يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّا خَصَصْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْبِعْثَةِ إِلَى جَمِيعِ أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم الْقُرْآنَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الْأَنْعَامِ: 19] وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: 17] لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الْأَنْعَامِ: 93] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَافِ:
158] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» «1» ، وَفِيهِمَا «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلى الناس عامة» ولهذا قال تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ يعني القرآن، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، جِهاداً كَبِيراً كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73] الآية.
وقوله تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أَيْ خَلَقَ الْمَاءَيْنِ: الْحُلْوَ وَالْمِلْحَ، فَالْحُلْوُ كَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ، وَهَذَا هُوَ البحر الحلو العذب الفرات الزُّلَالُ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وهذا المعنى لَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَحْرٌ سَاكِنٌ وَهُوَ عَذْبٌ فُرَاتٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى إِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ لِيُنَبِّهَ الْعِبَادَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ لِيَشْكُرُوهُ، فَالْبَحْرُ الْعَذْبُ هُوَ هَذَا السَّارِحُ بين الناس، فرقه الله تَعَالَى بَيْنَ خِلْقِهِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ أَنْهَارًا وَعُيُونًا فِي كُلِّ أَرْضٍ، بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ وَكِفَايَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وأرضيهم.
وقوله تعالى: وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أَيْ مَالِحٌ مُرٌّ زُعَاقٌ لَا يُسْتَسَاغُ، وَذَلِكَ كَالْبِحَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ: الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الزُّقَاقِ، وَبَحْرِ الْقُلْزُمِ، وَبَحْرِ الْيَمَنِ، وَبَحْرِ الْبَصْرَةِ، وَبَحْرِ فَارِسَ، وَبَحْرِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ، وَبَحْرِ الرُّومِ، وبحر الخزر، وما شاكلها وما شابهها مِنَ الْبِحَارِ السَّاكِنَةِ الَّتِي لَا تَجْرِي، وَلَكِنْ تموج وتضطرب وتلتطم فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَشِدَّةِ الرِّيَاحِ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ مَدٌّ وَجَزْرٌ، فَفِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ يَحْصُلُ مِنْهَا مَدٌّ وَفَيْضٌ، فَإِذَا شَرَعَ الشَّهْرُ فِي النُّقْصَانِ جَزَرَتْ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى غَايَتِهَا الْأُولَى، فَإِذَا اسْتَهَلَّ الْهِلَالُ مِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ شَرَعَتْ فِي الْمَدِّ إِلَى اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ عَشْرَةَ، ثُمَّ تَشْرَعُ فِي النَّقْصِ، فَأَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى- وهو ذو الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ- الْعَادَةَ بِذَلِكَ، فَكُلُّ هَذِهِ الْبِحَارِ الساكنة، خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لِئَلَّا يَحْصُلَ بِسَبَبِهَا نَتَنُ الْهَوَاءِ، فَيَفْسَدُ الْوُجُودُ بِذَلِكَ، وَلِئَلَّا تَجْوَى الْأَرْضُ بِمَا يَمُوتُ فِيهَا من الحيوان، ولما كان ماؤها مالحا، كَانَ هَوَاؤُهَا صَحِيحًا وَمَيْتَتُهَا طَيِّبَةً، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ: أَنَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقَالَ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» «2» رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
وقوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً أَيْ بَيْنَ الْعَذْبِ والمالح بَرْزَخاً أي حاجزا
__________
(1) تقدم الحديثان مع تخريجهما عند الآية الأولى من هذه السورة.
(2) تقدم الحديث مع تخريجه عند تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة. الجزء الثالث.(6/106)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
وَهُوَ الْيَبَسُ مِنَ الْأَرْضِ، وَحِجْراً مَحْجُوراً أَيْ مانعا من أن يصل أحدهما إلى الآخر، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 19- 21] وقوله تَعَالَى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النمل: 61] وقوله تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً الآية، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ضَعِيفَةٍ فَسَوَّاهُ وعدله وجعله كامل الخلقة ذكرا وأنثى، كَمَا يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً فَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَلَدٌ نَسِيبٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ فَيَصِيرُ صِهْرًا، ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَصْهَارٌ وَأُخْتَانٌ وَقَرَابَاتٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى:
وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 60]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تملك له ضرا ولا نفعا، بِلَا دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةٍ أَدَّتْهُمْ إِلَيْهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالتَّشَهِّي وَالْأَهْوَاءِ، فَهُمْ يُوَالُونَهُمْ وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِمْ، وَيُعَادُونَ اللَّهَ ورسوله والمؤمنين فيهم، ولهذا قال تعالى:
وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أَيْ عَوْنًا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ عَلَى حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [يس: 74- 75] أَيْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا تَمَلِكُ لَهُمْ نَصْرًا، وَهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ لِلْأَصْنَامِ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ يُقَاتِلُونَ عَنْهُمْ، وَيَذُبُّونَ عَنْ حَوْزَتِهِمْ، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً قَالَ: يُظَاهِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى معصية الله ويعينه «1» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً يَقُولُ: عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ بِالْعَدَاوَةِ وَالشِّرْكِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً قَالَ: مُوَالِيًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ لِمَنْ خالف أمر الله قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَهَذَا الْإِنْذَارِ مِنْ أُجْرَةٍ أَطْلُبُهَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: 28]
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 401.(6/107)
إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا وَمَنْهَجًا يَقْتَدِي فِيهَا بما جئت به.
ثم قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَيْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا كُنْ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ الْحَيِّ الَّذِي. لَا يَمُوتُ أَبَدًا، الَّذِي هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْحَدِيدِ: 3] الدَّائِمُ الْبَاقِي السَّرْمَدِيُّ الْأَبَدِيُّ الْحَيُّ القيوم ورب كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ اجْعَلْهُ ذُخْرَكَ وَمَلْجَأَكَ، وَهُوَ الَّذِي يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُفْزَعُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ وَمُظَفِّرُكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ:
قَرَأْتُ عَلَى مَعْقِلٍ يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَقِيَ سلمان النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ فِجَاجِ الْمَدِينَةِ فَسَجَدَ لَهُ، فَقَالَ «لَا تَسْجُدْ لِي يَا سَلْمَانُ، وَاسْجُدْ لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ» وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أَيْ اقْرِنْ بَيْنَ حَمْدِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ» أَيْ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالتَّوَكُّلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 23] وقال تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك: 29] .
وقوله تعالى: وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي بعلمه التَّامِّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. وقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية، أَيْ هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، الَّذِي خَلَقَ بقدرته السموات السَّبْعَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي سُفُولِهَا وَكَثَافَتِهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أَيْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيَقْضِي الْحَقَّ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أَيِ اسْتَعْلِمْ عَنْهُ مَنْ هُوَ خَبِيرٌ بِهِ عَالِمٌ بِهِ، فَاتَّبِعْهُ وَاقْتَدِ بِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَلَا أَخْبَرُ بِهِ مِنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يوحى، فما قاله فهو الحق، وما أخبر به فهو الصدق، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُحَكِّمُ الَّذِي إِذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ وَجَبَ رَدُّ نِزَاعِهِمْ إِلَيْهِ، فَمَا وافق أقواله وأفعاله فهو الحق، وما خالفها فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ وَفَاعِلِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ [النساء: 59] الآية، وقال تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشُّورَى: 10] وَقَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَامُ: 115] أَيْ صِدْقًا فِي الْإِخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، ولهذا قال تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً.(6/108)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
قال مجاهد: في قوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً قَالَ: مَا أَخْبَرْتُكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ. وقال شمر بن عطية في قوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً هَذَا الْقُرْآنُ خَبِيرٌ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَيْ لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ، كَمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَاتِبِ «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ وَلَا الرَّحِيمَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] أَيْ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الرَّحْمَنُ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَيْ لَا نِعْرِفُهُ وَلَا نُقِرُّ بِهِ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أَيْ لِمُجَرَّدِ قولك وَزادَهُمْ نُفُوراً فأما الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَيُفْرِدُونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَيَسْجُدُونَ لَهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ مَشْرُوعٌ السُّجُودُ عِنْدَهَا لِقَارِئِهَا وَمُسْتَمِعِهَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
يَقُولُ تَعَالَى مُمَجِّدًا نَفْسَهُ ومعظما على جميل ما خلق في السماوات مِنَ الْبُرُوجِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ لِلْحَرَسِ، يُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ هِيَ قُصُورٌ لِلْحَرَسِ، فَيَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5] الآية، ولهذا قَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَهِيَ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ الَّتِي هي كالسراج في الوجود، كما قال تعالى:
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً [النَّبَأِ: 13] .
وَقَمَراً مُنِيراً أَيْ مشرقا مضيئا بنور آخر من غير نور الشمس، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يُونُسَ: 5] وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 15- 16] ثم قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أَيْ يخلف كل واحد منهما صاحبه، يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ، إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، وَإِذَا جَاءَ هَذَا ذَهَبَ ذَاكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ [إبراهيم: 33] الآية، وقال يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف: 54] الآية، وَقَالَ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس:(6/109)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
40] الآية.
وقوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أَيْ جَعَلَهُمَا يَتَعَاقَبَانِ تَوْقِيتًا لِعِبَادَةِ عِبَادِهِ لَهُ عز وجل، فَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي اللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ فِي النَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي النَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ فِي اللَّيْلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إن الله عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» «1» .
وقال أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حُرَّةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَطَالَ صَلَاةَ الضُّحَى، فَقِيلَ لَهُ: صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ وِرْدِي شَيْءٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهُ، أَوْ قَالَ أَقْضِيهِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في الآية: يَقُولُ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ أَنْ يَعْمَلَهُ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ مِنَ النَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: خِلْفَةً، أَيْ مُخْتَلِفَيْنِ، أي هذا بسواده وهذا بضيائه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 67]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
هَذِهِ صِفَاتُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أَيْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ من غير جبرية ولا استكبار، كقوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الإسراء: 37] الآية، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ يَمْشُونَ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْبَارٍ وَلَا مَرَحٍ، وَلَا أَشَرٍ وَلَا بَطَرٍ، وَلَيْسَ المراد أنهم يمشون كالمرضى تَصَنُّعًا وَرِيَاءً، فَقَدْ كَانَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، وَكَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَشْيَ بِتَضَعُّفٍ وَتَصَنُّعٍ، حَتَّى رَوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى شَابًّا يَمْشِي رُوَيْدًا، فَقَالَ: مَا بَالَكَ أَأَنْتَ مَرِيضٌ؟ قَالَ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَمْشِيَ بِقُوَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْهَوْنِ هنا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السِّكِينَةُ فَمَا أدركتم منها فَصَلَّوْا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» «2» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُخْتَارِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الآية، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ ذُلُلٌ، ذَلَّتْ مِنْهُمْ- وَاللَّهِ- الْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ وَالْجَوَارِحُ، حَتَّى تَحْسَبَهُمْ مَرْضَى وما بالقوم من مرض، وإنهم والله أصحاء، ولكنهم دخلهم
__________
(1) أخرجه مسلم في التوبة حديث 31، وأحمد في المسند 4/ 395، 404.
(2) أخرجه البخاري في الجمعة باب 18، ومسلم في المساجد حديث 151- 155.(6/110)
مِنَ الْخَوْفِ مَا لَمْ يَدْخُلْ غَيْرَهُمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا عِلْمُهُمْ بِالْآخِرَةِ، فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أحزنهم ما أحزن النَّاسِ، وَلَا تَعَاظَمَ فِي نُفُوسِهِمْ شَيْءٌ طَلَبُوا به الجنة، ولكن أبكاهم الخوف من النار، إنه مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ اللَّهِ، تَقَطَّعَ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَ لِلَّهِ نعمة إلا في مطعم أو مَشْرَبٍ، فَقَدْ قَلَّ عِلْمُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ «1» .
وَقَوْلُهُ تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أَيْ إِذَا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لَمْ يُقَابِلُوهُمْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، بَلْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا خَيْرًا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزِيدُهُ شدة الجاهل عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: 55] الآية.
وروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وسب رجل رجلا عنده، فجعل قال: المسبوب يقول: عليك السلام، الرِّجْلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَا إِنَّ مَلِكًا بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ، كُلَّمَا شَتَمَكَ هَذَا قَالَ لَهُ: بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أحق به، وإذا قلت له وعليك السَّلَامُ، قَالَ: لَا بَلْ عَلَيْكَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ» . إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ قالُوا سَلاماً يَعْنِي قَالُوا سَدَادًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَدُّوا مَعْرُوفًا مِنَ الْقَوْلِ. وَقَالَ الحسن البصري: قالُوا سَلاماً حلماء لا يجهلون إن جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا، يُصَاحِبُونَ عِبَادَ اللَّهِ نَهَارَهُمْ بما يسمعون، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَيْلَهُمْ خَيْرُ لَيْلٍ «3» .
وَقَوْلُهُ تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أَيْ فِي طاعته وعبادته، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17- 18] وقوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة: 16] الآية، وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: 9] الآية، ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أَيْ مُلَازِمًا دَائِمًا، كما قال الشاعر [الخفيف] :
إن يعذب يكن غراما، وإن يعط ... جَزِيلًا، فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي «4»
وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً كُلُّ شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه،
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 409.
(2) المسند 5/ 445.
(3) انظر الدر المنثور 5/ 141.
(4) البيت للأعشى في ديوانه ص 59، ولسان العرب (عزم) ، ومقاييس اللغة 4/ 419، وتاج العروس (غرم) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 8/ 131، والمخصص 4/ 62، 12/ 98، ويروى «إن يعاقب» بدل «إن يعذب» .(6/111)
فليس بغرام، وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَكَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بن كعب إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً يَعْنِي مَا نَعِمُوا في الدنيا، إن الله تعالى سَأَلَ الْكُفَّارَ عَنِ النِّعْمَةِ فَلَمْ يَرُدُّوهَا إِلَيْهِ، فَأَغْرَمَهُمْ فَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أَيْ بِئْسَ الْمَنْزِلُ مَنْظَرًا، وَبِئْسَ الْمَقِيلُ مَقَامًا.
وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: إِذَا طُرِحَ الرَّجُلُ فِي النَّارِ هَوَى فِيهَا، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى بَعْضِ أَبْوَابِهَا قِيلَ لَهُ: مَكَانَكَ حَتَّى تُتْحَفَ، قَالَ: فَيُسْقَى كَأْسًا مِنْ سُمِّ الْأَسَاوِدِ وَالْعَقَارِبِ، قَالَ: فَيُمَيَّزُ الْجِلْدُ عَلَى حِدَةٍ، وَالشِّعْرُ عَلَى حِدَةٍ، وَالْعَصَبُ عَلَى حِدَةٍ، وَالْعُرُوقُ عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ لَجُبَابًا فِيهَا حَيَّاتٌ أَمْثَالُ الْبُخْتِ، وَعَقَارِبُ أَمْثَالُ الْبِغَالِ الدَّلَمِ، فَإِذَا قُذِفَ بِهِمْ فِي النَّارِ خَرَجَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوْطَانِهَا، فَأَخَذَتْ بِشِفَاهِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، فَكَشَطَتْ لُحُومَهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، فَإِذَا وَجَدَتْ حَرَّ النَّارِ رَجَعَتْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَلَّامٌ يَعْنِي ابْنَ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي ظِلَالٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إن عَبْدًا فِي جَهَنَّمَ لِيُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ:
يَا حنان يا منان، فيقول الله عز وجل لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَآتِنِي بِعَبْدِي هَذَا، فَيَنْطَلِقُ جِبْرِيلُ فيجد أهل النار مكبين يَبْكُونَ، فَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُخْبِرُهُ، فيقول الله عز وجل، ائتني بِهِ، فَإِنَّهُ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَيَجِيءُ بِهِ فَيُوقِفُهُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا عَبْدِي كَيْفَ وَجَدْتَ مَكَانَكَ وَمَقِيلَكَ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول الله عز وجل، رُدُّوا عَبْدِي، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجَتْنِي مِنْهَا أَنْ تَرُدَّنِي فِيهَا، فيقول الله عز وجل، دعوا عبدي» .
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا الآية، أَيْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ، فَيَصْرِفُونَ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ فَيُقَصِّرُونَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُونَهُمْ، بَلْ عَدْلًا خِيَارًا، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً كما قال تَعَالَى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] الآية.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ ضَمْرَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ» . ولم
__________
(1) المسند 3/ 230.
(2) المسند 5/ 194.(6/112)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
يُخْرِجُوهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا سُكَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ما عال من اقتصد» لم يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ بِلَالٍ- يَعْنِي الْعَبْسِيَّ- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال الحسن البصري:
ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أمر الله تعالى، فَهُوَ سَرَفٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّرَفُ النَّفَقَةُ فِي معصية الله عز وجل.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 71]
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «3» الآية، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ زَادَ الْبُخَارِيُّ وَوَاصِلٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَفْظُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ الْحَدِيثَ، طَرِيقٌ غَرِيبٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، حدثنا عامر بن مدرك، حدثنا السري
__________
(1) المسند 1/ 447. [.....]
(2) المسند 1/ 380، 431، 434، 462، 464.
(3) أخرجه بلفظ: «أي الذنب أعظم» : البخاري في تفسير سورة 2، باب 3، وسورة 25 باب 2، والأدب باب 20، والديات باب 1، والحدود باب 19، والتوحيد باب 40، 46، ومسلم في الإيمان حديث 141، 142، وأبو داود في الطلاق باب 50، والترمذي في تفسير سورة 25، باب 1، 2، والنسائي في التحريم باب 44.
(4) تفسير الطبري 9/ 415.(6/113)
يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَاتَّبَعْتُهُ، فَجَلَسَ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَعَدْتُ أَسْفَلَ مِنْهُ وَوَجْهِي حِيَالَ رُكْبَتَيْهِ، وَاغْتَنَمْتُ خَلْوَتَهُ وَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذنب أَكْبَرُ؟ قَالَ «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًا وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ «أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ» ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الْآيَةِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في حِجَّةِ الْوَدَاعِ «أَلَا إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ» فَمَا أَنَا بِأَشَحَّ عَلَيْهِنَّ مِنِّي مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا طيبة الْكَلَاعِيَّ، سَمِعْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟» قَالُوا:
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جاره» . قال «فما تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟» قَالُوا:
حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ «لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ الهيثم بن مالك الطائي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لَا يَحِلُّ لَهُ» .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية، وَنَزَلَتْ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الْآيَةُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكَ أَنْ تَعْبُدَ الْمَخْلُوقَ وَتَدَعَ الْخَالِقَ، وَيَنْهَاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ وَتَغْذُوَ كَلْبَكَ، وَيَنْهَاكَ أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» . قَالَ سُفْيَانُ: وَهُوَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أَثَامًا: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ يَلْقَ أَثاماً أَوْدِيَةٌ فِي جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ فِيهَا الزُّنَاةُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ قَتادَةُ يَلْقَ أَثاماً نَكَالًا، كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ لقمان كان يقول: يا بني، إياك والزنا، فإن أوله مخافة وآخره ندامة، وقد
__________
(1) المسند 6/ 8.(6/114)
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: أن غيا وآثاما بئران في قعر جهنم، أجارنا الله منهما بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ يَلْقَ أَثاماً جَزَاءً، وهذا أشبه بظاهر الآية، وبهذا فَسَّرَهُ بِمَا بَعْدَهُ مُبَدَّلًا مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ وَيُغْلَّظُ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أَيْ حَقِيرًا ذليلا.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً أَيْ جَزَاؤُهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ مَا ذُكِرَ إِلَّا مَنْ تابَ أي في الدنيا إلى الله عز وجل مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ آيَةِ النِّسَاءِ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: 93] الآية، فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً إِلَّا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، فَتُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ لِأَنَّ هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] الآية. قد ثَبَتَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، كَمَا ذُكِرَ مُقَرَّرًا مِنْ قِصَّةِ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ رجل ثم تاب، فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث.
وقوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فِي مَعْنَى قَوْلِهِ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قَوْلَانِ [أَحَدُهُمَا] أَنَّهُمْ بُدِّلُوا مَكَانَ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ بِعَمَلِ الْحَسَنَاتِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في الآية، قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَانُوا مِنْ قَبْلِ إِيمَانِهِمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ، فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، فَحَوَّلَهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ، فَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ «2» ، وروي عن مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ عند هذه الآية [رجز] :
بُدِّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَرِيفًا ... وَبَعْدَ طُولِ النَّفَسِ الْوَجِيفَا «3»
يَعْنِي تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ إِلَى غَيْرِهَا، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هَذَا فِي الدُّنْيَا، يَكُونُ الرَّجُلُ عَلَى هَيْئَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ يُبَدِّلُهُ اللَّهُ بِهَا خَيْرًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وَأَبْدَلَهُمْ بِنِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ نِكَاحَ الْمُؤْمِنَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَبْدَلَهُمُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ السَّيِّئِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَبْدَلَهُمْ بِالشِّرْكِ إِخْلَاصًا، وَأَبْدَلَهُمْ بِالْفُجُورِ إِحْصَانًا، وَبِالْكُفْرِ إِسْلَامًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ.
[وَالْقَوْلُ الثَّانِي] أَنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةَ تَنْقَلِبُ بِنَفْسِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ حَسَنَاتٍ، وَمَا ذَاكَ إلا لأنه كُلَّمَا تَذَكَّرَ مَا مَضَى نَدِمَ وَاسْتَرْجَعَ وَاسْتَغْفَرَ، فينقلب الذنب طاعة بهذا
__________
(1) تفسير الطبري 9/ 417.
(2) انظر تفسير الطبري 9/ 418.
(3) الرجز بلا نسبة في تفسير الطبري 9/ 419.(6/115)
الِاعْتِبَارِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ، فإنه لَا يَضُرُّهُ وَيَنْقَلِبُ حَسَنَةً فِي صَحِيفَتِهِ، كَمَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ، وَصَحَّتْ بِهِ الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عن السلف رضي الله عنهم، وَهَذَا سِيَاقُ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ، يُؤْتَى بِرَجُلٍ فَيَقُولُ نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: عَمِلْتَ يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فَيَقُولُ: نَعَمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَيُقَالُ: فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا» قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه، انفرد بإخراجه مسلم «2» .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثني هَاشِمُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا نَامَ ابْنُ آدَمَ قَالَ الْمَلِكُ لِلشَّيْطَانِ: أَعْطِنِي صَحِيفَتَكَ، فَيُعْطِيهِ إِيَّاهَا، فَمَا وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ مِنْ حَسَنَةٍ مَحَا بِهَا عَشْرَ سَيِّئَاتٍ مِنْ صَحِيفَةِ الشَّيْطَانِ وَكَتَبَهُنَّ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا أراد أحدكم أن ينام فَلْيُكَبِّرْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَيَحْمَدْ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَيُسَبِّحْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً فَتِلْكَ مِائَةٌ» «3» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ وَعَارِمٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ أَبُو زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أبي عثمان عن سلمان قال: يعطى الرجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَحِيفَتَهُ فَيَقْرَأُ أَعْلَاهَا، فَإِذَا سَيِّئَاتُهُ، فَإِذَا كَادَ يَسُوءُ ظَنُّهُ نَظَرَ فِي أَسْفَلِهَا فَإِذَا حَسَنَاتُهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أَعْلَاهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الزُّهْرِيُّ أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَنْبَسِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ليأتين الله عز وجل بأناس الزُّهْرِيُّ أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَنْبَسِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيَأْتِينَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأُنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الضيف- قلت: وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- قَالَ.
يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ المتقين ثم الشاكرين ثم أصحاب اليمين قالت: لم سموا أصحاب اليمين؟ قال: لأنهم قد عَمِلُوا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَأُعْطُوا كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ فَقَرَؤُوا سيئاتهم حرفا حرفا، وقالوا: يَا رَبَّنَا هَذِهِ سَيِّئَاتُنَا، فَأَيْنَ حَسَنَاتُنَا؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَحَا اللَّهُ السَّيِّئَاتِ وَجَعَلَهَا حَسَنَاتٍ، فَعِنْدَ ذلك قالوا: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فهم أكثر أهل الجنة.
__________
(1) المسند 5/ 170.
(2) كتاب الإيمان حديث 308، 309.
(3) انظر الدر المنثور 5/ 147.(6/116)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قَالَ: فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ: يَغْفِرُهَا لَهُمْ فَيَجْعَلُهَا حَسَنَاتٍ، رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يُحَدِّثُ قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ كَبِيرٌ هَرِمٌ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ غَدَرَ وَفَجَرَ ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بِيَمِينِهِ، لَوْ قُسِّمَتْ خَطِيئَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَوْبَقَتْهُمْ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «أأسلمت؟» فقال: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، فقال النبي «فَإِنَّ اللَّهَ غَافِرٌ لَكَ مَا كُنْتَ كَذَلِكَ، وَمُبْدِّلٌ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ» فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَغَدَرَاتِي وفَجَرَاتِي؟ فَقَالَ «وَغَدَرَاتِكَ وفَجَراتِكَ» فَوَلَّى الرَّجُلُ يُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي المغيرة عن صفوان بن عمر عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ شَطْبٍ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ «أَسْلَمْتَ؟» فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَافْعَلِ الْخَيِّرَاتِ وَاتْرُكِ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلَهَا اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهَا» قَالَ: وَغَدَرَاتِي وفَجَرَاتِي؟ قال «نعم» فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي فَرْوَةَ الرِّهَاوِيِّ عَنْ يَاسِينَ الزَّيَّاتِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحِمْصِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ مَرْفُوعًا. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ شُعَيْبِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ فُلَيْحٍ الشَّمَّاسِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ إِنِّي زَنَيْتُ، وَوَلَدْتُ وَقَتَلْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا، وَلَا نُعْمَتِ الْعَيْنُ وَلَا كَرَامَةَ، فَقَامَتْ وَهِيَ تَدْعُو بِالْحَسْرَةِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ مَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَمَا قَلْتُ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بِئْسَمَا قُلْتَ، أَمَا كُنْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةِ؟» وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قوله- إِلَّا مَنْ تابَ الآية، فقرأتها عليها، فخرت ساجدة وقالت: الحمد الله الَّذِي جَعَلَ لِي مَخْرَجًا، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي رِجَالِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ بِسَنَدِهِ بِنَحْوِهِ، وَعِنْدَهُ: فَخَرَجَتْ تَدْعُو بِالْحَسْرَةِ وَتَقُولُ: يَا حَسْرَتَا أَخَلَقَ هَذَا الْحُسْنَ لِلنَّارِ؟ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَطَلَّبَهَا فِي جَمِيعِ دُورِ الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ جَاءَتْهُ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَّتْ سَاجِدَةً وَقَالَتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِي مَخْرَجًا وَتَوْبَةً مِمَّا عَمِلْتُ، وَأَعْتَقَتْ جَارِيَةً كَانَتْ مَعَهَا وَابْنَتُهَا، وَتَابَتْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عُمُومِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ تَابَ عَلَيْهِ من أي ذنب(6/117)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
كان جليلا أو حقيرا، كبيرا أو صغيرا، فقال تعالى: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النِّسَاءِ: 110] الآية، وقال تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة: 104] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] الآية، أي لمن تاب إليه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 72 الى 74]
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، قِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ الْكَذِبُ والفسق والكفر واللغو والباطل، وقال محمد ابن الحنفية: هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سِيرِينَ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ.. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، هِيَ مَجَالِسُ السُّوءِ وَالْخَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: شُرْبُ الْخَمْرِ لَا يَحْضُرُونَهُ وَلَا يَرْغَبُونَ فِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أَيْ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَهِيَ الكذب متعمدا على غيره، كما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «إلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ فَقَالَ «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ «1» . وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أَيْ لَا يَحْضُرُونَهُ، ولهذا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أَيْ لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، وَإِذَا اتَّفَقَ مُرُورُهُمْ بِهِ مَرُّوا وَلَمْ يَتَدَنَّسُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا قَالَ مَرُّوا كِراماً.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو الحسن الْعِجْلِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّ بِلَهْوٍ معروضا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَمْسَى كَرِيمًا» وَحَدَّثَنَا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي، ثنا حبان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن مسلم، أخبرني مَيْسَرَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّ بِلَهْوٍ مُعْرِضًا فَلَمْ يَقِفْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَمْسَى كَرِيمًا» . ثُمَّ تَلَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ ميسرة وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً.
__________
(1) تقدم الحديث مع تخريجه في تفسير الآية 31 من سورة النساء.(6/118)
وقوله تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً وهذه أيضا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الْأَنْفَالِ: 2] بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُؤَثِّرُ فيه ولا يتغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ بَلْ يَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ وَجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 124- 125] .
فَقَوْلُهُ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أَيْ بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه، فيستمر عَلَى حَالِهِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا أَصَمَّ أَعْمَى.
قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قال: لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُبْصِرُوا وَلَمْ يَفْقَهُوا شَيْئًا. وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كَمْ مِنْ رَجُلٍ يَقْرَؤُهَا وَيَخِرُّ عَلَيْهَا أَصَمَّ أَعْمَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً يَقُولُ: لَمْ يَصِمُّوا عَنِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْمَوا فِيهِ، فَهُمْ وَاللَّهِ قَوْمٌ عَقَلُوا عَنِ الحق وَانْتَفَعُوا بِمَا سَمِعُوا مِنْ كِتَابِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أُسَيْدُ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ قُلْتُ: الرَّجُلُ يَرَى الْقَوْمَ سُجُودًا وَلَمْ يَسْمَعْ مَا سَجَدُوا، أَيَسْجُدُ مَعَهُمْ؟ قال:
فتلا هذه الآية: يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يتدبر أمر السجود، ولا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ إِمَّعَةً بَلْ يَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَيَقِينٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ.
وقوله تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يَعْنِي الَّذِينَ يَسْأَلُونَ الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. قال عِكْرِمَةُ: لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ صَبَاحَةً وَلَا جَمَالًا، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَنْ يُرِيَ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ زَوجَتِهِ وَمِنْ أَخِيهِ وَمِنْ حميمه طاعة الله، لا والله لا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى ولدا أو ولد ولدا أَوْ أَخَا أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ عَزَّ وجل. قال ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ قال: يعبدونك فيحسنون عِبَادَتَكَ وَلَا يَجُرُّونَ عَلَيْنَا الْجَرَائِرَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي يَسْأَلُونَ الله تعالى لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَعْمُرُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَوْمًا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: طُوبَى لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رأيت
__________
(1) المسند 6/ 2، 3.(6/119)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
وشهدنا ما شهدت، فاستغضب المقداد، فجعلت أعجب لأنه مَا قَالَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يَتَمَنَّى مَحْضَرًا غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَدْرِي لَوْ شهده كيف يَكُونُ فِيهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامٌ أَكَبَّهُمُ اللَّهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، أَوَ لَا تَحْمَدُونَ اللَّهَ إِذْ أَخْرَجَكُمْ من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلَاءَ بِغَيْرِكُمْ؟ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بَعَثَ عَلَيْهَا نَبِيًّا من الأنبياء في فترة جَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ قُفْلَ قَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ، وَإِنَّهَا الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يخرجوه.
وقوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ والسدي وقتادة وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الخير. وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إِلَى الْخَيْرِ، فَأَحَبُّوا أَنْ تَكُونَ عِبَادَتَهُمْ مُتَّصِلَةً بِعِبَادَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ هُدَاهُمْ مُتَعَدِّيًا إِلَى غَيْرِهِمْ بِالنَّفْعِ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ ثَوَابًا، وَأَحْسَنُ مآبا، ولهذا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عَلَمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ بعده، أو صدقة جارية» «1» .
[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 77]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ أَوْصَافِ عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة، والأقوال والأفعال الْجَلِيلَةِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أُوْلئِكَ أَيْ المتصفون بهذه يُجْزَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْغُرْفَةَ وَهِيَ الْجَنَّةُ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ والسُّدِّيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهَا بِما صَبَرُوا أَيْ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ وَيُلَقَّوْنَ فِيها أَيْ فِي الْجَنَّةِ تَحِيَّةً وَسَلاماً أَيْ يُبْتَدَرُونَ فِيهَا بِالتَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ، ويلقون التَّوْقِيرَ وَالِاحْتِرَامَ، فَلَهُمُ السَّلَامُ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنَعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. وَقَوْلُهُ تعالى:
خالِدِينَ فِيها أَيْ مُقِيمِينَ لَا يَظْعَنُونَ وَلَا يَحُولُونَ وَلَا يَمُوتُونَ وَلَا يَزُولُونَ عَنْهَا وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: 108] الآية.
__________
(1) أخرجه مسلم في الوصية حديث 14.(6/120)
وقوله تعالى: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أَيْ حَسُنَتْ مَنْظَرًا وَطَابَتْ مَقِيلًا وَمَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أَيْ لَا يُبَالِي وَلَا يَكْتَرِثُ بِكُمْ إِذَا لَمْ تَعْبُدُوهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا. قال مجاهد وعمرو بن شعيب قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي يَقُولُ: مَا يَفْعَلُ بِكُمْ رَبِّي «1» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في قوله قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي الآية، يقول: لولا إيمانكم. وأخبر تعالى الْكَفَّارَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِمْ إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِهِمْ حَاجَةٌ لَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ كَمَا حَبَّبَهُ إِلَى المؤمنين.
وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أَيْ فَسَوْفَ يكون تكذيبكم لزاما لكم، يعني مقتضيا لعذابكم وهلاككم وَدَمَارِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. وقال الحسن البصري فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي يوم القيامة، ولا منافاة بينهما.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 427. [.....](6/121)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ (وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ في أول تفسير سورة البقرة. وقوله تعالى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أَيْ هَذِهِ آيَاتُ القرآن المبين، أي البين الواضح الجلي الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ. وقوله تعالى: لَعَلَّكَ باخِعٌ أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ أَيْ مِمَّا تحرص وَتَحْزَنُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] كقوله فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 6] الآية. قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ قَاتِلٌ نَفْسَكَ. قَالَ الشاعر [الطويل] :
أَلَّا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْحُزْنُ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عن يديه المقادر «1»
ثم قَالَ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أَيْ لَوْ نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكن لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] . وقال تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 1037، وشرح المفصل 2/ 7، ولسان العرب (بخع) ، والمقاصد النحوية 4/ 217، وتفسير الطبري 9/ 430، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 474، وشرح الأشموني 2/ 453، ولسان العرب (نحا) ، والمقتضب 4/ 259.(6/122)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
[هود: 118- 119] الآية، فَنَفَذَ قَدَرُهُ، وَمَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَقَامَتْ حُجَّتُهُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عليهم.
ثم قال تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أَيْ كُلَّمَا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ أَعْرَضَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] وقال تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: 30] وقال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ [المؤمنون: 44] الآية، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، فَسَيَعْلَمُونَ نَبَأَ هَذَا التَّكْذِيبِ بَعْدَ حِينٍ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره وشأنه، الذين اجترءوا عَلَى مُخَالَفَةِ رَسُولِهِ وَتَكْذِيبِ كِتَابِهِ، وَهُوَ الْقَاهِرُ الْعَظِيمُ الْقَادِرُ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَأَنْبَتَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَحَيَوَانٍ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أَيْ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ لِلْأَشْيَاءِ الَّذِي بَسَطَ الْأَرْضَ وَرَفَعَ بِنَاءَ السَّمَاءِ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنَ أَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ كَذَّبُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وخالفوا أمره، وارتكبوا نهيه. وَقَوْلُهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ الَّذِي عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ الرَّحِيمُ أَيْ بِخَلْقِهِ فَلَا يُعَجِّلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ بَلْ يؤجله وينظره، ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وابن إِسْحَاقَ: الْعَزِيزُ فِي نِقْمَتِهِ وَانْتِصَارِهِ مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَعَبَدَ غَيْرَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرحيم بمن تاب إليه وأناب.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
يخبر تعالى عَمَّا أَمَرَ بِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السلام حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَكَلَّمَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَرْسَلَهُ وَاصْطَفَاهُ، وَأَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وملئه، ولهذا قال تعالى: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ هَذِهِ أَعْذَارٌ سَأَلَ مِنَ اللَّهِ إِزَاحَتَهَا عَنْهُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي(6/123)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
أَمْرِي
- إلى قوله- قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 25- 26] .
وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أَيْ بسبب قَتْلِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ قالَ كَلَّا أَيْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: لَا تَخَفْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذلك كقوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً- أَيْ بُرْهَانًا- فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَصِ: 35] فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ كقوله إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] أَيْ إِنَّنِي معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي.
الى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أَيْ بسبب قَتْلِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ قالَ كَلَّا أَيْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: لَا تَخَفْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذلك كقوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً- أَيْ بُرْهَانًا- فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَصِ: 35] فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ كقوله إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] أَيْ إِنَّنِي مَعَكُمَا بِحِفْظِي وَكِلَاءَتِي وَنَصْرِي وَتَأْيِيدِي. فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ كقوله في الآية الأخرى إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أي كل منا أرسل إِلَيْكَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ أَطْلِقْهُمْ مِنْ إِسَارِكَ وَقَبْضَتِكَ وَقَهْرِكَ وَتَعْذِيبِكَ، فَإِنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ وَحِزْبُهُ الْمُخْلَصُونَ، وَهُمْ مَعَكَ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى ذلك أعرض فرعون هنا لك بالكلية، ونظر إليه بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالْغَمْصِ، فَقَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً الآية، أَيْ أَمَا أَنْتَ الَّذِي رَبَّيْنَاهُ فِينَا وَفِي بيتنا وعلى فراشنا، وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ السِّنِينِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَابَلْتَ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ بِتِلْكَ الْفَعْلَةِ أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا رَجُلًا، وَجَحَدْتَ نِعْمَتَنَا عَلَيْكَ، وَلِهَذَا قَالَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أَيِ الْجَاحِدِينَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أَيْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ وَيُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أَيِ الْجَاهِلِينَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وهو كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ الآية، أي انفصل الحال الأول وَجَاءَ أَمْرٌ آخَرُ، فَقَدْ أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ أَطَعْتَهُ سَلِمْتَ، وَإِنْ خَالَفْتَهُ عَطِبْتَ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ وَمَا أَحْسَنْتَ إِلَيَّ وَرَبَّيْتَنِي مُقَابِلَ مَا أَسَأْتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلْتَهُمْ عَبِيدًا وَخَدَمًا تُصَرِّفُهُمْ فِي أَعْمَالِكَ وَمَشَاقِّ رَعِيَّتِكَ، أَفَيَفِي إِحْسَانُكَ إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أَسَأْتَ إِلَى مَجْمُوعِهِمْ، أَيْ لَيْسَ مَا ذَكَرْتَهُ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَعَلْتَ بِهِمْ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 28]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ وَجُحُودِهِ في قوله وَما رَبُّ الْعالَمِينَ
__________
(1) تفسير الطبري 9/ 437.(6/124)
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ [الزخرف: 54] وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَهُمْ سِوَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين. قال له فرعون: وَمَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرِي؟ هَكَذَا فَسَّرَهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْخَلَفِ، حَتَّى قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه:
49] .
وَمَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ فَقَدْ غَلِطَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالصَّانِعِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ كَانَ جَاحِدًا لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَتِ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أَيْ خَالِقُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، وَإِلَهُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هو الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا، الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ النَّيِّرَاتِ، وَالْعَالَمَ السُّفْلِيَّ وَمَا فِيهِ مِنْ بِحَارٍ وَقِفَارٍ وَجِبَالٍ وأشجار وحيوانات وَنَبَاتٍ وَثِمَارٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَاءِ والطير، وَمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْجَوُّ، الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أَيْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ قُلُوبٌ مُوقِنَةٌ وَأَبْصَارٌ نَافِذَةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَفَتَ فِرْعَوْنُ إِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ مَلَئِهِ وَرُؤَسَاءِ دَوْلَتِهِ قَائِلًا لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ لِمُوسَى فِيمَا قَالَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ أَيْ أَلَا تَعْجَبُونَ مِمَّا يَقُولُ هَذَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا غَيْرِي؟ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أَيْ خالقكم وخالق آبائكم الأولين، الذين كَانُوا قَبْلَ فِرْعَوْنَ وَزَمَانِهِ.
قالَ أَيْ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أَيْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ ثَمَّ رِبًّا غَيْرِي. قالَ أَيْ مُوسَى لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَزَ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَأَجَابَ مُوسَى بِقَوْلِهِ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَشْرِقَ مَشْرِقًا تَطَلُعُ مِنْهُ الْكَوَاكِبُ، وَالْمَغْرِبَ مَغْرِبًا تَغْرُبُ فِيهِ الْكَوَاكِبُ: ثَوَابِتُهَا وَسَيَّارَاتُهَا، مَعَ هَذَا النِّظَامِ الَّذِي سَخَّرَهَا فِيهِ وَقَدَّرَهَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ صَادِقًا، فَلْيَعْكِسِ الْأَمْرَ وَلِيَجْعَلِ الْمَشْرِقَ مَغْرِبًا والمغرب مشرقا، كما قال تَعَالَى عَنِ الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] الآية. وَلِهَذَا لَمَّا غُلِبَ فِرْعَوْنُ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ، عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُ وَنَافِذٌ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:(6/125)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 29 الى 37]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
لما قامت الحجة على فرعون بِالْبَيَانِ وَالْعَقْلِ، عَدَلَ إِلَى أَنْ يَقْهَرَ مُوسَى بِيَدِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْمَقَامِ مَقَالٌ، فَقَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أَيْ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ واضح الَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
أَيْ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ وَالْعَظَمَةِ، ذَاتُ قَوَائِمَ، وَفَمٍ كَبِيرٍ، وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ وَنَزَعَ يَدَهُ أَيْ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ تَتَلَأْلَأُ كَقِطْعَةٍ مِنَ الْقَمَرِ، فَبَادَرَ فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد، ف قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أَيْ فَاضِلٌ بَارِعٌ فِي السِّحْرِ، فَرَوَّجَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ، ثُمَّ هَيَّجَهُمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ.
فَقَالَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ الآية، أَيْ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ بِقُلُوبِ النَّاسِ مَعَهُ بِسَبَبِ هَذَا، فَيُكْثِرَ أَعْوَانَهُ وَأَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ، وَيَغْلِبَكُمْ عَلَى دَوْلَتِكُمْ، فَيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْكُمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ فِيهِ مَاذَا أَصْنَعُ بِهِ؟ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ أَيْ أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ حَتَّى تَجَمَعَ لَهُ مِنْ مَدَائِنِ مَمْلَكَتِكَ وَأَقَالِيمِ دَوْلَتِكَ كُلَّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يُقَابِلُونَهُ، وَيَأْتُونَ بِنَظِيرِ مَا جَاءَ بِهِ، فَتَغْلِبُهُ أَنْتَ، وَتَكُونُ لَكَ النُّصْرَةُ وَالتَّأْيِيدُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ هَذَا مِنْ تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ فِي صعيد واحد، وتظهر آيَاتُ اللَّهِ وَحُجَجُهُ وَبَرَاهِينُهُ عَلَى النَّاسِ فِي النهار جهرة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 48]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48)
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هذه المناظرة الفعلية بين موسى عليه السلام وَالْقِبْطِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ طه، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِبْطَ أَرَادُوا أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَهَذَا شَأْنُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ مَا تَوَاجَهَا وَتَقَابَلَا إِلَّا غَلَبَهُ الْإِيمَانُ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 18] وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الإسراء: 81] الآية، وَلِهَذَا لَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ وَقَدْ جَمَعُوهُمْ مِنْ أقاليم بلاد مصر، وكانوا إذ ذاك من أَسْحَرَ النَّاسِ وَأَصْنَعَهُمْ وَأَشَدَّهُمْ تَخْيِيلًا فِي ذَلِكَ، وكان(6/126)
السَّحَرَةُ جَمْعًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَمْرُهُمْ رَاجِعًا إِلَى أربعة منهم وهم رؤساؤهم، وهم: سابور، وعاذور، وحطحط، ويصفى، وَاجْتَهَدَ النَّاسُ فِي الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ وَلَمْ يَقُولُوا نَتَّبِعُ الْحَقَّ سَوَاءً كَانَ مِنَ السَّحَرَةِ أَوْ مِنْ مُوسَى، بَلِ الرَّعِيَّةُ عَلَى دِينِ مَلِكِهِمْ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ أَيْ إِلَى مجلس فرعون، وقد ضربوا له وطاقا «1» ، وجمع خدمه وحشمه وَوُزَرَاءَهُ وَرُؤَسَاءَ دَوْلَتِهِ وَجُنُودَ مَمْلَكَتِهِ، فَقَامَ السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدِي فِرْعَوْنَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ إِنْ غَلَبُوا، أَيْ هَذَا الَّذِي جمعتنا من أجله، فقالوا أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ وَأَخَصُّ مِمَّا تَطْلُبُونَ أَجْعَلُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدِي وَجُلَسَائِي، فعادوا إلى مقام المناظرة قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا [طه: 65- 66] وَقَدِ اخْتُصِرَ هَذَا هَاهُنَا، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا هذ بثواب فلان، وقد ذكر الله تعالى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَافِ: 116] .
وَقَالَ فِي سُورَةِ طه فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى - إلى قوله- وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 66- 69] وَقَالَ هَاهُنَا فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي تخطفه وَتَجْمَعُهُ مِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ وَتَبْتَلِعُهُ فَلَمْ تَدَعْ منه شيئا. قال الله تَعَالَى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ- إلى قوله- رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف: 118- 122] فكان هَذَا أَمْرًا عَظِيمًا جَدًا، وَبُرْهَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، وحجة دامغة، وذلك أن الذي استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا، غُلِبُوا وَخَضَعُوا، وَآمَنُوا بِمُوسَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَسَجَدُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى وَهَارُونَ بِالْحَقِّ وَبِالْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، فَغُلِبَ فِرْعَوْنُ غَلَبًا لَمْ يُشَاهِدِ الْعَالَمُ مِثْلَهُ، وَكَانَ وَقِحًا جَرِيئًا، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فَعَدَلَ إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَدَعْوَى الْبَاطِلِ، فَشَرَعَ يَتَهَدَّدُهُمْ وَيَتَوَعَّدُهُمْ وَيَقُولُ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه: 71] وَقَالَ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ [الأعراف: 123] الآية.
__________
(1) الوطاق: في التركية أوتاق وأوتاغ، والأطاق في التركية اسم للخيمة الكبيرة المزخرفة تعد للعظماء، والوطاق في العربية: الخيمة والمعسكر المكون من خيام. (انظر تأصيل الدخيل لما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل ص 198) .(6/127)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 49 الى 51]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
تَهَدَّدَهُمْ فَلَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَتَوَعَّدَهُمْ فَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حِجَابُ الْكُفْرِ، وَظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ بِعِلْمِهِمْ مَا جَهِلَ قَوْمُهُمْ مِنْ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَا يَصْدُرُ عَنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَيَّدَهُ بِهِ، وَجَعَلَهُ لَهُ حُجَّةً وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أَيْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَأْذِنُونِي فِيمَا فَعَلْتُمْ، وَلَا تُفْتَاتُوا عَلَيَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَذِنْتُ لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم فإذني أَنَا الْحَاكِمُ الْمُطَاعُ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بُطْلَانَهَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بِمُوسَى قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي أَفَادَهُمْ صِنَاعَةَ السِّحْرِ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالصَّلْبِ فَقَالُوا لَا ضَيْرَ أَيْ لَا حَرَجَ، وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ، وَلَا نُبَالِي بِهِ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أَيِ المرجع إلى الله عز وجل، وَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فَعَلْتَ بِنَا، وَسَيَجْزِينَا عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ، وَلِهَذَا قَالُوا إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَيْ مَا قَارَفْنَاهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ بِسَبَبِ أَنَّا بَادَرْنَا قَوْمَنَا مِنَ الْقِبْطِ إِلَى الإيمان. فقتلهم كلهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 59]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
لَمَّا طَالَ مُقَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا حُجَجَ اللَّهِ وَبَرَاهِينَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُكَابِرُونَ وَيُعَانِدُونَ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْعَذَابُ وَالنَّكَالُ، فَأَمَرَ اللَّهُ تعالى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ، وَأَنْ يَمْضِيَ بِهِمْ حَيْثُ يؤُمَر، فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَهُ به ربه عز وجل، خرج بهم بعد ما اسْتَعَارُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ حُلِيًّا كَثِيرًا، وَكَانَ خروجه بهم فيما ذكره غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقْتَ طُلُوعِ الْقَمَرِ، وَذَكَرَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كُسِفَ الْقَمَرُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَنْ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَلَّتْهُ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ، فَاحْتَمَلَ تَابُوتَهُ مَعَهُمْ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي حمله بنفسه عليهما السلام، وكان يوسف عليه السلام قَدْ أَوْصَى بِذَلِكَ، إِذَا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَحْمِلُوهُ مَعَهُمْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ(6/128)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْرَابِيٍّ فَأَكْرَمَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَعَاهَدْنَا؟» فَأَتَاهُ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا حَاجَتُكَ؟» قَالَ: نَاقَةٌ بِرَحْلِهَا وَأَعْنُزٌ يَحْتَلِبُهَا أَهْلِي، فَقَالَ «أَعْجَزْتَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟» فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: وَمَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «إن موسى عليه السلام لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: نَحْنُ نُحَدِّثُكَ أَنَّ يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقا من الله أن لا نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ تَابُوتَهُ مَعَنَا، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: فَأَيُّكُمْ يَدْرِي أَيْنَ قَبْرُ يُوسُفَ؟ قَالُوا: مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَجُوزٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ حَتَّى تعطيني حكمي، فقال لَهَا: وَمَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: حُكْمِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ ثَقُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: أَعْطِهَا حُكْمَهَا- قَالَ- فَانْطَلَقَتْ مَعَهُمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ- مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ- فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنْضِبُوا هذا الماء، فلما أنضبوه قالت: احفروا، فلما حفروا اسْتَخْرَجُوا قَبْرَ يُوسُفَ، فَلَمَّا احْتَمَلُوهُ إِذَا الطَّرِيقُ مثل ضوء النهار» وهذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جَدًّا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَلَيْسَ فِي نَادِيهِمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، غَاظَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدَّمَارِ، فَأَرْسَلَ سَرِيعًا فِي بِلَادِهِ حَاشِرِينَ، أَيْ مَنْ يَحْشُرُ الْجُنْدَ وَيَجْمَعُهُ كَالنُّقَبَاءِ وَالْحُجَّابِ، وَنَادَى فِيهِمْ إِنَّ هؤُلاءِ يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ أَيْ لِطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي كل وقت يصل منهم إلينا مَا يَغِيظُنَا وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أَيْ نَحْنُ كُلَّ وَقْتٍ نَحْذَرُ مِنْ غَائِلَتِهِمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ، وَأُبِيدَ خَضْرَاءَهُمْ، فَجُوزِيَ فِي نَفْسِهِ وَجُنْدِهِ بِمَا أَرَادَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ أَيْ فَخَرَجُوا مِنْ هَذَا النَّعِيمِ إِلَى الْجَحِيمِ، وَتَرَكُوا تِلْكَ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ وَالْبَسَاتِينَ وَالْأَنْهَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَرْزَاقَ، وَالْمُلْكَ وَالْجَاهَ الْوَافِرَ فِي الدُّنْيَا كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف: 137] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5- 6] الآيتين.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 60 الى 68]
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ فِرْعَوْنَ خرج في جحفل عظيم وجمع كبير، هو عبارة عن(6/129)
مَمْلَكَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، أُولِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالدُّوَلِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالْجُنُودِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ فِي أَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، مِنْهَا مِائَةُ أَلْفٍ عَلَى خير دُهْمٍ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: فِيهِمْ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ حصان أدهم، وفي ذلك نظر، والظاهر أن ذلك مِنْ مُجَازَفَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم، والذي أخبر به القرآن هُوَ النَّافِعُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ عِدَّتَهُمْ إِذْ لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ.
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أَيْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وهو طلوعها، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أَيْ رَأَى كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ وذلك أنهم انْتَهَى بِهِمُ السَّيْرُ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، وَهُوَ بحر القلزم، فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بِجُنُودِهِ، فَلِهَذَا قَالُوا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أَيْ لَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ شَيْءٌ مِمَّا تَحْذَرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَنِي أَنْ أَسِيرَ هَاهُنَا بِكُمْ، وهو سبحانه وتعالى لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَكَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّاقَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ، وَجَعَلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ أَوْ مُؤْمِنُ آلَ فِرْعَوْنَ، يَقُولُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَاهُنَا أمرك ربك أن تسير؟ فيقول، نعم، فاقترب فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَعِنْدَ ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ وَقَالَ: انْفَلِقْ بإذن الله.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن حمزة بن محمد بن يوسف عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ قَالَ: يَا مَنْ كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شيء، والكائن بعد كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْ لَنَا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَوْحَى اللَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إِلَى الْبَحْرِ أَنْ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ، فَبَاتَ الْبَحْرُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَلَهُ اضْطِرَابٌ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ جَانِبٍ يَضْرِبُهُ مُوسَى، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مُوسَى، قَالَ لَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيْنَ أَمَرَكَ ربك عز وجل؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ، قَالَ: فَاضْرِبْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَوْحَى اللَّهُ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- إِلَى الْبَحْرِ أَنْ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ، قَالَ: فَبَاتَ الْبَحْرُ يضطرب ويضرب بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْتِظَارًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق، ذكر غير واحد أنه جاء فكناه، فَقَالَ: انْفَلِقْ عَلَيَّ أَبَا خَالِدٍ بِحَوْلِ اللَّهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أَيْ كَالْجَبَلِ الْكَبِيرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُوَ(6/130)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَارَ الْبَحْرُ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ، وَزَادَ السُّدِّيُّ:
وَصَارَ فِيهِ طَاقَاتٌ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ الْمَاءُ عَلَى حَيْلِهِ كَالْحِيطَانِ. وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ إِلَى قَعْرِ الْبَحْرِ فَلَفْحَتْهُ، فَصَارَ يَبَسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه: 77] . وَقَالَ فِي هذه القصة وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي هنا لك. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَزْلَفْنا أي قربنا من البحر فرعون وجنوده، وَأَدْنَيْنَاهُمْ إِلَيْهِ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أَيْ أَنْجَيْنَا مُوسَى وَبَنِي إسرائيل ومن اتبعهم عَلَى دِينِهِمْ، فَلَمْ يَهْلَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا هلك.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَسْرَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَغَ فرعون ذلك، فأمر بشاة فذبحت، وقال: لَا وَاللَّهِ لَا يُفْرَغُ مِنْ سَلْخِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ، فَانْطَلَقَ مُوسَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ: انفرق، فقال له البحر: قد اسْتَكْبَرْتَ يَا مُوسَى، وَهَلِ انْفَرَقْتُ لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، فَأَنْفَرِقُ لَكَ؟ قَالَ، وَمَعَ مُوسَى رَجُلٌ عَلَى حِصَانٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ، قَالَ: وَاللَّهِ ما كذب وَلَا كُذِّبْتَ، ثُمَّ اقْتَحَمَ الثَّانِيَةَ فَسَبَحَ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: والله ما كذب وَلَا كُذِّبْتَ، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ، فانفلق، فكان فيه اثنا عشر سبطا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ يَتَرَاءَوْنَ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى، وَتَتَامَّ أَصْحَابُ فِرْعَوْنَ، الْتَقَى الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمْ.
وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ آخِرُ أَصْحَابِ مُوسَى، وَتَكَامَلَ أصحاب فرعون، انطم عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ، فَمَا رُئِيَ سَوَادٌ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَغَرَقَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أَيْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، لَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تقدم تفسيره.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 77]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77)
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، أمر الله تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَى أُمَّتِهِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ(6/131)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
لا شريك له، والتبري مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ وَقْتِ نَشَأَ وَشَبَّ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ اللَّهِ عز وجل إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ أَيْ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أَيْ مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَدُعَائِهَا قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ يَعْنِي اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَوْا آبَاءَهُمْ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهرَعُونَ، فعند ذلك قال لهم إبراهيم أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أَيْ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ شَيْئًا وَلَهَا تَأْثِيرٌ، فَلْتَخْلُصْ إِلَيَّ بِالْمَسَاءَةِ، فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهَا لَا أبالي بها وَلَا أُفَكِّرُ فِيهَا.
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس:
71] الآية، وَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هُودٍ: 54- 56] وَهَكَذَا تَبْرَّأَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ آلهتهم فقال وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ [الأنعام: 81] الآية. وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إلى قوله- حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الْمُمْتَحِنَةِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني لا إله إلا الله.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 78 الى 82]
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
يَعْنِي لَا. أَعْبُدُ إِلَّا الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أَيْ هُوَ الْخَالِقُ الَّذِي قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، فَكُلٌّ يَجْرِي عَلَى مَا قدر له، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أَيْ هُوَ خَالِقِي وَرَازِقِي بِمَا سَخَّرَ وَيَسَّرَ مِنَ الْأَسْبَابِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، فَسَاقَ الْمُزْنَ، وَأَنْزَلَ الْمَاءَ وَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ، وَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً.
وَقَوْلُهُ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَخَلْقِهِ، وَلَكِنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ أَدَبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة، فأسند الأنعام والهداية إلى الله تعالى، وَالْغَضَبَ حُذِفَ فَاعِلُهُ أَدَبًا، وَأَسْنِدَ الضَّلَالَ إِلَى الْعَبِيدِ، كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 10] وكذا قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أَيْ إِذَا وَقَعْتُ فِي(6/132)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
مَرَضٍ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شِفَائِي أَحَدٌ غَيْرُهُ بِمَا يُقَدِّرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أَيْ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي لا يقدر على غفران الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا هُوَ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يشاء.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُؤْتِيَهُ رَبُّهُ حُكْمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعِلْمُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ اللُّبُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النُّبُوَّةُ. وَقَوْلُهُ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أَيْ اجْعَلْنِي مَعَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الاحتضار «اللهم في الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» «1» قَالَهَا ثَلَاثًا. وَفِي الْحَدِيثِ فِي الدُّعَاءِ «اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَمِتْنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحَقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مُبْدِّلَيْنِ» «2» وَقَوْلُهُ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أَيْ وَاجْعَلْ لِي ذِكْرًا جَمِيلًا بَعْدِي أُذْكَرُ بِهِ وَيُقْتَدَى بِي فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصَّافَّاتِ: 108- 110] .
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ يَعْنِي الثَّنَاءَ الحسن. قال مجاهد: كقوله تعالى وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [النحل: 122] الآية، وكقوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا [العنكبوت: 27] الآية، قَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: كُلُّ مِلَّةٍ تحبه وتتولاه، وكذا قال عكرمة. وقوله تعالى: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي نعم عَلَيَّ فِي الدُّنْيَا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدِي، وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم. وقوله وَاغْفِرْ لِأَبِي الآية، كَقَوْلِهِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إِبْرَاهِيمَ: 41] وَهَذَا مِمَّا رَجَعَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ- إلى قوله- إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَةِ: 114] وَقَدْ قَطَعَ تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تَعَالَى:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ- إلى قوله- وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الْمُمْتَحِنَةِ: 4] .
وَقَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أَيْ أجرني من الخزي يوم القيامة يوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وقال البخاري عند هذه الآية: قال إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عن
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب 42، ومسلم في السلام حديث 46.
(2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 423.(6/133)
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال «إن إِبْرَاهِيمَ رَأَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ والقترة» «1» . وفي رواية أخرى: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَخِي عَنِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنَّكَ لَا تُخْزِينِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ» «2» هَكَذَا رَوَاهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ، وَلَفْظُهُ «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ألم أقل لك لا تعصيني، فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يا رب إنك وعدتني أن لا تُخْزِينِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ انظر تحت رجلك، فينظر، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» وَقَالَ عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير.
وقوله وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «إن إِبْرَاهِيمَ رَأَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ هَذَا فَعَصَيْتَنِي، قَالَ: لَكِنِّي الْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ وَاحِدَةً، قَالَ: يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِينِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَإِنْ أَخْزَيْتَ أَبَاهُ فَقَدْ أَخْزَيْتَ الْأَبْعَدَ. قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنِّي حَرَّمْتُهَا عَلَى الْكَافِرِينَ فَأُخِذَ مِنْهُ. قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَخَذْتَهُ مِنِّي، قَالَ: انْظُرْ أَسْفَلَ مِنْكَ، فَنَظَرَ، فَإِذَا ذِيخٌ يَتَمَرَّغُ فِي نتنه، فأخذ بقوائمه فألقي في النار» وهذا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ، وَالذِّيخُ هُوَ الذَّكَرُ مِنَ الضِّبَاعِ، كَأَنَّهُ حَوَّلَ آزَرَ إِلَى صُورَةِ ذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ بِعُذْرَتِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ كَذَلِكَ، وقد رواه البزار بإسناده مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَوْلُهُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ أَيْ لَا يَقِي الْمَرْءَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَالُهُ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلا بَنُونَ أي ولو افتدى بمن على الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَلَا يَنْفَعُ يَوْمئِذٍ إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّبَرِّي مِنَ الشِّرْكِ وأهله، وَلِهَذَا قَالَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أَيْ سَالِمٍ مِنَ الدَّنَسِ وَالشَّرْكِ. قَالَ ابن سِيرِينَ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ حيي أن يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَعْنِي مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الْقَلْبُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 26، في الترجمة.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 8.(6/134)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
قلب المنافق مريض، قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة، المطمئن إلى السنة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت وأدنيت من أهلها مُزَخْرَفَةً مُزَيَّنَةً لِنَاظِرِيهَا، وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ رَغِبُوا فيها على ما في الدنيا، وعملوا لها فِي الدُّنْيَا وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أَيْ أُظْهِرَتْ وَكُشِفَ عَنْهَا، وَبَدَتْ مِنْهَا عُنُقٌ فَزَفَرَتْ زَفْرَةً بلغت منها القلوب الْحَنَاجِرِ، وَقِيلَ لِأَهْلِهَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ أَيْ لَيْسَتِ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ تُغْنِي عَنْكُمُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا، فَإِنَّكَمْ وَإِيَّاهَا الْيَوْمَ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ.
وَقَوْلُهُ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي فَدُهْوِرُوا فِيهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُبِّبُوا فِيهَا، وَالْكَافُ مُكَرَّرَةٌ، كَمَا يُقَالُ صَرْصَرَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَادَتِهِمُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الشِّرْكِ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أَيْ أُلْقُوا فِيهَا عَنْ آخِرِهِمْ قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ يَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ [غَافِرٍ: 47] وَيَقُولُونَ وَقَدْ عَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ نَجْعَلُ أَمْرَكُمْ مُطَاعًا كَمَا يُطَاعُ أَمْرُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَبَدْنَاكُمْ مَعَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أَيْ مَا دَعَانَا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا يَقُولُونَ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الْأَعْرَافِ: 53] وَكَذَا قَالُوا فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أَيْ قَرِيبٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحًا نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحًا شَفَعَ «1» فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله تعالى يعلم أنهم لو ردّهم إلى دار الدُّنْيَا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وقد أخبر الله تَعَالَى عَنْ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ فِي سُورَةِ (ص) ثم قال تعالى:
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 456.(6/135)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد لآية، أي لدلالة واضحة جلية على أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 110]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نوح عليه السلام، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد ما عبدت الأصنام والأنداد، فبعثه اللَّهُ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ وَمُحَذِّرًا مِنْ وَبِيلِ عقابه، فكذبه قومه، فاستمروا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعَالِ الْخَبِيثَةِ في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى:
ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل، فلهذا قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ أَيْ أَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أَيْ إِنِّي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي ولا أَزِيدُ فِيهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ الآية، أَيْ لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ جَزَاءً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ، بَلْ أَدَّخِرُ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ وَبَانَ صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 111 الى 115]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
يَقُولُونَ: لا نؤمن لك، ولا نتبعك وَنَتَسَاوَى فِي ذَلِكَ بِهَؤُلَاءِ الْأَرَاذِلِ، الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوكَ وَهُمْ أَرَاذِلُنَا، وَلِهَذَا قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ يَلْزَمُنِي مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ لِي؟ وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كانوا عليه، لا يلزمني التنقيب عنهم وَالْبَحْثُ وَالْفَحْصُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ تَصْدِيقَهُمْ إِيَّايَ، وَأَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه، فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالَ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ نَذِيرًا، فَمَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي كان مني وأنا مِنْهُ، سَوَاءً كَانَ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا، أَوْ جليلا أو حقيرا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 116 الى 122]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
لَمَّا طَالَ مُقَامُ نَبِيِّ الله بين أظهرهم، يدعوهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا،(6/136)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
وَكُلَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ الْغَلِيظِ وَالِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، وَقَالُوا فِي الْآخِرِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي لئن لم تنته من دعوتك إيانا إلى دينك، لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أَيْ لَنَرْجُمَنَّكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً الآية، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] إلى آخر الآية. وَقَالَ هَاهُنَا فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ وَالْمَشْحُونُ هُوَ المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين، أي أنجينا نوحا ومن اتبعه كلهم، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 135]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ عَادًا، وكان قومه يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ جِبَالُ الرَّمَلِ قَرِيبًا مِنْ حضرموت، من جهة بلاد الْيَمَنِ، وَكَانَ زَمَانُهُمْ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَافِ: 69] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنْ قُوَّةِ التَّرْكِيبِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ الشَّدِيدِ، والطول المديد، والأرزاق الدارة، والأموال والجنات والأنهار، وَالْأَبْنَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ غير الله معه، فبعث الله هودا إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ رَسُولَا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ فِي مخالفته وبطشه.
فَقَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ إِلَى أَنْ قَالَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الرِّيعِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بنيانا محكما هائلا باهرا، وَلِهَذَا قَالَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً أَيْ معلما بناء مشهورا تَعْبَثُونَ أي وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَبَثًا لَا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ، وَلِهَذَا أنكر عليه نبيهم عليهم السَّلَامُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَإِتْعَابٌ لِلْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ:
والمصانع الْبُرُوجُ الْمُشَيَّدَةُ وَالْبُنْيَانُ الْمُخَلَّدُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَأْخَذُ الْمَاءِ.
قال قتادة: وقرأ بعض الكوفيين وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ كَأَنَّكُمْ خَالِدُونَ. وَفِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أَيْ لِكَيْ تُقِيمُوا فِيهَا أَبَدًا وذلك ليس بحاصل(6/137)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
لَكُمْ بَلْ زَائِلٌ عَنْكُمْ، كَمَا زَالَ عَمَّنْ كان قبلكم. وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى مَا أَحْدَثَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغُوطَةِ مِنَ الْبُنْيَانِ وَنَصْبِ الشَّجَرِ، قَامَ فِي مَسْجِدِهِمْ فَنَادَى: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ، تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَأْمُلُونَ مَا لَا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، وَيَبْنُونَ فَيُوثِقُونَ، وَيَأْمُلُونَ فَيُطِيلُونَ، فَأَصْبَحَ أَمَلُهُمْ غُرُورًا، وَأَصْبَحَ جَمْعُهُمْ بُورًا، وَأَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ قُبُورًا، أَلَا إِنَّ عَادًا مَلَكَتْ مَا بَيْنَ عَدَنَ وَعُمَانَ خَيْلًا وَرِكَابًا، فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي مِيرَاثَ عَادٍ بدرهمين؟.
وقوله وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي يصفهم بِالْقُوَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْجَبَرُوتِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أَيِ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَأَطِيعُوا رَسُولَكُمْ، ثُمَّ شَرَعَ يُذَكِّرُهُمْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ إِنْ كَذَّبْتُمْ وَخَالَفْتُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ والترهيب، فما نفع فيهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 140]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن جواب قوم هود له بعد ما حَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، وَرَغَّبَهُمْ وَرَهَّبَهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ وَوَضَّحَهُ قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أَيْ لَا نَرْجِعُ عَمَّا نحن عليه وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هُودٍ: 53] وَهَكَذَا الْأَمْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 96- 97] الآية، وَقَوْلُهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قَرَأَ بعضهم إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَسْكِينِ اللَّامِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْعَوْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَلْقَمَةَ وَمُجَاهِدٍ: يَعْنُونَ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتِنَا بِهِ إِلَّا أَخْلَاقُ الْأَوَّلِينَ، كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ: 5] وَقَالَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْفُرْقَانِ: 4] وَقَالَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّحْلِ: 24] .
وَقَرَأَ آخَرُونَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ، يَعْنُونَ دِينَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ هُوَ دين الأولين مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَنَحْنُ تَابِعُونَ لَهُمْ سَالِكُونَ وَرَاءَهُمْ، نَعِيشُ كَمَا عَاشُوا، وَنَمُوتُ كَمَا مَاتُوا، وَلَا بَعْثَ وَلَا مَعَادَ، وَلِهَذَا قَالُوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ يَقُولُ: دِينُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ(6/138)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
الْخُرَاسَانِيُّ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أي استمروا عَلَى تَكْذِيبِ نَبِيِّ اللَّهِ هُودٍ وَمُخَالَفَتِهِ وَعِنَادِهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا عَاتِيَةً، أَيْ رِيحًا شَدِيدَةَ الهبوب، ذات برد شديد جدا، فكان سبب إِهْلَاكُهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْتَى شَيْءٍ وَأَجْبَرَهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَعْتَى منهم وأشد قوة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الْفَجْرِ: 6- 7] وَهُمْ عاد الأولى، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى [النَّجْمِ: 50] وَهُمْ مِنْ نَسْلِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ ذاتِ الْعِمادِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْعُمَدَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِرَمَ مَدِينَةٌ، فَإِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْ كَلَامِ كَعْبٍ وَوَهْبٍ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَصْلٌ أَصِيلٌ.
وَلِهَذَا قَالَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أَيْ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ فِي قُوَّتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَدِينَةً لَقَالَ: الَّتِي لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا فِي البلاد، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [فُصِّلَتْ: 15] وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلْ عَلَيْهِمْ من الريح إلا مقدار أَنْفِ الثَّوْرِ، عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لها في ذلك، فسلكت فحصبت بِلَادَهُمْ، فَحَصَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف: 25] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ- إلى قوله- حُسُوماً- أَيْ كَامِلَةً- فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 7] أَيْ بَقُوا أَبْدَانًا بِلَا رُؤُوسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَتَقْتَلِعُهُ وَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَتَشْدَخُ دِمَاغَهُ وَتَكْسِرُ رَأْسَهُ وَتُلْقِيهِ، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، وَقَدْ كَانُوا تَحَصَّنُوا فِي الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْصَافِهِمْ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ [نُوحٍ: 71] ولهذا قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ الآية.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 145]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أنه بعثه إلى قومه ثَمُودَ، وَكَانُوا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَةَ الْحِجْرِ الَّتِي بَيْنَ وَادِي الْقُرَى وَبِلَادِ الشَّامِ، وَمَسَاكِنُهُمْ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مُرُورِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ حِينَ أَرَادَ غَزْوَ الشَّامِ، فَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ ليتأهب لذلك، وكانوا بَعْدَ عَادٍ وَقَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ صَالِحٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ(6/139)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
يُطِيعُوهُ فِيمَا بَلَّغَهُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وكذبوه وخالفوه، وأخبرهم أَنَّهُ لَا يَبْتَغِي بِدَعْوَتِهِمْ أَجْرًا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَطْلَبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم، فقال:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 146 الى 152]
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)
يقول لهم واعظا لهم، ومحذرهم نِقَمَ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ، وَمُذَكِّرًا بِأَنْعُمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ الدَّارَّةِ وَجَعَلَهُمْ فِي أَمْنٍ مِنَ الْمَحْذُورَاتِ، وَأَنْبَتَ لَهُمْ من الجنات، وفجر لَهُمْ مِنَ الْعُيُونِ الْجَارِيَاتِ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثَّمَرَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ. قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْنَعَ وَبَلَغَ، فَهُوَ هَضِيمٌ «1» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ يَقُولُ: معشبة. وقال إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو- وَقَدْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ قَالَ: إِذَا رَطُبَ وَاسْتَرْخَى، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ نَحْوُ هَذَا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ قَالَ: هُوَ الْمُذَنَّبُ مِنَ الرُّطَبِ، وقال مجاهد: هو الذي إذا يبس تَهَشَّمَ وَتَفَتَّتَ وَتَنَاثَرَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عبد الكريم، وأبا أُمَيَّةَ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ قَالَ: حِينَ يَطْلُعُ تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتَهْضِمُهُ، فَهُوَ مِنَ الرُّطَبِ الْهَضِيمِ، وَمِنَ الْيَابِسِ الْهَشِيمِ، تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتُهَشِّمُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ:
الْهَضِيمُ الرَّطْبُ اللَّيِّنُ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: إِذَا كَثُرَ حِمْلُ الثَّمَرَةِ وركب بعضها بَعْضًا، فَهُوَ هَضِيمٌ.
وَقَالَ مُرَّةُ: هُوَ الطَّلْعُ حِينَ يَتَفَرَّقُ وَيَخْضَرُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا نَوَى لَهُ، وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: ما رأيت الطلع حين ينشق عَنْهُ الْكُمُّ؟ فَتَرَى الطَّلْعَ قَدْ لَصِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَهُوَ الْهَضِيمُ.
وَقَوْلُهُ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي حَاذِقِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: شَرِهِينَ أَشِرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ تِلْكَ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي الْجِبَالِ أَشَرًا وَبَطَرًا وَعَبَثًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى سُكْنَاهَا، وَكَانُوا حَاذِقِينَ مُتْقِنِينَ لِنَحْتِهَا وَنَقْشِهَا، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنْ حَالِهِمْ لِمَنْ رَأَى مَنَازِلَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أَيْ أقبلوا على مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتعبدوه وتوحدوه وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ يَعْنِي رُؤَسَاءَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ، الدُّعَاةَ لَهُمْ إِلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ومخالقة الحق.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 465.(6/140)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 153 الى 159]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ثَمُودَ فِي جَوَابِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ دَعَاهُمْ إلى عبادة ربهم عز وجل أنهم قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ قَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: يَعْنُونَ مِنَ الْمَسْحُورِينَ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يَعْنِي مِنَ المخلوقين «1» ، واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر [الطويل] :
فَإِنْ تَسْأَلِينَا: فِيمَ نَحْنُ؟ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ «2»
يَعْنِي الَّذِينَ لَهُمْ سَحُورٌ، وَالسَّحْرُ هُوَ الرِّئَةُ. وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّمَا أَنْتَ فِي قَوْلِكَ هَذَا مَسْحُورٌ لَا عَقْلَ لَكَ، ثُمَّ قَالُوا مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يَعْنِي فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكَ دُونَنَا؟ كَمَا قَالُوا فِي الآية الأخرى أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [البقرة: 25- 26] ثُمَّ إِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ آيَةً يَأْتِيهِمْ بِهَا لِيَعْلَمُوا صِدْقَهُ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وقد اجتمع ملؤهم، وطلبوا منه أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْآنَ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ ناقة عشراء إلى صخرة عندهم- مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ لَئِنْ أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَلَّى، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ، فَانْفَطَرَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ الَّتِي أَشَارُوا إِلَيْهَا عَنْ نَاقَةٍ عُشَرَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفُوهَا، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ.
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ يَعْنِي تَرِدُ مَاءَكُمْ يَوْمًا، وَيَوْمًا تَرِدُونَهُ أَنْتُمْ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَحَذَّرَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ إِنْ أَصَابُوهَا بِسُوءٍ، فَمَكَثَتِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ، تَرِدُ الماء وتأكل الورق والمرعى- وينتفعون بلبنها يحلبون مِنْهَا مَا يَكْفِيهِمْ شُرْبًا وَرِيًّا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَحَضَرَ شَقَاؤُهُمْ، تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهَا وَعَقْرِهَا فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُوَ أَنَّ أَرْضَهُمْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عظيمة اقتلعت القلوب من مَحَالِّهَا، وَأَتَاهُمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَكُونُوا يحتسبون، وأصبحوا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 468.
(2) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 56، ولسان العرب (سحر) ، وتهذيب اللغة 4/ 292، وديوان الأدب 2/ 353، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 511، ومقاييس اللغة 3/ 138، ومجمل اللغة 3/ 123، وكتاب العين 3/ 135، والمخصص 1/ 27.(6/141)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 164]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ لُوطُ بْنُ هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَعَثَهُ إِلَى أُمَّةٍ عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ سَدُومَ وَأَعْمَالَهَا الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، وَهِيَ مشهورة ببلاد الغور بناحية مُتَاخِمَةٌ لِجِبَالِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِلَادِ الْكُرْكِ وَالشَّوبَكِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُمُ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَارْتِكَابِ مَا كَانُوا قَدِ ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله، من إتيان الذكور دون الإناث، ولهذا قال تعالى:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 165 الى 175]
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الْفَوَاحِشَ، وَغَشَيَانِهِمُ الذُّكُورَ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِتْيَانِ نِسَائِهِمُ اللاتي خلقهن الله لهم، ما كان جوابهم لَهُ إِلَّا أَنْ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ أي عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أَيْ نَنْفِيكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: 82] فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَرْتَدِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، تبرأ منهم وقال إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أَيِ الْمُبْغِضِينَ، لَا أحبه ولا أرضى به، وإني بريء منكم، ثم دعا الله عليهم فقال رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أَيْ كُلَّهُمْ.
إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَكَانَتْ عَجُوزَ سُوءٍ بَقِيَتْ فَهَلَكَتْ مَعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ قَوْمِهَا، وَذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ في سورة الأعراف وهود، وَكَذَا فِي الْحِجْرِ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يسري بأهله إلا امرأته، وأنهم لا يلتفتوا إِذَا سَمِعُوا الصَّيْحَةَ حِينَ تَنْزِلُ عَلَى قَوْمِهِ، فَصَبَرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَمَرُّوا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْعَذَابَ الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حجارة من سجيل منضود، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً- إلى قوله- وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.(6/142)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 180]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
هؤلاء- يعني أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ- هُمْ أَهْلُ مَدْيَنَ عَلَى الصَّحِيحِ وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا لم يقل هاهنا أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَيْكَةِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ، وَقِيلَ شَجَرٌ مُلْتَفٌّ كَالْغَيْضَةِ كَانُوا يعبدونها، فلهذا لما قال: كذب أصحاب الآية الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَقِلْ:
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ، وَإِنَّمَا قَالَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ فقطع نسب الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ لِلْمَعْنَى الَّذِي نُسِبُوا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُمْ نَسَبًا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يفطن لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، فَظَنَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ، فَزَعَمَ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أُمَّتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَلَاثِ أُمَمٍ.
وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ- وَهُوَ ضَعِيفٌ- حَدَّثَنِي ابْنُ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَزَكَرِيَّا بْنُ عُمَرَ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَا: مَا بَعَثَ اللَّهُ نبيًا مَرَّتَيْنِ إِلَّا شُعَيْبًا، مَرَّةً إِلَى مَدْيَنَ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالصَّيْحَةِ، وَمَرَّةً إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ تعالى بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ هُدْبَةَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: وَأَصْحابَ الرَّسِّ قوم شعيب.
وقوله أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قوم شعيب، وقاله إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ. وَقَالَ غَيْرُ جُوَيْبِرٍ:
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَمَدْيَنُ هُمَا وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ قَوْمَ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّتَانِ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَهَذَا غَرِيبٌ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وُصِفُوا فِي كُلِّ مَقَامٍ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا وَعَظَ هَؤُلَاءِ وَأَمْرَهُمْ بِوَفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، كَمَا فِي قِصَّةِ مَدْيَنَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 181 الى 184]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
يأمرهم الله تَعَالَى بِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ فِيهِمَا، فَقَالَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم، ولا تبخسوا الْكَيْلَ فَتُعْطُوهُ نَاقِصًا، وَتَأْخُذُوهُ إِذَا كَانَ لَكُمْ تَامًّا وَافِيًا، وَلَكِنْ خُذُوا كَمَا تُعْطُونَ، وَأَعْطُوا كَمَا تَأْخُذُونَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْقِسْطَاسُ هُوَ الميزان، وقيل هو الْقَبَّانُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُعَرَّبٌ مِنَ الرُّومِيَّةِ. قال مجاهد: القسطاس المستقيم هو الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ الْقِسْطَاسُ الْعَدْلُ. وَقَوْلُهُ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تُنْقِصُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ(6/143)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
مُفْسِدِينَ
يعني قطع الطريق، كما قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ [الْأَعْرَافِ: 86] .
وَقَوْلُهُ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آبَاءَهُمُ الْأَوَائِلَ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يَقُولُ: خَلَقَ الْأَوَّلِينَ وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً [يس: 62] .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 185 الى 191]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَجَابَتْ بِهِ ثَمُودُ لِرَسُولِهَا، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ حَيْثُ قَالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يَعْنُونَ مِنَ الْمَسْحُورِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أَيْ تَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيمَا تَقُولُهُ لَا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قَالَ الضَّحَّاكُ: جَانِبًا مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى أَنْ قَالُوا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 92] وَقَوْلُهُ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] الآية، وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية، قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ جَازَاكُمْ به، وهو غير ظالم لكم، وهكذا وقع بهم جزاء كَمَا سَأَلُوا جَزَاءً وِفَاقًا.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا سألوه مِنْ إِسْقَاطِ الْكِسَفِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مُدَّةَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، لَا يُكِنُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْطَلِقُونَ إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهَا مِنَ الْحَرِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحْتَهَا، أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَرَرًا مِنْ نَارٍ وَلَهَبًا وَوَهَجًا عَظِيمًا، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ أَزْهَقَتْ أَرْوَاحَهُمْ، ولهذا قال تعالى: إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَةَ إِهْلَاكِهِمْ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ، كُلُّ مَوْطِنٍ بِصِفَةٍ تُنَاسِبُ ذَلِكَ السِّيَاقَ فَفِي الْأَعْرَافِ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا(6/144)
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الْأَعْرَافِ: 88] فَأَرْجَفُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، وَفِي سورة هود قال فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الحجر: 73- 83] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اسْتَهْزَءُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ فِي قَوْلِهِمْ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هُودٍ: 87] قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِازْدِرَاءِ، فَنَاسَبَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ صيحة تسكتهم، فقال فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الآية، وَهَاهُنَا قَالُوا فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية، على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحقق عَلَيْهِمْ مَا اسْتَبْعَدُوا وُقُوعَهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَا يُظِلُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم فاستظل بِهَا فَأَصَابَ تَحْتَهَا بَرْدًا وَرَاحَةً، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ قَوْمَهُ فَأَتَوْهَا جَمِيعًا فَاسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا فَأَجَّجَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الظُّلَّةَ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الظُّلَّةَ وَأَحْمَى عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ، فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ فِي الْمَقْلَى «1» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّ أَهْلَ مَدْيَنَ عُذِّبُوا بِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ: أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فِي دَارِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهَا أَصَابَهُمْ فَزَعٌ شَدِيدٌ، فَفَرَقُوا أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى الْبُيُوتِ فَتَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الظُّلَّةَ، فَدَخَلَ تَحْتَهَا رَجُلٌ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ظِلًّا أَطْيَبَ وَلَا أَبْرَدَ مِنْ هَذَا، هَلُمُّوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَدَخَلُوا جَمِيعًا تَحْتَ الظُّلَّةِ، فَصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً، فَمَاتُوا جَمِيعًا، ثُمَّ تَلَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
وقال محمد بن جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ الآية، قال: بعث الله عليهم رعدا وحرا شديدا، فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هِرَابًا إِلَى البرية، فبعث الله عليهم سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تحتها أرسل اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ، الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 474.
(2) تفسير الطبري 9/ 474.(6/145)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 195]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكِتَابِ الذي أنزله عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ أي القرآن ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ الْآيَةَ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وهذا مما لَا نِزَاعَ فِيهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 97] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ كَلَّمَهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ لَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أَيْ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ اللَّهِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلى قَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ سَالِمًا مِنَ الدَّنَسِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَتُبَشِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ.
وقوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانِكَ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ الْكَامِلِ الشَّامِلِ، لِيَكُونَ بَيِّنًا وَاضِحًا ظَاهِرًا، قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، مُقِيمًا لِلْحُجَّةِ دَلِيلًا إِلَى الْمَحَجَّةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي يَوْمِ دَجْنٍ إِذْ قَالَ لَهُمْ «كَيْفَ تَرَوْنَ بَوَاسِقَهَا؟» قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ تَرَاكُمَهَا.
قَالَ «فَكَيْفَ تَرَوْنَ قَوَاعِدَهَا؟» قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ تَمَكُّنَهَا. قَالَ «فَكَيْفَ تَرَوْنَ جَوْنَهَا؟» قَالُوا: مَا أَحْسَنَهُ وَأَشَدَّ سَوَادَهُ. قَالَ «فَكَيْفَ تَرَوْنَ رَحَاهَا اسْتَدَارَتْ» قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ اسْتِدَارَتَهَا. قال «فكيف ترون برقها: أو ميض أَمْ خَفْوٌ أَمْ يَشُقُّ شَقًّا؟» قَالُوا: بَلْ يَشَقُّ شَقًّا. قَالَ «الْحَيَاءَ الْحَيَاءَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي وَأُمِّي، مَا أَفْصَحَكَ، مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَعْرَبُ مِنْكَ. قَالَ: فَقَالَ «حُقَّ لِي وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِي وَاللَّهُ يَقُولُ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَمْ يَنْزِلْ وَحْيٌ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ تَرْجَمَ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ، وَاللِّسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 196 الى 199]
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِنَّ ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ وَالتَّنْوِيهَ بِهِ لَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ بَشَّرُوا بِهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ حَتَّى قَامَ آخِرُهُمْ(6/146)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
خَطِيبًا فِي مَلَئِهِ بِالْبِشَارَةِ بِأَحْمَدَ وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: 6] وَالزُّبُرُ هَاهُنَا هِيَ الْكُتُبُ، وَهِيَ جَمْعُ زَبُورٍ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ وَهُوَ كِتَابُ داود، وقال الله تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [الْقَمَرِ: 52] أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أو ليس يَكْفِيهِمْ مِنَ الشَّاهِدِ الصَّادِقِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَجِدُونَ ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي يَدْرُسُونَهَا، وَالْمُرَادُ الْعُدُولُ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَأُمَّتِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانِ الْفَارِسِيِّ عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنْهُمْ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الأعراف: 157] الآية.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شِدَّةِ كُفْرِ قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعَاجِمِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مِنَ الْعَرَبِيَّةِ كَلِمَةً وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ وَفَصَاحَتِهِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الحجر: 14- 15] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى [الأنعام: 111] الآية، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 96- 97] الآية.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 الى 209]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
يَقُولُ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَلَكْنَا التَّكْذِيبَ وَالْكُفْرَ وَالْجُحُودَ وَالْعِنَادَ، أَيْ أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ بِالْحَقِّ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَيْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أَيْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَيْ يَتَمَنَّوْنَ حِينَ يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ أَنْ لَوْ أُنَظِرُوا قَلِيلًا لِيَعْمَلُوا في زعمهم بطاعة الله، كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ- إلى قوله- مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إِبْرَاهِيمَ: 44] فَكُلُّ ظَالِمٍ وفاجر إِذَا شَاهَدَ عُقُوبَتَهُ نَدِمَ نَدَمًا شَدِيدًا، هَذَا فِرْعَوْنُ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِ الْكِلِيمُ بِقَوْلِهِ رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا- إلى قوله- قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما [يُونُسَ: 88- 89] فَأَثَّرَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فِي فِرْعَوْنَ، فَمَا آمَنَ حَتَّى رَأَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا(6/147)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
إِسْرائِيلَ
- إلى قوله- وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 90- 91] وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [غافر: 84- 85] الآيات.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ تَكْذِيبًا وَاسْتِبْعَادًا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 29] ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [العنكبوت: 53] الآيات، ثُمَّ قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ أَيْ لَوْ أَخَّرْنَاهُمْ وَأَنْظَرْنَاهُمْ وأملينا لهم برهة من الدهر وحينا من الزمان وَإِنْ طَالَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ يُجْدِي عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعيم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النَّازِعَاتِ: 46] وَقَالَ تَعَالَى:
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [الْبَقَرَةِ: 96] وَقَالَ تَعَالَى: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [اللَّيْلِ: 11] ولهذا قال تعالى: مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «يُؤْتَى بِالْكَافِرِ فَيُغْمَسُ فِي النَّارِ غَمْسَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ رَأَيْتَ نَعِيمًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ» «1» أَيْ مَا كَأَنَّ شَيْئًا كَانَ. وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:
كأنك لم تؤثر مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... إِذَا أَنْتَ أدْرَكْتَ الَّذِي أنت تطلب
ثم قال تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي خُلُقِهِ أَنَّهُ مَا أَهْلَكَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ، وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وقيام الحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا
- إلى قوله- وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص: 59] .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 212]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ اللَّهِ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عليهم ذلك مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ، أَيْ لَيْسَ هُوَ مِنْ بُغْيَتِهِمْ وَلَا مِنْ طِلْبَتِهِمْ، لِأَنَّ مِنْ سَجَايَاهُمُ الْفَسَادَ وَإِضْلَالَ الْعِبَادِ، وَهَذَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَنُورٌ وَهُدًى وَبُرْهَانٌ عَظِيمٌ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ مُنَافَاةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 203، 253. [.....](6/148)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
وقوله تعالى: وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ولو انبغى لهم ما اسْتَطَاعُوا ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَوِ انْبَغَى لَهُمْ وَاسْتَطَاعُوا حَمْلَهُ وَتَأْدِيَتَهُ، لَمَا وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ حَالَ نُزُولِهِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا فِي مُدَّةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى رسول الله، فَلَمْ يَخْلُصْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى اسْتِمَاعِ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِئَلَّا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِشَرْعِهِ، وَتَأْيِيدِهِ لكتابه ولرسوله، ولهذا قال تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً- إلى قوله- أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 8- 10] .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُخْبِرًا أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ عَذَّبَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ، أَيِ الْأَدْنَيْنَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلِّصُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا إِيمَانُهُ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُلِينَ جَانِبَهُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ عَصَاهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ فليتبرأ منه، ولهذا قال تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَهَذِهِ النِّذَارَةُ الْخَاصَّةُ لَا تُنَافِي الْعَامَّةَ بَلْ هي فرد من أجزائها، كما قال تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: 6] ، وقال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام: 92] وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الأنعام: 51] ، وقال تعالى:
لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم: 97] ، وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [هود: 19] ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: 17] . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ» «1» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلْنَذْكُرْهَا:
[الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا، فَصَعِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى «يَا صَبَاحَاهُ» فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا بني
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 240.
(2) المسند 1/ 307.(6/149)
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «1» [المسد: 1] ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
[الْحَدِيثُ الثَّانِي] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ» انفرد بإخراجه مسلم «3» .
[الحديث الثالث] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا، فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي والله لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» «5» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مُرْسَلًا، ولم يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَالْمَوْصُولُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «يا بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رسول الله اشتريا أنفسكما من الله، فإني لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هذا الوجه، وتفرد به
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 26، باب 2، وسورة 34، باب 2، وسورة 111، باب 1، 2، ومسلم في حديث 351، والترمذي في تفسير سورة 111.
(2) المسند 6/ 187.
(3) كتاب الإيمان حديث 350.
(4) المسند 2/ 360.
(5) أخرجه البخاري في الأدب باب 14، ومسلم في الإيمان حديث 348، والترمذي في تفسير سورة 26، باب 2، والنسائي في الوصايا باب 6.
(6) المسند 2/ 350، 398، 448، 449.(6/150)
أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ أيضا عن حسن حدثنا ابْنُ لَهِيعَةَ: عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَقَالَ أَبُو يَعْلَى:
حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بن سعيد، حدثنا همام بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا بَنِي قُصَيٍّ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنَا النَّذِيرُ، وَالْمَوْتُ المغير، والساعة الموعد» .
[الْحَدِيثُ الرَّابِعُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضْمَةً مِنْ جَبَلٍ عَلَى أَعْلَاهَا حَجَرٌ، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي عَبْدِ مناف، إنما أنا نذير، وإنما مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَذَهَبَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ يَخْشَى أَنْ يَسْبِقُوهُ، فَجَعَلَ يُنَادِي وَيَهْتِفُ: يَا صَبَاحَاهُ» «2» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عبد الرحمن بن سهل النَّهْدِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ وزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو الْهِلَالِيِّ بِهِ.
[الْحَدِيثُ الْخَامِسُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جَمَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَاجْتَمَعَ ثَلَاثُونَ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، قَالَ:
وَقَالَ لَهُمْ «مَنْ يَضْمَنُ عَنِّي دَيْنِي وَمَوَاعِيدِي، وَيَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ، وَيَكُونُ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي؟» فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ يُسَمِّهِ شَرِيكٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ كُنْتَ بَحْرًا مَنْ يَقُومُ بهذا، قال: ثم قال الآخر- ثلاثا- قَالَ: فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا.
[طَرِيقٌ أُخْرَى بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا السياق] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حدثنا عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي صَادِقٍ عَنْ ربيعة بن ماجد عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ دعا رسول الله- بني عبد المطلب وهم رهط، وكلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، فصنع لَهُمْ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ الطَّعَامُ كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ، ثُمَّ دَعَا بِغُمَرٍ فَشَرِبُوا حَتَّى رَوُوا وَبَقِيَ الشَّرَابُ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ أَوْ لَمْ يُشْرَبْ، وَقَالَ «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي بُعِثْتُ إليكم خاصة وإلى الناس عامة، فقد رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَأَيْتُمْ، فَأَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَصَاحِبِي» قَالَ: فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، قَالَ:
فَقَالَ «اجْلِسْ» ثُمَّ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ أَقْوَمُ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لِيَ «اجْلِسْ» حَتَّى كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ضرب بيده على يدي.
__________
(1) المسند 5/ 60.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 353، 355.
(3) المسند 1/ 111.
(4) المسند 1/ 159.(6/151)
[طَرِيقٌ أُخْرَى أَغْرَبُ وَأَبْسَطُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ بِزِيَادَاتٍ أُخَرَ] قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قال: حدثني مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَاسْتَكْتَمَنِي اسْمَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُ بِهَا قَوْمِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ فَصَمَتُّ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام فقال: يا محمد إنك إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ عَذَّبَكَ رَبُّكَ» قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَانِي، فقال: يا علي «إن الله تعالى قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الْأَقْرَبِينَ، فَعَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُهُمْ بِذَلِكَ رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ عَذَّبَكَ رَبُّكَ، فَاصْنَعْ لَنَا يَا عَلِيُّ شَاةً عَلَى صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَأَعِدَّ لَنَا عُسَّ «1» لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِيَ بَنِي عبد المطلب» .
ففعلت فاجتمعوا إليه، وَهُمْ يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ يَنْقُصُونَ رَجُلًا، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ: أَبُو طَالِبٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو لَهَبٍ الْكَافِرُ الْخَبِيثُ، فَقَدَّمْتُ إِلَيْهِمْ تلك الجفنة، فأخذ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جذبة فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ رَمَى بِهَا فِي نَوَاحِيهَا، وَقَالَ «كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ» فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ مَا يُرَى إِلَّا آثَارُ أَصَابِعِهِمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ» فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ إِلَى الْكَلَامِ فَقَالَ: لَهَدَّ مَا سَحَّرَكُمْ صَاحِبُكُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا كان من الْغَدُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عَلِيُّ عُدْ لَنَا بِمِثْلِ الَّذِي كُنْتَ صَنَعْتَ بِالْأَمْسِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ بَدَرَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَ الْقَوْمَ» فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَصَنَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ» فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ بِالْكَلَامِ، فَقَالَ: لَهَدَّ مَا سَحَّرَكُمْ صَاحِبُكُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا كان من الْغَدُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عَلِيُّ عُدْ لَنَا بِمِثْلِ الَّذِي كُنْتَ صَنَعْتَ لَنَا بِالْأَمْسِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ بَدَرَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَ الْقَوْمَ» فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَصَنَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى نهلوا ثم سقيتهم من ذلك
__________
(1) العس: القدح الكبير.(6/152)
الْقَعْبِ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا وَيَشْرَبُ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا مِنَ الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بخير الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال عن عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عبد الغفار بن القاسم بن أَبِي مَرْيَمَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ «إِنِّي جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَكَذَا وَكَذَا؟» قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا وَقُلْتُ- وَإِنِّي لَأَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَأَرْمَصُهُمْ عَيْنًا، وَأَعْظَمُهُمْ بَطْنًا، وَأَحْمَشُهُمْ سَاقًا-: أَنَا يَا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثُمَّ قَالَ «إِنَّ هَذَا أَخِي، وَكَذَا وَكَذَا، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» قَالَ: فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لِابْنِكَ وَتُطِيعَ. تَفَرَّدَ بِهَذَا السِّيَاقِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْقَاسِمِ أَبِي مَرْيَمَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ كَذَّابٌ شِيعِيٌّ، اتَّهَمَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
[طَرِيقٌ. أُخْرَى] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أبي أخبرنا الحسين عن عِيسَى بْنِ مَيْسَرَةَ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اصْنَعْ لِي رِجْلَ شَاةٍ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَإِنَاءً لَبَنًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ قَالَ «ادْعُ بني هاشم» قال: فدعوتهم وإنهم يومئذ أربعون غَيْرَ رَجُلٍ، أَوْ أَرْبَعُونَ وَرَجُلٌ، قَالَ: وَفِيهِمْ عَشَرَةٌ كُلُّهُمْ يَأْكُلُ الْجَذَعَةَ بِإِدَامِهَا، قَالَ: فَلَمَّا أَتَوْا بِالْقَصْعَةِ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذروتها ثم قال «فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَهِيَ عَلَى هَيْئَتِهَا لَمْ يزرؤوا منها إلا اليسير، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ بِالْإِنَاءِ فَشَرِبُوا حَتَّى رَوُوا، قَالَ: وَفَضَلَ فَضْلٌ، فَلَمَّا فَرَغُوا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَبَدَرُوهُ الْكَلَامَ، فَقَالُوا مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ فِي السَّحْرِ.
فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ «اصْنَعْ لِي رِجْلَ شَاةٍ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ» فَصَنَعْتُ، قَالَ: فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَرِبُوا، قَالَ: فَبَدَرُوهُ فَقَالُوا مِثْلَ مَقَالَتِهِمُ الْأُولَى، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لِيَ «اصْنَعْ لِي رِجْلَ شاة بصاع طَعَامٍ» فَصَنَعْتُ، قَالَ: فَجَمَعْتُهُمْ فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَرِبُوا بَدَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ، فَقَالَ «أَيُّكُمْ يَقْضِي عَنِّي دَيْنِي، وَيَكُونُ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي؟» قَالَ: فَسَكَتُوا وَسَكَتَ الْعَبَّاسُ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، قَالَ: وَسَكَتُّ أَنَا لِسِنِّ الْعَبَّاسِ. ثُمَّ قَالَهَا مَرَّةً أُخْرَى
__________
(1) تفسير الطبري 9/ 483، 484. [.....](6/153)
فَسَكَتَ الْعَبَّاسُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: أَنَا يا رسول الله. قَالَ: وَإِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَسْوَأُهُمْ هَيْئَةً، وَإِنِّي لَأَعْمَشُ العينين، ضخم البطن، خمش السَّاقَيْنِ، فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ علي رضي الله عنه، ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم لِأَعْمَامِهِ وَأَوْلَادِهِمْ أَنْ يَقْضُوا عَنْهُ دَيْنَهُ وَيَخْلُفُوهُ فِي أَهْلِهِ، يَعْنِي إِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ خَشِيَ إِذَا قَامَ بِأَعْبَاءِ الْإِنْذَارِ أن يقتل.
فلما أنزل اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] فَعِنْدَ ذلك أمن، وكان أو لا يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ولم يكن أحد فِي بَنِي هَاشِمٍ إِذْ ذَاكَ أَشَدُّ إِيمَانًا وَإِيقَانًا وَتَصْدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا بَدَرَهُمْ إِلَى الْتِزَامِ مَا طَلَبَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَانَ بَعْدَ هَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- دُعَاؤُهُ النَّاسَ جَهْرَةً عَلَى الصَّفَا، وَإِنْذَارُهُ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ عُمُومًا وَخُصُوصًا، حَتَّى سَمَّى مَنْ سَمَّى مِنْ أَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ وَبَنَاتِهِ لِيُنَبِّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، أَيْ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الدِّمَشْقِيِّ- غَيْرِ مَنْسُوبٍ- مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ الدِّمَشْقِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ النَّاسَ وَيُفْتِيهِمْ، وَوَلَدُهُ إِلَى جَنْبِهِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ جُلُوسٌ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ يَتَحَدَّثُونَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُ النَّاسِ يَرْغَبُونَ فِيمَا عِنْدَكَ مِنَ الْعِلْمِ، وَأَهْلُ بَيْتِكَ جُلُوسٌ لَاهِينَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا الْأَنْبِيَاءُ، وَأَشَدُّهُمْ عَلَيْهِمُ الْأَقْرَبُونَ» وَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ- إلى قوله- فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ.
وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أَيْ فِي جَمِيعِ أمورك، فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك. وقوله تعالى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
أَيْ هُوَ مُعْتَنٍ بِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطُّورِ: 48] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
يَعْنِي إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ يَرَى قِيَامَهُ وَرُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
إِذَا صَلَّيْتَ وَحْدَكَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
أَيْ مِنْ فِرَاشِكَ أَوْ مَجْلِسِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ الَّذِي يَراكَ
قائما وجالسا وعلى حالاتك.
وقوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ قَتَادَةُ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
قَالَ: فِي الصَّلَاةِ يَرَاكَ وَحْدَكَ، وَيَرَاكَ فِي الْجَمْعِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى مَنْ خَلْفَهُ كَمَا يَرَى مَنْ أَمَامَهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» «1» وروى
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب 74، ومسلم في الصلاة حديث 124.(6/154)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَعْنِي تَقَلُّبَهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ إِلَى صُلْبِ نبي حتى أخرجه نبيا. وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، الْعَلِيمُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس: 61] الآية.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بحق، وَأَنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ أنه أتاه به رئي «1» من الجان، فنزه الله سبحانه وتعالى جَنَابَ رَسُولِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَنَبَّهَ أَنَّ ما جاء به إنما هو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلُهُ وَوَحْيُهُ، نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ من قبل الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُونَ عَلَى مَنْ يُشَاكِلُهُمْ وَيُشَابِهُهُمْ مِنَ الْكُهَّانِ الْكَذَبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أَيْ أُخْبِرُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أَيْ كذوب في قوله وهو الأفاك أَثِيمٍ وهو الْفَاجِرُ فِي أَفْعَالِهِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَزَّلُ عليه الشياطين من الكهان، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْكَذَبَةِ الْفَسَقَةِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ أَيْضًا كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ يُلْقُونَ السَّمْعَ أَيْ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، ثُمَّ يلقونها إلى أوليائهم من الإنس، فيحدثون بِهَا فَيُصَدِّقُهُمُ النَّاسُ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ بِسَبَبِ صِدْقِهِمْ فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا صَحَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ.
كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ «إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة» «2» .
وروى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هريرة يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الملائكة
__________
(1) الرئي: التابع من الجن، الذي يتراءى لمتبوعه.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب 57.(6/155)
بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ ربكم؟ [قالوا للذي قَالَ] : الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا بعضهم فوق بعض- وصف سُفْيَانُ بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ- فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السماء» تفرد بِهِ الْبُخَارِيُّ «1» . وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَبَأٍ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ: 23] الآية.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ أَخْبَرَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحَدَّثُ فِي الْعَنَانِ- وَالْعَنَانُ:
الغمام- بالأمر فِي الْأَرْضِ، فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ، فَتَقُرُّهَا فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ، فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مائة كذبة» «2» . ورواه البخاري في موضع آخر في كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ.
وقوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْكُفَّارَ يَتْبَعُهُمْ ضُلَّالُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ الشَّاعِرَانِ يَتَهَاجَيَانِ فَيَنْتَصِرُ لِهَذَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ «3» ، وَلِهَذَا فِئَامٌ مِنَ الناس، فأنزل الله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ الْهَادِ عَنْ يُحَنِّسَ مَوْلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خُذُوا الشَّيْطَانَ- أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ- لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» .
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ «5» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَوْدِيَتَهُمُ الَّتِي يَهِيمُونَ فيها مرة في شتمه فلان،
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 15، باب 1، وسورة 34، باب 1.
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 6، 11.
(3) فئام من الناس: أي جماعات من الناس.
(4) المسند 3/ 8، 41.
(5) انظر تفسير الطبري 9/ 490.(6/156)
وَمَرَّةً فِي مِدْحَةِ فُلَانٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّاعِرُ يَمْدَحُ قَوْمًا بِبَاطِلٍ وَيَذُمُّ قَوْمًا بِبَاطِلٍ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالْآخَرُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَإِنَّهُمَا تَهَاجَيَا، فَكَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ «1» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ فِيهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَبَجَّحُونَ بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ وَلَا عَنْهُمْ، فَيَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: فِيمَا إِذَا اعْتَرَفَ الشَّاعِرُ فِي شِعْرِهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا: هَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ بِهَذَا الِاعْتِرَافِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ الْفُكَاهَةِ، أَنَّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَعْمَلَ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ عَلَى مَيْسَانَ مِنْ أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال [الطويل] :
أَلَا هَلْ أتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَها ... بِمَيْسَانَ يُسقَى في زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ «2»
إِذَا شئْتُ غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسَمِ
فإنْ كُنْتَ نُدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تَسْقِنِي بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: إي والله إنه ليسوؤني ذَلِكَ، وَمَنْ لَقِيَهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنِّي قَدْ عَزَلْتُهُ، وكتب إليه عمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ- أما بعد- قد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
وايم الله إنه ليسوؤني وَقَدْ عَزَلْتُكَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بَكَّتَهُ بهذا الشعر، فقال: والله يا أمير
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 489.
(2) البيت الأول للنعمان بن نضلة العدوي في لسان العرب (جذا) ، وللنعمان بن عدي في لسان العرب (ختم) ، وتاج العروس (خثم) والمخصص 9/ 100، والبيت الثاني، ويروى البيت الثاني:
إذا شئت غنّتني دهاقين قرية ... وصنّاجه تحدو على كل منسم
وهو للنعمان بن نضلة العدوي في لسان العرب (جذ) وتاج العروس (جذا) ، وبلا نسبة في لسان العرب (صنج) ، (دهق) ، (دهقن) ، وتاج العروس (صنج) ، (دهقن) ، ومجمل اللغة 1/ 418، ومقاييس اللغة 1/ 439، 511، والمخصص 12/ 86، 262، والبيتان الثالث والرابع للنعمان بن نضلة العدوي في الأزهية ص 218، ولسان العرب (جسق) (ندم) ، (جدا) ، وبلا نسبة في لسان العرب (دهق) .(6/157)
الْمُؤْمِنِينَ مَا شَرِبْتُهَا قَطُّ، وَمَا ذَاكَ الشِّعْرُ إِلَّا شَيْءٌ طَفَحَ عَلَى لِسَانِي. فَقَالَ عُمَرُ: أَظُنُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَعْمَلْ لِي عملا أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، فَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ حَدَّهُ عَلَى الشَّرَابِ، وَقَدْ ضَمِنَهُ شِعْرُهُ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَلَكِنَّهُ ذَمَّهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَزَلَهُ بِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» «1» .
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أنزل عليه هذا الْقُرْآنُ لَيْسَ بِكَاهِنٍ وَلَا بِشَاعِرٍ، لِأَنَّ حَالَهُ مُنَافٍ لِحَالِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْحَاقَّةِ: 40- 43] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 194] إِلَى أَنْ قَالَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ إِلَى أَنْ قَالَ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ سَالِمٍ الْبَرَّادِ مَوْلَى تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَبْكُونَ، فَقَالُوا: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّا شُعَرَاءُ، فَتَلَا النَّبِيُّ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ «أَنْتُمْ» وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً قَالَ «أَنْتُمْ» وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا قَالَ «أَنْتُمْ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ «2» مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عن الوليد بن أبي كثير عن يزيد عن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزلت هذه الآية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمَا وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ حَتَّى بَلَغَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ «أَنْتُمْ» .
وَقَالَ أَيْضًا حدثنا أبي، حدثنا أبو مسلم، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى قوله وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ قال
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في الأدب باب 71، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب باب 92، ومسلم في الشعر حديث 7- 9، وأبو داود في الأدب باب 87، وابن ماجة في الأدب باب 42، وأحمد في المسند 2/ 288، 391، 478.
(2) تفسير الطبري 9/ 490، 491.(6/158)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية.
وهكذا قال ابن عباس وعكرمة مجاهد وقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ، وَلَكِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ سبب نزول هذه الآيات شعراء الأنصار؟ وفي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَّا مُرْسَلَاتٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَدْخُلُ فِيهِ شُعَرَاءُ الْأَنْصَارِ وَغَيْرُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ بِذَمِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ تَابَ وَأَنَابَ وَرَجَعَ وَأَقْلَعَ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا فِي مُقَابَلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ. فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَامْتَدَحَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ فِي مقابلة ما كان يذمه، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى حِينَ أسلم [الخفيف] :
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ «1»
إِذْ أُجَارِي الشَّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
وَكَذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ وَأَكْثَرَهُمْ لَهُ هَجْوًا، فَلَمَّا أَسَلَمَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ما كان يهجوه، ويتولاه بعد ما كَانَ قَدْ عَادَاهُ، وَهَكَذَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ لَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ، قَالَ «نَعَمْ» قَالَ: مُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ؟ قَالَ «نَعَمْ» قَالَ وَتُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ المسلمين؟ قال «نعم» وذكر الثالثة «2» ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً قِيلَ: مَعْنَاهُ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ فِي شِعْرِهِمْ. وكلاهما صحيح مكفر لما سبق.
وقوله تعالى: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرُدُّونَ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ- أَوْ قَالَ- هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» «3» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ اللَّهَ عَزَّ وجل قد أنزل في الشعراء مَا أَنْزَلَ، فَقَالَ «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ به نضح النبل» .
__________
(1) تقدم البيتان مع تخريجهما في تفسير الآية 19، من سورة الفرقان.
(2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث 168. [.....]
(3) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 6، ومسلم في فضائل الصحابة حديث 153، وأحمد في المسند 4/ 286، 298، 299، 301، 302، 303.
(4) المسند 6/ 387.(6/159)
وقوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، كقوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ الآية، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «1» ، قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ يَعْنِي مِنَ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا إِيَاسُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ:
حَضَرْتُ الحسن ومر عليه بجنازة نصراني، فقال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. وَقَالَ عبد الله بن أبي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ بَكَى، حَتَّى أَقُولَ قَدِ انْدَقَّ قَضِيبُ زَوْرِهِ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وقال ابن وهب: أخبرنا شريح الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَشْيَخَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا بِأَرْضِ الرُّومِ، فَبَيْنَمَا هُمْ لَيْلَةً عَلَى نَارٍ يَشْتَوُونَ عَلَيْهَا أَوْ يَصْطَلُونَ، إِذَا بِرِكَابٍ قَدْ أَقْبَلُوا فَقَامُوا إِلَيْهِمْ، فَإِذَا فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فِيهِمْ، فَأَنْزَلُوهُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ- قَالَ- وَصَاحِبٌ لَنَا قَائِمٌ يصلي حَتَّى مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قَالَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخَرِّبُونَ الْبَيْتَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقِيلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ظَالِمٍ.
كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْوَاسِطِيِّ، حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ مَحْفُوظٍ أَبُو سَعْدٍ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الرحمن بن المجبر، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَتَبَ أَبِي في وَصِيَّتَهُ سَطْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا، حِينَ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ وَيَنْتَهِي الْفَاجِرُ وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ، إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنْ يَعْدِلْ فَذَاكَ ظَنِّي بِهِ وَرَجَائِي فِيهِ، وَإِنْ يَجُرْ وَيُبَدِّلْ فَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَالْحَمْدُ لله رب العالمين.
__________
(1) أخرجه مسلم في البر حديث 56، 57، وأحمد في المسند 2/ 92، 106، 3/ 323.(6/160)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
تفسير
سُورَةُ النَّمْلِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ. وَقَوْلُهُ تعالى:
تِلْكَ آياتُ أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ أَيْ بَيِّنٍ وَاضِحٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ إِنَّمَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ وَالْبِشَارَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وأيقن بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ: خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ [فصلت: 44] الآية. وقال تعالى: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم: 97] .
ولهذا قال تعالى هَاهُنَا: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَيْ يُكَذِّبُونَ بِهَا وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهَا زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أَيْ حَسَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ، وَمَدَدْنَا لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ فَهُمْ يَتِيهُونَ فِي ضَلَالِهِمْ، وَكَانَ هَذَا جَزَاءً عَلَى مَا كذبوا مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] الآية. أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أَيْ لَيْسَ يَخْسَرُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ سِوَاهُمْ مِنْ أهل المحشر.
وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أَيْ وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ قَالَ قَتَادَةُ:
لَتُلَقَّى أَيْ لَتَأْخُذُ الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، أَيْ حَكِيمٌ في أمره ونهيه، عَلِيمٌ بِالْأُمُورِ: جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، فَخَبَرُهُ هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ، وَحُكْمُهُ هُوَ الْعَدْلُ التَّامُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] .(6/161)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
[سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَكِّرًا لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى عليه السلام، كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه أعطاه مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَابْتَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَجَحَدُوا بِهَا وَكَفَرُوا وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أَيِ اذْكُرْ حِينَ سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ، وَذَلِكَ فِي لَيْلٍ وَظَلَامٍ، فَآنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، أَيْ رأى نارا تتأجج وَتَضْطَرِمُ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ.
أَوْ آتِيكُمْ منها بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون بِهِ وَكَانَ كَمَا قَالَ. فَإِنَّهُ رَجَعَ مِنْهَا بِخَبَرٍ عَظِيمٍ، وَاقْتَبَسَ مِنْهَا نُورًا عَظِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أَيْ فَلَمَّا أتاها ورأى مَنْظَرًا هَائِلًا عَظِيمًا حَيْثُ انْتَهَى إِلَيْهَا وَالنَّارُ تَضْطَرِمُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَا تَزْدَادُ النَّارُ إِلَّا تَوَقُّدًا، وَلَا تَزْدَادُ الشَّجَرَةُ إِلَّا خُضْرَةً وَنَضْرَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا نُورُهَا مُتَّصِلٌ بِعَنَانِ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ تكن نارا، وإنما كَانَتْ نُورًا يَتَوَهَّجُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَوَقَفَ مُوسَى مُتَعَجِّبًا مما رأى ف نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ عباس: تقدس وَمَنْ حَوْلَها أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حبيب، حدثنا أبو داود هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَالْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، سَمِعَ أَبَا عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يُخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ» ، زَادَ الْمَسْعُودِيُّ «وَحِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ» «1» . ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 293، وابن ماجة في المقدمة باب 13، وأحمد في المسند 4/ 401، 405.(6/162)
وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهِ. وَقَوْلُهُ تعالى:
وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْمُبَايِنُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، ولا تكتنفه الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْمُنَزَّهُ عن مماثلة المحدثات.
وقوله تعالى: يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَعْلَمَهُ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ هُوَ رَبُّهُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ لِيُظْهِرَ لَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا أَلْقَى مُوسَى تِلْكَ الْعَصَا مِنْ يَدِهِ انْقَلَبَتْ فِي الْحَالِ حَيَّةً عَظِيمَةً هَائِلَةً فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَالْجَانُّ ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ أَسْرَعُهُ حَرَكَةً وَأَكْثَرُهُ اضْطِرَابًا. وَفِي الْحَدِيثِ نَهْيٌ عَنْ قَتْلِ جِنَانِ الْبُيُوتِ «1» ، فَلَمَّا عَايَنَ مُوسَى ذَلِكَ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يلتفت من شدة فرقه «2» يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أَيْ لَا تَخَفْ مِمَّا تَرَى، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَصْطَفِيَكَ رَسُولًا وَأَجْعَلَكَ نَبِيًّا وجيها.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْبَشَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كان على عمل سيئ ثم أقلع عنه ورجع وتاب وَأَنَابَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طَهَ: 102] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: 110] الآية، والآيات في هذا كثيرة جدا. وقوله تَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ هَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى وَدَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِدْقِ مَنْ جَعَلَ لَهُ مُعْجِزَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِهِ، فَإِذَا أَدْخَلَهَا وَأَخْرَجَهَا خَرَجَتْ بَيْضَاءَ سَاطِعَةً كَأَنَّهَا قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف.
وقوله تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ أَيْ هَاتَانِ ثِنْتَانِ مِنْ تِسْعِ آيَاتٍ أُؤَيِّدُكَ بِهِنَّ وَأَجْعَلُهُنَّ بُرْهَانًا لَكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ وَهَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الْإِسْرَاءِ: 101] كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ هُنَالِكَ. وَقَوْلُهُ تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أَيْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً ظَاهِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَأَرَادُوا مُعَارَضَتَهُ بسحرهم، فغلبوا وانقلبوا صاغرين وَجَحَدُوا بِها في ظاهر أمرهم وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ
__________
(1) لفظ الحديث: «لا تقتلوا الجنّان إلا كل أبتر ذي طفيتين» . أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 15، والمغازي باب 12، ومسلم في السلام حديث 131، 134، 136، وأبو داود في الأدب باب 162، والنسائي في الحج باب 87، ومالك في الاستئذان حديث 31، 32، وأحمد في المسند 2/ 146، 3/ 430، 6/ 83. والجنان، بكسر الجيم: جمع جان، وهي الحية الصغيرة.
(2) من شدة فرقه: أي من شدة خوفه.(6/163)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
أَيْ عَلِمُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ جَحَدُوهَا وَعَانَدُوهَا وَكَابَرُوهَا.
ظُلْماً وَعُلُوًّا أَيْ ظُلْمًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ سَجِيَّةً مَلْعُونَةً، وعلوا أي استكبارا من اتباع الحق، ولهذا قال تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أمرهم فِي إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِغْرَاقِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَحْوَى الْخِطَابِ يَقُولُ:
احْذَرُوا أيها المكذبون لمحمد، الْجَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى، وَبُرْهَانُهُ أَدَلُّ وَأَقْوَى مِنْ بُرْهَانِ مُوسَى بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُقْتَرِنَةِ بِوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَمَا سَبَقَهُ مِنَ الْبِشَارَاتِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، وَأَخْذِ الْمَوَاثِيقِ لَهُ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والسلام.
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدَيْهِ وَنَبِيَّيْهِ: دَاوُدَ وَابْنِهِ سليمان عليهما السَّلَامُ، مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ وَالْمَوَاهِبِ الْجَلِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا جَمَعَ لَهُمَا بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ التَّامِّ فِي الدُّنْيَا، وَالنُّبُوَّةِ والرسالة فِي الدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمَّامٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّ الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد اللَّهَ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ حَمْدُهُ أَفْضَلَ مِنْ نِعْمَتِهِ، لَوْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فأي نِعْمَةٍ أَفْضَلُ مِمَّا أُوتِيَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِمَا السلام.
وقوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أَيْ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وِرَاثَةَ الْمَالِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخُصَّ سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَوْلَادِ دَاوُدَ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ وِرَاثَةُ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرَّثُ أَمْوَالُهُمْ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» «1» وقال:
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض باب 3، والاعتصام باب 5، ومسلم في الجهاد حديث 49، 52، 54، 56، وأحمد في المسند 1/ 4، 6، 9، 10، 25، 47، 48، 49، 60، 162، 164، 179، 191، 208، 2/ 463، 6/ 145، 262.(6/164)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ أَخْبَرَ سُلَيْمَانُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ التَّامِّ وَالتَّمْكِينِ الْعَظِيمِ، حَتَّى إِنَّهُ سَخَّرَ لَهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ، وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَةَ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ أَيْضًا، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالرَّعَاعِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كَانَتْ تَنْطِقُ كَنُطْقِ بَنِي آدَمَ قبل سليمان بن داود، كما قد يَتَفَوَّهُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ، إِذْ كُلُّهُمْ يَسْمَعُ كَلَامَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ، وَيَعْرِفُ مَا تَقُولُ، وليس الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا كَمَا قَالُوا، بَلْ لَمْ تَزَلِ الْبَهَائِمُ وَالطُّيُورُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ وَقْتِ خُلِقَتْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا عَلَى هَذَا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان مَا يَتَخَاطَبُ بِهِ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْحَيَوَانَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، وَلِهَذَا قال تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أَيِ الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ لِلَّهِ عَلَيْنَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ- قَالَ- فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأُغْلِقَتِ الأبواب، فأقبلت امرأة تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ؟ وَاللَّهِ لَنَفْتَضِحَنَّ بِدَاوُدَ، فَجَاءَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أنت؟ فقال: الَّذِي لَا يَهَابُ الْمُلُوكَ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الحجاب، فقال داود: أنت إذا والله مَلَكُ الْمَوْتِ مَرْحَبًا بِأَمْرِ اللَّهِ، فَتَزَمَّلَ دَاوُدُ مَكَانَهُ حَتَّى قُبِضَتْ نَفْسُهُ حَتَّى فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السلام للطير: أظلي على داود، فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ:
اقْبِضِي جَنَاحًا جَنَاحًا» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ فعلت الطير؟ فقبض رسول الله يَدَهُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ. قَالَ أَبُو الفرج بن الجوزي: المضرحية هن النسور الحمراء.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ وَجُمِعَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، يَعْنِي رَكِبَ فِيهِمْ فِي أُبَّهَةٍ وَعَظَمَةٍ كَبِيرَةٍ فِي الْإِنْسِ وَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَلُونَهُ، وَالْجِنُّ وَهُمْ بَعْدَهُمْ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَالطَّيْرُ وَمَنْزِلَتُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ، فَإِنْ كَانَ حَرٌّ أَظَلَّتْهُ مِنْهُ بِأَجْنِحَتِهَا. وَقَوْلُهُ: فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ يَكُفُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ عَنْ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي هِيَ مَرْتَبَةٌ لَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَزَعَةً يَرُدُّونَ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا لِئَلَّا يَتَقَدَّمُوا في المسير كما يفعل الملوك اليوم.
__________
(1) المسند 2/ 419، ولفظه: المصرحية بدل المضرحية.(6/165)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
وقوله: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ أَيْ حَتَّى إِذَا مَرَّ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْجُنُودِ عَلَى وَادِي النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ اسْمَ هَذِهِ النَّمْلَةِ حَرَسُ، وَأَنَّهَا مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الشَّيْصَانِ، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، أَيْ خَافَتْ عَلَى النَّمْلِ أَنْ تَحْطِمَهَا الْخُيُولُ بحوافرها، فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، فَفَهِمَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا.
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ أَيْ أَلْهِمْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي مَنَنْتَ بِهَا عَلَيَّ مِنْ تَعْلِيمِي مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ. وَعَلَى وَالِدَيَّ بِالْإِسْلَامِ لَكَ، وَالْإِيمَانِ بِكَ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ أَيْ عَمَلًا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أَيْ إِذَا تَوَفَّيْتَنِي فَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكَ، وَالرَّفِيقِ الْأَعْلَى مِنْ أَوْلِيَائِكَ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ هَذَا الْوَادِيَ كَانَ بِأَرْضِ الشَّامِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ كَانَتْ ذَاتَ جَنَاحَيْنِ كَالذُّبَابِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَاوِيلِ، فَلَا حَاصِلَ لَهَا.
وَعَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ نَمْلُ سُلَيْمَانَ أَمْثَالَ الذِّئَابِ، هَكَذَا رَأَيْتُهُ مَضْبُوطًا بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَذَلِكَ تَصْحِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْغَرَضُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ قَوْلَهَا وَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ جِدًّا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا مِسْعَرٌ عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ عَنْ أَبِي الصَّدِيقِ النَّاجِيِّ قَالَ: خرج سليمان بن داود عليهما السَّلَامُ يَسْتَسْقِي، فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلَى ظَهْرِهَا رَافِعَةً قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، وَلَا غِنَى بِنَا عَنْ سُقْيَاكَ وَإِلَّا تَسْقِنَا تُهْلِكْنَا. فَقَالَ سليمان: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، أَفِي أَنْ قَرْصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تسبح؟ فهلا نملة واحدة؟» «1» .
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 21]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: كَانَ الْهُدْهُدُ مُهَنْدِسًا يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَاءِ إِذَا كَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ طَلَبَهُ، فَنَظَرَ لَهُ الْمَاءَ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ، كَمَا يَرَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ الظَّاهِرَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَيَعْرِفُ كَمْ مِسَاحَةُ بُعْدِهِ من وجه الأرض، فإذا
__________
(1) أخرجه مسلم في السلام حديث 148.(6/166)
دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْجَانَّ فَحَفَرُوا لَهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ حَتَّى يَسْتَنْبِطَ الْمَاءَ مِنْ قَرَارِهِ، فَنَزَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ لِيَرَى الْهُدْهُدَ فَلَمْ يَرَهُ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ حَدَّثَ يَوْمًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِنَحْوِ هَذَا، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُقَالُ لَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ وَكَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: قِفْ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ غُلِبْتَ الْيَوْمَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تُخْبِرُ عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ لَيَضَعُ لَهُ الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ وَيَحْثُو عَلَى الْفَخِّ تُرَابًا، فَيَجِيءُ الْهُدْهُدُ لِيَأْخُذَهَا فَيَقَعُ فِي الْفَخِّ فَيَصِيدُهُ الصَّبِيُّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لَوْلَا أَنْ يَذْهَبَ هَذَا فَيَقُولُ رددت على ابن عباس لما أجبته، ثم قال لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ وَذَهَبَ الْحَذَرُ، فَقَالَ لَهُ نَافِعٌ:
وَاللَّهِ لَا أُجَادِلُكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَبَدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْزِيِّ مَنْ أَهْلِ بَرْزَةَ في غوطة دمشق، وكان من الصالحين يصوم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَكَانَ أَعْوَرَ قَدْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ فَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ عَوَرِهِ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ شُهُورًا، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ نَزَلَا عِنْدَهُ جُمْعَةً فِي قَرْيَةِ بِرْزَةَ، وَسَأَلَاهُ عَنْ وَادٍ بِهَا فَأَرَيْتُهُمَا إِيَّاهُ، فَأَخْرَجَا مَجَامِرَ وَأَوْقَدَا فِيهَا بَخُورًا كَثِيرًا حَتَّى عَجْعَجَ الْوَادِي بِالدُّخَانِ، فَأَخَذَا يَعْزِمَانِ وَالْحَيَّاتُ تُقْبِلُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ إِلَيْهِمَا، فَلَا يَلْتَفِتَانِ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، حَتَّى أَقْبَلَتْ حَيَّةٌ نحو الذراع وعيناها تتوقدان مِثْلَ الدِّينَارِ، فَاسْتَبْشَرَا بِهَا عَظِيمًا، وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُخَيِّبْ سَفَرَنَا مِنْ سَنَةٍ، وَكَسَرَا الْمَجَامِرَ، وَأَخَذَا الْحَيَّةَ، فَأَدْخَلَا فِي عَيْنِهَا مِيلًا فَاكْتَحَلَا بِهِ، فَسَأَلْتُهُمَا أَنْ يُكَحِّلَانِي فَأَبَيَا، فَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِمَا وَقُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ وَتَوَعَّدْتُهُمَا بِالدَّوْلَةِ، فَكَحَّلَا عَيْنِيَ الْوَاحِدَةَ الْيُمْنَى، فَحِينَ وَقَعَ فِي عَيْنِي نَظَرْتُ إِلَى الْأَرْضِ تَحْتِي مِثْلَ الْمِرْآةِ أَنْظُرُ مَا تَحْتَهَا كَمَا تُرَى الْمِرْآةُ، ثُمَّ قَالَا لِي: سِرْ مَعَنَا قَلِيلًا، فسرت معهما وهما يحدثاني حَتَّى إِذَا بَعُدْتُ عَنِ الْقَرْيَةِ أَخَذَانِي فَكَتَّفَانِي، وَأَدْخَلَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ فِي عَيْنِي فَفَقَأَهَا وَرَمَى بِهَا وَمَضَيَا، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ مُلْقًى مَكْتُوفًا حتى مربي نَفَرٌ فَفَكَّ وَثَاقِي، فَهَذَا مَا كَانَ مِنْ خَبَرِ عَيْنِي.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ الْمِنْقَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: اسْمُ هُدْهُدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْبَرٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَدَا إِلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ يَأْتِيهِ نُوَبٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الطَّيْرِ كُلَّ يَوْمٍ طَائِرٌ، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ أَصْنَافِ الطَّيْرِ كُلِّهَا مَنْ حَضَرَهُ إِلَّا الْهُدْهُدَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أَخْطَأَهُ بَصَرِي مِنَ الطَّيْرِ، أَمْ غَابَ فَلَمْ يَحْضُرْ.
وَقَوْلُهُ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً قَالَ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ عَنِ ابن(6/167)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
عَبَّاسٍ: يَعْنِي نَتْفَ رِيشِهِ «1» ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: نَتْفُ رِيشِهِ وَتَشْمِيسُهُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ نَتْفُ رِيشِهِ وَتَرْكُهُ مُلْقًى يَأْكُلُهُ الذَّرُّ وَالنَّمْلُ. وَقَوْلُهُ: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ يَعْنِي قَتْلَهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بعذر بيّن واضح، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شداد: لما قدم الهدهد قالت لَهُ الطَّيْرُ: مَا خَلَّفَكَ؟ فَقَدْ نَذَرَ سُلَيْمَانُ دمك، فقال: هل استثنى؟ قالوا: نَعَمْ.
قَالَ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال: نَجَوْتُ إِذًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا دَفَعَ اللَّهُ عنه ببره بأمه.
[سورة النمل (27) : الآيات 22 الى 26]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
يَقُولُ تَعَالَى: فَمَكَثَ الْهُدْهُدُ غَيْرَ بَعِيدٍ أَيْ غَابَ زَمَانًا يَسِيرًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ:
أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أَيْ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا جُنُودُكَ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أَيْ بِخَبَرٍ صِدْقٍ حَقٍّ يَقِينٍ، وَسَبَأٌ هُمْ حِمْيَرُ وَهُمْ مُلُوكُ الْيَمَنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهِيَ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ مَلِكَةُ سَبَأٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ أُمُّهَا جِنِّيَّةً، وَكَانَ مُؤَخَّرُ قَدَمَيْهَا مِثْلَ حَافِرِ الدَّابَّةِ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ، وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ محمد: هي بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الرَّيَّانِ، وَأُمُّهَا فَارِعَةُ الْجِنِّيَّةُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بِلْقِيسُ بنت ذي شرخ وأمها بلتقة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حدثنا مسدد، حدثنا سفيان بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مَعَ صَاحِبَةِ سُلَيْمَانَ أَلْفُ قَيْلٍ، تَحْتَ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ: عَنْ مُجَاهِدٍ كَانَ تَحْتَ يَدَيْ مَلِكَةِ سَبَأٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَيْلٍ تَحْتَ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ في قوله تعالى: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ، وَكَانَ أُولُو مَشُورَتِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مَأْرَبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ صَنْعَاءَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهُ كَثِيرٌ عَلَى مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من متاع الدنيا مما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْمُتَمَكِّنُ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ يَعْنِي سَرِيرٌ تَجْلِسُ عَلَيْهِ عَظِيمٌ هَائِلٌ مُزَخْرَفٌ بالذهب وأنواع الجواهر واللئالئ.
قَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانَ مِنْ ذَهَبٍ وصفحاته مرمولة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا،
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 507.(6/168)
وَعَرْضُهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبر جد واللؤلؤ، وكان إنما يخدمها النساء، ولها سِتُّمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِي الْخِدْمَةَ، قَالَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ: وَكَانَ هَذَا السَّرِيرُ فِي قَصْرٍ عَظِيمٍ مَشِيدٍ رفيع البناء محكم، وكان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه، قَدْ وُضِعَ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ طَاقَةٍ، وَتَغْرُبَ مِنْ مُقَابَلَتِهَا فَيَسْجُدُونَ لَهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَلِهَذَا قَالَ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ.
وَقَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ مَعْنَاهُ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ سَبِيلَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ إِخْلَاصُ السُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ دون ما خلق مِنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فُصِّلَتْ: 37] وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ أَلَا يَا اسْجُدُوا لِلَّهِ جَعَلَهَا أَلَا الاستفتاحية، ويا لِلنِّدَاءِ، وَحُذِفَ الْمُنَادَى تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ أَلَا يَا قَوْمِ اسْجُدُوا لِلَّهِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ كُلَّ خَبِيئَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْخَبْءُ الْمَاءُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ:
خَبْءُ السموات والأرض ما جعل فيهما مِنَ الْأَرْزَاقِ، الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ «1» . وَهَذَا مُنَاسِبٌ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ يجري في تخوم الأرض وداخلها.
وَقَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ أَيْ يَعْلَمُ مَا يُخْفِيهِ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ
[الرَّعْدِ: 10] وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي هو المدعو وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ دَاعِيًا إِلَى الْخَيْرِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالسُّجُودِ لَهُ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ:
النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ والهدهد والصرد «2» ، وإسناده صحيح.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 511.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب باب 164، وابن ماجة في الصيد باب 10، وأحمد في المسند 1/ 332، 347.(6/169)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 31]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
يقول تعالى مخبرا عن قيل سليمان لِلْهُدْهُدِ حِينَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَهْلِ سَبَأٍ وَمَلِكَتِهِمْ قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي صدقت فِي إِخْبَارِكَ هَذَا أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ في مقالتك لتتخلص مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي أَوْعَدْتُكَ؟ اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ كتابا إلى بلقيس وقومها. وأعطاه ذلك الْهُدْهُدِ فَحَمَلَهُ، قِيلَ فِي جَنَاحِهِ كَمَا هِيَ عادة الطير، وقيل بمنقاره، وجاء إِلَى بِلَادِهِمْ فَجَاءَ إِلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ إِلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي كَانَتْ تَخْتَلِي فِيهَا بِنَفْسِهَا فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا مِنْ كُوَّةٍ هُنَالِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ تولى ناحية أدبا ورئاسة، فَتَحَيَّرَتْ مِمَّا رَأَتْ وَهَالَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى الْكِتَابِ فَأَخَذَتْهُ فَفَتَحَتْ خَتْمَهُ وَقَرَأَتْهُ، فَإِذَا فِيهِ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَجَمَعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أُمَرَاءَهَا وَوُزَرَاءَهَا وَكُبَرَاءَ دَوْلَتِهَا وَمَمْلَكَتِهَا.
ثُمَّ قَالَتْ لَهُمْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ تَعْنِي بِكَرَمِهِ مَا رَأَتْهُ مِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ كَوْنُ طَائِرٍ أَتَى بِهِ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهَا أَدَبًا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سليمان عليه السلام، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، وَهَذَا الْكِتَابُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْوَجَازَةِ وَالْفَصَاحَةِ، فَإِنَّهُ حَصَّلَ المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء: لم يَكْتُبْ أَحَدٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو يَعْلَى الْحَنَّاطُ. حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنِ ابْنِ بُرَيدةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي أَعْلَمُ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ قَبْلِي بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ داود» قلت: يا نبي اللَّهِ أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ «سَأُعلِمُكَهَا قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ» قَالَ: فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ فَأَخْرَجَ إِحْدَى قَدَمَيْهِ، فَقُلْتُ نَسِيَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَكَتَبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ قال قتادة: يقول لا تجبروا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَا تَمْتَنِعُوا وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُوَحِّدِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُخْلِصِينَ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: طائعين.(6/170)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
[سورة النمل (27) : الآيات 32 الى 35]
قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
لَمَّا قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ كِتَابَ سُلَيْمَانَ، اسْتِشَارَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ نَزَلَ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أَيْ حَتَّى تحضرون وتشيرون قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أَيْ مَنَّوْا إِلَيْهَا بِعَدَدِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، ثُمَّ فَوَّضُوا إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالُوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ أَيْ نَحْنُ لَيْسَ لَنَا عَاقَةٌ وَلَا بِنَا بَأْسٌ إِنْ شِئْتِ أَنْ تَقْصِدِيهِ وَتُحَارِبِيهِ، فَمَا لَنَا عَاقَةٌ عَنْهُ. وَبَعْدَ هَذَا فَالْأَمْرُ إِلَيْكِ مُرِي فينا رأيك نَمْتَثِلُهُ وَنُطِيعُهُ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِلْجَةٍ «1» تَضْطَرِبُ ثَدْيَاهَا، فَلَمَّا قَالُوا لَهَا مَا قَالُوا، كَانَتْ هِيَ أَحْزَمَ رَأْيًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهَا بِجُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ. وَقَدْ شَاهَدَتْ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ مَعَ الْهُدْهُدِ أَمْرًا عَجِيبًا بَدِيعًا، فَقَالَتْ لَهُمْ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ نُحَارِبَهُ وَنَمْتَنِعَ عَلَيْهِ فَيَقْصِدَنَا بِجُنُودِهِ وَيُهْلِكَنَا بِمَنْ مَعَهُ وَيَخْلُصَ إِلَيَّ وَإِلَيْكُمُ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ دُونَ غَيْرِنَا. وَلِهَذَا قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِذَا دَخَلُوا بَلَدًا عُنْوَةً أَفْسَدُوهُ أَيْ خَرَّبُوهُ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أَيْ وَقَصَدُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الْوُلَاةِ وَالْجُنُودِ فَأَهَانُوهُمْ غَايَةَ الْهَوَانِ إِمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْأَسْرِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتْ بِلْقِيسُ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً قَالَ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة وَالْمُسَالَمَةِ وَالْمُخَادَعَةِ وَالْمُصَانَعَةِ، فَقَالَتْ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أَيْ سَأَبْعَثُ إليه بهدية تليق بمثله وَأَنْظُرُ مَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ يقبل ذلك منا وَيَكُفُّ عَنَّا، أَوْ يَضْرِبُ عَلَيْنَا خَرَاجًا نَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ وَنَلْتَزِمُ لَهُ بِذَلِكَ ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة رحمه الله: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، عَلِمَتْ أَنَّ الْهَدِيَّةَ تَقَعُ مَوْقِعًا مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: قَالَتْ لِقَوْمِهَا إِنْ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ فَهُوَ مَلِكٌ فَقَاتِلُوهُ، وَإِنْ لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
[سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 37]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ وَلَآلِئَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْسَلَتْ بِلَبِنَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِآنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما: أرسلت جواري في زي الغلمان،
__________
(1) العلج: هو الرجل من كفار العجم، والعلجة: مؤنث علج.(6/171)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
وغلمان في زي الجواري فقالت: إِنْ عَرَفَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَهُوَ نَبِيٌّ، قالوا: فأمرهم سليمان فتوضؤوا، فَجَعَلَتِ الْجَارِيَةُ تُفْرِغُ عَلَى يَدِهَا مِنَ الْمَاءِ وَجَعَلَ الْغُلَامُ يَغْتَرِفُ فَمَيَّزَهُمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ بَلْ جَعَلَتِ الْجَارِيَةُ تَغْسِلُ بَاطِنَ يَدِهَا قَبْلَ ظَاهِرِهَا والغلام بالعكس، وقيل بل جعلت الجواري يغسلن مِنْ أَكُفِّهِنَّ إِلَى مُرَافِقِهِنَّ، وَالْغِلْمَانُ مِنْ مَرَافِقِهِمْ إلى كفوفهم وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ لِيَمْلَأَهُ مَاءً رِوَاءً لَا مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ، فَأَجْرَى الْخَيْلَ حَتَّى عَرِقَتْ ثُمَّ مَلَأَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَبِخَرَزَةٍ وَسِلْكٍ لِيَجْعَلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَأَكْثَرَهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَنْظُرْ إِلَى مَا جَاءُوا بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا اعْتَنَى بِهِ، بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُ. وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ؟ أَيْ أَتُصَانِعُونَنِي بِمَالٍ لِأَتْرُكَكُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَمُلْكِكُمْ؟ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أَيِ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَالْجُنُودِ خَيْرٌ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أَيْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَنْقَادُونَ لِلْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَقْبَلُ مِنْكُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ.
قَالَ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ فَمَوَّهُوا لَهُ أَلْفَ قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَلَمَّا رَأَتْ رُسُلُهَا ذَلِكَ، قَالُوا:
مَا يَصْنَعُ هَذَا بهديتنا، وفي هذا جَوَازِ تَهَيُّؤِ الْمُلُوكِ وَإِظْهَارِهِمُ الزِّينَةَ لِلرُّسُلِ وَالْقُصَّادِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ أَيْ بِهَدِيَّتِهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها أَيْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بقتالهم وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً أي ولنخرجنهم من بلدتهم أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ أَيْ مُهَانُونَ مَدْحُورُونَ. فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا رُسُلُهَا بِهَدِيَّتِهَا وَبِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا، وَأَقْبَلَتْ تَسِيرُ إِلَيْهِ فِي جُنُودِهَا خَاضِعَةً ذَلِيلَةً، مُعَظِّمَةً لِسُلَيْمَانَ نَاوِيَةً مُتَابَعَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا تَحَقَّقَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُدُومَهُمْ عَلَيْهِ، وَوُفُودَهُمْ إِلَيْهِ فَرِحَ بِذَلِكَ وسره.
[سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 40]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ: فلما رجعت إليها الرسل بما قال سلميان قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ عَرَفْتُ مَا هَذَا بِمَلِكٍ، وَمَا لَنَا بِهِ مِنْ طَاقَةٍ وَمَا نَصْنَعُ بمكابرته شَيْئًا، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ:
إِنِّي قَادِمَةٌ عَلَيْكَ بِمُلُوكِ قَوْمِي لِأَنْظُرَ مَا أَمْرُكَ وَمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِكَ، ثُمَّ أَمَرَتْ بِسَرِيرِ مُلْكِهَا الَّذِي كَانَتْ تَجْلِسُ عَلَيْهِ. وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ مُفَصَّصٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ، فَجُعِلَ فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، ثُمَّ أَقْفَلَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ ثُمَّ قَالَتْ لِمَنْ خَلَّفَتْ عَلَى سُلْطَانِهَا: احْتَفِظْ بما(6/172)
قِبَلَكَ وَسَرِيرِ مُلْكِي، فَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ حَتَّى آتِيَكَ ثُمَّ شَخَصَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ قَيْلٍ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ قَيْلٍ مِنْهُمْ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ فَجَعَلَ سُلَيْمَانُ يَبْعَثُ الْجِنَّ يَأْتُونَهُ بِمَسِيرِهَا وَمُنْتَهَاهَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى إِذَا دَنَتْ جَمَعَ مَنْ عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
وقال قتادة: لما بلغ سليمان أنها جاثية وَكَانَ قَدْ ذُكِرَ لَهُ عَرْشُهَا فَأَعْجَبَهُ. وَكَانَ مَنْ ذَهَبٍ وَقَوَائِمُهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوْهَرٌ. وَكَانَ مُسَتَّرًا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ تِسْعَةُ مَغَالِيقَ، فَكَرِهَ أن يأخذ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ. وَقَدْ عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُمْ متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم، فقال يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَتَحْرُمُ عَلَيَّ أَمْوَالُهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مَارِدٌ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: وَكَانَ اسْمُهُ كَوْزَنَ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ «1» ، وَكَذَا قَالَ أَيْضًا وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَكَانَ كَأَنَّهُ جَبَلٌ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ
قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنه: يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِكَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَقْعَدِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ لِلْقَضَاءِ وَالْحُكُومَاتِ وَلِلطَّعَامِ، مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ قَوِيٌّ عَلَى حَمْلِهِ أَمِينٌ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَوْهَرِ، فقال سليمان عليه الصلاة والسلام أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ هَاهُنَا يَظْهَرُ أن سُلَيْمَانَ أَرَادَ بِإِحْضَارِ هَذَا السَّرِيرِ إِظْهَارَ عَظَمَةِ ما وهب الله له من الملك، وما سخر لَهُ مِنَ الْجُنُودِ الَّذِي لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِيَتَّخِذَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ أَنْ يَأْتِيَ بِعَرْشِهَا كَمَا هُوَ مِنْ بِلَادِهَا قَبْلَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ حَجَبَتْهُ بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ وَالْحَفَظَةِ. فَلَمَّا قَالَ سُلَيْمَانُ أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَذَا رَوَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَاءَ. وَكَانَ صِدِّيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مُؤْمِنًا مِنَ الْإِنْسِ وَاسْمُهُ آصِفُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْإِنْسِ، زَادَ قَتَادَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَ اسْمُهُ أَسْطُومَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ كَانَ اسْمُهُ بُلَيْخَا، وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ محمد هو رجل من الإنس يُقَالُ لَهُ ذُو النُّورِ. وَزَعْمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ أَنَّهُ الْخَضِرُ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أَيِ ارْفَعْ بَصَرَكَ وَانْظُرْ، مَدَّ بصرك مما تقدر
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 522. [.....](6/173)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ لَا يَكِلُّ بَصَرُكَ إِلَّا وَهُوَ حَاضِرٌ عِنْدَكَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: امْدُدْ بَصَرَكَ فَلَا يَبْلُغْ مَدَاهُ حَتَّى آتِيَكَ بِهِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَنْظُرَ نَحْوَ الْيَمَنِ الَّتِي فِيهَا هَذَا الْعَرْشُ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ قَامَ فتوضأ ودعا الله تعالى. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: يَا إِلَهَنَا وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ائتني بعرشها. قال: فمثل بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ: لما دعا الله تعالى وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ وَكَانَ فِي الْيَمَنِ وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ غَابَ السَّرِيرُ وَغَاصَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ نَبَعَ مِنْ بين يدي سليمان.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَمْ يَشْعُرْ سُلَيْمَانُ إِلَّا وَعَرْشُهَا يُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ وَكَانَ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عُبَّادِ الْبَحْرِ فَلَمَّا عَايَنَ سُلَيْمَانُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَرَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي أَيْ هَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ لِيَبْلُوَنِي أَيْ لِيَخْتَبِرَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فُصِّلَتْ: 46] وَكَقَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الرُّومِ: 44] .
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أَيْ هُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ وَعِبَادَتِهِمْ كَرِيمٌ أَيْ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ فَإِنَّ عَظَمَتَهُ لَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى أَحَدٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إِبْرَاهِيمَ: 8] .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» «1» .
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
لَمَّا جِيءَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْلَ قُدُومِهَا أَمَرَ بِهِ أَنْ يُغَيَّرَ بَعْضُ صِفَاتِهِ لِيَخْتَبِرَ مَعْرِفَتَهَا وَثَبَاتَهَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ هَلْ تُقْدِمُ عَلَى أَنَّهُ عَرْشُهَا أو أنه ليس بعرشها فَقَالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ قَالَ ابْنُ عباس نزع منه فصوصه ومرافقه، وقال
__________
(1) أخرجه مسلم في البر حديث 55.(6/174)
مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أَحْمَرَ جُعِلَ أَصْفَرَ، وَمَا كَانَ أَصْفَرَ جُعِلَ أَحْمَرَ، وَمَا كَانَ أَخْضَرَ جُعِلَ أَحْمَرَ غُيِّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَنْ حَالِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ زَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا وَقَالَ قَتَادَةُ جَعَلَ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَمُقَدَّمَهُ مُؤَخَّرَهُ وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ أَيْ عُرِضَ عَلَيْهَا عَرْشُهَا وَقَدْ غُيِّرَ وَنُكِّرَ وَزِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ فَكَانَ فِيهَا ثَبَاتٌ وَعَقْلٌ، وَلَهَا لُبٌّ وَدَهَاءٌ وَحَزْمٌ، فَلَمْ تُقْدِمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ لِبُعْدِ مَسَافَتِهِ عَنْهَا وَلَا أَنَّهُ غَيْرُهُ لِمَا رَأَتْ مِنْ آثَارِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَنُكِّرَ فَقَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أَيْ يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ. وَهَذَا غَايَةٌ فِي الذَّكَاءِ وَالْحَزْمِ.
وَقَوْلُهُ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ قال مجاهد يقوله سليمان «1» ، وقوله تعالى: وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَيْ قَالَ سُلَيْمَانُ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَهِيَ كَانَتْ قَدْ صَدَّهَا أَيْ مَنَعَهَا مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدٌ: حَسَنٌ وَقَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ وَصَدَّها ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى سُلَيْمَانَ أَوْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَقْدِيرُهُ وَمَنَعَهَا مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ صَدَّهَا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (قُلْتُ) : وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا إِنَّمَا أَظْهَرَتِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ دُخُولِهَا إِلَى الصَّرْحِ كَمَا سَيَأْتِي.
وقوله: يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا لَهَا قَصْرًا عَظِيمًا مِنْ قَوَارِيرَ أَيْ مِنْ زُجَاجٍ وَأَجْرَى تَحْتَهُ الْمَاءَ فَالَّذِي لَا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ مَاءٌ وَلَكِنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَاشِي وَبَيْنَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي دَعَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اتِّخَاذِهِ فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا عَزَمَ على تزوجها واصطفائها لنفسه، ذكر له جمالها وحسنها لكن فِي سَاقَيْهَا هُلْبٌ «2» عَظِيمٌ وَمُؤَخَّرُ أَقْدَامِهَا كَمُؤَخَّرِ الدَّابَّةِ.
فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَاتَّخَذَ هَذَا لِيَعْلَمَ صِحَّتَهُ أَمْ لَا؟ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ. فَلَمَّا دَخَلَتْ وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا رأى أحسن الناس ساقا وأحسنهم قَدَمًا وَلَكِنْ رَأَى عَلَى رِجْلَيْهَا شَعْرًا لِأَنَّهَا ملكة وليس لها زوج فَأَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ ذَلِكَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهَا الْمُوسَى فَقَالَتْ لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.
وَكَرِهَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ وَقَالَ لِلْجِنِّ: اصْنَعُوا شَيْئًا غَيْرَ الْمُوسَى يذهب بهذا الشَّعْرُ فَصَنَعُوا لَهُ النُّورَةَ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتُّخِذَتْ لَهُ النُّورَةُ «3» ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: ادْخُلِي الصرح ليريها ملكا هو أعز
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 527.
(2) هلب: أي شعر.
(3) النورة: حجر يحلق به شعر العانة.(6/175)
مِنْ مُلْكِهَا وَسُلْطَانًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهَا فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لَا تَشُكُّ أَنَّهُ مَاءٌ تَخُوضُهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمَّا رَأَتِ الْعِلْجَةُ الصَّرْحَ عَرَفَتْ وَاللَّهِ أَنَّ قَدْ رَأَتْ مُلْكًا أَعْظَمَ مِنْ مُلْكِهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَمَرَ سُلَيْمَانُ بِالصَّرْحِ وَقَدْ عَمِلَتْهُ لَهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ زُجَاجٍ كَأَنَّهُ الْمَاءُ بَيَاضًا ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَاءَ تَحْتَهُ ثُمَّ وُضِعَ لَهُ فِيهِ سَرِيرُهُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ ثُمَّ قَالَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَهَا مُلْكًا هُوَ أَعَزُّ من ملكها وسلطانا هو أعظم من سلطانهالَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لَا تشك أنه ماء تخوضه، قيل لهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ.
فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ دَعَاهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وحده وَعَاتَبَهَا فِي عِبَادَتِهَا الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَالَتْ بِقَوْلِ الزَّنَادِقَةِ فَوَقَعَ سُلَيْمَانُ سَاجِدًا إِعْظَامًا لِمَا قَالَتْ وَسَجَدَ مَعَهُ النَّاسُ فَسَقَطَ فِي يَدَيْهَا حِينَ رَأَتْ سُلَيْمَانَ صَنَعَ مَا صَنَعَ فَلَمَّا رَفَعَ سُلَيْمَانُ رَأْسَهُ قَالَ وَيْحَكِ مَاذَا قلت؟ قالت أنسيت ما قلت؟ فقالت بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا «1» .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي هذا أثرا غريبا عن ابن عباس فقال: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ وَنَحْنُ فِي الْأَزْدِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرِهِ ثُمَّ تُوضَعُ كَرَاسِيُّ حَوْلَهُ فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا الْإِنْسُ ثُمَّ يَجْلِسُ الْجِنُّ ثُمَّ الشَّيَاطِينُ ثُمَّ تَأْتِي الرِّيحُ فَتَرْفَعُهُمْ ثُمَّ تُظِلُّهُمُ الطَّيْرُ ثُمَّ يَغْدُونَ قَدْرَ مَا يَشْتَهِي الرَّاكِبُ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرًا وَرَوَاحَهَا شهر، قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَسِيرٍ لَهُ إِذْ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَفَقَدَ الْهُدْهُدَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال: وكان عَذَابُهُ إِيَّاهُ أَنْ يَنْتِفَهُ ثُمَّ يُلْقِيهِ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ نَمْلَةٍ وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ.
قَالَ عَطَاءٌ وَذَكَرَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ حديث مجاهد فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل: 22]- فقرأ حتى انتهى إلى قوله- سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا [النمل: 27- 28] وَكَتَبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِلَى بِلْقِيسَ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَلَمَّا أَلْقَى الهدهد الكتاب إِلَيْهَا أُلْقِيَ فِي رُوعِهَا إِنَّهُ كِتَابٌ كَرِيمٌ وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَيَّ وائتوني مُسْلِمِينَ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون، فلما جاءت الهدية سليمان قال:
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 538، 539.(6/176)
أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْغُبَارِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ وَكَانَ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَبَيْنَ مَلِكَةِ سَبَأٍ وَمَنْ مَعَهَا حِينَ نَظَرَ إِلَى الْغُبَارِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحِيرَةِ، قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ حِينَئِذٍ فِي الْأَزْدِ.
قَالَ سُلَيْمَانُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا؟ قَالَ وَبَيْنَ عَرْشِهَا وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ حِينَ نَظَرَ إِلَى الْغُبَارِ مَسِيرَةُ شَهْرَيْنِ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قَالَ: وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ مَجْلِسٌ يَجْلِسُ فِيهِ لِلنَّاسِ كَمَا يجلس الأمراء ثم يقوم. فقال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قَالَ سُلَيْمَانُ أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا أَنْظُرُ فِي كِتَابِ رَبِّي ثُمَّ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ فَلَمَّا قَطَعَ كَلَامَهُ رَدَّ سُلَيْمَانُ بَصَرَهُ فَنَبَعَ عَرْشُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمِ سُلَيْمَانَ مِنْ تَحْتِ كُرْسِيٍّ كَانَ سُلَيْمَانُ يَضَعُ عَلَيْهِ رِجْلَهُ ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى السَّرِيرِ، قَالَ فَلَمَّا رأى سليمان عرشها قال هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي الآية قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها.
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قَالَ فَسَأَلَتْهُ حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء ليس من أرض ولا سَمَاءٍ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ سَأَلَ الْإِنْسَ ثُمَّ الْجِنَّ ثُمَّ الشَّيَاطِينَ قَالَ: فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ هَذَا هَيِّنٌ أَجْرِ الْخَيْلَ ثُمَّ خُذْ عَرَقَهَا ثُمَّ امْلَأْ مِنْهُ الْآنِيَةَ.
قَالَ فَأَمَرَ بِالْخَيْلِ فَأُجْرِيَتْ ثُمَّ أَخَذَ عَرَقَهَا فَمَلَأَ مِنْهُ الْآنِيَةَ، قَالَ وَسَأَلَتْ عَنْ لَوْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ فَوَثَبَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَرِيرِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا فَقَالَ: يَا رَبِّ لَقَدْ سَأَلَتْنِي عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك، فقال: ارْجِعْ فَقَدْ كَفَيْتُكَهُمْ قَالَ فَرَجَعَ إِلَى سَرِيرِهِ قال مَا سَأَلْتِ عَنْهُ؟ قَالَتْ مَا سَأَلْتُكَ إِلَّا عَنِ الْمَاءِ فَقَالَ لِجُنُودِهِ مَا سَأَلَتْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا مَا سَأَلَتْكَ إِلَّا عَنِ الْمَاءِ، قَالَ ونسوه كلهم. قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه فَإِنِ اتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ وُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ نَنْفَكَّ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، قَالَ فَجَعَلُوا صَرْحًا مُمَرَّدًا مِنْ قَوَارِيرَ فِيهِ السَّمَكُ قَالَ فَقِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا فَإِذَا هِيَ شَعْرَاءُ. فَقَالَ سليمان هذا قبيح فما يذهبه؟ قالوا يذهبه الموسى فَقَالَ أَثَرُ الْمُوسَى قَبِيحٌ قَالَ فَجَعَلَتِ الشَّيَاطِينُ النُّورَةَ. قَالَ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُعِلَتْ لَهُ النُّورَةُ «1» ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيبة من أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ (قُلْتُ) : بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَلَعَلَّهُ مِنْ أَوْهَامِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَقْرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ أَنَّهَا مُتَلَقَّاةٌ عَنْ أهل الكتاب مما وجد فِي صُحُفِهِمْ كَرِوَايَاتِ كَعْبٍ وَوَهْبٍ سَامَحَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا نَقَلَاهُ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَوَابِدِ وَالْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ مِمَّا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ وَمِمَّا حُرِّفَ وَبُدِّلَ وَنُسِخَ. وَقَدْ أَغْنَانَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَنْفَعُ وَأَوْضَحُ وَأَبْلَغُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. أَصْلُ الصَّرْحِ فِي كلام العرب هو
__________
(1) انظر الدر المنثور 5/ 206، 207.(6/177)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
الْقَصْرُ وَكُلُّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ لِوَزِيرِهِ هَامَانَ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: 36- 37] الآية. وَالصَّرْحُ قَصْرٌ فِي الْيَمَنِ عَالِي الْبَنَّاءِ، وَالْمُمَرَّدُ المبنى بناء محكما أملس نْ قَوارِيرَ
أَيْ زُجَاجٍ، وَتَمْرِيدُ الْبِنَاءِ تَمْلِيسُهُ، وَمَارِدٌ: حِصْنٌ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّخَذَ قَصْرًا عَظِيمًا مَنِيفًا مِنْ زُجَاجٍ لِهَذِهِ الْمَلِكَةِ لِيُرِيَهَا عَظَمَةَ سُلْطَانِهِ وَتَمَكُّنِهِ، فَلَمَّا رأت ما آتاه الله وَجَلَالَةَ مَا هُوَ فِيهِ وَتَبَصَّرَتْ فِي أَمْرِهِ انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، وأسلمت لله عز وجل وقالت بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أَيْ بِمَا سَلَفَ مِنْ كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
أَيْ مُتَابَعَةً لِدِينِ سُلَيْمَانَ فِي عِبَادَتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تقديرا.
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ثَمُودَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَعَ نَبِيِّهَا صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ «1» كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 75- 76] قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أَيْ لِمَ تَدْعُونَ بِحُضُورِ الْعَذَابِ وَلَا تَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَتَهُ وَلِهَذَا قَالَ: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أَيْ مَا رَأَيْنَا عَلَى وَجْهِكَ وَوُجُوهِ مَنِ اتَّبَعَكَ خَيْرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لِشَقَائِهِمْ كَانَ لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنْهُمْ سُوءٌ إِلَّا قَالَ هَذَا مِنْ قِبَلِ صَالِحٍ وَأَصْحَابِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: تَشَاءَمُوا بِهِمْ وَهَذَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] الآية. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] أي بقضائه وقدره، وقال تعالى مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس: 18- 19] الآية، وَقَالَ هَؤُلَاءِ اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيِ اللَّهُ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ قَالَ قَتَادَةُ: تُبْتَلُونَ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: تُفْتَنُونَ أَيْ تُسْتَدْرَجُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضلال.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 531.(6/178)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
[سورة النمل (27) : الآيات 48 الى 53]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال وَالْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ صَالِحٍ، وَآلَ بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنَّهُمْ عَقَرُوا النَّاقَةَ وَهَمُّوا بِقَتْلِ صَالِحٍ أَيْضًا، بِأَنْ يُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ لَيْلًا فَيَقْتُلُوهُ غِيلَةً، ثُمَّ يَقُولُوا لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَقْرَبِيهِ: إِنَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَإِنَّهُمْ لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أَيْ مَدِينَةِ ثَمُودَ تِسْعَةُ رَهْطٍ أَيْ تِسْعَةُ نَفَرٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ وَإِنَّمَا غَلَبَ هَؤُلَاءِ على أمر ثمود، لأنهم كانوا كبراءهم وَرُؤَسَاءَهُمْ. قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ هم الذين عقروا الناقة «1» ، أي الذين صدر ذلك عن رأيهم وَمَشُورَتِهِمْ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَسْمَاءُ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةِ: دُعْمِيٌّ، وَدُعَيْمٌ، وهرما، وهريم، وداب،.
وصواب، ورئاب، وَمِسْطَعٌ، وَقَدَارُ بْنُ سَالِفٍ عَاقِرُ النَّاقَةِ، أَيِ الَّذِي بَاشَرَ ذَلِكَ بِيَدِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [الْقَمَرِ: 29] وَقَالَ تَعَالَى: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها [الشَّمْسِ: 12] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ رَبِيعَةَ الصَّنْعَانِيُّ، سَمِعْتُ عَطَاءً- هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ- يَقُولُ وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالَ: كَانُوا يَقْرِضُونَ الدَّرَاهِمَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْهَا وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا كَمَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَعَامَلُونَ. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَطْعُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ «2» . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَأْسٍ «3» . وَالْغَرَضُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ الْفَسَقَةَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُ ذلك.
وقوله تعالى: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ أَيْ تَحَالَفُوا وتابعوا عَلَى قَتْلِ نَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ لَقِيَهُ لَيْلًا غِيلَةً، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَ الدائرة عليهم، قال مجاهد: تقاسموا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 9/ 532.
(2) أخرجه مالك في البيوع حديث 37.
(3) أخرجه أبو داود في البيوع باب 48، وابن ماجة في التجارات باب 52، وأحمد في المسند 3/ 419.(6/179)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
وَتَحَالَفُوا عَلَى هَلَاكِهِ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ حَتَّى هلكوا وقومهم أجمعين، وقال قتادة: تواثقوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوهُ لَيْلًا فَيَقْتُلُوهُ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ مَعَانِيقُ إِلَى صَالِحٍ لِيَفْتِكُوا بِهِ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَخْرَةً فَأَهْمَدَتْهُمْ، قال الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ عَقَرُوا الناقة، قالوا حين عقروها:
لنبيتن صالحا وأهله فَنَقْتُلُهُمْ ثُمَّ نَقُولُ لِأَوْلِيَاءِ صَالِحٍ: مَا شَهِدْنَا مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَمَا لَنَا بِهِ مِنْ عِلْمٍ فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق: قال هؤلاء التسعة بعد ما عَقَرُوا النَّاقَةَ: هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنَّا قَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ، فَأَتَوْهُ لَيْلًا لِيُبَيِّتُوهُ فِي أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطئوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَتَوْا مَنْزِلَ صَالِحٍ، فَوَجَدُوهُمْ مُنْشَدِخِينَ قَدْ رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ، فَقَالُوا لِصَالِحٍ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ، ثُمَّ هَمُّوا بِهِ فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ، وَلَبِسُوا السِّلَاحَ وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا وَقَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا تَزِيدُوا رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَمَّا عقروا الناقة قال لَهُمْ صَالِحٌ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ قَالُوا: زَعَمَ صَالِحٌ أَنَّهُ يُفْرُغُ مِنَّا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَنَحْنُ نَفْرُغُ مِنْهُ وَأَهْلِهِ قَبْلَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ لِصَالِحٍ مَسْجِدٌ فِي الْحِجْرِ عِنْدَ شِعْبٍ هُنَاكَ يُصَلِّي فِيهِ، فَخَرَجُوا إِلَى كَهْفٍ، أَيْ غَارٍ هُنَاكَ لَيْلًا فَقَالُوا: إِذَا جَاءَ يُصَلِّي قَتَلْنَاهُ ثُمَّ رَجَعْنَا إِذَا فَرَغْنَا مِنْهُ إلى أهله ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صَخْرَةً مِنَ الْهَضَبِ حِيَالَهُمْ فَخَشُوا أَنْ تَشْدَخَهُمْ فَتَبَادَرُوا، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغَارِ، فَلَا يَدْرِي قَوْمُهُمْ أَيْنَ هُمْ، وَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِقَوْمِهِمْ، فَعَذَّبَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ هَاهُنَا، وَهَؤُلَاءِ هَاهُنَا، وَأَنْجَى اللَّهُ صَالِحًا وَمَنْ مَعَهُ ثُمَّ قَرَأَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أَيْ فَارِغَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ.
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ ورسوله لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمُ الْفَاحِشَةَ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ إِتْيَانُ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَذَلِكَ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء فقال: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَيْ(6/180)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
يَرَى بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أَيْ لَا تَعْرِفُونَ شَيْئًا لَا طَبْعًا وَلَا شَرْعًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشُّعَرَاءِ:
165- 166] .
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أَيْ يَتَحَرَّجُونَ من فعل ما تفعلون، وَمِنْ إِقْرَارِكُمْ عَلَى صَنِيعِكُمْ فَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِمُجَاوَرَتِكُمْ فِي بِلَادِكُمْ فَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ، فَدَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ مَعَ قَوْمِهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ رِدْءًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فِي رِضَاهَا بِأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى ضِيفَانِ لُوطٍ لِيَأْتُوا إِلَيْهِمْ، لَا أَنَّهَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْفَوَاحِشَ تَكْرِمَةً لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كرامة لها. وقوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أَيْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ وَلِهَذَا قَالَ: فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أَيِ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ فَخَالَفُوا الرَّسُولَ وَكَذَّبُوهُ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بينهم.
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 60]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ عَلَى نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَعَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَهُمْ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْكِرَامُ، عَلَيْهِمْ من الله أفضل الصلاة والسلام، وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، هُمُ الأنبياء، قال: وهو كقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: 180- 182] .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا، وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فَالْأَنْبِيَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَالْقَصْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ وَمَنِ اتبعه بعد ذكره لَهُمْ مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ مِنَ النَّجَاةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَمَا أَحَلَّ بِأَعْدَائِهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْقَهْرِ، أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ صُبَيْحٍ، حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ عَنِ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى(6/181)
قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وقوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ غيره، فقال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ أي خلق تلك السموات في ارتفاعها وَصَفَائِهَا. وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة. وخلق الأرض في استفالها وكثافتها وما جعل فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار، والفيافي والقفار، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، وَالْحَيَوَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِ ذلك.
وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ جَعَلَهُ رِزْقًا لِلْعِبَادِ فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ أَيْ بَسَاتِينَ ذاتَ بَهْجَةٍ أَيْ مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَشَكْلٍ بَهِيٍّ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَيْ لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها. وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُسْتَقِلُّ بِذَلِكَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: 87] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 63] أَيْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ هُمْ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّا يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ، مَنْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلِهَذَا قال تعالى:
أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أَيْ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ يُعْبَدُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ وَلِكُلِّ ذِي لُبٍّ مما يعترفون بِهِ أَيْضًا أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ ثَمَّ أَحَدٌ فَعَلَ هَذَا مَعَهُ بَلْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ فَيُقَالُ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] الآية. وقوله تعالى هاهنا: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَمَّنْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا تَقْدِيرُهُ أَمَّنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ هَذَا مَعْنَى السِّيَاقِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الْآخَرُ لِأَنَّ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ مَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ آللَّهُ تعالى:
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ.
ثُمَّ قَالَ فِي الآية الأخرى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَيْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عدلا ونظيرا. وهكذا قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 9] أَيْ أَمَّنْ هُوَ هَكَذَا كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزُّمَرِ: 9] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزُّمَرِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى:
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْدِ: 33] أَيْ أَمَنْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى أفعال الخلق(6/182)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ جَلِيلَهُ وَحَقِيرَهُ كَمَنْ هُوَ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ من هذه الأصنام التي عبدوها من دون الله؟ وَلِهَذَا قَالَ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها.
[سورة النمل (27) : آية 61]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
يَقُولُ تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مِهَادًا بِسَاطًا ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ ولا تتحرك كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً [غَافِرٍ: 64] وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أَيْ جَعَلَ فِيهَا الْأَنْهَارَ الْعَذْبَةَ الطَّيِّبَةَ شقها فِي خِلَالِهَا وَصَرَّفَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ أَنْهَارٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا بِحَسَبِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي أَقَالِيمِهِمْ وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض وسير لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أَيْ جِبَالًا شَامِخَةً تُرْسِي الْأَرْضَ وتثبتها لئلا تميد بهم وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَيْ جَعَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ وَالْمَالِحَةِ حَاجِزًا، أَيْ مَانِعًا يَمْنَعُهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ لِئَلَّا يَفْسُدَ هَذَا بِهَذَا، وَهَذَا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقضاء كل منها عَلَى صِفَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَحْرَ الْحُلْوَ هُوَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَذْبَةً زُلَالًا يُسْقَى الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَالثِّمَارُ مِنْهَا.
وَالْبِحَارُ الْمَالِحَةُ هِيَ الْمُحِيطَةُ بِالْأَرْجَاءِ وَالْأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا مِلْحًا أُجَاجًا لِئَلَّا يَفْسُدَ الْهَوَاءُ بِرِيحِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: 53] ولهذا قال تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أَيْ فَعَلَ هَذَا، أَوْ يُعْبَدُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ؟. وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ صَحِيحٌ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فِي عبادتهم غيره.
[سورة النمل (27) : آية 62]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62)
يُنَبِّهُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمَدْعُوُّ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، الْمَرْجُوُّ عِنْدَ النَّوَازِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: 67] وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النَّحْلِ: 53] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ أَيْ مَنْ هُوَ الَّذِي لَا يَلْجَأُ الْمُضْطَرُّ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالَّذِي لَا يَكْشِفُ ضر المضرورين سواه.(6/183)
قال الإمام أحمد «1» : أنبأنا عفان: أنبأنا وهيب، أنبأنا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْهُجَيْمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَامَ تَدْعُو؟ قَالَ: «أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ، وَالَّذِي إِنْ أَضْلَلْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ فَدَعَوْتَهُ رَدَّ عَلَيْكَ، وَالَّذِي إِنْ أَصَابَتْكَ سَنَةٌ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَ لَكَ» قَالَ: قُلْتُ أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا وَلَا تَزْهَدَنَّ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهَكَ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَاتَّزِرْ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ» .
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَذَكَرَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ الْهُجَيْمِيُّ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةً الْهُجَيْمِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا على قدميه فقلت: أيكم محمد رَسُولُ اللَّهِ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَفْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وفيّ جفاؤهم فأوصني، قال: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ، فَلَا تَشْتِمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ أَجْرُهُ وَعَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَلَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا» قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ أَحَدًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا «3» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقًا وَعِنْدَهُمَا طَرَفٌ صَالِحٌ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ نُوحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ طَاوُسٌ يَعُودُنِي فَقُلْتُ لَهُ: ادْعُ اللَّهَ لِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: ادْعُ لِنَفْسِكَ فَإِنَّهُ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي الْكِتَابِ الأول أن الله تعالى يَقُولُ: بِعِزَّتِي إِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِي فَإِنْ كادته السموات بمن فيهن، والأرض بمن فيهن، فَإِنِّي أَجْعَلُ لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجًا وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِي فَإِنِّي أَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الْأَرْضَ فَأَجْعَلُهُ فِي الْهَوَاءِ فَأَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ رَجُلٍ حَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بالدُّقِّيِّ الصُّوفِيُّ قَالَ هَذَا الرَّجُلُ: كُنْتُ أُكَارِي عَلَى بَغْلٍ لِي مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَلَدِ الزَّبَدَانِيِّ فَرَكِبَ مَعِي ذَاتَ مَرَّةٍ رَجُلٌ فَمَرَرْنَا عَلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكَةٍ فَقَالَ لِي: خُذْ فِي هَذِهِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ، فَقُلْتُ: لَا خِبْرَةَ لِي فِيهَا، فَقَالَ: بَلْ هِيَ أَقْرَبُ، فسلكناها فانتهينا إلى مكان
__________
(1) المسند 5/ 64.
(2) المسند 5/ 63، 64.
(3) أخرجه أبو داود في اللباس باب 19.(6/184)
وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فَقَالَ لِي: أَمْسِكْ رَأْسَ الْبَغْلِ حَتَّى أَنْزِلَ، فَنَزَلَ وَتَشَمَّرَ وَجَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَسَلَّ سِكِّينًا مَعَهُ وَقَصَدَنِي، فَفَرَرْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَتَبِعَنِي، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ وَقُلْتُ: خُذِ الْبَغْلَ بِمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ هُوَ لِي: وَإِنَّمَا أُرِيدُ قَتْلَكَ، فَخَوَّفْتُهُ اللَّهَ وَالْعُقُوبَةَ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَاسْتَسْلَمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْتُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتْرُكَنِي حَتَّى أُصَلِّيَ ركعتين فقال: عجل، فَقُمْتُ أُصَلِّي فَأُرْتِجَ عَلَيَّ الْقُرْآنُ فَلَمْ يَحْضُرْنِي مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ، فَبَقِيتُ وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا وَهُوَ يَقُولُ: هِيهِ افْرُغْ، فَأَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِي قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ فَمِ الْوَادِي وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ فَرَمَى بِهَا الرَّجُلَ فَمَا أَخْطَأَتْ فُؤَادَهُ فَخَرَّ صَرِيعًا، فَتَعَلَّقْتُ بِالْفَارِسِ وَقُلْتُ: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا رسول الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ. قَالَ:
فَأَخَذْتُ الْبَغْلَ وَالْحَمْلَ وَرَجَعْتُ سَالِمًا.
وَذُكِرَ فِي تَرْجَمَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحَسَنِ أَمِّ أَحْمَدَ العجيلة قالت: هزم الكفار يوما المسلمين في غزوة فَوَقَفَ جَوَادٌ جَيِّدٌ بِصَاحِبِهِ وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ وَمِنَ الصُّلَحَاءِ، فَقَالَ لِلْجَوَادِ: مَا لَكَ؟
وَيْلَكَ إِنَّمَا كُنْتُ أَعُدُّكَ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَقَالَ لَهُ الْجَوَادُ: وَمَا لِيَ لَا أُقَصِّرُ وأنت تكل العلوفة إِلَى السُّوَّاسِ فَيَظْلِمُونَنِي وَلَا يُطْعِمُونَنِي إِلَّا الْقَلِيلَ؟ فقال: لك علي عهد الله أن لَا أَعْلُفُكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَّا فِي حِجْرِي، فَجَرَى الْجَوَادُ عِنْدَ ذَلِكَ وَنَجَّى صَاحِبَهُ وَكَانَ لَا يَعْلِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي حِجْرِهِ.
وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَجَعَلُوا يَقْصِدُونَهُ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَبَلَغَ مَلِكَ الرُّومِ أَمْرُهُ، فَقَالَ:
مَا تُضَامُ بَلْدَةٌ يَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ فِيهَا، وَاحْتَالَ لِيُحَصِّلَهُ فِي بَلَدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلًا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ أَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَوْمِهِ حَتَّى اسْتَوْثَقَ، ثُمَّ خَرَجَا يَوْمًا يَمْشِيَانِ عَلَى جَنْبِ السَّاحِلِ، وَقَدْ وَاعَدَ شَخْصًا آخَرَ مِنْ جِهَةِ مَلِكِ الرُّومِ لِيَتَسَاعَدَا عَلَى أَسْرِهِ، فَلَمَّا اكْتَنَفَاهُ لِيَأْخُذَاهُ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا خَدَعَنِي بِكَ فاكفنيهما بما شئت. قال: فخرج سبعان فَأَخَذَاهُمَا وَرَجَعَ الرَّجُلُ سَالِمًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ يُخْلِفُ قَرْنًا لِقَرْنٍ قَبْلَهُمْ وَخَلَفًا لِسَلَفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [الْأَنْعَامِ: 133] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الْأَنْعَامِ: 165] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] أَيْ قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ، وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وَلَوْ شَاءَ لَأَوْجَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، بَلْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، وَلَكِنْ لَا يُمِيتُ أَحَدًا حَتَّى تَكُونَ وَفَاةُ الْجَمِيعِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَانَتْ تَضِيقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ، وَتَضِيقُ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ وأكسابهم،(6/185)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
وَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يُكْثِرَهُمْ غَايَةَ الْكَثْرَةِ، وَيَذْرَأَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلَهُمْ قُرُونًا بَعْدَ قُرُونٍ، وَأُمَمًا بَعْدَ أُمَمٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَتَفْرُغَ الْبَرِيَّةُ، كَمَا قَدَّرَ ذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَمَا أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، ثُمَّ يُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ يَقْدِرُ عَلَى ذلك أو أإله مَعَ اللَّهِ يُعْبَدُ؟
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له؟ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَيْ مَا أَقَلَّ تَذَكُّرَهُمْ فِيمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ المستقيم.
[سورة النمل (27) : آية 63]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
يَقُولُ تَعَالَى: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ بِمَا خَلَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ كَمَا قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النَّحْلِ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 97] الآية وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَيْ بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ الَّذِي فِيهِ مَطَرٌ يغيث الله بِهِ عِبَادَهُ الْمُجْدِبِينَ الْأَزِلِينَ الْقَنِطِينَ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
[سورة النمل (27) : آية 64]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
أَيْ هُوَ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [بروج: 12] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ بِمَا يُنْزِلُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ وَيُنْبِتُ مِنْ بَرَكَاتِ الأرض كما قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها [الْحَدِيدِ: 4] فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنَزِّلُ مِنَ السماء ماء مباركا فيسلكه ينابيع فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ مِنْهَا أَنْوَاعَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَزَاهِيرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه: 54] ولهذا قال تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ فَعَلَ هَذَا وَعَلَى القول الآخر بعد هذا قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم ولا برهان كما قال تعالى:
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117] .(6/186)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
[سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 66]
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مُعَلِّمًا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ والأرض الغيب إلا الله. وقوله تعالى: إِلَّا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] الآية، وقال تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] إلى آخر السورة، والآيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أَيْ وَمَا يَشْعُرُ الْخَلَائِقُ السَّاكِنُونَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ كما قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَافِ: 187] أَيْ ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ- يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَإِنَّ أناسا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً، مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْقَصِيرُ وَالطَّوِيلُ وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الغيب، وقضى الله تعالى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. رواه ابن أبي حاتم بِحُرُوفِهِ وَهُوَ كَلَامٌ جَلِيلٌ مَتِينٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أَيِ انْتَهَى عِلْمُهُمْ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِهَا، وَقَرَأَ آخَرُونَ بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ أَيْ تَسَاوَى عِلْمُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» «1» أَيْ تَسَاوَى فِي الْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ ذَلِكَ عِلْمُ الْمَسْؤُولِ وَالسَّائِلِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ غَابَ «2» ، وَقَالَ قتادة بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، وتفسير سورة 31، باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 1، 5، 7، وأبو داود في السنة باب 16، والترمذي في الإيمان باب 4، والنسائي في الإيمان باب 5، 6، وابن ماجة في المقدمة باب 9، والفتن باب 25، وأحمد في المسند 2/ 426. [.....]
(2) انظر تفسير الطبري 10/ 8.(6/187)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
يعني بجهلهم بربهم، يقول لم ينفذ لهم علم في الآخرة، هَذَا قَوْلٌ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ حِينَ لَمْ يَنْفَعِ الْعِلْمُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالسُّدِّيُّ أَنَّ عِلْمَهُمْ إِنَّمَا يُدْرِكُ وَيَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مَرْيَمَ:
38] وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ قَالَ:
اضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ عاينوا الآخرة.
وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها عَائِدٌ عَلَى الجنس، والمراد الكافرون، كما قال تعالى: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
[الْكَهْفِ: 48] أَيِ الْكَافِرُونَ مِنْكُمْ. وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أَيْ شَاكُّونَ فِي وُجُودِهَا وَوُقُوعِهَا بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أَيْ فِي عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبِيرٍ فِي أمرها وشأنها.
[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 70]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا إِعَادَةَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا عِظَامًا وَرُفَاتًا وَتُرَابًا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أَيْ مَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا وَلَا نَرَى لَهُ حَقِيقَةً وَلَا وُقُوعًا، وَقَوْلُهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يَعْنُونَ مَا هَذَا الْوَعْدُ بِإِعَادَةِ الْأَبْدَانِ إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ أَخَذَهُ قَوْمٌ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ من كتب يَتَلَقَّاهُ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَمَّا ظَنُّوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْمَعَادِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي المكذبين بالرسل وبما جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ كَيْفَ حلت بهم نقمة اللَّهِ وَعَذَابُهُ وَنَكَالُهُ وَنَجَّى اللَّهُ مِنْ بَيْنِهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وصحته، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَلَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ وَتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أَيْ فِي كَيْدِكَ، وَرَدِّ مَا جِئْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكَ وَنَاصِرُكَ وَمُظْهِرٌ دِينَكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَعَانَدَهُ في المشارق والمغارب.
[سورة النمل (27) : الآيات 71 الى 75]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)(6/188)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ وُقُوعَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قَالَ الله تعالى مُجِيبًا لَهُمْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ يَكُونَ قَرُبَ أَوْ أَنْ يُقَرَّبَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاءِ: 51] وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 54] وَإِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: رَدِفَ لَكُمْ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى عَجِلَ لَكُمْ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ عَجِلَ لَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أَيْ فِي إِسْبَاغِهِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أَيْ يعلم الضمائر والسرائر كَمَا يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ، سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرَّعْدِ: 10] يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طَهَ: 7] أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [هُودٍ: 5] ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ العباد وما شاهدوه، فقال تعالى: وَما مِنْ غائِبَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي وَمَا مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهذه كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الْحَجِّ: 70] .
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَمَا اشتمل عليه من الهدى والبيان وَالْفُرْقَانِ إِنَّهُ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي عِيسَى وَتَبَايُنِهِمْ فِيهِ فَالْيَهُودُ افتروا والنصارى غلوا فجاء الْقُرْآنُ بِالْقَوْلِ الْوَسَطِ الْحَقِّ الْعَدْلِ أَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْكِرَامِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مَرْيَمَ: 34] ، وَقَوْلُهُ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي هدى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم في العمليات.
ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ أي فِي انْتِقَامِهِ الْعَلِيمُ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي في جميع أُمُورِكَ وَبَلِّغْ رِسَالَةَ(6/189)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
رَبِّكَ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أَيْ أَنْتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِنْ خَالَفَكَ مَنْ خَالَفَكَ مِمَّنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ وَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آية، ولهذا قال تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى أَيْ لَا تُسْمِعُهُمْ شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةٌ وفي آذانهم وقر الكفر، ولهذا قال تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، السَّمْعُ وَالْبَصَرُ النَّافِعُ فِي الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ، الْخَاضِعُ لِلَّهِ وَلِمَا جَاءَ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرسل عليهم السلام.
[سورة النمل (27) : آية 82]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (82)
هَذِهِ الدَّابَّةُ تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ وَتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَتَبْدِيلِهِمُ الدِّينَ الْحَقَّ، يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ، قِيلَ: مِنْ مَكَّةَ، وَقِيلَ: مِنْ غيرها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى فَتُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والحسن وقتادة ويروى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
تُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا، أَيْ تُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةً، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: تُكَلِّمُهُمْ فَتَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: تجرحهم، وعنه رواية قال: كلّا تفعل هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ وَلَا مُنَافَاةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الدَّابَّةِ أحاديث وآثار كثيرة فلنذكر منها ما تيسر وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ فُرَاتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غُرْفَةٍ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ أَمْرَ السَّاعَةَ، فَقَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ وَالدَّابَّةُ! وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مريم عليه السلام، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ أَوْ تَحْشُرُ النَّاسَ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا» «3» وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْهُ مرفوعا، فالله أَعْلَمُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو وَجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، فأما طلحة
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 16.
(2) المسند 4/ 6، 7.
(3) أخرجه مسلم في الفتن حديث 39، 40، وأبو داود في الملاحم باب 12، والترمذي في الفتن باب 21، وابن ماجة في الفتن باب 28.(6/190)
فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ اللِّيثِيُّ: أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ حَدَّثَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ أَبِي سَرِيحَةَ، وَأَمَّا جَرِيرٌ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَحَدِيثُ طَلْحَةَ أَتَمُّ وَأَحْسَنُ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: «لَهَا ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ: فَتَخْرُجُ خَرْجَةً مِنْ أَقْصَى الْبَادِيَةِ، وَلَا يَدْخُلُ ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تكمن زمنا طَوِيلًا، ثُمَّ تَخْرُجُ خَرْجةً أُخْرَى دُونَ تِلْكَ، فَيَعْلُو ذِكْرُهَا فِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَيَدْخُلُ ذِكْرُهَا الْقَرْيَةَ» يَعْنِي مَكَّةَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ عَلَى اللَّهِ حُرْمَةً وَأَكْرَمِهَا الْمَسْجِدِ الحرام، لم يرعهم إلا وهي تدنو بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، تَنْفُضُ عَنْ رَأْسِهَا التُّرَابَ، فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا شَتَّى وَمَعًا، وَبَقِيَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللَّهَ، فَبَدَأَتْ بِهِمْ فَجَلَتْ وُجُوهَهُمْ حَتَّى جَعَلَتْهَا كَأَنَّهَا الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، وَوَلَّتْ فِي الْأَرْضِ لَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا هَارِبٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَعَوَّذُ مِنْهَا بِالصَّلَاةِ فَتَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يَا فُلَانُ الْآنَ تُصَلِّي، فَيُقْبِلُ عَلَيْهَا فَتَسِمُهُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ تَنْطَلِقُ وَيَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي الْأَمْوَالِ وَيَصْطَحِبُونَ فِي الْأَمْصَارِ، يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَقُولُ: يَا كَافِرُ اقْضِنِي حَقِّي، وَحَتَّى إِنَّ الْكَافِرَ لَيَقُولُ: يَا مُؤْمِنُ اقْضِنِي حَقِّي» وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مَوْقُوفًا، والله أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ لَا يَصِحُّ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنْ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيَّتُهُمَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] رَوَى مُسْلِمٌ «3» فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلَى الْحُرَقَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستا، طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة» تفرد به، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ زِيَادِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ العامة، وخويصة أحدكم» «4» .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 15، 16.
(2) كتاب الفتن حديث 39، 40.
(3) كتاب الفتن حديث 118.
(4) أخرجه مسلم في الفتن حديث 128.(6/191)
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ مَاجَةَ «1» : حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وابن لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وَالدَّجَّالَ، وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ» تَفَرَّدَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سلمة عن علي بن زيد عَنْ أَوْسِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْعَصَا، وَتُجْلِي وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْخَاتَمِ، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الْخُوَانِ يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» عَنْ بَهْزٍ وَعَفَّانَ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ حماد بن سلمة بن، وَقَالَ: «فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، وَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخُوَانِ الْوَاحِدِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ: هَذَا يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ: هَذَا يَا كَافِرُ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «3» عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدَّبِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ مَاجَهْ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو غسان محمد بن عمرو، حدثنا أبو نميلة، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَهَبَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مَوْضِعٍ بِالْبَادِيَةِ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، فَإِذَا أَرْضٌ يَابِسَةٌ حَوْلَهَا رَمْلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ» فَإِذَا فِتْرٌ فِي شِبْرٍ، قَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ: فَحَجَجْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ فَأَرَانَا عَصًا لَهُ، فَإِذَا هُوَ بِعَصَايَ هَذِهِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ دَابَّةٌ ذَاتُ زَغَبٍ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ تَخْرُجُ مِنْ بَعْضِ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ صِدْعٍ مِنَ الصَّفَا، كَجَرْيِ الْفَرَسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَخْرُجْ ثُلُثُهَا، وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ الدَّابَّةِ فَقَالَ:
الدَّابَّةُ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ صَخْرَةٍ بِجِيَادٍ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ مَعَهُمْ أَوْ لَوْ شِئْتُ بِعَصَايَ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ تَحْتِهَا. قِيلَ: فَتَصْنَعُ مَاذَا يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، فقال: تَسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقَ فَتَصْرُخُ صَرْخَةً تُنْفِذُهُ، ثُمَّ تَسْتَقْبِلُ الشَّامَ فَتَصْرُخُ صَرْخَةً تُنْفِذُهُ، ثُمَّ تَسْتَقْبِلُ الْمَغْرِبَ فَتَصْرُخُ صَرْخَةً تُنْفِذُهُ، ثُمَّ تَرُوحُ مِنْ مَكَّةَ فَتُصْبِحُ بِعُسْفَانَ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ لَا أَعْلَمُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال: تخرج الدابة ليلة جمع. رواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ الْبَيْلَمَانِ.
__________
(1) كتاب الفتن باب 25.
(2) المسند 2/ 259، 491.
(3) كتاب الفتن باب 28.
(4) كتاب الفتن باب 28.(6/192)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُ حَكَى مِنْ كلام عزيز عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَتَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَدُومَ دَابَّةٌ تُكَلِّمُ النَّاسَ كُلٌّ يَسْمَعُهَا، وَتَضَعُ الْحَبَالَى قَبْلَ التَّمَامِ، وَيَعُودُ الْمَاءُ الْعَذْبُ أُجَاجًا، وَيَتَعَادَى الْأَخِلَّاءُ وَتُحْرَقُ الْحِكْمَةُ، وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ، وَتُكَلِّمُ الْأَرْضُ الَّتِي تَلِيهَا، وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَرْجُو النَّاسُ مَا لَا يَبْلُغُونَ، وَيَتْعَبُونَ فِيمَا لَا يَنَالُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيمَا لَا يَأْكُلُونَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتَبِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنَّ الدَّابَّةَ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، مَا بَيْنَ قَرْنَيْهَا فَرْسَخٌ لِلرَّاكِبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مِثْلُ الْحَرْبَةِ الضَّخْمَةِ، وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا دَابَّةٌ لَهَا رِيشٌ، وَزَغَبٌ، وَحَافِرٌ، وَمَا لَهَا ذَنَبٌ، وَلَهَا لِحْيَةٌ، وَإِنَّهَا لَتُخْرِجُ حُضْرَ الْفَرَسِ الْجَوَادِ ثَلَاثًا، وَمَا خرج ثلثها، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: رَأْسُهَا رَأْسُ ثَوْرِ، وَعَيْنُهَا عَيْنُ خِنْزِيرٍ وَأُذُنُهَا أُذُنُ فِيلٍ، وَقَرْنُهَا قَرْنُ أُيَّلٍ، وَعُنُقُهَا عُنُقُ نَعَامَةٍ، وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدٍ، وَلَوْنُهَا لَوْنُ نَمِرٍ، وَخَاصِرَتُهَا خَاصِرَةُ هِرٍّ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ كَبْشٍ، وَقَوَائِمُهَا قَوَائِمُ بَعِيرٍ، بَيْنَ كُلِّ مَفْصَلَيْنِ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا، تَخْرُجُ مَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا نَكَتَتْ فِي وَجْهِهِ بِعَصَا مُوسَى نُكْتَةً بَيْضَاءَ، فَتَفْشُو تِلْكَ النُّكْتَةُ حَتَّى يَبْيَضَّ لَهَا وَجْهُهُ، وَلَا يَبْقَى كَافِرٌ إِلَّا نَكَتَتْ فِي وَجْهِهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، فتفشوا تلك النكتة السوداء حتى يسود بها وَجْهُهُ، حَتَّى إِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بِكَمْ ذَا يَا مُؤْمِنُ، بِكَمْ ذَا يَا كَافِرُ؟ وَحَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يَجْلِسُونَ عَلَى مَائِدَتِهِمْ فَيَعْرِفُونَ مُؤْمِنَهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْ، ثُمَّ تَقُولُ لَهُمُ الدَّابَّةُ: يَا فُلَانُ أَبْشِرْ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَا فُلَانُ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ.
[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 86]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن يوم القيامة وحشر الظالمين من الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَتَحْقِيرًا فَقَالَ تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أَيْ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ وَقَرْنٍ فَوْجًا أَيْ جَمَاعَةً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا كَمَا قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: 7] وقوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: يدفعون «1» . وقال قتادة: وزعة يرد أولهم على آخرهم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 17.(6/193)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يساقون حَتَّى إِذا جاؤُ ووقفوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَقَامِ الْمُسَاءَلَةِ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي فيسألون عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ! فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أهل السعادة وكانوا كما قال الله عَنْهُمْ:
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَحِينَئِذٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عذر يعتذرون به، كما قال الله تَعَالَى هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35- 37] الآية، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ أَيْ بُهِتُوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ظَلَمَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ رُدُّوا إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وَشَأْنِهِ الرَّفِيعِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لِأَوَامِرِهِ وَتَصْدِيقِ أَنْبِيَائِهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، فَقَالَ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وَتَهْدَأُ أَنْفَاسُهُمْ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ نَصَبِ التَّعَبِ فِي نَهَارِهِمْ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أَيْ مُنِيرًا مُشْرِقًا، فَبِسَبَبِ ذلك يتصرفون في المعاش والمكاسب والأسفار والتجارات وغير ذلك من شؤونهم الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَوْلِ يَوْمِ نَفْخَةِ الْفَزَعِ فِي الصُّورِ، وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ» «1» . وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَوَّلًا نَفْخَةَ الْفَزَعِ وَيُطَوِّلُهَا وَذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرَارِ النَّاسِ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَيَفْزَعُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ، فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ «2» : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، سَمِعْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تحدث أن الساعة
__________
(1) أخرجه الترمذي في القيامة باب 8، وتفسير سورة 39، باب 8، والدارمي في الرقاق باب 79، وأحمد في المسند 2/ 162، 192. [.....]
(2) كتاب الفتن حديث 116.(6/194)
تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ كَلِمَةً نحوهما، لقد هممت أن لا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا، إِنَّمَا قُلْتُ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا يُخَرِّبُ الْبَيْتُ وَيَكُونُ وَيَكُونُ- ثُمَّ قَالَ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ- لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا- فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ» .
قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ:
فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا- قَالَ- وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ، قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ- أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ- مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ- أَوْ قَالَ: الظِّلُّ، نُعْمَانُ الشَّاكُّ، فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون، ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فَيُقَالُ:
كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شَيْبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ» .
وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. اللِّيتُ هُوَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ، أَيْ أَمَالَ عُنُقَهُ لِيَسْتَمِعَهُ مِنَ السَّمَاءِ جَيِّدًا، فَهَذِهِ نَفْخَةُ الْفَزَعِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ وَهُوَ الْمَوْتُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ النُّشُورُ من القبور لجميع الخلائق، ولهذا قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ قُرِئَ بِالْمَدِّ وَبِغَيْرِهِ عَلَى الفعل، وكل بمعنى واحد، وداخرين أَيْ صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنْ أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 52] وقال تعالى: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرُّومِ: 25] .
وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ أَنَّهُ فِي النَّفْخَةِ الثَّالِثَةِ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ فَتُوضَعُ فِي ثُقْبٍ فِي الصُّورِ، ثُمَّ يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ فيه بعد ما تَنْبُتُ الْأَجْسَادُ فِي قُبُورِهَا وَأَمَاكِنِهَا، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ طَارَتِ الْأَرْوَاحُ تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلْمَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا. فَتَجِيءُ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا فَتَدِبُّ فِيهَا كَمَا يَدِبُّ السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ، ثُمَّ يَقُومُونَ ينفضون التراب من قبورهم، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] .
وقوله تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أَيْ تَرَاهَا كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ(6/195)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ أَيْ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً [الطور: 9- 10] قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طَهَ: 105- 107] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف: 47] وقوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ يفعل ذلك بقدرته العظيمة الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي أَتْقَنَ كُلَّ مَا خَلَقَ، وَأَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا أَوْدَعَ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُ عِبَادُهُ مِنْ خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قَالَ قَتَادَةُ: بِالْإِخْلَاصِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ: هِيَ لا إله إلا الله، وقد بين تعالى في الموضع الْآخَرِ أَنَّ لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَقَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ [فُصِّلَتْ: 40] وَقَالَ تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37] وقوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أَيْ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُسِيئًا لَا حَسَنَةَ لَهُ، أَوْ قَدْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ كل بحسبه، ولهذا قال تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَقَالَ ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو وَائِلٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالزُّهْرِيُّ والسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعني بالشرك.
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ وَآمِرًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
[يُونُسَ: 104] وَإِضَافَةُ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَى الْبَلْدَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ لَهَا وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3- 4] ، وقوله تعالى: الَّذِي حَرَّمَها أَيِ الَّذِي إِنَّمَا صَارَتْ حَرَامًا شرعا وقدرا بِتَحْرِيمِهِ لَهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا(6/196)
وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا» «1» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ طُرُقِ جَمَاعَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ من كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، أَيْ هُوَ رَبُّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ورب كل شيء ومليكه لا إله إلا هو وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أَيْ عَلَى النَّاسِ أُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 58] وكقوله تعالى:
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ [القصص: 3] الآية، أَيْ أَنَا مُبَلِّغٌ وَمُنْذِرٌ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي لي أسوة بالرسل الَّذِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ، وَقَامُوا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، وَخَلَصُوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ وَحِسَابُ أممهم على الله تعالى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: 40] وَقَالَ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هُودٍ: 12] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها أَيِ لِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عليه، والإنذار إليه، ولهذا قال تعالى:
سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] .
وقوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُمَرَ الْحَوْضِيِّ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدُكُمْ بِاللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ كَانَ غَافِلًا شَيْئًا لَأَغْفَلَ الْبَعُوضَةَ وَالْخَرْدَلَةَ وَالذَّرَّةَ» وقال أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَبِي أَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ مَطَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُغْفِلًا شَيْئًا لَأَغْفَلَ مَا تُعَفِّي الرِّيَاحُ مِنْ أَثَرِ قَدَمَيِ ابْنِ آدَمَ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ إِمَّا لَهُ وإما لِغَيْرِهِ:
إِذَا مَا خَلَوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عليه يغيب
آخر تفسير سورة النمل ولله الحمد والمنة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب 77، ومسلم في الحج حديث 445، 447، 464، وأبو داود في المناسك باب 89، 95، والنسائي في الحج باب 110، وأحمد في المسند 1/ 253، 259، 315، 316.(6/197)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
سورة القصص
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أبهى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْنَا طسم الْمِائَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هِيَ مَعِي، وَلَكِنْ عليكم بمن أَخَذَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ، قَالَ: فَأَتَيْنَا خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ (6)
فقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَقَوْلُهُ: تِلْكَ أَيْ هَذِهِ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أَيْ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْكَاشِفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَعِلْمِ مَا قد كان وما هو كائن. وقوله: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ الآية، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] أَيْ نَذْكُرُ لَكَ الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ كَأَنَّكَ تُشَاهِدُ وَكَأَنَّكَ حَاضِرٌ، ثم قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أَيْ تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَطَغَى وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أَيْ أَصْنَافًا قَدْ صَرَّفَ كُلَّ صِنْفٍ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ أمور دولته.
وقوله تعالى: يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خِيَارَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، هَذَا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العتيد يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَخَسِّ الْأَعْمَالِ، وَيُكِدُّهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي أَشْغَالِهِ وَأَشْغَالِ رَعِيَّتِهِ، وَيَقْتُلُ مَعَ هَذَا أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِهَانَةً.
لَهُمْ وَاحْتِقَارًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمُ الْغُلَامُ الَّذِي كَانَ قد تخوف هو وأهل مملكته منه أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ غُلَامٌ، يَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِ وَذَهَابُ دَوْلَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ. وَكَانَتِ الْقِبْطُ قَدْ تَلَقَّوْا هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا كَانُوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام، حين ورد الديار
__________
(1) المسند 1/ 419.(6/198)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
الْمِصْرِيَّةَ، وَجَرَى لَهُ مَعَ جَبَّارِهَا مَا جَرَى حِينَ أَخَذَ سَارَّةَ لِيَتَّخِذَهَا جَارِيَةً، فَصَانَهَا اللَّهُ مِنْهُ وَمَنَعَهُ مِنْهَا بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَهُ أَنَّهُ سَيُولَدُ مِنْ صُلْبِهِ وَذَرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ هَلَاكُ مَلِكِ مِصْرَ عَلَى يديه.
فكانت القبط تحدث بِهَذَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ، فَاحْتَرَزَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، لِأَنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ- إلى قوله- يَحْذَرُونَ وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ- إلى قوله- يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] . وقال تعالى: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: 59] أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ مُوسَى، فَمَا نفعه ذلك مع قدرة الْمَلِكِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ أَمْرُهُ الْقَدَرِيُّ ولا يغلب، بَلْ نَفَذَ حُكْمُهُ وَجَرَى قَلَمُهُ فِي الْقِدَمِ بأن يكون هلاك فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ يَكُونُ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي احْتَرَزْتَ مِنْ وُجُودِهِ وَقَتَلْتَ بِسَبَبِهِ أُلُوفًا مِنَ الْوِلْدَانِ، إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَمُرَبَّاهُ عَلَى فِرَاشِكَ وَفِي دَارِكَ، وَغِذَاؤُهُ مِنْ طَعَامِكَ وَأَنْتَ تُرَبِّيهِ وَتُدَلِّلُهُ وَتَتَفَدَّاهُ، وَحَتْفُكَ وَهَلَاكُكَ وَهَلَاكُ جُنُودِكَ عَلَى يَدَيْهِ، لِتَعْلَمَ أَنَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ الْعُلَا هُوَ القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشَّدِيدُ الْمِحَالِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يكن.
[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 9]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
ذَكَرُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَافَتِ الْقِبْطُ أَنْ يُفْنِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَلُونَ هُمْ مَا كَانُوا يَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ يُوشِكُ إِنِ اسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ أَنْ يَمُوتَ شُيُوخُهُمْ وغلمانهم يقتلون. ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم بِهِ رِجَالُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَيَخْلُصُ إِلَيْنَا ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ عَامًا وَتَرْكِهِمْ عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَ فيها الولدان، وولد موسى فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْتُلُونَ فِيهَا الْوِلْدَانَ، وَكَانَ لفرعون ناس مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وَقَوَابِلُ يَدُرْنَ عَلَى النِّسَاءِ، فَمَنْ رَأَيْنَهَا قَدْ حَمَلَتْ أَحْصَوُا اسْمَهَا، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ وِلَادَتِهَا لَا يَقْبَلُهَا إِلَّا نِسَاءُ الْقِبْطِ، فإن وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ جَارِيَةً تَرَكْنَهَا وَذَهَبْنَ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا دَخَلَ أُولَئِكَ الذَّبَّاحُونَ بِأَيْدِيهِمُ الشِّفَارُ الْمُرْهَفَةُ فقتلوه ومضوا، قبحهم الله تعالى.
فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَغَيْرِهَا، وَلَمْ تَفْطِنْ لَهَا الدَّايَاتُ وَلَكِنْ لَمَّا وَضَعَتْهُ ذَكَرًا ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَخَافَتْ عَلَيْهِ خَوْفًا شَدِيدًا، وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا زَائِدًا، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَحَبَّهُ طَبْعًا وَشَرْعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(6/199)
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طَهَ: 39] فَلَمَّا ضَاقَتْ به ذرعا، أُلْهِمَتْ فِي سِرِّهَا، وَأُلْقِي فِي خَلَدِهَا، وَنُفِثَ في روعها، كما قال تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ دَارُهَا عَلَى حَافَّةِ النِّيلِ، فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَمَهَّدَتْ فِيهِ مَهْدًا، وَجَعَلَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ ممن تخافه ذهبت فوضعته فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، وَسَيَّرَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَرَبَطَتْهُ بحبل عندها.
فلما كانت ذَاتَ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا مَنْ تَخَافُهُ، فَذَهَبَتْ فَوَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ وَأَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَذَهَلَتْ عَنْ أَنْ تَرْبِطَهُ، فَذَهَبَ مَعَ الْمَاءِ وَاحْتَمَلَهُ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى دَارِ فِرْعَوْنَ، فَالْتَقَطَهُ الْجَوَارِي فَاحْتَمَلْنَهُ فَذَهَبْنَ بِهِ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَلَا يَدْرِينَ مَا فِيهِ، وَخَشِينَ أَنْ يفتتن عليها في فتحه دونها، فلما كشف عَنْهُ إِذَا هُوَ غُلَامٌ مِنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ وَأَجْمَلِهِ وَأَحْلَاهُ وَأَبْهَاهُ، فَأَوْقَعَ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِهَا حِينَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِسَعَادَتِهَا وَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهَا وَشَقَاوَةِ بَعْلِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً الآية، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: اللَّامُ هُنَا لَامُ الْعَاقِبَةِ، لَا لَامُ التَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِالْتِقَاطِهِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي مَا قَالُوهُ، وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى مَعْنَى السِّيَاقِ، فَإِنَّهُ تَبْقَى اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّضَهُمْ لِالْتِقَاطِهِ ليجعله عدوا لهم وَحَزَنًا فَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ حَذَرِهِمْ مِنْهُ، ولهذا قال تعالى:
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِأَقْدَارِهِ النَّافِذَةِ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ وَمُوسَى فِي عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ لِفِرْعَوْنَ عَدُوٌّ وَحَزَنٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ لَوْ شَاءَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لموسى وليا وناصرا، والله تعالى يقول: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً الآية.
وقوله تعالى: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ الآية، يَعْنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَآهُ هَمَّ بِقَتْلِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عَنْهُ وَتَذُبُّ دُونَهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فقال فرعون: أَمَّا لَكِ فَنَعَمْ، وَأَمَّا لِي فَلَا، فَكَانَ كذلك، وهداها الله بسببه وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ فِي سُورَةِ طَهَ هَذِهِ الْقِصَّةُ بطولها من رواية ابن عباس مرفوعا عند النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ وَأَسْكَنَهَا الجنة بسببه. وقوله: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أَيْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَتَتَبَنَّاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ لَا يَدْرُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْحُجَّةِ القاطعة.(6/200)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
[سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 13]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فُؤَادِ أُمِّ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ وَلَدُهَا فِي الْبَحْرِ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ مُوسَى، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أَيْ إِنْ كَادَتْ مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهَا وَحُزْنِهَا وَأَسَفِهَا لَتُظْهِرُ أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ثَبَّتَهَا وَصَبَّرَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أَيْ أَمَرَتِ ابْنَتَهَا وَكَانَتْ كَبِيرَةً تَعِي مَا يُقَالُ لَهَا، فَقَالَتْ لَهَا: قُصِّيهِ أَيْ اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَخُذِي خَبَرَهُ، وَتَطَلَّبِي شَأْنَهُ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ، فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ قَالَ ابْنُ عباس: عن جانب. وقال مجاهد: بصرت به عن جنب عن بعد.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَارِ فِرْعَوْنَ وَأَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ الْمَلِكِ وَاسْتَطْلَقَتْهُ مِنْهُ، عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ الَّتِي فِي دَارِهِمْ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا ثَدْيًا، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شيئا من ذلك، فخرجوا به إلى السوق لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امْرَأَةً تَصْلُحُ لِرَضَاعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ بِأَيْدِيهِمْ عَرَفَتْهُ وَلَمْ تُظْهِرْ ذَلِكَ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ أي تحريما قدريا، وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أَنْ يَرْتَضِعَ غَيْرَ ثَدْيِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى أُمِّهِ لترضعه، وهي آمنة بعد ما كانت خائفة، فلما رأتهم حَائِرِينَ فِيمَنْ يُرْضِعُهُ قَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ.
قال ابن عباس: فلما قَالَتْ ذَلِكَ، أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وَخَلَصَتْ مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ فَدَخَلُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ، فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا، وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ وَافَقَ ثَدْيَهَا، ثُمَّ سَأَلْتُهَا آسِيَةُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ، فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ:
إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ.
فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ وَالصِّلَاتِ وَالْكَسَاوِي وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ، فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ بَعْدِ خَوْفِهَا أَمْنًا، فِي عِزٍّ وَجَاهٍ(6/201)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
وَرِزْقٍ دَارٍّ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ وَيَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْفَرَجِ إِلَّا الْقَلِيلُ يَوْمٌ وليلة أو نحوه، والله أعلم، فسبحان من بيده الْأَمْرُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، الَّذِي يَجْعَلُ لِمَنِ اتَّقَاهُ بَعْدَ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَبَعْدَ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أَيْ بِهِ وَلا تَحْزَنَ أَيْ عَلَيْهِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ فِيمَا وَعَدَهَا مِنْ رَدِّهِ إِلَيْهَا وَجَعْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَحِينَئِذٍ تَحَقَّقَتْ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُ رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَعَامَلَتْهُ فِي تَرْبِيَتِهِ ما ينبغي له طبعا وشرعا. وقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ حُكْمَ اللَّهِ فِي أَفْعَالِهِ وَعَوَاقِبَهَا الْمَحْمُودَةَ الَّتِي هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَرُبَّمَا يَقَعُ الْأَمْرُ كَرِيهًا إِلَى النُّفُوسِ وَعَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 216] وَقَالَ تَعَالَى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء: 19] .
[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَبْدَأَ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى، آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قَضِيَّةَ قَتْلِهِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَقَالَ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ النهار «1» ، وكذا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أَيْ يَتَضَارَبَانِ وَيَتَنَازَعَانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي إسرائيلي وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أَيْ قِبْطِيٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسَّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فَاسْتَغَاثَ الإسرائيلي بموسى عليه السلام، فوجد مُوسَى فُرْصَةً وَهِيَ غَفْلَةُ النَّاسِ، فَعَمَدَ إِلَى الْقِبْطِيِّ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: فوكزه أَيْ طَعَنَهُ بِجَمْعِ كَفِّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فَقَضَى عَلَيْهِ، أَيْ كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ فَمَاتَ قالَ مُوسَى هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 43.(6/202)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً أَيْ مُعِينًا لِلْمُجْرِمِينَ أَيِ الكافرين بك، المخالفين لأمرك.
[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 19]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً أَيْ مِنْ مَعَرَّةِ مَا فَعَلَ يَتَرَقَّبُ أَيْ يَتَلَفَّتُ وَيَتَوَقَّعُ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَمَرَّ فِي بَعْضِ الطرق، فإذا ذلك الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ يُقَاتِلُ آخر، فلما مر عليه مُوسَى اسْتَصْرَخَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أَيْ ظَاهِرُ الْغَوَايَةِ كَثِيرُ الشر، ثم عزم موسى عَلَى الْبَطْشِ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، فَاعْتَقَدَ الْإِسْرَائِيلِيُّ لِخَوَرِهِ وَضَعْفِهِ وَذِلَّتِهِ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا يُرِيدُ قَصْدَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا هُوَ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ لَقَفَهَا مِنْ فَمِهِ، ثُمَّ ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده، فعلم فرعون بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ، وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.
[سورة القصص (28) : آية 20]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ وَصَفَهُ بِالرُّجُولِيَّةِ، لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ، فَسَلَكَ طَرِيقًا أَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ الَّذِينَ بُعِثُوا وَرَاءَهُ، فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ أَيْ مِنَ الْبَلَدِ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.
[سورة القصص (28) : الآيات 21 الى 24]
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
لما أخبره ذلك الرجل بما تملأ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَدَوْلَتُهُ فِي أَمْرِهِ، خَرَجَ مِنْ مصر وحده، ولم يألف ذلك قبله بَلْ كَانَ فِي رَفَاهِيَةٍ وَنِعْمَةٍ وَرِئَاسَةٍ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أَيْ يَتَلَفَّتُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ إليه مَلَكًا عَلَى فَرَسٍ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أَيْ أَخَذَ طَرِيقًا سَالِكًا مَهْيَعًا، فَرِحَ بِذَلِكَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق الأقوم،(6/203)
فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ وَهُدَاهُ إِلَى الصِّرَاطِ المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعله هَادِيًا مَهْدِيًّا.
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أَيْ لما وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَوَرَدَ مَاءَهَا، وَكَانَ لَهَا بئر يرده رِعَاءُ الشَّاءِ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ أَيْ جَمَاعَةً يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أَيْ تُكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَرِدَ مَعَ غَنَمِ أُولَئِكَ الرِّعَاءِ لِئَلَّا يُؤْذَيَا، فَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَقَّ لَهُمَا وَرَحِمَهُمَا قالَ مَا خَطْبُكُما؟ أَيْ مَا خَبَرُكُمَا لَا تَرِدَانِ مَعَ هَؤُلَاءِ؟ قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أَيْ لَا يَحْصُلُ لَنَا سَقْيٌ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ هَؤُلَاءِ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أَيْ فَهَذَا الْحَالُ الْمُلْجِئُ لَنَا إِلَى مَا تَرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَقى لَهُما.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ قَالَ: فَلَمَّا فَرَغُوا أَعَادُوا الصَّخْرَةَ عَلَى الْبِئْرِ، وَلَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ: مَا خَطْبُكُمَا؟ فَحَدَّثَتَاهُ، فَأَتَى الْحَجَرَ فَرَفَعَهُ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَقِ إِلَّا ذَنُوبًا وَاحِدًا حَتَّى رَوِيَتِ الغنم، إسناد صحيح.
وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الْبَقْلُ وَوَرَقُ الشجر، وكان حافيا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وَجَلَسَ فِي الظِّلِّ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه، وإن بطنه للاصق بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ، وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ، وَقَوْلُهُ إِلَى الظِّلِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيُّ: جَلَسَ تَحْتَ شَجَرَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو الْعَنْقَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ- هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ- قَالَ: حَثَثْتُ عَلَى جَمَلٍ لَيْلَتَيْنِ حَتَّى صَبَّحْتُ مَدْيَنَ، فَسَأَلْتُ عَنِ الشَّجَرَةِ التي أوى إليها موسى، فإذا هي شَجَرَةٌ خَضْرَاءُ تَرِفُّ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا جَمَلِي وَكَانَ جَائِعًا فَأَخَذَهَا جَمَلِي فَعَالَجَهَا سَاعَةً ثُمَّ لَفِظَهَا، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إلى الشجرة التي كلم الله منها موسى، كما سيأتي إن شاء الله، فالله أعلم. وقال السدي، كانت الشجرة مِنْ شَجَرِ السَّمُرِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ لَمَّا قَالَ مُوسَى رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أسمع المرأة «2» .
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 56، 57.
(2) انظر تفسير الطبري 10/ 57.(6/204)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 28]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
لَمَّا رَجَعَتِ الْمَرْأَتَانِ سريعا بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما بسبب مجيئهما سَرِيعًا، فَسَأَلَهُمَا عَنْ خَبَرِهِمَا، فَقَصَّتَا عَلَيْهِ مَا فَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبَعَثَ إِحْدَاهُمَا إِلَيْهِ لِتَدْعُوَهُ إِلَى أَبِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أَيْ مَشْيَ الْحَرَائِرِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ مُسْتَتِرَةً بِكُمِّ دِرْعِهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَتْ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَائِلَةً بِثَوْبِهَا على وجهها، ليست بسلفع من النساء دلاجة ولاجة خراجة. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّلْفَعُ مِنَ الرجال الجسور، ومن النساء الجارية السَّلِيطَةُ، وَمِنَ النُّوقِ الشَّدِيدَةُ. قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا وَهَذَا تَأَدُّبٌ فِي الْعِبَارَةِ لَمْ تَطْلُبْهُ طَلَبًا مُطْلَقًا لِئَلَّا يُوهِمَ رِيبَةً، بَلْ قَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، يَعْنِي لِيُثِيبَكَ وَيُكَافِئَكَ عَلَى سَقْيِكَ لِغَنَمِنَا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أَيْ ذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَا جَرَى لَهُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ بَلَدِهِ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يَقُولُ: طِبْ نَفْسًا وَقَرَّ عَيْنًا، فَقَدْ خَرَجْتَ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ، فَلَا حُكْمَ لَهُمْ فِي بِلَادِنَا، وَلِهَذَا قَالَ:
نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ مَنْ هُوَ؟ عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَهَذَا هو المشهور عند كثير من العلماء، وَقَدْ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ العزيز الأوسي، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ شُعَيْبًا هُوَ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ مُوسَى الْقَصَصَ، قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَنَزِيِّ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ «مَرْحَبًا بِقَوْمِ شُعَيْبٍ وَأَخْتَانِ مُوسَى هُدِيتَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنَ أَخِي شُعَيْبٍ.
وَقِيلَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ. كَانَ شُعَيْبٌ قَبْلَ زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَقَدْ كَانَ هَلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عُلِمَ أنه كان بين الخليل وموسى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَمَا قِيلَ إِنَّ شُعَيْبًا عَاشَ مُدَّةً طَوِيلَةً، إِنَّمَا هُوَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- احْتِرَازٌ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، ثُمَّ مِنَ الْمُقَوِّي لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِشُعَيْبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَأَوْشَكَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى اسْمِهِ في(6/205)
الْقُرْآنِ هَاهُنَا، وَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِ فِي قِصَّةِ مُوسَى لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مِنَ الْمَوْجُودِ فِي كُتُبِ بَنِي إسرائيل أن هذا الرجل اسمه ثيرون، والله أعلم. قال أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: ثيرون هو ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَنْ أَبِي حمزة عن ابن عباس قال: الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى يَثْرَى صَاحِبُ مَدْيَنَ، رَوَاهُ ابن جرير «1» به، ثُمَّ قَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ، وَلَا خَبَرَ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ في ذلك.
وقوله تعالى: قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أَيْ قَالَتْ إِحْدَى ابْنَتَيْ هَذَا الرَّجُلِ، قِيلَ هِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ وَرَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَتْ لِأَبِيهَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أَيْ لِرِعْيَةِ هَذِهِ الْغَنَمِ. قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَأَبُو مَالِكٍ وقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا قَالَتْ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ له: إِنَّهُ رَفَعَ الصَّخْرَةَ الَّتِي لَا يَطِيقُ حَمْلَهَا إلا عشرة رجال، وإني لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ فَقَالَ لِي: كوني من ورائي، فإذا اختلفت علي الطَّرِيقَ فَاحْذِفِي لِي بِحَصَاةٍ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ الطريق لأهتدي إليه.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ حِينَ تَفَرَّسَ فِي عُمَرَ، وَصَاحِبُ يُوسُفَ حِينَ قَالَ أكرمي مثواه، وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَتْ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ أَيْ طَلَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أن يرعى غنمه وَيُزَوِّجَهُ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ، قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: وهما صفوريا وليا. وقال محمد بن إسحاق:
صفوريا وشرفا، وَيُقَالُ لِيَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا إِذَا قَالَ بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي على أن ترعى غنمي ثَمَانِي سِنِينَ، فَإِنْ تَبَرَّعْتَ بِزِيَادَةِ سَنَتَيْنِ فَهُوَ إليك، وإلا ففي الثمان كِفَايَةٌ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ لَا أشاقك ولا أؤذيك وَلَا أُمَارِيكَ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِمَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ فِيمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ بِعِشْرِينَ نَسِيئَةً أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَخْتَارُ الْمُشْتَرِي بِأَيِّهِمَا أَخَذَهُ صَحَّ، وَحُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوَكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا» «2»
عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ لِطُولِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ في صحة استئجار الأجير بالطعمة
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 61.
(2) أخرجه أبو داود في البيوع باب 53.(6/206)
وَالْكُسْوَةِ، بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَةَ «1» فِي كِتَابِهِ السُّنَنِ حَيْثُ قَالَ: بَابُ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ عَلَى طَعَامِ بَطْنِهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بن المنذر السلمي يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ طسم حَتَّى إِذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى قَالَ: «إِنَّ مُوسَى أَجَّرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَوْ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ الْخُشَنِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الْبَلَاطِيُّ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدَّرِ السُّلَمِيَّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ: الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَنِي عَلَى ثَمَانِ سِنِينَ، فَإِنْ أَتْمَمْتُ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِي فَأَنَا مَتَى فَعَلْتُ أَقَلَّهُمَا فَقَدْ بَرِئْتُ مِنَ الْعَهْدِ وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا قَالَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أَيْ فَلَا حَرَجَ عَلَيَّ، مَعَ أَنَّ الْكَامِلَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّهُ فَاضِلٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، كَمَا قال تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» «2» مَعَ أَنَّ فِعْلَ الصِّيَامِ رَاجِحٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، هَذَا وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا فَعَلَ أَكْمَلَ الأجلين وأتمهما.
وقال الْبُخَارِيُّ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت على ابن عباس رضي الله عنه فسألته، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ، هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَكَذَا رَوَاهُ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أهل النصرانية
__________
(1) كتاب الرهون باب 5.
(2) أخرجه النسائي في الصيام باب 56، وأحمد في المسند 3/ 494.
(3) كتاب الشهادات باب 28.(6/207)
وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ وَكَانَ من أسناني أو أصغر مني فذكره. وفي إسناده قلب، وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَعْيَنَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرِئَ عَلَى يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْمُونٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ تَيْرَحَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: «لَا عِلْمَ لِي» فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: لَا عِلْمَ لِي، فَسَأَلَ جِبْرِيلُ مَلَكًا فَوْقَهُ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي، فَسَأَلَ ذَلِكَ الْمَلَكُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ جِبْرِيلُ، عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرب عز وجل: قَضَى أَبَرَّهُمَا وَأَبْقَاهُمَا، أَوْ قَالَ أَزْكَاهُمَا، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ جَاءَ مُرْسَلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَالَ سُنَيدٌ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلَ جِبْرِيلَ، أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقَالَ: سَوْفَ أَسْأَلُ إِسْرَافِيلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: سَوْفَ أَسْأَلُ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا.
[طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ أَيْضًا] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ:
«أَوْفَاهُمَا وَأَتَمَّهُمَا» فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَاضِدَةٌ، ثُمَّ قَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ، حدثنا عويذ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ - قَالَ- «أَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا- قَالَ- وَإِنْ سُئِلْتَ: أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ الصُّغْرَى مِنْهُمَا» ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عويذ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
ثُمَّ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ بِزِيَادَةٍ غَرِيبَةٍ جِدًّا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 66.
(2) تفسير الطبري 10/ 66.(6/208)
الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: «أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا» ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ مِنْ قَالِبِ لَوْنٍ، قَالَ: فَمَا مَرَّتْ شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ مُوسَى جَنْبَهَا بِعَصَاهُ، فَوَلَدَتْ قَوَالِبَ أَلْوَانٍ كُلُّهَا، وَوَلَدَتْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا كُلُّ شَاةٍ لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ وَلَا ضَبُوبٌ ولا كميشة تفوت الكف ولا ثغول» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا فتحتم الشَّامَ فَإِنَّكَمْ سَتَجِدُونَ بَقَايَا مِنْهَا وَهِيَ السَّامِرِيَّةُ» هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَزَّارُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ (ح) وحدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، أنبأنا الوليد، أنبأنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدَّرِ السُّلَمِيَّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ، فَلَمَّا وَفَى الْأَجَلَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ؟
- قَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا، فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمِهِ مِنْ قَالَبِ لَوْنِ مَنْ وُلِدَ ذَلِكَ الْعَامَ، وَكَانَتْ غَنَمُهُ سَوْدَاءَ حَسْنَاءَ، فَانْطَلَقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى عَصَاهُ، فَسَمَّاهَا مِنْ طَرَفِهَا ثُمَّ وَضَعَهَا فِي أَدْنَى الْحَوْضِ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا فَسَقَاهَا، وَوَقَفَ مُوسَى بِإِزَاءِ الْحَوْضِ فَلَمْ تَصْدُرْ منها شاة إلا وضرب جنبها شاة شاة، قال: فأتأمت وألبنت وَوَضَعَتْ كُلُّهَا قَوَالِبَ أَلْوَانٍ إِلَّا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ، قَالَ يَحْيَى: وَلَا ضَبُونٌ، وَقَالَ صَفْوَانُ: وَلَا ضَبُوبٌ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الصَّوَابُ ضَبُوبٌ وَلَا عَزُوزٌ وَلَا ثَعُولٌ وَلَا كَمِيشَةٌ تَفُوتُ الْكَفَّ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ افْتَتَحْتُمُ الشَّامَ وَجَدْتُمْ بَقَايَا تِلْكَ الْغَنَمِ وَهِيَ السامرية» .
وحدثنا أبو زرعة، أنبأنا صفوان قال: سمعت الوليد قال: سألت ابْنَ لَهِيعَةَ مَا الْفَشُوشُ؟
قَالَ: الَّتِي تَفُشُّ بِلَبَنِهَا وَاسِعَةَ الشَّخْبِ، قُلْتُ: فَمَا الضَّبُوبُ؟ قَالَ: الطَّوِيلَةُ الضَّرْعِ تَجُرُّهُ، قُلْتُ: فَمَا الْعَزُوزُ؟ قَالَ: ضيقة الشخب. قلت: فَمَا الثَعُولُ؟ قَالَ: الَّتِي لَيْسَ لَهَا ضَرْعٌ إِلَّا كَهَيْئَةِ حَلَمَتَيْنِ، قُلْتُ: فَمَا الْكَمِيشَةُ؟ قَالَ: الَّتِي تَفُوتُ الْكَفَّ كَمَيْشَةُ الضَّرْعِ صَغِيرٌ لَا يُدْرِكُهُ الْكَفُّ. مَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ الْمِصْرِيِّ، وَفِي حِفْظِهِ سُوءٌ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ رَفَعَهُ خَطَأً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ وَلَا عَزُوزٌ وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا ثَعُولٌ وَلَا كَمِيشَةٌ، لِتُذْكَرَ كُلُّ صِفَةٍ نَاقِصَةٍ مَعَ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» مِنْ كَلَامِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ما يقارب بعضه بإسناد جيد،
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 66. [.....](6/209)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بن هشام، حدثنا أبي، حدثنا قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: كُلُّ شَاةٍ وَلَدَتْ على غير لونها، فلك ولدها، فعمد موسى فَرَفَعَ حِبَالًا عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَيَالَ فَزِعَتْ، فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إِلَّا شاة واحدة، فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأبقاهما، وَقَدْ يُسْتَفَادُ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حيث قال تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أَيِ الْأَكْمَلَ مِنْهُمَا، واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَضَى عَشْرَ سِنِينَ وَبَعْدَهَا عَشْرًا أُخَرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ أره لغيره، وقد حكاه عنه ابن أبي حاتم وابن جرير، فالله أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَسارَ بِأَهْلِهِ قَالُوا: كَانَ مُوسَى قَدِ اشْتَاقَ إِلَى بِلَادِهِ وَأَهْلِهِ، فَعَزَمَ عَلَى زِيَارَتِهِمْ فِي خُفْيَةٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُ صِهْرُهُ، فَسَلَكَ بِهِمْ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ مُظْلِمَةٍ بَارِدَةٍ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَوْرَى زَنْدَهُ لَا يُضِيءُ شَيْئًا، فَتَعَجَّبَ مِنْ ذلك، فبينما هو كذلك آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا أَيْ رَأَى نارا تضيء على بعد فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أَيْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهَا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَلَّ الطَّرِيقَ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أَيْ قِطْعَةٍ مِنْهَا لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أَيْ تستدفئون بِهَا مِنَ الْبَرْدِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أَيْ مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ، وَالنَّارُ وَجَدَهَا تَضْطَرِمَ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ فِي لَحْفِ الْجَبَلِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ، فَوَقَفَ بَاهِتًا فِي أَمْرِهَا، فَنَادَاهُ رَبُّهُ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 69.(6/210)
أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُودِيَ مِنْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمْرَةً خَضْرَاءَ تَرِفُّ، إِسْنَادُهُ مُقَارَبٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يَتَّهِمُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ:
شَجَرَةٌ مِنَ العليق، وبعض أهل الكتاب يقول إنها مِنَ الْعَوْسَجِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنَ الْعَوْسَجِ، وعصاه من العوسج.
وقوله تعالى: أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيِ الَّذِي يُخَاطِبُكَ وَيُكَلِّمُكَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ أَيِ الَّتِي فِي يَدِكَ كَمَا قَرَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى؟ قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طَهَ: 17- 18] وَالْمَعْنَى أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا أَلْقِهَا فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فعرف وتحقق أن الذي يكلمه هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ طَهَ، وَقَالَ هَاهُنَا: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أَيْ تَضْطَرِبُ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها وقوائمها، وَاتِّسَاعِ فَمِهَا وَاصْطِكَاكِ أَنْيَابِهَا وَأَضْرَاسِهَا، بِحَيْثُ لَا تمر بصخرة إلا ابتلعتها، تنحدر فِي فِيهَا تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا حَادِرَةٌ فِي وَادٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أَيْ وَلَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ لِأَنَّ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ يَنْفِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ: يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ رَجَعَ فَوَقَفَ فِي مَقَامِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ الله تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ إِذَا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي جَيْبِ دِرْعِكَ ثُمَّ أَخْرَجْتَهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ قَمَرٍ فِي لَمَعَانِ الْبَرْقِ، وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.
وقوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْفَزَعِ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
مِنَ الرُّعْبِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بن جَرِيرٍ: مِمَّا حَصَلَ لَكَ مِنْ خَوْفِكَ مِنَ الْحَيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا خَافَ مِنْ شَيْءٍ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ جَنَاحَهُ مِنَ الرهب وهو يَدُهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَرُبَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده أو يخف إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ صالح، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدَّبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مُلِئَ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْرَأُ بِكَ فِي نَحْرِهِ، وَأُعَوِّذُ بِكَ مِنْ شره، فنزع اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رآه بال كما يبول الحمار.
وقوله تعالى: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ يعني إلقاء الْعَصَا وَجَعْلَهَا حَيَّةً تَسْعَى وَإِدْخَالَهُ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ وَاضِحَانِ عَلَى قُدْرَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ،(6/211)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَى هَذَا الْخَارِقُ عَلَى يديه، ولهذا قال تعالى: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أَيْ وَقَوْمِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الله، مخالفين لأمره ودينه.
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 35]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ الَّذِي إِنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فِرَارًا مِنْهُ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً يَعْنِي ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أَيْ إِذَا رَأَوْنِي وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي لِسَانِهِ لَثْغَةٌ بِسَبَبِ مَا كَانَ تَنَاوَلَ تِلْكَ الْجَمْرَةَ حِينَ خُيِّرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّمْرَةِ أَوِ الدُّرَّةِ، فَأَخَذَ الْجَمْرَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، فَحَصَلَ فِيهِ شِدَّةٌ فِي التَّعْبِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طَهَ: 27- 32] أَيْ يُؤْنِسُنِي فِيمَا أَمَرَتْنِي بِهِ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى هَذَا الْمَلِكِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً
أَيْ وَزِيرًا وَمُعِينًا وَمُقَوِّيا لِأَمْرِي، يَصَدِّقُنِي فِيمَا أَقُولُهُ وَأُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد، وَلِهَذَا قَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ عَنِّي مَا أُكَلِّمُهُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ يُفْهِمُ عني ما لا يفهمون، فلما سأل ذلك موسى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أَيْ سَنُقَوِّي أَمْرَكَ، وَنُعِزُّ جَانِبَكَ بِأَخِيكَ الَّذِي سَأَلْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَعَكَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى [طَهَ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مَرْيَمَ: 51] وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنَّةً عَلَى أَخِيهِ مِنْ مُوسَى عَلَى هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ شُفِّعَ فِيهِ حَتَّى جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا وَرَسُولًا مَعَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الْأَحْزَابِ: 69] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أَيْ حُجَّةً قَاهِرَةً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَيْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى أَذَاكُمَا بِسَبَبِ إِبْلَاغِكُمَا آيَاتِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ- إلى قوله- وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [الْأَحْزَابِ: 39] أَيْ وَكَفَى بِاللَّهِ نَاصِرًا وَمُعِينًا وَمُؤَيِّدًا، وَلِهَذَا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمَا وَلِمَنِ اتَّبَعَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(6/212)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر: 51- 52] إلى آخر الآية، وَوَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ تَقْدِيرُهُ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ بِآيَاتِنَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنَ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 37]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَجِيءِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَعَرْضِهِ مَا آتَاهُمَا اللَّهُ من المعجزات الباهرة، والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ، فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ وتحققوه، وأيقنوا أنه من عند اللَّهِ، عَدَلُوا بِكُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ إِلَى الْعِنَادِ وَالْمُبَاهَتَةِ، وَذَلِكَ لِطُغْيَانِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ فَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أَيْ مُفْتَعَلٌ مَصْنُوعٌ، وَأَرَادُوا مُعَارَضَتَهُ بِالْحِيلَةِ وَالْجَاهَ فَمَا صَعِدَ مَعَهُمْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ يَعْنُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُونَ:
مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْ آبَائِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَمْ نَرَ النَّاسَ إِلَّا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجِيبًا لَهُمْ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يَعْنِي مِنِّي وَمِنْكُمْ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي من النُّصْرَةُ وَالظَّفَرُ وَالتَّأْيِيدُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي المشركون بالله عز وجل.
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 42]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الْإِلَهِيَّةِ لِنَفْسِهِ الْقَبِيحَةِ لَعَنَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ الله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ [الزخرف: 54] الآية، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ أَذْهَانِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: يَا أَيُّهَا(6/213)
الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي
وقال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النَّازِعَاتِ: 23- 26] يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ، وَنَادَى فِيهِمْ بِصَوْتِهِ الْعَالِي مُصَرِّحًا لَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، وَلِهَذَا انْتَقَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، فَجَعَلَهُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَتَّى إِنَّهُ وَاجَهَ مُوسَى الْكِلِيمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.
وَقَوْلُهُ: فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى يعني أَمَرَ وَزِيرَهُ هَامَانَ وَمُدَبِّرَ رَعِيَّتِهِ وَمُشِيرَ دَوْلَتِهِ أن يوقد له على الطين، يعني يتخذ لَهُ آجُرًّا لِبِنَاءِ الصَّرْحِ وَهُوَ الْقَصْرُ الْمُنِيفُ الرفيع العالي، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غَافِرٍ: 36- 37] وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ بَنَى هَذَا الصَّرْحَ الَّذِي لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ، إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُظْهِرَ لِرَعِيَّتِهِ تَكْذِيبَ مُوسَى فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ دَعْوَى إِلَهٍ غَيْرِ فِرْعَوْنَ، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أَيْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ ثَمَّ رَبًّا غَيْرِي، لَا أَنَّهُ كَذَّبَهُ في أن الله تعالى أَرْسَلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ جل وعلا، فَإِنَّهُ قَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] وَقَالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشُّعَرَاءِ: 29] وَقَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جرير.
وقوله تعالى: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ أَيْ طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لا قيامة ولا معاد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ
[الفجر: 13- 14] ولهذا قال تعالى هَاهُنَا: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أَيْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَيْ لِمَنْ سَلَكَ وَرَاءَهُمْ وَأَخَذَ بِطَرِيقَتِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خِزْيُ الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] .
وقوله تعالى: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أَيْ وَشَرَعَ اللَّهُ لَعْنَتَهُمْ وَلَعْنَةَ مَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَلْسِنَةِ المؤمنين من عباده المتبعين لرسله، كما أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَذَلِكَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ «1» [هود: 99] .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 76.(6/214)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[سورة القصص (28) : آية 43]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى الْكِلِيمِ، عَلَيْهِ مِنْ ربه أفضل الصلاة والتسليم، من إنزال التوراة عليه بعد ما أهلك فرعون وملأه. وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى يَعْنِي أَنَّهُ بَعْدَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُعَذِّبْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَ الله من المشركين، كما قال تعالى: وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الْحَاقَّةِ: 9- 10] .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا محمد وَعَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد مُوسَى، ثُمَّ قَرَأَ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى الآية.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيِّ بِنَحْوِهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ عوف عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مَوْقُوفًا، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا قَبْلَ مُوسَى» ثُمَّ قَرَأَ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى الآية. وقوله:
بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً أَيْ مِنَ الْعَمَى وَالْغَيِّ، وَهُدًى إِلَى الْحَقِّ ورحمة، أي إرشادا إلى العمل الصالح لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَيْ لَعَلَّ النَّاسَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ ويهتدون بسببه.
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 47]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى بُرْهَانِ نُبُوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَخْبَرَ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ خَبَرًا كَأَنَّ سَامِعَهُ شَاهِدٌ وَرَاءٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْ مَرْيَمَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] الآية، أي وما كنت
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 76.(6/215)
حَاضِرًا لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهُ إِلَيْكَ، وَهَكَذَا لِمَا أَخْبَرَهُ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ إِنْجَاءِ اللَّهِ لَهُ وَإِغْرَاقِ قَوْمِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] الآية، وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ [هُودٍ: 100] وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ يُوسُفَ ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102] الآية، وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: 99] الآية.
وقال هاهنا بعد ما أَخْبَرَ عَنْ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَتَكْلِيمُهُ لَهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ يعني ما كنت يا محمد بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي هِيَ شَرْقِيَّةٌ عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لِذَلِكَ وَلَكِنَّ الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك، ليكون حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُرُونٍ قَدْ تَطَاوَلَ عَهْدُهَا، وَنَسُوا حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى الأنبياء المتقدمين.
وقوله تعالى: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أَيْ وَمَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا حِينَ أُخْبِرْتَ عَنْ نَبِيِّهَا شُعَيْبٍ وَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ وَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أَيْ وَلَكِنْ نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رَسُولًا وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا عيسى بن يُونُسَ عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا
قال: نودوا أن: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَأَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ عَنْ حَمْزَةَ وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ، عَنِ الْأَعْمَشِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ وَيَحْيَى بْنِ عِيسَى عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أُمَّتَكَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِكَ إِذَا بُعِثْتَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا مُوسَى وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ثُمَّ أَخْبَرَ هَاهُنَا بِصِيغَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ النِّدَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى [الشعراء: 10] وقال تعالى: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النَّازِعَاتِ: 16] وقال تعالى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مريم: 52] .
وقوله تعالى: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ مَا كُنْتَ مشاهدا لشيء من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد وبإرسالك إِلَيْهِمْ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ(6/216)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
أَيْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا الآية، أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة، ولينقطع عُذْرَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَ كِتَابِهِ الْمُبَارَكِ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَامِ: 156- 157] وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة: 19] الآية، والآيات في هذا كثيرة.
[سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 51]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْإِلْحَادِ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى الآية، يعنون- والله أعلم- من الآيات كثيرة مِثْلَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ والدم وتنقيص الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، مِمَّا يَضِيقُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَفَلْقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ القاهرة، التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام حجة وبرهانا لَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْجَعْ فِي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بَلْ كَفَرُوا بِمُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، كَمَا قَالُوا لَهُمَا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 78] وَقَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 48] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا:
أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَيْ أو لم يَكْفُرِ الْبَشَرُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا أَيْ تَعَاوَنَا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أَيْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كافرون، ولشدة التلازم والتصاحب والمقاربة بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ، دَلَّ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخر، كما قال الشاعر [الوافر] :(6/217)
فما أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يليني «1»
أي فما أدري يليني الْخَيْرُ أَوِ الشَّرُّ. قَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: أمرت اليهود قريشا أَنْ يَقُولُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قالوا ساحران تَظَاهَرَا قَالَ يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عليهما وَسَلَّمَ تَظاهَرا أَيْ تَعَاوَنَا وَتَنَاصَرَا وَصَدَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ؟ وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو رَزِينٍ فِي قَوْلِهِ سَاحِرَانِ يَعْنُونَ مُوسَى وَهَارُونَ، وَهَذَا قَوْلٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قالوا ساحران تظاهرا قال:
يعنون موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم، وهذه رواية الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: يَعْنِي عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ سِحْرانِ تَظاهَرا فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنُونَ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ، وَكَذَا قَالَ عَاصِمٌ الْجَنَدِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي صَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: الْإِنْجِيلُ والقرآن، والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَالظَّاهِرُ عَلَى قِرَاءَةِ سِحْرانِ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ- إِلَى أَنْ قَالَ- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَامِ: 91- 92] وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ الآية، وقال: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] وقال الْجِنُّ إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الْأَحْقَافِ: 30] .
وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى. وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ لِذَوِي الْأَلْبَابِ أن الله تعالى لَمْ يُنْزِلْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فِيمَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ أَكْمَلَ وَلَا أَشْمَلَ وَلَا أَفْصَحَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ مِنَ الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى بن عمران عليه السلام، وهو الكتاب الذي قال الله فيه:
__________
(1) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص 212، وخزانة الأدب 11/ 80، وشرح اختيارات المفضل ص 1267، وشرح شواهد المغني 1/ 191، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص 145، وخزانة الأدب 6/ 37.(6/218)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [المائدة: 44] والإنجيل إنما أنزل مُتَمِّمًا لِلتَّوْرَاةِ، وَمُحِلًّا لِبَعْضِ مَا حُرِّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِيمَا تُدَافِعُونَ بِهِ الْحَقَّ وَتُعَارِضُونَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أَيْ فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوكَ عَمَّا قُلْتَ لَهُمْ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أَيْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أَيْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قَالَ مُجَاهِدٌ: فَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
بَيَّنَّا لَهُمُ الْقَوْلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ تَعَالَى: أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ صُنِعَ بِمَنْ مَضَى، وَكَيْفَ هُوَ صَانِعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَصَّلْنا لَهُمُ يَعْنِي قُرَيْشًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ رِفَاعَةَ، رِفَاعَةُ هَذَا هُوَ ابْنُ قَرَظَةَ الْقُرَظِيُّ، وَجَعَلَهُ ابْنُ مَنْدَهْ: رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ خَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَهُوَ الَّذِي طَلَّقَ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ- قَالَ: نَزَلَتْ وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ فِي عَشَرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حديثه.
[سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران: 199] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الْإِسْرَاءِ: 107- 108] وقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى - إلى قوله- فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [الْمَائِدَةِ: 82- 83] .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْقِسِّيسِينَ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ يَعْنِي مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ كُنَّا مُسْلِمِينَ، أَيْ(6/219)
مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُسْتَجِيبِينَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الأول ثم الثاني، وَلِهَذَا قَالَ: بِما صَبَرُوا أَيْ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَإِنَّ تَجَشُّمَ مِثْلِ هَذَا شَدِيدٌ عَلَى النفوس، وقد ورد في الصحيح مِنْ حَدِيثِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ:
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِي، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا» «1» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ السَّيْلَحِينِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْقَاسِمِ بن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنِّي لَتَحْتَ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا، وَقَالَ فِيمَا قَالَ: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ مرتين وله ما لنا وعليه وما عَلَيْنَا وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَهُ أَجْرُهُ وَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا» .
وَقَوْلُهُ تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أَيْ لَا يُقَابِلُونَ السَّيِّئَ بِمِثْلِهِ، وَلَكِنْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ وَمِنَ الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنَ الْحَلَالِ يُنْفِقُونَ عَلَى خلق الله في النفقات الواجبة لأهليهم وَأَقَارِبِهِمْ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ وَصَدَقَاتِ النفل والقربات. وقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ أَيْ لَا يُخَالِطُونَ أَهْلَهُ وَلَا يُعَاشِرُونَهُمْ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أَيْ إِذَا سَفَّهَ عَلَيْهِمْ سَفِيهٌ وَكَلَّمَهُمْ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمُ الْجَوَابُ عَنْهُ، أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ إِلَّا كَلَامٌ طَيِّبٌ، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ قَالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أَيْ لَا نُرِيدُ طَرِيقَ الْجَاهِلِينَ وَلَا نُحِبُّهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إليه وكلموه وسألوه، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فلما فرغوا من مساءلة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُمْ:
خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ، بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ فيما قال: قال: ما نعلم ركبا أحمق
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم باب 31، ومسلم في الإيمان حديث 241.
(2) المسند 5/ 259.(6/220)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
مِنْكُمْ، أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا خَيْرًا. قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ: وَيُقَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قَالَ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ مِنْ عُلَمَائِنَا أَنَّهُنَّ نزلن فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْآيَاتُ اللاتي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً- إلى قوله- فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» [آل عمران: 53] .
[سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنك يا محمد لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أَيْ لَيْسَ إِلَيْكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: 272] وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُفَ: 103] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْغِوَايَةَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَقُومُ فِي صَفِّهِ وَيُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا طَبْعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَحَانَ أَجَلُهُ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. فَسَبَقَ الْقَدَرُ فِيهِ وَاخْتُطِفَ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزَنٍ الْمَخْزُومِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أحاج لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «والله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التَّوْبَةِ: 113] وَأَنْزَلَ في أبي طالب
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 392.(6/221)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمَّاهُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ، لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأُقِرَّ بها عينك، فأنزل الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ، وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وقَتَادَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي مِلَّةَ الْأَشْيَاخِ، وَكَانَ آخر ما قاله هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن عثمان بن خيثم عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ قَيْصَرَ جَاءَ إِلَيَّ، قَالَ: كَتَبَ مَعِي قَيْصَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا، فَأَتَيْتُهُ فَدَفَعْتُ الْكِتَابَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مِمَّنِ الرَّجُلُ؟» قُلْتُ: مِنْ تَنُوخَ. قَالَ: «هَلْ لَكَ فِي دِينِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ؟» قُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ وَعَلَى دِينِهِمْ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يهدي من يشاء» .
وقوله تَعَالَى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اعْتِذَارِ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ الْهُدَى حَيْثُ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَيْ نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَخَالَفْنَا مَنْ حَوْلَنَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، أَنْ يَقْصِدُونَا بِالْأَذَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَيَتَخَطَّفُونَا أَيْنَمَا كنا، قال اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ:
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يَعْنِي هَذَا الَّذِي اعْتَذَرُوا بِهِ كذب وباطل، لأن الله تعالى جَعَلَهُمْ فِي بَلَدٍ أَمِينٍ وَحَرَمٍ مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضِعَ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْحَرَمُ آمِنًا لهم فِي حَالِ كَفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، وَلَا يَكُونُ آمِنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ وقوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ مِمَّا حَوْلَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَتَاجِرُ وَالْأَمْتِعَةُ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا أَيْ من عندنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولهذا قَالُوا مَا قَالُوا.
وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب 40، وتفسير سورة 28، باب 1، ومسلم في الإيمان حديث 39، 41، والترمذي في تفسير سورة 28، باب 1، وأحمد في المسند 3/ 434.(6/222)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
نَوْفَلٍ الَّذِي قَالَ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.
[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)
يَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّضًا بِأَهْلِ مَكَّةَ في قوله تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أَيْ طَغَتْ وَأَشِرَتْ وَكَفَرَتْ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ- إلى قوله- فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النَّحْلِ: 112- 113] وَلِهَذَا قَالَ تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ دُثِرَتْ دِيَارُهُمْ فَلَا تَرَى إِلَّا مساكنهم. وقوله تعالى: وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أَيْ رَجَعَتْ خَرَابًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ لِعُمْرَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْهَامَّةِ- يَعْنِي الْبُومَةَ-: مَا لَكِ لَا تَأْكُلِينَ الزرع؟ قالت: لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه، قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَشْرَبِينَ الْمَاءَ؟ قَالَتْ: لأن الله تعالى أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ بِهِ. قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَأْوِينَ إِلَّا إِلَى الْخَرَابِ؟ قَالَتْ لِأَنَّهُ ميراث الله تعالى، ثُمَّ تَلَا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ثُمَّ قَالَ تعالى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا ظَالِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ مَنْ أَهْلَكَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَلِهَذَا قَالَ: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها وهي مكة رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم الْمَبْعُوثَ مِنْ أُمِّ الْقُرَى رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى مِنْ عَرَبٍ وَأَعْجَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشُّورَى: 7] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَافِ: 158] وَقَالَ:
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الْأَنْعَامِ: 19] وَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: 10] وَتَمَامُ الدَّلِيلِ قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً [الإسراء: 58] الآية، فأخبر تعالى أَنَّهُ سَيُهْلِكُ كُلَّ قَرْيَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وقد قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فَجَعَلَ تَعَالَى بِعْثَةَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ شَامِلَةً لِجَمِيعِ القرى، لأنه رسول إِلَى أُمِّهَا وَأَصْلِهَا الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» «1» وَلِهَذَا ختم به النبوة والرسالة، فلا نبي من بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ شَرْعُهُ بَاقٍ بَقَاءَ الليل والنهار إلى يوم القيامة، وقيل
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد حديث 3، والدارمي في السير باب 28، وأحمد في المسند 1/ 250، 301، 4/ 416، 5/ 145، 148، 162.(6/223)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
المراد بقوله: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا أَيْ أَصْلِهَا وَعَظِيمَتِهَا كَأُمَّهَاتِ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ، حَكَاهُ الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما، وليس ببعيد.
[سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 61]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الدَّنِيئَةِ، وَالزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنَ النعيم العظيم المقيم، كما قال تَعَالَى:
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النَّحْلِ: 96] وَقَالَ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آلِ عِمْرَانَ: 198] وَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرعد: 26] وقال تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى الْأَعْلَى: 16- 17] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والله ما الحياة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَغْمِسُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ» «1» .
وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ أَفَلَا يَعْقِلُ مَنْ يُقَدِّمُ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة. وقوله تَعَالَى:
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ يقول تعالى: أَفَمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ على صالح الأعمال مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، كَمَنْ هُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَهُوَ مُمَتَّعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ، وَكِلَاهُمَا عن مجاهد، الظاهر أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ في الدرجات، وذاك في الدركات، فقال: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصَّافَّاتِ: 57] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:
158] .
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُوَبِّخُ بِهِ الْكُفَّارَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يَعْنِي أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الأصنام
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 228، 229.(6/224)
وَالْأَنْدَادِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ وَهَذَا عَلَى سبيل التقريع والتهديد، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: 94] .
وَقَوْلُهُ: قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني الشَّيَاطِينِ وَالْمَرَدَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ فشهدوا عليهم أنه أَغْوَوْهُمْ فَاتَّبَعُوهُمْ ثُمَّ تَبَرَّءُوا مِنْ عِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81- 82] وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6] .
وقال الخليل عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] الآية، وقال الله تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ- إلى قوله- وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [الْبَقَرَةِ: 166- 167] وَلِهَذَا قَالَ: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أَيْ لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ كَمَا كُنْتُمْ تَرْجُونَ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ أَيْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أَيْ فَوَدُّوا حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الْكَهْفِ: 52- 53] . وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ النِّدَاءُ الْأَوَّلُ عَنْ سُؤَالِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ، مَاذَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُمْ مَعَهُمْ؟ وَهَذَا كَمَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ، وَمَنْ نَبِيُّكَ، وَمَا دِينُكَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَاهَ هَاهَ لَا أَدْرِي، وَلِهَذَا لَا جَوَابَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ السُّكُوتِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ قال مُجَاهِدٌ:
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ، فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ. وَقَوْلُهُ فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ فِي الدُّنْيَا فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي يوم القيامة وعسى مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ، فَإِنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِفَضْلِ الله ومنته لا محالة.(6/225)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُنَازِعٌ وَلَا معقب، قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ أَيْ مَا يَشَاءُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَالْأُمُورُ كُلُّهَا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا بِيَدِهِ، وَمَرْجِعُهَا إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ نَفْيٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الْأَحْزَابِ: 260] وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ (مَا) هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِي تَقْدِيرُهُ:
وَيَخْتَارُ الَّذِي لَهُمْ فِيهِ خِيرَةٌ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ طَائِفَةُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْأَصْلَحِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَيْضًا. فَإِنَّ الْمَقَامَ فِي بَيَانِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تختار شيئا.
ثم قال تَعَالَى: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أَيْ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ الضَّمَائِرُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، كَمَا يَعْلَمُ مَا تُبْدِيهِ الظَّوَاهِرُ مِنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْدِ: 10] . وَقَوْلُهُ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، كَمَا لَا رَبَّ يخلق ما يشاء وَيَخْتَارُ سِوَاهُ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ الْمَحْمُودُ عليه بعدله وَحِكْمَتِهِ وَلَهُ الْحُكْمُ أَيِ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لَهُ لِقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي جميعكم يوم القيامة، فيجزي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ.
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اللَّذَيْنِ لَا قِوَامَ لَهُمْ بِدُونِهِمَا وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ اللَّيْلَ دَائِمًا عَلَيْهِمْ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَسَئِمَتْهُ النُّفُوسُ وَانْحَصَرَتْ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَيْ تُبْصِرُونَ بِهِ وَتَسْتَأْنِسُونَ بِسَبَبِهِ أَفَلا تَسْمَعُونَ ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى أنه لو جعل النهار سرمدا، أي دَائِمًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَتَعِبَتِ الْأَبْدَانُ وَكَلَّتْ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ والأشغال، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَيْ تَسْتَرِيحُونَ مِنْ حركاتكم وأشغالكم(6/226)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ بِكُمْ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ خَلَقَ هَذَا وَهَذَا لِتَسْكُنُوا فِيهِ أَيْ فِي اللَّيْلِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ فِي النَّهَارِ بِالْأَسْفَارِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَشْغَالِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ تَشْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ بِاللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ بِالنَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الْفُرْقَانِ: 62] والآيات في هذا كثيرة.
[سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
وَهَذَا أَيْضًا نِدَاءٌ ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لِمَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، يُنَادِيهِمُ الرب تعالى على رؤوس الْأَشْهَادِ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي في دار الدُّنْيَا وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي رَسُولًا فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أَيْ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أَيْ لَا إله غيره، فَلَمْ يَنْطِقُوا وَلَمْ يُحِيرُوا جَوَابًا وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قَالَ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ «1» ، وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وقَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بن قاهث وموسى بن عرمان بْنِ قَاهِثَ. وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام، قال ابن جريج:
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قومه.
وقوله: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ أي الأموال ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 100.(6/227)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
لَيُثْقِلُ حَمْلُهَا الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ لِكَثْرَتِهَا. قَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ: كَانَتْ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الْأُصْبُعِ، كُلُّ مِفْتَاحٍ عَلَى خِزَانَةٍ عَلَى حِدَّتِهِ، فَإِذَا رَكِبَ حُمِلَتْ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا أَغَرَّ مُحَجَّلًا «1» ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أَيْ وَعَظَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ صالحو قَوْمِهِ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ: لَا تَفْرَحْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ، يَعْنُونَ لَا تَبْطَرْ بما أنت فيه من المال، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَرِحِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَشِرِينَ الْبَطِرِينَ الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثواب في الدنيا والآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أَيْ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أَيْ أَحْسِنْ إِلَى خَلْقِهِ، كَمَا أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا تَكُنْ هِمَّتُكَ بما أنت فيه أن تفسد به في الْأَرْضَ، وَتُسِيءَ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
[سورة القصص (28) : آية 78]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَارُونَ لِقَوْمِهِ حِينَ نَصَحُوهُ، وَأَرْشَدُوهُ إِلَى الْخَيْرِ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ وَلِمَحَبَّتِهِ لِي، فَتَقْدِيرُهُ إِنَّمَا أُعْطِيتُهُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيَّ أَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزُّمَرِ: 49] أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ بِي، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي [فُصِّلَتْ: 50] أَيْ هَذَا أَسْتَحِقُّهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَيْ إِنَّهُ كَانَ يُعَانِي عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ عِلْمٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وجل، قال الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَجِّ: 73] . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذرة،
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 101.(6/228)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
فَلْيَخْلُقُوا شُعَيْرَةً» «1» .
وَهَذَا وَرَدَ فِي الْمُصَوِّرِينَ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الشَّكْلِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يُحِيلُ مَاهِيَّةَ هَذِهِ الذَّاتِ إِلَى مَاهِيَّةِ ذَاتٍ أُخْرَى؟ هَذَا زُورٌ وَمُحَالٌ، وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُونَ على الصبغ في الصور الظاهرة، وهي كَذِبٌ وَزَغَلٌ وَتَمْوِيهٌ وَتَرْوِيجٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ صَحَّ مَعَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يتعاطاها هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْفَسَقَةُ الْأَفَّاكُونَ.
فَأَمَّا مَا يُجْرِيهِ الله سبحانه مِنْ خَرْقِ الْعَوَائِدِ عَلَى يَدَيْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ قَلْبِ بَعْضِ الْأَعْيَانِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَرُدُّهُ مُؤْمِنٌ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الصِّنَاعَاتِ، وَإِنَّمَا هَذَا عَنْ مَشِيئَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ وَاخْتِيَارِهِ وَفِعْلِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ حَيْوةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ، وَرَأَى ضَرُورَتَهُ، فَأَخَذَ حَصَاةً مِنَ الْأَرْضِ فَأَجَالَهَا فِي كَفِّهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ، فَإِذَا هِيَ ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَقَالَ بعضهم: إن قارون كان يعرف الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَدَعَا اللَّهَ بِهِ فَتَمَوَّلَ بِسَبَبِهِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أَيْ قَدْ كَانَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا، وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنَّا لَهُ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ بكفرهم وعدم شكرهم، ولهذا قال: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أَيْ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ قَالَ قَتَادَةُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي عَلَى خَيْرٍ عِنْدِي. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَى عِلْمٍ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ أَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ:
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قَالَ: لَوْلَا رِضَا اللَّهِ عَنِّي وَمَعْرِفَتُهُ بِفَضْلِي مَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ، وَقَرَأَ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً الآية، وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ إِذَا رَأَى من وسع الله عليه لولا أن يستحق ذلك لما أعطي.
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 80]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَارُونَ إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، مِنْ مَرَاكِبَ وَمَلَابِسَ عَلَيْهِ وَعَلَى خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يريد الحياة الدنيا ويميل إلى
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس باب 90، والتوحيد باب 56، ومسلم في اللباس حديث 101.(6/229)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
زخارفها وَزِينَتِهَا، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ قَالُوا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ ذُو حَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ قَالُوا لَهُمْ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ جَزَاءُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَرَوْنَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر واقرءوا إِنْ شِئْتُمْ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» [السَّجْدَةِ: 17] . وَقَوْلُهُ:
وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ قال السدي: ولا يُلَقَّى الْجَنَّةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ، كَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ من تمام الكلام الذين أوتوا العلم. قال ابن جرير: ولا يُلَقَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ، عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا الرَّاغِبُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ، وَجَعَلَهُ مِنْ كلام الله عز وجل وإخباره بذلك.
[سورة القصص (28) : الآيات 81 الى 82]
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اخْتِيَالَ قَارُونَ فِي زِينَتِهِ وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَبَغْيَهُ عَلَيْهِمْ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «بينما رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» «2» . ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْمُغِيرَةِ الْقَاصُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يعلى بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ زياد النُّمَيْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بينما رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ فَاخْتَالَ فِيهِمَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَقَدْ ذَكَرَ الحافظ محمد بن المنذر فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ بِسَنَدِهِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ قَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا فِي مَسْجِدِ نجران، فجعلت أنظر
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 35، ومسلم في الإيمان حديث 312. [.....]
(2) أخرجه البخاري في اللباس باب 5.
(3) المسند 3/ 40.(6/230)
إِلَيْهِ وَأَتَعَجَّبُ مِنْ طُولِهِ وَتَمَامِهِ وَجَمَالِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَقُلْتُ: أَعْجَبُ مِنْ جَمَالِكَ وَكَمَالِكَ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنِّي، قَالَ فَمَا زَالَ يَنْقُصُ وَيَنْقُصُ حَتَّى صَارَ بِطُولِ الشِّبْرِ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ قَرَابَتِهِ فِي كُمِّهِ وذهب به.
وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِهِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى امْرَأَةً بَغِيَّا مَالًا عَلَى أَنْ تَبْهَتَ مُوسَى بِحَضْرَةِ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ قَائِمٌ فِيهِمْ يَتْلُو عليهم كتاب الله تعالى، فَتَقُولُ يَا مُوسَى إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وكذا، فلما قالت ذلك في الملأ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُرْعِدَ مِنَ الْفَرَقِ، وَأَقْبَلَ عليها بعد ما صلى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ الَّذِي فَرَقَ البحر وأنجاكم من فرعون، وفعل كذا وكذا لَمَا أَخْبَرْتِنِي بِالَّذِي حَمَلَكِ عَلَى مَا قُلْتِ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتِنِي فَإِنَّ قَارُونَ أَعْطَانِي كذا وكذا على أن أقول ذلك لَكَ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَّ مُوسَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاجِدًا، وَسَأَلَ اللَّهَ فِي قَارُونَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أن قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ، فَأَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ تِلْكَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْبِغَالِ الشهب، وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة، فمر في محفله ذَلِكَ عَلَى مَجْلِسِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه يَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ، فَدَعَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلْتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالدُّنْيَا، ولئن شئت لنخرجن فلتدعون علي وأدعو عليك، فخرج موسى وخرج قارون في قومه، فقال موسى عليه السلام: تدعو أو أدعو أنا، فقال: بل أدعو أنا، فَدَعَا قَارُونُ فَلَمْ يُجَبْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى: أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ مُرِ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَنِي الْيَوْمَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ مُوسَى:
يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ بِهَا حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا، ثُمَّ أَشَارَ مُوسَى بيده، ثم قال: اذْهَبُوا بَنِي لَاوَى فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ.
وَعَنِ ابن عباس قَالَ: خُسِفَ بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةٌ، فَهُمْ يَتَجَلْجَلُونَ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ هَاهُنَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ غَرِيبَةٌ أَضْرَبْنَا عنها صفحا. وقوله تعالى: فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أَيْ ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه، وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَنَكَالَهُ، وَلَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَصِرًا لِنَفْسِهِ، فلا ناصر له مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ أَيِ الَّذِينَ لَمَّا رَأَوْهُ فِي زِينَتِهِ قَالُوا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فلما خسف به أصبحو يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ(6/231)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ
، أَيْ لَيْسَ الْمَالُ بِدَالٍّ عَلَى رِضَا اللَّهِ عن صاحبه، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيُضَيِّقُ وَيُوَسِّعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ» «1» .
لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا أَيْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِنَا وَإِحْسَانُهُ إِلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بِهِ لِأَنَّا وَدِدْنَا أَنْ نَكُونَ مَثَلَهُ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ يَعْنُونَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَا يفلح الكافرون عِنْدَ اللَّهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ هاهنا ويكأن، فقال بعضهم: معناه ويلك اعلم أن، ولكن خفف فَقِيلَ وَيْكَ وَدَلَّ فَتْحُ أَنَّ عَلَى حَذْفِ اعْلَمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعَّفَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوِيٌّ وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا كِتَابَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً وَيْكَأَنَّ، وَالْكِتَابَةُ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ مَعْنَاهَا وَيْكَأَنَّ أَيْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ مَعْنَاهَا وَيْ كَأَنَّ فَفَصَلَهَا وَجَعَلَ حَرْفَ وَيْ لِلتَّعَجُّبِ أَوْ لِلتَّنْبِيهِ، وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ فِي هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ إِنَّهَا بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ، واستشهد بقول الشاعر [الخفيف] :
سألتاني الطلاق إذ رأتاني ... قلّ مالي قد جِئْتُمَانِي بِنُكْرِ «3»
وَيْكَأَنْ مَنْ يكُنْ لَهُ نَشَبٌ يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أَيْ تَرَفُّعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَعَاظُمًا عَلَيْهِمْ وَتَجَبُّرًا بِهِمْ وَلَا فَسَادًا فِيهِمْ، كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ الْعُلُوُّ: التَّجَبُّرُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعُلُوُّ الْبَغْيُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ التَّكَبُّرُ
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 387.
(2) تفسير الطبري 10/ 113.
(3) البيت الأول لزيد بن عمرو بن نفيل في الكتاب 2/ 155، 3/ 555، وله أو لسعيد ابنه أو لنبيه بن الحجاج في خزانة الأدب 6/ 410، 412، أو لنبيه بن الحجاج في شرح أبيات سيبويه 2/ 11، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 3/ 48، والصاحبي في فقه اللغة ص 176، والبيت الثاني لزيد بن عمرو بن نفيل في خزانة الأدب 6/ 404، 408، 410، والدرر 5/ 305، وذيل سمط اللآلي ص 103، والكتاب 2/ 155، ولنبيه بن الحجاج في الأغاني 17/ 205، وشرح أبيات سيبويه 2/ 11، ولسان العرب (وا) ، (ويا) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 353، والخصائص 3/ 41، 169، وشرح الأشموني 2/ 486، وشرح المفصل 4/ 76، ومجالس ثعلب 1/ 389، والمحتسب 2/ 155، وهمع الهوامع 2/ 106.(6/232)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفَسَادُ أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ تَعَظُّمًا وَتَجَبُّرًا وَلا فَساداً عَمَلًا بِالْمَعَاصِي.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَشْعَثَ السَّمَّانِ عَنْ أَبَى سَلَّامٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَجْوَدَ مِنْ شراك نعل صاحبه، فيدخل في قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْفَخْرَ وَالتَّطَاوُلَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» «2» وَأَمَّا إِذَا أَحَبَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رِدَائِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً، أَفَمِنَ الْكِبَرِ ذَلِكَ؟
فَقَالَ: «لَا، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجمال» «3» . وقال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَةِ الْعَبْدِ، فَكَيْفَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وهذا مَقَامُ الْفَضْلِ ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهذا مقام الفضل والعدل.
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِبَلَاغِ الرِّسَالَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرًا لَهُ بِأَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَى مَعَادٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَيَسْأَلُهُ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قال تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أَيِ افْتَرَضَ عَلَيْكَ أَدَاءَهُ إِلَى النَّاسِ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أَيْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فيسألك عن ذلك، كما قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وقال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] وقال: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزمر: 69] .
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 115.
(2) أخرجه مسلم في الجنة حديث 64، وأبو داود في الأدب باب 40، وابن ماجة في الزهد باب 16، 23.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 147، وابن ماجة في الدعاء باب 10، وأحمد في المسند 4/ 133، 134، 151.(6/233)
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يَقُولُ لَرَادُّكَ إِلَى الْجَنَّةِ ثُمَّ سائلك عن القرآن. قاله السُّدِّيُّ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مِثْلَهَا، وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إِلَى الْمَوْتِ، وَلِهَذَا طُرُقٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي بَعْضِهَا لَرَادُّكَ إِلَى مَعْدِنِكَ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْيِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي قَزَعَةَ وَأَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَيْ وَاللَّهِ إِنَّ له لمعادا فيبعثه اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ ذَلِكَ.
كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» فِي التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَنْبَأَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْعُصْفُرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ: إِلَى مَكَّةَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُنَنِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ بِهِ، وهكذا رواه الْعَوْفيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أَيْ لَرَادُّكَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إِلَى مَوْلِدِكَ بِمَكَّةَ. وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عباس ويحيى بن الجزاز وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطِيَّةَ وَالضَّحَّاكِ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ فَسَمِعْنَاهُ مِنْ مُقَاتِلٍ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَبَلَغَ الْجُحْفَةَ، اشْتَاقَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إِلَى مَكَّةَ، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الضَّحَّاكِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السُّورَةِ مَكِّيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ: هَذِهِ مِمَّا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ نُعَيْمٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ ذَلِكَ تَارَةً بِرُجُوعِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ عِنْدَ ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، كما فسر ابن عباس سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [الفتح: 1] إلى آخر السورة، أَنَّهُ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَ إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: لَا أَعْلَمَ مِنْهَا غَيْرَ الَّذِي تَعْلَمُ، وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَارَةً أُخْرَى قَوْلَهُ: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ بِالْمَوْتِ، وَتَارَةً بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَارَةً بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاؤُهُ وَمَصِيرُهُ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ وَإِبْلَاغِهَا إلى الثقلين: الإنس والجن، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَفْصَحُ خَلْقِ اللَّهِ
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 28، باب 1.(6/234)
وأشرف خلق الله على الإطلاق.
وقوله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ قُلْ لِمَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ قُلْ: رُبِّي أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِي مِنْكُمْ وَمِنِّي، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ له عَاقِبَةُ الدَّارِ، وَلِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُذَكِّرًا لِنَبِيِّهِ نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ إِذْ أَرْسَلَهُ إليهم وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أَيْ مَا كُنْتَ تَظُنُّ قَبْلَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ إِلَيْكَ أَنَّ الْوَحْيَ ينزل عليك وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي إنما أنزل الْوَحْيُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ وَبِالْعِبَادِ بِسَبَبِكَ، فَإِذَا مَنَحَكَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً أي معينا لِلْكافِرِينَ وَلَكِنْ فَارِقْهُمْ وَنَابِذْهُمْ وَخَالِفْهُمْ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أَيْ لَا تَتَأَثَّرْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَكَ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ طَرِيقِكَ لَا تَلْوِي عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُبَالِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُعْلٍ كَلِمَتَكَ وَمُؤَيِّدٌ دِينَكَ وَمُظْهِرٌ ما أرسلك بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أَيْ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ لَا تَلِيقُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَلَا تَنْبَغِي الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لِعَظَمَتِهِ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 26- 27] فَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الذَّاتِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ هَاهُنَا: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أَيْ إِلَّا إِيَّاهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد [الطويل] :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أَيْ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَحَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَالْمُقَرِّرِ لَهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيَسْتَشْهِدُ مَنْ قَالَ ذلك بقول الشاعر [البسيط] :
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبُّ الْعِبَادِ إليه الوجه والعمل «2»
__________
(1) عجزه:
وكل نعيم لا محالة زائل
والبيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 256، والحديث أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب 26، ومسلم في البر حديث 2- 6، والترمذي في الأدب باب 70، وابن ماجة في الأدب باب 41، وأحمد في المسند 2/ 248، 391، 393، 444، 458، 470، 481.
(2) البيت بلا نسبة في أدب الكاتب ص 524، والأشباه والنظائر 4/ 16، وشرح أبيات سيبويه 1/ 420، والكتاب 1/ 37، ولسان العرب (غفر) ، وتفسير الطبري 10/ 119.(6/235)
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ إلا ما أريد به وجه الله تعالى مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس، فَإِنَّهُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدَ قَلْبَهُ يَأْتِي الْخَرِبَةَ، فَيَقِفُ عَلَى بَابِهَا فَيُنَادِي بِصَوْتٍ حَزِينٍ، فَيَقُولُ أَيْنَ أَهْلُكِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَقَوْلُهُ: لَهُ الْحُكْمُ أَيِ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ يَوْمَ مَعَادِكُمْ، فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.
آخِرُ تفسير سورة القصص ولله الحمد والمنة.(6/236)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ في أول سورة البقرة. وقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسْبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ له فِي الْبَلَاءِ» «1» وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ... وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [براءة: 16] وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 214] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أَيِ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي دعوى الْإِيمَانَ مِمَّنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ وَدَعْوَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ والجماعة، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: إِلَّا لِنَعْلَمَ [البقرة: 143] إلا لنرى وذلك لأن الرُّؤْيَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ، وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنَ الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
وقوله تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ هذه الفتنة والامتحان، فإن من
__________
(1) أخرجه البخاري في المرضى باب 3، والترمذي في الزهد باب 57، وابن ماجة في الفتن باب 23، وأحمد في المسند 1/ 172، 174، 180، 185.(6/237)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَرَائِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْ هَذَا وَأَطَمُّ، وَلِهَذَا قَالَ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أَيْ يَفُوتُونَا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ بِئْسَ مَا يَظُنُّونَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 الى 7]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
يَقُولُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَمِلَ الصالحات ورجا مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُحَقِّقُ لَهُ رَجَاءَهُ وَيُوَفِّيهِ عَمَلَهُ كَامِلًا موفرا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدعاء بصير بكل الكائنات، ولهذا قال تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقوله تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [الجاثية: 15] أَيْ مَنْ عَمِلَ صَالَحَا فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ عمله على نفسه، فإن الله تعالى غَنِيٌّ عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ على أتقى قلب رجل مِنْهُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا، ولهذا قال تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيُجَاهِدُ وَمَا ضَرَبَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم، ومع بره وإحسانه بِهِمْ، يُجَازِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَحْسَنَ الجزاء، وهو أن يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيهِمْ أَجْرَهُمْ بأحسن الذين كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَيَقْبَلُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا الْوَاحِدَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَيَجْزِي عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 40] وَقَالَ هَاهُنَا:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادُهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِتَوْحِيدِهِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ هَمَّا سَبَبُ وُجُودِ الْإِنْسَانِ، وَلَهُمَا عَلَيْهِ غَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَالْوَالِدُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْوَالِدَةُ بِالْإِشْفَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاءِ: 23- 24] ومع هذه(6/238)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
الْوَصِيَّةِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فِي مُقَابَلَةِ إِحْسَانِهِمَا الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أَيْ وَإِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دينهما إذا كانا مشركين، فإياك وإياهما، فلا تُطِعْهُمَا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَجْزِيكَ بِإِحْسَانِكَ إِلَيْهِمَا وَصَبْرِكَ عَلَى دِينِكَ، وَأَحْشُرُكَ مَعَ الصَّالِحِينَ لَا فِي زُمْرَةِ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ أَيْ حُبًّا دِينِيًّا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ، فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بِالْبَرِّ؟ وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ: فَكَانُوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها، فنزلت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما «1» الْآيَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صحيح.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ صِفَاتِ قَوْمٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ يَثْبُتِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا جاءتهم محنة وفتنة فِي الدُّنْيَا اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قال تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِتْنَتَهُ أَنْ يرتد عن دينه إذا أو ذي فِي اللَّهِ «2» ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ- إلى قوله- ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [الحج: 11] .
ثم قال عز وجل: لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَيْ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ قَرِيبٌ مِنْ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، وَفَتْحٌ وَمَغَانِمُ، لَيَقُولُنَّ هَؤُلَاءِ لكم: إنا كنا معكم، أي إخوانكم في الدين، كما قال تعالى:
__________
(1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث 44، والترمذي في تفسير سورة 29، باب 1، وأحمد في المسند 1/ 181، 186.
(2) انظر تفسير الطبري 10/ 124. [.....](6/239)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاءِ: 141] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [الْمَائِدَةِ: 52] وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ هَاهُنَا: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ثم قال الله تَعَالَى: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أو ليس اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ وَمَا تُكِنُّهُ ضمائرهم، وإن أظهروا لكم الموافقة.
وقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أَيْ وَلَيَخْتَبِرَنَّ اللَّهُ النَّاسَ بِالضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ، لِيَتَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ من هؤلاء، من يطيع الله في الضراء والسراء، ومن إِنَّمَا يُطِيعُهُ فِي حَظِّ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 31] ، وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي كَانَ فِيهَا مَا كَانَ مِنَ الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] الآية.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الْهُدَى: ارْجِعُوا عَنْ دِينِكُمْ إِلَى دِينِنَا، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أَيْ وَآثَامَكُمْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ آثَامٌ فِي ذَلِكَ عَلَيْنَا وَفِي رِقَابِنَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: افْعَلْ هذا وخطيئتك في رقبتي، قال الله تعالى تَكْذِيبًا لَهُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَيْ: فِيمَا قَالُوهُ إنهم يحتملون عَنْ أُولَئِكَ خَطَايَاهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ وزر أحد، قال الله تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى [فَاطِرَ: 18] وقال تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج: 10- 11] .
وقوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ إِخْبَارٌ عَنِ الدعاة إلى الكفر والضلالة، أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخر بسبب ما أَضَلُّوا مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى، لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] الآية، وَفِي الصَّحِيحِ «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» «1» . وَفِي الصَّحِيحِ «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأول كفل من دمها، لأنه
__________
(1) أخرجه مسلم في العلم حديث 15، 16، وأبو داود في الصلاة باب 51، والسنة باب 6، والترمذي في العلم باب 15، والنسائي في الإمامة باب 52، وابن ماجة في المقدمة باب 14، 15، والتجارات باب 56، ومالك في القرآن حديث 41، وأحمد في المسند 2/ 380، 397، 505، 521، 6/ 44.(6/240)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
أول من سن القتل» «1» .
وقوله تعالى: وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ يَكْذِبُونَ وَيَخْتَلِقُونَ مِنَ الْبُهْتَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَفْصِ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْزِمُ يَوْمَ القيامة فيقول: وعزتي وجلالي لَا يَجُوزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمٌ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ فيقول: أين فلان بن فُلَانٍ؟ فَيَأْتِي يَتْبَعُهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فَيُشْخِصُ النَّاسُ إِلَيْهَا أَبْصَارَهُمْ حَتَّى يَقُومَ بَيْنَ يدي الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُنَادِي فَيُنَادِي: مَنْ كَانَتْ لَهُ تِبَاعَةٌ أَوْ ظُلَامَةٌ عِنْدَ فلان بن فُلَانٍ فَهَلُمَّ، فَيُقْبِلُونَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا قِيَامًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ الرَّحْمَنُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي، فيقولون: كيف نقضي عنه؟
فيقول: خُذُوا لَهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَلَا يَزَالُونَ يَأْخُذُونَ منها حتى لا يبقى منها حَسَنَةٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الظُّلَامَاتِ، فَيَقُولُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ لَهُ حَسَنَةٌ، فَيَقُولُ خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَاحْمِلُوهَا عَلَيْهِ» ثُمَّ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [النساء: 40] . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا، وأخذ من مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم فطرح عليه» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ سَعْيِهِ حَتَّى عَنْ كُحْلِ عَيْنَيْهِ وَعَنْ فُتَاتِ الطينة بإصبعين، فَلَا أَلْفَيَنَّكَ تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدٌ أَسْعَدُ بما آتاك الله منك» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخْبِرُهُ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تعالى لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا وَجِهَارًا، وَمَعَ هَذَا مَا زادهم ذلك إلا
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب 33، والديات باب 2، والاعتصام باب 15، ومسلم في القسامة حديث 27، والترمذي في العلم باب 14، والنسائي في التحريم باب 1، وابن ماجة في الديات باب 1، وأحمد في المسند 1/ 383، 430، 433.(6/241)
فِرَارًا عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضًا عَنْهُ وَتَكْذِيبًا لَهُ، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَلِهَذَا قال تعالى:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مَا نَجَعَ فِيهِمُ الْبَلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِكَ مِنْ قَوْمِكَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَبِيَدِهِ الْأَمْرُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس: 96- 97] الآية، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُكَ وَيَنْصُرُكَ وَيُؤَيِّدُكَ، وَيُذِلُّ عَدُوَّكَ وَيَكْبِتُهُمْ، وَيَجْعَلُهُمْ أَسْفَلَ السَّافِلِينَ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ عَامًا حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ إِنَّ عُمُرَهُ كُلَّهُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا لَبِثَ فِيهِمْ قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، ودعاهم ثلاثمائة سنة، ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين عاما، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. وَقَالَ عَوْنُ بن أبي شداد: إن الله تعالى أَرْسَلَ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وثلاثمائة سَنَةٍ، فَدَعَاهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْرَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عُمَرَ: كَمْ لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ؟
قَالَ: قُلْتُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، قَالَ: فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا فِي نُقْصَانٍ مِنْ أَعْمَارِهِمْ وَأَحْلَامِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ إِلَى يَوْمِكَ هَذَا. وقوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ هُودٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ بِمَا أَغْنَى عن إعادته.
وقوله تعالى: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ أَيْ وَجَعَلْنَا تِلْكَ السَّفِينَةَ بَاقِيَةً إِمَّا عَيْنُهَا، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا بَقِيَتْ إِلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَبَلِ الْجُودِيِّ أَوْ نَوْعُهَا جَعَلَهُ لِلنَّاسِ تَذْكِرَةً لِنِعَمِهِ عَلَى الخلق كيف أنجاهم مِنَ الطُّوفَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ- إلى قوله- وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [يس: 41- 44] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 11- 12] وَقَالَ هَاهُنَا: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّدْرِيجِ مِنَ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 55] أَيْ وَجَعَلَنَا نوعها رجوما فإن التي يرمى بها ليست هي زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ(6/242)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
مَكِينٍ
[الْمُؤْمِنُونَ: 12- 13] وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : لَوْ قِيلَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها عَائِدٌ إِلَى الْعُقُوبَةِ لَكَانَ وَجْهًا، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي التَّقْوَى وَطَلَبِ الرِّزْقِ مِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَوْحِيدِهِ فِي الشُّكْرِ، فَإِنَّهُ الْمَشْكُورُ عَلَى النِّعَمِ لَا مُسْدِيَ لَهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أَيْ أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَالْخَوْفَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَصَلَ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَانْدَفَعَ عَنْكُمُ الشَّرُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَقْتُمْ أَنْتُمْ لها أسماء فسميتموها آلهة وإنما هي مخلوقة مثلكم، هكذا رواه الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَتَصْنَعُونَ إِفْكًا أَيْ تَنْحِتُونَهَا أَصْنَامًا، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ، وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهِيَ لَا تَمْلِكُ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْحَصْرِ كَقَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: 5] رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [مريم: 11] وَلِهَذَا قَالَ: فَابْتَغُوا أَيْ فَاطْلُبُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أَيْ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ أَيْ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ فَبَلَّغَكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ فِي مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْنِي إِنَّمَا عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَكُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَاحْرِصُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ السُّعَدَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِنْ قَتَادَةَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَاعْتَرَضَ بِهَذَا إِلَى قَوْلِهِ:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ وَهَكَذَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا. وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ هَذَا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام، يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ لِإِثْبَاتِ الْمَعَادِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 128.(6/243)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ وُجِدُوا وَصَارُوا أُنَاسًا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ، فَالَّذِي بَدَأَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي الْآفَاقِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ: السَّمَوَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهَا من مهاد وجبال، وأودية وبراري وَقِفَارٍ، وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارٍ، وَثِمَارٍ وَبِحَارٍ، كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى حُدُوثِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَعَلَى وُجُودِ صَانِعِهَا الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ.
وَلِهَذَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فُصِّلَتْ: 53] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور: 35- 36] .
وقوله تَعَالَى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مَهْمَا فَعَلَ فَعَدْلٌ، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ «إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ» «1» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أَيْ تَرْجِعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أَيْ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، فكل شَيْءٍ خَائِفٌ مِنْهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أي جحدوها
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة باب 16، وابن ماجة في المقدمة باب 10، وأحمد في المسند 5/ 182، 185، 186.(6/244)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
وَكَفَرُوا بِالْمَعَادِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي موجع شديد في الدنيا والآخرة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ومكابرتهم ودفعهم الحق بالباطل، أنهم مَا كَانَ لَهُمْ جَوَابٌ بَعْدَ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْهُدَى وَالْبَيَانِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَامَ عَلَيْهِمُ الْبُرْهَانُ وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَعَدَلُوا إِلَى استعمال جاههم وقوة ملكهم ف قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصَّافَّاتِ: 97- 98] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَشَدُوا فِي جَمْعِ أَحِطَابٍ عَظِيمَةٍ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَحَوَّطُوا حَوْلَهَا، ثُمَّ أَضْرَمُوا فِيهَا النَّارَ، فَارْتَفَعَ لَهَا لَهَبٌ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَلَمْ تُوقَدْ نَارٌ قَطُّ أَعْظَمُ مِنْهَا، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَكَتَّفُوهُ وَأَلْقَوْهُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ، ثم قذفوه فِيهَا، فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَخَرَجَ مِنْهَا سَالِمًا بَعْدَ مَا مَكَثَ فِيهَا أَيَّامًا، وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا، فَإِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلرَّحْمَنِ، وَجَسَدَهُ لِلنِّيرَانِ، وَسَخَا بِوَلَدِهِ لِلْقُرْبَانِ، وَجَعَلَ مَالَهُ لَلضِّيفَانِ، وَلِهَذَا اجْتَمَعَ عَلَى محبته جميع أهل الأديان.
وقوله تعالى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي سلمه مِنْهَا بِأَنْ جَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يَقُولُ لِقَوْمِهِ مُقَرِّعًا لَهُمْ وموبخا على سوء صنيعهم في عبادتهم للأوثان: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ هَذِهِ لِتَجْتَمِعُوا عَلَى عِبَادَتِهَا فِي الدُّنْيَا صَدَاقَةً وَأُلْفَةً مِنْكُمْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَمَعْنَاهُ إِنَّمَا اتِّخَاذُكُمْ هَذَا لتحصل لَكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَنْعَكِسُ هَذَا الْحَالُ، فَتَبْقَى هَذِهِ الصَّدَاقَةُ والمودة بغضا وشنآنا ثم يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أَيْ تَتَجَاحَدُونَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيْ يَلْعَنُ الْأَتْبَاعُ الْمَتْبُوعِينَ، وَالْمَتْبُوعُونَ الْأَتْبَاعَ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ:
38] وَقَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] وَقَالَ هَاهُنَا:
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ الآية، أَيْ وَمَصِيرُكُمْ وَمَرْجِعُكُمْ بَعْدَ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ وَمَا لَكَمَ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُكُمْ، وَلَا مُنْقِذٍ يُنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهَذَا حَالُ الكافرين، وأما الْمُؤْمِنُونَ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا(6/245)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
الرَّبِيعُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أُخْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُخْبِرُكِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صعيد واحد، فمن يدري أين الطرفان؟ - قالت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ- ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ، فَيَشْرَئِبُّونَ- قَالَ أبو عاصم يرفعون رؤوسهم- ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ يُنَادِي الثَّالِثَةَ: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عفا عنكم- قال- فيقوم الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظلمات الدُّنْيَا- يَعْنِي الْمَظَالِمَ- ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ لِيَعْفُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَعَلَى اللَّهِ الثواب» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ آمَنُ لَهُ لُوطٌ، يُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، يَقُولُونَ هُوَ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ آزَرَ، يَعْنِي وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، مِنْ قَوْمِهِ سِوَاهُ وَسَارَّةُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، لَكِنْ يُقَالُ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ مَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْجَبَّارِ فَسَأَلَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سارة ما هي منه، فقال: أُخْتِي، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: إِنِّي قَدْ قُلْتُ لَهُ إِنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فَأَنْتِ أُخْتِي فِي الدِّينِ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ زَوْجَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَإِنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، ثُمَّ أُرْسِلُ في حياة الخليل إلى أهل سدوم وأقام بها، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي.
وقوله تعالى: وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي يَحْتَمِلُ عَوْدَ الضمير في قوله وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ على لوط. لأنه هو أَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ عُودَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَاكُ، وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أَيْ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اخْتَارَ الْمُهَاجَرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ ابْتِغَاءَ إِظْهَارِ الدِّينِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ ولهذا قال: إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ لَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ الْقَدَرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ.
وَقَالَ قتادة: هاجروا جَمِيعًا مِنْ كَوْثَى، وَهِيَ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ يَنْحَازُ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أهلها حتى تلفظهم أرضهم، وتقذرهم روح الله عز وجل، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَا سَقَطَ مِنْهُمْ» .
وَقَدْ أَسْنَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» هَذَا الْحَدِيثَ فَرَوَاهُ مُطَوَّلًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بن عمرو بن العاص
__________
(1) المسند 2/ 198، 199، 209.(6/246)
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَتْنَا بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَدِمْتُ الشَّامَ فَأُخْبِرْتُ بِمَقَامٍ يَقُومُهُ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ، فَجِئْتُهُ إِذْ جاء رجل فانتبذ «1» الناس وعليه خميصة «2» ، فإذا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا رَآهُ نَوْفٌ أَمْسَكَ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَيَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شَرَارُ أَهْلِهَا، فَتَلْفِظُهُمْ أرضهم تقْذَرُهُمْ نَفْسُ الرَّحْمَنِ، تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، فَتَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إذا قالوا، وتأكل من تخلف منهم» قَالَ: وَسَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ «3» ، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ- حَتَّى عَدَّهَا زِيَادَةً عَلَى عِشْرِينَ مَرَّةً- كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ «4» حتى يخرج الدجال في بقيتهم» ورواه الإمام أَحْمَدُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَعَبْدِ الصَّمَدِ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «5» فِي سُنَنِهِ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ بَابُ مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الشَّامِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قال: سمعت رسول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بعد هجرة، وينحاز أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُهُمْ، وتَقْذَرُهُمْ نَفْسُ الرَّحْمَنِ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ» .
وَقَالَ الإمام أحمد «6» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ عَنْ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا صَاحِبُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ بِأَحَقِّ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا بِآخَرَةٍ الْآنَ وَالدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَئِنْ أَنْتُمُ اتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ الله، ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم لَا تُنْزَعُ مِنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى مَا كنتم عليه، وتتوبوا إلى الله تعالى» وَسَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَتَكُونَنَّ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ إِلَى مُهَاجَرِ أبيكم إبراهيم حتى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شَرَارُ أَهْلِهَا، وَتَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ، وَتَقَذَرُهُمْ رُوحُ الرَّحْمَنِ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مع القردة والخنازير، تقيل معهم إذا قالوا، وتبيت معهم حيث
__________
(1) انتبذ: تنحى، وانتبذ فلان: أي ذهب ناحية، وانتبذ عن قومه: تحنى عنهم.
(2) الخميصة: كساء أسود مربع.
(3) التراقي: جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله، ولا يقبلها، فكأنها لم تتجاوز حلوقهم.
(4) أي لا يأتي قرن آخر على شاكلته.
(5) كتاب الجهاد باب 3.
(6) المسند 2/ 84.(6/247)
يَبِيتُونَ، وَمَا سَقَطَ مِنْهُمْ فَلَهَا» وَلَقَدْ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم من أمتي يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ- قَالَ يَزِيدُ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ- يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ عِلْمَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ، كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قتله اللَّهُ» فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرين مرة وأكثر، وَأَنَا أَسْمَعُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: حدثنا أبو الحسن بْنُ الْفَضْلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ إسحاق بن إبراهيم بْنُ يَزِيدَ وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيَّانِ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ نَافِعٍ، وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «سَيُهَاجِرُ أَهْلُ الْأَرْضِ هِجْرَةً بَعْدَ هِجْرَةٍ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا شَرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمُ الْأَرَضُونَ، وَتَقْذَرُهُمْ رُوحُ الرَّحْمَنِ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، لَهَا مَا سَقَطَ مِنْهُمْ» غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ رَوَاهُ عَنْ شَيْخٍ لَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرِوَايَتُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَقْرَبُ إلى الحفظ.
وقوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كقوله: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [مَرْيَمَ: 49] أَيْ إِنَّهُ لَمَّا فَارَقَ قَوْمَهُ، أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ، وَوُلِدَ له ولد صالح نبي في حياة جده، وكذلك قال تعالى:
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 72] أَيْ زيادة، كما قال تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أَيْ وَيُولَدُ لِهَذَا الْوَلَدِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُكُمَا، وَكَوْنُ يَعْقُوبَ وَلَدٌ لِإِسْحَاقَ نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، قال الله تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً [البقرة: 133] الآية، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ الصلاة والسلام» «1» فَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ قَالَ:
هُمَا وَلَدَا إِبْرَاهِيمَ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ وَلَدَ الولد بمنزلة الولد، فإن هذا الأمر لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ ابن عباس.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ هَذِهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ عَظِيمَةٌ مَعَ اتِّخَاذِ اللَّهِ إِيَّاهُ خَلِيلًا، وَجَعْلِهِ لِلنَّاسِ إِمَامًا أَنْ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ، فَجَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُلَالَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إسحاق بن
__________
(1) تقدم الحديث مع تخريجه عند تفسير الآية الرابعة من سورة يوسف.(6/248)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَامَ فِي مَلَئِهِمْ مُبَشِّرًا بِالنَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بن إبراهيم عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه، عليه أفضل الصلاة والسلام.
وَقَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْمَوْصُولَةِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْهَنِيُّ، وَالْمَنْزِلُ الرَّحْبُ، وَالْمَوْرِدُ الْعَذْبُ، وَالزَّوْجَةُ الْحَسَنَةُ الصَّالِحَةُ، وَالثَّنَاءُ الجميل، والذكر الحسن، وكل أَحَدٍ يُحِبُّهُ وَيَتَوَلَّاهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: مَعَ الْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 32] أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَمَّلَ طَاعَةَ رَبِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وكما قَالَ تَعَالَى:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- إلى قوله- وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 120- 122] .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَعْمَالِ فِي إِتْيَانِهِمُ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَى هَذِهِ الْفِعْلَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ قَبْلَهُمْ، وكانوا مع هذا يكفرون بالله ويكذبون رسله، ويخالفون وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، أَيْ يَقِفُونَ فِي طَرِيقِ النَّاسِ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أَيْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ فِيهَا، لَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْ قَائِلٍ كَانُوا يَأْتُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي الْمَلَأِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمِنْ قَائِلٍ كَانُوا يَتَضَارَطُونَ وَيَتَضَاحَكُونَ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالْقَاسِمُ، وَمِنْ قَائِلٍ كَانُوا يُنَاطِحُونَ بَيْنَ الْكِبَاشِ وَيُنَاقِرُونَ بين الديوك، وكل ذلك يَصْدُرُ عَنْهُمْ وَكَانُوا شَرًّا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، أَخْبَرَنِي حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قَالَ «يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطريق ويسخرون منهم، وذلك
__________
(1) المسند 6/ 341.(6/249)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ» «1» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ «2» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي يُونُسَ القشيري عن حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ سِمَاكٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قَالَ: الصَّفِيرُ وَلَعِبُ الْحَمَّامِ والْجُلَاهِقِ وَالسُّؤَالُ فِي الْمَجْلِسِ، وَحَلُّ أَزْرَارِ القباء. وقوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَهَذَا مِنْ كُفْرِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 35]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
لِمَا اسْتَنْصَرَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بالله عز وجل عَلَيْهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ لِنُصْرَتِهِ مَلَائِكَةً فَمَرُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَيْئَةِ أَضْيَافٍ، فَجَاءَهُمْ بما ينبغي للضيف، فلما رآهم أَنَّهُ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ، نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، فَشَرَعُوا يُؤَانِسُونَهُ وَيُبَشِّرُونَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ مِنَ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سورة هود والحجر، فلما جاءت إبراهيم البشرى وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، أَخَذَ يُدَافِعُ لَعَلَّهُمْ يُنْظَرُونَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، ولما قالوا إنا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تُمَالِئُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ وَدُبُرِهِمْ.
ثُمَّ سَارُوا مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلُوا عَلَى لوط في صورة شبان حِسَانٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ كَذَلِكَ سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود: 77] أي اغتم بِأَمْرِهِمْ إِنْ هُوَ أَضَافَهُمْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُمْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَمْرِهِمْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ قالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْتَلَعَ قُرَاهُمْ مِنْ قَرَارِ الْأَرْضِ، ثُمَّ رفعها إلى
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 29، باب 2. [.....]
(2) تفسير الطبري 10/ 136.(6/250)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ، وَجَعَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً خَبِيثَةً مُنْتِنَةً، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْمَعَادِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً أَيْ وَاضِحَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: 137- 138] .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَهْلَ مَدْيَنَ، فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخَافُوا بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ وَسَطْوَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ وَاخْشَوُا الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الممتحنة: 6] وقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ نَهَاهُمْ عَنِ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَهُوَ السَّعْيُ فِيهَا وَالْبَغْيُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْقِصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، هَذَا مَعَ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرَجْفَةٍ عَظِيمَةٍ زَلْزَلَتْ عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ، وَصَيْحَةٍ أَخْرَجَتِ الْقُلُوبَ مِنْ حَنَاجِرِهَا، وَعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ الَّذِي أَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ. وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ قَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتِينَ، وَقَالَ غيره: قد ألقى بعضهم على بعض.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 الى 40]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم، وأخذهم بالانتقام منهم، فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يسكنون الأحقاف، وهي قريبة من حضر موت بلاد اليمن، وثمود قوم صالح كانوا يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ قَرِيبًا مِنْ وَادِي الْقُرَى، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ مَسَاكِنَهُمَا جَيِّدًا، وَتَمُرُّ عَلَيْهَا كَثِيرًا، وَقَارُونُ صَاحِبُ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ وَمَفَاتِيحِ الْكُنُوزِ الثَّقِيلَةِ، وَفِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ فِي زَمَانِ مُوسَى وَوَزِيرُهُ هامان القبطيان الكافران بالله تعالى
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 139.(6/251)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
ورسوله صلى الله عليه وسلم فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أَيْ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَهُمْ عَادٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ أَشُدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ صَرْصَرٌ بَارِدَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ، عاتية الهبوب جدا، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عَلَيْهِمْ، وَتَقْتَلِعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَتَرْفَعُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ من الأرض إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ، فَيَبْقَى بَدَنًا بِلَا رَأْسٍ، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَهُمْ ثَمُودُ، قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَظَهَرَتْ لَهُمُ الدَّلَالَةُ مِنْ تِلْكَ النَّاقَةِ الَّتِي انْفَلَقَتْ عَنْهَا الصخرة مثل ما سألوه سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَتَهَدَّدُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَالِحًا وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَتَوَعَّدُوهُمْ بِأَنْ يُخْرِجُوهُمْ وَيَرْجُمُوهُمْ، فَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَخَمَدَتِ الْأَصْوَاتَ مِنْهُمْ وَالْحَرَكَاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَهُوَ قَارُونُ الَّذِي طَغَى وَبَغَى وَعَتَا، وَعَصَى الرَّبَّ الْأَعْلَى، وَمَشَى فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، وَفَرِحَ وَمَرِحَ وَتَاهَ بِنَفْسِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عَنْ آخِرِهِمْ أُغْرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أَيْ فِيمَا فَعَلَ بِهِمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. أَيْ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ، ثُمَّ قال فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هذا لأنه قد روى ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً قَالَ قَوْمُ لُوطٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا قَالَ: قَوْمُ نُوحٍ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنَّ ابْنَ جُرْيَجٍ لَمْ يُدْرِكْهُ. ثُمَّ قَدْ ذُكِرَ الله فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِهْلَاكُ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء، وأطال السِّيَاقُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ هَذَا السِّيَاقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً قَالَ: قَوْمُ لُوطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ، والله أعلم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 43]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ يَرْجُونَ نَصْرَهُمْ وَرِزْقَهُمْ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ وَوَهَنِهِ، فَلَيْسَ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ مِنْ آلِهَتِهِمْ، إِلَّا كَمَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَنْهُ شَيْئًا، فَلَوْ عَلِمُوا هَذَا الْحَالَ لَمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ قَلْبُهُ لِلَّهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ(6/252)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
العمل في اتباع الشرع، فإنه متمسك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا لِقُوَّتِهَا وَثَبَاتِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ، إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَيَعْلَمُ مَا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَسَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أَيْ وَمَا يَفْهَمُهَا وَيَتَدَبَّرُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْمُتَضَلِّعُونَ مِنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: عَقَلْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَ مَثَلٍ، وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: مَا مَرَرْتُ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَعْرِفُهَا إِلَّا أَحْزَنَنِي، لِأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 44 الى 45]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، يَعْنِي لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: 3 پ] . وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ لَدَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قِرَاءَتُهُ وَإِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يَعْنِي أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ عَلَى تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، أَيْ مُوَاظَبَتَهَا تَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ تَزِدْهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» .
[ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ]
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْمُخَرِّمِيُّ الْفَلَّاسُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَافِعٍ أَبُو زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قَالَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ
__________
(1) المسند 4/ 203.(6/253)
وَالْمُنْكَرِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» . وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ»
: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قَالَ:
فَمَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ صَلَاتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا، فَهَذَا مَوْقُوفٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَاكِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلَاةَ» وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر. قال: قال سفيان قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ قَالَ: فَقَالَ سُفْيَانُ: أَيْ وَاللَّهِ تَأْمُرُهُ وَتَنْهَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ أَبُو خَالِدٍ مَرَّةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلَاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلَاةِ تَنْهَاهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، كَمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ فُلَانًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ، قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَنْ أَطَاعَهَا.
وَقَالَ ابْنُ جرير «3» : حدثنا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ تَنْهَهُ عَنِ الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إِلَّا بُعْدًا» وَالْأَصَحُّ فِي هَذَا كُلِّهِ الْمَوْقُوفَاتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وقَتَادَةَ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يوسف بن موسى، أنبأنا جَرِيرٌ- يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ- عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أُرَاهُ عَنْ جَابِرٍ، شَكَّ الْأَعْمَشُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ. قال: «سينهاه ما تقول» . وحدثنا محمد بن موسى الجرشي، أخبرنا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ، ثُمَّ قال: وهذا الحديث قد رواه عن الأعمش غير واحد، وَاخْتَلَفُوا فِي إِسْنَادِهِ، فَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ قَيْسٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قال جَرِيرٌ وَزِيَادٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عن أبي صالح عن جابر.
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 144.
(2) تفسير الطبري 10/ 145.
(3) تفسير الطبري 10/ 145.(6/254)
وقال الإمام أحمد «1» : حدثنا وكيع، أخبرنا الأعمش قال: أخبرنا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سرق، فقال: «إنه سينهاه ما تقول» . وَتَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَكْبَرُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أَيْ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم. وقال أبو العالية في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ، فَكُلُّ صَلَاةٍ لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ: الْإِخْلَاصُ، وَالْخَشْيَةُ، وَذِكْرُ اللَّهِ، فَالْإِخْلَاصُ يَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْخَشْيَةُ تَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذِكْرُ الله الْقُرْآنِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ: إِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ، فَأَنْتَ فِي مَعْرُوفٍ، وَقَدْ حَجَزَتْكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالَّذِي أَنْتَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ يَعْنِي مَا دُمْتَ فِيهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يَقُولُ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ أَكْبَرُ إِذَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذِكْرِهُمْ إِيَّاهُ «2» ، وَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ طَعَامِكَ وَعِنْدَ مَنَامِكَ، قُلْتُ:
فَإِنَّ صَاحِبًا لِي فِي الْمَنْزِلِ يَقُولُ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ، قَالَ: وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ؟ قلت: يقول الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فَلَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّانَا أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِنَا إِيَّاهُ، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى:
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ: لَهَا وَجْهَانِ، قَالَ: ذكر الله عند ما حَرَّمَهُ، قَالَ: وَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَعْظَمُ مِنْ ذكركم إياه.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أخبرنا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ؟
قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ: لَقَدْ قُلْتَ قولا عجيبا وَمَا هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ ذِكْرُ الله إياكم عند ما أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَلْمَانَ الفارسي وغيرهم، واختاره ابن جرير.
__________
(1) المسند 2/ 447.
(2) انظر تفسير الطبري 10/ 146.
(3) تفسير الطبري 10/ 145، 146.(6/255)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
[سورة العنكبوت (29) : آية 46]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مُجَادَلَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ السَّيْفُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ باقية مُحْكَمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِبْصَارَ مِنْهُمْ فِي الدِّينِ، فَيُجَادِلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] الآية، وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طَهَ: 44] وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جرير، وحكاه عن ابن زيد.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أَيْ حَادُوا عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ، وَعَمُوا عَنْ وَاضِحِ الْمَحَجَّةِ، وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا، فَحِينَئِذٍ يُنْتَقَلُ مِنَ الْجِدَالِ إِلَى الْجِلَادِ ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم، قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ- إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَدِيدِ: 25] قَالَ جَابِرٌ: أُمِرْنَا مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ أَنْ نَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، قَالَ مُجَاهِدٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يعني أهل الحرب، ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، فَهَذَا لَا نُقْدِمُ عَلَى تكذيبه لأنه قد يكون حقا، ولا تَصْدِيقِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانًا مُجْمَلًا مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُنْزَلًا لَا مُبَدَّلًا وَلَا مُؤَوَّلًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ «1» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عثمان بن عمرو، أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ أَنَّ أَبَا نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ» قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ» .
(قَلَّتْ) وَأَبُو نَمْلَةَ هَذَا هُوَ عُمَارَةُ. وَقِيلَ عَمَّارٌ، وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ معاذ بن زرارة الأنصاري
__________
(1) كتاب الشهادات باب 29، وتفسير سورة 2، باب 1، والاعتصام باب 25، والتوحيد باب 51.
(2) المسند 4/ 136.(6/256)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ ما يتحدثون بِهِ غَالِبُهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَهُ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَتَأْوِيلٌ، وَمَا أَقَلَّ الصِّدْقَ فِيهِ، ثُمَّ مَا أَقَلَّ فَائِدَةَ كَثِيرٍ مِنْهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أبو عاصم، أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ- هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ- قَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى دِينِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أخبرنا ابن شهاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرؤونه مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب بدلوا وغيروا وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «3» : وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ.
(قُلْتُ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ الْكَذِبُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ قصد، لأنه يحدث عن صحف يُحْسِنُ بِهَا الظَّنَّ، وَفِيهَا أَشْيَاءُ مَوْضُوعَةٌ وَمَكْذُوبَةٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ حُفَّاظٌ مُتْقِنُونَ كَهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَقُرْبَ الْعَهْدِ، وُضِعَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يعلمها إلا الله عز وجل، ومن منحه الله تعالى عِلْمًا بِذَلِكَ كُلٌّ بِحَسْبِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 49]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الرُّسُلِ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ ومناسبته وارتباطه جيد. وقوله تعالى:
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 151.
(2) كتاب الاعتصام باب 25، والتوحيد باب 42.
(3) كتاب الاعتصام باب 25. [.....]
(4) تفسير الطبري 10/ 151.(6/257)
فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيِ الَّذِينَ أَخَذُوهُ فَتَلَوْهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ مِنْ أَحْبَارِهِمُ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وأشباههما. وقوله تعالى: وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَعْنِي الْعَرَبَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَجْحَدُ حَقَّهَا إِلَّا مَنْ يَسْتُرُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيُغَطِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ بِالْوَصَائِلِ وَهَيْهَاتَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أَيْ قَدْ لَبِثْتَ فِي قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ من قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عُمُرًا لَا تَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا تُحْسِنُ الْكِتَابَةَ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ يَعْرِفُ أَنَّكَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، وَهَكَذَا صِفَتُهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157] الآية، وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائما إلى يوم الدين، لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يَخُطُّ سَطْرًا وَلَا حَرْفًا بِيَدِهِ، بَلْ كَانَ لَهُ كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْوَحْيَ وَالرَّسَائِلَ إِلَى الْأَقَالِيمِ.
وَمَنْ زَعَمَ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ كَالْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: ثُمَّ أَخَذَ فَكَتَبَ. وَهَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: ثُمَّ أَمَرَ فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا مِنْهُ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا وَخَطَبُوا بِهِ فِي مَحَافِلِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ- أَعْنِي الْبَاجِيَّ- فِيمَا يَظْهَرُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ لَا أَنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، كما قال صلى الله عليه وسلم إِخْبَارًا عَنِ الدَّجَّالِ: «مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «ك ف ر، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ» «1» وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لم يمت صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ، قال الله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا أَيْ تَقْرَأُ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، تَأْكِيدٌ أَيْضًا، وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] .
وقوله تعالى: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ لَوْ كُنْتَ تُحْسِنُهَا لَارْتَابَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذَا مِنْ كُتُبٍ قَبْلَهُ مَأْثُورَةٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ:
5] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] الآية، وَقَالَ هَاهُنَا: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا، يَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا وَتِلَاوَةً وَتَفْسِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَرِ: 40] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 17، والفتن باب 26، ومسلم في الإيمان حديث 270، والفتن حديث 45، 95، 101، 105.(6/258)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
«مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا» «1» وَفِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنِّي مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلٍ بِكَ، وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا ويقظانا» «2» أَيْ لَوْ غَسَلَ الْمَاءُ الْمَحَلَّ الْمَكْتُوبَ فِيهِ لما احتيج إلى ذلك المحل، لأنه قد جاء من الْحَدِيثِ الْآخَرِ «لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ ما أحرقته النار» «3» ولأنه مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ مُيَسَّرٌ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مُهَيْمِنٌ عَلَى الْقُلُوبِ، مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بَلِ الْعِلْمُ بِأَنَّكَ مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ كِتَابًا، وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَقَلَهُ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَحَكَى الْأَوَّلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَطْ، قُلْتُ وهو الذي رواه العوفي عن ابن عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَبْخَسُ حَقَّهَا وَيَرُدُّهَا إِلَّا الظَّالِمُونَ، أَيِ الْمُعْتَدُونَ الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَحِيدُونَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96- 97] .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَعَنُّتِهِمْ وَطَلَبِهِمْ آيَاتٍ، يَعْنُونَ تُرْشِدُهُمْ إِلَى أَنَّ محمدا رسول الله كما أتى صَالِحٌ بِنَاقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ إِنَّمَا أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم، لأن هذا سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْكُمْ أنكم إنما قصدتم التَّعَنُّتُ وَالِامْتِحَانُ، فَلَا يُجِيبُكُمْ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الإسراء: 59] .
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام باب 1، وفضائل القرآن باب 1، ومسلم في الإيمان حديث 239.
(2) أخرجه مسلم في الجنة حديث 63، وأحمد في المسند 4/ 162.
(3) أخرجه أحمد في المسند 4/ 151، 155.
(4) تفسير الطبري 10/ 153.(6/259)
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ نَذِيرًا لَكُمْ بَيِّنَ النِّذَارَةِ، فَعَلَيَّ أَنْ أبلغكم رسالة الله تعالى مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الْكَهْفِ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَةِ: 272] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا كَثْرَةَ جَهْلِهِمْ وَسَخَافَةَ عَقْلِهِمْ حَيْثُ طَلَبُوا آيَاتٍ تدلهم عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاءهم، وَقَدْ جَاءَهُمْ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُعْجِزَةٍ، إِذْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بَلْ عَنْ مُعَارَضَةِ عَشْرِ سُورٍ مِنْ مَثَلِهِ، بَلْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ أَيْ أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الْكِتَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَهُمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَهُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمْ، وَأَنْتَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، وَلَمْ تُخَالِطْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجِئْتَهُمْ بِأَخْبَارِ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى بِبَيَانِ الصَّوَابِ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَبِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الْجَلِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: 197] وَقَالَ تَعَالَى:
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طَهَ: 133] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «2» أَخْرَجَاهُ مِنْ حديث الليث. وقد قال اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لرحمة أي بيانا للحق وإزاحة للباطل، وذكرى بِمَا فِيهِ حُلُولُ النِّقَمَاتِ وَنُزُولُ الْعِقَابِ بِالْمُكَذِّبِينَ والعاصين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَيَعْلَمُ مَا أَقُولُ لَكُمْ مِنْ إِخْبَارِي عَنْهُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَنِي، فَلَوْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهِ لَانْتَقَمَ مِنِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الْحَاقَّةِ: 44- 47] وَإِنَّمَا أَنَا صَادِقٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا أَيَّدَنِي بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي يوم القيامة سَيَجْزِيهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا وَيُقَابِلُهُمْ عَلَى مَا صنعوا في تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ، كَذَّبُوا بِرُسُلِ اللَّهِ مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَآمَنُوا بِالطَّوَاغِيتِ والأوثان بلا دليل، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.
__________
(1) المسند 2/ 341، 451.
(2) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 1، والاعتصام باب 1، ومسلم في الإيمان حديث 239.(6/260)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِعْجَالِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ وَبَأْسَ اللَّهِ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] وَقَالَ هَاهُنَا: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ أَيْ لَوْلَا مَا حَتَّمَ اللَّهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَرِيبًا سَرِيعًا كَمَا اسْتَعْجَلُوهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي يستعجلون العذاب وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ قَالَ:
الْبَحْرُ «1» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وَجَهَنَّمُ هُوَ هَذَا الْبَحْرُ الْأَخْضَرُ تُنْتَثَرُ الْكَوَاكِبُ فيه، وتكور فيه الشمس والقمر، ثم يوقد فَيَكُونُ هُوَ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أبو عاصم، أخبرنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حيي، أخبرني صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ» قَالُوا لِيَعْلَى، فَقَالَ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الله تعالى يقول: ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها قَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسُ يَعْلَى بِيَدِهِ، لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا حَتَّى أُعْرَضَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَةٌ حَتَّى أُعْرَضَ عَلَى اللَّهِ تعالى، هَذَا تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ، وَحَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أعلم.
ثم قال عز وجل: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41] وقال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 39] الآية، فَالنَّارُ تَغْشَاهُمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ في العذاب الحسي. وقوله تعالى: وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، وَهَذَا عَذَابٌ مَعْنَوِيٌّ عَلَى النُّفُوسِ، كَقَوْلِهِ تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 48- 49] وقال تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 155.
(2) المسند 4/ 223.(6/261)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 13- 16] .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
هَذَا أمر من الله تعالى الْمُؤْمِنِينَ بِالْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ إِلَى أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ حَيْثُ يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدِّينِ، بِأَنْ يُوَحِّدُوا الله ويعبدوه كما أمرهم، ولهذا قال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا أَصَبْتَ خَيْرًا فَأَقِمْ» وَلِهَذَا لَمَّا ضَاقَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُقَامَهُمْ بِهَا، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ لِيَأْمَنُوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك: أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى، فآواهم وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ، وَجَعَلَهُمْ سُيُومًا بِبِلَادِهِ «2» ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الْبَاقُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يَثْرِبَ الْمُطَهَّرَةِ.
ثُمَّ قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أَيْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَحَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ جَازَاهُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، ووافاه أتم الثواب ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أَيْ لَنُسْكِنَنَّهُمْ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مِنْ مَاءٍ وَخَمْرٍ وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا خالِدِينَ فِيها أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ نِعْمَتْ هَذِهِ الْغُرَفُ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا أَيْ عَلَى دِينِهِمْ. وَهَاجَرُوا إِلَى اللَّهِ وَنَابَذُوا الْأَعْدَاءَ، وَفَارَقُوا الْأَهْلَ وَالْأَقْرِبَاءَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله ورجاء ما عنده وتصديق موعوده.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أبي، أخبرنا صفوان المؤذن، أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنِي أبو معاوية الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَهُ أن في الجنة غرفا يرى
__________
(1) المسند 1/ 166.
(2) جعلهم سيوما ببلاده: أي جعلهم آمنين.(6/262)
ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا الله تعالى لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يُخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ، بَلْ رِزْقُهُ تَعَالَى عَامٌّ لِخَلْقِهِ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا، بَلْ كَانَتْ أَرْزَاقُ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ هَاجَرُوا أَكْثَرَ وَأَوْسَعَ وَأَطْيَبَ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ قَلِيلٍ صَارُوا حُكَّامَ الْبِلَادِ فِي سائر الأقطار والأمصار، ولهذا قال تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أَيْ لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شَيْئًا لِغَدٍ اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أَيِ اللَّهُ يُقَيِّضُ لَهَا رِزْقَهَا عَلَى ضَعْفِهَا وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهَا، فَيَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ الرِّزْقِ مَا يُصْلِحُهُ حَتَّى الذَّرِّ فِي قَرَارِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرِ في الهواء والحيتان في الماء. قَالَ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَالٍ الْجَزَرِيُّ- هُوَ أَبُو الْعَطُوفِ- عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَلْتَقِطُ مِنَ التَّمْرِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ عُمَرَ مَا لَكَ لَا تَأْكُلُ؟» قَالَ: قُلْتُ لَا أَشْتَهِيهِ يَا رسول الله، قال لكني أشتهيه، وهذا صُبْحُ رَابِعَةٍ مُنْذُ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا وَلَمْ أَجِدْهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ ملك كسرى وقيصر فَكَيْفَ بِكَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ بِضَعْفِ الْيَقِينِ؟» قال: فو الله مَا بَرِحْنَا وَلَا رِمْنا حَتَّى نَزَلَتْ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل لَمْ يَأْمُرْنِي بِكَنْزِ الدُّنْيَا، وَلَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَمَنْ كَنَزَ دُنْيَاهُ يُرِيدُ بِهَا حَيَاةً بَاقِيَةً، فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِيَدِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبأ رزقا لغد» هذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَأَبُو الْعَطُوفِ الْجَزَرِيُّ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْغُرَابَ إِذَا فَقَسَ عَنْ فِرَاخِهِ الْبَيْضَ خَرَجُوا وَهُمْ بِيضٌ، فَإِذَا رَآهُمْ أَبَوَاهُمْ كَذَلِكَ نَفَرَا عَنْهُمْ أَيَّامًا حَتَّى يَسْوَدَّ الرِّيشُ، فَيَظَلُّ الْفَرْخُ فَاتِحًا فَاهُ يَتَفَقَّدُ أَبَوَيْهِ فَيُقَيِّضُ الله تعالى طيرا صغارا كالبرغش، فيغشاه فيتقوت به تِلْكَ الْأَيَّامَ حَتَّى يَسْوَدَّ رِيشُهُ، وَالْأَبَوَانِ يَتَفَقَّدَانِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَكُلَّمَا رَأَوْهُ أَبْيَضَ الرِّيشِ نَفَرَا عَنْهُ، فَإِذَا رَأَوْهُ قَدِ اسْوَدَّ رِيشُهُ عَطَفَا عَلَيْهِ بِالْحَضَانَةِ وَالرِّزْقِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا رَازِقَ النَّعَّابِ في عُشِّهِ ... وَجَابِرَ الْعَظْمِ الْكَسِيرِ الْمَهِيضِ
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي جُمْلَةِ كَلَامٍ لَهُ فِي الْأَوَامِرِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتُرْزَقُوا» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أخبرنا إملاء أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غالب، حدثني محمد بن سنان، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَدَّادٍ شَيْخٌ من أهل(6/263)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
الْمَدِينَةِ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا» قَالَ: وَرُوِّينَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا قتيبة، أخبرنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُجَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَافِرُوا تَرْبَحُوا وَصُومُوا تَصِحُّوا، وَاغْزُوا تَغْنَمُوا» وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَوْقُوفًا، وَفِي لفظ «سافروا مع ذوي الجد والميسرة» قال: ورويناه عن ابن عباس: وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ الْعَلِيمُ بحركاتهم وسكناتهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ معه غيره معترفون بأنه الْمُسْتَقِلُّ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَتَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لِعِبَادِهِ وَمُقَدِّرٌ آجالهم، واختلافها واختلاف أرزاقهم، فتفاوت بَيْنَهُمْ، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُ كُلًّا مِنْهُمْ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى مِمَّنْ يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَرِّدِ بِتَدْبِيرِهَا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلِمَ يُعْبَدُ غَيْرُهُ؟ وَلِمَ يُتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ؟ فَكَمَا أَنَّهُ الْوَاحِدُ فِي مُلْكِهِ فَلْيَكُنِ الْوَاحِدَ فِي عِبَادَتِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُقَرِّرُ تَعَالَى مَقَامَ الْإِلَهِيَّةِ بِالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وما ملك.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا، وَأَنَّهَا لَا دَوَامَ لَهَا وَغَايَةُ مَا فِيهَا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أَيْ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الْحَقُّ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهَا وَلَا انْقِضَاءَ، بَلْ هي مستمرة أبد الآباد. وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَيْ لَآثَرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهَلَّا يَكُونُ هَذَا مِنْهُمْ دَائِمًا فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كقوله تَعَالَى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الإسراء: 67] الآية،
__________
(1) المسند 2/ 380، ولفظه: «سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا» .(6/264)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وَقَالَ هَاهُنَا: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهَا، فَلَمَّا رَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَذْهَبَ إِلَى الْحَبَشَةِ اضْطَرَبَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربهم الدعاء، لا ينجي فإنه هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كَانَ لَا يُنْجِي فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ. لا ينجي في البر أيضا غيره، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ لَئِنْ خَرَجْتُ لَأَذْهَبْنَ فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفا رحيما، فكان كذلك، وقوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا هَذِهِ اللَّامُ يُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ لَامَ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَتَقْيِيضِهِ إِيَّاهُمْ لِذَلِكَ فَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 69]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى قُرَيْشٍ فِيمَا أَحَلَّهُمْ مِنْ حَرَمِهِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ والباد، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا فَهُمْ فِي أَمْنٍ عَظِيمٍ، وَالْأَعْرَابُ حَوْلَهُ يَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 1- 4] وقوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ أَيْ أَفَكَانَ شُكْرُهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ أَشْرَكُوا بِهِ وَعَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وبَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ وَكَفَرُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ وَعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، فَكَانَ اللَّائِقُ بهم إخلاص العبادة لله، وأن لا يُشْرِكُوا بِهِ، وَتَصْدِيقَ الرَّسُولِ وَتَعْظِيمَهُ وَتَوْقِيرَهُ، فَكَذَّبُوهُ وَقَاتَلُوهُ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ ظَهْرِهِمْ، وَلِهَذَا سَلَبَهُمُ الله تعالى مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مَنْ قتل منهم ببدر، ثم صارت الدَّوْلَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَأَذَلَّ رِقَابَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَيْ لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. وَمَنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهَكَذَا لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ، فالأول مفتر والثاني مكذب، ولهذا قال تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ثُمَّ قَالَ تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أَيْ لَنُبَصِّرَنَّهُمْ سُبُلَنَا، أَيْ طُرُقَنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أحمد بن أبي الحواري، أخبرنا عَبَّاسٌ الْهَمْدَانِيُّ أَبُو(6/265)
أَحْمَدَ مِنْ أَهْلِ عَكَّا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ قال: الذين يعملون بما يعملون يهديهم الله لِمَا لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ، فَأَعْجَبَهُ وَقَالَ: لَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ فِي الْأَثَرِ، فَإِذَا سَمِعَهُ فِي الْأَثَرِ عَمِلَ بِهِ، وحمد الله حتى وَافَقَ مَا فِي نَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ قَاضِي الرَّيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، لَيْسَ الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى من أحسن إليك، والله أعلم. آخر تفسير سورة العنكبوت. ولله الحمد والمنة.(6/266)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
سورة الروم
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ حِينَ غَلَبَ سَابُورُ مَلِكُ الْفُرْسِ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَأَقَاصِي بِلَادِ الرُّومِ. وَاضْطَرَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَحَاصَرَهُ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ لِهِرَقْلَ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ قَالَ غُلِبَتْ وَغَلَبَتْ، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ» فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «أَلَا جَعَلَتْهَا إِلَى دُونِ- أَرَاهُ قَالَ الْعَشْرِ-» قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشْرِ، ثُمَّ ظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدُ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ «2» هَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبٍ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو به.
__________
(1) المسند 1/ 276، 304. [.....]
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 30، باب 2.(6/267)
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ أَوْ سَعِيدٌ الثَّعْلَبِيُّ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ فَذَكَرَهُ، وَعِنْدَهُمْ قَالَ سُفْيَانُ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ غَلَبُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ، الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ «2» ، أَخْرَجَاهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ- هُوَ الشَّعْبِيُّ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: كَانَ فَارِسُ ظَاهِرًا عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ قَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ؟ قَالَ: صَدَقَ. قَالُوا: هل لك أَنْ نُقَامِرَكَ؟ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، فَمَضَتِ السَّبْعُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، وَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ؟» قَالُوا: دُونَ الْعَشْرِ. قَالَ «اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ، وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ فِي الْأَجَلِ» قَالَ: فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وأنزل الله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ- إلى قوله تعالى- لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حدثنا أحمد بن عمر الوكيعي، حدثنا مؤمن عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَلَا تَرَى إِلَى مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ يَزْعُمُ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ؟ قَالَ: صَدَقَ صَاحِبِي. قَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ نُخَاطِرَكَ؟ فَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَجَلًا، فَحَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ تَغْلِبَ الرُّومُ فَارِسَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاءَهُ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ «مَا دَعَاكَ إلى هذا؟» قال: تصديقا لله ولرسوله. قال «تَعَرَّضْ لَهُمْ وَأَعْظِمِ الْخَطَرَ وَاجْعَلْهُ إِلَى بِضْعِ سِنِينَ» فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِي الْعَوْدِ، فَإِنَّ الْعَوْدَ أَحْمَدُ؟ قَالُوا:
نعم، فَلَمْ تَمْضِ تِلْكَ السُّنُونَ حَتَّى غَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ، وَرَبَطُوا خُيُولَهُمْ بِالْمَدَائِنِ وَبَنَوُا الرُّومِيَّةَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا السُّحْتُ، قَالَ «تَصَدَّقْ بِهِ» «4» .
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 163.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 25، باب 4، ومسلم في المنافقين حديث 41.
(3) تفسير الطبري 10/ 165، 166.
(4) أخرجه السيوطي في الدر المنثور 5/ 289.(6/268)
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَاهِرِينَ لِلرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وفي ذلك قوله الله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا إِيمَانٍ بِبَعْثٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بكر: فذاك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، ودلك قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ.
فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ، وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ الْبِضْعَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ، قَالَ:
فَمَضَتْ سِتُّ السِّنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ: فَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، قَالَ: فَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ. هَكَذَا سَاقَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِثْلِ عِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ والسُّدِّيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ أَغْرَبِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كان فِي فَارِسَ امْرَأَةٌ لَا تَلِدُ إِلَّا الْمُلُوكَ الْأَبْطَالَ، فَدَعَاهَا كِسْرَى فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ إِلَى الرُّومِ جَيْشًا وَأَسْتَعْمِلُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِيكِ، فَأَشِيرِي عَلَيَّ أَيَّهُمْ أَسْتَعْمِلُ؟! فَقَالَتْ: هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ، وَأَحْذَرُ مِنْ صَقْرٍ، وَهَذَا فَرْخَانُ وَهُوَ أَنْفَذُ مِنْ سِنَانٍ، وَهَذَا شَهْرَيَرَازُ وَهُوَ أَحْلَمُ مِنْ كَذَا، تَعْنِي أَوْلَادَهَا الثَّلَاثَةَ، فَاسْتَعْمِلَ أَيَّهُمْ شِئْتَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُ الْحَلِيمَ، فَاسْتَعْمَلَ شَهْرَيَرَازَ فَسَارَ إِلَى الرُّومِ بِأَهْلِ فَارِسَ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ وَخَرَّبَ مَدَائِنَهُمْ، وَقَطَّعَ زَيْتُونَهُمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ فَقَالَ: أَمَا رَأَيْتَ بِلَادَ الشَّامِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهَا لَرَأَيْتَ الْمَدَائِنَ الَّتِي خُرِّبَتْ وَالزَّيْتُونَ الَّذِي قُطِّعَ، فَأَتَيْتُ الشَّامَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ. قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَنَّ قَيْصَرَ بَعَثَ رَجُلًا يُدْعَى قِطْمَةَ بِجَيْشٍ مِنَ الرُّومِ، وَبَعَثَ كِسْرَى شَهْرَيَرَازَ فَالْتَقَيَا بِأَذْرُعَاتَ وبُصْرَى، وَهِيَ أَدْنَى الشام
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 30، باب 4.(6/269)
إِلَيْكُمْ، فَلَقِيَتْ فَارِسُ الرُّومَ فَغَلَبَتْهُمْ فَارِسُ، فَفَرِحَتْ بِذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَكَرِهَهُ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: وَلَقِيَ الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ، وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مِنْ أهل فارس على إخواننا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُونَا لَنَظْهَرَنَّ عليكم، فأنزل الله تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى إِخْوَانِنَا، فَلَا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فو الله لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا أَبَا فُضَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ أَكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَقَالَ:
أُنَاحِبُكَ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرَ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمْتُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غَرِمْتَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ «مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، فَزَايِدْهُ فِي الْخَطَرِ وَمَادِّهِ فِي الْأَجَلِ» فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَلَقِيَ أُبَيًّا، فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ؟ فَقَالَ: لَا، تَعَالَ أُزَايِدْكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادَّكَ فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مِائَةَ قَلُوصٍ لِمِائَةِ قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَغَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا أَنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، جَلَسَ فَرْخَانُ يَشْرَبُ وَهُوَ أَخُو شَهْرَيَرَازَ، فَقَالَ: لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى، فَبَلَغَتْ كسرى، فكتب كسرى إلى شهريراز: إذا أتاك كتابي فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِ فَرْخَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ مِثْلَ فَرْخَانَ لَهُ نِكَايَةٌ وَصَوْتٌ فِي الْعَدُوِّ، فَلَا تَفْعَلْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ فِي رِجَالِ فَارِسَ خَلَفًا مِنْهُ، فَعَجِّلْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ. فَرَاجَعَهُ، فَغَضِبَ كِسْرَى فَلَمْ يُجِبْهُ، وَبَعَثَ بَرِيدًا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ: إِنِّي قَدْ نَزَعْتُ عَنْكُمْ شَهْرَيَرَازَ وَاسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ فَرْخَانَ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَى الْبَرِيدِ صَحِيفَةً لَطِيفَةً صَغِيرَةً، فقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد إليه أَخُوهُ، فَأَعْطِهِ هَذِهِ.
فَلَمَّا قَرَأَ شَهْرَيَرَازُ الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، وَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ فَرْخَانُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّحِيفَةَ قَالَ: ائْتُونِي بِشَهْرَيَرَازَ، وقدمه ليضرب عنقه، قال، لا تعجل حَتَّى أَكْتُبَ وَصِيَّتِي، قَالَ: نَعَمْ، فَدَعَا بِالسَّفَطِ فَأَعْطَاهُ الصَّحَائِفَ، وَقَالَ: كُلُّ هَذَا رَاجَعْتُ فِيكَ كِسْرَى وَأَنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تَقْتُلَنِي بِكِتَابٍ وَاحِدٍ، فَرَدَّ الْمَلِكُ إِلَى أَخِيهِ شَهْرِيرَازَ، وَكَتَبَ شَهْرِيرَازُ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً لَا تَحْمِلُهَا الْبُرُدُ، وَلَا تَحْمِلُهَا الصُّحُفُ فَالْقَنِي وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا فِي خَمْسِينَ رُومِيًّا، فَإِنِّي أَلْقَاكَ فِي خَمْسِينَ فَارِسِيًّا، فَأَقْبَلَ قَيْصَرُ فِي خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ رُومِيٍّ، وَجَعَلَ يَضَعُ الْعُيُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الطَّرِيقِ.
وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَكَرَ بِهِ حَتَّى أَتَاهُ عُيُونُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا، ثُمَّ بُسِطَ لَهُمَا وَالْتَقَيَا فِي قُبَّةِ دِيبَاجٍ ضُرِبَتْ لَهُمَا، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِكِّينٌ فَدَعَيَا تُرْجُمَانًا بينهما، فقال(6/270)
شَهْرِيرَازُ: إِنَّ الَّذِينَ خَرَّبُوا مَدَائِنَكَ أَنَا وَأَخِي بِكَيْدِنَا وَشَجَاعَتِنَا، وَإِنَّ كِسْرَى حَسَدَنَا وَأَرَادَ أَنْ أَقْتُلَ أَخِي فَأَبَيْتُ، ثُمَّ أَمَرَ أَخِي أَنْ يَقْتُلَنِي وَقَدْ خَلَعْنَاهُ جَمِيعًا، فَنَحْنُ نُقَاتِلُهُ مَعَكَ. قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمَا، ثُمَّ أَشَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ أَنَّ السِّرَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ فَشَا، قَالَ: أَجَلْ، فَقَتَلَا التُّرْجُمَانَ جَمِيعًا بسكينيهما، فَأَهْلَكَ اللَّهُ كِسْرَى، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَفَرِحَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ «1» . فَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ وَبِنَاءٌ عجيب.
ولنتكلم عن كَلِمَاتِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا الرُّومُ فَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ الْيُونَانِ، وَالْيُونَانُ مِنْ سُلَالَةِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ أَبْنَاءِ عَمِّ التُّرْكِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ السَّبْعَةَ، وَيُقَالُ لَهَا الْمُتَحَيِّرَةُ، وَيُصَلُّونَ إلى القطب الشمالي، وهو الَّذِينَ أَسَّسُوا دِمَشْقَ، وَبَنَوْا مَعْبَدَهَا، وَفِيهِ مَحَارِيبُ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ، فَكَانَ الرُّومُ عَلَى دِينِهِمْ إلى بعد مَبْعَثِ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَكَانَ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْصَرُ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ النَّصَارَى مِنَ الْمُلُوكِ. قُسْطَنْطِينُ بْنُ قَسْطَسَ وَأُمُّهُ مَرْيَمُ الْهَيْلَانِيَّةُ الشَّدْقَانِيَّةُ مِنْ أَرْضِ حِرَّانَ، كَانَتْ قَدْ تَنَصَّرَتْ قَبْلَهُ، فَدَعَتْهُ إِلَى دِينِهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفًا فَتَابَعَهَا، يُقَالُ تَقِيَّةً، وَاجْتَمَعَتْ بِهِ النَّصَارَى وَتَنَاظَرُوا فِي زَمَانِهِ مَعَ عبد الله بن أريوس، واختلفوا اختلافا مُنْتَشِرًا مُتَشَتِّتًا لَا يَنْضَبِطُ، إِلَّا أَنَّهُ اتَّفَقَ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا، فَوَضَعُوا لِقُسْطَنْطِينَ الْعَقِيدَةَ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ الْقَوَانِينَ يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَغَيَّرُوا دِينَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، فصلوا إِلَى الْمَشْرِقِ، وَاعْتَاضُوا عَنِ السَّبْتِ بِالْأَحَدِ، وَعَبَدُوا الصَّلِيبَ وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ، وَاتَّخَذُوا أَعْيَادًا أَحْدَثُوهَا كَعِيدِ الصَّلِيبِ وَالْقِدَّاسِ وَالْغِطَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَوَاعِيثِ وَالشَّعَانِينِ، وَجَعَلُوا لَهُ الْبَابَ، وَهُوَ كَبِيرُهُمْ، ثُمَّ الْبَتَارِكَةِ، ثُمَّ الْمَطَارِنَةِ، ثُمَّ الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاقِسَةِ، ثُمَّ الشَّمَامِسَةِ، وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وَبَنَى لَهُمُ الْمَلِكُ الْكَنَائِسَ وَالْمَعَابِدَ، وَأَسَّسَ الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، يُقَالُ إِنَّهُ بَنَى فِي أَيَّامِهِ اثْنَيْ عَشَرَ ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاث مَحَارِيبَ، وَبَنَتْ أُمُّهُ الْقُمَامَةَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلَكِيَّةُ يَعْنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ.
ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَهُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ أَتْبَاعُ يَعْقُوبَ الْإِسْكَافِ، ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ أَصْحَابُ نَسْطُورَا، وَهُمْ فِرَقٌ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّهُمُ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» »
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 164، 165.
(2) أخرجه أبو داود في السنة باب 1، وابن ماجة في الفتن باب 17.(6/271)
وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، كُلَّمَا هَلَكَ قَيْصَرُ خَلْفَهُ آخَرُ بَعْدَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ هِرَقْلُ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَمِنْ أَحْزَمِ الْمُلُوكِ وَأَدْهَاهُمْ، وَأَبْعَدِهِمْ غَوْرًا، وَأَقْصَاهُمْ رَأْيًا، فَتَمَلَّكَ عليهم في رئاسة عَظِيمَةٍ وَأُبَّهَةٍ كَبِيرَةٍ، فَنَاوَأَهُ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ وَمَلِكُ الْبِلَادِ كَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَجَمِيعِ بِلَادِ الْعَجَمِ، وَهُوَ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ، وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُ أوسع من مملكة قيصر، وله رئاسة الْعَجَمِ، وَحَمَاقَةُ الْفُرْسِ، وَكَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ النَّارَ.
فَتَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ: بَعَثَ إِلَيْهِ نُوَّابَهُ وَجَيْشَهُ فَقَاتَلُوهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ كِسْرَى غَزَاهُ بِنَفْسِهِ فِي بِلَادِهِ، فَقَهَرَهُ وَكَسَرَهُ وَقَصَرَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَحَاصَرَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ النَّصَارَى تُعَظِّمُهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَلَمْ يَقْدِرْ كِسْرَى عَلَى فَتْحِ الْبَلَدِ، وَلَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِحَصَانَتِهَا لِأَنَّ نِصْفَهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَرِّ، وَنِصْفَهَا الْآخَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، فَكَانَتْ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ وَالْمَدَدُ مِنْ هُنَالِكَ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ، دَبَّرَ قَيْصَرُ مَكِيدَةً، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ خَدِيعَةً، فَطَلَبَ مِنْ كِسْرَى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ بِلَادِهِ عَلَى مَالٍ يُصَالِحُهُ عَلَيْهِ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ وَأَقْمِشَةٍ وَجَوَارٍ وَخُدَّامٍ وَأَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ، فَطَاوَعَهُ قَيْصَرُ وَأَوْهَمَهُ أَنَّ عِنْدَهُ جَمِيعَ مَا طَلَبَ، وَاسْتَقَلَّ عَقْلُهُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ مَا طَلَبَ، وَلَوِ اجْتَمَعَ هُوَ وَإِيَّاهُ لَعَجَزَتْ قُدْرَتُهُمَا عَنْ جَمْعِ عُشْرِهِ، وَسَأَلَ كِسْرَى أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَأَقَالِيمِ مَمْلَكَتِهِ، لِيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ مِنْ ذَخَائِرِهِ وَحَوَاصِلِهِ وَدَفَائِنِهِ، فَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ.
فَلَمَّا عَزَمَ قَيْصَرُ عَلَى الْخُرُوجِ من مدينة قسطنطينة فجمع أَهْلُ مِلَّتِهِ وَقَالَ: إِنِّي خَارِجٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أَبْرَمْتُهُ فِي جُنْدٍ قَدْ عَيَّنْتُهُ مِنْ جَيْشِي، فَإِنْ رَجَعْتُ إِلَيْكُمْ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَأَنَا مَلِكُكُمْ، وَإِنْ لَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ قَبْلَهَا، فَأَنْتُمْ بِالْخِيَارِ: إِنْ شِئْتُمُ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى بَيْعَتِي، وَإِنْ شِئْتُمْ وَلَّيْتُمْ عَلَيْكُمْ غَيْرِي، فَأَجَابُوهُ بِأَنَّكَ مَلِكُنَا مَا دُمْتَ حَيًّا، وَلَوْ غِبْتَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَرَجَ جَرِيدَةً فِي جَيْشٍ مُتَوَسِّطٍ هَذَا، وَكِسْرَى مُخَيِّمٌ عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَنْتَظِرُهُ لِيَرْجِعَ، فَرَكِبَ قَيْصَرُ مِنْ فَوْرِهِ وَسَارَ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَعَاثَ فِي بِلَادِهِمْ قَتْلًا لِرِجَالِهَا وَمَنْ بِهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا.
وَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدَائِنِ وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ كِسْرَى، فَقَتَلَ مَنْ بِهَا وَأَخَذَ جَمِيعَ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَسَرَ نِسَاءَهُ وَحَرِيمَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَ وَلَدِهِ وَرَكَّبَهُ على حماره، وَبَعَثَ مَعَهُ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ مِنْ قَوْمِهِ فِي غَايَةِ الْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى يَقُولُ: هَذَا مَا طَلَبْتَ فَخُذْهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ كِسْرَى أَخَذَهُ مِنَ الْغَمِّ مَا لَا يُحْصِيهِ إلا الله تعالى، وَاشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَى الْبَلَدِ، فَاشْتَدَّ فِي حِصَارِهَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا عَجَزَ رَكِبَ لِيَأْخُذَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ مِنْ مَخَاضَةِ جَيْحُونَ الَّتِي لَا سَبِيلَ لِقَيْصَرَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ إِلَّا مِنْهَا، فَلَمَّا عَلِمَ قَيْصَرُ بِذَلِكَ، احْتَالَ بِحِيلَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَهُوَ أَنَّهُ أَرْصَدَ جُنْدَهُ وَحَوَاصِلَهُ الَّتِي مَعَهُ عِنْدَ فَمِ الْمَخَاضَةِ، وَرَكِبَ فِي(6/272)
بَعْضِ الْجَيْشِ، وَأَمَرَ بِأَحْمَالٍ مِنَ التِّبْنِ وَالْبَعْرِ وَالرَّوَثِ، فَحُمِلَتْ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ يَوْمٍ فِي الْمَاءِ مُصْعَدًا.
ثُمَّ أَمَرَ بِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْأَحْمَالِ فِي النَّهْرِ، فَلَمَّا مَرَّتْ بِكِسْرَى ظن وَجُنْدُهُ أَنَّهُمْ قَدْ خَاضُوا مِنْ هُنَالِكَ، فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِمْ فَشَغَرَتِ الْمَخَاضَةُ عَنِ الْفُرْسِ، وَقَدِمَ قيصر فأمرهم بالنهوض والخوض، فَخَاضُوا وَأَسْرَعُوا السَّيْرَ، فَفَاتُوا كِسْرَى وَجُنُودَهُ، وَدَخَلُوا القسطنطينية، فكان ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا عِنْدَ النَّصَارَى، وَبَقِيَ كِسْرَى وَجُيُوشُهُ حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ مَاذَا يَصْنَعُونَ، لَمْ يَحْصُلُوا عَلَى بِلَادِ قَيْصَرَ، وَبِلَادُهُمْ قَدْ خَرَّبَتْهَا الرُّومُ، وَأَخَذُوا حَوَاصِلَهُمْ، وَسَبَوْا ذَرَارِيهِمْ، وَنِسَاءَهُمْ، فَكَانَ هذا من غلب الروم لفارس، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ مِنْ غَلَبِ الفرس للروم، وكانت الوقعة الْكَائِنَةُ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ حِينَ غُلِبَتِ الرُّومُ بَيْنَ أَذْرَعَاتَ وَبُصْرَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَهِيَ طَرَفُ بِلَادِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْحِجَازِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْجَزِيرَةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ بِلَادِ الرُّومِ مِنْ فَارِسَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ كَانَ غَلَبُ الرُّومِ لِفَارِسَ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ وَهِيَ تَسَعٌ، فَإِنَّ الْبِضْعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ في مناحبة «1» الم غُلِبَتِ الرُّومُ الآية «أَلَا احْتَطْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ؟» «2» ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ ذلك،.
وقوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِهِ، فَبُنِيَ عَلَى الضَّمِّ لَمَّا قُطِعَ الْمُضَافُ، وَهُوَ قَوْلُهُ قَبْلُ عَنِ الْإِضَافَةِ وَنُوِيَتْ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أَيْ لِلرُّومِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ على فارس أصحاب كسرى، وهم المجوس، وكانت نُصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ وَقْعَةِ بَدْرٍ في قوله طائفة كثيرة مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «3» وَابْنُ جَرِيرٍ «4» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، ظَهَرَتِ الرُّومُ على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا بِهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وقال الآخرون: بل كان نصر الرُّومِ عَلَى فَارِسَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَهُ عِكْرِمَةُ والزهري وقتادة
__________
(1) المناحبة: المراهنة.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 30، باب 1، 3.
(3) كتاب التفسير، تفسير سورة 30، باب 1.
(4) تفسير الطبري 10/ 166.(6/273)
وغير واحد. وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ قَيْصَرَ كَانَ قَدْ نَذَرَ لَئِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِكِسْرَى لَيَمْشِيَنَّ مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَا وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، شكرا لله تعالى فَفَعَلَ، فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى وَافَاهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَهُ مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، فَأَعْطَاهُ دِحْيَةُ لِعَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفْعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى قَيْصَرَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ سَأَلَ مَنْ بِالشَّامِ مِنْ عَرَبِ الْحِجَازِ، فَأُحْضِرَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ في جماعة من كبار قريش، وكانوا بغزة، فَجِيءَ بِهِمْ إِلَيْهِ فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
أَنَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ وَأَجْلَسَهُمْ خَلْفَهُ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ، فَقَالَ أَبُو سفيان، فو الله لَوْلَا أَنْ يَأْثُرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ، فَسَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ نَسَبِهِ وَصِفَتِهِ، فَكَانَ فِيمَا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا، يَعْنِي بِذَلِكَ الْهُدْنَةَ الَّتِي كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكفار قريش عام الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى أَنَّ نَصْرَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّ قَيْصَرَ إِنَّمَا وَفَّى بِنَذْرِهِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِأَصْحَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ بِلَادَهُ كَانَتْ قَدْ خُرِّبَتْ وَتَشَعَّثَتْ، فَمَا تَمَكَّنَ مِنْ وَفَاءِ نَذْرِهِ حَتَّى أَصْلَحَ مَا يَنْبَغِي له إِصْلَاحُهُ وَتَفَقَّدَ بِلَادَهُ، ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ نُصْرَتِهِ وَفَّى بِنَذْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا سَهْلٌ قَرِيبٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَصَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ سَاءَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَصَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الرُّومَ أَهْلُ كِتَابٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى - إلى قوله- رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [الْمَائِدَةِ: 82- 83] . وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حدثنا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنِي أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ، وَالرُّومَ كُلُّ ذَلِكَ فِي خَمْسَ عشرة سنة.
وقوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيْ فِي انْتِصَارِهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أعدائه الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين. وقوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أَيْ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنَّا سَنَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، وَخَبَرُ صِدْقٍ لَا يُخْلَفُ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَوُقُوعِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إِلَى الْحَقِّ، وَيَجْعَلَ لَهَا الْعَاقِبَةَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ، وَأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ الْعَدْلِ.
وقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أَيْ أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا ووجوه(6/274)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
مَكَاسِبِهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لَا ذِهْنَ لَهُ وَلَا فِكْرَةَ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ لَبَلَغَ من أحدهم بدنياه أن يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ يَعْنِي الْكُفَّارُ يَعْرِفُونَ عُمْرَانَ الدنيا، وهم في أمر الدين جهال «1» .
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا، وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، فَقَالَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي بِهِ النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ وَالتَّأَمُّلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا بَاطِلًا بَلْ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ إِلَى أَجَلٍ مسمى وهو يوم القيامة، ولهذا قال تعالى:
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا جَاءُوا به عنه، بما أيدهم مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ مِنْ إِهْلَاكِ مَنْ كفر بهم ونجاة من صدقهم، فقال تعالى:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أَيْ بِأَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ ونظرهم وسماع أَخْبَارَ الْمَاضِينَ.
وَلِهَذَا قَالَ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أَيْ كَانَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ وَالْقُرُونُ السَّالِفَةُ أشد منكم أيها المبعوث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَمَا أُوتِيتُمْ مِعْشَارَ مَا أُوتُوا، وَمُكِّنُوا فِي الدُّنْيَا تَمْكِينًا لَمْ تَبْلُغُوا إِلَيْهِ وَعُمِّرُوا فِيهَا أَعْمَارًا طِوَالًا، فَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِنْكُمْ، وَاسْتَغَلُّوهَا أَكْثَرَ مِنَ اسْتِغْلَالِكُمْ، وَمَعَ هَذَا فلما جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا، أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ، وَلَا حَالَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَأْسِ اللَّهِ، وَلَا دَفَعُوا عَنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فِيمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أَيْ وَإِنَّمَا أُوتُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ وَتَكْذِيبِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْأَنْعَامِ:
110] وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّفِّ: 5] وَقَالَ تعالى:
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 168.(6/275)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [الْمَائِدَةِ: 49] وَعَلَى هَذَا تَكُونُ السوأى منصوبة مفعولا لأساؤوا، وَقِيلَ بَلِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَيْ كَانَتِ السُّوأَى عَاقِبَتَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ السُّوأَى مَنْصُوبَةً خَبَرَ كَانَ، هَذَا تَوْجِيهُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمَا وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مزاحم، وهو الظاهر- والله أعلم- لقوله وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
يقول تعالى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أَيْ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى بَدَاءَتِهِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ. ثُمَّ قَالَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَيْأَسُ الْمُجْرِمُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَفْتَضِحُ الْمُجْرِمُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ يَكْتَئِبُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أَيْ مَا شَفَعَتْ فِيهِمُ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يعبدونها من دون الله تعالى وَكَفَرُوا بِهِمْ وَخَانُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ. ثم قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ وَاللَّهِ الْفُرْقَةُ الَّتِي لَا اجتماع بعدها، يعني أنه إِذَا رُفِعَ هَذَا إِلَى عِلِّيِّينَ وَخُفِضَ هَذَا إلى أسفل سافلين، فذلك آخر العهد بينهما، ولهذا قال تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَنْعَمُونَ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: يَعْنِي سَمَاعَ الْغِنَاءِ وَالْحَبَرَةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ الْعَجَّاجُ [رجز] :
فالحمد لِلَّهِ الَّذِي أَعْطَى الْحَبَرْ ... مَوَالِيَ الْحَقِّ إِنَّ الموالي شكر «1»
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
هَذَا تَسْبِيحٌ مِنْهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الْمُقَدِّسَةِ، وَإِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ إِلَى تَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الدَّالَّةِ على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند السماء، وَهُوَ إِقْبَالُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ وَهُوَ إِسْفَارُ النَّهَارِ عَنْ ضِيَائِهِ. ثُمَّ اعْتَرَضَ بِحَمْدِهِ مناسبة للتسبيح وهو التحميد، فقال تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ هُوَ المحمود على ما خلق في السموات
__________
(1) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 24، ولسان العرب (ثبت) ، (حبر) ، (شبر) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 137، وديوان الأدب 1/ 212، وإصلاح المنطق ص 97، وتاج العروس (بثر) وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 311، والمخصص 15/ 80، ويروى «الشّبر» بدل «الحبر» . [.....](6/276)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
والأرض، ثم قال تعالى: وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ فَالْعَشَاءُ هُوَ شِدَّةُ الظَّلَامِ، وَالْإِظْهَارُ قُوَّةُ الضِّيَاءِ، فَسُبْحَانَ خَالِقِ هَذَا وَهَذَا، فَالِقِ الْإِصْبَاحِ، وَجَاعِلِ اللَّيْلَ سَكَنًا، كَمَا قَالَ تعالى:
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشَّمْسِ: 3- 4] وقال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْلِ: 1- 2] وقال تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضُّحَى: 1- 2] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا زَبَّانَ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَكُلَّمَا أَمْسَى: سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تَمَسُّونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الحمد في السموات وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيْبٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن صالح، حدثني الليث بن سعيد بن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «ومن قال حين يصبح سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تَمَسُّونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الحمد في السموات وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ، الْآيَةَ بِكَمَالِهَا أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» إِسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «2» فِي سُنَنِهِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَابِلَةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ الْكَرِيمَةُ كُلُّهَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ فِيهَا خَلْقَهُ الْأَشْيَاءَ وَأَضْدَادَهَا، لِيَدُلَّ خَلْقُهُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ وَالْحَبِّ مِنَ النَّبَاتِ، وَالْبَيْضِ مِنَ الدَّجَاجِ وَالدَّجَاجِ مِنَ الْبَيْضِ، وَالْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ وَالنُّطْفَةِ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرِ مِنَ المؤمن وقوله تعالى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كقوله تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ- إلى قوله- وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ [يس: 33- 34] وقال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ- إلى قوله- وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الْحَجِّ: 5- 7] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا- إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: 57] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
__________
(1) المسند 3/ 439.
(2) كتاب الأدب باب 101.(6/277)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ فَأَصْلُكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ تَصَوَّرَ فَكَانَ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا شَكْلُهُ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ كَسَا اللَّهُ تِلْكَ الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَإِذَا هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا ضَعِيفَ الْقُوَى وَالْحَرَكَةِ، ثُمَّ كَلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ تَكَامَلَتْ قُوَاهُ وَحَرَكَاتُهُ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ صَارَ يَبْنِي الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ، وَيُسَافِرُ فِي أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ، وَيَرْكَبُ مَتْنَ الْبُحُورِ، وَيَدُورُ أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وَيَتَكَسَّبُ وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَلَهُ فِكْرَةٌ وَغَوْرٌ وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ وَرَأْيٌ وَعِلْمٌ وَاتِّسَاعٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْدَرَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ وَسَخَّرَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ فِي فُنُونِ الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ في العلوم والفكر، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغُنْدَرٌ قَالَا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزَنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ» «2» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقوله تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أَيْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا يَكُنَّ لَكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَافِ: 189] يَعْنِي بِذَلِكَ حَوَّاءَ، خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ مِنْ ضلعه الأقصر الأيسر، ولو أنه تعالى جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ من جنس آخر إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَةٌ لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فإن الرجل يمسك المرأة إنما لِمَحَبَّتِهِ لَهَا أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 23]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
__________
(1) المسند 4/ 400، 406.
(2) أخرجه أبو داود في السنة باب 16، والترمذي في تفسير سورة 2 باب 1.(6/278)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ العظيمة خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلق السموات في ارتفاعها واتساعها، وسقوف أَجْرَامِهَا، وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرْضَ فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وأودية وبحار، وقفار وحيوان وأشجار. وقوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ يَعْنِي اللُّغَاتِ، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَؤُلَاءِ تَتَرٌ لَهُمْ لُغَةٌ أُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ كَرَجٌ، وَهَؤُلَاءِ رُومٌ، وَهَؤُلَاءِ إِفْرِنْجُ وَهَؤُلَاءِ بَرْبَرٌ، وَهَؤُلَاءِ تَكْرُورٌ، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ صَقَالِبَةٌ، وَهَؤُلَاءِ خَزَرٌ، وَهَؤُلَاءِ أَرْمَنٌ، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إلا الله تعالى مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَهِيَ حُلَاهُمْ.
فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ بَلْ أَهْلِ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كُلٌّ لَهُ عَيْنَانِ وَحَاجِبَانِ وَأَنْفٌ وَجَبِينٌ وَفَمٌ وَخَدَّانِ، وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمْتِ أَوِ الْهَيْئَةِ أَوِ الْكَلَامِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، كُلُّ وَجْهٍ منهم أسلوب بذاته وهيئته لا تشبه أخرى، وَلَوْ تَوَافَقَ جَمَاعَةٌ فِي صِفَةٍ مِنْ جَمَالٍ أَوْ قُبْحٍ لَا بُدَّ مِنْ فَارِقٍ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ وَمِنِ الْآيَاتِ ما جعل الله مِنْ صِفَةِ النُّوَّمِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِيهِ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ وَسُكُونُ الْحَرَكَةِ وَذَهَابُ الْكَلَالِ وَالتَّعَبِ. وَجَعَلَ لَكُمْ الِانْتِشَارَ وَالسَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَسْفَارِ فِي النَّهَارِ وَهَذَا ضِدُّ النَّوْمِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أَيْ يَعُونَ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ عِمْرَانَ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن علاثة، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «قُلْ اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ يَا حَيُّ يَا قيوم، أنم عيني وأهدئ ليلي» فقلتها، فذهب عني.
[سورة الروم (30) : الآيات 24 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَنَّهُ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً أَيْ تَارَةً تَخَافُونَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ أمطار مزعجة وصواعق مُتْلِفَةٍ، وَتَارَةً تَرْجُونَ وَمِيضَهُ وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أَيْ بَعْدَ مَا كَانَتْ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جَاءَهَا الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ(6/279)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ثُمَّ قال تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ كقوله تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْحَجِّ: 65] وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ يَقُولُ: لَا وَالَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، أَيْ هِيَ قَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ بِأَمْرِهِ لَهَا وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بدلت الأرض غير الأرض والسموات، وَخَرَجَتِ الْأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهَا أَحْيَاءً بِأَمْرِهِ تَعَالَى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 52] وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13- 14] وقال تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 53] .
[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أَيْ خَاضِعُونَ خَاشِعُونَ طَوْعًا وَكَرْهًا. وَفِي حَدِيثِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ فهو الطاعة» «1» وقوله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَيْسَرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ البداءة، والبداءة عليه هينة، وكذا قال عكرمة وغيره.
وروى الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلِيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، كَمَا انْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ:
حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ أَوْ مِثْلِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ على السواء. وقال الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ، وكذا قاله الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ وَذَكَرَ عَلَيْهِ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً، قَالَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ إِلَى الْخَلْقِ، أَيْ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْخَلْقِ.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 75.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 112، باب 1، 2، وأخرجه أيضا أحمد في المسند 2/ 350.(6/280)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَقَالَ مِثْلَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَعَارِفِ:
إِذَا سَكَنَ الْغَدِيرُ عَلَى صَفَاءٍ ... وَجَنُبَ أَنْ يُحَرِّكَهُ النَّسِيمُ
تَرَى فِيهِ السَّمَاءَ بَلَا امْتِرَاءٍ ... كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدُو وَالنُّجُومُ
كَذَاكَ قُلُوبُ أَرْبَابِ التَّجَلِّي ... يُرَى فِي صَفْوِهَا اللَّهُ الْعَظِيمُ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ بَلْ قَدْ غَلَبَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وسلطانه، الحكيم في أقواله وأفعاله شَرْعًا وَقَدَرًا، وَعَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قَالَ: لَا إِلَهَ إلا الله.
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ، الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ، الْجَاعِلِينَ لَهُ شُرَكَاءَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادَ عُبَيْدٌ لَهُ، مِلْكٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا فِي تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ:
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَقَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيْ تَشْهَدُونَهُ وَتَفْهَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أَيْ يرتضي أحدكم أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ فَهُوَ وَهُوَ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أَيْ تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمُ الْأَمْوَالَ.
قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إِنَّ مَمْلُوكَكَ لَا تَخَافُ أَنْ يُقَاسِمَكَ مَالَكَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ، كَذَلِكَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْأَنْدَادَ مِنْ خَلْقِهِ؟ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النَّحْلِ: 63] أَيْ مِنَ الْبَنَاتِ حَيْثُ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، وَجَعَلُوهَا بَنَاتِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا بُشِّرَ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هَوْنٍ، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ؟ فَهُمْ يَأْنَفُونَ مِنَ الْبَنَاتِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، فَنَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَا يَرْتَضُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَهَذَا أَغْلَظُ الْكُفْرِ، وَهَكَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَحَدُهُمْ يَأْبَى غَايَةَ الْإِبَاءِ وَيَأْنَفُ غَايَةَ الْأَنَفَةِ مِنْ ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكَهُ فِي مَالِهِ يُسَاوِيهِ فِيهِ وَلَوْ شَاءَ لَقَاسَمَهُ عَلَيْهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حدثنا محمود بن الفرج الأصفهاني، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي(6/281)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
أهل الشرك لبيك اللهم لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تملكه وما ملك. فأنزل الله تعالى: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1» .
وَلَمَّا كَانَ التَّنْبِيهُ بِهَذَا الْمَثَلِ عَلَى بَرَاءَتِهِ تَعَالَى وَنَزَاهَتِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى. قال تعالى:
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا عَبَدُوا غَيْرَهُ سَفَهًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجَهْلًا بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيِ الْمُشْرِكُونَ أَهْواءَهُمْ أَيْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَنْدَادَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أَيْ فَلَا أَحَدَ يَهْدِيهِمْ إِذَا كَتَبَ الله ضلالهم وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ مُنْقِذٌ وَلَا مُجِيرٌ وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يكن.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
يَقُولُ تَعَالَى: فَسَدِّدْ وَجْهَكَ وَاسْتَمَرَّ على الدين الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ لَهَا وَكَمَّلَهَا لَكَ غَايَةَ الْكَمَالِ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ لَازِمْ فِطْرَتَكَ السَّلِيمَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] . وَفِي الْحَدِيثِ «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ» «2» وَسَنَذْكُرُ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَى بَعْضِهِمُ الْأَدْيَانُ الْفَاسِدَةُ كاليهودية والنصرانية والمجوسية.
وقوله تعالى: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ فَتُغَيِّرُوا النَّاسَ عَنْ فِطْرَتِهِمُ الَّتِي فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ خَبَرًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آلِ عمران: 97] وهو مَعْنًى حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى سَاوَى بَيْنَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ فِي الْفِطْرَةِ عَلَى الْجِبِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لَا يُولَدُ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيْ لِدِينِ اللَّهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لِدِينِ اللَّهِ، خَلْقُ الْأَوَّلِينَ دِينُ الْأَوَّلِينَ، الدين وَالْفِطْرَةُ الْإِسْلَامُ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بن
__________
(1) انظر الدر المنثور 5/ 298.
(2) أخرجه مسلم في الجنة حديث 63.(6/282)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جدعاء؟» ثم يقول فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ «1» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُمُ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ التَّمِيمِيُّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَوْتُ مَعَهُ فَأَصَبْتُ ظَهْرًا، فَقُتِلَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَهُمُ الْقَتْلُ الْيَوْمَ حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ؟» فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا هم أبناء المشركين؟ فقال «لا إِنَّمَا خِيَارُكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ قَالَ- لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً- وَقَالَ- كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا أَوْ يُنَصِّرَانِهَا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ بن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِهِ.
وَمِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» .
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الْهَاشِمِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ إِذْ خَلَقَهُمْ» «5» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ الْيَشْكُرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِذَلِكَ.
وقد قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ، أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَأَنَا أَقُولُ: أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم سئل عنهم،
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 30، باب 1، ومسلم في القدر حديث 22، 23، 24.
(2) المسند 3/ 435، 4/ 245.
(3) المسند 3/ 353.
(4) المسند 1/ 328.
(5) أخرجه البخاري في الجنائز باب 93، ومسلم في القدر حديث 26، 27، 28.
(6) المسند 5/ 73. [.....](6/283)
فَقَالَ «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» . قَالَ: فَلَقِيَتُ الرَّجُلَ فَأَخْبَرَنِي، فَأَمْسَكْتُ عَنْ قَوْلِي.
وَمِنْهُمْ عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ «إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ ما نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ إذا يثلغ رأسي فيدعه خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ- قَالَ-: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ عَفِيفٌ فَقِيرٌ مُتَصَدِّقٌ وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ له الذين هم فيكم تبع لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ» وَذَكَرَ الْبَخِيلَ أَوِ الْكَذَّابَ وَالشَّنْظِيرُ: الْفَحَّاشُ «1» . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيِ التَّمَسُّكُ بِالشَّرِيعَةِ والفطرة السليمة هو الدين القيم الْمُسْتَقِيمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فَلِهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَهُمْ عَنْهُ نَاكِبُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُفَ: 103] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116] الآية. وقوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ. وَاتَّقُوهُ أَيْ خَافُوهُ وَرَاقَبُوهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَهِيَ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي بل كونوا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ لَا يُرِيدُونَ بِهَا سِوَاهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يحيى بن واضح، حدثنا يوسف بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقَالَ: مَا قِوَامُ هَذِهِ الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن الْمُنْجِيَاتِ: الْإِخْلَاصُ وَهِيَ الْفِطْرَةُ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الْمِلَّةُ، وَالطَّاعَةُ وَهِيَ الْعِصْمَةُ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لمعاذ: ما قوام هذا الأمر؟ فذكر نحوه «3» .
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنة حديث 63، وأحمد في المسند 4/ 162، 163.
(2) تفسير الطبري 10/ 183.
(3) انظر تفسير الطبري 10/ 183.(6/284)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَدْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أَيْ بَدَّلُوهُ وَغَيَّرُوهُ، وَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: فَارَقُوا دِينَهُمْ، أَيْ تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ مِمَّا عَدَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ [الأنعام: 159] الآية، فَأَهْلُ الْأَدْيَانِ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى آراء ومثل بَاطِلَةٍ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ مِنْهُمْ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى نَحِلٍ كُلُّهَا ضَلَالَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الْمُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا رواه الحاكم في مستدركه أنه سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ مِنْهُمْ فَقَالَ «مَا أَنَا عليه وأصحابي» .
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ النَّاسِ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ إذا فريق منهم في حالة الاختيار يشركون بالله ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ عِنْدَ آخَرِينَ، وَلَكِنَّهَا تَعْلِيلٌ لِتَقْيِيضِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قَالَ بَعْضُهُمْ وَاللَّهِ لَوْ تَوَعَّدَنِي حَارِسُ دَرْبٍ لَخِفْتُ مِنْهُ، فَكَيْفَ وَالْمُتَوَعِّدُ هَاهُنَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ؟ ثُمَّ قال منكرا على المشركين فيما اختلقوا فيه من عبادة غيره بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أَيْ حُجَّةً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أَيْ يَنْطِقُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ من ذلك.
ثم قال تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بَطِرَ. وَقَالَ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هُودٍ: 10] أَيْ يَفْرَحُ فِي نَفْسِهِ وَيَفْخَرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ قَنِطَ وَأَيِسَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرٌ بالكلية. قال الله تعالى:
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ صَبَرُوا فِي الضَّرَّاءِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ(6/285)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» «1» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، فَيُوَسِّعُ عَلَى قَوْمٍ وَيُضَيِّقُ عَلَى آخَرِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِإِعْطَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ أَيْ مِنَ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ، وَالْمِسْكِينَ وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ، وَابْنَ السَّبِيلِ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيِ النَّظَرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أَيْ مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يُرِيدُ أن يرد عليه الناس أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لَهُمْ، فَهَذَا لَا ثَوَابَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، بِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالشَّعْبِيُّ، وَهَذَا الصَّنِيعُ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ لَا ثَوَابَ فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أَيْ لَا تُعْطِ الْعَطَاءَ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّبَا رِبَاءَانِ: فَرِبًا لَا يَصْحُ، يَعْنِي رِبَا الْبَيْعِ؟ وَرِبًا لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ هَدِيَّةُ الرَّجُلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا، وَأَضْعَافَهَا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الزكاة، ولهذا قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أَيِ الَّذِينَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ. كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ «وَمَا تَصْدَّقَ أَحَدٌ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخْذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تصير التمرة أعظم من أحد» «2» .
وقوله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ أَيْ هُوَ الخالق الرزاق، يُخْرِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَانًا لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ وَلَا قوة، ثُمَّ يَرْزُقُهُ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَالرِّيَاشَ وَاللِّبَاسَ وَالْمَالَ وَالْأَمْلَاكَ وَالْمَكَاسِبَ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَلَّامٍ أَبِي شُرَحْبِيلَ عَنْ حَبَّةَ وَسَوَاءٍ ابْنِي خَالِدٍ قَالَا: دَخْلَنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 332، 333، 6/ 15، 16.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة باب 8، والتوحيد باب 23، ومسلم في الزكاة حديث 63، 64.
(3) المسند 3/ 469.(6/286)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
يُصْلِحُ شَيْئًا فَأَعَنَّاهُ، فَقَالَ «لَا تَيْأَسَا مِنَ الرزق ما تهززت رؤوسكما، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» .
وَقَوْلُهُ تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي يوم القيامة. وقوله تعالى: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أَيِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، ثُمَّ يَبْعَثُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ وَجَلَّ وَعَزَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ مُسَاوٍ أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ هَاهُنَا الْفَيَافِي، وَبِالْبَحْرِ الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: البحر الأمصار، والقرى ما كان منهما عَلَى جَانِبِ نَهْرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ بالبر هو البر المعروف، وبالبحر هو الْبَحْرُ الْمَعْرُوفُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ظَهَرَ الْفَسادُ يَعْنِي انْقِطَاعَ الْمَطَرِ عَنِ الْبَرِّ يُعْقِبُهُ الْقَحْطُ، وَعَنِ الْبَحْرِ تَعْمَى دَوَابُّهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَعْرَجِ عَنْ مُجَاهِدٍ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ: فَسَادُ الْبَرِّ قَتْلُ ابْنِ آدَمَ، وَفَسَادُ الْبَحْرِ أَخْذُ السَّفِينَةِ غَصْبًا.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وَبِالْبَحْرِ جَزَائِرُهُ. وَالْقَوْلُ الأول أظهر وعليه الأكثرون، ويؤيده ما قاله مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ صَالَحَ مَلِكَ أَيْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِبَحْرِهِ، يَعْنِي بِبَلَدِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بان النقص في الزروع والثمار بِسَبَبِ الْمَعَاصِي.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» «1» وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُقِيمَتْ انْكَفَّ النَّاسُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ تَعَاطِي الْمُحَرَّمَاتِ، وإذا تركت المعاصي كان سببا في حصول
__________
(1) لم نجد الحديث بهذا اللفظ في سنن أبي داود، والحديث بلفظ: «حدّ يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من مطر ... » أخرجه النسائي في السارق باب 7، وابن ماجة في الحدود باب 3، وأحمد في المسند 2/ 362، 402.(6/287)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
الْبَرَكَاتِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَلِهَذَا إِذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ الزمان يحكم بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ قَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَكَسْرِ الصَّلِيبِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ تَرْكُهَا، فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، فَإِذَا أَهْلَكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الدَّجَّالَ وَأَتْبَاعَهُ ويأجوج ومأجوج، قيل للأرض: أخرجي بركتك، فَيَأْكُلُ مِنَ الرُّمَّانَةِ الْفِئَامُ مِنَ النَّاسِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيَكْفِي لَبَنُ اللِّقْحَةِ الْجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ، وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا أُقِيمَ الْعَدْلُ كَثُرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرُ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْفَاجِرَ إِذَا مَاتَ تَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ والبلاد والشجر والدواب» «1» .
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَالْحُسَيْنُ قَالَا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي قَحْذَمٍ قَالَ: وَجَدَ رَجُلٌ فِي زَمَانِ زِيَادٍ أَوِ ابْنِ زِيَادٍ، صُرَّةً فِيهَا حَبٌّ، يَعْنِي مِنْ بُرٍّ، أَمْثَالِ النَّوَى عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: هَذَا نَبَتَ فِي زَمَانٍ كَانَ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْعَدْلِ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَسَادِ هاهنا الشرك، وفيه نظر. وقوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا الآية، أَيْ يَبْتَلِيهِمْ بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ اخْتِبَارًا منه لهم وَمُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الْأَعْرَافِ:
168] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِكُمْ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أي فانظروا ما حَلَّ بِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَكُفْرِ النِّعَمِ.
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي طَاعَتِهِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَيْ يوم القيامة إذا راد كَوْنَهُ فَلَا رَادَّ لَهُ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أَيْ يَتَفَرَّقُونَ، فَفَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، ولهذا قال تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يُجَازِيهِمْ مُجَازَاةَ الْفَضْلِ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وَمَعَ هَذَا هُوَ الْعَادِلُ فِيهِمْ الَّذِي لَا يَجُورُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب 42، ومسلم في الجنائز باب 61.
(2) المسند 2/ 296.(6/288)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
[سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 47]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى خلقه في إرسال الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ بِمَجِيءِ الْغَيْثِ عقبها، ولهذا قال تعالى: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيِ الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِلُهُ فَيُحْيِيَ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ أَيْ فِي الْبَحْرِ وَإِنَّمَا سَيَّرَهَا بِالرِّيحِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَعَايِشِ وَالسَّيْرِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى.
ثُمَّ قَالَ تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
هَذِهِ تَسْلِيَةٌ من الله تعالى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنَ النَّاسِ، فَقَدْ كُذِّبَتِ الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ مَعَ مَا جَاءُوا أُمَمَهُمْ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ.
وَلَكِنَّ انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
أي هُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: 12] وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَرُدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثم تلا هذه الآية كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 51]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء، فقال تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً إِمَّا من البحر كما ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، أَوْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ أَيْ يَمُدُّهُ فَيُكَثِّرُهُ وَيُنَمِّيهِ، وَيَجْعَلُ مِنَ الْقَلِيلِ كثير، ينشئ سحابة ترى فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِثْلَ التُّرْسِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا حَتَّى تَمْلَأَ أَرْجَاءَ الْأُفُقِ، وَتَارَةً يَأْتِي السَّحَابُ من نحو البحر ثقالا مملوءة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ- إلى قوله- كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: 57] وَكَذَلِكَ قَالَ هَاهُنَا اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي قِطَعًا. وَقَالَ غَيْرُهُ:
متراكما، كما قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسْوَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ، تَرَاهُ مُدْلَهِمًّا ثَقِيلًا قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ.(6/289)
وقوله تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أَيْ فَتَرَى الْمَطَرَ وَهُوَ الْقَطْرُ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ السَّحَابِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي إليه يفرحون لحاجتهم بنزوله عليهم ووصوله إليهم. وقوله تعالى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ هَذَا الْمَطَرُ، كَانُوا قَنِطِينَ أَزِلِينَ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ جَاءَهُمْ عَلَى فَاقَةٍ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ تَأْكِيدٌ، وَحَكَاهُ عن بعض أهل العربية. وقال آخرون: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ مِنْ قَبْلِهِ، أَيِ الْإِنْزَالِ لَمُبْلِسِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ التَّأْسِيسِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ قَبِلَ نُزُولِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ أَيْضًا قَدْ فَاتَ عِنْدَهُمْ نُزُولُهُ وَقْتًا بعد وقت، فترقبوه في إبانه، فتأخر، ثم مضت مُدَّةٌ فَتَرَقَّبُوهُ فَتَأَخَّرَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ بَغْتَةً بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ وَالْقُنُوطِ، فَبَعْدَ مَا كَانَتْ أَرْضُهُمْ مُقَشْعَرَةً هَامِدَةً أَصْبَحَتْ وَقَدِ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى:
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعني المطر كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.
ثُمَّ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَفَرُّقِهَا وَتَمَزُّقِهَا فَقَالَ تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى أَيْ إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لَقَادِرٌ على إحياء الأموات وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ يقول تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً يَابِسَةً عَلَى الزَّرْعِ الَّذِي زَرَعُوهُ وَنَبَتَ وَشَبَّ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، أَيْ قَدِ اصْفَرَّ وَشَرَعَ فِي الْفَسَادِ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ، يَكْفُرُونَ، أَيْ يَجْحَدُونَ مَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ النعم. كقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ- إلى قوله- بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الْوَاقِعَةِ: 63- 67] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنِ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الرِّيَاحُ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ عَذَابٌ، فَأَمَّا الرَّحْمَةُ: فَالنَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ، وَأَمَّا الْعَذَابُ: فَالْعَقِيمُ وَالصَّرْصَرُ وَهُمَا فِي البر، والعاصف والقاصف وهما في البحر.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ الله ابن أخي بن وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ- يَعْنِي الْأَرْضَ الثَّانِيَةَ- فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ عَادًا أَمَرَ خَازِنَ الرِّيحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا تُهْلِكُ عَادًا، فَقَالَ: يَا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثَّوْرِ، قَالَ لَهُ الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَا إِذًا تَكْفَأُ الْأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَرْسِلْ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ خَاتَمٍ، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ الله تعالى عنه.(6/290)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
[سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ كَلَامَكَ الصُّمَّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُدْبِرُونَ عَنْكَ، كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ الْعُمْيَانِ عَنِ الْحَقِّ وَرَدِّهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ بَلْ ذَلِكَ إِلَى الله، فإنه تعالى بِقُدْرَتِهِ يُسْمِعُ الْأَمْوَاتَ أَصْوَاتَ الْأَحْيَاءِ إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَلَيْسَ ذلك لأحد سواه، ولهذا قال تعالى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ خَاضِعُونَ مُسْتَجِيبُونَ مُطِيعُونَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الذين يسمعون الْحَقَّ وَيَتْبَعُونَهُ وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَوَّلُ مَثَلُ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الْأَنْعَامِ: 36] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها بهذه الآية فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى عَلَى تَوْهِيمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَتْلَى الَّذِينَ أُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمُعَاتَبَتَهُ إِيَّاهُمْ وتقريعه لهم، حتى قال عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُخَاطِبُ مِنْ قَوْمٍ قَدْ جُيِّفُوا؟
فَقَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ» «1» وَتَأَوَّلَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ «إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونِ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ» «2» . وَقَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى سَمِعُوا مَقَالَتَهُ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَنِقْمَةً.
وَالصَّحِيحُ عند العلماء رواية عبد الله بن عُمَرَ لِمَا لَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُصَحِّحًا لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حتى يرد عليه السلام» .
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى تَنَقُّلِ الْإِنْسَانِ فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَأَصْلُهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عظاما، ثم تكسى العظام لَحْمًا، وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَاهِنَ الْقُوَى، ثُمَّ يَشِبُّ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ صَغِيرًا، ثُمَّ حدثا ثم مراهقا شَابًّا. وَهُوَ الْقُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ فَيَكْتَهِلُ ثُمَّ يَشِيخُ ثُمَّ يَهْرَمُ، وهو
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنة حديث 77، والنسائي في الجنائز باب 117، وأحمد في المسند 1/ 72، 3/ 104، 172، 220، 263.
(2) أخرجه أحمد في المسند 6/ 170.(6/291)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ، فَتَضْعُفُ الْهِمَّةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْبَطْشُ، وَتَشِيبُ اللُّمَّةُ، وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَلِهَذَا قال تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَيْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يُرِيدُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ»
: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ فُضَيْلٍ وَيَزِيدَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ «2» ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً فَقَالَ «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ «3» ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا» ثُمَّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأْتَ عَلَيَّ، فَأَخَذَ عَلَيَّ كَمَا أَخَذْتُ عَلَيْكَ «4» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والترمذي وحسنه من حديث فضيل، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بنحوه.
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ففي الدنيا فَعَلُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مِنْهُمْ جَهْلٌ عَظِيمٌ أَيْضًا، فَمِنْهُ إِقْسَامُهُمْ بِاللَّهِ أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بِذَلِكَ عَدَمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنْظَرُوا حَتَّى يُعْذَرَ إِلَيْهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ أَيْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَقَامُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ لَهُمْ حِينَ يَحْلِفُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ أَيْ مِنْ يَوْمِ خُلِقْتُمْ إِلَى أَنْ بُعِثْتُمْ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَيَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أي اعْتِذَارُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أَيْ وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
__________
(1) المسند 2/ 58، 59.
(2) ضعف: بفتح الضاد.
(3) ضعف: بضم الضاد. [.....]
(4) أخرجه أبو داود في الحروف باب 10، 11، والترمذي في القرآن باب 4.(6/292)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أَيْ قَدْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ، وَوَضَّحْنَاهُ لَهُمْ، وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِيهِ الأمثال ليستبينوا الْحَقَّ وَيَتَّبِعُوهُ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أَيْ لَوْ رَأَوْا أَيَّ آيَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَتْ بِاقْتِرَاحِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا قَالُوا فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ ونحوه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ: 96- 97] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيِ اصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنْ نَصْرِهِ إياك عليهم وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ أَيْ بَلِ اثْبُتْ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ، فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهُ هُدًى يُتَّبَعُ، بَلِ الْحَقُّ كُلُّهُ مُنْحَصِرٌ فِيهِ. قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا رضي الله عنه وهو في صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزُّمَرِ: 65] فَأَنْصَتَ لَهُ عَلِيٌّ حَتَّى فَهِمَ مَا قَالَ، فَأَجَابَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فقال: حدثنا وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عليا رضي الله عنه وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال: صلى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فَأَجَابَهُ علي رضي الله عنه وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ.
(مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ وَاسْتِحْبَابِ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَجْرِ)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، سمعت شبيب أَبَا رَوْحٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ فِيهَا الرُّومُ فَأُوهِمَ، فَقَالَ «إِنَّهُ يُلَبَّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ معنا لا يحسنون
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 200.
(2) المسند 3/ 471، 5/ 368.(6/293)
الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَمَتْنٌ حَسَنٌ، وَفِيهِ سِرٌّ عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم تَأَثَّرَ بِنُقْصَانِ وُضُوءِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، فَدَلَّ ذلك على أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ.
آخِرُ تفسير سورة الروم. ولله الحمد والمنة.(6/294)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
سُورَةِ لُقْمَانَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
تقدم في سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَامَّةُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بصدر هذه السورة، وهو أنه سبحانه وتعالى جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ نَوَافِلَ رَاتِبَةٍ وَغَيْرِ رَاتِبَةٍ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَرَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي ثَوَابِ ذَلِكَ لَمْ يُرَاءُوا بِهِ، وَلَا أَرَادُوا جَزَاءً مِنَ النَّاسِ وَلَا شَكُورًا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أَيْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَبَيِّنَةٍ وَمَنْهَجٍ وَاضِحٍ جلي وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] الآية، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ وَأَقْبَلُوا عَلَى اسْتِمَاعِ الْمَزَامِيرِ وَالْغَنَاءِ بِالْأَلْحَانِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: هو والله الغناء.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 202، 203.(6/295)
فقال عبد الله بن مسعود: الْغِنَاءُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الْخَرَّاطُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قَالَ: الْغِنَاءُ «1» ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَمَكْحُولٌ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ وَعَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ.
وَقَالَ الحسن البصري: نزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْلُهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاللَّهِ لَعَلَّهُ لَا يُنْفِقُ فِيهِ مَالًا، وَلَكِنْ شِرَاؤُهُ اسْتِحْبَابُهُ بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الضَّلَالَةِ أَنْ يَخْتَارَ حَدِيثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ، وَمَا يَضُرُّ عَلَى مَا ينفع، وقيل: أراد بِقَوْلِهِ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ اشْتِرَاءَ الْمُغَنِّيَاتِ مِنَ الْجَوَارِي. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ خَلَّادٍ الصَّفَّارِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا يَحُلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ وَأَكْلُ أَثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ، وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ بِنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَضَعَّفَ عَلِيَّ بْنَ يَزِيدَ الْمَذْكُورَ.
(قُلْتُ) عَلِيٌّ وَشَيْخُهُ وَالرَّاوِي عَنْهُ كُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: يَعْنِي الشِّرْكُ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ كُلُّ كَلَامٍ يَصُدُّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ. وَقَوْلُهُ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ إِنَّمَا يَصْنَعُ هَذَا لِلتَّخَالُفِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْيَاءِ تَكُونُ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ أَوْ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ الْقَدَرِيِّ، أَيْ قَيَّضُوا لِذَلِكَ ليكونوا كذلك. وقوله تعالى: وَيَتَّخِذَها هُزُواً قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَتَّخِذُ سَبِيلَ اللَّهِ هُزُوًا يَسْتَهْزِئُ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي وَيَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هَزُّوا، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ كَمَا اسْتَهَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ أُهِينُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أَيْ هَذَا الْمُقْبِلُ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالطَّرَبِ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَلَّى عَنْهَا وَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ وتصامم وما به من صمم، كأنه ما سمعها لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِهَا إِذْ لَا انْتِفَاعَ لَهُ بِهَا وَلَا أَرَبَ لَهُ فِيهَا، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُؤْلِمُهُ كَمَا تَأَلَّمَ بسماع كتاب الله وآياته.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 203.(6/296)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
هَذَا ذِكْرُ مَآلِ الْأَبْرَارِ مِنَ السُّعَدَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لِشَرِيعَةِ اللَّهِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أَيْ يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْمَسَارِّ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَرَاكِبِ وَالنِّسَاءِ وَالنَّضْرَةِ وَالسَّمَاعِ، الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مقيمون دائما فيها، لا يظعنون دائما ولا يبغون عنها حولا. وقوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أَيْ هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، الَّذِي جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:
44] الآية. وقوله وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاءِ: 82] .
[سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
يُبَيِّنُ سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض، وما فيهما وما بينهما، فقال تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ لَهَا عُمُدٌ مَرْئِيَّةٌ وَلَا غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ، لَهَا عُمُدٌ لَا تَرَوْنَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ يَعْنِي الْجِبَالُ أَرْسَتِ الْأَرْضَ وَثَقَّلَتْهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبُ بِأَهْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تميد بكم.
وقوله تعالى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أَيْ وَذَرَأَ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مِمَّا لَا يَعْلَمُ عَدَدَ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا، وَلَمَّا قرر سبحانه أَنَّهُ الْخَالِقُ نَبَّهْ عَلَى أَنَّهُ الرَّازِقُ بِقَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أَيْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مِنَ النَّبَاتِ كَرِيمٍ، أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالنَّاسُ أَيْضًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فهو لئيم. وقوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الله تعالى من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا صَادِرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذلك، ولهذا قال تعالى: فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أَيْ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَتَدْعُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ بَلِ الظَّالِمُونَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي ضَلالٍ أَيْ جَهْلٍ وَعَمًى(6/297)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
مُبِينٍ أَيْ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.
[سورة لقمان (31) : آية 12]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي لقمان: هَلْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ عَبْدًا صَالِحًا مِنْ غَيْرِ نُبُوَّةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، الْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا انْتَهَى إِلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِ لُقْمَانَ؟ قَالَ: كَانَ قَصِيرًا أَفْطَسَ مِنَ النُّوبَةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ، ذَا مَشَافِرَ، أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَمَنَعَهُ النُّبُوَّةَ. وَقَالَ الأوزاعي: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَالَ: جَاءَ أَسْوَدُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا تَحْزَنْ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ أَسْوَدَ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْيَرِ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ مِنَ السُّودَانِ: بِلَالٌ، وَمَهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلُقْمَانُ الْحَكِيمُ كَانَ أَسْوَدَ نُوبِيًّا ذَا مَشَافِرَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنْ خَالِدٍ الرَّبْعِيِّ قَالَ:
كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: اذْبَحْ لَنَا هذه الشاة، فذبحها، قال: أَخْرِجْ أَطْيَبَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا، فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، ثم مكث مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْبَحْ لَنَا هذه الشاة، فذبحها، قال: أَخْرِجْ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَمَرْتُكَ أَنْ تُخْرِجَ أَطْيَبَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا، فَأَخْرَجْتَهُمَا، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُخْرِجَ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا، فَأَخْرَجْتَهُمَا؟ فَقَالَ لُقْمَانُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا، وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثَا.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا أَسْوَدَ عَظِيمَ الشَّفَتَيْنِ، مُشَقَّقَ القدمين. وقال حكام بن سالم عَنْ سَعِيدِ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ عَبْدًا حَبَشِيًّا، غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ، مُصَفَّحَ الْقَدَمَيْنِ، قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ كان قاضيا على بني إسرائيل في زمان دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قيس قال: كان لقمان عَبْدًا أَسْوَدَ، غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ، مُصَفَّحَ الْقَدَمَيْنِ، فَأَتَاهُ رجل وهو في مجلس ناس يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعِي الْغَنَمَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني.
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 209.
(2) تفسير الطبري 10/ 209.(6/298)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ بِحِكْمَتِهِ، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟
قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي، فَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْهَا مَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِيهِ بِنَفْيِ كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ، لِأَنَّ كَوْنَهُ عَبْدًا قَدْ مَسَّهُ الرِّقُّ يُنَافِي كَوْنَهُ نَبِيًّا، لِأَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا، وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ كَوْنُهُ نَبِيًّا عَنْ عِكْرِمَةَ إِنْ صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عن جابر عن عكرمة، قال: كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا، وَجَابِرٌ هَذَا هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ الْقَتْبَانِيُّ عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، قَالَ:
وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى لُقْمَانَ الْحَكِيمَ، فَقَالَ: أَنْتَ لُقْمَانُ، أَنْتَ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ رَاعِي الْغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ الْأَسْوَدُ؟ قَالَ: أَمَا سَوَادِي فَظَاهِرٌ، فَمَا الَّذِي يُعْجِبُكَ مِنْ أَمْرِي؟ قَالَ: وَطْءُ النَّاسِ بِسَاطَكَ، وَغَشْيُهُمْ بَابَكَ، وَرِضَاهُمْ بِقَوْلِكَ. قَالَ: يا ابن أَخِي إِنْ صَغَيْتَ إِلَى مَا أَقُولُ لَكَ كُنْتَ كَذَلِكَ، قَالَ لُقْمَانُ: غَضِّي بَصَرِي وَكَفِّي لِسَانِي، وَعِفَّةُ طُعْمَتِي وَحِفْظِي فَرَجِي، وَقَوْلِي بِصِدْقٍ، وَوَفَائِي بِعَهْدِي، وَتَكْرِمَتِي ضَيْفِي، وَحِفْظِي جَارِي وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي، فَذَاكَ الَّذِي صَيَّرَنِي إِلَى مَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ عن أبي الدرداء أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا وَذُكِرَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ، فَقَالَ: مَا أُوتِيَ مَا أُوتِيَ عَنْ أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا حَسَبٍ وَلَا خِصَالٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رِجْلًا صَمْصَامَةً سِكِّيتًا، طَوِيلَ التَّفَكُّرِ، عَمِيقَ النَّظَرِ، لَمْ يَنَمْ نَهَارًا قَطُّ، وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ يَبْزُقُ وَلَا يَتَنَخَّعُ، وَلَا يَبُولُ وَلَا يَتَغَوَّطُ، وَلَا يَغْتَسِلُ، وَلَا يَعْبَثُ وَلَا يَضْحَكُ، وَكَانَ لَا يُعِيدُ مَنْطِقًا نَطَقَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ حِكْمَةً يَسْتَعِيدُهَا إِيَّاهُ أَحَدٌ، وَكَانَ قَدْ تزوج وولد أَوْلَادٌ، فَمَاتُوا فَلَمْ يَبْكِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَغْشَى السُّلْطَانَ وَيَأْتِي الْحُكَّامَ لِيَنْظُرَ وَيَتَفَكَّرَ وَيَعْتَبِرَ، فَبِذَلِكَ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ «1» .
وَقَدْ وَرَدَ أَثَرٌ غَرِيبٌ عَنْ قَتَادَةَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا سعيد عن ابن بشير قَتَادَةَ قَالَ: خَيَّرَ اللَّهُ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَذَرَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ، أَوْ رَشَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ، قَالَ: فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا، قَالَ سَعِيدٌ: فَسَمِعْتُ عَنْ قَتَادَةَ يَقُولُ: قِيلَ لِلُقْمَانَ: كَيْفَ اخْتَرْتَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ، وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو
__________
(1) انظر الدر المنثور 5/ 312.(6/299)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
أَرْسَلَ إِلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ عَزْمَةً لَرَجَوْتُ فِيهِ الْفَوْزَ مِنْهُ، وَلَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَقُومَ بِهَا، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنِ النُّبُوَّةِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَحَبَّ إِلَيَّ. فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِسَبَبِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالَّذِي رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَيِ الْفِقْهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَيِ الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالتَّعْبِيرَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أَيْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا أَتَاهُ اللَّهُ وَمَنَحَهُ وَوَهَبَهُ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي خصصه بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ وَثَوَابُهُ عَلَى الشَّاكِرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الرُّومِ: 14] .
وَقَوْلُهُ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَفَرَ أَهْلُ الأرض كلهم جميعا، فإنه الغني عما سِوَاهُ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلا إياه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 13 الى 15]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِوَلَدِهِ، وَهُوَ لُقْمَانُ ابن عَنْقَاءَ بْنِ سَدُونَ، وَاسْمُ ابْنِهِ ثَارَانُ فِي قَوْلٍ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بأحسن الذكر، وأنه آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَهُوَ يُوصِي وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أُشْفِقُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَمْنَحَهُ أَفْضَلَ مَا يُعْرَفُ وَلِهَذَا أَوْصَاهُ أولا بأن يعبد الله وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ مُحَذِّرًا لَهُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أَيْ هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «1» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ، ثُمَّ قَرَنَ بِوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الْبَرَّ بِالْوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ هَاهُنَا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةُ وَهْنِ الْوَلَدِ، وَقَالَ قَتَادَةُ جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ضعفا على ضعف.
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 31، باب 1، ومسلم في الإيمان حديث 197.(6/300)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
وَقَوْلُهُ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَيْ تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] الآية، وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لأنه قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ: 15] وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تَرْبِيَةَ الْوَالِدَةِ وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِيُذَكِّرَ الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاءِ: 24] وَلِهَذَا قَالَ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَا:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بن وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خَيْرًا، وَأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ إِقَامَةٌ فَلَا ظَعْنَ، وَخُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.
وَقَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أَيْ إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ، ولا يمنعك ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، أَيْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعِشْرَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عن داود بن أبي هند أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ:
أُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت: 8] الآية، قال: كُنْتُ رَجُلًا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أحدثت لتدعن دينك هذا أولا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرُ بِي، فَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِّي لَا أَدْعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ. فَمَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قد جهدت، مكثت يوما وَلَيْلَةً أُخْرَى لَا تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قَدِ اشْتَدَّ جُهْدُهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا أُمَّهْ تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ لَا تأكلي، فأكلت.
[سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 19]
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(6/301)
هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَيْ إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الْخَطِيئَةَ لَوْ كَانَتْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ إِنَّهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، وَجَوَّزَ عَلَى هَذَا رفع مثقال، والأول أولى. وقوله عز وجل يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَيْ أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء: 47] الآية.
وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7- 8] وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي دَاخِلِ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، أَوْ غَائِبَةٍ ذَاهِبَةٍ في ارجاء السموات والأرض، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا، لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السموات ولا في الأرض، ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَيْ لِطَيْفُ الْعَلَمِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ، خَبِيرٌ بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَنَّهَا صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَأَبِي مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَأَنَّهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تَكْذَّبُ، وَالظَّاهِرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ فِي حَقَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَ صَخْرَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُبْدِيهَا وَيُظْهِرُهَا بِلَطِيفِ عِلْمِهِ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» .
ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ أَيْ بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْ بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ. وَقَوْلُهُ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزَمِ الْأُمُورِ وَقَوْلُهُ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ يَقُولُ لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَلِنْ جَانِبَكَ وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَالْمَخِيلَةُ لَا يُحِبُّهَا اللَّهَ» «2» .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ يقول لا تتكبر
__________
(1) المسند 3/ 28.
(2) أخرجه أبو داود في اللباس باب 24، وأحمد في المسند 4/ 65، 5/ 63، 64، 378.(6/302)
فَتَحْقِرَ عِبَادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ، وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تتكلم وَأَنْتَ مُعْرِضٌ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَأَبِي الْجَوْزَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جبير والضحاك وابن زيد وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ التَّشْدِيقَ في الكلام. والصواب القول الأول. وقال ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَأَصْلُ الصَّعْرِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤُوسِهَا، حَتَّى تُلْفِتْ أَعْنَاقَهَا عَنْ رُؤُوسِهَا، فَشُبِّهَ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ، وَمِنْهُ قول عمرو بن حيي التغلبي [الطويل] .
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا «2»
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شعره [الطويل] :
وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً ... إِذَا مَا ثَنُوا صُعْرَ الرُّؤُوسِ نُقِيمُهَا «3»
وَقَوْلُهُ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أَيْ مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ، فَخُورٌ أَيْ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الْإِسْرَاءِ: 37] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّدَ فِيهِ، فَقَالَ «إِنِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَغْسِلُ ثِيَابِي فَيُعْجِبُنِي بَيَاضُهَا، وَيُعْجِبُنِي شِرَاكُ نَعْلِي، وَعِلَاقَةُ سَوْطِي، فَقَالَ «لَيْسَ ذَلِكَ الْكِبْرُ، إِنَّمَا الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِطَ النَّاسَ» وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَمَقْتَلُ ثَابِتٍ وَوَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَوْلُهُ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيِ امش مقتصدا مشيا لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ، بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ. وَقَوْلُهُ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أَيْ لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا قال إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبَّهُ بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ، يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الْعَائِدُ فِي هبته كالكلب يقيء ثم
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 214.
(2) البيت للمتلمس في ديوانه ص 24، ولسان العرب (درأ) ، (صعر) ، (كون) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 15، 2/ 149، وتاج العروس (درأ) ، (صعر) ، (كون) ، ولعمرو بن حنيّ التغلبي في تفسير الطبري 10/ 214، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 274، ويروى «من درئه» بدل «من ميله» .
(3) البيت في سيرة ابن هشام 1/ 269. [.....](6/303)
يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» «1» .
وَقَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا سَمِعْتُمُ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا» «2» وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهِ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: بِاللَّيْلِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ وَصَايَا نافعة جدا، وهي من قصص القرآن عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أُنْمُوذَجًا وَدُسْتُورًا إِلَى ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» :
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنِي نَهْشَلُ بْنُ مُجَمِّعٍ الضَّبِّيُّ عَنْ قَزْعَةَ عَنِ ابن عمر قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ: إن الله إذا استودع شيئا حفظه» . وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالتَّقَنُّعَ، فَإِنَّهُ مَخْوَفَةٌ بِاللَّيْلِ مَذَمَّةٌ بِالنَّهَارِ» .
وَقَالَ: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان بن ضمرة، حدثنا الترمذي بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِذَا أَتَيْتَ نَادِيَ قَوْمٍ فَارْمِهِمْ بِسَهْمِ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي السَّلَامَ، ثُمَّ اجْلِسْ فِي نَاحِيَتِهِمْ فَلَا تَنْطِقْ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا، فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ، فَأَجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَفَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فتحول عنهم إلى غيرهم. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا ضمرة عن حفص بن عمر قَالَ: وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيَخْرُجُ خَرْدَلَةً حَتَّى نَفَذَ الْخَرْدَلُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر، قَالَ: فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بن عبد الرحمن الطرائفي، حدثنا أنس بْنُ سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَامٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّخَذُوا السُّودَانَ، فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: لُقْمَانُ الْحَكِيمُ، وَالنَّجَاشِيُّ، وبلال المؤذن»
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة باب 30، ومسلم في الهبات حديث 5، 6.
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 15، ومسلم في الذكر حديث 82، والترمذي في الدعوات باب 56، وأحمد في المسند 2/ 306، 321، 364.
(3) المسند 2/ 87.(6/304)
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ أَرَادَ الْحَبَشَ.
فَصْلٌ فِي الْخُمُولِ وَالتَّوَاضُعِ
وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِوَصِيَّةِ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِهِ. وَقَدْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا كِتَابًا مفردا، ونحن نَذْكُرُ مِنْهُ مَقَاصِدَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْمَدَنِيُّ عن أسامة بن زيد بن حفص بن عبد الله بْنِ أَنَسٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «رُبَّ أَشْعَثَ ذِي طِمْرَيْنِ يُصْفَحُ عَنْ أَبْوَابِ النَّاسِ إِذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ، وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَزَادَ «مِنْهُمُ الْبَرَاءَ بْنَ مالك» .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ زيد عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَبْكِي عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا معاذ؟
قال: حديث سَمِعْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ «إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَثْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَنْجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ» .
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا عفان بْنُ عَلِيٍّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «رُبَّ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يُعْطِهُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا» .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ أَتَى بَابَ أَحَدِكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ فِلْسًا لَمْ يُعْطَهُ، وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَلَوْ سَأَلَهُ الدُّنْيَا لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهَا إِيَّاهُ لِهَوَانِهِ عَلَيْهِ، ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ مَنْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُنْصَتْ لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِّمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ النَّاسِ لَوَسِعَهُمْ» .
قَالَ: وَأَنْشَدَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ [الطويل] :
أَلَا رُبَّ ذِي طِمْرَيْنِ فِي مَنْزِلٍ غَدًا ... زَرَابِيُّهُ مَبْثُوثَةٌ وَنَمَارِقُهُ
قَدِ اطَّرَدَتْ أَنْهَارُهُ حَوْلَ قَصْرِهِ ... وَأَشْرَقَ وَالتَفَّتْ عَلَيْهِ حَدَائِقُهُ(6/305)
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «قَالَ اللَّهُ: مِنْ أَغْبَطِ أَوْلِيَائِي عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إِنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ» قال: ثم أنفذ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَالَ «عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثَهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ يُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى عيسى ابن مَرْيَمَ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ، أَلَمْ أُعْطِكَ، أَلَمْ أَسْتُرْكَ؟ أَلَمْ ... أَلَمْ ... أَلَمْ أَخْمِلْ ذِكْرَكَ. ثُمَّ قَالَ الْفُضَيْلُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تُعْرَفَ فَافْعَلْ، وَمَا عَلَيْكَ أن لا يُثْنَى عَلَيْكَ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ. وَكَانَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ذِكْرًا خَامِلًا. وَكَانَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي عِنْدَكَ مَنْ أَرْفَعِ خَلْقِكَ، وَاجْعَلْنِي فِي نَفْسِي مَنْ أَوْضَعِ خَلْقِكَ. وَعِنْدَ النَّاسِ مِنْ أَوْسَطِ خلقك.
(باب ما جاء في الشهرة)
ثم قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْأَخْنَسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا نَحْوُهُ فَقِيلَ لِلْحَسَنِ: فَإِنَّهُ يُشَارُ إِلَيْكَ بِالْأَصَابِعِ، فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ بِالْبِدْعَةِ وَفِي دُنْيَاهُ بِالْفِسْقِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا تَبْدَأْ لِأَنْ تَشْتَهِرَ، وَلَا تَرْفَعْ شَخْصَكَ لِتُذْكَرَ، وَتَعَلَّمْ وَاكْتُمْ، وَاصْمُتْ تَسْلَمْ، تَسُرُّ الْأَبْرَارَ وَتَغِيظُ الْفُجَّارَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا صَدَقَ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ. وَقَالَ أيوب: ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يُشْعَرَ بِمَكَانِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ: مَنْ أحب الله أحب أن لا يَعْرِفَهُ النَّاسُ. وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ سَلَمَةَ: إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْأَخِلَّاءِ وَقَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: إِنْ أحببت أن يسلم إليك دِينُكَ فَأَقِلَّ مِنَ الْمَعَارِفِ. كَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ نَهَضَ وَتَرَكَهُمْ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: رَأَى طَلْحَةُ قَوْمًا يَمْشُونَ مَعَهُ فَقَالَ: ذُبَابُ طَمَعٍ وَفَرَاشُ النَّارِ.(6/306)
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ أَبِي إِذْ عَلَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: إِنَّهَا مَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ:
خَرَجَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَاتَّبَعَهُ أُنَاسٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابِي مَا اتَّبَعَنِي مِنْكُمْ رَجُلَانِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: كُنَّا إِذَا مَرَرْنَا عَلَى الْمَجْلِسِ وَمَعَنَا أَيُّوبُ فَسَلَّمَ، رَدُّوا رَدًّا شَدِيدًا، فَكَانَ ذَلِكَ يَغُمُّهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: كَانَ أَيُّوبُ يُطِيلُ قَمِيصَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِ الشُّهْرَةَ فِيمَا مَضَى كَانَتْ فِي طُولِ الْقَمِيصِ، وَالْيَوْمَ فِي تَشْمِيرِهِ. وَاصْطَنَعَ مَرَّةً نَعْلَيْنِ عَلَى حَذْوِ نَعْلَيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَبِسَهُمَا أَيَّامًا ثُمَّ خَلَعَهُمَا، وَقَالَ: لَمْ أَرَ النَّاسَ يَلْبَسُونَهُمَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَا تَلْبَسْ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُشْهَرُ فِي الْفُقَهَاءِ وَلَا مَا يَزْدَرِيكَ السُّفَهَاءُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مِنَ الثِّيَابِ الْجِيَادَ الَّتِي يُشْتَهَرُ بِهَا وَيَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ.
وَالثِّيَابَ الرَّدِيئَةَ الَّتِي يُحْتَقَرُ فِيهَا وَيُسْتَذَلُّ دِينُهُ.
وَحَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي حَسَنَةَ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي قِلَابَةَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ أَكْسِيَةٌ فَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَهَذَا الْحِمَارَ النَّهَّاقَ. وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِنْ قَوْمًا جَعَلُوا الْكِبْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالتَّوَاضُعَ فِي ثيابهم، فصاحب الكساء بكسائه أعظم مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ مَا لَهُمْ تَفَاقَدُوا. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا لَكُمْ تَأْتُونِي عَلَيْكُمْ ثِيَابُ الرُّهْبَانِ، وَقُلُوبُكُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، الْبَسُوا ثِيَابَ الْمُلُوكِ، وَأَلِينُوا قُلُوبَكُمْ بِالْخَشْيَةِ.
[فَصْلٌ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ]
قَالَ أَبُو الْتِّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا «1» وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . وَعَنْ نُوحِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ دَرَكَ جَهَنَّمَ وَهُوَ عابد» وعن سيار بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ درجة قائم الليل صائم النَّهَارِ» «2» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنِي أَبِي وَعَمِّي عَنْ جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكثر ما يدخل
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 112، ومسلم في الأدب باب 30، وأبو داود في الأدب باب 1، والترمذي في البر باب 69، وأحمد في المسند 3/ 270.
(2) أخرجه أحمد في المسند 6/ 64، 90، 133.(6/307)
النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ «تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ «الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ» «1» وَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيكٍ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟ قَالَ «حُسْنُ الْخُلُقِ» «2» .
وَقَالَ يَعْلَى بن سماك عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ يُبَلِّغُ به قال: ما شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ «3» ، وَكَذَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ بِهِ. وعن مسروق عن عبد الله مرفوعا «إن من خياركم أحسنكم أَخْلَاقًا» «4» . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَدْرٍ، حدثنا محمد بن عيسى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَارَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَيُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ، كَمَا يُعْطِي الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَغْدُو عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَيَرُوحُ» . وَعَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَرْفُوعًا «إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ» «5» وَعَنْ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْمَلِكُمْ إِيمَانًا أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يُؤْلَفُونَ وَيَأْلَفُونَ» .
وَقَالَ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا حَسَّنَ اللَّهُ خَلْقَ رَجُلٍ وَخُلُقَهُ فَتَطْعَمَهُ النَّارُ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَالِبٍ الْحُدَّانِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «خَصْلَتَانِ لَا تجتمعان فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ» . وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ» وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعَ فِي آخر. قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الْأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ، إِنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ لَيُذِيبَ الذُّنُوبَ. كَمَا تُذِيبُ الشَّمْسُ الْجَلِيدَ، وَإِنَّ الْخُلُقَ السَّيِّئَ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ» . وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هريزة مَرْفُوعًا «إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ وُجُوهٍ وَحُسْنُ خُلُقٍ» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: حُسْنُ الْخُلُقِ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ.
[فَصْلٌ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ]
قَالَ عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يدخل
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2/ 291، 393.
(2) أخرجه أحمد في المسند 4/ 278.
(3) أخرجه أحمد في المسند 6/ 442.
(4) أخرجه البخاري في الأدب باب 39، ومسلم في الفضائل حديث 68، والترمذي في البر باب 47، وأحمد في المسند 2/ 61، 189، 193، 218.
(5) أخرجه أحمد في المسند 4/ 193.(6/308)
النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» «1» وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ» حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجَبَّارِينَ، فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ» «2» .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: رَكِبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ذَاتَ يَوْمٍ الْبِسَاطَ فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ مِنَ الْإِنْسِ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ مِنَ الْجِنِّ، فَرُفِعَ حَتَّى سَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ خَفَضُوهُ حَتَّى مَسَّتْ قَدُمُهُ مَاءَ الْبَحْرِ، فَسَمِعُوا صَوْتًا لَوْ كَانَ فِي قَلْبِ صَاحِبِكُمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَخُسِفَ بِهِ أبعد مما رفع قال: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْطُبُنَا فَيَذْكُرُ بَدْءَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَقْذِرُ نفسه فيقول: خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ قَتَلَ اثْنَيْنِ فَهُوَ جَبَّارٌ، ثُمَّ تَلَا أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَقَالَ الْحَسَنُ: عَجَبًا لِابْنِ آدَمَ يَغْسِلُ الْخَرْءَ بِيَدِهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَتَكَبَّرُ يُعَارِضُ جبار السموات. قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ عَنِ الضحاك بن سفيان، فذكر حديث ضَرَبَ مَثَلَ الدُّنْيَا بِمَا يَخْرُجُ مِنَ ابْنِ آدَمَ وَقَالَ الْحَسَنُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قال: إن مطعم بن آدم ضرب مثلا لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ- مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَا دَخَلَ قَلْبَ رَجُلٍ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ، إِلَّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَيْسَ مَعَ السُّجُودِ كِبْرٌ، وَلَا مَعَ التَّوْحِيدِ نِفَاقٌ. وَنَظَرَ طَاوُسٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَخْلَفَ، فطعن طَاوُسٌ فِي جَنْبِهِ بِأُصْبُعِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا شَأْنُ مَنْ فِي بَطْنِهِ خَرْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ كَالْمُعْتَذِرِ إِلَيْهِ: يَا عَمِّ لَقَدْ ضُرِبَ كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي عَلَى هَذِهِ الْمِشْيَةِ حَتَّى تَعَلَّمْتُهَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَتْ بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلمون هَذِهِ الْمِشْيَةَ.
[فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَالِ]
عَنْ أَبِي لَيْلَى عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إليه» «3»
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 412، 451، والترمذي في البر باب 61.
(2) أخرجه الترمذي في البر باب 61.
(3) أخرجه أحمد في المسند 5/ 9، 10.(6/309)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
وَرَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أبيه عن الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ «1» ، وَ «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» «2» وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بَيْنَمَا رَجُلٌ إِلَى آخِرِهِ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا خَلْقَهُ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ مَا في السموات مِنْ نُجُومٍ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وَمَا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ سَحَابٍ وَأَمْطَارٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَجَعْلِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وَمَا خَلَقَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ قَرَارٍ وَأَنْهَارٍ وَأَشْجَارٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِزَاحَةِ الشُّبَهِ وَالْعِلَلِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ في الله، أي في توحيده وإرساله الرُّسُلِ وَمُجَادَلَتِهِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ حُجَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا كِتَابٍ مَأْثُورٍ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أَيْ مُبِينٍ مُضِيءٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الْآبَاءِ الْأَقْدَمِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: 170] أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَيُّهَا الْمُحْتَجُّونَ بِصَنِيعِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَنْتُمْ خَلَفٌ لَهُمْ فِيمَا كَانُوا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَيْ أَخْلَصَ لَهُ الْعَمَلَ وَانْقَادَ لِأَمْرِهِ وَاتَّبَعَ شَرْعَهُ، وَلِهَذَا قَالَ وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ فِي عَمَلِهِ بِاتِّبَاعِ مَا بِهِ أُمِرَ، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زُجِرَ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس باب 5، 20. [.....]
(2) أخرجه مسلم في اللباس حديث 50، 51، وأحمد في المسند 2/ 531.(6/310)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
أَيْ فَقَدْ أَخَذَ مُوَثِقًا مِنَ اللَّهِ مَتِينًا لَا يُعَذِّبُهُ وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أَيْ لَا تَحْزَنْ عليهم يا محمد فِي كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ قَدَرَ اللَّهِ نَافِذٌ فِيهِمْ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُمْ فَيُنْبِئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، أَيْ فَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خافية، ثم قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أَيْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أَيْ نُلْجِئُهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أَيْ فَظِيعٍ صَعْبٍ مُشِقٍّ عَلَى النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ
[يونس: 70] .
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الله خالق السموات وَالْأَرْضَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهَا خَلْقٌ لَهُ وملك له، ولهذا قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ إِذْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِاعْتِرَافِكُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. ثم قال تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ هُوَ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَيِ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ. وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ، لَهُ الحمد في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى مَا خَلَقَ وَشَرَعَ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ في الأمور كلها.
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا اطِّلَاعَ لِبِشْرٍ عَلَى كُنْهِهَا وَإِحْصَائِهَا، كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» »
فَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أَيْ وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ جُعِلَتْ أَقْلَامًا وجعل البحر مدادا وأمده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَعَهُ، فَكُتِبَتْ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ ونفذ ماء البحر، ولو جاء أمثالها مددا.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 222، وأبو داود في الصلاة باب 148، والوتر باب 5، والترمذي في الدعوات باب 75، 112، والنسائي في الطهارة باب 119، والتطبيق باب 47، 71، وقيام الليل باب 51، وابن ماجة في الدعاء باب 3، والإقامة باب 117، ومالك في مسّ القرآن حديث 31، وأحمد في المسند 1/ 66، 118، 150، 6/ 58، 201.(6/311)
وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ السَّبْعَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ وَلَا أَنَّ ثَمَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تَكْذَّبُ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الْكَهْفِ: 109] فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِمِثْلِهِ آخَرَ فَقَطْ بَلْ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ بِمِثْلِهِ ثُمَّ هَلُمَّ جَرًّا، لِأَنَّهُ لا حصر لآيات الله وكلماته.
قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ جُعِلَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا، وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا، وَقَالَ اللَّهُ إِنَّ مِنْ أمري كذا ومن أمري كذا، لنفد ماء البحر وَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا هَذَا كَلَامٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أَيْ لَوْ كَانَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَمَعَ الْبَحْرِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا كَانَ لِتَنْفَدَ عَجَائِبُ رَبِّي وَحِكْمَتُهُ وَخَلْقُهُ وَعِلْمُهُ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الْآيَةَ، يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَالْأَشْجَارِ كُلُّهَا أَقْلَامًا، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ وَلَا يُثْنِيَ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ وَفَوْقَ مَا نَقُولُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كلاكما» قالوا: أَلَسْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الْآيَةَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، لَا مَكِّيَّةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ عَزِيزٌ قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَرَادَ وَلَا مُخَالِفَ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، حَكِيمٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَقْوَالِهِ وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه.
وقوله تَعَالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أَيْ مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ وَبَعْثُهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ إِلَّا كَنِسْبَةِ خلق نفس واحدة، الجميع هين عليه، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: 55] أَيْ لَا يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النَّازِعَاتِ: 12- 13] وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَيْ كَمَا هُوَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِمْ كَقُدْرَتِهِ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ الآية.(6/312)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 30]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
يُخْبِرُ تعالى أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذاك، وَيَقْصُرُ هَذَا، وَهَذَا يَكُونُ زَمَنَ الصَّيْفِ، يَطُولُ النهار إلى الغاية، ثم يشرع فِي النَّقْصِ فَيَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ، وَهَذَا يكون في الشِّتَاءِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قِيلَ إِلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ، وَقِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكِلَا الْمَعْنِيِّينَ صَحِيحٌ، وَيُسْتَشْهِدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ» «1» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أبو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
الشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِيَةِ تَجْرِي بِالنَّهَارِ فِي السَّمَاءِ فِي فَلَكِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ جَرَتْ بِاللَّيْلِ فِي فَلَكِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَشْرِقِهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ كَقَوْلِهِ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْحَجِّ: 70] وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى الْخَالِقُ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] الآية. وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ أَيْ إِنَّمَا يُظْهِرُ لَكُمْ آيَاتِهِ لِتَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ، أَيِ الْمَوْجُودُ الْحَقُّ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا في السموات وَالْأَرْضِ الْجَمِيعُ خَلْقُهُ وَعَبِيدُهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيكِ ذَرَّةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا ذبابا لعجزوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَيِ الْعَلِيُّ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شيء، فكل خاضع حقير بالنسبة إليه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 31 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، أَيْ بِلُطْفِهِ وَتَسْخِيرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا جَعَلَ فِي الْمَاءِ مِنْ قُوَّةٍ يَحْمِلُ بِهَا السُّفُنَ لَمَا جَرَتْ، وَلِهَذَا قَالَ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي من
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 36، باب 1، وبدء الخلق باب 4، ومسلم في الإيمان حديث 250.(6/313)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
قُدْرَتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَيْ صَبَّارٌ فِي الضَّرَّاءِ شَكُورٌ فِي الرخاء، ثم قال تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ أَيْ كَالْجِبَالِ وَالْغَمَامِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: 67] وَقَالَ تَعَالَى:
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: 65] الآية.
ثم قال تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ كَافِرٌ كَأَنَّهُ فَسَرَّ الْمُقْتَصِدَ هَاهُنَا بِالْجَاحِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [الْعَنْكَبُوتِ:
65] . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر: 32] الآية، فَالْمُقْتَصِدُ هَاهُنَا هُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا أَيْضًا، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْأُمُورَ الْعِظَامَ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ التَّامِّ، وَالدَّؤُوبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَمَنِ اقْتَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُقَصِّرًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ والله أعلم. وقوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ فَالْخَتَّارُ هُوَ الْغَدَّارُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا عَاهَدَ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَالْخَتْرُ أَتَمُّ الْغَدْرِ وأبلغه. قال عمرو بن معد يكرب: [الوافر]
وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ ... مَلَأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ «1»
وَقَوْلُهُ كَفُورٍ أَيْ جَحُودٌ لِلنِّعَمِ لَا يَشْكُرُهَا بَلْ يَتَنَاسَاهَا وَلَا يَذْكُرُهَا.
[سورة لقمان (31) : آية 33]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِتَقْوَاهُ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْخَشْيَةِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِنَفْسِهِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لو أراد فداء والده بنفسه. لم يقبل مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أَيْ لَا تُلْهِيَنَّكُمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يَعْنِي الشَّيْطَانُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ، فَإِنَّهُ يَغُرُّ ابْنَ آدَمَ وَيَعِدُهُ ويمنيه، وليس من ذلك شيء بل كان ما قَالَ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً
[النِّسَاءِ: 120] .
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قال عزيز عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمَّا رَأَيْتُ بَلَاءَ قَوْمِي، اشْتَدَّ حُزْنِي وَكَثُرَ هَمِّي وَأَرِقَ نَوْمِي، فَضَرِعْتُ إِلَى رَبِّي وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، فَأَنَا فِي ذَلِكَ أَتَضَرَّعُ أَبْكِي، إِذْ أَتَانِي الْمَلَكُ فَقُلْتُ لَهُ، أَخْبِرْنِي هَلْ تَشْفَعُ أَرْوَاحُ الْمُصَدِّقِينَ لِلظَّلَمَةِ أَوِ الْآبَاءِ لأبنائهم؟ قال: إن القيامة فيها
__________
(1) البيت لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص 109، وتفسير الطبري 10/ 224، وتفسير البحر المحيط 7/ 177، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 54.(6/314)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَمُلْكٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ، وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ، وَلَا عَبْدٌ عَنْ سَيِّدِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ أَحَدٌ به غيره، وَلَا يَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَلَا أَحَدَ يَرْحَمُهُ، كُلٌّ مُشْفِقٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ إِنْسَانٌ عَنْ إنسان، كل يهمه هَمَّهُ، وَيَبْكِي عَوْلَهُ، وَيَحْمِلُ وَزْرَهُ، وَلَا يَحْمِلُ وِزْرَهُ مَعَهُ غَيْرُهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
[سورة لقمان (31) : آية 34]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
هَذِهِ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا، فَعِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ وَكَذَلِكَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِهِ عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بذلك، ومن يشاء اللَّهُ مَنْ خَلْقِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ مَا في الأرحام مما يريد أن يخلقه تَعَالَى سِوَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ ذِكْرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، عَلِمَ الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء الله من خلقه، وكذا لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا فِي دُنْيَاهَا وَأُخْرَاهَا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فِي بَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ كَانَ، لَا عِلْمَ لِأَحَدٍ بِذَلِكَ، وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] الآية. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِتَسْمِيَةِ هَذِهِ الْخَمْسِ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ «خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
[حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ «3» ، فَرَوَاهُ في كتاب الاستسقاء في صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بن محمد بن زيد بن
__________
(1) المسند 5/ 353.
(2) المسند 2/ 24، 52، 58.
(3) كتاب الاستسقاء باب 29.(6/315)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ» ثُمَّ قَرَأَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ «1» انْفَرَدَ بِهِ أَيْضًا. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْخَمْسَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .
[حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ خَمْسٍ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهِ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ مَرَّةً، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ عَلَى شَرْطِ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
[حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ] قَالَ الْبُخَارِيُّ «4» عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ الْآخَرِ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ «الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وتصوم رمضان» قال:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُؤُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ الآية، ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ «رُدُّوهُ عَلَيَّ» فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ:
«هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا في كتاب الإيمان «5» ، ومسلم «6» عن
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 31، باب 1.
(2) المسند 2/ 85، 86.
(3) المسند 1/ 386، 438، 445.
(4) كتاب التفسير، تفسير سورة 31، باب 1.
(5) باب 37.
(6) كتاب الإيمان حديث 5، 7.(6/316)
طُرُقٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ بِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَذَكَرْنَا ثَمَّ حَدِيثَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ بِطُولِهِ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ.
[حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا شَهْرٌ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلسا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ:
حَدِّثْنِي مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْإِسْلَامُ أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَشْهَدَ أن لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟
قَالَ «إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَدِّثْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قَالَ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتُ؟ قَالَ «إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتَ» .
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «- سُبْحَانَ اللَّهِ- فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا هُوَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِمَعَالِمَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ- قَالَ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَدِّثْنِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رَأَيْتَ الْأَمَةَ وَلَدَتْ رَبَّتَهَا- أَوْ رَبَّهَا- وَرَأَيْتَ أَصْحَابَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْجِيَاعَ الْعَالَةَ كَانُوا رُؤُوسَ النَّاسِ، فَذَلِكَ مِنْ مَعَالِمِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ومن أصحاب الشاء الحفاة الْجِيَاعِ الْعَالَةِ؟ قَالَ «الْعَرَبُ» حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَمْ يُخْرِّجُوهُ.
[حَدِيثُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ] رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شعبة عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَأَلِجُ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ «اخْرُجِي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقُولِي لَهُ فَلْيَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟» قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لي فَدَخَلْتُ، فَقُلْتُ: بِمَ أَتَيْتَنَا بِهِ؟ قَالَ «لَمْ آتكم إلا بخير، أتيتكم بأن تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ تَدَعُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَأَنْ تُصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَأَنْ تَصُومُوا مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا، وَأَنْ تَحُجُّوا الْبَيْتَ، وَأَنْ تَأْخُذُوا الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ أَغْنِيَائِكُمْ فَتَرُدُّوهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ» قَالَ: فَقَالَ فَهَلْ بَقِيَ مِنَ الْعِلْمِ شَيْءٌ لَا تَعْلَمُهُ؟ قَالَ «قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْخَمْسُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ
__________
(1) المسند 1/ 318، 319. [.....]
(2) المسند 5/ 368، 369.(6/317)
الآية، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: إِنِ امْرَأَتَيْ حُبْلَى، فَأَخْبِرْنِي مَا تَلِدُ، وبلادنا مجدبة، فَأَخْبِرْنِي مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَتَى وُلِدْتُ، فَأَخْبَرَنِي مَتَى أَمُوتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- إلى قوله- عَلِيمٌ خَبِيرٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ «1» وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً «2» .
وقوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ قَالَ قَتَادَةُ: أَشْيَاءُ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِنَّ، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِنَّ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فِي أَيِّ سَنَةٍ، أَوْ فِي أَيِّ شَهْرٍ، أَوْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا فِي الْأَرْحَامِ أَذَكُرٌ أَمْ أُنْثَى، أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ، وَمَا هُوَ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ، وَلَا تَدْرِي يَا ابْنَ آدَمَ مَتَى تَمُوتُ لَعَلَّكَ الْمَيِّتُ غَدًا، لَعَلَّكَ الْمُصَابُ غَدًا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَدْرِي أَيْنَ مَضْجَعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، أَفِي بَحْرٍ أَمْ بَرٍّ أَوْ سَهْلٍ أَوْ جَبَلٍ «3» .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً» فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ فِي مُسْنَدِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «مَا جَعَلَ اللَّهُ مَيْتَةَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ إِلَّا جَعَلَ لَهُ فِيهَا حَاجَةً» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عن أبي إسحاق عن مطر بن عكاش قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا قَضَى اللَّهُ مَيْتَةَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً» «4» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْقَدَرِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَا يُعْرَفُ لِمَطَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أسامة عن أبي عزة
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 226.
(2) انظر تفسير الطبري 10/ 227.
(3) انظر تفسير الطبري 10/ 226.
(4) أخرجه أحمد في المسند 5/ 227.
(5) المسند 3/ 429.(6/318)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ فِيهَا- أَوْ قَالَ- بِهَا حَاجَةً» وَأَبُو عَزَّةَ هَذَا هُوَ يَسَارُ بْنُ عبيد اللَّهِ، وَيُقَالُ ابْنُ عَبْدٍ الْهُذَلِيُّ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَقَالَ: صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِي عَزَّةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «إذا أراد الله قبض عبد بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً فَلَمْ يَنْتَهِ حَتَّى يَقْدُمَهَا» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- إلى- عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم «إذا أراد الله قبض عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً» ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَرْفَعُهُ إِلَّا عُمَرَ بْنَ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مَسِيحٍ قَالَ: أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ لِأَعْشَى همدان [البسيط] :
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ مَعَ خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
لَا تَأْسَيَنَّ عَلَى شَيْءٍ فَكُلُّ فَتًى ... إِلَى مَنِيَّتِهِ سَيَّارٌ فِي عَنَقِ
وَكُلُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَوْتَ يُخْطِئُهُ ... مُعَلَّلٌ بَأَعَالِيلَ مِنَ الْحَمَقِ «1»
بِأَيِّمَا بَلْدَةٍ تُقْدَرْ مَنِيَّتُهُ ... إِنْ لَا يُسَيَّرْ إِلَيْهَا طَائِعًا يُسَقِ
أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ أَعْشَى هَمْدَانَ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ زَوْجَ أُخْتِهِ، وَهُوَ مُزَوَّجٌ بِأُخْتِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ مِمَّنْ طَلَبَ الْعِلْمَ والتفقه، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى صِنَاعَةِ الشِّعْرِ فَعُرِفَ بِهِ، وقد روى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ وَعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ مرفوعا: «إذا كان أجل أحدكم بأرض أو ثبته له إِلَيْهَا حَاجَةٌ، فَإِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرَهُ قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ هَذَا مَا أَوْدَعْتَنِي» «2» ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا جَعَلَ اللَّهُ مَنِيَّةَ عَبْدٍ بأرض إلا جعل له إليها حاجة» .
__________
(1) لأبي دؤاد الأيادي بيت له نفس الصدر وهو:
وكل من ظن أن الموت مخطئه ... معلّل بسواء الحقّ مكذوب
والبيت في ديوان أبي دؤاد ص 294، والإنصاف ص 295، وخزانة الأدب 3/ 438، وشرح المفصل 2/ 84، وهو بلا نسبة في الدرر 3/ 93، وشرح الأشموني 1/ 235، وهمع الهوامع 1/ 202.
(2) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب 31، بلفظ «استودعتني» بدل «أودعتني» .(6/319)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
سورة السجدة
وهي مكية روى الْبُخَارِيُّ «1» فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هريرة قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم تَنْزِيلُ السجدة وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِنْسَانِ: 1] وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ «2» أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ لا شك فيه ولا مرية أنه منزل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم قال تعالى مخبرا عن المشركين أم يَقُولُونَ افْتَراهُ أَيِ اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي يتبعون الحق.
[سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 6]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه خالق للأشياء فخلق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَيْ بَلْ هُوَ.
الْمَالِكُ لِأَزِمَّةِ الْأُمُورِ، الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُدَبِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا وَلِيَّ لِخَلْقِهِ سِوَاهُ، وَلَا شَفِيعَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يَعْنِي أَيُّهَا الْعَابِدُونَ غَيْرَهُ المتوكلون
__________
(1) كتاب الجمعة باب 10.
(2) كتاب الجمعة حديث 64، 65، 66.
(3) المسند 3/ 340.(6/320)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
عَلَى مَنْ عَدَاهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ أَنْ يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أَوْ عَدِيلٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ النَّسَائِيُّ هَاهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا الْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي جُرَيْجٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي فقال «إن الله خلق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، فَخَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَالْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَالنُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَالدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَآدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ بَعْدَ العصر، وخلقه من أديم الأرض: أحمرها وَأَسْوَدِهَا وَطِيبِّهَا وَخَبِيثِهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ مَنْ بَنِي آدَمَ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ» هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وَقَدْ أَخْرَجَ مسلم والنسائي أيضا مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَقَدْ عَلَّلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَهُوَ أَصَحُّ، وَكَذَا عَلَّلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَاللَّهُ أعلم.
قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أَيْ يَتَنَزَّلُ أَمْرُهُ مِنْ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَى تُخُومِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، كَمَا قال تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق: 12] الآية، وَتُرْفَعُ الْأَعْمَالُ إِلَى دِيوَانِهَا فَوْقَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَمَسَافَةُ مَا بَيَّنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَسُمْكُ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: النُّزُولُ مِنَ الْمَلَكِ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَصُعُودُهُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيِ الْمُدَبِّرُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، الَّذِي هُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ جَلِيلُهَا وَحَقِيرُهَا وَصَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا، هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالرِّقَابُ، الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ عَزِيزٌ فِي رَحْمَتِهِ رحيم في عزته.
[سورة السجده (32) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)
يقول تعالى مخبرا إِنَّهُ الَّذِي أَحْسَنَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ وَأَتْقَنَهَا وَأَحْكَمَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قَالَ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، ثم لما ذكر تعالى خلق السموات وَالْأَرْضِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَقَالَ(6/321)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يَعْنِي خَلَقَ أَبَا الْبَشَرِ آدَمَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَيْ يتناسلون كذلك من نطفة مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ سَوَّاهُ يَعْنِي آدَمَ لَمَّا خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، خلقا سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يَعْنِي الْعُقُولَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ أَيْ بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي رَزَقَكُمُوهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَالسَّعِيدُ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي طاعة ربه عز وجل.
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِبْعَادِهِمُ الْمَعَادَ حَيْثُ قالوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَيْ تَمَزَّقَتْ أَجْسَامُنَا وَتَفَرَّقَتْ في أجزاء الأرض وذهبت أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أإنا لَنَعُودُ بَعْدَ تِلْكَ الْحَالِ؟ يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ بَعِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِمُ الْعَاجِزَةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ الَّذِي بَدَأَهُمْ وَخَلَقَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ، الَّذِي إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَلِهَذَا قال تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ثُمَّ قَالَ تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِعِزْرَائِيلَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَلَهُ أَعْوَانٌ، وَهَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْوَانَهُ يَنْتَزِعُونَ الْأَرْوَاحَ مِنْ سَائِرِ الْجَسَدِ حَتَّى إِذَا بلغت الحلقوم وتناولها مَلَكُ الْمَوْتِ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
حُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يَشَاءُ، وَرَوَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ مُرْسَلًا، وَقَالَهُ ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بن أبي يحيى المقري، حدثنا عمر بن سمرة عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأْسِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا مَلَكَ الْمَوْتِ ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ» فَقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: يَا مُحَمَّدُ طِبْ نَفْسًا وَقَرَّ عَيْنًا، فَإِنِّي بِكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا شَعْرٍ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إلا وأنا أتصفحهم فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنِّي أَعْرِفُ بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَوْ أَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْآمِرُ بِقَبْضِهَا.
قَالَ جَعْفَرُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَصَفَّحَهُمْ عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا حَضَرَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ دَنَا مِنْهُ الْمَلَكُ وَدَفَعَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ، وَلَقَّنَهُ الْمَلَكُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ الْعَظِيمَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ بَيْتِ شعر أو مدر إلا(6/322)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
وملك الموت يطوف بِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يَقُومُ عَلَى بَابِهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَنْظُرُ هَلْ فِيهِ أَحَدٌ أُمِرَ أَنْ يَتَوَفَّاهُ، رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم. وقوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أَيْ يَوْمَ مَعَادِكُمْ وقيامكم من قبوركم لجزائكم.
[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
يُخْبِرُ تَعَالَى عن حال المشركين يوم القيامة وقالهم حِينَ عَايَنُوا الْبَعْثَ وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل، حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ نَاكِسِي رُؤُوسِهِمْ، أَيْ مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَجَلِ يَقُولُونَ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أَيْ نَحْنُ الْآنَ نَسْمَعُ قَوْلَكَ وَنُطِيعُ أَمْرَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مَرْيَمَ: 38] وَكَذَلِكَ يَعُودُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ بِقَوْلِهِمْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الْمُلْكِ: 10] وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا أَيْ إلى دار الدُّنْيَا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أَيْ قَدْ أيقنا وتحققنا فيها أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَقَدْ عَلِمَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَهُمْ إِلَى دار الدُّنْيَا لَكَانُوا كَمَا كَانُوا فِيهَا كُفَّارًا يُكْذِّبُونَ بآيات الله ويخالفون رسله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الأنعام: 27- 29] الآية، وَقَالَ هَاهُنَا وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يُونُسَ: 99] وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَيْ مِنَ الصِّنْفَيْنِ فَدَارُهُمُ النَّارُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ مِنْ ذَلِكَ، فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِكُمْ بِهِ وَاسْتِبْعَادِكُمْ وُقُوعَهُ وَتَنَاسِيكُمْ لَهُ إِذْ عَامَلْتُمُوهُ مُعَامَلَةَ مَنْ هُوَ نَاسٍ لَهُ إِنَّا نَسِيناكُمْ أَيْ سَنُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْسَى شَيْئًا وَلَا يَضِلُّ عَنْهُ شَيْءٌ، بَلْ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الْجَاثِيَةِ:
34] وَقَوْلُهُ تعالى: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ بسبب كفركم وتكذيبكم، كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً- إلى قوله- فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: 24- 30] .(6/323)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا أَيْ إِنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً أَيِ اسْتَمَعُوا لَهَا وَأَطَاعُوهَا قَوْلًا وَفِعْلًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي عن أتباعهم وَالِانْقِيَادِ لَهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْكَفَرَةِ الفجرة، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِرٍ: 60] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَعْنِي بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ وَتَرْكَ النَّوْمِ وَالِاضْطِجَاعِ عَلَى الْفُرَشِ الْوَطِيئَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَعْنِي بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ.
وَعَنْ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَأَبِي حَازِمٍ وَقَتَادَةَ: هُوَ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: هُوَ انْتِظَارُ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ. ورواه ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ وَصَلَاةُ الْغَدَاةِ فِي جَمَاعَةٍ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً أَيْ خَوْفًا مِنْ وَبَالِ عِقَابِهِ وَطَمَعًا فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ فِعْلِ الْقُرُبَاتِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، وَمُقَدَّمُ هَؤُلَاءِ وَسَيِّدُهُمْ وَفَخْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: [الطويل]
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الصُّبْحِ سَاطِعُ «1»
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى، فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا رَوْحٌ وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمذاني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إِلَى صَلَاتِهِ فَيَقُولُ: رَبُّنَا أَيَا مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه من بين حبه وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، وَرَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى فَانْهَزَمُوا، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَرَهْبَةً مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «3» فِي الْجِهَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سلمة به بنحوه.
__________
(1) البيت الثالث لعبد الله بن رواحة في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/ 36، وروح المعاني 23/ 48، وتفسير البحر المحيط 7/ 330.
(2) المسند 1/ 416.
(3) كتاب الجهاد باب 36. [.....](6/324)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ- ثُمَّ قَالَ: - أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ- ثُمَّ قَرَأَ- تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حَتَّى بَلَغَ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ثُمَّ قَالَ- أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ - فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: - رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ-: أَلَّا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟» فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، فَقَالَ «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ- أَوْ قَالَ: عَلَى مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم» «2» ورواه التِّرْمِذِيُّ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عن الحكم قال: سمعت عروة بن الزبير يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ «أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَالْحَكَمِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ شَهْرٍ، عن معاذ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال «قيام العبد من الليل» «4» .
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ والحكم وحكيم بن جرير عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ مُعَاذٍ بن
__________
(1) المسند 5/ 231.
(2) أخرجه الترمذي في الإيمان باب 8، وابن ماجة في الفتن باب 12.
(3) تفسير الطبري 10/ 240.
(4) تفسير الطبري 10/ 241.(6/325)
جبل قال: كنت مع النبي لله فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ «إِنْ شِئْتَ أَنْبَأَتُكَ بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الآية، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَاءَ مُنَادٍ فَنَادَى بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ الْيَوْمَ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- الْآيَةَ- فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ» .
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ العطاء بْنِ الْأَغَرِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي مُصْعَبٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ بِلَالٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الْآيَةَ، كُنَّا نَجْلِسُ فِي الْمَجْلِسِ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَشَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَى أَسْلَمُ عَنْ بِلَالٍ سِوَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ عَنْ بِلَالٍ غَيْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية، أَيْ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَاللَّذَّاتِ الَّتِي لَمْ يَطَّلِعُ عَلَى مِثْلِهَا أَحَدٌ، لما أخفوا أعمالهم كذلك أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، جَزَاءً وِفَاقًا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَخْفَى قَوْمٌ عَمَلَهُمْ، فَأَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قَالَ البخاري «1» قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةِ، حَدَّثَنَا.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قَالَ أبو هريرة: اقرءوا إِنْ شِئْتُمْ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ اللَّهُ مِثْلَهُ. قِيلَ لِسُفْيَانَ رِوَايَةً، قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ «2» ؟ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ «3» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الأعمش، حدثنا أبو
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 32، باب 1.
(2) أخرجه مسلم في الجنة حديث 2، 4، 5، والترمذي في تفسير سورة 32، باب 2.
(3) كتاب التفسير، تفسير سورة 32، باب 1.(6/326)
صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْرًا مِنْ بَلْهَ مَا أُطْلَعْتُمْ عَلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ: قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ قُرَّاتِ أَعْيُنٍ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الله تَعَالَى قَالَ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» «2» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رواية عبد الرزاق، قال: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بن سلمة عن ثابت بن أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَمَّادٌ:
أَحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قَلْبِ بَشَرٌ» «3» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا هَارُونُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- إِلَى قَوْلِهِ- يَعْمَلُونَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «5» فِي صَحِيحِهِ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ وَهَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «6» : حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر
__________
(1) المسند 2/ 313.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب 35، وبدء الخلق باب 8، ومسلم في الإيمان حديث 312، والترمذي في تفسير سورة 32، باب 2.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره 10/ 244، ومسلم في الجنة حديث 2.
(4) المسند 5/ 334.
(5) كتاب الجنة حديث 3، 4.
(6) تفسير الطبري 10/ 243.(6/327)
عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ لَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ «1» أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرُهُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُطَرَّفُ بْنُ طَرِيفٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدٍ، سَمِعَا الشَّعْبِيَّ يُخْبِرُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ:
أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ مُلْكِ مَلِكٍ مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ فَقَالَ فِي الخامسة، رضيت رضيت ربي، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ مِنْ كِتَابِ الله عز وجل فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «2» عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالْمَرْفُوعُ أَصَحُّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُنِيرٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ قَالَ، بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَلْتَفِتُ فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ فِيهِ، فَتَقُولُ: قد ان لَكَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْكَ نَصِيبٌ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ، فَيَمْكُثُ مَعَهَا سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَلْتَفِتُ فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ فِيهِ، فَتَقُولُ لَهُ: قد آن لَكَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْكَ نَصِيبٌ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا الَّتِي قَالَ اللَّهُ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي مِقْدَارِ كَلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مَعَهُمُ التُّحَفُ مِنَ اللَّهِ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ مَا لَيْسَ في جناتهم، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وَيُخْبَرُونَ أَنَّ اللَّهَ عنهم راض. وروى ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْيَمَانِ الْهَوْزَنِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ: الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، أَوَّلُهَا دَرَجَةُ فِضَّةٍ، وَأَرْضُهَا فِضَّةٌ، وَمَسَاكِنُهَا فِضَّةٌ، وَآنِيَتُهَا فِضَّةٌ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ، وَالثَّانِيَةُ ذَهَبٌ، وَأَرْضُهَا ذَهَبٌ، وَمَسَاكِنُهَا ذَهَبٌ، وَآنِيَتُهَا ذَهَبٌ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ، وَالثَّالِثَةُ لُؤْلُؤٌ، وَأَرْضُهَا لؤلؤ، ومساكنها
__________
(1) كتاب الإيمان حديث 312. [.....]
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 32، باب 2.
(3) تفسير الطبري 10/ 243.(6/328)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
اللُّؤْلُؤُ، وَآنِيَتُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشر، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ الآية.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عن الغطريف عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ قَالَ «يُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ يُنْقَصُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ بَقِيَتْ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ لَهُ في الجنة، قال: فدخلت على بزداد فَحَدَّثَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: فَقُلْتُ فَأَيْنَ ذَهَبَتِ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ الآية، قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ قَالَ: الْعَبْدُ يعمل سرا أسره إلى لله لَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّاسُ، فَأَسَرَّ اللَّهُ لَهُ يوم القيامة قرة أعين.
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَدْلِهِ وَكَرَمِهِ أَنَّهُ لَا يُسَاوِي فِي حُكْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِآيَاتِهِ مُتْبِعًا لِرُسُلِهِ، بِمَنْ كَانَ فَاسِقًا أي خارجا عن طاعة ربه، مكذبا لرسل الله إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
[الْجَاثِيَةِ: 21] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
[ص: 28] وَقَالَ تَعَالَى:
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] الآية، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ أَيْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَلِهَذَا فَصَّلَ حُكْمَهُمْ فَقَالَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا وَهِيَ الصَّالِحَاتُ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أَيِ الَّتِي فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ وَالْغُرَفُ الْعَالِيَةُ نُزُلًا أَيْ ضِيَافَةً وَكَرَامَةً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أَيْ خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا، كَقَوْلِهِ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22] الآية قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: «وَاللَّهِ إِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَإِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَبَ لَيَرْفَعُهُمْ، والملائكة تقمعهم
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 243.(6/329)
وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وتوبيخا.
وقوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَسْقَامَهَا وَآفَاتِهَا، وَمَا يَحِلُّ بِأَهْلِهَا مِمَّا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لِيَتُوبُوا إِلَيْهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَعَلْقَمَةَ وَعَطِيَّةَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ وَخَصِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يَعْنِي بِهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي بِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قَالَ: سُنُونَ أَصَابَتْهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الله ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قتادة عن عروة عن الحسن العوفي عن يحيى الْجَزَّارِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قال: القمر وَالدُّخَانُ قَدْ مَضَيَا وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ «1» ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ. وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ «2» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْعَذَابُ الْأَدْنَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَبْقَ بَيْتٌ بِمَكَّةَ إِلَّا دَخَلَهُ الْحُزْنُ عَلَى قَتِيلٍ لَهُمْ أَوْ أَسِيرٍ، فَأُصِيبُوا أَوْ غَرِمُوا، وَمِنْهُمْ من جمع له الأمران.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أَيْ لَا أَظْلِمُ مِمَّنْ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِآيَاتِهِ وَبَيَّنَهَا لَهُ وَوَضَّحَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَكَهَا وَجَحَدَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَنَاسَاهَا كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا.
قال قتادة: إِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فَقَدِ اغْتَرَّ أَكْبَرَ الْغِرَّةِ، وَأَعْوَزَ أَشَدَّ الْعَوَزِ، وَعَظَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أَيْ سَأَنْتَقِمُ مِمَّنْ فعل ذلك أشد الانتقام.
وروى ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: سمعت رسول الله يَقُولُ: ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ أَجْرَمَ: مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، أَوْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ يَنْصُرُهُ فَقَدْ أَجْرَمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ بِهِ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جدا.
__________
(1) أخرجه مسلم في صفات المنافقين حديث 42، وأحمد في المسند 5/ 128.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 44، باب 1.
(3) تفسير الطبري 10/ 249.(6/330)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ آتَاهُ الْكِتَابَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وقوله تعالى: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ، يَعْنِي ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا آدَمَ طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَالدَّجَّالَ» فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أَنَّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى وَلَقِيَ مُوسَى لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: جُعِلَ مُوسَى هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي قَوْلِهِ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قَالَ: مِنْ لِقَاءِ موسى ربه عز وجل. وقوله تعالى: وَجَعَلْناهُ أَيِ الْكِتَابُ الَّذِي آتَيْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 2] .
وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أَيْ لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ على أوامر الله، وترك زواجره، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوهم بِهِ، كَانَ مِنْهُمْ أَئِمَّةٌ يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ لَمَّا بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَأَوَّلُوا، سُلِبُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً يحرفون الكلم عن مواضعه، فلا عملا صالحا ولا اعتقادا صحيحا، ولهذا قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ قَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ: لَمَّا صَبَرُوا عَنِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ سُفْيَانُ:
هَكَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يَتَحَامَى عَنِ الدُّنْيَا قَالَ وَكِيعٌ:
قَالَ سُفْيَانُ: لَا بُدَّ لِلدِّينِ مِنَ الْعِلْمِ، كَمَا لَا بُدَّ لِلْجَسَدِ مِنَ الْخُبْزِ.
وَقَالَ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ: قَرَأَ أَبِي عَلَى عَمِّي أَوْ عَمِّي عَلَى أَبِي: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا قَالَ: لَمَّا أَخَذُوا برأس الأمر صاروا رؤساء. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تَنَالُ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ(6/331)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
الآية، كَمَا قَالَ هُنَا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من الاعتقادات والأعمال.
[سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 27]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
يقول تعالى: أو لم يَهْدِ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ قَوِيمِ السُّبُلِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [مَرْيَمَ: 98] وَلِهَذَا قَالَ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي هؤلاء الْمُكَذِّبُونَ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ، فَلَا يرون منها أحدا ممن يَسْكُنُهَا وَيَعْمُرُهَا، ذَهَبُوا مِنْهَا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الْأَعْرَافِ: 92] كَمَا قَالَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْلِ: 52] وَقَالَ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ- إلى قوله- وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 45- 46] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَيْ إِنَّ فِي ذَهَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَدَمَارِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَنَجَاةِ من آمن بهم، لآيات وعبرا ومواعظ ودلائل متناظرة أَفَلا يَسْمَعُونَ أَيْ أَخْبَارَ مَنْ تَقَدَّمَ كَيْفَ كان أمرهم.
وقوله تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ يُبَيِّنُ تَعَالَى لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ فِي إِرْسَالِهِ الْمَاءَ إِمَّا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ السَّيْحِ، وَهُوَ مَا تَحْمِلُهُ الْأَنْهَارُ ويتحدر مِنَ الْجِبَالِ إِلَى الْأَرَاضِي الْمُحْتَاجَةِ إِلَيْهِ فِي أوقاته، ولهذا قال تعالى: إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [الْكَهْفِ: 8] أَيْ يَبَسًا لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أَرْضَ مِصْرَ فَقَطْ، بَلْ هِيَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ وَإِنْ مَثَّلَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ وَحْدَهَا، وَلَكِنَّهَا مُرَادَّةٌ قَطْعًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا فِي نَفْسِهَا أَرْضٌ رَخْوَةٌ غَلِيظَةٌ تَحْتَاجُ مِنَ الْمَاءِ مَا لَوْ نَزَّلَ عَلَيْهَا مَطَرًا لتهدمت أبنيتها، فيسوق الله تعالى إِلَيْهَا النَّيْلَ بِمَا يَتَحَمَّلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ أَمْطَارِ بِلَادِ الْحَبَشَةِ، وَفِيهِ طِينٌ أَحْمَرُ، فَيَغْشَى أَرْضَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ سَبَخَةٌ مُرْمِلَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَذَلِكَ الطِّينِ أَيْضًا، لِيَنْبُتَ الزَّرْعُ فِيهِ، فَيَسْتَغِلُّونَ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى مَاءٍ جَدِيدٍ مَمْطُورٍ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَطِينٍ جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ أَرْضِهِمْ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ الْمَحْمُودِ ابْتِدَاءً.
قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ حَجَّاجٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، حين دخل بؤونة مِنْ أَشْهُرِ الْعَجَمِ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ لنيلنا هذا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا قَالَ: وَمَا ذاك؟ قالوا: إن كَانَتْ ثِنْتَا عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ(6/332)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
بَيْنَ أَبَوَيْهَا، فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّ الْإِسْلَامَ يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إليه عمر: إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي هَذَا، فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ.
فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا، فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ أَهْلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قبلك فلا تجري، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَكَ. قَالَ: فَأَلْقَى البطاقة في النيل فأصبحوا يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عشر ذراعا في ليلة واحدة، قد قطع اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ. رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ الطَّبَرَيُّ فِي كِتَابِ السُّنَةِ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ
كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: 24- 31] الآية، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا أَفَلا يُبْصِرُونَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ قَالَ: هِيَ الَّتِي لَا تُمْطَرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا يَأْتِيهَا مِنَ السُّيُولِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: هِيَ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ، وقال الحسن رحمه الله: هي قرى بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: الْأَرْضِ الْجُرُزِ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَهِيَ مُغْبَرَّةٌ، قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها الآيتين.
[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اسْتِعْجَالِ الكفار ووقوع بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، وَحُلُولِ غَضَبِهِ وَنِقْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، اسْتِبْعَادًا وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أَيْ مَتَى تُنْصَرُ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ؟ كَمَا تزعم أن لك وقتا عَلَيْنَا وَيُنْتَقَمُ لَكَ مِنَّا، فَمَتَى يَكُونُ هَذَا؟ مَا نَرَاكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ إِلَّا مُخْتَفِينَ خَائِفِينَ ذَلِيلِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أَيْ إِذَا حَلَّ بِكُمْ بَأْسُ اللَّهِ وَسُخْطُهُ وَغَضَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83- 85] الآيتين.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَخْطَأَ فَأَفْحَشَ، فَإِنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْلَامَ الطُّلَقَاءِ، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ(6/333)
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ كقوله فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً [الشعراء: 118] الآية، وَكَقَوْلِهِ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ [سبأ: 26] الآية، وَقَالَ تَعَالَى:
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم: 15] وقال تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: 89] وقال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الْأَنْفَالِ:
19] .
ثُمَّ قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أَيْ أَعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، كَقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الأنعام:
106] الآية، وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعد وَسَيَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَقَوْلُهُ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أَيْ أَنْتَ مُنْتَظِرٌ وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطُّورِ: 30] وَسَتَرَى أَنْتَ عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ فِي نُصْرَتِكَ وَتَأْيِيدِكَ، وَسَيَجِدُونَ غِبَّ مَا يَنْتَظِرُونَهُ فِيكَ وَفِي أَصْحَابِكَ مِنْ وَبِيلِ عِقَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَحُلُولِ عَذَابِهِ بِهِمْ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ ونعم الوكيل.
آخر تفسير سورة السجدة ولله الحمد والمنة.(6/334)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
سُورَةِ الْأَحْزَابِ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأَيِّنْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ أَوْ كَأَيِّنْ تَعُدُّهَا؟ قَالَ: قُلْتُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً، فَقَالَ: قَطُّ لَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «1» ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَهُوَ ابْنُ بَهْدَلَةَ بِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أنه قد كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَحُكْمُهُ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سُورَةُ الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
هَذَا تَنْبِيهٌ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ يَأْمُرُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ بِهَذَا، فَلَأَنْ يَأْتَمِرَ مِنْ دُونِهِ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأخرى. وَقَدْ قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ مَخَافَةَ عَذَابِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ:
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أَيْ لَا تَسْمَعْ مِنْهُمْ وَلَا تَسْتَشِرْهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعَ أَوَامِرَهُ وَتُطِيعَهُ، فَإِنَّهُ عَلِيمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، حَكِيمٌ في أقواله وأفعاله، ولهذا قال تعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَيْ مِنْ قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أَيْ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ وَأَحْوَالِكَ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ وَكَفَى بِهِ وكيلا لمن توكل عليه وأناب إليه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
يَقُولُ تَعَالَى مُوَطِّئًا قَبْلَ الْمَقْصُودِ الْمَعْنَوِيِّ أَمْرًا معروفا حسيا، وهو أنه كما لا يكون
__________
(1) المسند 5/ 132.(6/335)
لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ فِي جَوْفِهِ وَلَا تَصِيرُ زَوْجَتُهُ الَّتِي يُظَاهِرُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أُمًّا لَهُ، كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الدَّعِيُّ وَلَدًا لِلرَّجُلِ إِذَا تَبَنَّاهُ فَدَعَاهُ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ كقوله عز وجل مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2] الآية. وقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْدِ بْنِ حارثة رضي الله عنه مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ قبل النبوة، فكان يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ يَقْطَعَ هَذَا الْإِلْحَاقَ وَهَذِهِ النِّسْبَةَ بقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ كما قال تعالى فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الْأَحْزَابِ: 40] وَقَالَ هَاهُنَا ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يَعْنِي تَبَنِّيكُمْ لَهُمْ قَوْلٌ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْنًا حَقِيقِيًّا، فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ صُلْبِ رَجُلٍ آخَرَ، فما يمكن أن يكون أَبَوَانِ كَمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَشَرِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُ الْحَقَّ أَيِ الْعَدْلَ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أَيِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْقَلْبَيْنِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بعقل وافر، فأنزل الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِ. هَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عن ابن عباس، وقاله مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ قابوس يعني ابن أبي ظبيان، قال: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ مَا عَنَى بِذَلِكَ؟ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يُصَلِّي فَخَطَرَ خَطْرَةً، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ: أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْنِ: قَلْبًا مَعَكُمْ وَقَلْبًا مَعَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «2» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ عَنْ صَاعِدٍ الحراني، عن عبد بن حميد وعن أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنْ زُهَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ حسن، وكذا رواه ابن جرير وابن حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ضُرِبَ لَهُ مَثَلٌ: يَقُولُ لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَكَ «3» ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ في زيد بن حارثة رضي الله عنه، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ هَذَا أَمْرٌ نَاسِخٌ لِمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَوَازِ ادِّعَاءِ الْأَبْنَاءِ الْأَجَانِبِ وهم
__________
(1) المسند 1/ 267، 268.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 33، باب 1.
(3) انظر تفسير الطبري 10/ 256.(6/336)
الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى بِرَدِّ نِسَبِهِمْ إِلَى آبَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ هذا هو العدل والقسط والبر.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ عبد الله بن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ «1» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِهِ. وَقَدْ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَبْنَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَتْ سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما: يا رسول الله إنا كُنَّا نَدْعُو سَالِمًا ابْنًا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ مَا أَنْزَلَ، وَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَإِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَرَضِعَيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» «2» الْحَدِيثَ.
وَلِهَذَا لَمَّا نُسِخَ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زَوْجَةَ الدَّعِيِّ، وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال عز وجل لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: 37] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النِّسَاءِ: 23] احْتِرَازًا عَنْ زَوْجَةِ الدَّعِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصُّلْبِ، فَأَمَّا الِابْنُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا بقوله صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ «حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» «3» .
فَأَمَّا دَعْوَةُ الْغَيْرِ ابْنًا عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَالتَّحْبِيبِ، فَلَيْسَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يُلَطِّخُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ «أُبَيْنِيَّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تطلع الشمس» «4» قال أبو عبيدة وَغَيْرُهُ: أُبَيْنِيَّ تَصْغِيرُ بَنِيَّ وَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ.
وَقَوْلُهُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فِي شَأْنِ زَيْدِ بن حارثة رضي الله عنه، وقد قتل في يوم مؤتة سنة
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 33، باب 2، ومسلم في فضائل الصحابة حديث 62، والترمذي في تفسير سورة 33، باب 9.
(2) أخرجه مسلم في الرضاع حديث 26، 28، 30، وأبو داود في النكاح باب 9، والنسائي في النكاح باب 9، والنسائي في النكاح باب 53، وأحمد في المسند 6/ 174، 228، 249، 269.
(3) أخرجه البخاري في تفسير سورة 33، باب 9، ومسلم في الرضاع حديث 5.
(4) أخرجه أبو داود في المناسك باب 65، والنسائي في المناسك باب 222، وابن ماجة في المناسك باب 62، وأحمد في المسند 1/ 234، 343. [.....](6/337)
ثَمَانٍ، وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا بني» ورواه أبو داود والترمذي.
وقوله عز وجل فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أمر تَعَالَى بِرَدِّ أَنْسَابِ الْأَدْعِيَاءِ إِلَى آبَائِهِمْ إِنْ عرفوا، فإن لم يعرفوا فَهُمْ إِخْوَانُهُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيهِمْ، أَيْ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّسَبِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَرَجَ من مكة عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تُنَادِي، يَا عَمِّ يَا عَمِّ، فَأَخَذَهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك، فاحتملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فِي أَيِّهِمْ يَكْفُلُهَا، فَكُلٌّ أَدْلَى بِحُجَّةٍ، فَقَالَ علي رضي الله عنه: أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي: وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، يَعْنِي أَسْمَاءَ بنت عميس، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها وقال «الخالة بمنزلة الأم» «1» وقال لعلي رضي الله عنه «أنت مني وأنا منك» «2» . وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي» «3» . وقال لزيد رضي الله عنه «أنت أخونا ومولانا» ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِالْحَقِّ، وَأَرْضَى كُلًّا مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ. وَقَالَ لزيد رضي الله عنه «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» «4» . كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فَأَنَا مِمَّنْ لَا يعرف أبوه فأنا مِنْ إِخْوَانِكُمْ فِي الدِّينِ، قَالَ أُبَيٌّ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ حِمَارًا لَانْتَمَى إِلَيْهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ كَفَرَ» «6» وَهَذَا تَشْدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ فِي التبري من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ.
ثم قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أَيْ إِذَا نَسَبْتُمْ بَعْضَهُمْ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فِي
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح باب 6، والمغازي باب 43، وأبو داود في الطلاق باب 35، والترمذي في البر باب 6.
(2) أخرجه البخاري في الصلح باب 6.
(3) أخرجه البخاري في الصلح باب 6، وفضائل أصحاب النبي باب 10، والترمذي في المناقب باب 29.
(4) أخرجه البخاري في الصلح باب 6.
(5) تفسير الطبري 10/ 257.
(6) أخرجه البخاري في المناقب باب 5.(6/338)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
الْحَقِيقَةِ خَطَأً بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، فَإِنَّ الله تعالى قَدْ وَضَعَ الْحَرَجَ فِي الْخَطَأِ وَرَفَعَ إِثْمَهُ، كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى آمِرًا عِبَادَهُ أَنْ يَقُولُوا رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَةِ: 286] وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ فَعَلْتُ» «1» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أجر» «2» . وفي حديث آخر «إن الله تبارك وتعالى رَفَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ. وَالنِّسْيَانَ وَمَا يُكْرَهُونَ عليه» «3» وقال تبارك وتعالى هَاهُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الباطل، كما قال عز وجل لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ الآية. وفي الحديث المتقدم «ليس من رجل ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كفر» . وفي القرآن المنسوخ: فإنه كفر بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنَّا نَقْرَأُ وَلَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فإنما أنا عبد الله، فَقُولُوا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَرٌ «كَمَا أَطَرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» وَرَوَاهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «ثَلَاثٌ فِي النَّاسِ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم» «5» .
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
قد علم الله تعالى شفقة رسوله عَلَى أُمَّتِهِ وَنُصْحَهُ لَهُمْ، فَجَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مُقَدَّمًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النِّسَاءِ:
65] وَفِي الصَّحِيحِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 199، 200.
(2) أخرجه البخاري في الاعتصام باب 20.
(3) أخرجه ابن ماجة في الطلاق باب 16.
(4) المسند 1/ 47.
(5) أخرجه مسلم في الجنائز حديث 29، وأحمد في المسند 5/ 342، 343، 344.(6/339)
وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» «1» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم «لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبُّ إِلَيْكَ من نفسك» فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الْآنَ يَا عُمَرُ» «2» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وقال البخاري «3» عند هذه الآية الكريمة: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدنيا والآخرة، اقرءوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كانوا، وإن تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ» تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَابْنُ جَرِيرٍ «4» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ فليح به مثله، ورواه أَحْمَدُ «5» مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ في قوله النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَنْ أَبِي سلمة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دِينًا فَإِلَيَّ، ومن ترك مالا فهو لورثته» «6» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ به نحوه.
وقال تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام وَالْإِعْظَامِ، وَلَكِنْ لَا تَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ وَلَا يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَمَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَنَاتِهُنَّ أَخَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا هو منصوص الشافعي رضي الله عنه فِي الْمُخْتَصَرِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعِبَارَةِ لَا إِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَهَلْ يُقَالُ لِمُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ خال المؤمنين؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم، ونص الشافعي رضي الله عنه عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ ذَلِكَ، وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ أمهات المؤمنين فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغييبا؟ وفيه قَوْلَانِ، صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُقَالُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه.
وقد روي عن أبي كعب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرءا
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 8، ومسلم في الإيمان حديث 69، 70.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان باب 8.
(3) كتاب الاستقراض وأداء الديون باب 11، وتفسير سورة 33، في الترجمة، باب 1. [.....]
(4) تفسير الطبري 10/ 258.
(5) المسند 3/ 296.
(6) أخرجه أبو داود في البيوع باب 9، والفرائض باب 8، وأحمد في المسند 2/ 318، 335، 464.(6/340)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ مُعَاوِيَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ في مذهب الشافعي رضي الله عنه، حَكَّاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَأْنَسُوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رواه أبو داود رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ» . وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَيَنْهَى عَنِ الرَّوَثِ وَالرِّمَّةِ «1» . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عِجْلَانَ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أنه لا يقال ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.
وقوله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أَيِ الْقُرَابَاتُ أَوْلَى بِالتَّوَارُثِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ قِرَابَاتِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ سعيد بن جبير وغيره مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدِيثًا عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُصْعَبِيُّ مِنْ سَاكِنِي بَغْدَادَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه قَالَ:
أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِينَا خَاصَّةً معشر قريش والأنصار وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّا مَعْشَرَ قريش لما قَدِمْنَا وَلَا أَمْوَالَ لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَارَ نِعْمَ الإخوان فواخيناهم ووارثناهم، فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد، وآخى عمر رضي الله عنه فلانا، وآخى عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ بن سَعْدٍ الزُّرَقِيِّ، وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ غَيْرَهُ، قَالَ الزبير رضي الله عنه: وَوَاخَيْتُ أَنَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَجِئْتُهُ فَابْتَعَلْتُهُ، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى، والله يَا بُنَيَّ لَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ عَنِ الدُّنْيَا ما ورثه غيري حتى أنزل الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارَ خَاصَّةً، فرجعنا إلى مواريثنا.
وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أَيْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَبَقِيَ النَّصْرُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْإِحْسَانُ والوصية. وقوله تعالى: كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أَيْ هَذَا الْحُكْمُ، وَهُوَ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ مُقَدَّرٌ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، قاله مجاهد وغير واحد، وإن كان تعالى قَدْ شَرَعَ خِلَافَهُ فِي وَقْتٍ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ إِلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطهارة باب 41، والنسائي في الطهارة باب 35، وابن ماجة في الطهارة باب 16، والدارمي في الطهارة باب 14، وأحمد في المسند 2/ 247، 250.(6/341)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
يقول الله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ وَبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فِي إقامة دين الله تعالى، وَإِبْلَاغِ رِسَالَتِهِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 81] فَهَذَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أُخِذَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِرْسَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ هَذَا، وَنَصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِهِمْ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الشُّورَى: 13] فَذَكَرَ الطَّرَفَيْنِ، وَالْوَسَطَ الْفَاتِحَ، وَالْخَاتَمَ، وَمِنْ بينهما على التَّرْتِيبِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الميثاق بها، كما قال تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَبَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَاتَمِ لِشَرَفِهِ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ، ثُمَّ رَتَّبَهُمْ بِحَسَبِ وَجُودِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ وآخرهم في البعث فبدأ بِي قَبْلَهُمْ» سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَشْبَهُ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ قتادة موقوفا: والله علم.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، حدثنا عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خِيَارُ وَلَدِ آدَمَ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليهم أجمعين، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
مَوْقُوفٌ وَحَمْزَةُ فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ المراد بهذا الميثاق الذي أحذ مِنْهُمْ حِينَ أُخْرِجُوا فِي صُورَةِ الذَّرِّ مِنْ صلب آدم عليه الصلاة والسلام، كَمَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمَ، فَنَظَرَ إليهم يعني ذريته، وأن فهيم الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ، وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ من الرسالة والنبوة، وهو الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الميثاق الغليظ العهد.(6/342)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
وقوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ عن الرسل.
وقوله تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ أَيْ مِنْ أُمَمِهِمْ عَذاباً أَلِيماً أَيْ مُوجِعًا فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وَنَصَحُوا الْأُمَمَ وَأَفْصَحُوا لَهُمْ عن الحق الْجَلِيِّ الَّذِي لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا شَكَّ وَلَا امْتِرَاءَ، وَإِنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْمُعَانِدِينَ وَالْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ، فَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ الْحَقُّ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ فَهُوَ عَلَى الضلال.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 10]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَرْفِهِ أَعْدَاءَهُمْ وَهَزْمِهِ إِيَّاهُمْ عَامَ تَأَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَتَحَزَّبُوا، وَذَلِكَ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عقبة وغيره: كان فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِ الْأَحْزَابِ أن نفرا من أشراف يهود بن النَّضِيرِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ، مِنْهُمْ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، خَرَجُوا إِلَى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمُ النَّصْرَ وَالْإِعَانَةَ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُمْ أَيْضًا.
وَخَرَجَتْ قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدها أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلَى غَطَفَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِمْ، أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ وَاجْتَهَدُوا، وَنَقَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ وَحَفَرَ، وَكَانَ فِي حَفْرِهِ ذَلِكَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ وَدَلَائِلُ وَاضِحَاتٌ. وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَنَزَلُوا شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ قَرِيبًا من أحد، ونزلت طائفة منهم أَعَالِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ سبعمائة، فأسندوا ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْعٍ وَوُجُوهَهُمْ إِلَى نَحْوِ الْعَدُوِّ، وَالْخَنْدَقُ حَفِيرٌ لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ يحجب الخيالة والرجال أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي آطَامِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَهُمْ حِصْنٌ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِمَّةٌ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ.
فَذَهَبَ إليهم حيي بن أخطب النضري، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ومالؤوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَظُمَ الْخَطْبُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ وَضَاقَ الْحَالُ، كما قال الله تبارك وتعالى:
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الْأَحْزَابِ: 11] وَمَكَثُوا مُحَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(6/343)
وَأَصْحَابِهِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ وَكَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، رَكِبَ وَمَعَهُ فَوَارِسُ، فَاقْتَحَمُوا الْخَنْدَقَ وَخَلَصُوا إِلَى نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خيل المسلمين إليه، فيقال إنه لم يبرز أحد فأمر عليا رضي الله عنه فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَتَجَاوَلَا سَاعَةً ثُمَّ قَتَلَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه، فكان علامة النَّصْرِ.
ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْأَحْزَابِ رِيحًا شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ قَوِيَّةً حَتَّى لَمْ يبق لَهُمْ خَيْمَةٌ وَلَا شَيْءٌ، وَلَا تُوقَدُ لَهُمْ نَارٌ وَلَا يَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، حَتَّى ارْتَحَلُوا خائبين خاسرين، كما قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ الصَّبَا، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» «1» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَتِ الْجُنُوبُ لِلشَّمَالِ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ: انْطَلِقِي نَنْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتِ الشَّمَالُ: إِنَّ الْحُرَّةَ لَا تَسْرِي بِاللَّيْلِ، قَالَ: فَكَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الصَّبَا.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» أَيْضًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: أرسلني خالي عثمان بن مظعون رضي الله عنه لَيْلَةَ الْخَنْدَقِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَرِيحٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: ائْتِنَا بِطَعَامٍ وَلِحَافٍ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لِي وَقَالَ «مَنْ أَتَيْتَ مِنْ أَصْحَابِي فَمُرْهُمْ يَرْجِعُوا» قَالَ: فَذَهَبْتُ وَالرِّيحُ تُسْفِي كُلَّ شَيْءٍ، فَجَعَلْتُ لَا أَلْقَى أَحَدًا إِلَّا أَمَرْتُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فما يلوي أحد منهم عنق، قَالَ: وَكَانَ مَعِي تُرْسٌ لِي، فَكَانَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُهُ عَلَيَّ، وَكَانَ فِيهِ حَدِيدٌ، قَالَ:
فَضَرَبَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى وَقَعَ بَعْضُ ذَلِكَ الْحَدِيدِ عَلَى كفي فأبعدها إلى الأرض.
وقوله وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الْمَلَائِكَةُ زَلْزَلَتْهُمْ وَأَلْقَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ، فَكَانَ رَئِيسُ كُلِّ قَبِيلَةٍ يَقُولُ: يَا بَنِي فُلَانٍ إِلَيَّ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ: النَّجَاءَ، النَّجَاءَ لما ألقى الله عز وجل فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بن كعب
__________
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء باب 26، والمغازي باب 29، وبدء الخلق باب 5، والأنبياء باب 1، ومسلم في الاستسقاء حديث 17، وأحمد في المسند 1/ 223، 228، 324، 341، 355، 373.
(2) تفسير الطبري 10/ 263.
(3) تفسير الطبري 10/ 263.(6/344)
الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نُجْهَدُ، قَالَ الْفَتَى: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَلَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا.
قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ «مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ؟ - يشترط له النبي صلى الله عليه وسلم أن يَرْجِعُ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» قَالَ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ «1» . ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ مِثْلَهُ، فَمَا قَامَ مِنَّا رَجُلٌ.
ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ «مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ؟ - يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجْعَةَ- أَسْأَلُ الله تعالى أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» فَمَا قَامَ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فقال صلى الله عليه وسلم «يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا» .
قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لا تقر لهم قرارا وَلَا نَارًا وَلَا بِنَاءً، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فقال يا معشر قريش، لينظر كل امرئ من جليسه، قال حذيفة رضي الله عنه: فأخذت بيد الرجل إلى جنبي فقلت: من أنت؟ فقال:
أن فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا من هذه الريح ما تَرَوْنَ، وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ، ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ بِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلَا عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة رضي الله عنه: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، وَإِنِّي لَفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ «2» .
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ «3» فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ الله عنه فقال له رجال: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قاتلت معه وأبليت،
__________
(1) هويا من الليل: أي جزءا من الليل.
(2) انظر الأثر في سيرة ابن هشام 2/ 231، 232، وأخرجه أحمد في المسند 5/ 392، 393.
(3) كتاب الجهاد حديث 99.(6/345)
فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقُرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ ثُمَّ الثَّالِثَةُ مِثْلُهُ، ثم قال صلى الله عليه وسلم «يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَأْتِنَا بِخَبَرٍ مِنَ الْقَوْمِ» فلم أحد بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ فَقَالَ: «ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ» قَالَ: فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهِ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، قَالَ:
فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ فَرَغْتُ وَقَرَرْتُ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلٍ عَبَاءَةً كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أَصْبَحَتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُمْ يَا نَوْمَانُ» .
وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قال: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَشْكُو إِلَى اللَّهِ صُحْبَتَكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّكُمْ أَدْرَكْتُمُوهُ وَلَمْ نُدْرِكْهُ، ورأيتموه ولم نره، فقال حذيفة رضي الله عنه: وَنَحْنُ نَشْكُو إِلَى اللَّهِ إِيمَانَكُمْ بِهِ وَلَمْ تَرَوْهُ، وَاللَّهِ لَا تَدْرِي يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَدْرَكْتَهُ كَيْفَ كُنْتَ تَكُونُ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْخَنْدَقِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مَطِيرَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا. وَرَوَى بِلَالُ بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نَحْوَ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ ذَكَرَ حذيفة رضي الله عنه مَشَاهِدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال جلساؤه: أما والله لو شاهدنا ذلك كنا فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَا تَمَنَّوْا ذَلِكَ، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودا، وَأَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وقريظة لليهود أَسْفَلَ مِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِينَا، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ وَهِيَ ظُلْمَةٌ مَا يَرَى أَحَدُنَا إِصْبَعَهُ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ، فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، وَيَأْذَنُ لَهُمْ فيتسللون، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله رَجُلًا رَجُلًا، حَتَّى أَتَى عَلَيَّ وَمَا عَلَيَّ جُنَّةٌ مِنَ الْعَدْوِ وَلَا مِنَ الْبَرْدِ إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتِي.
قَالَ: فَأَتَانِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ. قَالَ:
«حذيفة؟» فتقاصرت الأرض فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ أقوم، فَقُمْتُ فَقَالَ «إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ الناس فزعا وأشدهم قهرا. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فوقه ومن تحته» قال: فو الله ما خلق الله تعالى فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي، فَمَا أُجِدُ فِيهِ شَيْئًا، قَالَ: فلما وليت، قال صلى الله عليه وسلم «يَا حُذَيْفَةُ لَا تُحْدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حتى تأتني» قال:(6/346)
فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإذا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلَى النَّارِ وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ، وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ فَأَضَعُهُ فِي كَبِدِ قَوْسِي لِأَرْمِيَهُ بِهِ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني» .
قال: فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي إِلَى كِنَانَتِي، ثُمَّ إِنِّي شَجَّعْتُ نَفْسِي حَتَّى دَخَلْتُ الْعَسْكَرَ، فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ لَا مُقَامَ لَكُمْ. وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تُجَاوِزُ عَسْكَرَهُمْ شِبْرًا، فو الله إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ وَفَرَسَتْهُمُ، الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْتَصَفْتُ فِي الطريق أو نحوا من ذلك إذ أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُعْتَمِّينَ، فَقَالُوا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَاهُ الْقَوْمَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شملته يصلي، فو الله مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ رَاجَعَنِي الْقُرُّ، وَجَعَلْتُ أُقَرْقِفُ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَأَسْبَلَ عَلَيَّ شَمْلَتَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يرتحلون، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ في سننه منه: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر صلى، مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ بِهِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أَيِ الْأَحْزَابُ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أَنَّهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي شدة الخوف والفزع وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ظَنَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّائِرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ وَنَجَمَ النِّفَاقُ، حَتَّى قَالَ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ.
وَقَالَ الحسن في قوله عز وجل وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدا صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ يُسْتَأْصَلُونَ، وَأَيْقَنَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ سَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، (ح) وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ يَعْنِي ابْنُ عَبْدِ الله مولى عثمان رضي الله عنه، عَنْ رُتَيْجِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُ، فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا» قَالَ: فَضَرَبَ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ،(6/347)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
فَهَزَمَهُمْ بِالرِّيحِ وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «1» عَنْ أَبِي عامر العقدي.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 11 الى 13]
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
يقول الله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ حِينَ نَزَلَتِ الْأَحْزَابُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَحْصُورُونَ فِي غَايَةِ الْجُهْدِ وَالضِّيقِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، أَنَّهُمُ ابْتُلُوا وَاخْتُبِرُوا وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ النِّفَاقُ، وَتَكَلَّمَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً أَمَّا الْمُنَافِقُ فَنَجَمَ نِفَاقُهُ، وَالَّذِي فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ أَوْ حسيكة لضعف حَالُهُ فَتَنَفَّسَ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ فِي نَفْسِهِ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ وَشِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ، وَقَوْمٌ آخَرُونَ قَالُوا كَمَا قال الله تعالى:
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ يَعْنِي الْمَدِينَةَ. كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ «أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أَرْضٌ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، فَذَهَبَ وَهْلِي أَنَّهَا هَجَرُ فَإِذَا هِيَ يَثْرِبُ» «2» وَفِي لَفْظٍ: الْمَدِينَةُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى، إنما هي طابة هي طابة» تفرد الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ويقال كَانَ أَصْلُ تَسْمِيَتِهَا يَثْرِبَ بِرَجُلٍ نَزَلَهَا مِنَ العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلاييل بْنِ عَوْصِ بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوِذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ أَحَدَ عَشَرَ اسْمًا: الْمَدِينَةُ وطابة وطيبة والمسكينة وَالْجَابِرَةُ وَالْمُحِبَّةُ وَالْمَحْبُوبَةُ وَالْقَاصِمَةُ وَالْمَجْبُورَةُ وَالْعَذْرَاءُ وَالْمَرْحُومَةُ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي التوراة يقول الله تعالى لِلْمَدِينَةِ: يَا طِيبَةُ وَيَا طَابَةُ وَيَا مِسْكِينَةُ لَا تَقْلِي الْكُنُوزَ أَرْفَعُ أَحَاجِرَكِ عَلَى أَحَاجِرِ الْقُرَى.
وَقَوْلُهُ لَا مُقامَ لَكُمْ أَيْ هَاهُنَا يَعْنُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْمُرَابِطَةِ فَارْجِعُوا أَيْ إِلَى بُيُوتِكُمْ وَمَنَازِلِكُمْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ قَالُوا: بُيُوتُنَا نَخَافُ عَلَيْهَا السراق، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أن القائل
__________
(1) المسند 3/ 3.
(2) أخرجه البخاري في المناقب باب 25، ومناقب الأنصار باب 45، والتعبير باب 39، ومسلم في الرؤيا حديث 20، وابن ماجة في الرؤيا باب 10.
(3) المسند 4/ 285.(6/348)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
لِذَلِكَ هُوَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، يَعْنِي اعْتَذَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِأَنَّهَا عَوْرَةٌ أَيْ ليس دونها ما يحجبها من الْعَدُوِّ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أَيْ لَيْسَتْ كَمَا يَزْعُمُونَ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أَيْ هَرَبًا من الزحف.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 14 الى 17]
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ وَقُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِهَا، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْكَفْرِ لَكَفَرُوا سَرِيعًا، وَهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا يَسْتَمْسِكُونَ بِهِ مَعَ أَدْنَى خَوْفٍ وَفَزَعٍ، هَكَذَا فَسَّرَهَا قَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ «1» ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ فِي غَايَةِ الذَّمِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانُوا عَاهَدُوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفرون من الزحف.
وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أَيْ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ ذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ آجَالَهُمْ وَلَا يُطَوِّلُ أَعْمَارَهُمْ بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال تعالى: وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ بَعْدَ هَرَبِكُمْ وَفِرَارِكُمْ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى [النساء: 77] ثم قال تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أَيْ يَمْنَعُكُمْ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أَيْ لَيْسَ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُجِيرٌ ولا مغيث.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُعَوِّقِينَ لِغَيْرِهِمْ عَنْ شُهُودِ الْحَرْبِ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ أَيْ أَصْحَابِهِمْ وعشرائهم وخلطائهم هَلُمَّ إِلَيْنا إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أَيْ بُخَلَاءُ بِالْمَوَدَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي في الغنائم،
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 270. [.....](6/349)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أَيْ مِنْ شَدَّةِ خَوْفِهِ وَجَزَعِهِ، وَهَكَذَا خَوْفُ هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ مِنَ الْقِتَالِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ تَكَلَّمُوا كَلَامًا بَلِيغًا فَصِيحًا عَالِيًا، وَادَّعُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةَ فِي الشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذلك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما سَلَقُوكُمْ أَيِ اسْتَقْبَلُوكُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ وَأَسْوَأُهُ مُقَاسِمَةً: أَعْطُونَا أَعْطُونَا قَدْ شَهِدْنَا مَعَكُمْ، وَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجَبْنُ قَوْمٍ وَأَخْذُلُهُ لِلْحَقِّ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ قَدْ جَمَعُوا الْجُبْنَ وَالْكَذِبَ وَقِلَّةَ الْخَيْرِ، فَهُمْ كَمَا قال في أمثالهم الشاعر [الطويل] :
أَفِي السِّلْمِ أَعْيَارًا جَفَاءً وَغِلْظَةً ... وَفِي الْحَرْبِ أَمْثَالَ النِّسَاءِ الْعَوَارِكِ «1»
أَيْ فِي حَالِ الْمُسَالِمَةِ كأنهم الحمر، وَالْأَعْيَارُ جَمْعُ عِيرٍ وَهُوَ الْحِمَارُ، وَفِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ النِّسَاءُ الْحُيَّضُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا عِنْدَهُ.
[سورة الأحزاب (33) : آية 20]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ في الجبن والخور والخوف يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا بَلْ هُمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَإِنَّ لَهُمْ عَوْدَةً إِلَيْهِمْ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أَيْ وَيَوَدُّونَ إِذَا جَاءَتِ الْأَحْزَابُ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ حَاضِرِينَ مَعَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ، بَلْ فِي الْبَادِيَةِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَخْبَارِكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ مَعَ عَدُوِّكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أَيْ وَلَوْ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَمَا قَاتَلُوا مَعَكُمْ إِلَّا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم، والله سبحانه وتعالى العالم بهم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 22]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَلِهَذَا أُمِرَ تبارك وتعالى النَّاسُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي صَبْرِهِ وَمُصَابَرَتِهِ وَمُرَابَطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَانْتِظَارِهِ الْفَرَجَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،
__________
(1) البيت لهند بنت عتبة في خزانة الأدب 3/ 263، والمقاصد النحوية 3/ 142، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 382، والكتاب 1/ 344، ولسان العرب (عور) ، (عير) ، (عرك) ، والمقتضب 3/ 265، والمقرب 1/ 258، وتاج العروس (عرك) ، ويروى «أشباه النساء» بدل «أمثال النساء» .(6/350)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِلَّذِينِ تَقَلَّقُوا وَتَضْجَّرُوا وَتَزَلْزَلُوا وَاضْطَرَبُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أَيْ هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ حَاصِلَةً لَهُمْ في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «1» [الْبَقَرَةِ: 214] أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يعقبه النصر القريب، ولهذا قال تعالى: وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وقوله تعالى: وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، كما قال جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ومعنى قوله جلت عظمته وَما زادَهُمْ أَيْ ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ إِلَّا إِيماناً بِاللَّهِ وَتَسْلِيماً أَيِ انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 24]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)
لَمَّا ذكر عز وجل عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانُوا عَاهِدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ، وَصَفَ المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْلَهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَهْدَهُ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَ اللَّهِ وَلَا نَقَضُوهُ وَلَا بَدَّلُوهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قال: لما نسخنا المصحف فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا لم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ تفرد بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ «3» فِي مسنده والترمذي «4» والنسائي في التفسير من سننهما من حديث الزهري به. وقال
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 278.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 33، باب 3.
(3) المسند 5/ 188، 189.
(4) كتاب التفسير، تفسير سورة 33، باب 2.(6/351)
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنَسِ بْنِ النضر رضي الله عنه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ الآية، انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ مِنْ طُرُقٍ آخَرُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ:
قَالَ أَنَسٌ: عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عَنْهُ، لَئِنْ أراني الله تعالى مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرين الله عز وجل مَا أَصْنَعُ. قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَاسْتَقْبَلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو أين واها لريح الجنة إني أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه، قال:
فوجد في جسده بضع وثمانين بين ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ ابْنَةُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، قال: فنزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أنها نزلت فيه، وفي أصحابه رضي الله عنهم «3» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَابْنُ جَرِيرٍ «4» مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عن أنس رضي الله عنه بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إن عمه يعني أنس بن النضر رضي الله عنه، غاب عن قتال بدر، قال: غُيِّبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أشهدني قتالا للمشركين ليرين الله تعالى مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ- يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مما جاء به هَؤُلَاءِ- يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ بن معاذ رضي الله عنه دُونَ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَنَا مَعَكَ. قَالَ سَعْدٌ رضي الله عنه: فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فلما قتل قَالَ: فَوُجِدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ ضَرْبَةَ سَيْفٍ وَطَعْنَةَ رُمْحٍ وَرَمْيَةَ سَهْمٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ نَزَلَتْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وأخرجه الترمذي «5»
__________
(1) كتاب التفسير تفسير سورة 33، باب 3.
(2) المسند 4/ 193.
(3) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 148، والترمذي في تفسير سورة 33، باب 3.
(4) تفسير الطبري 10/ 280.
(5) كتاب التفسير، تفسير سورة 33، باب 3.(6/352)
فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيِّ فِيهِ أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «1» فِي الْمَغَازِي عَنْ حَسَّانَ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عن مصرف عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال: لما أن رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحد صعد المنبر، فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَعَزَّى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَابَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالذُّخْرِ، ثُمَّ قرأ هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ الآية كلها، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقْبَلْتُ وَعَلَيَّ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ حَضْرَمِيَّانِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا السَّائِلُ: هَذَا مِنْهُمْ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّلْحِيِّ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَنَاقِبِ أَيْضًا، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُوسَى وَعِيسَى ابْنِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِمَا رضي الله عنه به.
وقال: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ- يَعْنِي الْعَقَدِيَّ- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ- يَعْنِي ابْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ- عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجْتُ دَعَانِي فَقَالَ: أَلَا أَضَعْ عِنْدَكَ يَا ابْنَ أَخِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَشْهَدُ لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» .
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ الطَّلْحِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى:
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يعني عهده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال يوما فيه القتال فيصدق في اللقاء.
وَقَالَ الْحَسَنُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يَعْنِي مَوْتَهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ تَبْدِيلًا، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وقال بعضهم، نحبه نذره.
وقوله تعالى: وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَهُمْ وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا
__________
(1) كتاب المغازي باب 17.
(2) تفسير الطبري 10/ 280.
(3) تفسير الطبري 10/ 281.
(4) تفسير الطبري 10/ 281. [.....](6/353)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
على ما عاهدوا عَلَيْهِ وَمَا نَقَضُوهُ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ... وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ. وقوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَيْ إِنَّمَا يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالزِّلْزَالِ لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَظْهَرُ أَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، وَأَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ حَتَّى يعملوا بما يعلمه منهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 31] فَهَذَا عِلْمٌ بِالشَّيْءِ بَعْدَ كَوْنِهِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ السَّابِقُ حَاصِلًا بِهِ قَبْلَ وجوده، وكذا قال الله تَعَالَى:
مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179] ولهذا قال تعالى هَاهُنَا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَقِيَامِهِمْ بِهِ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَيْهِ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَهُمُ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِ اللَّهِ الْمُخَالِفُونَ لِأَوَامِرِهِ فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ عِقَابَهُ، وَعَذَابَهُ، وَلَكِنْ هُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ فِي الدُّنْيَا إِنْ شَاءَ اسْتَمَرَّ بِهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا حَتَّى يلقوه فَيُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى النِّزُوعِ عَنِ النِّفَاقِ إِلَى الْإِيمَانِ والعمل الصَّالِحِ بَعْدَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَمَّا كَانَتْ رَحْمَتُهُ ورأفته تبارك وتعالى بخلقه فهي الْغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
[سورة الأحزاب (33) : آية 25]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَحْزَابِ لَمَّا أَجْلَاهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رَسُولَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لَكَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ عَلَيْهِمْ أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، ولكن قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ:
33] فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ هَوَاءً فَرَّقَ شَمْلَهُمْ كَمَا كَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْهَوَى، وَهُمْ أَخْلَاطٌ من قبائل مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى أَحْزَابٍ وَآرَاءٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمُ الْهَوَاءَ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَرَدَّهُمْ خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم، ولم يَنَالُوا خَيْرًا لَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الظَّفَرِ وَالْمَغْنَمِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ الْآثَامِ فِي مُبَارَزَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم بِالْعَدَاوَةِ وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ وَاسْتِئْصَالِ جَيْشِهِ، وَمَنْ هَمَّ بِشَيْءٍ وَصَدَقَ هَمُّهُ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كفاعله.
وقوله تبارك وتعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أَيْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى مُنَازَلَتِهِمْ وَمُبَارَزَتِهِمْ حَتَّى يُجْلُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ، بَلْ كَفَى اللَّهُ وَحْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جنده، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ» «1» أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هريرة رضي الله عنه. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على
__________
(1) أخرجه البخاري في العمرة باب 12، والدعوات باب 52، ومسلم في الحج حديث 428.(6/354)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
الْأَحْزَابِ فَقَالَ «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» «1» .
وَفِي قَوْلِهِ عز وجل وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ إِشَارَةٌ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَهَكَذَا وَقَعَ بَعْدَهَا لَمْ يَغُزْهُمُ الْمُشْرِكُونَ بَلْ غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِهِمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، لَمَّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنِ الْخَنْدَقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغْنَا «لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ» فلم تغز قريش بعد ذلك، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ يَغْزُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ تعالى مَكَّةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قال: سمعت سليمان بن صرد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم الأحزاب «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «3» فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً أَيْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ رَدَّهُمْ خَائِبِينَ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَصَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ رَسُولَهُ وعبده، فله الحمد والمنة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا قَدِمَتْ جُنُودُ الْأَحْزَابِ وَنَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةَ، نَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَهْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسِفَارَةِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ النَّضْرِيِّ لَعَنَهُ اللَّهُ، دَخَلَ حِصْنَهُمْ وَلَمْ يَزَلْ بِسَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ حَتَّى نَقَضَ الْعَهْدَ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: وَيْحَكَ قَدْ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ، أَتَيْتُكَ بِقُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلون مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: بَلْ وَاللَّهِ أَتَيْتَنِي بِذُلِّ الدَّهْرِ، وَيْحَكَ يَا حَيِّيُّ إِنَّكَ مشؤوم، فَدَعْنَا مِنْكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى أَجَابَهُ، وَاشْتَرَطَ لَهُ حُيَيُّ إِنْ ذَهَبَ الْأَحْزَابُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي الْحِصْنِ، فَيَكُونُ لَهُ أُسْوَتُهُمْ، فَلَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاءَهُ وَشَقَّ عليه وعلى المسلمين جدا.
فلما أيده الله تعالى ونصره وَكَبَتَ الْأَعْدَاءَ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ بِأَخْسَرِ صَفْقَةٍ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَوَضَعَ النَّاسُ السِّلَاحَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 98، 112، والمغازي باب 29، ومسلم في الجهاد حديث 20.
(2) المسند 4/ 262.
(3) كتاب المغازي باب 29.(6/355)
مِنْ وَعْثَاءِ تِلْكَ الْمُرَابَطَةِ فِي بَيْتِ أُمِّ سلمة رضي الله عنها، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم «نَعَمْ» قَالَ لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا، وَهَذَا الْآنَ رُجُوعِي مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ.
ثُمَّ قال: إن الله تبارك وتعالى يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْهَضَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ لَهُ: عَذِيرَكَ مِنْ مُقَاتِلٍ أَوَضَعْتُمُ السِّلَاحَ؟ قَالَ «نَعَمْ» قَالَ لَكِنَّا لَمْ نَضَعْ أسلحتنا بعد انهض إلى هؤلاء، قال صلى الله عليه وسلم «أين؟» قال: بني قريظة، فإن الله تعالى أَمَرَنِي أَنْ أُزَلْزِلَ عَلَيْهِمْ، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وقال صلى الله عليه وسلم «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَسَارَ النَّاسُ فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى بَعْضُهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَقَالُوا: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ألا تعجيل المسير.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّيهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَبِعَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ نَازَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا طَالَ عليه الْحَالُ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سيد الأوس رضي الله عنه، لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فِي مَوَالِيهِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، حِينَ اسْتَطْلَقَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ سَعْدًا سَيَفْعَلُ فِيهِمْ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أُبَيٍّ فِي أُولَئِكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ فِي أَكْحَلِهِ أَيَّامَ الْخَنْدَقِ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْحَلِهِ وَأَنْزَلَهُ فِي قبة المسجد ليعوده من قريب.
وقال سعد رضي الله عنه فِيمَا دَعَا بِهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فاستجاب الله تعالى دُعَاءَهُ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِمْ أَنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ طَلَبًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَقْبَلَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّئُوا لَهُ عَلَيْهِ، جَعَلَ الْأَوْسُ يَلُوذُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: يَا سَعْدُ إِنَّهُمْ مَوَالِيكَ فَأَحْسِنْ فِيهِمْ، وَيُرَقِّقُونَهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَطِّفُونَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. فَعَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَبْقِيهِمْ.
فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْخَيْمَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلُوهُ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا لَهُ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنْ هَؤُلَاءِ- وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ- قَدْ نَزَلُوا عَلَى حكمك، فاحكم فيهم بما شئت» فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى الله عليه وسلم «نَعَمْ» . قَالَ وَعَلَى مَنْ فِي هَذِهِ الْخَيْمَةِ؟ قَالَ «نَعَمْ» . قَالَ وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلى الجانب الذي فيه رسول الله، وهو معرض(6/356)
بِوَجْهِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْلَالًا وَإِكْرَامًا وَإِعْظَامًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَعَمْ» . فَقَالَ رضي الله عنه: إِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتَلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذُرِّيَّتُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أَرْقِعَةٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ» ، ثُمَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَخَادِيدِ فَخُدَّتْ فِي الْأَرْضِ، وَجِيءَ بِهِمْ مُكْتَفِينَ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ وَكَانُوا مَا بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ إِلَى الثَّمَانِمِائَةِ، وَسَبَى مَنْ لَمْ يُنْبِتْ مِنْهُمْ مَعَ النِّسَاءِ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَرِّرٌ مُفَصَّلٌ بِأَدِلَّتِهِ وَأَحَادِيثِهِ وَبَسْطِهِ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ الَّذِي أفردناه موجزا وبسيطا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أَيْ عَاوَنُوا الْأَحْزَابَ وَسَاعَدُوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ قَدْ نَزَلَ آبَاؤُهُمُ الْحِجَازَ قَدِيمًا طَمَعًا فِي اتباع النبي الأمي الذين يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَةِ: 89] فَعَلَيْهِمْ لعنة الله.
وقوله تعالى: مِنْ صَياصِيهِمْ يَعْنِي حُصُونُهُمْ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف، ومنه سمي صَيَاصِي الْبَقَرِ، وَهِيَ قُرُونُهَا لِأَنَّهَا أَعْلَى شَيْءٍ فِيهَا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَهُوَ الْخَوْفُ، لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كمن لا يعلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتالهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلبت إليهم القتال، انْشَمَرَ الْمُشْرِكُونَ فَفَازُوا بِصَفْقَةِ الْمَغْبُونِ، فَكَمَا رَامُوا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستئصلوا، وَأُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ شَقَاوَةُ الْآخِرَةِ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فَالَّذِينَ قُتِلُوا هم المقاتلة والأسراء هم الأصاغر والنساء.
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَشَكُّوا فِيَّ، فَأَمَرَ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْظُرُوا هل أنبت بعد، فنظروني فَلَمْ يَجِدُونِي أَنْبُتُ، فَخَلَّى عَنِّي وَأَلْحَقَنِي بِالسَّبْيِ «2» ، وَكَذَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كُلُّهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ عطية بنحوه. وقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ أَيْ جَعَلَهَا لَكُمْ من قتلكم لهم وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قِيلَ: خَيْبَرُ، وَقِيلَ مَكَّةُ، رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَقِيلَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
__________
(1) المسند 5/ 311، 312.
(2) أخرجه أبو داود في الحدود باب 18، والترمذي في السير باب 29، وابن ماجة في الحدود باب 4، والدارمي في السير باب 26.(6/357)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بن وقاص قال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا النَّاسَ فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ وَرَائِي، فَإِذَا أَنَا بسعد بن معاذ رضي الله عنه، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَرَّ سَعْدٌ رضي الله عنه وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ أَطْرَافُهُ، فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ، قَالَتْ وكان سعد رضي الله عنه مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمْ، فَمَرَّ وَهُوَ يَرْتَجِزُ ويقول [رجز] :
لَبَّثْ قَلِيلًا يَشْهَدِ الْهَيْجَا حَمَلْ ... مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ «2»
قَالَتْ: فَقُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً، فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفهيم رَجُلٌ عَلَيْهِ تَسْبِغَةٌ لَهُ، تَعْنِي الْمِغْفَرَ، فَقَالَ عمر رضي الله عنه: مَا جَاءَ بِكِ؟
لَعَمْرِي وَاللَّهِ إِنَّكِ لِجَرِيئَةٌ، وَمَا يُؤَمِّنُكِ أَنْ يَكُونَ بَلَاءٌ أَوْ يَكُونَ تَحَوُّزٌ؟ قَالَتْ: فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ بِي سَاعَتَئِذٍ، فَدَخَلْتُ فِيهَا، فَرَفَعَ الرَّجُلُ التَّسْبِغَةَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ وَيْحَكَ إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ أَوِ الْفِرَارُ إِلَّا إلى الله تعالى؟
قالت: ورمى سعدا رضي الله عنه رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرَقَةِ بسهم له، وَقَالَ لَهُ:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرَقَةِ، فَأَصَابَ أكحله فقطعه، فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي من بني قُرَيْظَةَ، قَالَتْ: وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قالت:
فرقأ كلمه وبعث الله تعالى الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً، فَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ، وَلَحِقَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَمَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ، وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ أدم فضربت على سعد رضي الله عنه فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَنَقْعُ الْغُبَارِ، فَقَالَ: أَوَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ لَا وَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ السِّلَاحَ، اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ.
قَالَتْ: فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ، وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يخرجوا، فمر على بني تميم وهم جيران المسجد، فقال «من مَرَّ بِكُمْ؟» قَالُوا: مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، وكان دحية الكلبي يشبه لِحْيَتُهُ وَسِنُّهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا اشْتَدَّ حِصَارُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ، قِيلَ لَهُمْ انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَشَارُوا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ، قَالُوا نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بن معاذ
__________
(1) المسند 6/ 141، 142.
(2) الرجز لحمل بن سعدانة بن عليم العليمي في تاج العروس (حمل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حمل) .(6/358)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
رضي الله عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» فَنَزَلُوا، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه، فَأُتِيَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَحَفَّ بِهِ قَوْمُهُ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو حُلَفَاؤُكَ وَمُوَالِيكَ، وَأَهْلُ النكاية ومن قد علمت.
قالت: فلا يُرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُورِهِمُ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ فقال: قد آن لي أن لا أُبَالِيَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمَّا طَلَعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: سَيِّدُنَا اللَّهُ، قَالَ «أَنْزِلُوهُ» فَأَنْزَلُوهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «احْكُمْ فِيهِمْ» قال سعد رضي الله عنه: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبَيَ ذراريهم، وتقسم أموالهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ» ثم دعا سعد رضي الله عنه، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ عَلَى نَبِيِّكَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قال: فانفجر كلمه وكان قد برىء مِنْهُ إِلَّا مِثْلَ الْخُرْصِ، وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر وعمر رضي الله عنهما، قالت: فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لِأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بكر رضي الله عنه من بكاء عمر رضي الله عنه وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ قَالَ عَلْقَمَةُ: فَقُلْتُ أَيْ أُمَّهْ، فَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجِدَ فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم «1» ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَلَكِنَّهُ أَخْصَرُ مِنْهُ، وَفِيهِ دعا سعد رضي الله عنه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُخَيِّرَ نِسَاءَهُ بَيْنَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ فَيَذْهَبْنَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُنَّ عِنْدَهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَبَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى مَا عِنْدَهُ من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى فِي ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، فَاخْتَرْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَجَمَعَ الله تعالى لَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه، قالت: فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب 30، ومسلم في الجهاد حديث 65.(6/359)
أَبَوَيْكِ» وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ» إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ؟ وَكَذَا رَوَاهُ مُعَلَّقًا عَنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: قَالَتْ ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ، وقد حكى البخاري «1» أن معمرا اضطرب فيه، فَتَارَةً رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَتَارَةً رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قال: قالت عائشة رضي الله عنها: لَمَّا نَزَلَ الْخِيَارُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَ لَكِ أَمْرًا، فَلَا تَقْضِي فِيهِ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ فَرَدَّهُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: وما هو يا رسول الله؟ قالت فقرأ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ بَلْ نَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَتْ: فَفَرِحَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ بَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكِ أَمْرًا فَلَا تَفْتَاتِي فِيهِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَعْرِضِيهِ عَلَى أبويك: أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما» فقالت: يا رسول الله وما هو؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً قَالَتْ: فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا أُؤَامِرُ فِي ذَلِكَ أَبَوَيَّ أَبَا بَكْرٍ وَأُمَّ رومان رضي الله عنهما. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم استقرأ الحجر فقال: «إن عائشة رضي الله عنها قالت كذا وكذا» فقلن: ونحن نقول مثلما قالت عائشة رضي الله عنهن كلهن. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على نِسَائِهِ أُمِرَ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: «سَأَذْكُرُ لَكِ أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيرِي أباك» فقلت: وما هو يا رسول اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ» وَتَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَمَا الَّذِي تَقُولُ: لَا تَعْجَلِي حَتَّى تستشيري أباك؟ فإني أختار الله
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 33، باب 5.
(2) تفسير الطبري 10/ 290.
(3) تفسير الطبري 10/ 290.(6/360)
ورسوله. فسر صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَعَرَضَ عَلَى نِسَائِهِ فَتَتَابَعْنَ كُلُّهُنَّ، فَاخْتَرْنَ الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ الزهري، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ تعجلي حتى تستأمري أبويك» قالت، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بفراقه، قالت ثم قال: «إن الله تبارك وتعالى قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الْآيَتَيْنِ، قالت عائشة رضي الله عنها: فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كلهن، فقلن مَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ «1» ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها مِثْلَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَعُدَّهَا عَلَيْنَا شَيْئًا «3» ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يستأذن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ بِبَابِهِ جُلُوسٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَاسْتَأْذَنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أَذِنَ لِأَبِي بكر وعمر رضي الله عنهما، فَدَخْلَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وحوله نساؤه، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت، فقال عمر رضي الله عنه: لَأُكَلِّمَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ يضحك، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ ابْنَةَ زَيْدٍ- امْرَأَةَ عُمَرَ- سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ آنِفًا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ: «هُنَّ حَوْلِي يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ» فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عَائِشَةَ لِيَضْرِبَهَا، وَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى حَفْصَةَ كِلَاهُمَا يَقُولَانِ: تَسْأَلَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلن: والله لا نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هَذَا الْمَجْلِسِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، قَالَ: وَأَنْزَلَ الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فَقَالَ: «إِنِّي أَذْكُرُ لَكِ أَمْرًا مَا أُحِبُّ أَنْ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» قَالَتْ:
وَمَا هُوَ؟ قَالَ: فَتَلَا عَلَيْهَا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الْآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
أَفِيكَ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تَذْكُرَ لِامْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِكَ مَا اخْتَرْتُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّفًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا، لا تسألني
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم والغضب باب 25، ومسلم في الطلاق حديث 22.
(2) المسند 6/ 45. [.....]
(3) أخرجه البخاري في الطلاق باب 5، ومسلم في الطلاق حديث 26، 30.
(4) المسند 3/ 328.(6/361)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عَمَّا اخْتَرْتِ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا» «1» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ، فَرَوَاهُ هُوَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ الْمَكِّيِّ بِهِ.
وقال عبد الله ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْبَرِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ نِسَاءَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ الطَّلَاقَ «2» ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا نَحْوُ ذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ:
فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي أعطيكن حُقُوقَكُنَّ وَأُطْلِقْ سَرَاحَكُنَّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جواز تزوج غيره لهن لو طلقهن على قولين، أصحهما نَعَمْ لَوْ وَقَعَ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنَ السَّرَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ: خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وأم حبيب وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن، وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ بنت حيي النضيرية وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، رَضِيَ اللَّهُ عنهن وأرضاهن جميعا.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
يقول الله تَعَالَى وَاعِظًا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُنَّ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فناسب أَنْ يُخْبِرَهُنَّ بِحُكْمِهِنَّ وَتَخْصِيصِهِنَّ دُونَ سَائِرِ النِّسَاءِ بِأَنَّ مَنْ يَأْتِ مِنْهُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: وَهِيَ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَكَقَوْلِهِ عز وجل: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: 88] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزُّخْرُفِ:
81] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزُّمَرِ: 4] فَلَمَّا كَانَتْ مَحَلَّتُهُنَّ رَفِيعَةً نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ الذَّنْبَ لَوْ وَقَعَ مِنْهُنَّ مُغْلَّظًا صِيَانَةً لِجَنَابِهِنَّ وَحِجَابِهِنَّ الرفيع، ولهذا قال تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ قَالَ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي سهلا هينا، ثم ذكر عدله
__________
(1) أخرجه مسلم في الطلاق حديث 29، والنسائي في الطلاق باب 26.
(2) أخرجه أحمد في المسند 1/ 78.(6/362)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
وَفَضْلَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي وَيَسْتَجِبْ نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أَيْ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّهُنَّ فِي مَنَازِلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فَوْقَ مَنَازِلِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ إِلَى العرش.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 32 الى 34]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
هَذِهِ آدَابٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِسَاءُ الأمة تبع لهن في ذلك، فقال تعالى مُخَاطِبًا لِنِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهن إذا اتقين الله عز وجل كَمَا أَمَرَهُنَّ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِهُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا يَلْحَقُهُنَّ فِي الْفَضِيلَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، ثُمَّ قال تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ:
يَعْنِي بِذَلِكَ تَرْقِيقَ الْكَلَامِ إِذَا خَاطَبْنَ الرِّجَالَ، وَلِهَذَا قال تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَيْ دَغَلٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا مَعْرُوفًا فِي الْخَيْرِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْأَجَانِبَ بِكَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْخِيمٌ، أَيْ لَا تُخَاطِبِ الْمَرْأَةُ الْأَجَانِبَ كَمَا تُخَاطِبُ زوجها.
وقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي الزمن فَلَا تَخْرُجْنَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمِنِ الْحَوَائِجِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ بِشَرْطِهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ» «1» وَفِي رِوَايَةٍ «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» «2» .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْكَلْبِيُّ رَوْحُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ثِقَةٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُولِ الله فَقُلْنَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِالْفَضْلِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قعدت- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا، فَإِنَّهَا تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ إِلَّا رَوْحَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا محمد المثنى، حدثني عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، فَإِذَا
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 52، والدارمي في الصلاة باب 57، وأحمد في المسند 2/ 438، 475، 528، 5/ 192، 193، 6/ 70.
(2) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند 2/ 76، 77.(6/363)
خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بِرَوْحَةِ ربها وهي في قعر بيتها» رواه التِّرْمِذِيُّ «1» عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا» «2» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى يَقُولُ: إِذَا خَرَجْتُنَّ مِنْ بُيُوتِكُنَّ وَكَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةٌ وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَالتَّبَرُّجُ أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَلَا تَشُدُّهُ، فَيُوَارِي قَلَائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا، وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا، وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ، ثُمَّ عُمَّتْ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّبَرُّجِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي ابْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل حدثنا داود بن أَبِي الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قَالَ: كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَكَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنَّ بَطْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسْكُنُ السَّهْلَ وَالْآخِرُ يَسْكُنُ الْجَبَلَ، وَكَانَ رِجَالُ الْجَبَلِ صِبَاحًا، وَفِي النِّسَاءِ دَمَامَةٌ. وَكَانَ نِسَاءُ السَّهْلِ صِبَاحًا وَفِي الرِّجَالِ دمامة، وإن إبليس لعنه الله أَتَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السَّهْلِ فِي صُورَةِ غلام، فآجر نفسه منه فكان يخدمه، فاتخذ إبليس شيئا من مثل الذي يرمز فِيهِ الرِّعَاءُ، فَجَاءَ فِيهِ بِصَوْتٍ لَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ حَوْلَهُ فَانْتَابُوهُمْ يَسْمَعُونَ إِلَيْهِ، وَاتَّخِذُوا عِيدًا يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي السَّنَةِ، فَيَتَبَرَّجُ النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ، قَالَ وَيَتَزَيَّنُ الرِّجَالُ لَهُنَّ، وَإِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ هَجَمَ عَلَيْهِمْ فِي عِيدِهِمْ ذَلِكَ، فَرَأَى النِّسَاءَ وَصَبَاحَتِهِنَّ، فَأَتَى أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَتَحَوَّلُوا إِلَيْهِنَّ فَنَزَلُوا معهن، وظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله تَعَالَى:
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَهَاهُنَّ أَوَّلًا عَنِ الشَّرِّ ثُمَّ أَمَرَهُنَّ بِالْخَيْرِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَهَذَا مِنْ باب عطف العام على الخاص. وقوله تَعَالَى:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَهَذَا نَصٌّ فِي دُخُولِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ هَاهُنَا، لِأَنَّهُنَّ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَبَبُ النُّزُولِ دَاخِلٌ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا إِمَّا وَحْدَهُ عَلَى قَوْلٍ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عكرمة أنه كان ينادي في
__________
(1) كتاب الرضاع باب 18.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 53.
(3) تفسير الطبري 10/ 295.(6/364)
السُّوقِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ في شأن نساء النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ كُنَّ سَبَبَ النُّزُولِ دُونَ غَيْرِهِنَّ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُنَّ الْمُرَادُ فَقَطْ دُونَ غيرهن ففيه نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ:
[الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ] : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، أَخْبَرَنَا عَلَيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بباب فاطمة رضي الله عنها سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرَ يَقُولُ: «الصَّلَاةُ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «2» عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَفَّانَ بِهِ. وَقَالَ:
حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أبو نعيم، حدثنا يونس عن أَبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ قَالَ: رَابَطْتُ الْمَدِينَةَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ جَاءَ إِلَى بَابِ علي وفاطمة رضي الله عنهما، فَقَالَ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى هُوَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ كَذَّابٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى وَاثِلَةَ بْنِ الأسقع رضي الله عنه. وَعِنْدَهُ قَوْمٌ، فَذَكَرُوا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فشتموه، فشتمه معهم، فلما قاموا قال لي: شتمت هذا الرجل؟ قلت: قد شتموه فشتمته معه، ألا أخبركم بما رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه، فَقَالَتْ: تَوَجَّهَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ وحسن وحسين رضي الله عنهم، آخِذٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِهِ حَتَّى دَخَلَ فأدنى عليا وفاطمة رضي الله عنهما، وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا رضي الله عنهما كل واحد منها عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ لَفَّ عَلَيْهِمْ ثَوْبَهُ أَوْ قال كساءه، ثُمَّ تَلَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وقال: «اللهم هؤلاء
__________
(1) المسند 1/ 331.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 33، باب 7.
(3) تفسير الطبري 10/ 296، 297.
(4) المسند 4/ 107.(6/365)
أَهْلُ بَيْتِي، وَأَهْلُ بَيْتِي أَحَقُّ» .
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ بِسَنَدِهِ نَحْوَهُ، زَادَ في آخره قال واثلة رضي الله عنه: فَقُلْتُ وَأَنَا- يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليك- من أهلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «وأنت من أهلي» قال واثلة رضي الله عنه: وإنها مِنْ أَرْجَى مَا أَرْتَجِي، ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ وَاصِلٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ عن كلثوم المحاربي عن شداد بن أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ وَاثِلَةَ بن الأسقع رضي الله عنه، إذ ذكروا عليا رضي الله عنه فَشَتَمُوهُ، فَلَّمَا قَامُوا قَالَ: اجْلِسْ حَتَّى أُخْبِرُكَ عن هذا الَّذِي شَتَمُوهُ إِنِّي عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وحسن وحسين رضي الله عنهم، فَأَلْقَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كِسَاءً له ثم قال لهم: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وأنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «وأنت» قال: فو الله إنها لأوثق عمل عِنْدِي.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِهَا، فَأَتَتْهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه بها فقال صلى الله عليه وسلم لَهَا: «ادْعِي زَوْجَكِ وَابْنَيْكِ» قَالَتْ: فَجَاءَ عَلِيٌّ وحسن وحسين رضي الله عنهم، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَجَلَسُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تِلْكَ الْخَزِيرَةِ وهو على منامة له، وكان تحته صلى الله عليه وسلم كِسَاءٌ خَيْبَرِيٌّ، قَالَتْ: وَأَنَا فِي الْحُجْرَةِ أُصَلِّي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قالت رضي الله عنها: فأخذ صلى الله عليه وسلم فَضْلَ الْكِسَاءِ فَغَطَّاهُمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ فَأَلْوَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» قَالَتْ: فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي الْبَيْتَ، فَقُلْتُ: وأنا معكم يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
«إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ» فِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ وَهُوَ شَيْخُ عَطَاءٍ، وبقية رجاله ثقات.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا مصعب بن المقداد، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَرْبِيٍّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبُرْمَةٍ لَهَا قَدْ صَنَعَتْ فِيهَا عَصِيدَةً، تَحْمِلُهَا على طبق، فوضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال: «أين ابن عمك وابناك؟» فقالت رضي الله عنها في البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: «ادعيهم» فجاءت إلى علي رضي الله عنه فقالت: أجب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ وابناك، قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما رآهم مقبلين مد صلى الله عليه وسلم يَدَهُ إِلَى كِسَاءٍ كَانَ عَلَى الْمَنَامَةِ، فَمَدَّهُ
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 298. [.....]
(2) المسند 6/ 292.
(3) تفسير الطبري 10/ 297.(6/366)
وَبَسَطَهُ وَأَجْلَسَهُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ بِأَطْرَافِ الْكِسَاءِ الْأَرْبَعَةِ بِشَمَالِهِ، فَضَمَّهُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ اليمنى إلى ربه فَقَالَ «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» .
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرْنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عند أم سلمة رضي الله عنها فَقَالَتْ: فِي بَيْتِي نَزَلَتْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِي فَقَالَ: «لَا تأذني لأحد» فجاءت فاطمة رضي الله عنها، فِلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْجُبَهَا عَنْ أَبِيهَا، ثُمَّ جاء الحسن رضي الله عنه، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فِلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْجُبَهُ عن جده صلى الله عليه وسلم وأمه رضي الله عنها ثم جاء علي رضي الله عنه، فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْجُبَهُ، فَاجْتَمَعُوا فَجَلَّلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِسَاءٍ كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى الْبِسَاطِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رسول الله وأنا؟ قالت: فو الله ما أنعم، وقال: «إنك إلى خير» .
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي الْمُعَدِّلِ عن عطية الطفاوي عن أبيه قال: إن أم سلمة رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
في بيتي يوما إذ قالت الخادم: إن فاطمة وعليا رضي الله عنهما بالسدة، قَالَتْ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «قُومِي فَتَنَحِّي عَنْ أَهْلِ بَيْتِي» قَالَتْ: فَقُمْتُ فَتَنَحَّيْتُ فِي الْبَيْتِ قَرِيبًا، فَدَخَلَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، وَهُمَا صَبِيَّانِ صَغِيرَانِ، فَأَخَذَ الصَّبِيَّيْنِ فَوَضَعَهُمَا فِي حجره فقبلهما، واعتنق عليا رضي الله عنه بإحدى يديه، وفاطمة رضي الله عنها بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وَقَبَّلَ فَاطِمَةَ وَقَبَّلَ عَلِيًّا: وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمْ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ، وَقَالَ «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ لَا إِلَى النَّارِ أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي» قَالَتْ: فَقُلْتُ وأنا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وَأَنْتِ» .
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سعيد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إن هذه الآية نزلت في بيتي إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قَالَتْ: وَأَنَا جَالِسَةٌ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِسْتُ من أهل البيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: وَفِي الْبَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيَّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
[طَرِيقٌ أخرى] رواها ابْنُ جَرِيرٍ «4» أَيْضًا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنِ وكيع عن عبد الحميد بن بهرام
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 298.
(2) المسند 6/ 296.
(3) تفسير الطبري 10/ 297، 298.
(4) تفسير الطبري 10/ 297.(6/367)
عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنِي هَاشِمُ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ:
أَخْبَرَتْنِي أُمُّ سلمة رضي الله عنها قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ تَحْتَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ جَأَرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بيتي» قالت أم سلمة رضي الله عنها: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْخَلَنِي مَعَهُمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أنت من أهلي» .
[طريق أخرى] رواها ابْنُ جَرِيرٍ «2» أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها بنحو ذلك.
[حديث آخر] قال ابن جرير «3» : حدثنا وكيع قال: حدثنا محمد بن بشير عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ رضي الله عنه فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ ثُمَّ جَاءَ علي رضي الله عنه فأدخله معه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ بِهِ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْعَوَّامِ يَعْنِي ابْنَ حَوْشَبٍ رضي الله عنه عَنْ عَمٍّ لَهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ رضي الله عنها: تسألني عن رجل مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَتُهُ وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وحسينا رضي الله عنهم، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ ثَوْبًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» قَالَتْ: فدنوت منهم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «تَنَحِّي فَإِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَبَّانٍ الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا مِنْدَلٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خَمْسَةٍ: فِيَّ وَفِي عَلِيٍّ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وفاطمة
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 298.
(2) تفسير الطبري 10/ 298.
(3) تفسير الطبري 10/ 296.
(4) تفسير الطبري 10/ 296.(6/368)
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فُضَيْلَ بْنَ مَرْزُوقٍ رَوَاهُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كَمَا تَقَدَّمَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ عَطِيَّةَ عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفا، والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سعد رضي الله عنه قال: قال سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَخَذَ عَلِيًّا وَابْنَيْهِ وفاطمة رضي الله عنهم، فَأَدْخَلَهُمْ تَحْتَ ثَوْبِهِ ثُمَّ قَالَ: «رَبِّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وَأَهْلُ بَيْتِي» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] وَقَالَ مُسْلِمٌ «2» فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَشُجَاعُ بن مخلد، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَيَّانَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن حبان قَالَ:
انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ وَعُمَرُ بن مسلمة إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ، وَغَزَوْتَ مَعَهُ، وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ، لَقَدْ لَقِيَتْ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا. حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَقَدِمَ عَهْدِي، وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا، وَمَا لَا فَلَا تُكَلِّفُونِيهِ.
ثُمَّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يوشك أن يأتيني رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أولهما كتاب الله تعالى، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله عز وجل وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قَالَ: نَعَمْ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرقم رضي الله عنه، فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وفيه فقلت لَهُ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَرْجِعُ إِلَى أبيها، أَهْلُ بَيْتِهِ أَصْلُهُ وَعَصَبَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْأُولَى أَوْلَى وَالْأَخْذُ بِهَا أَحْرَى. وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ تَحْتَمِلُ أنه أراد
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 298.
(2) كتاب فضائل الصحابة حديث 36.(6/369)
تَفْسِيرَ الْأَهْلِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمْ آلُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ الْأَزْوَاجَ فَقَطْ، بَلْ هُمْ مَعَ آلِهِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَرْجَحُ جمعا بينهما وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَجَمْعًا أَيْضًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنْ صَحَّتْ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَسَانِيدِهَا نَظَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الَّذِي لا شك فِيهِ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلَاتٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ مَعَهُنَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَاذْكُرْنَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي خُصِصْتُنَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِكُنَّ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، وَعَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بنت الصديق رضي الله عنهما أَوْلَاهُنَّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَأَحْظَاهُنَّ بِهَذِهِ الْغَنِيمَةِ، وَأَخَصَّهُنَّ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْعَمِيمَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ فِي فِرَاشِ امْرَأَةٍ سِوَاهَا، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا سِوَاهَا، وَلَمْ يَنَمْ مَعَهَا رَجُلٌ فِي فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، فَنَاسَبَ أَنَّ تُخَصُّصَ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَأَنَّ تُفْرَدَ بهذه المرتبة العليا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ أَزْوَاجُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَرَابَتُهُ أَحَقُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الحديث «وأهل بيتي أحق» . وهذا ما يُشْبِهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» «1» فَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَاكَ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِتَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ علي رضي الله عنهما اسْتُخْلِفَ حِينَ قُتِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي إِذْ وَثَبَ عَلَيْهِ رجل فطعنه بخنجره، وَزَعَمَ حُصَيْنٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الَّذِي طَعَنَهُ رجل من بني أسد، وحسن رضي الله عنه سَاجِدٌ. قَالَ: فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الطَّعْنَةَ وَقَعَتْ فِي وَرِكِهِ، فَمَرِضَ مِنْهَا أَشْهُرًا ثُمَّ بَرِأَ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ اتَّقُوا اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّا أُمَرَاؤُكُمْ وَضِيفَانُكُمْ، وَنَحْنُ أَهْلُ البيت الذي قال الله تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قَالَ فَمَا زَالَ يقولها حتى ما بقي أحد في الْمَسْجِدِ إِلَّا وَهُوَ يَحِنُّ بُكَاءً.
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الحسين رضي الله عنهما لرجل من الشام:
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج حديث 514.(6/370)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
أَمَا قَرَأْتَ فِي الْأَحْزَابِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً؟
فقال: نعم، ولأنتم هم؟ قال: نعم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أَيْ بِلُطْفِهِ بِكُنَّ، بَلَغْتُنَّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَبِخِبْرَتِهِ بِكُنَّ وَأَنَّكُنَّ أَهْلٌ لِذَلِكَ أَعْطَاكُنَّ ذَلِكَ وَخَصَّكُنَّ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاذْكُرْنَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُنَّ بِأَنَّ جَعْلَكُنَّ فِي بُيُوتٍ تُتْلَى فِيهَا آيات الله والحكمة، فاشكرن الله تعالى عَلَى ذَلِكَ وَاحْمِدْنَهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أَيْ ذَا لُطْفٍ بِكُنَّ، إِذْ جَعَلَكُنَّ في البيوت التي تتلى فيها آيات الله وَالْحِكْمَةُ، وَهِيَ السُّنَّةُ. خَبِيرًا بِكُنَّ إِذِ اخْتَارَكُنَّ لرسوله وَقَالَ قَتَادَةُ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ: يَمْتَنُّ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً يعني لطيفا باستخراجها خبيرا بِمَوْضِعِهَا، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا روي عن الربيع بن أنس عن قتادة.
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ قال: سمعت أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا لَا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ؟ قَالَتْ: فَلَمْ يَرُعْنِي مِنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَّا وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَنَا أُسَرِّحُ شَعْرِي، فَلَفَفْتُ شَعْرِي ثُمَّ خَرَجْتُ إلى حجرتي حجرة بَيْتِي، فَجَعَلْتُ سَمْعِي عِنْدَ الْجَرِيدِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله تعالى يَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ بِهِ مِثْلَهُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهَا] قَالَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ شَرِيكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا لِي أَسْمَعُ الرِّجَالَ يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُذْكَرُ الرِّجَالُ وَلَا نُذْكَرُ، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الْآيَةَ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: قالت أم سلمة
__________
(1) المسند 6/ 305. [.....](6/371)
رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُذْكَرُ الرِّجَالُ وَلَا نُذْكَرُ، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الْآيَةَ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ مُظَاهِرٍ الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ المؤمنات؟ فأنزل لله تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الْآيَةَ، وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: دَخَلَ نِسَاءٌ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقلن: قد ذكر كن الله تعالى فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ نُذْكَرْ بِشَيْءٍ أَمَا فِينَا ما.
يذكر؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «2» الآية، فقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 14] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» «3» فَيَسْلُبُهُ الْإِيمَانَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ أولا في شرح البخاري.
وقوله تعالى: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ الْقُنُوتُ هُوَ الطَّاعَةُ فِي سُكُونٍ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الرُّومِ: 26] يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 43] وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو الإيمان، ثُمَّ الْقُنُوتُ نَاشِئٌ عَنْهُمَا وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ هَذَا فِي الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ خَصْلَةٌ مَحْمُودَةٌ وَلِهَذَا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرب عليهم كِذْبَةً لَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ أَمَارَةٌ عَلَى النِّفَاقِ، وَمَنْ صَدَقَ نَجَا، «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ.
الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» «4» .
وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ هَذِهِ سَجِيَّةُ الْأَثْبَاتِ، وَهِيَ الصَّبْرُ على المصائب، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة وتلقي ذلك بالصبر عند الصدمة الأولى، أي
__________
(1) تفسير الطبري 10/ 300.
(2) انظر تفسير الطبري 10/ 299، 300.
(3) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب 3.
(4) أخرجه البخاري في الأدب باب 69، ومسلم في البر حديث 103، 104، 105.(6/372)
أَصْعَبُهُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، ثُمَّ مَا بَعْدَهُ أَسْهَلُ مِنْهُ وَهُوَ صِدْقُ السَّجِيَّةِ وَثَبَاتُهَا وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ الْخُشُوعُ: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَالتُّؤَدَةُ وَالْوَقَارُ، وَالتَّوَاضُعُ، والحامل عليه الخوف من الله تعالى وَمُرَاقَبَتُهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» «1» .
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ الصَّدَقَةُ هِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ الْمَحَاوِيجِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا كَسْبَ لَهُمْ وَلَا كَاسِبَ يُعْطَوْنَ مِنْ فُضُولِ الْأَمْوَالِ طَاعَةً لِلَّهِ وَإِحْسَانًا إِلَى خَلْقِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ- فَذَكَرَ مِنْهُمْ- وَرَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» «2» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» «3» . وَالْأَحَادِيثُ فِي الْحَثِّ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا لَهُ موضع بذاته.
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وفي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «وَالصَّوْمُ زَكَاةُ البدن» «4» أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا، كما قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ دَخَلَ فِي قوله تعالى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» «5» نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ أَيْ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ إِلَّا عَنِ الْمُبَاحِ كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ [المؤمنون: 5- 7] .
وقوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ» «6» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الأعمش عن الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، ومسلم في الإيمان حديث 1، 5، 7.
(2) أخرجه البخاري في الأذان باب 36، ومسلم في الزكاة حديث 91.
(3) أخرجه الترمذي في الإيمان باب 8، والجمعة باب 79، وابن ماجة في الزهد باب 22، والفتن باب 12، وأحمد في المسند 3/ 321، 399، 5/ 231.
(4) لم أجد الحديث بهذا اللفظ في سنن ابن ماجة.
(5) أخرجه البخاري في الصوم باب 10، والنكاح باب 2، 3، ومسلم في النكاح حديث 1، والنسائي في الصيام باب 43، وابن ماجة في النكاح باب 1.
(6) أخرجه أبو داود في التطوع باب 18، وابن ماجة في الإقامة باب 175.(6/373)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعِبَادِ أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى؟ قَالَ: «لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حتى ينكسر ويتخضب دما، لكان الذاكرون الله تعالى أَفْضَلَ مِنْهُ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَتَى عَلَى جُمْدَانَ فَقَالَ «هَذَا جُمْدَانُ سِيرُوا فَقَدْ سبق المفردون» قالوا: وما المفردون؟ قال صلى الله عليه وسلم «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» ثم قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين؟ قال صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا، وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: «وَالْمُقَصِّرِينَ» تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ دُونَ آخِرِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سلمة عن زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قال: إنه بلغني عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عز وجل» وقال معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم «ذِكْرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا زَبَّانَ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أجرا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم «أكثرهم لله تعالى ذِكْرًا» قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَكْثَرُ أَجْرًا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أكثرهم لله عز وجل ذِكْرًا» ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ. كل ذلك يقول رسول الله «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أجل» . وسنذكر إن شاء الله تعالى بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي كَثْرَةِ الذِّكْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 41- 42] الآية، إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى:
__________
(1) المسند 3/ 75.
(2) المسند 2/ 411.
(3) المسند 5/ 239.
(4) المسند 3/ 438. [.....](6/374)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجرا عظيما وهو الجنة.
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم انْطَلَقَ لِيَخْطُبَ عَلَى فَتَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رضي الله عنه، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فَخَطَبَهَا، فَقَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بلى فَانْكِحِيهِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُؤَامَرُ فِي نَفْسِي؟ فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً الْآيَةَ، قَالَتْ: قَدْ رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَتْ: إِذًا لَا أَعْصِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَنْكَحْتُهُ نَفْسِي «1» .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رضي الله عنه فَاسْتَنْكَفَتْ مِنْهُ وَقَالَتْ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ حَسَبًا، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الْآيَةَ كُلَّهَا «2» ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حِينَ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فَامْتَنَعَتْ ثُمَّ أَجَابَتْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رضي الله عنها وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ النِّسَاءِ، يَعْنِي بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
قَدْ قَبِلْتُ، فَزَوَّجَهَا زيد بن حارثة رضي الله عنه- بَعْدَ فِرَاقِهِ زَيْنَبَ، فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا وَقَالَا:
إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَنَا عَبْدَهُ، قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: وَجَاءَ أَمْرٌ أَجْمَعُ مِنْ هَذَا النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ قال: فذاك خاص وهذا إجماع «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَنَعَمْ إِذًا» قَالَ: فَانْطَلَقَ الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، قالت: لاها الله ذا ما
__________
(1) انظر تفسير الطبري 10/ 301.
(2) تفسير الطبري 10/ 301.
(3) تفسير الطبري 10/ 301، 302.
(4) المسند 3/ 136.(6/375)
وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا جُلَيْبِيبًا وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْمَعُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ الرجل يريد أن يخبر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ، إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالَا:
صَدَقْتِ فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه، قال صلى الله عليه وسلم «فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ» قَالَ: فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَرَكِبَ جُلَيْبِيبٌ، فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ وَحَوْلُهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَهُمْ، قَالَ أنس رضي الله عنه: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قال: أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَأً يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ يَمُرُّ بِهِنَّ وَيُلَاعِبُهُنَّ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: لَا يَدْخُلْنَ اليوم عليكن جليبيبا فإنه إن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن، قالت: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يزوجها حتى يعلم هل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ «زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ» قَالَ: نَعَمْ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ الله ونعمة عين، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي» قَالَ: فَلِمَنْ يَا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم «لِجُلَيْبِيبٍ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُشَاوِرُ أُمَّهَا، فَأَتَى أُمَّهَا، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ؟
فَقَالَتْ: نَعَمْ وَنُعْمَةُ عَيْنٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ، فَقَالَتْ:
أَجُلَيْبِيبٌ إِنِيهِ أَجُلَيْبِيبٌ إِنِيهِ؟ ألا لعمر الله لا نزوجه، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ لِيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ بِمَا قَالَتْ أُمُّهَا، قَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا، قَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي، فَانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
شَأْنُكَ بِهَا فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا.
قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة لَهُ، فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ» ؟ قَالُوا: نَفْقِدُ فَلَانًا ونفقد فلانا، قال صلى الله عليه وسلم «انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ» قَالُوا: لَا. قال صلى الله عليه وسلم: «لكنني أفقد جليبيبا» قال صلى الله عليه وسلم «فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى» فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ «قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ماله سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ ثَابِتٌ رضي الله عنه: فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا. وحديث إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ثَابِتًا: هَلْ تَعْلَمُ مَا دَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: قال «اللَّهُمَّ صَبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا وَلَا تَجْعَلْ عيشها كدا» وكذا كان، فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا.
__________
(1) المسند 4/ 422.(6/376)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِطُولِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَضَائِلِ قِصَّةَ قَتْلِهِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا قَالَتْ فِي خِدْرِهَا: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أمره؟ نزلت هَذِهِ الْآيَةِ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَنَهَاهُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ، وَلَا اخْتِيَارَ لأحد هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النِّسَاءِ: 65] وَفِي الْحَدِيثِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» وَلِهَذَا شَدَّدَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
[سورة الأحزاب (33) : آية 37]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
يقول تعالى مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وَهُوَ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ بِالْإِسْلَامِ ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَيْ بِالْعِتْقِ مِنَ الرِّقِّ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ جَلِيلَ الْقَدْرِ حَبِيبًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ الْحِبُّ، وَيُقَالُ لِابْنِهِ أُسَامَةَ الْحِبُّ ابْنُ الْحِبِّ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَرِيَّةٍ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ عَاشَ بَعْدَهُ لاستخلفه، رواه الإمام أَحْمَدُ «1» عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عَنْهَا.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أبو عوانة، أخبرني عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَتَانِي الْعَبَّاسُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
فَقَالَا: يَا أُسَامَةَ اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرِي مَا حَاجَتُهُمَا؟» قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ الله، قال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) المسند 6/ 227، 254، 281.(6/377)
«لَكِنِّي أَدْرِي» قَالَ: فَأَذِنَ لَهُمَا، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَاكَ لِتُخْبِرَنَا أَيُّ أَهْلِكَ أَحَبُّ إليك؟
قال صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ أَهْلِي إِلَيَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ» قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَسْأَلُكَ عَنْ فَاطِمَةَ، قال صلى الله عليه وسلم «فَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ» .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَهُ بِابْنَةِ عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها، وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَصْدَقَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا، وَخِمَارًا وَمِلْحَفَةً وَدِرْعًا، وَخَمْسِينَ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ وَعَشْرَةَ أَمْدَادٍ مِنْ تَمْرٍ، قاله مقاتل بن حيان، فمكث عِنْدَهُ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ أَوْ فَوْقَهَا، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُمَا، فَجَاءَ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هَاهُنَا آثَارًا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَضْرِبَ عَنْهَا صَفَحًا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا فَلَا نُورِدُهَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَاهُنَا أَيْضًا حَدِيثًا مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ غَرَابَةٌ تَرَكْنَا سِيَاقَهُ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ «1» أَيْضًا بَعْضَهُ مُخْتَصَرًا فَقَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ نزلت في زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا علي بن هاشم مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالَ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تَعَالَى:
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ فذكرت له، فقال: لا ولكن الله تعالى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهَا سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ قَبْلَ أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه لِيَشْكُوَهَا إِلَيْهِ قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنِّي مُزَوِّجُكَهَا وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابن جرير «2» : حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنِي خَالِدٌ عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَتَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ كتاب الله تعالى لِكَتَمَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها الْوَطَرُ هُوَ الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، أَيْ لَمَّا فَرِغَ مِنْهَا وَفَارَقَهَا زَوَّجْنَاكَهَا، وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْحَى إليه أن يدخل عليها
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 33، باب 6.
(2) تفسير الطبري 10/ 303.(6/378)
بلا ولي ولا عقد ولا مهر وَلَا شُهُودٍ مِنَ الْبَشَرِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حدثنا هاشم يعني ابن القاسم، أخبرنا النَّضْرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا انقضت عدة زينب رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ «اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ» فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أن أنظر إليها وأقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي وَنَكَصْتُ عَلَى عَقِبِي، وَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَبْشِرِي أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا حِينَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأطعمنا عَلَيْهَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، فَخَرَجَ النَّاسُ وَبَقِيَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَتْهُ، فَجَعَلَ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ حُجِرَ نِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا أَوْ أخبر، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَذَهَبْتُ أَدْخَلَ مَعَهُ، فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَنَزَلَ الْحِجَابُ وَوَعَظَ الْقَوْمَ بِمَا وُعِظُوا بِهِ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية كلها «2» ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النُّورِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: تَفَاخَرَتْ زينب وعائشة رضي الله عنهما، فقالت زينب رضي الله عنها: أنا الذي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها: أَنَا الَّتِي نَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، فَاعْتَرَفَتْ لَهَا زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لأدلي عليك بثلاث، وما من نسائك امرأة تدلي بِهِنَّ: إِنَّ جَدِّي وَجَدُّكَ وَاحِدٌ، وَإِنِّي أَنْكَحَنِيكَ الله عز وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أَيْ إِنَّمَا أَبَحْنَا لَكَ تَزْوِيجَهَا، وَفَعَلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا يَبْقَى حَرَجٌ على المؤمنين في تزويج مطلقات
__________
(1) المسند 3/ 195، 196.
(2) أخرجه مسلم في النكاح حديث 89.
(3) تفسير الطبري 10/ 303.(6/379)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
الْأَدْعِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ قَدْ تَبَنَّى زيد بن حارثة رضي الله عنه، فكان يقول لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا قَطَعَ اللَّهُ تعالى هَذِهِ النِّسْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ- إلى قوله تعالى- ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 4- 5] ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَأْكِيدًا بِوُقُوعِ تَزْوِيجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى في آية التحريم وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النِّسَاءِ: 23] لِيَحْتَرِزَ مِنَ الِابْنِ الدَّعِيِّ، فَإِنَّ ذلك كان كثيرا فيهم. وقوله تعالى:
وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي وَقَعَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَتَّمَهُ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَانَتْ زَيْنَبُ رضي الله عنها فِي عِلْمِ اللَّهِ سَتَصِيرُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الأحزاب (33) : آية 38]
مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)
يَقُولُ تَعَالَى: مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أَيْ فِيمَا أَحَلَّ لَهُ وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ تَزْوِيجِ زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقوله تعالى:
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي هذا حكم الله تعالى فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهُمْ بِشَيْءٍ وَعَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ تَوَهَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَقْصًا فِي تَزْوِيجِهِ امْرَأَةَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ وَدَعِيِّهِ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أَيْ وَكَانَ أَمْرُهُ الَّذِي يُقَدِّرُهُ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ وَوَاقِعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا مَعْدَلَ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 39 الى 40]
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
يمدح تبارك وتعالى الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أَيْ إِلَى خَلْقِهِ ويؤدونها بأماناتها وَيَخْشَوْنَهُ أَيْ يَخَافُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، فَلَا تَمْنَعُهُمْ سَطْوَةُ أَحَدٍ عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ الله تعالى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أَيْ وَكَفَى بِاللَّهِ نَاصِرًا وَمُعِينًا، وَسَيِّدُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَلْ وَفِي كُلِّ مَقَامٍ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَامَ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَإِبْلَاغِهَا إِلَى أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى جَمِيعِ أنواع بني آدم، وأظهر الله تعالى كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَشَرْعَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، فإنه قد كان النبي قبله إنما يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ بُعِثَ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَافِ: 158] ثُمَّ وَرِثَ مَقَامَ الْبَلَاغِ عَنْهُ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ أَعْلَى مَنْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَلَّغُوا عَنْهُ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَحَضَرِهِ وَسَفَرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ ثُمَّ وَرِثَهُ كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَبِنُورِهِمْ يَقْتَدِي الْمُهْتَدُونَ، وَعَلَى مَنْهَجِهِمْ يَسْلُكُ الْمُوَفَّقُونَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْمَنَّانَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خَلَفِهِمْ.(6/380)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، أَخْبَرَنَا الأعمش عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: فَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى» وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «2» عَنِ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي معاوية كلاهما عن الأعمش به.
وقوله تعالى: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ نهى أَنَّ يُقَالَ بَعْدَ هَذَا زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تبناه، فإنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعِشْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ حَتَّى بَلَغَ الحلم فإنه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ لَهُ الْقَاسِمُ وَالطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ مِنْ خَدِيجَةَ رضي الله عنها، فماتوا صغارا وولد له صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، فَمَاتَ أَيْضًا رَضِيعًا، وكان له صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ أَرْبَعُ بَنَاتٍ: زَيْنَبُ وَرُقَيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَمَاتَ في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث، وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت بعده لستة أشهر.
وقوله تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً كقوله عز وجل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَلَا رَسُولَ بعده بالطريق الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ أَخَصُّ مِنْ مَقَامِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أبيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا، وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ لَمْ يَضَعْهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبُنْيَانِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، فَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «4» عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ بِهِ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ فلفل، حَدَّثَنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلَا رسول بعد وَلَا نَبِيَّ» قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فقال: «ولكن
__________
(1) المسند 3/ 30، 37.
(2) كتاب الفتن باب 20.
(3) المسند 5/ 136، 137. [.....]
(4) كتاب الأدب باب 77.
(5) المسند 3/ 267.(6/381)
الْمُبَشِّرَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أجزاء النبوة» وهكذا رواه التِّرْمِذِيُّ «1» عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَكَانَ مَنْ دَخَلَهَا فَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» «2» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا إِلَّا لَبِنَةً وَاحِدَةً، فَجِئْتُ أَنَا فَأَتْمَمْتُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ» انْفَرَدَ به مُسْلِمٌ «4» مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عبيد الراسبي قال: سمعت أبا الطفيل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا نبوة بعدي إلا المبشرات» قِيلَ: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ» - أَوْ قَالَ- «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ:
هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بيوتا فأكملها وأحسنها وَأَجْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ وَيَقُولُونَ: أَلَا وَضَعْتَ هَاهُنَا لَبِنَةً فَيَتِمُّ بُنْيَانُكَ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةُ» «7» أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
[حديث آخَرَ] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ وَعَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ قَالُوا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
__________
(1) كتاب الرؤيا باب 2.
(2) أخرجه البخاري في المناقب باب 18، ومسلم في الفضائل حديث 22، 23، والترمذي في الأدب باب 77، والمناقب باب 1.
(3) المسند 3/ 9.
(4) كتاب الصلاة حديث 207، 208.
(5) المسند 5/ 454.
(6) المسند 2/ 312.
(7) أخرجه البخاري في المناقب باب 18، ومسلم في الفضائل حديث 20، 23.(6/382)
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ» «1» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَجِئْتُ أَنَا فَأَتْمَمْتُ تِلْكَ اللَّبِنَةَ» «2» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صالح، حدثنا سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الْكَلْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ» .
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءٌ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ تَعَالَى بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ» «4» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ- ثَلَاثًا- وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَجَوَامِعَهُ وَخَوَاتِمَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَتُجُوِّزَ بِي، وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ، فَإِذَا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى أَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ» تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ لهيعة عن عبد الله بن سريج الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عن عبد الله بن عمرو
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد حديث 5- 8، والترمذي في السير باب 5.
(2) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.
(3) المسند 4/ 127.
(4) أخرجه البخاري في المناقب باب 17، ومسلم في الفضائل حديث 124، 125.
(5) المسند 2/ 212. [.....]
(6) المسند 2/ 172.(6/383)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
رضي الله عنهما، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، فَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنْ تَشْرِيفِهِ لَهُمْ خَتْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِهِ وَإِكْمَالُ الدِّينِ الْحَنِيفِ لَهُ، وَقَدْ أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى هَذَا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل، لو تَخَرَّقَ وَشَعْبَذَ وَأَتَى بِأَنْوَاعِ السِّحْرِ وَالطَّلَاسِمِ وَالنَّيْرَجِيَّاتِ فَكُلُّهَا مُحَالٌ وَضَلَالٌ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ كَمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى يَدِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ بِالْيَمَنِ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بِالْيَمَامَةِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَقْوَالِ الْبَارِدَةِ مَا عَلِمَ كُلُّ ذِي لُبٍّ وَفَهْمٍ وَحِجًى أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ ضَالَّانِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُدَّعٍ لِذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخْتَمُوا بِالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى مَعَهُ مِنَ الْأُمُورِ مَا يَشْهَدُ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِكَذِبِ مَنْ جَاءَ بِهَا.
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ، فَإِنَّهُمْ بِضَرُورَةِ الْوَاقِعِ لَا يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ أَوْ لِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ إِلَى غَيْرِهِ وَيَكُونُ فِي غَايَةِ الْإِفْكِ وَالْفُجُورِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء: 221- 222] الآية، وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فَإِنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالرُّشْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلِ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ وَيَأْمُرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، مَعَ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَاتِ وَالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَاتِ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا مَا دَامَتِ الْأَرْضُ والسموات.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف الْمِنَنِ، لِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَجَمِيلِ الْمَآبِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» :
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي مَوْلَى ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَحْرِيَّةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَّا أُنْبِئَكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ» قَالُوا: وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذِكْرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» «2» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سعيد بن أبي هند عن زياد
__________
(1) المسند 5/ 195.
(2) أخرجه الترمذي في الدعاء باب 6، وابن ماجة في الأدب باب 53.(6/384)
مَوْلَى ابْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَحْرِيَّةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ التَّرَاغِمِيُّ عَنْ أَبِي الدرداء رضي الله عنه به، قال الترمذي: رواه بَعْضُهُمْ عَنْهُ فَأَرْسَلَهُ. قُلْتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا فَرَجُ بْنُ فضالة عن أبي سعيد الحمصي قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: دُعَاءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَدَعُهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُعْظِمُ شُكْرَكَ، وَأَتْبَعُ نَصِيحَتَكَ، وَأُكْثِرُ ذِكْرَكَ، وَأَحْفَظُ وَصِيَّتَكَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «2» عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى عَنْ وَكِيعٍ عَنْ أَبِي فَضَالَةَ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْحِمْصِيِّ عَنْ أَبِي هريرة رضي الله عنه، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ يَقُولُ: جَاءَ أَعُرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» وَقَالَ الْآخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا، فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى» «4» وروى الترمذي وابن ماجة الْفَصْلَ الثَّانِي مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ به، وقال الترمذي: حديث حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ تعالى حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ» . وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُفْيَانَ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أبي ثبيب الرَّاسِبِيِّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيرا حتى يقول المنافقون إنكم تراؤون» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ أَبُو طَلْحَةَ الرَّاسِبِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا الْوَازِعِ جَابِرَ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: قال
__________
(1) المسند 2/ 477.
(2) كتاب الدعوات باب 113.
(3) المسند 4/ 190.
(4) أخرجه الترمذي في الدعوات باب 4.
(5) المسند 3/ 68.
(6) المسند 2/ 224.(6/385)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا الله تعالى فِيهِ إِلَّا رَأَوْهُ حَسْرَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً إن الله تعالى لَمْ يَفْرِضْ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حال العذر غير الذكر، فإن الله تعالى لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تَرْكِهِ، فَقَالَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ [النِّسَاءِ: 103] بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عز وجل: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَيْكُمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ وَالْآثَارُ فِي الحث على ذكر الله تعالى كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْحَثُّ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْأَذْكَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِآنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَالنَّسَائِيِّ وَالْمَعْمَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْ أَحْسَنِ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي ذَلِكَ كِتَابُ الْأَذْكَارِ لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ رحمه الله.
وقوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي عند الصباح والسماء، كقوله عز وجل فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم: 17- 18] وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى الذِّكْرِ، أَيْ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُكُمْ فَاذْكُرُوهُ أنتم، كقوله عز وجل كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: 151- 152] وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خير منه» «1» والصلاة من الله تعالى ثَنَاؤُهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَرَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الصلاة من الله عز وجل الرحمة. وَقَدْ يُقَالُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَبِمَعْنَى الدُّعَاءِ للناس والاستغفار، كقوله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ [غافر: 7- 9] الآية. وقوله تعالى: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أَيْ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ بِكُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْكُمْ وَدُعَاءِ مَلَائِكَتِهِ لَكُمْ، يُخْرِجُكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَالْيَقِينِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي جَهِلَهُ غَيْرُهُمْ، وَبَصَّرَهُمُ الطَّرِيقَ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُ وَحَادَ عَنْهُ مِنْ سِوَاهُمْ من
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 15، 43، ومسلم في الذكر حديث 2، 21.(6/386)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَآمَنَهُمْ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ يَتَلَقَّوْنَهُمْ بِالْبِشَارَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لمحبته لهم ورأفته بهم.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفر من أصحابه رضي الله عنهم، وَصَبِيٍّ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَتْ أُمُّهُ الْقَوْمَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يُوطَأَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَتَقُولُ: ابْنَيِ، ابْنِي، وَسَعَتْ فَأَخَذَتْهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُلْقِيَ ابْنَهَا فِي النَّارِ، قَالَ فَخَفَّضَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال «لا، والله لَا يُلْقِي حَبِيبَهُ فِي النَّارِ» إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ «2» عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ قَدْ أَخَذَتْ صَبِيًّا لَهَا فَأَلْصَقَتْهُ إِلَى صَدْرِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟» قالوا: لا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فو الله لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» وَقَوْلُهُ تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- تَحِيَّتُهُمْ، أَيْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ أَيْ يَوْمَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ كما قال عز وجل: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ يَوْمَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، واختاره ابن جرير. [قلت] وقد يستدل له بِقَوْلِهِ تَعَالَى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] . وقوله تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يَعْنِي الْجَنَّةَ وَمَا فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا فليح بن سليمان، حدثنا هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عنهما، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في
__________
(1) المسند 3/ 104.
(2) كتاب الأدب باب 18، وأخرجه مسلم في التوبة حديث 22.
(3) المسند 2/ 174.(6/387)