر رجالا، فقال: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] فجعل الجن رجالا، وكذلك جعل منهم ناسا.(8/508)
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الْأَنْعَامِ: 112] .
وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدِ بْنِ الْخَشْخَاشِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ؟» قُلْتُ: لَا قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ» قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ والجن» قال: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قال: فقلت يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: «خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ أَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصَّوْمُ قَالَ: «فَرْضٌ مُجْزِئٌ وَعِنْدَ اللَّهِ مَزِيدٌ» قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصَّدَقَةُ؟ قَالَ: «أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّهَا أَفْضَلُ، قَالَ:
«جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ أَوْ سِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ؟ قَالَ: «آدَمُ» .
قُلْتُ: يَا رسول الله ونبيا كَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْمُرْسَلُونَ؟
قَالَ «ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» وَقَالَ مَرَّةً: «خَمْسَةَ عَشْرَ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ، قَالَ «آيَةُ الْكُرْسِيِّ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ «2» مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُمَرَ الدِّمَشْقِيِّ بِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا جِدًّا أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَلَفْظٍ آخَرَ مُطَوَّلٍ جِدًّا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأحدث نَفْسِي بِالشَّيْءِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» «4» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ زَادَ النَّسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ كِلَاهُمَا عَنْ ذَرٍّ بِهِ.
آخِرُ التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين.
__________
(1) المسند 5/ 178. [.....]
(2) كتاب الاستعاذة باب 48.
(3) المسند 1/ 235.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب باب 109.(8/509)
فهرس المحتويات
تفسير سورة الواقعة
الآيات: 1- 12 4 الآيات: 13- 26 7 الآيات: 27- 40 14 الآيات: 41- 56 25 الآيات: 57- 62 27 الآيات: 63- 74 28 الآيات: 75- 82 30 الآيات: 83- 87 34 الآيات: 88- 96 35
تفسير سورة الحديد
الآيات: 1- 3 39 الآيات: 4- 6 42 الآيات: 7- 11 44 الآيات: 12- 15 48 الآيتان: 16 و 17 52 الآيتان: 18 و 19 54 الآيتان: 20 و 21 56 الآيات: 22- 24 58 الآية: 25 59 الآيتان: 26 و 27 60(8/511)
الآيتان: 28 و 29 63
تفسير سورة المجادلة
الآية: 1 66 الآيات: 2- 4 67 الآيات: 5- 7 72 الآيات: 8- 10 73 الآية: 11 76 الآيتان: 12 و 13 79 الآيات: 14- 19 81 الآيات: 20- 22 83
تفسير سورة الحشر
الآيات: 1- 5 86 الآيتان: 6 و 7 94 الآيات: 8- 10 98 الآيات: 11- 17 103 الآيات: 18- 20 105 الآيات: 21- 24 107
تفسير سورة الممتحنة
الآيات: 1- 3 111 الآيات: 4- 6 116 الآيات: 7- 9 117 الآيتان: 10 و 11 120 الآية: 12 123 الآية: 13 130(8/512)
تفسير سورة الصف
الآيات: 1- 4 132 الآيتان: 5 و 6 135 الآيات: 7- 13 138 الآية: 14 139
تفسير سورة الجمعة
الآيات: 1- 4 141 الآيات: 5- 8 143 الآيتان: 9 و 10 144 الآية: 11 148
تفسير سورة المنافقون
الآيات: 1- 4 150 الآيات: 5- 8 151 الآيات: 9- 11 157
تفسير سورة التغابن
الآيات: 1- 4 159 الآيات: 5- 10 160 الآيات: 11- 13 161 الآيات: 14- 18 162
تفسير سورة الطلاق
الآية: 1 165 الآيتان: 2 و 3 168 الآيتان: 4 و 5 171 الآيتان: 6 و 7 174 الآيات: 8- 11 176(8/513)
الآية: 12 177
تفسير سورة التحريم
الآيات: 1- 5 180 الآيات: 6- 8 188 الآيتان: 9 و 10 192 الآيتان: 11 و 12 193
تفسير سورة الملك
الآيات: 1- 5 196 الآيات: 6- 11 198 الآيات: 12- 15 199 الآيات: 16- 19 200 الآيات: 20- 27 201 الآيات: 28- 30 202
تفسير سورة القلم
الآيات: 1- 7 203 الآيات: 8- 16 209 الآيات: 17- 33 213 الآيات: 34- 41 215 الآيات: 42- 47 216 الآيات: 48- 52 218
تفسير سورة الحاقة
الآيات: 1- 12 225 الآيات: 13- 18 227 الآيات: 19- 24 229 الآيات: 25- 37 231(8/514)
الآيات: 38- 43 232 الآيات: 44- 52 233
تفسير سورة المعارج
الآيات: 1- 7 234 الآيات: 8- 18 239 الآيات: 19- 35 240 الآيات: 36- 44 242
تفسير سورة نوح
الآيات: 1- 4 244 الآيات: 5- 20 245 الآيات: 21- 24 247 الآيات: 25- 28 249
تفسير سورة الجن
الآيات: 1- 7 251 الآيات: 8- 10 253 الآيات: 11- 17 254 الآيات: 18- 24 256 الآيات: 25- 28 258
تفسير سورة المزمل
الآيات: 1- 9 260 الآيات: 10- 18 266 الآيتان: 19 و 20 268
تفسير سورة المدثر
الآيات: 1- 10 270 الآيات: 11- 30 274(8/515)
الآيات: 31- 37 278 الآيات: 38- 56 281
تفسير سورة القيامة
الآيات: 1- 15 283 الآيات: 16- 25 286 الآيات: 26- 40 289
تفسير سورة الإنسان
الآيات: 1- 3 292 الآيات: 4- 12 294 الآيات: 13- 22 297 الآيات: 23- 31 300
تفسير سورة المرسلات
الآيات: 1- 15 302 الآيات: 16- 28 303 الآيات: 29- 40 304 الآيات: 41- 50 305
تفسير سورة النبأ
الآيات: 1- 16 306 الآيات: 17- 30 308 الآيات: 31- 40 312
تفسير سورة النازعات
الآيات: 1- 14 314 الآيات: 15- 26 316 الآيات: 27- 33 317 الآيات: 34- 46 319(8/516)
تفسير سورة عبس
الآيات: 1- 16 320 الآيات: 17- 32 322 الآيات: 33- 42 326
تفسير سورة التكوير
الآيات: 1- 14 328 الآيات: 15- 29 334
تفسير سورة الانفطار
الآيات: 1- 12 339
تفسير سورة المطففين
الآيات: 1- 6 342 الآيات: 7- 17 345 الآيات: 18- 28 348 الآيات: 29- 36 349
تفسير سورة الانشقاق
الآيات: 1- 15 351 الآيات: 16- 25 353
تفسير سورة البروج
الآيات: 1- 10 357 الآيات: 11- 22 365
تفسير سورة الطارق
الآيات: 1- 10 367 الآيات: 11- 17 369
تفسير سورة الأعلى
الآيات: 1- 13 371(8/517)
الآيات: 14- 19 373
تفسير سورة الغاشية
الآيات: 1- 7 376 الآيات: 8- 16 377 الآيات: 17- 26 378
تفسير سورة الفجر
الآيات: 1- 14 381 الآيات: 15- 20 388 الآيات: 21- 30 389
تفسير سورة البلد
الآيات: 1- 10 391 الآيات: 11- 20 394
تفسير سورة الشمس
الآيات: 1- 10 398 الآيات: 11- 15 401
تفسير سورة الليل
الآيات: 1- 11 403 الآيات: 12- 21 407
تفسير سورة الضحى
الآيات: 1- 11 410
تفسير سورة الشرح
الآيات: 1- 8 415
تفسير سورة التين
الآيات: 1- 8 419(8/518)
تفسير سورة العلق
الآيات: 1- 5 421 الآيات: 6- 19 422
تفسير سورة القدر
الآيات: 1- 5 424
تفسير سورة البينة
الآيات: 1- 5 431 الآيات: 6- 8 439
تفسير سورة الزلزلة
الآيات: 1- 8 441
تفسير سورة العاديات
الآيات: 1- 11 445
تفسير سورة القارعة
الآيات: 1- 11 447
تفسير سورة التكاثر
الآيات: 1- 8 450
تفسير سورة العصر
الآيات: 1- 3 456
تفسير سورة الهمزة
الآيات: 1- 9 457
تفسير سورة الفيل
الآيات: 1- 5 458
تفسير سورة قريش
الآيات: 1- 4 466(8/519)
تفسير سورة الماعون
الآيات: 1- 7 467
تفسير سورة الكوثر
الآيات: 1- 3 471
تفسير سورة الكافرون
الآيات: 1- 6 479
تفسير سورة النصر
الآيات: 1- 3 481
تفسير سورة المسد
الآيات: 1- 5 485
تفسير سورة الإخلاص
ذكر سبب نزولها وفضلها 488 الآيات: 1- 4 497
تفسير سورة الفلق
الآيات: 1- 4 503
تفسير سورة الناس
الآيات: 1- 6 507(8/520)
الجزء التاسع
بسم الله الرّحمن الرّحيم
فهرس الآيات القرآنية
سورة الفاتحة
[2- 4] «1» : (1) 7.
[4] : (5) 391، (8) 266.
[5] : (3) 345 (4) 251، (6) 243.
[6] : (2) 384.
سورة البقرة
[1، 2] : (1) 71، (4) 271.
[3] : (8) 45.
[6] : (3) 462، (6) 138.
[7] : (6) 65.
[8] : (1) 97.
[14] : (1) 76، (2) 329.
[17] : (1) 200، (4) 385.
[17، 18] : (3) 228.
[18] : (3) 463.
[19] : (1) 200، (4) 385.
[20] : (2) 388.
[21] : (5) 400.
[24] : (4) 235.
[25] : (8) 18.
[25، 26] : (6) 141.
[28] : (5) 143، 394، (7) 120، (8) 197.
[30] : (1) 240، (3) 346.
[34] : (1) 239.
[35] : (1) 140.
[37] : (5) 282.
[38] : (1) 144.
[40] : (1) 119.
[44] : (1) 202.
[45] : (1) 337.
[46] : (8) 230.
[50] : (5) 271.
[53، 54] : (3) 442.
[54] : (1) 211، (3) 429.
[55] : (1) 279، (3) 431.
[55، 56] : (2) 395.
[57] : (3) 352.
[61] : (2) 394، (3) 133، (6) 450.
[65] : (3) 444.
[66] : (7) 263.
[68] : (1) 73.
[72] : (1) 192.
[74] : (1) 415.
[78] : (1) 205.
[83] : (1) 209، (3) 324.
[84، 85] : (3) 85.
[85] : (1) 210.
[87] : (1) 218.
[89] : (6) 334.
__________
(1) الأرقام الموجودة بين المربعين [] هي أرقام الآيات، أما الأرقام الأخرى التي على يسار أرقام الآيات فهي الأرقام التي تدل على الجزء والصفحة.(9/5)
[90] : (1) 56.
[94- 96] : (8) 144.
[96] : (6) 148.
[97] : (2) 64، 65، (5) 106، (6) 146.
[104] : (6) 81.
[106] : (4) 518.
[109] : (2) 74، 159.
[111] : (2) 292، 369.
[115] : (1) 326، 330.
[116] : (2) 34.
[121] : (1) 283، (2) 171، (3) 442، (4) 401.
[123] : (4) 439.
[124] : (2) 374، (3) 331، (7) 430.
[125] : (1) 286، 287، (2) 48، 68.
[126] : (1) 300، (4) 440.
[127] : (1) 286، 307.
[127، 128] : (1) 286، (5) 399.
[129] : (1) 286، 300، (4) 211.
[130] : (3) 342.
[130- 132] : (3) 344.
[131] : (1) 285.
[131، 132] : (4) 247.
[132] : (2) 157.
[133] : (2) 62، (4) 288، (5) 210.
[134] : (2) 294.
[135] : (2) 49.
[142] : (1) 176، 272، 330.
[143] : (1) 33، (2) 80، 81، (3) 66، 307، (5) 400، (6) 237.
[144] : (1) 272، 334، 365، (6) 83. [144- 150] : (1) 325.
[145] : (1) 83.
[146] : (1) 218.
[148] : (5) 395.
[149] : (1) 272.
[149، 150] : (1) 272.
[151، 152] : (4) 522، (5) 112، (6) 386.
[153] : (4) 252.
[155] : (2) 158.
[155- 157] : (6) 405.
[157] : (6) 422.
[163] : (1) 345.
[164] : (7) 243.
[166] : (4) 273.
[166، 167] : (3) 272، 369.
[169] : (1) 422.
[170] : (6) 310.
[171] : (3) 221، 463، 464، (4) 29، (7) 168.
[172] : (5) 416.
[177] : (1) 326، (2) 65، 416.
[185] : (1) 81، 365، 366، (7) 225، (8) 425.
[186] : (3) 487.
[186، 187] : (2) 168.
[187] : (1) 262، 366.
[189] : (1) 402، (5) 47.
[191] : (4) 98.
[193] : (4) 50.
[194] : (1) 389.
[195] : (2) 324.(9/6)
[196] : (2) 70، (3) 90.
[197] : (4) 480.
[198] : (3) 8، (5) 364.
[200] : (1) 371، (7) 279.
[200- 202] : (2) 382.
[203] : (1) 403.
[205] : (3) 85.
[210] : (8) 169، (6) 96.
[214] : (2) 111، (4) 364، (6) 237، 351.
[215] : (5) 363.
[216] : (4) 11، (5) 167، (6) 202.
[217] : (3) 7، (4) 45، (5) 359.
[219] : (2) 271.
[220] : (2) 196.
[221] : (3) 38.
[224] : (4) 513.
[228] : (2) 212، 256.
[229] : (1) 363، (2) 211، 226.
[233] : (2) 218، (8) 175.
[234] : (1) 500، (8) 173.
[236] : (1) 501، (6) 391.
[237] : (2) 276، (6) 391.
[238] : (6) 372.
[241] : (1) 485.
[245] : (2) 155، 268، (3) 250، (6) .
64، (8) 48.
[246] : (1) 237، (5) 201.
[247] : (1) 48، (3) 390.
[249] : (4) 26.
[251] : (1) 237، (5) 201.
[253] : (5) 80.
[254] : (1) 159، (4) 239.
[255] : (1) 344، (2) 423، (4) 216، (5) 279، 296، 393، (6) 298، (7) 425، (8) 312، 509.
[257] : (3) 296، 330، (4) 409، (8) .
177.
[258] : (1) 323، (6) 125.
[259] : (8) 323.
[260] : (5) 191.
[261] : (1) 504، (4) 73، (6) 64.
[264] : (4) 418، (6) 94.
[272] : (1) 74، (2) 99، (3) 140، (4) 259، 372، 526، (6) 260، (7) 385.
[283] : (1) 560.
[274] : (2) 103.
[275] : (2) 248، (5) 21.
[276] : (4) 182.
[283] : (2) 284.
[284] : (4) 405.
[285] : (2) 394.
[286] : (3) 440، (6) 339، (8) 175.
سورة آل عمران
. [1- 3] : (1) 71.
[5] : (5) 175.
[7] : (1) 58، 72، (2) 322، (7) 83.
[8] : (1) 53.
[9] : (2) 12.
[13] : (4) 61.
[14] : (5) 145، (8) 57.
[20] : (1) 267، 283، 323، (3) 38، 440، (8) 141.(9/7)
[21] : (5) 45.
[23] : (2) 295.
[24] : (2) 294.
[27] : (5) 393.
[28] : (2) 390، (3) 128، (8) 83، 114، 193.
[29] : (1) 565.
[30] : (5) 149، (8) 334.
[37] : (5) 194.
[38، 39] : (5) 190.
[40] : (5) 229.
[41] : (5) 191.
[42، 43] : (4) 362.
[43] : (6) 372.
[43- 45] : (2) 425.
[44] : (4) 357.
[45] : (5) 195.
[50] : (1) 213، (3) 114.
[54] : (1) 94.
[55] : (2) 397، (3) 238.
[59] : (1) 278، (2) 5، 425.
[59، 60] : (5) 204، (7) 453.
[60] : (5) 204.
[61] : (1) 222، (8) 144.
[67] : (1) 323.
[67، 68] : (1) 284.
[68] : (2) 373.
[72] : (1) 202.
[77] : (1) 8، (2) 245.
[78] : (2) 384.
[80] : (2) 369.
[81] : (6) 342، (8) 136.
[82، 83] : (4) 494.
[83] : (1) 320.
[85] : (2) 21، 72.
[91] : (1) 159، (3) 250.
[92] : (1) 355.
[93] : (1) 262، (2) 415، (3) 103.
[96] : (5) 310.
[96، 97] : (1) 290، (4) 440، (5) .
363.
[97] : (1) 300، (6) 282.
[102] : (1) 336، (2) 273.
[103] : (4) 74، (8) 117.
[104] : (4) 154، 309.
[105] : (8) 438.
[106] : (2) 7.
[106، 107] : (4) 230.
[110] : (1) 158، (3) 66.
[112] : (2) 76، (3) 133.
[113] : (2) 171، (3) 442، (4) 267.
[117] : (4) 418.
[119] : (4) 413.
[121] : (2) 98.
[123] : (2) 15، 97، (4) 126.
[125] : (2) 116.
[132] : (2) 132.
[133] : (8) 7، 58.
[135] : (2) 278، 362، (4) 9.
[140] : (2) 357.
[140، 141] : (4) 18.
[142] : (4) 48، 104، (7) 285.
[152] : (2) 306.
[154] : (4) 19.(9/8)
[161] : (4) 52.
[163] : (4) 11.
[164] : (1) 335، (3) 216، (4) 221، 522، (5) 111.
[165] : (4) 16.
[166، 167] : (4) 48.
[168] : (1) 503.
[167، 168] : (1) 318.
[169] : (5) 391.
[178] : (1) 94، (2) 170، (5) 232، 417.
[179] : (4) 48، 104، (6) 240.
[181] : (3) 133.
[185] : (2) 316، (3) 218.
[186] : (1) 265.
[187] : (1) 8، 14.
[190] : (4) 218، (6) 67.
[190، 191] : (1) 345.
[195] : (2) 250.
[196، 197] : (2) 12، (4) 71.
[198] : (4) 487.
[199] : (1) 81، 274، (2) 91، (3) .
152، 442، (4) 402.
سورة النساء
. [1] : (3) 274، 474، (8) 105.
[2] : (3) 43.
[3] : (2) 376.
[4] : (2) 226، 227، (4) 501.
[6] : (5) 68.
[8] : (6) 75.
[10] : (1) 353، 435، (2) 248، (5) .
20.
[11] : (1) 237، 361، (2) 193، 216، 377، 432.
[12] : (1) 500.
[18] : (2) 61، 403.
[19] : (1) 461، (6) 202.
[20] : (1) 463.
[21] : (2) 226.
[22] : (2) 223.
[23] : (11) 479، (2) 215، 348، (6) .
337، 380.
[25] : (3) 37، (6) 7، 48.
[26] : (2) 180.
[27] : (2) 180.
[28] : (2) 180.
[29] : (2) 303، (6) 79، (7) 352.
[31] : (2) 180، (7) 426.
[33] : (2) 255.
[34] : (1) 459.
[36] : (1) 209، 210، (5) 203.
[40] : (1) 342، 461، (2) 180، (3) .
350، (5) 150، 303، (6) 64، 238، (7) 187، (8) 44.
[41] : (4) 510، (5) 90.
[43] : (2) 275، 282.
[46] : (1) 201، 216، 257.
[47] : (1) 81.
[48] : (2) 180، (3) 324، (6) 115.
(7) 298.
[49] : (7) 429.
[53] : (5) 114، 422.
[53، 54] : (3) 133.
[53- 55] : (7) 47.(9/9)
[54] : (2) 295.
[55] : (1) 15.
[57] : (4) 401، (8) 18.
[58] : (2) 203.
[59] : (6) 108.
[60، 61] : (6) 68.
[61] : (5) 351.
[64] : (2) 180.
[65] : (6) 339، 377.
[66- 68] : (4) 141.
[69] : (8) 55.
[69، 70] : (1) 53.
[76] : (2) 152، (8) 133.
[77] : (1) 200، 415، (4) 390، (6) .
349.
[77، 78] : (1) 503.
[78] : (6) 178، 506، (8) 144.
[82] : (1) 8، (2) 9.
[83] : (2) 322، 323، 360، (8) 186.
[84] : (1) 391.
[87] : (4) 191.
[93] : (2) 248، (4) 49، (6) 115.
[96] : (7) 152.
[98] : (2) 315.
[100] : (5) 391.
[101] : (1) 542، (2) 354.
[103] : (6) 386.
[105] : (1) 9.
[108] : (1) 420.
[110] : (1) 146، (2) 109، 180، 359، (5) 75، (6) 118، 163، (7) .
187.
[111] : (2) 360.
[112] : (2) 359.
[115، 116] : (2) 361.
[116] : (2) 335.
[117] : (5) 208.
[117- 120] : (3) 275.
[12] : (4) 64، 420.
[122] : (4) 191.
[123] : (2) 363، (5) 47، (7) 425.
[123، 124] : (1) 208.
[127] : (2) 183.
[128] : (6) 398.
[129] : (2) 185.
[132] : (4) 419.
[133] : (3) 307.
[135] : (1) 564.
[136] : (1) 53، 81، (6) 84.
[140] : (3) 249.
[141] : (6) 240.
[142] : (1) 88، 94، 267.
[144] : (2) 25، (8) 114.
[144، 145] : (1) 92.
[145] : (3) 202.
[15] : (1) 321.
[150، 151] : (1) 230.
[152] : (1) 81، (2) 180.
[153] : (1) 263، 279، (2) 395، 417.
[154] : (2) 395، (3) 450.
[155] : (1) 85، 216، (2) 130.
[156] : (2) 417.
[156- 159] : (2) 40.(9/10)
[159] : (7) 217.
[160] : (4) 524.
[163- 165] : (3) 305.
[165] : (1) 7، (5) 433.
[166] : (2) 20، (3) 382، (5) 116.
[172] : (5) 294.
[176] : (3) 357، (4) 89.
سورة المائدة
. [2] : (1) 58، 441، (4) 131، (5) .
366، 374.
[3] : (3) 421.
[4] : (3) 5، (3) 290.
[5] : (1) 436، 437، (2) 233، (6) 7.
[6] : (1) 27، (2) 282، (8) 14.
[7] : (8) 45.
[8] : (2) 383، (3) 10، 328.
[13] : (8) 53.
[17] : (2) 426.
[18] : (1) 266، (2) 292.
[19] : (3) 306.
[20] : (1) 48، 148، 158، 322.
[24] : (4) 15، 17، (5) 258.
[28] : (3) 271.
[29] : (1) 181.
[36] : (1) 159، (2) 62.
[38] : (2) 281.
[41] : (3) 468، (4) 399، 490.
[44] : (1) 213، (3) 344، (4) 247، (5) 313، (8) 62.
[45] : (1) 358، (3) 104، (4) 511، 528.
[47] : (3) 104.
[48] : (1) 333، 364، (3) 142، (4) .
247، (5) 326.
[49] : (3) 106.
[51] : (2) 25، (8) 114.
[52] : (2) 305، 387، (6) 240.
[54] : (4) 209، 419.
[57] : (8) 114.
[60] : (1) 55، 56، 186.
[63] : (2) 304، (3) 146، (4) 121.
[64] : (4) 486، (5) 64، (8) 479.
[67] : (4) 473، (5) 137، 398، (6) .
108، 212.
[68] : (1) 81، (3) 115.
[72] : (2) 287.
[73] : (2) 426، (3) 28.
[73، 74] : (6) 86.
[75] : (2) 425، (4) 362.
[77] : (1) 55.
[78] : (1) 188.
[78، 79] : (1) 56.
[82] : (2) 171، (4) 121.
[85] : (5) 372.
[89] : (1) 452، 454، (3) 90، (4) .
513.
[90] : (1) 434، (2) 271.
[91] : (2) 272.
[90، 91] : (1) 434.
[95] : (3) 90.
[96] : (1) 350.
[97] : (1) 290.
[100] : (1) 550، (4) 295.
[101] : (1) 262.(9/11)
[103] : (3) 310.
[105] : (3) 146.
[106] : (1) 564.
[109] : (3) 349، (4) 511، (6) 233.
[110] : (1) 214.
[111] : (3) 344، (4) 247.
[115] : (5) 84.
[116] : (2) 415، 426، (3) 143، (6) .
90.
[118] : (4) 78، 441.
[194] : (4) 131.
سورة الأنعام
. [1] : (1) 7، 524، (4) 219.
[2] : (2) 113.
[3] : (1) 37.
[6] : (3) 405.
[7] : (2) 278، (4) 225.
[10] : (3) 298، 348، 406.
[12] : (6) 289.
[14] : (1) 38.
[19] : (1) 8، (3) 270، 440، (4) .
271، 449، (5) 277، (6) 106، 528، (7) 73، (8) 141.
[21] : (4) 224.
[22- 24] : (3) 272.
[23] : (2) 270، (4) 487.
[26] : (3) 333، (4) 510.
[27] : (4) 443، 450.
[27، 28] : (3) 382، (5) 429، (7) .
120.
[27- 29] : (5) 423، (6) 323.
[28] : (3) 407، (4) 141، (7) 121.
[33] : (6) 83.
[34] : (3) 285، (4) 396.
[35] : (3) 322.
[36] : (6) 291.
[38] : (1) 400، (4) 241، 265، (5) .
151، (6) 258، (8) 330.
[43] : (5) 424.
[44] : (1) 115.
[44، 45] : (1) 95، (3) 466.
[45] : (4) 249.
[46] : (4) 232.
[51] : (2) 215، (6) 149.
[52] : (4) 275.
[53] : (5) 227، (7) 256.
[54] : (8) 108.
[55] : (1) 494، (3) 260.
[59] : (4) 216، 241، 265، 398، (5) 276، 294، 410، (6) 83.
[60] : (2) 39، (3) 214.
[61، 62] : (8) 35.
[62] : (5) 145.
[68] : (2) 385.
[69] : (2) 385.
[70] : (1) 159.
[71] : (5) 370.
[73] : (1) 46، (8) 4.
[75] : (1) 494، (4) 178.
[78، 79] : (1) 318.
[80] : (1) 323.
[81] : (6) 132.
[83- 90] : (5) 215.
[84] : (7) 52.(9/12)
[88] : (6) 362.
[90] : (5) 215، (7) 52.
[91] : (2) 417، (3) 331، (8) 269.
[92] : (3) 331، (5) 216، (6) 149.
[93] : (4) 68، 224، (5) 308، (6) .
93، (6) 106.
[94] : (4) 42، (5) 153.
[96] : (4) 217، 218، (5) 46، 299، (7) 452، (8) 336، 503.
[101] : (1) 276، (2) 427، (8) 498.
[103] : (3) 421.
[106] : (6) 334.
[107] : (3) 304، 322.
[109، 110] : (5) 289.
[109- 111] : (3) 187.
[110] : (1) 85، 95، (3) 426، (4) .
169، 248، (6) 161.
[110، 111] : (3) 406.
[111] : (4) 225، 258، (5) 110، (6) .
92، 147.
[112] : (1) 30، (7) 12.
[112، 113] : (6) 99.
[115] : (1) 109، 284، (3) 22، (4) .
386، (6) 108، 161، (7) 280، (8) 60.
[116] : (3) 119، (4) 271، 357، (6) .
284.
[119] : (3) 28.
[120] : (3) 325.
[121] : (3) 36، (8) 476.
[122] : (4) 60، (7) 83.
[123] : (5) 57.
[124] : (1) 279، (3) 285، (4) 477، (5) 398، (6) 92، 381.
[128] : (4) 301.
[130] : (2) 138، (7) 280.
[133] : (3) 456.
[136] : (3) 189، (4) 239، 495.
[141] : (2) 194، (5) 403.
[142] : (2) 24.
[143] : (5) 366.
[145] : (1) 405، (3) 12، 291.
[146] : (2) 415، (3) 348، (4) 524.
[147] : (4) 371.
[146] : (7) 440.
[151] : (2) 5، 235، 332، (5) 66.
[152] : (2) 191.
[153] : (1) 524، (3) 214.
[155- 157] : (5) 289.
[158] : (1) 423، (2) 208.
[159] : (3) 350، (6) 285.
[160] : (2) 267، (6) 64.
[160، 161] : (2) 66.
[161] : (3) 262.
[161، 162] : (1) 284.
[162، 163] : (8) 476.
[164] : (1) 158، (2) 363.
[165] : (1) 46، 124، (3) 321، 456.
سورة الأعراف
. [1، 2] : (1) 71.
[1- 4] : (1) 494.
[2] : (3) 382.
[3] : (5) 258.(9/13)
[5] : (4) 218.
[6] : (3) 119، (4) 510، (6) 233.
[12] : (3) 284، (4) 458، (5) 86، (8) 65.
[13] : (1) 137.
[18] : (1) 36.
[23] : (1) 145.
[25] : (5) 263.
[26] : (4) 480.
[27] : (1) 26، (3) 315.
[29] : (6) 61.
[31] : (3) 155، 314، (6) 61.
[33] : (3) 290، 325، (4) 511.
[38] : (3) 306، (4) 299، 510، (6) .
245، (7) 69، 160.
[38، 39] : (4) 420، (5) 223.
[40] : (4) 426.
[41] : (5) 301، (6) 261، (7) 80.
[43] : (1) 51، (6) 437، (7) 13، (8) .
60، (8) 300.
[44] : (5) 255.
[44- 49] : (7) 70.
[46] : (8) 51.
[49] : (4) 471.
[51] : (4) 497، (5) 285.
[53] : (2) 9، (5) 429، (6) 135.
[54] : (1) 122، 262، (3) 262، (273، (4) 323، 368، 369، 439، 482.
[56] : (5) 49.
[57] : (6) 289.
[63- 69] : (4) 215.
[69] : (6) 137.
[73] : (2) 426.
[75، 76] : (6) 178.
[80] : (1) 448.
[82] : (6) 142.
[86] : (5) 31، (6) 144.
[88] : (4) 298، 415، (6) 145.
[89] : (5) 340.
[92] : (6) 332.
[96] : (3) 134.
[97، 98] : (3) 349.
[97- 99] : (4) 361.
[106] : (1) 322.
[115] : (5) 255.
[116] : (1) 247، 253، (4) 249، (5) .
266، (6) 127.
[118- 122] : (6) 127.
[119] : (5) 256.
[123] : (4) 66، (5) 267، (6) 127.
[126] : (4) 247، 355.
[128] : (4) 415، (5) 337.
[129] : (3) 346، (6) 73، (7) 126.
[131] : (2) 319، (6) 178، 506.
[133] : (5) 114.
[133- 135] : (7) 212.
[137] : (4) 256، 415، (6) 129، 199، (7) 232.
[137، 138] : (5) 272.
[138] : (2) 395، (5) 256.
[140] : (3) 66.
[142] : (1) 163، 400، (5) 274، 365.(9/14)
1 [143] : (2) 421، (5) 178.
[144] : (3) 332، (5) 210، 244.
[145] : (3) 331، (5) 272، (7) 80.
[148] : (1) 219.
[149] : (1) 164، 219.
[155] : (1) 166، (5) 258.
[156] : (3) 235، 385.
[156، 157] : (4) 407.
[157] : (1) 109، 233، (3) 115، 289، (4) 258، (6) 147، (8) 136.
[158] : (1) 8، 316، (2) 21، 426، (3) 270، (4) 271، 409، 410، (6) 85، 106، 380، (8) 141.
[159] : (1) 315، (2) 171، (3) 135، 466، (4) 267.
[160] : (1) 178.
[162] : (4) 411.
[163] : (1) 186، 187، (2) 396، (3) 447.
[164] : (1) 187.
[167] : (4) 279، 371.
[168] : (1) 161، (4) 411، (6) 288.
[171] : (2) 395.
[172] : (1) 119، (3) 55، 262، (6) 282.
[172، 173] : (1) 119.
[177] : (3) 462.
[179] : (4) 29، (8) 143.
[182] : (1) 95.
[185] : (3) 259.
[186] : (1) 57، 74، (4) 490، (7) 247.
[187] : (3) 214، (5) 245.
[199] : (1) 29.
[199، 200] : (1) 26، (7) 166.
[200] : (1) 30، (3) 482.
[204] : (7) 159.
[205] : (3) 384.
سورة الأنفال
[2] : (6) 119.
[9] : (2) 97.
[11] : (2) 127.
[12] : (2) 198، (4) 528.
[15] : (2) 248.
[19] : (4) 416، (6) 334.
[23] : (3) 221، 464، (4) 141، 273، (5) 423.
[24] : (1) 20، (3) 230.
[26] : (2) 340، (6) 73.
[29] : (8) 64.
[30] : (4) 103، 406، 415.
[31] : (3) 270.
[32] : (3) 390، (4) 371، (5) 110، 155، 385، (6) 144، 261، (7) 49، (8) 235.
[33] : (5) 92، (6) 354.
[34] : (5) 359.
[37] : (1) 550.
[39] : (7) 285.
[41] : (4) 7.
[42] : (4) 225.
[44] : (2) 15.
[50] : (3) 271، (6) 92.
[60] : (2) 17.(9/15)
[63] : (2) 77، (8) 117.
[67، 68] : (7) 284.
[73] : (1) 92، (2) 25.
سورة التوبة
[1] : (1) 387.
[2] : (4) 97.
[3] : (4) 134.
[4] : (4) 90.
[5] : (1) 265، 441، (3) 7، 9، (4) 50، 102، 131، 156.
[11] : (4) 50، 99.
[14] : (4) 19.
[14، 15] : (5) 381، (7) 285.
[16] : (5) 381، (6) 237.
[16، 17] : (4) 45.
[17] : (3) 9، 456.
[18] : (3) 9.
[24] : (8) 84.
[25] : (2) 96، (4) 26.
[27] : (4) 25.
[28] : (2) 186، (3) 8.
[29] : (1) 265، (3) 38، 60، (4) 74، 99، (5) 92.
[31] : (2) 57، (3) 295.
[33] : (7) 280.
[36] : (1) 387، 405، (2) 357.
[38] : (2) 268، 269.
[39] : (4) 208.
[40] : (4) 528.
[41] : (4) 136، 206.
[55] : (2) 12، (5) 417.
[56، 57] : (1) 99.
[61] : (1) 76.
[67] : (1) 94، (3) 381.
[69] : (3) 331.
[71] : (6) 74.
[72] : (3) 211.
[73] : (4) 99، 209، (6) 106.
[74] : (3) 130.
[75] : (4) 162.
[79] : (1) 94.
[80] : (3) 462، (4) 169.
[84] : (1) 293.
[85] : (2) 152.
[92] : (6) 78.
[93] : (1) 522.
[96] : (4) 203، (6) 69.
[10] : (4) 84، 87.
[101] : (1) 91.
[102] : (4) 162.
[103] : (2) 354، (6) 422.
[104] : (1) 146، (2) 109، (6) 118.
[105] : (7) 432.
[109] : (1) 296، (2) 18.
[111] : (1) 422.
[112] : (1) 285.
[113] : (5) 60.
[113، 114] : (5) 209، (8) 116.
[114] : (1) 318، (3) 259، (6) 133.
[117] : (4) 84، 184.
[118] : (4) 184.
[120] : (4) 136.
[121] : (4) 206.
[122] : (4) 136، (7) 279.(9/16)
[123] : (1) 522، (5) 92.
[124] : (5) 127.
[124، 125] : (1) 89، (5) 103، 229، (6) 119.
[128] : (1) 40، (2) 130، (4) 458، (5) 111.
سورة يونس
[2] : (3) 269، (4) 492، (5) 111، (7) 45، 369.
[5] : (6) 109، 513، (8) 247.
[5، 6] : (5) 47.
[10] : (4) 422، (6) 387.
[11] : (5) 45.
[12] : (4) 226، (5) 104.
[14] : (1) 126.
[22] : (3) 240.
[24] : (5) 57.
[25] : (5) 145.
[26] : (4) 386، (5) 331، (7) 380.
[27] : (7) 458.
[28] : (4) 47، (6) 519.
[28- 30] : (5) 154.
[31] : (3) 230، (4) 232.
[37، 38] : (1) 108.
[41] : (5) 348، 395.
[41، 42] : (1) 323.
[44] : (8) 479.
[45] : (7) 282.
[46] : (8) 108.
[47] : (4) 267، (5) 90.
[53] : (6) 437، (8) 160.
[57] : (1) 74، (4) 499.
[58] : (8) 108، 436.
[61] : (4) 327، 375، 398، 528، (5) 394، (6) 83، 155.
[62] : (1) 182.
[69، 70] : (2) 169، (3) 311، 369، (4) 523.
[70] : (1) 301، (4) 438، (6) 311.
[71] : (6) 132.
[72] : (3) 343.
[84] : (4) 247.
[84- 86] : (3) 344.
[88] : (4) 78، 258.
[88، 89] : (1) 59، (6) 147.
[90، 91] : (5) 144، (6) 148.
[94] : (3) 288، (8) 40.
[96] : (1) 83، 279.
[96، 97] : (1) 322، (3) 285، 427، (4) 225، 390، 490، (5) 110، 291، (6) 138، 147، 293، 501.
[97] : (5) 289.
[98] : (3) 404، (4) 258، (5) 321.
[99] : (3) 225، 322، (4) 481، 515، (6) 122، 323.
[101] : (3) 259، (4) 218، 390، (7) 440.
[107] : (6) 472، 507.
سورة هود
[1] : (1) 108، (3) 382.
[3] : (4) 414.
[5] : (4) 375، (6) 83، (8) 43.
[6] : (1) 345، (3) 227، (4) 216، 241، 398، (5) 276، (6) 83.(9/17)
[9، 10] : (4) 497.
[9- 11] : (5) 104.
[10] : (6) 285.
[11] : (4) 220.
[12] : (1) 83.
[13] : (1) 108، (4) 234.
[15، 16] : (2) 383.
[17] : (1) 8، 283، (3) 219، 270، 440، (4) 271، 460، (5) 277، (6) 106، 528 (7) 73، (8) 59، 141.
[18] : (1) 569.
[19] : (6) 149.
[20] : (7) 288.
[23] : (6) 108.
[24] : (3) 296.
[27] : (3) 233.
[34] : (4) 490.
[41] : (1) 35.
[43] : (1) 140، (3) 68.
[48] : (7) 31.
[53] : (6) 138.
[53- 56] : (3) 263، 391.
[54- 56] : (3) 479، (4) 247، (6) 132.
[62] : (4) 139.
[65] : (3) 397، (4) 467، (5) 84.
[71] : (1) 319، (5) 210.
[72، 73] : (3) 266، (5) 190.
[74] : (4) 287.
[78] : (8) 25.
[79] : (3) 399.
[81] : (4) 465.
[82] : (5) 88.
[82، 83] : (3) 400.
[87] : (3) 403، (6) 145.
[88] : (1) 152، 154.
[89] : (4) 467.
[94، 95] : (4) 227.
[98] : (5) 224، 270.
[101] : (4) 309، (5) 82.
[101، 102] : (3) 406.
[102] : (1) 301، (4) 398، 494، (5) 75، 205، 384.
[103] : (5) 149، (8) 160.
[103- 105] : (8) 26.
[104] : (5) 113، (7) 248.
[105] : (1) 47، (5) 279، (8) 312.
[106] : (5) 331.
[108] : (6) 120، (7) 68، (8) 206، 356.
[109] : (5) 26.
[114] : (2) 278.
[118، 119] : (3) 322، (4) 259، 481، 515، (6) 123.
[119] : (1) 134.
[121، 122] : (3) 307، (5) 104.
[123] : (1) 49، (3) 345، (4) 251، (8) 203، 266.
سورة يوسف
[3] : (6) 198، (8) 53.
[4] : (4) 353.
[6] : (4) 322.
[7] : (4) 361.(9/18)
[17] : (1) 76.
[18] : (6) 19، 23.
[32] : (7) 11.
[45] : (1) 69، (4) 267.
[59] : (3) 310.
[87] : (7) 354.
[98] : (2) 19.
[99] : (4) 310.
[100] : (1) 139، (2) 9، (4) 317.
[101] : (3) 344، 468، (5) 198.
[103] : (3) 118، (3) 289، 348، (4) 271، 334، 367، (5) 424، (6) 123، 284.
[105] : (4) 218، (5) 299.
[105، 106] : (2) 162، 163.
[106] : (3) 348.
[108] : (2) 21.
[109] : (2) 138، (3) 143، 305، (6) 91، (7) 279.
سورة الرعد
[4] : (3) 275.
[5] : (5) 222.
[6] : (3) 321، 346، (4) 279، (5) 156، 394.
[7] : (1) 74.
[10] : (4) 398، (6) 83، (8) 43.
[11] : (3) 238، (4) 69.
[15] : (1) 277، (2) 59.
[19] : (2) 138، (3) 231.
[19- 21] : (1) 118.
[20] : (1) 357.
[21] : (3) 231.
[23، 24] : (4) 219، 422، (5) 359.
[25] : (1) 118، 119، (3) 5.
[28] : (1) 38، (5) 360.
[31] : (1) 189، (4) 259، (5) 83، (8) 108.
[32] : (6) 103.
[33] : (4) 327، (6) 83، (8) 108.
[34] : (2) 41، 5) 285، 301.
[35] : (1) 15، (7) 68، (8) 18.
[37] : (3) 248.
[40] : (1) 83، 279، (3) 140، 282، (4) 259، (6) 70، (7) 385.
[41] : (1) 189، (5) 387.
سورة إبراهيم
[1] : (1) 71، (4) 449، (8) 177.
[5] : (1) 161.
[6] : (1) 161.
[7] : (1) 336.
[8] : (2) 382، (6) 174، (8) 59، 117.
[10] : (5) 111، (6) 505.
[13] : (4) 300.
[13، 14] : (3) 308.
[15] : (6) 334.
[15- 17] : (3) 307.
[17] : (5) 431.
[18] : (1) 347، (6) 94.
[19، 20] : (2) 382، (3) 123.
[22] : (1) 347، (2) 368، (4) 66، (5) 87.
[23] : (5) 359.
[24، 25] : (1) 116.(9/19)
[25] : (4) 423.
[27] : (3) 239، 271، (4) 488، (6) 93، (8) 36، 235.
[28] : (1) 335، (4) 333.
[28، 29] : (1) 83، 264، 424، (4) 522، (5) 338.
[30] : (5) 232.
[31] : (1) 159، (2) 62.
[33] : (6) 109.
[34] : (3) 133، 351، 456، (7) 115، (7) 152.
[36] : (4) 78.
[37] : (1) 303، 309، 364.
[39] : (1) 300، (4) 440 [40] : (1) 290.
[41] : (5) 209، (6) 133.
[42] : (5) 205، 232، (6) 64.
[42- 44] : (4) 230.
[44] : (5) 429، (6) 147.
[44، 45] : (3) 405.
[46] : (4) 486.
[47] : (4) 398.
[48] : (4) 301.
[50] : (5) 301، 432.
سورة الحجر
[2] : (6) 427.
[3] : (5) 417.
[6] : (2) 397.
[6، 7] : (5) 155.
[6- 8] : (4) 371.
[8] : (3) 216، (4) 465.
[9] : (4) 492، (8) 177.
[14] : (4) 225.
[14، 15] : (3) 216، (6) 147.
[16- 18] : (1) 31، (7) 4.
[28] : (5) 172.
[28، 29] : (3) 352، (5) 151.
[37، 38] : (5) 86.
[46] : (5) 285.
[48] : (4) 398.
[49] : (3) 346.
[49، 50] : (1) 46، (3) 321، (4) 371، (7) 115.
[54] : (5) 190.
[66] : (5) 44.
[71] : (3) 399.
[71، 72] : (4) 290.
[73] : (6) 145.
[75] : (1) 543.
[76] : (6) 102.
[79] : (6) 102.
[87] : (1) 18.
[87، 88] : (5) 287.
[92، 93] : (3) 199، (4) 511، (5) 295، 427.
[97- 99] : (1) 50، (7) 385.
[98] : (4) 268.
[99] : (5) 203.
سورة النحل
[1] : (6) 426، (7) 124.
[2] : (7) 122.
[7] : (5) 411.
[9] : (4) 460.
[10] : (4) 456.(9/20)
[10، 11] : (8) 29.
[12] : (1) 389.
[15] : (1) 122، (3) 357.
[21] : (1) 120.
[24] : (6) 138، (8) 346.
[25] : (3) 297، (5) 49، (6) 240.
[26] : (8) 89.
[36] : (1) 209، (2) 47، 57، (3) 117، 306، 395، 407، 438، (4) 231، 263، 267، (5) 296، 414، (7) 75، (8) 438.
[37] : (3) 251، (4) 399.
[38] : (4) 443، 471.
[40] : (1) 278، (5) 79.
[44] : (1) 9.
[45- 47] : (3) 349، (4) 361.
[48] : (1) 199، 524، (3) 214، (4) 383، (5) 354.
[48- 50] : (2) 59.
[50، 51] : (4) 382.
[53] : (1) 38، (7) 244.
[57] : (3) 309.
[58، 59] : (3) 309.
[60] : (1) 349.
[63] : (5) 208، (6) 281.
[64] : (1) 9.
[66- 80] : (3) 315.
[67] : (3) 275.
[68] : (3) 201.
[70] : (6) 523.
[75] : (1) 116.
[76] : (1) 116.
[79] : (8) 201.
[84] : (2) 269.
[88] : (3) 306، 333، 370، (4) 272، (5) 387، (7) 160.
[93] : (4) 259.
[96] : (7) 68، (8) 46.
[97] : (4) 263، 487، (8) 397.
[98] : (1) 26.
[98- 100] : (1) 26.
[105] : (4) 519.
[106] : (2) 25.
[112] : (1) 338، (6) 450.
[116، 117] : (3) 311.
[119] : (4) 350.
[120] : (1) 68، (2) 374، (4) 267.
[120- 123] : (3) 342.
[121] : (1) 51.
[120- 122] : (1) 284، 318.
[120- 123] : (3) 262.
[122] : (6) 133.
[123] : (2) 66، 373، (7) 430.
[125] : (5) 260، (6) 256.
[126] : (1) 390، (4) 511.
[127] : (5) 124.
[128] : (1) 372.
سورة الإسراء
[1] : (1) 50، (6) 84.
[2] : (5) 26.
[3] : (1) 148.
[8] : (4) 29.
[11] : (4) 220، (5) 300، (7) 187.
[13، 14] : (4) 232.(9/21)
[15] : (3) 280، 306، 406، (4)
303، (6) 148، (8) 198.
[16] : (3) 297.
[17] : (1) 199، (4) 248، (5) 293، 414، (6) 102.
[18] : (6) 86.
[18، 19] : (2) 113.
[18- 21] : (2) 382، (4) 269.
[19] : (8) 397.
[20] : (1) 301.
[21] : (2) 24، (3) 346.
[230] : (1) 209، (2) 5، 261، (3) 324، (5) 71، 203، (6) 300، (7) 257.
[23، 24] : (6) 238.
[26] : (1) 209.
[27] : (3) 483.
[29] : (6) 112.
[31] : (5) 71.
[32] : (2) 215، (4) 327، (8) 127.
[33] : (2) 336، (4) 327.
[37] : (6) 110.
[44] : (1) 198، (4) 362، 378، (5) 29، 354، 409، (6) 66، (8) 39، 86، 110، 141، (8) 177.
[48] : (5) 291.
[51] : (3) 451.
[52] : (5) 263، (6) 280، (7) 105، 384.
[53] : (3) 482.
[55] : (1) 511.
[59] : (3) 187، 283، (4) 225، 372، (5) 110، 291، (6) 259.
[60] : (5) 41، (7) 17.
[62] : (4) 459، (7) 72.
[63- 65] : (3) 357، (7) 72.
[64] : (5) 87.
[65] : (1) 29، (7) 72.
[66- 69] : (3) 240.
[67] : (3) 228، 240، (4) 226، 495، (5) 88، 104، (6) 264.
[68] : (1) 109، (8) 200.
[71] : (6) 504، (8) 49.
[76] : (4) 39، 103، 415.
[78] : (1) 24، 139.
[79] : (3) 97، (4) 106، (7) 383، (8) 300.
[81] : (6) 126.
[82] : (1) 73، 230، (2) 134، (3) 280، (4) 239، 499، 501، (6) 297، (7) 168.
[85] : (6) 312.
[88] : (1) 108، (4) 234.
[90] : (1) 279، (2) 395، (3) 226.
[92] : (3) 285، (6) 144.
[93] : (1) 279.
[93، 94] : (4) 492.
[94] : (6) 505.
[94، 95] : (3) 269.
[95] : (3) 216، 226.
[97] : (1) 74، (4) 272، (5) 284، (7) 7، 106.
[100] : (2) 296، (5) 422، (7) 47.
[101] : (2) 396، (6) 163.
[102] : (3) 222.(9/22)
[104] : (3) 448.
[106] : (6) 99.
[107] : (1) 283، (2) 171، (3) 115.
[107، 108] : (4) 401.
[107- 109] : (3) 443.
[109] : (4) 402.
[110] : (1) 24، 36، 40، (3) 488، (6) 109، (8) 268.
[126] : (4) 511.
سورة الكهف
[1] : (1) 50، (4) 219.
[1، 2] : (6) 84.
[1- 5] : (1) 7.
[6] : (6) 122.
[7] : (3) 224.
[8] : (6) 332.
[17] : (1) 57، (2) 390، (5) 112، (6) 260.
[22] : (1) 10.
[24] : (1) 260.
[25] : (3) 63.
[28] : (3) 231.
[29] : (3) 248.
[30] : (5) 326.
[35، 36] : (4) 497.
[38] : (1) 37.
[40] : (2) 280.
[45] : (4) 228، (7) 83.
[46] : (1) 44.
[47] : (4) 231، 300، (5) 179.
[49] : (3) 240، (4) 384، (5) 90، 303، (6) 83، 504، (7) 250، (8) 313.
[50] : (1) 26، 138، 348، (3) 275، 315، 361، (6) 473.
[52] : (4) 509.
[53] : (2) 366، (4) 509.
[63] : (5) 136.
[77] : (1) 199.
[82] : (5) 162، 299.
[87، 88] : (4) 386.
[97] : (5) 169.
[107] : (7) 281، (8) 27.
[108] : (4) 463.
[109] : (5) 105، (6) 312.
[110] : (1) 267، (2) 138، (4) 402، 493.
سورة مريم
[3] : (3) 384.
[10] : (2) 33.
[11] : (6) 243.
[21] : (2) 42، (5) 325.
[23] : (4) 355.
[24] : (5) 415.
[27، 28] : (4) 355.
[29] : (5) 198.
[30- 36] : (3) 142.
[32] : (2) 265.
[34، 35] : (2) 41.
[38] : (4) 509، (5) 278، (6) 323، (7) 375.
[40] : (1) 47.
[41- 48] : (3) 259.
[42] : (3) 479، (4) 233.
[44] : (3) 275.(9/23)
[46] : (4) 198.
[49] : (3) 266.
[53] : (7) 31.
[54، 55] : (7) 24.
[58] : (3) 267.
[59] : (1) 124، (3) 449.
[64] : (1) 230، 519.
[65] : (1) 38، (5) 190.
[67] : (8) 27.
[71] : (2) 178.
[71، 72] : (7) 10.
[73] : (3) 233، (5) 232.
[75] : (1) 222، (8) 144.
[77] : (4) 497، (5) 142.
[81، 82] : (1) 347، (4) 273، 509، (5) 153، (7) 253.
[82] : (4) 231، 421.
[83] : (3) 484، (5) 86.
[85، 86] : (7) 106.
[86] : (5) 224، (7) 155.
[88- 92] : (1) 276.
[88- 95] : (3) 276، (4) 246، (5) 72، (8) 498.
[89- 95] : (2) 427.
[90] : (5) 72.
[93- 95] : (1) 519، (4) 383، (8) 44.
[97] : (1) 420، (3) 474، (6) 161، (7) 442.
[98] : (3) 405، (6) 332.
سورة طه
[5] : (1) 40.
[7] : (1) 133، 565، (4) 374، 398.
[15] : (6) 253.
[21] : (4) 66.
[25، 26] : (6) 124.
[36] : (5) 211، (6) 212.
[39] : (6) 200.
[44] : (4) 526، (6) 256.
[46] : (1) 372، (6) 124.
[49] : (6) 125.
[50] : (3) 364.
[52] : (3) 381.
[55] : (3) 359.
[57- 60] : (3) 410.
[65] : (3) 410.
[65، 66] : (3) 410، (4) 249، (6) 127.
[66] : (1) 247، 253.
[66- 69] : (3) 410، (6) 127.
[67- 69] : (4) 249.
[69] : (4) 250.
[71] : (6) 127.
[72- 75] : (3) 413.
[77] : (4) 254.
[80] : (3) 421.
[85] : (3) 427.
[88] : (3) 427.
[90] : (3) 428.
[92- 94] : (3) 428.
[102] : (6) 163.
[102، 103] : (4) 236.
[102- 104] : (5) 79.
[105- 107] : (5) 149، (8) 316.(9/24)
[108] : (1) 47.
[108- 111] : (4) 442.
[110] : (1) 519، (2) 423.
[111] : (4) 509.
[112] : (3) 345.
[12] : (3) 357.
[123] : (1) 147، (3) 359.
[124] : (1) 147.
[126] : (3) 381.
[128] : (3) 405.
[129، 130] : (4) 303.
[131] : (4) 143.
[133] : (6) 260.
سورة الأنبياء
[1] : (4) 449، 476، (6) 426، (7) 123.
[5] : (4) 390.
[8] : (6) 91.
[11- 15] : (3) 349.
[8] : (4) 493.
[12، 13] : (7) 43.
[17] : (3) 268، (7) 75.
[18] : (5) 102، (6) 126.
[23] : (2) 21، (4) 302، (5) 427.
[25] : (1) 209، 320، (2) 47، 57، (3) 117، 343، 395، 407، (4) 213، 231، 263، 489، (5) 373، (7) 75، (8) 438.
[26] : (2) 428، (5) 334، (7) 214.
[26، 27] : (8) 498.
[28] : (1) 519، (5) 279.
[29] : (2) 57.
[30] : (1) 122، (3) 274.
[31] : (4) 483، (5) 263، 364.
[32] : (1) 103.
[33] : (1) 344.
[34] : (2) 316، (5) 169، 293.
[35] : (1) 161، (4) 37.
[36] : (3) 298، (6) 102.
[37] : (1) 137.
[38] : (3) 468.
[39] : (5) 432، (6) 261.
[39، 40] : (4) 509.
[44] : (4) 397.
[47] : (2) 267، (3) 350، (5) 150، 168، (7) 106، (8) 44.
[48] : (7) 32.
[51] : (4) 525.
[58] : (3) 478.
[51، 52] : (3) 262.
[69] : (2) 411.
[72] : (1) 319، (5) 210.
[88] : (7) 35.
[90] : (8) 106.
[91] : (2) 425، (5) 196.
[95] : (3) 284، (8) 65.
[96] : (2) 413، (5) 178.
[98] : (2) 12، (5) 224، (7) 214، 215، 216.
[98، 99] : (1) 110.
[99] : (3) 256.
[101] : (7) 214.
[103] : (4) 245، (6) 98.
[105] : (3) 308، (4) 415، 493.(9/25)
سورة الحج
[1] : (8) 5، 441.
[2] : (3) 253.
[3] : (1) 101.
[5] : (5) 393، (6) 105، 474.
[6] : (3) 280.
[8] : (1) 102.
[11] : (1) 100، (2) 319، (6) 239.
[17] : (1) 269، (3) 339.
[18] : (7) 452.
[21] : (4) 417.
[22] : (3) 96، (6) 329.
[23] : (8) 300.
[25] : (1) 296، 405، (4) 130.
[26] : (1) 290، 296، (2) 426.
[28] : (5) 377.
[30] : (3) 368.
[31] : (2) 248، (3) 372، (4) 426.
[32] : (3) 7.
[36] : (5) 366.
[40] : (1) 510، (2) 152، (8) 115، 139.
[45] : (3) 348، (5) 75، 293.
[45، 46] : (3) 406، (6) 332.
[46] : (1) 95، 98، (3) 464، (4) 363.
[47] : (8) 234.
[48] : (1) 301، (4) 494، (5) 75.
[52] : (1) 204.
[54] : (3) 280.
[63] : (5) 197.
[65] : (4) 368، (6) 280.
[70] : (4) 403، (6) 313.
[72] : (1) 421.
[73] : (1) 116، (6) 228.
[73، 74] : (3) 478.
[75] : (1) 230، (4) 477.
[78] : (1) 327، (3) 342، (5) 400.
سورة المؤمنون
[1] : (1) 285، (8) 241، 242.
[1، 2] : (8) 241.
[5- 7] : (6) 373.
[10، 11] : (8) 242.
[12، 13] : (6) 243.
[12- 14] : (4) 373، (5) 197.
[20] : (5) 361، (7) 17.
[21، 22] : (4) 478.
[28، 29] : (4) 279.
[31] : (6) 102.
[34] : (6) 505.
[40] : (2) 130.
[44] : (1) 213، (6) 123.
[47] : (5) 111.
[51] : (1) 350.
[51، 52] : (5) 326.
[55] : (2) 152.
[55، 56] : (1) 95، (4) 143.
[57] : (3) 231.
[60] : (1) 302.
[67] : (4) 107.
[71] : (7) 348.
[86، 87] : (4) 217.
[88] : (1) 38، 159، (5) 295.
[91] : (5) 295.(9/26)
[96، 97] : (1) 26.
[96- 98] : (1) 30.
[97، 98] : (7) 166.
[101] : (2) 267، (3) 272، (8) 239.
[102، 103] : (3) 350.
[104] : (4) 448.
[107، 108] : (7) 120.
[112، 113] : (4) 236، (5) 278.
[112- 114] : (5) 79.
[115، 116] : (4) 218، 266، 468.
[117] : (5) 396.
[151] : (4) 237.
سورة النور
[2] : (2) 231.
[11] : (6) 25.
[11- 15] : (4) 282.
[13] : (1) 12.
[22] : (1) 450، (6) 20، 22.
[23] : (2) 248.
[28] : (3) 56.
[30] : (6) 40.
[30] : (5) 132، (6) 404.
[33] : (2) 219، 348، (8) 67.
[36] : (1) 297.
[39] : (1) 101، 347، (5) 181، (6) 94.
[40] : (1) 102، 200، (3) 228، (8) 50.
[45] : (1) 131.
[47] : (2) 321.
[51] : (2) 305.
[55] : (3) 308، (5) 337.
[57] : (4) 70.
[61] : (2) 235.
[63] : (6) 377، (7) 344.
سورة الفرقان
[1] : (1) 45، (2) 22، (3) 270.
[2] : (7) 446.
[4] : (6) 138.
[4، 5] : (3) 280.
[5] : (4) 485، (6) 258، (8) 346.
[5، 6] : (4) 42، (7) 254.
[6] : (5) 243، (6) 258.
[7، 8] : (4) 268، (5) 293.
[7- 10] : (5) 110.
[9] : (4) 485، (5) 291.
[11- 15] : (4) 399، 400.
[12، 13] : (4) 509.
[13] : (4) 448.
[16] : (8) 342.
[20] : (2) 138، (3) 305، (4) 362، 492، (5) 293، (7) 279.
[21] : (1) 279، (3) 285، 298.
[21، 22] : (4) 453.
[23] : (1) 267، 347، (4) 418، (5) 180، (6) 65، (7) 283.
[24] : (3) 56، (7) 18.
[26] : (1) 47، (3) 252، (5) 145، 391.
[27، 28] : (6) 427.
[31] : (3) 285، 297.
[32] : (1) 368، (6) 84.
[41] : (3) 298، (4) 236.
[41، 42] : (5) 300.(9/27)
[42] : (5) 289.
[48] : (7) 82.
[54، 55] : (4) 477.
[59] : (1) 40.
[60] : (1) 41.
[61] : (3) 383، (4) 454.
[61، 62] : (5) 46.
[63] : (5) 209.
[66] : (5) 141، 397، (6) 94.
[67] : (3) 155، (5) 63.
[68] : (2) 241، 332، 335.
[68- 70] : (5) 218.
[70] : (7) 95.
[71] : (1) 146.
[72] : (5) 403.
[74] : (1) 316.
[75] : (5) 359.
[75، 76] : (5) 141.
[76] : (6) 94.
سورة الشعراء
[3] : (3) 224، (4) 259، (5) 124.
[4] : (3) 226، 484.
[8] : (4) 357.
[13] : (4) 254.
[13، 14] : (5) 211.
[18] : (3) 409.
[40] : (5) 255.
[41، 42] : (5) 265.
[44] : (5) 266.
[46- 48] : (4) 249.
[53- 55] : (5) 270.
[58- 60] : (4) 256.
[59] : (5) 116، (6) 199، (7) 232.
[60- 62] : (5) 270.
[61] : (4) 254.
[62] : (4) 254.
[62، 63] : (3) 272.
[63] : (5) 270.
[75- 78] : (3) 479.
[80] : (8) 479.
[93] : (4) 486.
[100] : (1) 159.
[101] : (5) 234.
[105] : (8) 226.
[111] : (5) 227.
[113] : (3) 232.
[116] : (7) 441.
[118] : (6) 334.
[119] : (3) 68.
[122، 123] : (7) 122.
[123] : (8) 226.
[129- 131] : (3) 391.
[141] : (8) 226.
[153] : (1) 237.
[155] : (3) 395.
[165، 166] : (4) 290، (6) 181.
[173] : (6) 102، (7) 433.
[182] : (7) 453.
[187] : (3) 403، (4) 42، 298، (5) 110، 155.
[189] : (3) 403، (4) 298.
[192- 194] : (1) 230.
[193] : (1) 213.
[193، 194] : (5) 194، (7) 74.(9/28)
[194] : (6) 158.
[197] : (4) 407، (6) 260.
[198، 199] : (7) 168.
[200، 201] : (8) 234.
[205] : (1) 109.
[210- 212] : (8) 338.
[212] : (8) 32.
[214] : (5) 83، (8) 141.
[215] : (4) 468.
[215- 217] : (4) 213.
[217، 218] : (4) 241.
[221، 222] : (6) 384.
[227] : (1) 76.
سورة النمل
[10- 12] : (5) 114.
[12] : (3) 409.
[14] : (3) 222 407، (4) 248، (5) 115، 264.
[16] : (5) 189.
[23] : (5) 171.
[25] : (5) 394.
[25، 26] : (1) 133.
[35، 36] : (4) 498.
[44] : (4) 247.
[47] : (6) 506.
[48] : (3) 396.
[49] : (4) 470.
[50- 52] : (4) 406.
[52] : (6) 332.
[56] : (4) 415.
[60] : (4) 482.
[61] : (6) 107.
[62] : (1) 124، (3) 346، 456.
[63] : (3) 240.
[65] : (5) 245.
[87] : (3) 253، (5) 342، (7) 6.
[88] : (5) 149.
[91] : (4) 247.
سورة القصص
[5، 6] : (3) 419، (6) 129.
[6] : (3) 409.
[7] : (2) 33، (3) 143، 201، (4) 362.
[8] : (5) 250، (6) 265.
[10] : (5) 250.
[11] : (5) 201.
[12] : (5) 251.
[16] : (5) 253.
[18] : (5) 254.
[23] : (1) 68، (4) 267، (5) 254.
[24] : (1) 50.
[25] : (5) 251.
[26] : (4) 324، (5) 254.
[27] : (5) 254.
[28] : (2) 64.
[29] : (5) 244.
[30] : (5) 244.
[32] : (5) 247.
[34] : (5) 211.
[35] : (6) 124.
[38] : (1) 525، (6) 125.
[41] : (4) ، 254، (5) 90.
[42] : (4) 299.
[43] : (1) 163، (3) 426، (4) 19، (5) 414، (6) 509.(9/29)
[44] : (4) 357.
[45] : (4) 357.
[46] : (4) 357.
[47] : (3) 332.
[48] : (3) 331.
[49] : (1) 108.
[52- 54] : (1) 283، (2) 170، (3) 442.
[52- 55] : (3) 152.
[53] : (7) 256.
[55] : (5) 209، (6) 111.
[56] : (1) 74، (2) 99، (4) 193، 259، 526، (7) 46، 385.
[57] : (4) 441، 522.
[58] : (3) 349، (6) 450.
[59] : (6) 148.
[61] : (2) 138.
[62] : (3) 220.
[62- 74] : (3) 272.
[63] : (1) 346.
[64] : (3) 272، (5) 153.
[65] : (3) 349.
[70] : (1) 7، (8) 44.
[71] : (2) 169.
[71، 72] : (6) 103.
[71- 73] : (5) 46.
[73] : (3) 238، (6) 104.
[80] : (1) 156، 249، (4) 487.
[85] : (4) 511، (5) 137.
[86] : (2) 364، 425.
[87] : (5) 395.
[88] : (2) 163، 431.
سورة العنكبوت
[2] : (2) 111.
[2، 3] : (4) 104.
[4] : (4) 70.
[8] : (4) 5.
[11] : (3) 222.
[13] : (3) 297، 370، (4) 485، (5) 49.
[15] : (3) 388.
[20] : (3) 305.
[25] : (1) 347، (3) 272، 369، (4) 273، 509، (7) 218، 253.
[27] : (1) 288، 319، (3) 266، (6) 133، (7) 279، (8) 61.
[29] : (5) 155، 228، (6) 148.
[32] : (4) 289.
[40] : (1) 109.
[41] : (1) 116.
[43] : (1) 96، 17، 535، (4) 384.
[45] : (1) 80، 155.
[46] : (1) 81، (4) 526.
[48] : (1) 204، 400.
[49، 50] : (5) 289.
[52] : (6) 505.
[53] : (4) 42، 371، (6) 148.
[53، 54] : (4) 476.
[55] : (7) 80.
[60] : (3) 227.
[61] : (4) 267.
[67] : (1) 300، (2) 68، (4) 440.
سورة الروم
[9] : (6) 372، (7) 125، 174.(9/30)
[14] : (5) 154، (6) 300، 519.
[17، 18] : (1) 287، (6) 386.
[20] : (8) 323.
[21] : (2) 138، (3) 474.
[22] : (6) 482.
[25] : (1) 517، (5) 79، (7) 105.
[27] : (4) 217، 267، (5) 78، 222، 397، (6) 244، (7) 248، (8) 227.
[28] : (1) 116، (4) 503.
[30] : (1) 323، (2) 368، (3) 262، (451، (4) 270، (8) 59، 399.
[39] : (1) 550.
[41] : (3) 134.
[43] : (4) 47، 231، (5) 154، (6) 519.
[44] : (6) 174.
[50] : (3) 386، (6) 105.
[54] : (4) 502، (5) 348، (6) 523، (8) 57.
[55] : (4) 236، (5) 79.
[55، 56] : (5) 278.
[56] : (6) 437.
سورة لقمان
[7] : (5) 351.
[13] : (1) 318، (2) 287، (5) 280.
[14] : (1) 209، 478، (2) 261، 292، (5) 59، 203، (7) 257.
[14، 15] : (3) 324.
[16] : (2) 267، (3) 279، (5) 303، 394.
[21] : (2) 305.
[23، 24] : (1) 301، (3) 369.
[24] : (2) 169، (4) 438، 523، (8) 267.
[25] : (2) 60.
[27] : (5) 105، 183.
[28] : (1) 97، (4) 267، 449، 490، 506، (5) 243، (6) 85، (7) 123، 385.
[33] : (1) 158، (6) 473، (8) 239.
[34] : (3) 470، (4) 373.
سورة السجدة
[1] : (3) 201.
[1، 2] : (1) 71، (4) 271.
[2] : (1) 73.
[7، 8] : (5) 406.
[12] : (4) 238، 443، 509، (5) 206، 429، (7) 120، 375.
[13] : (7) 72.
[16] : (6) 111، (8) 260.
[17] : (1) 109.
[24] : (3) 331.
[26] : (5) 285.
[29] : (3) 405.
سورة الأحزاب
[4] : (2) 221.
[4، 5] : (6) 380.
[6] : (2) 255، (4) 291، (7) 348.
[7] : (5) 81.
[10- 12] : (1) 427.
[11] : (5) 345.
[18] : (6) 83.(9/31)
[19] : (1) 97، (4) 172، (8) 151.
[21] : (2) 212، (8) 117، (8) 181.
[23] : (6) 61.
[25] : (2) 295.
[28] : (1) 485.
[33] : (6) 422، (7) 187.
[35] : (1) 285.
[36] : (1) 16.
[37] : (2) 221، (6) 337.
[39] : (6) 212.
[40] : (1) 494، (2) 221، (6) 36.
[41، 42] : (6) 374.
[41- 43] : (6) 405.
[43] : (1) 39.
[44] : (4) 219، (6) 519.
[45] : (3) 437.
[49] : (1) 485، 500، (2) 276.
[56] : (2) 231.
[57] : (6) 30.
[59] : (6) 42.
[60، 61] : (1) 91.
[63] : (3) 468.
[66، 68] : (3) 370، (4) 420، (6) 98.
[67] : (4) 299.
[69] : (6) 212.
[72] : (1) 199.
سورة سبأ
[1] : (1) 7 (8) 44.
[3] : (4) 216، 238، (5) 276، (8) 160.
[9] : (3) 259.
[10] : (7) 49.
[10، 11] : (5) 314.
[12] : (5) 314.
[17] : (2) 373.
[19] : (5) 414.
[20] : (4) 271.
[20، 21] : (3) 355.
[21- 31] : (3) 297.
[22، 23] : (5) 153.
[23] : (4) 217، 383، (5) 279، 296، (6) 156، (7) 4، 174، 425.
[24] : (1) 200، (8) 208.
[25، 26] : (3) 345.
[26] : (1) 269، (6) 334.
[30] : (5) 417.
[31، 33] : (1) 347، (3) 370، (4) 420.
[33] : (4) 486، (7) 8، (8) 248.
[34] : (3) 404.
[34، 35] : (3) 297.
[37] : (5) 417.
[39] : (1) 425، (7) 430، (8) 45.
[40، 41] : (6) 91، (7) 75.
[41] : (1) 346، (2) 367، (3) 271.
[45] : (3) 406.
[46] : (3) 467، (4) 263.
[47] : (5) 422.
[54] : (1) 90، (7) 450، (8) 234.
[95] : (4) 218.
سورة فاطر
[1] : (2) 183، (6) 494.(9/32)
[2] : (8) 34.
[6] : (1) 26، 348، 423، (3) 315.
[8] : (3) 224، (5) 124، (6) 103، (6) 122.
[10] : (2) 385.
[11] : (2) 113.
[13] : (4) 439.
[14] : (3) 479.
[15- 17] : (4) 419.
[18] : (3) 345، (5) 49، (6) 240، (7) 431.
[19- 23] : (3) 296.
[19- 24] : (4) 273.
[24] : (3) 306، (4) 372.
[27، 28] : (1) 107.
[28] : (1) 76.
[32] : (8) 5.
[32، 33] : (3) 135.
[33] : (5) 141.
[34] : (5) 79، (6) 485.
[36] : (4) 417، 487، (5) 268.
[37] : (4) 443، (5) 49، 278، 429، (7) 120.
[39] : (6) 494.
[41] : (5) 75، (6) 280، 495.
[42] : (3) 333، (5) 289.
[45] : (4) 371، (5) 75، 156، (8) 200.
سورة يس
[8] : (2) 286.
[9] : (4) 40.
[12] : (5) 90.
[18، 19] : (6) 178.
[20، 21] : (5) 422.
[30] : (5) 414، (6) 123.
[32] : (4) 303.
[33] : (1) 120، 344.
[33- 35] : (1) 198.
[33- 36] : (3) 272.
[34] : (3) 275.
[34- 36] : (4) 499.
[35] : (4) 258.
[37، 38] : (3) 273، (5) 46.
[37- 40] : (3) 383.
[38] : (4) 368.
[40] : (3) 273، (4) 217، 439، (5) 425، (6) 109، (7) 452.
[41، 42] : (6) 242، (7) 442، (8) 227.
[52] : (6) 437.
[53] : (6) 85، 280.
[58] : (4) 219، (6) 387.
[59] : (4) 47، 231، (5) 154.
[59- 62] : (5) 152.
[60] : (2) 367، (5) 208.
[60، 61] : (3) 275.
[60- 62] : (3) 303.
[60- 64] : (3) 255.
[62] : (6) 144.
[65] : (7) 157.
[69] : (4) 22، (6) 158.
[70] : (3) 226.
[71، 72] : (3) 315، (4) 478.
[71- 73] : (5) 378، 411.(9/33)
[74- 75] : (6) 107.
[77- 79] : (4) 477، (5) 222، 425، (8) 27.
[77- 83] : (4) 419.
[78- 79] : (5) 78.
[78- 80] : (5) 350.
[81] : (6) 438.
[81، 82] : (5) 113.
[81- 83] : (4) 468.
[82] : (1) 278، (4) 238، (5) 325، 350، (6) 312.
سورة الصافات
[6- 10] : (1) 31، (8) 198.
[16] : (8) 27.
[19] : (6) 85.
[22] : (2) 366، (4) 448، (6) 519.
[22- 26] : (8) 201.
[23] : (1) 51.
[24] : (7) 105.
[24- 26] : (1) 160.
[25] : (1) 159، 160.
[46، 47] : (7) 404.
[49] : (8) 14.
[54- 59] : (3) 375.
[61] : (3) 212.
[62- 70] : (6) 90.
[65- 68] : (4) 417.
[71] : (3) 289.
[93] : (3) 478، (5) 306.
[95] : (3) 478.
[95، 96] : (3) 276، (4) 233، 484.
[97، 98] : (6) 245.
[102] : (5) 41، 212.
[103] : (5) 336.
[108- 110] : (6) 133.
[113] : (1) 289.
[137، 138] : (6) 102.
[141] : (5) 321.
[147] : (1) 415.
[147، 148] : (3) 404.
[151- 154] : (4) 495.
[158] : (2) 366.
[158، 159] : (8) 498.
[161- 163] : (3) 288.
[171، 172] : (4) 284.
[171- 173] : (3) 225، (4) 415.
[180، 182] : (6) 181.
سورة ص
[3] : (5) 420.
[5] : (3) 389، (4) 215، 484.
[14] : (7) 43.
[15] : (3) 253.
[16] : (4) 42، 371، (5) 385.
[26] : (5) 313.
[27] : (4) 218، 269، (5) 294.
[28] : (6) 329، 437، (8) 107.
[29] : (1) 8، (7) 442.
[31، 32] : (8) 20.
[36] : (5) 314.
[37] : (4) 468.
[37، 38] : (4) 448، (5) 315.
[39، 40] : (4) 339.
[49- 55] : (7) 83.
[55- 58] : (4) 417.(9/34)
[57، 58] : (4) 217، 416.
[64] : (6) 135، (7) 43.
[69، 70] : (4) 357.
[71، 72] : (1) 136.
[82، 83] : (1) 26.
[86] : (5) 422، (7) 226.
[88] : (3) 248.
سورة الزمر
[3] : (4) 383، 495، (5) 425.
[4] : (3) 268، (6) 362.
[5] : (4) 439، (5) 46.
[6] : (1) 239، (2) 4، (3) 316، (4) .
373.
[7] : (4) 412.
[9] : (6) 111، 372.
[10] : (1) 337، 505.
[16] : (5) 301، (6) 261.
[21] : (5) 145.
[22] : (3) 300.
[23] : (2) 5، (6) 295، (8) 53.
[25] : (2) 59.
[29] : (1) 116.
[36] : (2) 151، (4) 251، (5) 380.
[37] : (3) 251.
[38] : (2) 151.
[42] : (2) 39، (3) 238.
[45] : (4) 484، (5) 76.
[47، 48] : (8) 202.
[49] : (6) 228.
[53] : (1) 529، (2) 291، 335، (6) .
118، (7) 429.
[56] : (5) 207.
[64] : (3) 218.
[65] : (3) 268، (5) 296، (6) 293، 362.
[67] : (4) 445، (5) 335.
[68] : (3) 423.
[69] : (2) 269، (4) 237، (5) 90، (6) 233، 504 (7) 249.
[71] : (4) 233، (5) 49، (8) 198.
[73] : (3) 374، (4) 421، 422.
[75] : (1) 7.
[91] : (1) 251.
سورة غافر
[3] : (3) 321.
[4] : (2) 169.
[6] : (5) 391.
[7] : (3) 433، (7) 174.
[7- 9] : (6) 386.
[11] : (5) 394.
[11، 12] : (5) 429، 433.
[12] : (5) 420.
[13] : (1) 239.
[15، 16] : (4) 477.
[16] : (1) 46، 48، (3) 252، (6) .
97، (7) 104، (8) 342.
[18] : (6) 63، (8) 239.
[19] : (4) 61، (6) 403.
[32، 33] : (5) 342.
[40، 41] : (4) 363.
[46] : (4) 299، 487.
[47] : (6) 135.
[47، 48] : (4) 420، (7) 7.
[51] : (2) 152، 386، (3) 388، (4)(9/35)
19، 288، 300، (5) 337.
[51، 52] : (3) 308، (6) 213، (8) .
83.
[52] : (1) 266، (2) 12.
[57] : (5) 113، 409، (6) 438، (7) .
5، 282، 370، 382، (8) 244.
[58] : (8) 107.
[60] : (1) 218، 275، 372، (2) .
428، (3) 231، 299، 484، (6) .
324، (7) 6.
[62] : (1) 73.
[64] : (1) 104، (8) 159.
[68] : (1) 278.
[71، 72] : (7) 461.
[73، 74] : (3) 221.
[78] : (5) 215.
[79- 81] : (3) 315، (4) 478.
[84] : (2) 208، 403، (5) 144.
[84، 85] : (3) 338، (4) 238، 254.
سورة فصلت
[1، 2] : (1) 71.
[5] : (1) 215، (2) 396، (5) 75.
[6] : (5) 183.
[6، 7] : (5) 403.
[7] : (1) 356.
[8] : (7) 68.
[9، 10] : (1) 122.
[9- 12] : (1) 121.
[10] : (1) 122.
[11] : (1) 122، 128، 199، (4) .
402.
[12] : (3) 273، (7) 279.
[13، 14] : (7) 263.
[15] : (6) 139.
[17] : (1) 75، 96، (4) 467.
[21] : (1) 199.
[25] : (4) 399.
[26] : (3) 485، (6) 98.
[30] : (1) 182.
[30- 32] : (4) 245، 488، (6) 93، (8) 37.
[34] : (3) 482.
[34، 35] : (1) 156، (4) 387.
[34- 36] : (1) 26، 30.
[35] : (3) 482.
[36] : (8) 246.
[37] : (4) 369، (5) 354.
[39] : (5) 350، (7) 370.
[42] : (1) 8، (2) 423، (5) 277، (6) 23، 84، (7) 74، 369.
[43] : (3) 285، (7) 9.
[44] : (1) 73، 230، (3) 134، 280، (4) 210، 239، (5) 103، 338، (6) 161، 297، (8) 234.
[46] : (1) 542، (4) 309، 418، (5) ، 45، (6) 174.
[50] : (4) 497، (5) 142، (6) 228.
[51] : (4) 220.
[53] : (6) 244.
سورة الشورى
[1- 3] : (1) 71.
[5] : (1) 243.
[7] : (4) 301.(9/36)
[10] : (2) 304، (6) 108.
[13] : (3) 328، 339، (5) 81، (6) 342.
[15] : (5) 395، (8) 479.
[16] : (4) 208.
[18] : (3) 468، (4) 238، 371، 476، (5) 79، (7) 263، (8) 238.
[20] : (2) 113، 382، (4) 269.
[21] : (3) 263.
[23] : (5) 422.
[24] : (1) 86.
[28] : (3) 386، (6) 105، (8) 57.
[30] : (2) 320.
[36] : (2) 157.
[40] : (1) 94، 390، 389، (4) 511، 528.
[41] : (2) 392.
[44] : (5) 429.
[45] : (4) 230.
[47] : (8) 4.
[52] : (1) 51، 74، 214، 364، (4) 477، (8) 177، 313.
[53] : (6) 70.
سورة الزخرف
[4] : (4) 460.
[8] : (1) 427.
[12- 14] : (4) 279، 478، (5) 412.
[13، 14] : (8) 227.
[15] : (3) 309.
[19] : (2) 366، (7) 426.
[20] : (3) 321.
[22] : (1) 68.
[23] : (3) 297، (4) 258، 267، 274، (5) 427.
[26، 27] : (1) 318.
[26- 28] : (3) 479.
[28] : (1) 318.
[31] : (2) 24، (5) 167.
[31، 32] : (3) 298، (5) 422، (7) 47.
[32] : (2) 24، (3) 346.
[33، 35] : (1) 301.
[36] : (3) 304، (5) 232.
[36، 37] : (3) 464، (7) 159.
[38] : (2) 26.
[44] : (5) 293، (8) 141.
[45] : (1) 40، (2) 57، (3) 407، (4) 231، 489، (5) 296.
[51] : (5) 141.
[52] : (4) 452، (5) 249.
[53] : (6) 87.
[54] : (3) 412، (6) 125، 213.
[59] : (2) 5، 425، (3) 143، (5) 334.
[60] : (1) 124، (3) 345.
[61] : (2) 413، (5) 334.
[63] : (2) 38.
[67] : (6) 245.
[71] : (1) 109، (4) 488.
[72] : (5) 234.
[76] : (5) 413.
[77] : (5) 268، (6) 489.
[81] : (3) 268، (5) 296، (6) 362، (7) 75.(9/37)
[84] : (1) 37، (3) 215.
[87] : (4) 217، 267.
[89] : (4) 468.
سورة الدخان
[3] : (1) 368، (8) 425.
[4] : (8) 427.
[25] : (4) 256.
[25- 28] : (3) 419.
[32] : (1) 158.
[35] : (5) 228.
[43- 50] : (4) 417.
[47- 50] : (5) 351.
[48، 49] : (4) 124.
[56] : (2) 221، 235.
سورة الجاثية
[10] : (5) 431.
[13] : (2) 426، (5) 394.
[15] : (1) 542، (6) 238.
[16] : (3) 66.
[21] : (6) 329، (8) 107.
[23] : (1) 86، (6) 65.
[26] : (1) 120، (5) 394.
[28] : (3) 255، (6) 520.
[28، 29] : (5) 90.
[29] : (8) 205.
[34] : (3) 381، (4) 52، (6) 323.
سورة الأحقاف
[5] : (5) 231.
[5، 6] : (4) 231، 421، 509، (5) 153، (6) 91.
[6] : (4) 272.
[8] : (5) 395.
[9] : (4) 493، (5) 292.
[11] : (3) 233، 387، (5) 227.
[12] : (3) 331.
[15] : (1) 478.
[16] : (2) 373.
[19] : (2) 138.
[21] : (7) 154.
[25] : (5) 413، (6) 139.
[25، 26] : (3) 405.
[26] : (3) 463، (7) 125.
[27] : (1) 188، 189، (4) 397، (5) 302.
[28] : (1) 160.
[29- 32] : (3) 305.
[33] : (4) 371، 418، (5) 113، (7) 370، 382.
[46، 47] : (1) 346.
سورة محمد
[4] : (2) 325، (4) 22، 100.
[4- 6] : (2) 99، (4) 18، (5) 381.
[7] : (2) 152، (8) 139.
[10] : (2) 194، (4) 490، (6) 100.
[13] : (2) 315.
[15] : (4) 400، (5) 140، (8) 18.
[17] : (1) 89، (5) 17، 127.
[18] : (3) 338.
[20] : (2) 315، (8) 133.
[20، 21] : (4) 173.
[22] : (1) 119.
[24] : (1) 8، (2) 322.
[25] : (2) 248.(9/38)
[29، 30] : (4) 150.
[30] : (1) 91، 543.
[31] : (1) 38، (5) 381، (6) 240.
[38] : (2) 382، (3) 123، (4) 136، 419، (8) 244.
سورة الفتح
[2] : (7) 254.
[5] : (7) 254.
[6] : (1) 16.
[12] : (2) 128.
[15] : (4) 169.
[16] : (1) 522.
[24] : (1) 388.
[25] : (1) 388، (4) 44، 101، (5) (372) .
[27] : (8) 437.
[29] : (4) 209.
[40] : (5) 127.
سورة الحجرات
[4] : (1) 134.
[4، 5] : (6) 82.
[7] : (3) 300.
[9] : (4) 99.
[12] : (5) 69، (7) 355.
[13] : (3) 474 (6) 75.
[14] : (6) 372.
سورة ق
[6] : (5) 298.
[7] : (5) 435.
[14] : (6) 226.
[16] : (4) 30.
[17] : (5) 48.
[17، 18] : (3) 238، (5) 47.
[29] : (1) 65.
[33] : (1) 76.
[38] : (7) 153.
[39] : (3) 487.
[45] : (1) 280.
[39، 40] : (1) 371.
سورة الذاريات
[8، 9] : (3) 288، (7) 369.
[9] : (1) 143.
[17، 18] : (6) 111.
[23] : (4) 193.
[26، 27] : (4) 287.
[29] : (4) 288.
[35، 36] : (3) 400.
[38] : (5) 351.
[47] : (5) 298، (7) 154.
[47، 48] : (6) 438.
[49] : (7) 370.
[52] : (1) 279، (4) 258.
[52، 53] : (7) 125.
[56] : (3) 218، (4) 266.
[56- 58] : (5) 288.
[58] : (5) 397.
سورة الطور
[9، 10] : (5) 148.
[11] : (4) 444.
[13] : (7) 106.
[13- 15] : (6) 520.
[13- 16] : (4) 238، (6) 262.(9/39)
[14] : (4) 488.
[14- 16] : (3) 375، (4) 490.
[15] : (3) 223.
[16] : (5) 47، 246.
[19] : (7) 13.
[21] : (4) 388، (5) 55، (7) 119.
[23] : (8) 312.
[30] : (6) 334.
[35، 36] : (1) 120، (6) 244.
[44] : (3) 216، (4) 225.
سورة النجم
[4] : (1) 297.
[5- 10] : (8) 337.
[9] : (1) 200، 415.
[13- 16] : (8) 337.
[16] : (1) 570، (5) 27.
[17] : (5) 41.
[18] : (5) 3.
[19] : (2) 366.
[21] : (3) 309.
[21، 22] : (4) 495.
[22] : (3) 309.
[23] : (3) 263، (4) 399، (8) 479.
[26] : (1) 519، (4) 216، 383، (5) 279.
[30] : (4) 452.
[31] : (4) 468، 477، 490، (5) 294، (6) 66، (7) 124.
[32] : (2) 293، (4) 373، (6) 526.
[36] : (8) 375.
[36- 42] : (8) 375.
[37] : (1) 283، 285، (2) 374، (4) 525، (7) 27، (8) 375.
[50] : (6) 139.
[53] : (4) 153.
[54] : (4) 293.
[54، 55] : (5) 270.
سورة القمر
[1] : (4) 476، (6) 426.
[1، 2] : (5) 290.
[8] : (3) 254، (4) 442، (7) 384، (8) 274.
[10] : (4) 276، (5) 412.
[11- 14] : (4) 278.
[12] : (5) 322.
[13- 15] : (4) 280.
[25، 26] : (7) 48.
[26] : (5) 289، (8) 208.
[28] : (3) 395.
[29] : (6) 179، (8) 401.
[34] : (5) 88.
[37] : (4) 292.
[40] : (6) 258.
[44- 46] : (7) 48.
[45] : (4) 20.
[48، 49] : (6) 261.
[50] : (1) 278، (4) 506، (5) 79، (6) 85، (7) 123، 385.
[52] : (4) 493، (6) 147.
[55] : (6) 312.
[69] : (7) 154.
سورة الرحمن
[6] : (1) 199.(9/40)
[7] : (8) 59.
[14] : (1) 137.
[14، 15] : (4) 457، 458.
[17] : (7) 4.
[19، 20] : (3) 305.
[19- 21] : (6) 107.
[22] : (3) 305، (5) 157، (7) 280.
[22، 23] : (6) 478.
[26] : (2) 156، 316.
[26، 27] : (5) 299.
[27] : (2) 431.
[29] : (4) 232.
[43، 44] : (4) 217، 417.
[44] : (5) 141، (7) 18.
[46] : (3) 483، (4) 416.
[46، 47] : (7) 280.
[54] : (2) 102 (8) 297.
[57] : (7) 279.
[60] : (3) 331، (4) 229، (5) 331.
[70] : (7) 11.
[74] : (7) 280.
سورة الواقعة
[7- 10] : (8) 331.
[17، 18] : (7) 404.
[18] : (7) 68.
[22] : (1) 86.
[25، 26] : (4) 219، (5) 218، 359.
[30] : (4) 392.
[32، 33] : (4) 401.
[38، 39] : (7) 10.
[41- 44] : (4) 417.
[42، 43] : (4) 217.
[49، 50] : (5) 149، 179، (8) 160.
[50] : (3) 239.
[51، 52] : (7) 17.
[54- 56] : (6) 341.
[60، 61] : (8) 244.
[63- 67] : (6) 290.
[68] : (4) 456.
[88، 89] : (5) 391.
سورة الحديد
[3] : (6) 108، (8) 178.
[4] : (4) 398، 528.
[6] : (1) 344.
[7] : (2) 155.
[8] : (2) 74، (3) 55.
[9] : (1) 384، (4) 409.
[12] : (11) 100، (4) 245.
[13] : (1) 94، (2) 387، (3) 375.
[13، 14] : (6) 473.
[14] : (1) 90.
[15] : (1) 159، (4) 438.
[16] : (1) 198.
[17] : (6) 502.
[21] : (2) 102، 103، (8) 7.
[25] : (1) 239، (5) 102، (6) 256، (7) 453.
[26] : (3) 266.
[27] : (3) 135.
[28] : (2) 384، (4) 38.
[50] : (5) 145.
سورة المجادلة
[1] : (4) 375، (6) 83.(9/41)
[2] : (6) 336.
[6] : (2) 181.
[7] : (1) 272، (4) 528.
[8] : (4) 150.
[11] : (4) 344.
[13] : (3) 4.
[14] : (1) 57.
[18] : (1) 88، (2) 387، (3) 221، (4) 487.
[19] : (2) 152، 386.
[21] : (2) 152، (3) 225، 308، (6) 213.
[21، 22] : (3) 127، (4) 415.
[22] : (4) 109.
سورة الحشر
[2] : (4) 486.
[7] : (2) 367.
[8] : (4) 52.
[8، 9] : (4) 85.
[8- 10] : (2) 9.
[9] : (1) 355، (5) 402.
[10] : (4) 87، 178.
[11، 12] : (6) 69.
[16] : (4) 65.
[18] : (2) 182.
[20] : (4) 273، 386، 401، (6) 94، 329، 437، (7) 246.
[21] : (1) 199، (6) 149.
[22- 24] : (1) 36، (5) 117.
[23] : (1) 47.
سورة الممتحنة
[1] : (2) 25، 168، (4) 103.
[2] : (3) 271.
[4] : (4) 236، (6) 132، 133.
[6] : (6) 251.
[8] : (1) 541، 542.
[10] : (1) 73، 438، (7) 329.
سورة الصف
[2، 3] : (5) 212.
[3] : (1) 154.
[5] : (1) 85، (4) 210.
[6] : (6) 147.
[8] : (5) 42.
سورة الجمعة
[2] : (1) 204، 315.
[3] : (4) 178.
[5] : (1) 97، 186، (2) 286.
[6] : (5) 228.
[6- 8] : (1) 221.
[9] : (1) 420، (6) 63.
[10] : (1) 371، 441، (5) 366.
سورة المنافقون
[1] : (1) 76، 88، 420.
[2] : (6) 69.
[3] : (1) 96، 97.
[4] : (1) 99.
[5] : (5) 351.
[8] : (2) 385.
[9] : (4) 37، 443، (6) 63، (8) 106.
[10، 11] : (5) 429.
[11] : (4) 238.
سورة التغابن
[6] : (2) 382، (4) 215، 412، (5)(9/42)
111، 292، (6) 505.
[7] : (4) 238، (6) 437.
[9] : (7) 248.
[14] : (4) 37.
[15] : (4) 37، (5) 145.
[16] : (2) 75.
سورة الطلاق
[1] : (4) 522.
[2] : (2) 383.
[2، 3] : (5) 288، (7) 26، 66.
[3] : (4) 251، (5) 380.
[4] : (1) 480.
[6] : (1) 480.
[7] : (1) 479، (5) 322.
[8] : (5) 82.
[9] : (5) 82.
[12] : (4) 368، (5) 276، 409، (6) 313، 321.
[17] : (7) 282.
سورة التحريم
[2] : (3) 154.
[5] : (1) 292، (2) 49، (4) 192، (6) 399.
[6] : (5) 295، 331.
[8] : (1) 100، (8) 51، 191.
[9] : (4) 99، 209.
[12] : (1) 284، (2) 425، (5) 196، 325، 418.
سورة الملك
[1] : (3) 201.
[2] : (7) 433.
[3] : (5) 427.
[3، 4] : (7) 370.
[4] : (5) 65.
[5] : (1) 31، (3) 477، (6) 109، (7) 4.
[8، 9] : (3) 306، (5) 49.
[8- 10] : (7) 107.
[8- 11] : (5) 433.
[10] : (4) 272، (6) 323.
[11] : (7) 107.
[12] : (1) 76، (3) 171، (6) 501.
[14] : (1) 121، (3) 279.
[16، 17] : (1) 109، (3) 248، (4) 493، (5) 88.
[18] : (3) 406، (4) 490.
[19] : (4) 507.
[21] : (4) 232.
[22] : (3) 296.
[23] : (4) 232.
[23، 24] : (4) 507.
[25] : (5) 79.
[27] : (7) 124.
[29] : (1) 49، (4) 251، (6) 108.
[30] : (5) 144.
[33] : (3) 230.
[55] : (6) 242.
سورة القلم
[9] : (4) 473.
[11] : (7) 352، (8) 457.
[17] : (2) 194.
[17- 33] : (3) 314.
[23، 24] : (2) 194.(9/43)
[42] : (5) 54.
[44] : (1) 8، 95، (2) 152، 365.
[44، 45] : (5) 417.
سورة الحاقة
[6] : (7) 154.
[7] : (7) 154.
[7- 10] : (8) 384.
[11] : (1) 95.
[11، 12] : (4) 280، (6) 101، 242.
[14، 15] : (5) 341، (8) 315.
[15] : (8) 4.
[15- 17] : (6) 97.
[18] : (1) 48، (4) 183.
[19- 26] : (5) 90.
[23] : (7) 465، (8) 297.
[24] : (6) 489، (7) 401، (8) 300.
[40- 43] : (6) 158.
[40- 47] : (7) 187.
[44- 46] : (5) 112.
[44- 47] : (6) 260، (7) 253.
سورة المعارج
[1] : (1) 285، (4) 371.
[1، 2] : (4) 42، (8) 4.
[1- 3] : (4) 42.
[3، 4] : (7) 122.
[6، 7] : (7) 248.
[10، 11] : (5) 431، (6) 240.
[11] : (4) 237.
[18] : (8) 457.
[19] : (4) 268.
[19- 22] : (5) 114.
[23] : (5) 216.
[29، 30] : (6) 39.
[36، 37] : (4) 210.
[40] : (7) 4.
[43] : (4) 442.
سورة نوح
[4] : (7) 281.
[15] : (5) 409، (8) 177.
[15، 16] : (6) 109.
[22] : (3) 297، (4) 486.
[25] : (3) 388.
[26] : (3) 68، (4) 78، 253، 276.
[27] : (8) 327.
[28] : (4) 355.
[71] : (6) 139.
سورة الجن
[1] : (7) 267.
[8- 10] : (6) 149، (7) 5.
[10] : (6) 132.
[11] : (3) 449.
[13] : (4) 323.
[15] : (1) 110.
[18] : (6) 61.
[19] : (1) 50، (6) 84.
[22، 23] : (7) 253.
[26، 27] : (2) 152.
[28] : (5) 276، 398.
سورة المزمل
[1- 4] : (8) 300.
[9] : (1) 49، (3) 345، (4) 213، 251، (6) 108.(9/44)
[11] : (7) 282.
[14] : (8) 315.
[16] : (4) 299.
[18] : (5) 218، (8) 239.
[20] : (1) 24، 542، (8) 47.
سورة المدثر
[9، 10] : (6) 98، (7) 441.
[11- 16] : (5) 417، (8) 213.
[18- 24] : (4) 485.
[18- 25] : (3) 280.
[31] : (1) 117، (3) 280، (5) 20.
[38] : (7) 10.
[38، 39] : (3) 250، 345، (7) 404.
[38- 47] : (8) 52.
[39- 41] : (4) 210.
[43- 47] : (4) 474.
[48] : (1) 158، (8) 52.
[49- 51] : (8) 242.
[52] : (1) 279.
[54، 55] : (4) 498.
سورة القيامة
[3، 4] : (8) 244.
[10- 12] : (4) 230، (7) 458.
[13] : (2) 26، (4) 232، (5) 150، (6) 83، (8) 313، 334.
[13- 15] : (5) 48، (7) 249.
[16- 19] : (5) 280.
[22] : (3) 421.
[22، 23] : (3) 278، (8) 347.
[26- 30] : (8) 35.
[31] : (7) 430.
[31، 32] : (3) 333، (5) 262.
[32] : (7) 430.
[36- 40] : (7) 433، (8) 27.
سورة الإنسان
[1] : (1) 120، (2) 313، (5) 190، (6) 320.
[2] : (1) 40.
[3] : (8) 323.
[8] : (2) 65، (8) 444.
[8، 9] : (1) 355.
[8- 12] : (6) 64.
[14] : (4) 401، (5) 234، (7) 113، 465.
[15، 16] : (1) 180.
[21] : (3) 47، (8) 14.
[21، 22] : (5) 359.
[24] : (1) 103، 199.
[30] : (8) 268.
سورة المرسلات
[5] : (7) 4.
[6] : (1) 199.
[12، 13] : (7) 248.
[15] : (4) 237.
[20] : (8) 243.
[20، 21] : (5) 406، (6) 529.
[29- 34] : (8) 26.
[35، 36] : (4) 509.
[41] : (8) 18.
[46] : (4) 452.
سورة النبأ
[1] : (8) 213.(9/45)
[10، 11] : (3) 238.
[12] : (8) 228.
[13] : (6) 109.
[24- 30] : (6) 323.
[30] : (5) 113.
[38] : (1) 47، (2) 364، (4) 300، (5) 149، 279.
[40] : (2) 270، (3) 228، 255.
سورة النازعات
[4، 5] : (4) 9.
[6- 8] : (3) 253.
[10- 12] : (5) 78.
[11- 14] : (5) 425.
[12، 13] : (6) 312.
[13، 14] : (5) 79، (6) 85، 280، (7) 104.
[16] : (5) 244.
[18] : (1) 356.
[21- 26] : (4) 299.
[22- 26] : (1) 420.
[23، 24] : (6) 214.
[23- 25] : (7) 212.
[24] : (3) 412.
[25] : (1) 188، (8) 267.
[27] : (7) 382.
[27- 33] : (1) 121.
[32] : (4) 483.
[37] : (4) 416.
[37- 39] : (5) 262.
[42، 43] : (3) 214.
[46] : (4) 236، (5) 79، (6) 148، (7) 282.
سورة عبس
[13- 16] : (8) 438.
[27- 31] : (4) 232.
[28] : (1) 13.
[31] : (1) 12.
[34- 37] : (5) 431، (8) 239.
[37] : (1) 158.
[38، 39] : (8) 296.
[38- 42] : (4) 230.
سورة التكوير
[7] : (8) 6.
[8، 9] : (3) 309.
[19- 25] : (8) 233.
[20] : (8) 233.
[22] : (3) 467، (8) 233.
[23] : (8) 233.
[24] : (8) 233.
[28] : (6) 107.
سورة الانفطار
[6- 8] : (8) 159.
[10] : (3) 238، (4) 327.
[10- 14] : (5) 47.
[13، 14] : (7) 83.
سورة المطففين
[1- 6] : (3) 401.
[7- 18] : (7) 83.
[15] : (3) 421.
[260] : (3) 212.
[29، 30] : (5) 434.
[32] : (3) 387.
سورة الانشقاق
[3، 4] : (8) 441.(9/46)
[8] : (6) 95.
سورة البروج
[8] : (2) 168، (3) 130، (4) 161، (8) 115.
[9] : (8) 108.
[10] : (6) 86.
[12- 14] : (3) 321.
[17- 20] : (1) 100.
سورة الطارق
[5- 10] : (8) 243.
[7] : (2) 169.
[9] : (3) 299، (4) 183، 232، (5) 150.
[10] : (1) 159، (4) 486.
[17] : (5) 232، 417.
سورة الأعلى
[1] : (8) 38، (8) 350.
[1- 3] : (7) 446.
[1- 5] : (1) 80.
[3] : (3) 364، (5) 262.
[6] : (1) 260.
[11- 13] : (5) 268.
[14] : (5) 132.
[14، 15] : (8) 400.
[14- 19] : (2) 420.
[17] : (2) 157، (4) 487.
سورة الغاشية
[2- 4] : (5) 180.
[5] : (1) 267، (5) 141.
[11] : (8) 14.
[21] : (1) 279.
[21، 22] : (3) 282، (4) 259، (6) 70، (7) 385.
[21- 26] : (4) 405.
[25] : (5) 63.
سورة الفجر
[1، 2] : (5) 365.
[6، 7] : (6) 139، (7) 433.
[14] : (4) 460.
[21- 23] : (1) 423.
[22] : (2) 9، (5) 149.
[25، 26] : (1) 346، (4) 399.
[26] : (1) 159.
سورة البلد
[10] : (1) 51، 75.
[17] : (5) 272.
سورة الشمس
[3، 4] : (3) 273.
[4] : (6) 103.
[5] : (5) 298.
[9، 10] : (1) 356، (5) 403.
[11] : (8) 225.
[12] : (6) 179، (7) 444.
[14] : (3) 396.
سورة الليل
[1] : (8) 410.
[1، 2] : (3) 273، (8) 336، 411.
[5- 10] : (1) 319.
[11] : (5) 246، (6) 148.
[13] : (6) 436، (8) 44.(9/47)
[14- 16] : (5) 262.
[15] : (1) 80.
سورة الضحى
[1، 2] : (3) 273، (8) 336.
[1- 3] : (5) 221.
[4] : (4) 488.
[5] : (5) 286.
سورة الشرح
[4] : (6) 421.
[5، 6] : (1) 427، (4) 20، 350، (8) 176، 480.
[7] : (8) 266.
سورة التين
[4] : (5) 89، (8) 392.
[4- 6] : (7) 10.
[5] : (8) 346.
[6] : (8) 206.
سورة العلق
[1] : (1) 35، (8) 271.
[1- 5] : (8) 271.
[3- 5] : (8) 205.
[18] : (7) 187.
سورة القدر
[1] : (1) 368، (7) 225.
سورة البينة
[1] : (3) 38.
[3] : (8) 437.
سورة الزلزلة
[1] : (5) 148، (8) 5.
[1، 2] : (5) 341.
[7، 8] : (2) 369، (4) 72، (5) 47، 246.
سورة العاديات
[7] : (3) 456.
[8] : (2) 265.
[10] : (4) 183.
سورة القارعة
[5] : (5) 149، (8) 239.
[6- 11] : (3) 350.
سورة التكاثر
[6، 7] : (8) 480.
سورة العصر
[1، 2] : (1) 112، (2) 364، (4) 224.
[1- 3] : (4) 268، (7) 10.
سورة الهمزة
[1] : (7) 352، (8) 398.
[8] : (5) 131.
سورة قريش
[1- 4] : (6) 265، (8) 462.
[3، 4] : (6) 196.
[4] : (2) 68.
سورة الماعون
[4- 7] : (1) 267.
[5] : (5) 216.
سورة الكوثر
[1] : (8) 425.
[2] : (3) 343.
سورة الكافرون
[1] : (2) 272.
[1، 2] : (4) 236.(9/48)
سورة المسد
[1] : (5) 75.
سورة الإخلاص
[1] : (5) 148.
[1، 2] : (4) 408.
[1- 4] : (1) 276، (4) 491.
سورة الناس
[1، 2] : (1) 47.
[4- 6] : (7) 13.(9/49)
فهرس الأحاديث النبوية القولية
باب الألف
ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شجرة مباركة: (5) 411 ائتها عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ: (1) 442 ائتوني بأعلم رجلين منكم: (3) 105 ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين: (2) 44 آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الخازن: من أنت: (7) 108 آتي تحت العرش فأخر ساجدا: (1) 519 آتي تحت العرش وأخر لله ساجدا: (5) 279 آمن شعره وكفر قلبه: (6) 527 آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن: (1) 322 آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين: (1) 59 آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون: (5) 63 آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر: (1) 420 آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان: (1) 357، (4) 389، (4) 163، 389، (5) 212، 404 آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان: (8) 132 أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا: (8) 124 أبدأ بما بدأ الله به: (1) 341، (3) 45 الأبدال في أمتي ثلاثون: (1) 510 ابدءوا بما بدأ الله به: (1) 341، (3) 45 أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم: (2) 78 أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمك: (4) 203 أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثناياه النقع: (4) 20 أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا: (6) 12 أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَاجْتَنَبَ الكبائر السبع: (2) 239.(9/50)
أبشري يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك: (6) 19 أبغض الحلال إلى الله الطلاق: (2) 380 أبغض الناس إلى الله عز وجل، من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية: (3) 120 ابن آدم أنفق أنفق عليك: (1) 425 ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلِ الْفَضْلَ خَيْرٌ لك: (1) 435 ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثل هذه؟ (8) 303 أُبَيْنِيَّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ: (6) 337 أتاني جبريل عليه السلام بدابة فوق الحمار ودون البغل: (5) 28 أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بهذا الموضع من هذه السورة (4) 513 أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ: (3) 323 أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رَغِمَ أَنْفُ رِجْلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليك: (5) 60 أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ القرآن: (7) 269 أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى: (3) 260 أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن من ذهب: (4) 181 أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل لَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزبور ولا في الفرقان مثلها: (1) 21 اتَّخَذُوا السُّودَانَ فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ سَادَاتِ أهل الجنة: (6) 304 أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية: (5) 184 أتدرون أي يوم هذا؟ (5) 343 أتدرون أي يوم يومكم هذا؟ (4) 96 أتدرون فيم انتطحتا؟ (3) 227 أتدرون ما الرقوب؟ (2) 104 أتدرون ما قال ربكم؟ (6) 105 أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ نَارِكُمْ هَذِهِ مِنْ نَارِ جهنم؟ (8) 29 أتدرون ما هذه الريح؟ (7) 358 أتدرون ما وفى؟ (1) 287 أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ (8) 6 أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ (3) 335 أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ؟ لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بغير إذني فإنه غلول: (2) 134 أتدري ما حق الله على العباد؟ (2) 260 أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يشركوا به شيئا: (3) 235 أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ أَنْ يعبدوه ولا يشركوا به شيئا: (1) 104.(9/51)
أتردين عليه حديقته؟ (1) 464 أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تقدر على أن لا تطرحه: (1) 329 أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ (2) 197 أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين المتلوثين: (2) 249 أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ من قبلكم؟ (1) 562 أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وجل: (3) 101 أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ (2) 331 أتعجبون من دقة ساقية والذي نفسي بيده لهم في الميزان أثقل من أحد: (3) 351 أتعجبون من غيرة سعد؟ (3) 325 أتعرف الحيرة: (6) 73 اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تمحها: (2) 179 اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تمحها وخالق الناس بخلق حسن: (4) 308 اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يعصى: (2) 74 اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا: (7) 17 اتقوا الله واعدلوا في أولادكم: (3) 56 اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (8) 101 اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ: (1) 543، (4) 446 اتقوا النار ولو بشق تمرة: (8) 443 أَتَقُولُونَ هَذَا أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ أَلَمْ تَسْمَعُوا ما قال؟ (3) 433 أَتَى اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قال: فإذا عملت في الدنيا: (1) 555 أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، خَطْوُهَا عند منتهى طرفها: (5) 9 أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ فَوْقَ الْحِمَارِ ودون البغل: (5) 6 أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم:
(1) 546 أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء: (2) 388 الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَتْ فِيهِ النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس: (1) 548 الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يطلع الناس عليه: (3) 290 اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل: (3) 59 اثنتان يكرههما ابن آدم: (4) 356 أجب عني اللهم أيده بروح القدس: (1) 213 اجتنبوا السبع الموبقات: (2) 195، 238، (4) 24، (6) 31 اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا: (2) 249(9/52)
اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زجرا، فإنها من الميسر: (3) 160 أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وحده: (1) 104 أجل إنها صلاة رغب ورهب: (3) 243 أَجَلُ كُلِّ حَامِلٍ أَنْ تَضَعَ مَا فِي بطنها: (8) 174 أجلّوا الله يغفر لكم: (7) 470 اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ مِنَ الْيَهُودِ هَاهُنَا: (1) 207 اجمعوا من وجد عودا فليأت به: (5) 149 أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ: (8) 241 أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد: (6) 378 أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود: (7) 49 أحب العمل إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها: (1) 489 أحبب المساكين وجالسهم: (2) 420 أحبوا الله تعالى لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وأحبوا أهل بيتي بحبي: (7) 186 احتج آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى: (5) 283 احتجت الجنة والنار: (7) 378 احتكار الطعام بمكة إلحاد: (5) 362 احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ وبتوفيق اللَّهِ: (4) 466 احْذَرُوا هَذَا وَأَشْبَاهَهُ فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَشْبَاهَ هَذَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ: (4) 144 أخرج مال الضعيفين المرأة واليتيم: (2) 195 احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن: (8) 491 إحصانها إسلامها وعفافها: (2) 228 احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ: (7) 90 احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا ملكت يمينك: (6) 39 أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ والطحال: (1) 350 أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال: (3) 12 أحلت لنا ميتتان ودمان: (3) 180 أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ والطحال: (3) 415 احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا: (2) 117 أحيانا يأتي فِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عني: (8) 262 أخبركم بأكبر الكبائر الشرك بالله: (2) 292(9/53)
أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ تُشْبِهُ- أَوْ- كَالرَّجُلِ اَلْمُسْلِمِ لا يتحات ورقها صيفا ولا شتاء: (4) 422 أخبروه أن الله تعالى يحبه: (8) 489 اختصمت الجنة والنار: (4) 311 (5) 49 اخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلنَا عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فرقة: (8) 61 أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة: (3) 452 أخر عني يا عمد إني خيرت فاخترت: (4) 170 أَخَّرْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ القيامة: (2) 291 أخرج متاعك فضعه على الطريق: (2) 393 أَخْرَجَ نَفْسَ صَاحِبِكُمْ- أَوْ قَالَ أَخِيكُمْ- الشَّوْقُ إلى الجنة: (8) 292 اخْرُجْ يَا أَبَا بَكْرٍ فَهَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشمس: (5) 92 اخْرُجْ يَا فُلَانُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ وَاخْرُجْ يَا فلان إنك منافق: (4) 179 اخرجوا باسم اللَّهِ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بالله: (1) 387 اخرجي إليه فإنه لا يحسن الاستئذان: (6) 317 اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا: (1) 207 أخلص دينك يكفك القليل من العمل: (2) 391 أَخَلَفْتَ رَجُلًا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أهله بمثل هذا: (4) 307 أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأملاك ولا مالك إلا الله: (1) 47 أَدِّ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ من خانك: (2) 298 أدخلت الجنة فإذا بها جنابذ اللؤلؤ: (7) 111 ادخلوا الْبَابَ- الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا- يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شعيرة: (1) 176 أدعو إلى الله وحده: (6) 184 ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة: (7) 122 ادعوا لي المقداد: (2) 340 أدعوهم أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ ويملكون بها العجم: (7) 46 أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ ألف خادم: (7) 469 أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ: (2) 214 إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِدَاخِلَةِ إزاره: (7) 91 إذا أتاك الله مالا فلير عليك: (4) 240 إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ: (4) 87 إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ: (4) 86، 87 إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين: (2) 264(9/54)
إذا أتيت فسم الله فإنه إن وجد لك ولد كتب بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات: (1) 35 إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ: (1) 420 (6) 110 إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ وَمَعَهُمْ من شاء من أهل القبلة: (4) 451 إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجتهد فأخطأ فله أجر: (5) 313 إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنِ اجتهد فأخطأ فله أجر: (6) 339 إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: (5) 237 إذا أحسن أحد إسلامه، فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف: (1) 567 إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ مِنَ اللَّيْلِ فَاقْرَأْ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ: (8) 479 إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه: (5) 266 إذا أذنبت فاستغفر ربك: (2) 109 إذا أراد الله بِقَوْمٍ بَقَاءً أَوْ نَمَاءً رَزَقَهُمُ الْقَصْدَ وَالْعَفَافَ: (3) 229 إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَاهَةً نَظَرَ إِلَى أهل المساجد فصرف عنهم: (4) 105 إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تكلم بالوحي: (6) 456 إذا أراد الله قبض
عبد بأرض جعل له إليها حاجة: (6) 318 إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَأَدْرَكَهُ وقد أكل منه فليأكل ما بقي: (3) 31 إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَأَدْرَكَهُ وقد أكل منه فيأكل ما بقي: (3) 18 إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ وَسَمَّى، فَأَمْسَكَ عَلَيْهِ، فيأكل ما لم يأكل: (3) 29 إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فكل ما أمسك عليك: (3) 30 إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عليه فكل ما أمسك عليك: (3) 290 إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وإن أكل منه: (3) 32 إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَكُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يدك: (3) 18 إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فلينصرف: (6) 33 إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه: (2) 132 إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ: (3) 42 إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فصليا ركعتين: (5) 213 إِذَا اشْتَدَّ الْحُرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شدة الحر من فيح جهنم: (8) 450 إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة: (7) 380 إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ من هاهنا فقد أفطر الصائم: (1) 382 إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ: (6) 511 إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء: (8) 418(9/55)
إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار: (3) 340 إذا أمرتكم بأمر فأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ: (8) 97 إذا أمن الإمام فأمنوا: (1) 59 إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ من ذنبه: (1) 58 إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم: (6) 81 إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ: (8) 478 إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا ركعتين: (6) 373 إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعْنَتْهَا الملائكة حتى تصبح: (2) 257 إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَمَّنَهُ الله من أنواع البلايا: (5) 349 إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ما لم يتفرقا: (2) 235، (3) 5 إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بالزرع وتركتم الجهاد: (4) 109 إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى: (7) 425 إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النار: (3) 77 إذا توضأ أحدكم في منخريه من الماء ثم لينتثر: (3) 43 إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وجهه خرج من وجهه كل خطيئة: (3) 54 إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل: (8) 146 إذا جاء يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم: (5) 51 إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فَقَضَى بَيْنَهُمْ ففرغ من القضاء: (4) 421 إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا ريب فيه نادى مناد: (5) 185 إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا ريب فيه ينادي مناد: (4) 360 إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (6) 64 إذا حسدت فاستغفر الله: (7) 353 إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم: (3) 477، (6) 256 إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم وَلَكِنْ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إليكم: (1) 82 إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بين الجنة والنار: (7) 287 إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا عَلَى قنطرة بين الجنة والنار: (3) 374 إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (6) 60 إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك: (4) 297 (6) 60 إِذَا دَخَلَ الْإِنْسَانُ قَبْرَهُ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أحف به عمله الصلاة والصيام: (4) 431 إذا دخل أهل الجنة الجنة: (5) 206 إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ اشْتَاقُوا إِلَى الإخوان: (7) 404(9/56)
إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ اللَّهُ عز وجل هل تشتهون شيئا فأزيدكم: (4) 156 إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النار نادى مناد: (4) 229 إِذَا دَخَلَ الْإِيمَانُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ لَهُ الْقَلْبُ وانشرح: (3) 300 إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لكم ولا عشاء: (3) 34، 35 إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ سَأَلَ عَنْ أَبَوَيْهِ وزوجته وولده: (7) 403 إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح: (3) 301 إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أو غيره: (6) 402 إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح: (2) 257 إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الملك آمين ولك بمثله: (7) 118، 351 إِذَا ذَبَحَ الْمُسْلِمُ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَأْكُلْ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الله: (3) 292 إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلْيُحَدِّثْ بِهِ: (4) 318 إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ منه له: (7) 213 إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ: (3) 229 إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم: (1) 57، (2) 7 إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بالإيمان: (4) 105 إِذَا رَأَيْتُمْ
مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك: (6) 58 إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عنها فليصلها إذا ذكرها: (5) 245 إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله: (3) 14، 15 إذا زلزلت تعدل نصف القرآن: (8) 440 إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فيجلدها الحد ولا يثرب عليها: (2) 229 إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يثرب عليها: (2) 206 إِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فاجلدوها: (2) 230 إذا زنت ثلاثا فليبعها في الرابعة: (2) 230 إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس: (7) 290 إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس: (2) 102، (5) 182 إذا سألتم الجنة فاسألوه الفردوس: (5) 405 إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فقولوا عليك: (8) 74 إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السام عليك فقل: وعليك: (2) 326 إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين: (7) 41، 42 إذا سلمتم الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ولا تسرعوا: (8) 145(9/57)
إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ له: (3) 438 إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فأنا أولاكم به: (4) 296 إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّعْدَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يصيب ذاكرا: (4) 379 إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فضله: (6) 304 إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها: (1) 177 إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يَقُولُ: (4) 155 إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يقول: (3) 94 إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا: (6) 62 إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما: (4) 59 إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها: (2) 257 إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله عز وجل والثناء عليه: (6) 408 إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَسَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ: (4) 155 إذا صليتم علي فسلوا لي بالوسيلة: (3) 94 إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا خَرَّ إِبْلِيسُ ساجدا: (3) 337 إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَ اللَّهُ بأهل الأرض بأسه: (4) 35 إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قبلكم: (3) 148 إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ بعذاب من عنده: (4) 34 إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً أَحَبَّهَا قَلْبُكَ وَإِذَا عَمِلْتَ سيئة أبغضها قلبك: (1) 354 إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شهدها فكرهها: (3) 147 إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها: (4) 308 إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس: (2) 105 إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ، أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي سبقت غضبي: (3) 234، 235 «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» : (1) 58 إِذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضالين، فقال آمين: (1) 60 «إِذَا قَالَ- يَعْنِي الْإِمَامَ- وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمين يجبكم الله» : (1) 58 إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ- أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ ملكان أسودان أزرقان: (4) 429 إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يبكي: (5) 355 إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الملائكة بأجنحتها: (4) 454 إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله: (6) 156(9/58)
إِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ شكرت الله فزادك: (1) 43 إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ: (1) 24 إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه: (1) 503 إذا كان دما أحمر فدينار: (1) 440 إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قوم كفار فقتلته: (2) 339 إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ وَكَانَ لَهُ مَا يؤدي فلتحتجب منه: (6) 45 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين: (8) 344 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، دُعِيَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ: (3) 209 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مسلم يهوديا ونصرانيا: (5) 405 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فجحد وخاصم: (7) 156 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فيجحد ويخاصم: (6) 31 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَنْتُ إِمَامَ الْأَنْبِيَاءِ وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر: (5) 96 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مد الأديم: (5) 101، (8) 351 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ يَقُولُ: أين العافون عن الناس؟ (2) 107 إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها: (7) 191 إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يحزنه: (8) 75 إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه: (8) 75 إذا كنز الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات: (5) 148 إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا هَؤُلَاءِ الكلمات: (4) 124 إذا لم تصطحبوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها: (3) 26 إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثلاث: (1) 316، (6) 120، (7) 403 إذا مشيت أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ سُلِّطَ بَعْضُهُمْ على بعض: (5) 71 إِذَا نَامَ ابْنُ آدَمَ قَالَ الْمَلِكُ لِلشَّيْطَانِ: أعطني صحيفتك: (6) 116 إِذَا نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي للضيف فاقبلوا منهم: (2) 392 إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول: (2) 273 إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أن يتزوج أمها: (2) 219 إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ فلا يصم
يومئذ: (1) 381 إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غير الفريضة: (3) 21 إِذَا وَضَعْتَ جَنْبَكَ عَلَى الْفِرَاشِ وَقَرَأْتَ فَاتِحَةَ الكتاب وقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَمِنْتَ مِنْ كُلِّ شيء إلا الموت: (1) 25 إِذَا وَقَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا الله ونعم الوكيل: (2) 150 اذكروا الجنة واذكروا النار: (4) 463(9/59)
أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حملة العرش: (8) 228 اذهب فاطرحه في القبض: (4) 4 اذهب فأنت أميرهم: (1) 66 اذهب فخذ سلبك: (4) 5 اذْهَبْ فَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِينِي: (4) 196 اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي به: (3) 100 أرأيتكم إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ أكنتم تصدقوني: (8) 485 أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب: (3) 282 أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ بِبَابِ أَحَدِكُمْ نَهْرًا غَمْرًا يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يبقى من درنه شيئا؟ (4) 305 أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فاتك من الدنيا: (6) 434، 435 أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يتركونهن: (8) 129 أربع لا تجوز في الأضاحي: (5) 371 أربع من أمر الجاهلية لا يتركن: (4) 448 أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: التَّعَطُّرُ وَالنِّكَاحُ وَالسِّوَاكُ والحناء: (4) 402 أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا: (1) 201 أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: (8) 132 أربعة شهود وإلا فحد في ظهرك: (6) 15 أربعة لعنهم الله تعالى من فوق عرشه: (7) 262 أربعة يحتجون يوم القيامة: (5) 50 أربعة يدلي على الله بحجته: (5) 50 ارجع فأحسن وضوءك: (3) 50 ارجع فقل السلام عليكم أأدخل؟ (6) 35 ارجعي إلى بيتك: (2) 214 أرجو أن يكونوا ثلث الجنة: (2) 87 ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم: (2) 110 أردت أمرا وأراد الله غيره: (2) 256 أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم: (3) 105 اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها: (5) 372 اركبوها سالمة ودعوها سالمة: (5) 73 ارم فداك أبي وأمي: (2) 123(9/60)
ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا: (6) 447 ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تركبوا: (4) 71 الأرواح جنودي مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ منها اختلف: (5) 128، (7) 295 أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ معلقة بالعرش: (2) 142 أريت في المنام دار هجرتكم: (6) 348 أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا آدم طوالا جعدا: (6) 331 أزهد الناس في الدنيا الأنبياء: (6) 154 أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاستنشاق إلا أن تكون صائما: (3) 50 أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار: (3) 48 استأذنت النار ربها فقالت ربي أكل بعضي بعضا: (1) 111 استحيوا إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن: (1) 445 استحيوا إن الله لا يستحي من الحق، لا يحل أن تأتوا الناس في حشوشهن: (1) 445 اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ لَا تَأْتُوا النساء في أدبارهن: (1) 447 اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ فَإِنْ أَصَابَكَ أَمْرٌ فقل قدر الله وما شاء فعل: (7) 448 استعيذوا بالله فإن العين حق: (8) 222 استعينوا بالله من عذاب القبر: (3) 371، (4) 424 اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يسأل: (4) 172 استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك: (1) 548 استقيموا ولن تحصوا: (5) 405 استكثروا من الباقيات الصالحات: (5) 147 استوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله: (2) 214 اسْتَوْهِبْ مِنْهُ دِينَهُ فَإِنْ أَبَى فَابْتَعْهُ مِنْهُ: (2) 290 استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم: (8) 78 اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي: (1) 341، 342 اسق ثم أرسل إلى جارك: (2) 307، 308 اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يرجع إلى الجدر: (2) 307، 308 اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جارك: (2) 307 الْإِسْلَامُ أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (6) 317 الإسلام علانية والإيمان في القلب: (7) 348 الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قبلها: (8) 191 الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا كان قبلها: (4) 48 اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أجاب: (2) 25(9/61)
اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي ثَلَاثٍ: سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وطه: (1) 516 اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ: (5) 324 اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: (1) 344 اسم الله على كل مسلم: (3) 293 أَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ: (8) 279 اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنَّ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كأن رأسه زبيبة: (2) 302 أشبهت خلقي وخلقي: (6) 338، (7) 336 اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (2) 124 اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ: (2) 124 أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا: (4) 191 أشد الناس بلاء الأنبياء: (5) 315 أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأمثل فالأمثل: (6) 237 أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نبيّ أو قتل نبيا: (1) 182 الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَالْفِرَارُ من الزحف: (2) 239 الإشراك بالله وقذف المحصنة: (2) 239 الإشراك بالله واليأس من روح الله: (2) 243 اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ما شاء: (2) 325 أشكم درد: (1) 156 أشيروا علي أيها المسلمون: (3) 69 أشيروا علي أيها الناس: (4) 15 أَشِيرُوا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْمٍ أَبَنُوا أهلي ورموهم: (2) 131 أصبح من عبادي مؤمن بي كافر: (4) 226 أصحاب سلمان الفارسي
: (1) 182 إصلاح ذات البين: (2) 365 أصدق الطيرة الفأل، والعين حق: (8) 222 أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد: (6) 235 أَصْلِحِي لَنَا الْمَجْلِسَ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَى الأرض لم ينزل إليها قط: (5) 221 اصْنَعْ لِي رِجْلَ شَاةٍ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وإناء لبنا: (6) 153 اصنعوا كل شيء إلا النكاح: (1) 438 الإضرار في الوصية من الكبائر: (2) 202، 203، 245 أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا: (4) 526(9/62)
أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه: (4) 446 أطّت السماء وحق لها أن تئط: (7) 39 أَطِعْ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ لَهُمَا من الدنيا فافعل: (3) 324 أطعموا نساءكم الولد الرطب: (5) 199 اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم: (4) 261 أَظَلَّ اللَّهُ عَيْنًا فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ ترك لغارم: (1) 557 أعاذك الله من إمارة السفهاء: (8) 293 اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنه يراك: (2) 181 أعتق النسمة وفك الرقبة: (4) 147 أعتقها فإنها مؤمنة: (3) 159 أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عضوا منه من النار: (2) 337 أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أو قتله نبي: (4) 224 أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بقي فهو لك: (2) 197 أعطني حصبا من الأرض: (4) 26 أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ ثُلُثَ حُسْنِ أَهْلِ الدُّنْيَا وأعطي الناس الثلثين: (4) 330 أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث: (4) 330 أعطي يوسف وأمه شطر الحسن: (4) 330 أُعْطِيتُ آمِينَ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الدُّعَاءِ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُوسَى: (1) 59 أعطيت خمسا: بعثت إلى الأحمر والأسود ... (2) 116
أُعْطِيتُ خَمْسًا بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَجُعِلَتْ لي الأرض مسجدا طهورا: (3) 442 أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: (2) 282، (4) 7 أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قبلي: (2) 115، (3) 270، 442، (4) 80، 410، (6) 84 أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: (3) 441 أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لم يعطهن نبي قبلي: (1) 570 أعطيت السبع الطوال وكان التوراة: (1) 65 أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: (2) 81 أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تحت العرش والمفصل نافلة: (1) 571 أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يشق شقا: (8) 472 أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: (2) 11 أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: (1) 516 أَعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللَّهِ ذِرَاعٌ مِنَ الْأَرْضِ: (2) 133(9/63)
أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لم يحرم فحرم من أجل مسألته: (3) 186 أعلمت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عليّ: (2) 142 أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ: (6) 492 الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى: (3) 42 اعملوا فكل ميسر لما خلق له: (8) 404 اعملوا وأبشروا، فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ أَوِ الرَّقْمَةِ في ذراع الدابة: (5) 343 اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَنْ يدخله عمله الجنة: (7) 241 أعوذ بالله من ذلك: (3) 241 أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (7) 166 أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من همزه ونفحه ونفثه: (1) 27، (5) 428 أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم: (6) 60 أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ- ثُمَّ قَالَ- أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ الله: (7) 62 أعوذ بك من البخل والكسل والهرم: (4) 502 أُعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ: (6) 53 أعوذ بوجهك: (3) 241 أعيذ كما بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ ومن كل عين لامة: (8) 220 اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالْلَّهِ: (4) 85 اغزوا في سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله: (1) 387 اغفر لنا حوبنا وخطايانا: (2) 182 أفتان أنت يَا مُعَاذُ! مَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقْرَأَ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحوها: (8) 367 افتخرت الجنة والنار: (7) 378 أفش السلام وأطعم الطعام: (5) 298 أفضل الحج العج والثج: (8) 308 أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدعاء الحمد لله: (1) 44 أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ: (3) 147 أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ: (7) 127 أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ: (1) 355 أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تأمل الغنى وتخشى الفقر: (8) 295 أفضل الصدقة جهد المقل: (8) 100 أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبيل: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له: (1) 44(9/64)
أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بنت مزاحم امرأة فرعون: (8) 194 أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ: (1) 83 أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بعدكم: (7) 383 أفلا أكون عبدا شكورا: (7) 303 أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك: (3) 394 أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كفافا وقنع به: (7) 89 اقبل الحديقة وطلقها تطليقة: (1) 464 اقبلوا البشرى يا بني تميم: (4) 265 اقْتَدَوْا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: (1) 294 أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟ (4) 50 اقرأ بالمعوذتين فإنك لن تقرأ بمثلهما: (8) 501 اقْرَأِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَخْتِمَهَا: (1) 22 اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو تنزلت للقرآن: (5) 121 اقرأ قل أعوذ برب الفلق: (8) 501 اقرأ يا ابن حضير: (1) 63 اقْرَءُوا الْبَقَرَةَ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ولا يستطيعها البطلة: (1) 64 اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ شَافِعٌ لِأَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (1) 64 اقرءوها على موتاكم: (1) 61 «اقرءوها على موتاكم» يعني يس: (6) 499 أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ ساجد فأكثروا الدعاء: (8) 424 اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هو أدنى من ذلك: (3) 99 اقطعوا يدها: (3) 101 اقطعوا يدها اليمنى: (3) 101 أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا: (4) 148 أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب: (8) 78 أقيموا صفوفكم- ثلاثا-: (3) 53 أَقِيمُوا عَلَى سِقَايَتِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا: (4) 108 أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ قتل النفس- شعبة الشاك- واليمين الغموس: (2) 241 أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينُ الغموس: (2) 242 اكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم: (1) 41، (7) 328(9/65)
أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ: (3) 415 أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَّتِي بَعْدَ كِتَابِ الله وقضائه وقدره بالأنفس: (8) 223 أكثرهم ذكرا للموت: (3) 300 أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون: (6) 385 أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة: (6) 419 أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يوم مشهود تشهده الملائكة: (8) 359 أكرموا عمتكم النخلة: (5) 199 أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابه: (1) 89 اكشفها فإن اللحية من الوجه: (3) 42 اكفلوا لي ستا أكفل لكم الجنة: (6) 39 أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة: (6) 342 أكل ولدك نحلت مثله: (3) 56 الآن حمي الوطيس: (4) 112 الآن نغزوهم ولا يغزوننا: (6) 355 أَلَا احْتَطْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ الْبِضْعَ ما بين ثلاث إلى
تسع: (6) 273 ألا أخبركم بخير البرية؟ (8) 439 أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الذي وفى: (6) 277 ألا أخبركم مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وراء حجاب: (2) 143 أَلَا أُخْبِرُكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَابِرٍ بأخير سورة في القرآن: (1) 22 ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ (2) 365 ألا أخبركم بأكملكم أيمانا أحاسنكم أخلاقا: (6) 308 ألا أخبركم بالتيس المستعار: (1) 473 أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا: (1) 562 أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أن يستشهدوا: (1) 562 أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ؟ (5) 74 أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا ويرفع به الدرجات: (2) 172 أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الذي وفى؟ (1) 287 ألا أدلك على أبواب الخير: (6) 325 ألا أدلك على تجارة: (2) 365 أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لا قوة إلا بالله: (5) 143 أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا؟ (2) 173(9/66)