وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رشيد حدثنا بقية بن الوليد عن يحيى بن يزيد القعنبي حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ عَلَيْهَا السَّلَامُ سَأَلَتْ رَبَّهَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطْعِمَهَا لَحْمًا لَا دَمَ لَهُ فَأَطْعَمَهَا الْجَرَادَ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ أَعِشْهُ بِغَيْرِ رَضَاعٍ وَتَابِعْ بَيْنَهُ بِغَيْرِ شِيَاعٍ» وَقَالَ نُمَيْرٌ: الشِّيَاعُ الصَّوْتُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ:
حَدَّثَنَا أَبُو تقي هشام بن عبد الملك المزني، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقَاتِلُوا الْجَرَادَ فَإِنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ» غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ قَالَ:
كَانَتْ تَأْكُلُ مَسَامِيرَ أَبْوَابِهِمْ وَتَدَعُ الْخَشَبَ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْخَرَائِطِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَإِذَا أنا برجل من جراد في السماء فإذا بِرَجُلٍ رَاكِبٍ عَلَى جَرَادَةٍ مِنْهَا وَهُوَ شَاكٍ فِي الْحَدِيدِ وَكُلَّمَا قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا مَالَ الْجَرَادُ مَعَ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْحَرِيرِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنْبَأَنَا عَامِرٌ قَالَ: سُئِلَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي عَنِ الْجَرَادِ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ الْجَرَادَةَ فِيهَا خِلْقَةُ سَبْعَةِ جَبَابِرَةٍ، رَأَسُهَا رَأْسُ فَرَسٍ، وَعُنُقُهَا عُنُقُ ثَوْرٍ، وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدِ، وَجَنَاحُهَا جَنَاحُ نسر، ورجلاها رجل جَمَلٍ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ حَيَّةٍ، وَبَطْنُهَا بَطْنُ عَقْرَبٍ.
وقدمنا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ حَدِيثَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْمُهْزَمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَاسْتَقْبَلَنَا رِجْلُ جَرَادٍ فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُ بِالْعِصِيِّ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «لَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْبَحْرِ» «1» .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ «2» عَنْ هَارُونَ الْحَمَّالِ عن هشام بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَعَا عَلَى الْجَرَادِ قَالَ «اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ وَاقْتُلْ صِغَارَهُ وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ وَاقْطَعْ دَابِرَهُ وَخُذْ بِأَفْوَاهِهِ عَنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ» فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ؟ فَقَالَ «إِنَّمَا هُوَ نَثْرَةُ حوت في البحر» قال هشام أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ يَنْثُرُهُ الْحُوتُ قَالَ مَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ إِنَّ السَّمَكَ إِذَا بَاضَ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ فَنَضَبَ الْمَاءُ عنه وبدا للشمس
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2/ 306، 364، 407.
(2) كتاب الصيد باب 9.(3/416)
أَنَّهُ يَفْقِسُ كُلُّهُ جَرَادًا طَيَّارًا.
وَقَدَّمْنَا عِنْدَ قوله إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ حَدِيثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَلْفَ أُمَّةٍ سِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ، وَإِنَّ أَوَّلَهَا هَلَاكًا الْجَرَادُ» ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسٍ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ سَالِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الْجَوْزَجَانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا وَبَاءَ مَعَ السَّيْفِ وَلَا نَجَاءَ مَعَ الْجَرَادِ» حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَأَمَّا الْقُمَّلَ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ من الحنطة وعنه أنه الدبا وهو الجراد الصغير الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ لَهُ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْقُمَّلَ دَوَابٌّ سُودٌ صِغَارٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْقُمَّلَ الْبَرَاغِيثُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» الْقُمَّلَ جَمْعٌ وَاحِدَتُهَا قُمَّلَةٌ وَهِيَ دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْقَمْلَ تَأْكُلُهَا الْإِبِلُ فِيمَا بَلَغَنِي وهي التي عناها الأعشى بقوله: [الكامل]
قوم يعالج قمّلا أبناؤهم ... وسلاسلا أجدى وَبَابًا مُؤْصَدَا «2»
قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، يَزْعُمُ أَنَّ الْقُمَّلَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَمْنَانُ وَاحِدَتُهَا حَمْنَانَةٌ وَهِيَ صِغَارُ الْقِرْدَانِ فَوْقَ الْقَمْقَامَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ: أَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَطَرُ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْئًا خَافُوا أَنْ يَكُونَ عَذَابًا فَقَالُوا لِمُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْمَطَرَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْبَتَ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ شَيْئًا لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار وَالْكَلَأِ.
فَقَالُوا: هَذَا مَا كُنَّا نَتَمَنَّى فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَسَلَّطَهُ عَلَى الْكَلَأِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَثَرَهُ فِي الْكَلَأِ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُبْقِي الزَّرْعَ، فَقَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا ربك فيكشف عَنَّا الْجَرَادَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْجَرَادَ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَاسُوا وَأَحْرَزُوا فِي الْبُيُوتِ فَقَالُوا قَدْ أَحْرَزْنَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ وَهُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ فَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرِجُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ إِلَى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْقُمَّلَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُرْسِلُوا معه بني إسرائيل.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 34.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 281، ولسان العرب (قمل) ، ورواية البيت في ديوان الأعشى:
قوما تُعَالِجُ قُمَّلًا أَبْنَاؤُهُمْ ... وَسَلَاسِلًا أُجْدًّا وَبَابًا مُؤْصَدَا
(3) تفسير الطبري 6/ 34، 35.(3/417)
فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَمِعَ نَقِيقَ ضِفْدَعٍ فَقَالَ لِفِرْعَوْنَ مَا تَلْقَى أَنْتَ وقومك من هذا فقال وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ كَيْدُ هَذَا فَمَا أَمْسَوْا حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى ذَقْنِهِ في الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضِّفْدَعُ فِي فِيهِ، فَقَالُوا لِمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا هَذِهِ الضَّفَادِعَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَكَانُوا مَا اسْتَقَوْا مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ وَمَا كَانَ فِي أَوْعِيَتِهِمْ وَجَدُوهُ دَمًا عَبِيطًا فَشَكَوَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالُوا إِنَّا قَدِ ابْتُلِينَا بِالدَّمِ وَلَيْسَ لَنَا شَرَابٌ.
فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَحَرَكُمْ، فَقَالُوا مِنْ أَيْنَ سَحَرَنَا وَنَحْنُ لَا نُجِدُ فِي أَوْعِيَتِنَا شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ إِلَّا وَجَدْنَاهُ دَمًا عَبِيطًا فَأَتَوْهُ وَقَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا هَذَا الدَّمَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ علماء السلف أنه أخبر بذلك، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَرَجَعَ عَدُوُّ اللَّهِ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتِ السَّحَرَةُ مَغْلُوبًا مَغْلُولًا ثُمَّ أَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي فِي الشَّرِّ فَتَابَعَ اللَّهُ عليه الآيات فأخذه بالسنين وأرسل عَلَيْهِ الطُّوفَانَ، ثُمَّ الْجَرَادَ، ثُمَّ الْقُمَّلَ، ثُمَّ الضَّفَادِعَ، ثُمَّ الدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، فَأَرْسَلَ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَاءُ فَفَاضَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ رَكَدَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَحْرُثُوا وَلَا أن يَعْمَلُوا شَيْئًا حَتَّى جَهِدُوا جُوعًا فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ الشَّجَرَ فِيمَا بَلَغَنِي حَتَّى إِنْ كَانَ لَيَأْكُلُ مَسَامِيرَ الْأَبْوَابِ مِنَ الْحَدِيدِ حَتَّى تَقَعَ دُوْرُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالُوا فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلُ فَذُكِرَ لِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى كَثِيبٍ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَمَشَى إِلَى كَثِيبٍ أَهْيَلَ عَظِيمٍ فَضَرَبَهُ بِهَا فَانْثَالَ عَلَيْهِمْ قُمَّلًا حَتَّى غَلَبَ عَلَى الْبُيُوتِ وَالْأَطْعِمَةِ ومنعهم النوم والقرار.
فَلَمَّا جَهَدَهُمْ قَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا لَهُ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ فَمَلَأَتِ الْبُيُوتَ وَالْأَطْعِمَةَ وَالْآنِيَةَ فَلَا يَكْشِفُ أَحَدٌ ثَوْبًا وَلَا طَعَامًا إِلَّا وَجَدَ فِيهِ الضَّفَادِعَ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَهَدَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا فَسَأَلَ رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَصَارَتْ مِيَاهُ آلِ فِرْعَوْنَ دَمًا لَا يَسْتَقُونَ مِنْ بِئْرٍ وَلَا نَهْرٍ وَلَا يَغْتَرِفُونَ مِنْ إِنَاءٍ إِلَّا عَادَ دَمًا عَبِيطًا «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيُّ أَنْبَأَنَا النَّضْرُ أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عكرمة عن عبيد الله بن عمرو قال: لَا تَقْتُلُوا الضَّفَادِعَ فَإِنَّهَا لَمَّا أُرْسِلَتْ عَلَى
__________
(1) انظر الأثر في تفسير الطبري 6/ 37، 38.(3/418)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
قَوْمِ فِرْعَوْنَ انْطَلَقَ ضِفْدَعٌ مِنْهَا فَوَقَعَ فِي تنور فيه نار يطلب بذلك مرضاة اللَّهِ فَأَبْدَلَهُنَّ اللَّهُ مِنْ هَذَا أَبْرَدَ شَيْءٍ يَعْلَمُهُ مِنَ الْمَاءِ وَجَعَلَ نَقِيقَهُنَّ التَّسْبِيحَ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَعْنِي بِالدَّمِ الرُّعَافَ. رواه ابن أبي حاتم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 136 الى 137]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَتَوَا وَتَمَرَّدُوا مَعَ ابْتِلَائِهِ إِيَّاهُمْ بِالْآيَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاحِدَةٍ بعد واحدة انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِإِغْرَاقِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي فَرَقَهُ لِمُوسَى فَجَاوَزَهُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، ثُمَّ وَرَدَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ عَلَى أَثَرِهِمْ فَلَمَّا اسْتَكْمَلُوا فِيهِ ارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْهَا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْرَثَ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ [الْقَصَصِ: 5- 6] وَقَالَ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [الدُّخَانِ: 25- 28] وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها يَعْنِي الشَّامَ.
وَقَوْلُهُ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5- 6] وَقَوْلُهُ وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ أَيْ وَخَرَّبْنَا مَا كَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ يَصْنَعُونَهُ مِنَ الْعِمَارَاتِ وَالْمَزَارِعِ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ قَالَ ابن عباس ومجاهد يَعْرِشُونَ يبنون.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 139]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (139)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ جَهَلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ جَاوَزُوا الْبَحْرَ وَقَدْ رَأَوْا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ مَا رَأَوْا فَأَتَوْا أَيْ فَمَرُّوا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَانُوا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَقِيلَ كَانُوا مِنْ لَخْمٍ «1» قَالَ ابْنُ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 46.(3/419)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
جرير «1» : وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ فَلِهَذَا أَثَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أَيْ تَجْهَلُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ وَجَلَالَهُ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَالْمَثِيلِ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ أَيْ هَالِكٌ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَرَوَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» فِي تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَعَقِيلٍ وَمَعْمَرٍ كُلِّهِمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ قَالَ وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ: فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ «3» خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ قَالَ: فَقُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ: «قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا معمر عن الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكَفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ وَكَانَ الْكَفَّارُ يَنُوطُونَ «5» سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ إنكم تركبون سنن من قبلكم» أورده ابْنُ جَرِيرٍ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المزني عن أبيه عن جده مرفوعا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 141]
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
يُذَكِّرُهُمْ موسى عليه السلام نعم اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْقَاذِهِمْ مِنْ أَسْرِ فِرْعَوْنَ وَقَهْرِهِ وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالِاشْتِفَاءِ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي حَالِ هَوَانِهِ وَهَلَاكِهِ وغرقه ودماره وقد تقدم تفسيرها في البقرة.
[سورة الأعراف (7) : آية 142]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
__________
(1) في تفسير الطبري 6/ 46، الأثر عن ابن جريج.
(2) تفسير الطبري 6/ 46، 47.
(3) السدرة: شجرة النبق.
(4) المسند 5/ 218. [.....]
(5) ينوطون: يعلقون.(3/420)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ بِتَكْلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ وَفِيهَا أَحْكَامُهُمْ وَتَفَاصِيلُ شَرْعِهِمْ فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاعَدَ مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها فَلَمَّا تَمَّ الْمِيقَاتُ اسْتَاكَ بِلِحَاءِ شَجَرَةٍ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكْمِلَ بِعَشْرٍ أَرْبَعِينَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا هِيَ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثِينَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَالْعَشَرُ عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ وابن جريج وروي عن ابن عباس وغيره.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمِيقَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ وَحَصَلَ فِيهِ التَّكْلِيمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] فلما تم الميقات وعزم مُوسَى عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الطُّورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: 80] الآية فحينئذ استخلف موسى عليه السلام على بني إسرائيل أخاه هارون ووصاه بِالْإِصْلَاحِ وَعَدَمِ الْإِفْسَادِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ وَإِلَّا فَهَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ شَرِيفٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَلَالَةٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
[سورة الأعراف (7) : آية 143]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ لِمِيقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَقَدْ أَشْكَلَ حَرْفُ لَنْ هَاهُنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا سَنُورِدُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْكُفَّارِ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 15] وَقِيلَ إِنَّهَا لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ الرؤيا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة إن الله تعالى قال لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ «يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ» «1» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً.
__________
(1) تدهده: أي تهدم.(3/421)
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ «1» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُهَيْلٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ فَجَعَلَهُ دَكًّا. وَأَرَانَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، هَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ، ثُمَّ قَالَ «2» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ: هَكَذَا بِإِصْبَعِهِ، وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِصْبَعَهُ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ، فَسَاخَ الْجَبَلُ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أَنَسٍ وَالْمَشْهُورُ حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ: «ووضع الْإِبْهَامَ قَرِيبًا مِنْ طَرْفِ خِنْصَرِهِ» ، قَالَ: «فَسَاخَ الجبل» قال حميد لثابت يقول هكذا فَرَفَعَ ثَابِتٌ يَدَهُ فَضَرَبَ صَدَرَ حُمَيْدٍ وَقَالَ يَقُولُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُهُ أَنَسٌ وَأَنَا أَكْتُمُهُ؟
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُثَنَّى مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قَالَ: قَالَ «هَكَذَا» يَعْنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ طَرَفَ الْخِنْصَرِ قَالَ أَحْمَدُ: أَرَانَا مُعَاذٌ فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ: مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ فَضَرَبَ صَدْرَهُ ضَرْبَةً شَدِيدَةً وَقَالَ مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ وَمَا أَنْتَ يَا حُمَيْدُ؟ يُحَدِّثُنِي بِهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا تُرِيدُ إِلَيْهِ؟.
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «5» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الْحَكَمِ الْوَرَّاقِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ بِهِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادٍ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يخرجاه.
ورواه أبو محمد بن الحسن بن محمد بن علي الْخَلَّالُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَذَكَرَهُ وَقَالَ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا عِلَّةَ فِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأن داود بن المحبر كذاب، رواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 54.
(2) تفسير الطبري 6/ 54.
(3) تفسير الطبري 6/ 54.
(4) المسند 3/ 125.
(5) كتاب التفسير، تفسير سورة 7، باب 1.(3/422)
سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ وَأَسْنَدَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عمر مرفوعا ولا يصح أيضا، رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم.
وَقَالَ السُّدِّيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قَالَ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ تُرَابًا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قَالَ مَغْشِيًا عَلَيْهِ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ قَتَادَةُ وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قَالَ مَيِّتًا وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَذْهَبُ مَعَهُ وَقَالَ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا انْقَعَرَ فَدَخَلَ تَحْتَ الْأَرْضِ فَلَا يَظْهَرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ سَاخَ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يَهْوِي فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو غَسَّانَ الْكِنَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْجَلْدِ بن أيوب عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِلْجِبَالِ طَارَتْ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةُ أَجْبُلٍ فَوَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَةٌ بِمَكَّةَ، بِالْمَدِينَةِ أُحُدٌ وَوَرْقَانُ وَرَضْوَى وَوَقَعَ بِمَكَّةَ حِرَاءٌ وَثَبِيرٌ وَثَوْرٌ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بن حصين بن العلاف عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: كَانَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَتَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَى الطُّورِ صما ملساء فَلَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَى الطُّورِ دُكَّ وَتَفَطَّرَتِ الْجِبَالُ فَصَارَتِ الشُّقُوقُ وَالْكُهُوفُ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً وَذَلِكَ أَنَّ الْجَبَلَ حِينَ كُشِفَ الْغِطَاءُ وَرَأَى النُّورَ صَارَ مِثْلَ دَكٍّ مِنَ الدِّكَاكِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ جَعَلَهُ دَكًّا أي فتنة وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ فَخَرَّ صَعِقًا وَقَالَ عِكْرِمَةُ جَعَلَهُ دكاء قَالَ نَظَرَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَصَارَ صَحْرَاءَ تُرَابًا وَقَدْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ بَعْضُ الْقُرَّاءِ وَاخْتَارَهَا ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الصَّعْقَ هو الغشي ها هنا كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ لَا كَمَا فسره قتادة بالموت وإن كان صَحِيحًا فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: 68] فَإِنَّ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ كَمَا أَنَّ هُنَا قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى الْغَشْيِ. وَهِيَ قوله فَلَمَّا أَفاقَ والإفاقة لا تكون إلا عن غشي قالَ سُبْحانَكَ تنزيها
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 54، 55.(3/423)
وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد في الدُّنْيَا إِلَّا مَاتَ.
وَقَوْلُهُ تُبْتُ إِلَيْكَ قَالَ مُجَاهِدٌ أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ «1» وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ «3» وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ قَدْ كَانَ قَبْلَهُ مُؤْمِنُونَ وَلَكِنْ يَقُولُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لَهُ اتِّجَاهٌ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جرير في تفسيره ها هنا أَثَرًا طَوِيلًا فِيهِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَأَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَاهُنَا فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قد لطم وجهه، وقال يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الْأَنْصَارِ لَطَمَ وَجْهِي قَالَ «ادْعُوهُ» فَدَعَوْهُ قَالَ «لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟» قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِيِّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى موسى على البشر قال وعلى محمد؟ قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته فقال «لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ» «4» .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ صَحِيحِهِ وَمُسْلِمٌ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَازِنِيِّ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ عن أبيه عن أبي سعيد بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فقال اليهودي: والذين اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عَلَى الْيَهُودِيِّ فَلَطَمَهُ، فَأَتَى الْيَهُودِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يوم القيامة
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 56.
(2) تفسير الطبري 6/ 56.
(3) تفسير الطبري 6/ 55.
(4) أخرجه البخاري في تفسير سورة 7، باب 2، ومسلم في الفضائل حديث 160، وأبو داود في السنة باب 13.
(5) المسند 2/ 264.(3/424)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» «1» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي لَطَمَ الْيَهُودِيَّ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهَذَا هُوَ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» قِيلَ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ نَهَى أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالتَّعَصُّبِ وَقِيلَ عَلَى وَجْهِ الْقَوْلِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّشَهِّي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ «فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الصَّعْقَ يَكُونُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يَحْصُلُ أَمْرٌ يُصْعَقُونَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَجَلَّى لِلْخَلَائِقِ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ كَمَا صَعِقَ موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ» .
وَقَدْ رَوَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ الشِّفَاءِ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُبْصِرُ النَّمْلَةَ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ مَسِيرَةَ عَشَرَةِ فَرَاسِخَ» ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا أن يختص نبينا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ وَالْحَظْوَةِ بِمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى انْتَهَى مَا قَالَهُ وَكَأَنَّهُ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ، وفي صحته نظر ولا تخلو رِجَالُ إِسْنَادِهِ مِنْ مَجَاهِيلَ لَا يُعْرَفُونَ وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يُقْبَلُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنْ مِثْلِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مُنْتَهَاهُ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 145]
قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه وَلَا شَكَّ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تَسْتَمِرُّ شَرِيعَتُهُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَأَتْبَاعُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَتْبَاعِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ كُلِّهِمْ وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي من الكلام والمناجاة
__________
(1) أخرجه البخاري في الخصومات باب 1، وتفسير سورة 7، باب 2، والديات باب 32، والرقاق باب 43، والتوحيد باب 22، ومسلم في الفضائل حديث 160. [.....](3/425)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَطْلُبْ مَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ قِيلَ كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ جَوْهَرٍ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ لَهُ فِيهَا مَوَاعِظَ وَأَحْكَامًا مُفَصَّلَةً مُبَيِّنَةً لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَلْوَاحُ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْرَاةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ [الْقَصَصِ: 43] وَقِيلَ الألواح أعطيها موسى قبل التوراة والله أعلم، وعلى كل تقدير فكانت كَالتَّعْوِيضِ لَهُ عَمَّا سَأَلَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَمُنِعَ منها وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فَخُذْها بِقُوَّةٍ أَيْ بِعَزْمٍ عَلَى الطَّاعَةِ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال أمر موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَشَدِّ مَا أَمَرَ قَوْمَهُ «1» . وَقَوْلُهُ سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أَيْ سَتَرَوْنَ عَاقِبَةَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي كَيْفَ يَصِيرُ إِلَى الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالتَّبَابِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَإِنَّمَا قَالَ سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ سَأُرِيكَ غَدًا إلى ما يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، ثُمَّ نَقَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أَيْ: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأُعْطِيكُمْ إِيَّاهَا وَقِيلَ: مَنَازِلُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ هذا بَعْدَ انْفِصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَنْ بِلَادِ مِصْرَ وَهُوَ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ التِّيهَ والله أعلم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
يَقُولُ تَعَالَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ سَأَمْنَعُ فَهْمَ الحجج والأدلة الدالة عَلَى عَظْمَتِي وَشَرِيعَتِي وَأَحْكَامِي قُلُوبَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَتِي وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَيْ كَمَا اسْتَكْبَرُوا بِغَيْرِ حَقٍّ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ بِالْجَهْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 110] وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّفِّ: 5] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَنَالُ الْعِلْمَ حَيِيٌّ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ، وَقَالَ آخَرُ:
مَنْ لَمْ يَصْبِرْ على ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الْجَهْلِ أَبَدًا، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَالَ: أَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ القرآن وأصرفهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 59.
(2) تفسير الطبري 6/ 59.(3/426)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
عَنْ آيَاتِي.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَهَذَا يَدُلُّ على أن هذا الخطاب لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، قُلْتُ لَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ لِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذَا مُطَّرِدٌ فِي حَقِّ كُلِّ أُمَّةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَحَدٍ وَأَحَدٍ فِي هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ: 96- 97] .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أَيْ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ سَبِيلُ الرُّشْدِ أَيْ طَرِيقُ النَّجَاةِ لَا يَسْلُكُوهَا، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ طَرِيقُ الْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ثُمَّ عَلَّلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا فِيهَا، وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَقَوْلُهُ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ إِنَّمَا نُجَازِيهِمْ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَسْلَفُوهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ الَّذِي اتَّخَذَهُ لَهُمُ السَّامِرِيُّ، مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي كَانُوا اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ فَشَكَّلَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى فِيهِ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا له خوار: والخوار صَوْتُ الْبَقَرِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَهَابِ موسى لميقات ربه تعالى فأعلمه اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الطُّورِ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 85] .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْعِجْلِ هَلْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا لَهُ خُوَارٌ أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْ ذَهَبٍ إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ فَيُصَوِّتُ كَالْبَقَرِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمَّا صَوَّتَ لَهُمُ الْعِجْلُ رَقَصُوا حَوْلَهُ وَافْتَتَنُوا بِهِ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ [طه: 88] قال اللَّهُ تَعَالَى:
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [طه: 88] .
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي ضَلَالِهِمْ بِالْعِجْلِ وَذُهُولِهِمْ عن خالق السموات وَالْأَرْضِ وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ أَنْ عَبَدُوا مَعَهُ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى خَيْرٍ وَلَكِنْ غَطَّى عَلَى أعين بصائرهم
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 60.(3/427)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
عَمَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» «1» وَقَوْلُهُ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ رَبَّنَا مُنَادَى وَتَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِذَنْبِهِمْ والتجاء إلى الله عز وجل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لما رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ تَعَالَى وَهُوَ غَضْبَانُ أَسِفٌ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْأَسَفُ أَشَدُّ الْغَضَبِ «2» . قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي يقول بئس ما صنعتم في عبادة الْعِجْلَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبْتُ وَتَرَكْتُكُمْ، وَقَوْلُهُ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يَقُولُ اسْتَعْجَلْتُمْ مَجِيئِي إِلَيْكُمْ وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قِيلَ كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدٍ وَقِيلَ مِنْ يَاقُوتٍ وَقِيلَ مِنْ بَرَدٍ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» «3» ثُمَّ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ غَضَبًا عَلَى قَوْمِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذَا قَوْلًا غَرِيبًا لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَى حِكَايَةِ قَتَادَةَ وَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِالرَّدِّ وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ قَتَادَةُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِيهِمْ كَذَّابُونَ وَوَضَّاعُونَ وَأَفَّاكُونَ وَزَنَادِقَةٌ.
وَقَوْلُهُ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَّرَ فِي نَهْيِهِمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:
92- 94] وَقَالَ هَاهُنَا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال: ابن أم ليكون أرق وَأَنْجَعَ عِنْدَهُ وَإِلَّا فَهُوَ شَقِيقُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَلَمَّا تَحَقَّقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَاءَةَ سَاحَةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طه: 90] فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ مُوسَى
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب باب 116، وأحمد في المسند 5/ 194، 6/ 450.
(2) تفسير الطبري 6/ 64، ولفظه: الأسف منزلة وراء الغضب، أشد من ذلك.
(3) أخرجه أحمد في المسند 1/ 215، 271.(3/428)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ أَخْبَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 153]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
أَمَّا الْغَضَبُ الَّذِي نَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: لَمْ يَقْبَلْ لَهُمْ تَوْبَةً حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَةِ: 54] وَأَمَّا الذِّلَّةُ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ ذُلًّا وَصَغَارًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ نَائِلَةٌ لِكُلٍّ مَنِ افْتَرَى بِدْعَةً فَإِنَّ ذل البدعة ومخالفة الرشاد مُتَّصِلَةٌ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ ذُلَّ الْبِدْعَةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ وَإِنْ هَمْلَجَتْ «1» بِهِمُ الْبَغْلَاتُ وَطَقْطَقَتْ «2» بِهِمُ الْبَرَاذِينُ: وَهَكَذَا رَوَى أَيُّوبُ السِّخْتَيَانِيُّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فقال: هِيَ وَاللَّهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ «4» .
ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عِبَادَهُ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عِبَادِهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ شِقَاقٍ، وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ أَيْ: يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة مِنْ بَعْدِها أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفِعْلَةِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبَانٌ حدثنا قَتَادَةُ عَنْ عَزْرَةَ عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي عَنْ الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَتَلَاهَا عَبْدُ اللَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بها ولم ينههم عنها.
__________
(1) الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة.
(2) الطقطقة: صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 71.
(4) تفسير الطبري 6/ 72.(3/429)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
[سورة الأعراف (7) : آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَمَّا سَكَتَ أَيْ سَكَنَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَيْ غَضَبُهُ عَلَى قَوْمِهِ أَخَذَ الْأَلْواحَ أَيْ الَّتِي كَانَ أَلْقَاهَا مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ غَيْرَةً لِلَّهِ وغضبا له وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهَا لَمَّا أَلْقَاهَا تَكَسَّرَتْ ثُمَّ جَمَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فَوَجَدَ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَةً، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَذَهَبَ وَزَعَمُوا أَنَّ رُضَاضَهَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِي خَزَائِنِ الْمُلُوكِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ هَذَا وَأَمَّا الدليل الواضح عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ حِينَ أَلْقَاهَا وَهِيَ مِنْ جوهر الجنة فقد أخبر تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا بَعْدَ مَا أَلْقَاهَا وَجَدَ فِيهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ضَمَّنَ الرَّهْبَةَ مَعْنَى الْخُضُوعِ، وَلِهَذَا عَدَّاهَا بِاللَّامِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَخَذَ الْأَلْواحَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الألواح أمة هم الآخرون السابقون أي آخرون في الخلق سابقون فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ في الألواح أمة أنا جيلهم في صدورهم يقرءونها وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ نَظَرًا حَتَّى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا: لم يعطه أحد مِنَ الْأُمَمِ. قَالَ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَبِالْكِتَابِ الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلون الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ.
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً صَدَقَاتُهُمْ يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَقَبِلَتْ مِنْهُ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ تُرِكَتْ فَتَأْكُلُهَا السِّبَاعُ والطير وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم قال رب فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أمثالها إلى سبعمائة، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هم المشفوعون وَالْمَشْفُوعُ لَهُمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ قَتَادَةُ فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبَذَ الْأَلْوَاحَ وَقَالَ اللهم اجعلني من أمة أحمد.(3/430)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا الله أن قَالُوا اللَّهُمَّ أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ أَحَدًا قَبْلَنَا وَلَا تُعْطِهِ أَحَدًا بَعْدَنَا، فَكَرِهَ اللَّهُ ذلك من دعائهم فأخذتهم الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ «1» الْآيَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّهَ أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ العجل ووعدهم موعدا وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا على عينيه ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ المكان قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [البقرة: 55] يا موسى حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] فإنك قد كلمته فأرناه فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [البقرة: 55] فَمَاتُوا فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا لَقِيتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ «2» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ فِيمَا ذُكِرَ لِي حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وخرجوا معه للقاء ربه لِمُوسَى: اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ دنا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ وَقَالَ لِلْقَوْمِ ادْنُوا وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَةِ مُوسَى نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ وَدَنَا الْقَوْمُ، حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا:
يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ... فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وهي الصاعقة فالتقت أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا، فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قَدْ سَفِهُوا، أَفَتُهْلِكُ مَنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عبيد السَّلُولِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ وَشَبَّرُ وَشَبِيرُ فَانْطَلَقُوا إِلَى سَفْحِ جَبَلٍ فَنَامَ هَارُونُ عَلَى سَرِيرٍ فَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لَهُ: أين
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 74.
(2) تفسير الطبري 6/ 73.(3/431)
هَارُونُ؟ قَالَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ حَسَدْتَنَا عَلَى خُلُقِهِ وَلِينِهِ أَوْ كَلِمَةٍ نَحْوَهَا قَالَ: فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ قَالَ: فَاخْتَارُوا سَبْعِينَ رَجُلًا قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَالُوا: يَا هَارُونُ مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: مَا قَتَلَنِي أَحَدٌ وَلَكِنْ تَوَفَّانِي اللَّهُ، قَالُوا: يا موسى لن تعصى بعد اليوم فأخذتهم الرجفة قال فجعل موسى يُرْجِعُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ قَالَ: فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ «1» .
هَذَا أثر غريب جدا وعمارة بن عبيد هَذَا لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلُولَ عن علي فذكره.
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جرير: إنهم أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُزَايِلُوا قَوْمَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ وَلَا نَهْوَهُمْ، وَيَتَوَجَّهُ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِ مُوسَى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا وَقَوْلُهُ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أَيِ ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ، يَقُولُ إِنِ الْأَمْرُ إِلَّا أَمْرُكَ وَإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لَكَ فَمَا شِئْتَ كَانَ، تَضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، فَالْمُلْكُ كُلُّهُ لَكَ وَالْحُكْمُ كُلُّهُ لَكَ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
وَقَوْلُهُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ الْغَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ وَالرَّحْمَةُ إِذَا قُرِنَتْ مَعَ الْغَفْرِ يُرَادُ بها أن لا يُوقِعَهُ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ أي لا يغفر الذنب إِلَّا أَنْتَ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ الفصل الأول من الدعاء لدفع الْمَحْذُورِ وَهَذَا لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ أَوْجِبْ لَنَا وَأَثْبِتْ لَنَا فِيهِمَا حَسَنَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير الحسنة في سورة البقرة «2» .
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا إليك، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: وَهُوَ كَذَلِكَ لُغَةً، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ شَرِيكٍ عن جابر عن عبد الله بن يحيى عن علي قَالَ:
إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ جَابِرٌ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ ضعيف.
يقول تعالى مجيبا لنفسه في قوله إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الآية، قال
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 74.
(2) في تفسير الآية 201 من سورة البقرة. [.....](3/432)
عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ وَأَحْكُمُ مَا أُرِيدُ، وَلِيَ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ آيَةٌ عَظِيمَةُ الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ، كقوله تعالى إِخْبَارًا عَنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غَافِرٍ: 7] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُشَمِيِّ، حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ أعرابي فأناخ راحلته ثم علقها ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى رَاحِلَتَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهَا ثُمَّ رَكِبَهَا ثُمَّ نَادَى اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتَقُولُونَ هَذَا أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ؟» قَالُوا بَلَى قَالَ: «لَقَدْ حَظَرْتَ رَحْمَةً وَاسِعَةً إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقْ مِائَةَ رَحْمَةٍ فأنزل رحمة يَتَعَاطَفُ بِهَا الْخَلْقُ جِنُّهَا وَإِنْسُهَا وَبَهَائِمُهَا وَأَخَّرَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أم بعيره؟ رواه أحمد وأبو دَاوُدَ «2» ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سليمان عن أبي عثمان عن سلمان عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الْخَلْقُ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ على أولادها وأخر تسعة وَتِسْعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ «4» ، فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ هُوَ ابْنُ طَرْخَانَ وَدَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلٍّ عَنْ سَلْمَانَ هُوَ الْفَارِسِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «إن لِلَّهِ مِائَةُ رَحْمَةٍ عِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَجَعْلِ عِنْدَكُمْ وَاحِدَةً تَتَرَاحَمُونَ بِهَا بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ضَمَّهَا إِلَيْهِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِلَّهِ مِائَةُ رَحْمَةٍ فَقَسَّمَ مِنْهَا جزءا واحدا بين الخلق به يَتَرَاحَمُ النَّاسُ وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «7» مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وقال
__________
(1) المسند 4/ 312.
(2) كتاب الأدب باب 36.
(3) المسند 5/ 439.
(4) كتاب التوبة حديث 17، 20.
(5) المسند 3/ 55، 56.
(6) المسند 3/ 55.
(7) كتاب الزهد باب 35.(3/433)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَعْدٌ أَبُو غَيْلَانَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ الْفَاجِرُ فِي دِينِهِ الْأَحْمَقُ فِي مَعِيشَتِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ الَّذِي قَدْ مَحَشَتْهُ «1» النَّارُ بِذَنْبِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَغْفِرَنَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةً يَتَطَاوَلُ لَهَا إِبْلِيسُ رَجَاءَ أَنْ تُصِيبَهُ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَسَعْدٌ هَذَا لَا أَعْرِفُهُ.
وَقَوْلُهُ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الْآيَةَ، يَعْنِي فَسَأُوجِبُ حُصُولَ رَحْمَتِي مِنَّةً مِنِّي وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: 54] وَقَوْلُهُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَيْ سَأَجْعَلُهَا لِلْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَيْ الشِّرْكَ وَالْعَظَائِمَ مِنَ الذُّنُوبِ. قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ قيل زكاة النفوس، وقيل الْأَمْوَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لَهُمَا فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ أَيْ يصدقون.
[سورة الأعراف (7) : آية 157]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهَذِهِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ بَشَّرُوا أُمَمَهُمْ بِبَعْثِهِ وَأَمَرُوهُمْ بِمُتَابَعَتِهِ وَلَمْ تَزَلْ صِفَاتُهُ مَوْجُودَةً فِي كُتُبِهِمْ يَعْرِفُهَا علماؤهم وأحبارهم. كما روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ قال جلبت حلوبة إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فرغت من بيعي قُلْتُ لَأَلْقِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَلْأَسْمَعَنَّ مِنْهُ قَالَ فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ فَتَبِعْتُهُمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَنِ ابْنٍ له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ هَذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي» فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ لَا فَقَالَ ابْنُهُ إِي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لِنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أنك رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ «أَقِيمُوا الْيَهُودِيَّ عَنْ أَخِيكُمْ» ثم تولى كَفَنَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ الحاكم صاحب المستدرك أخبرنا محمد بن عبد الله بن إسحاق البغوي حدثنا
__________
(1) محشته النار: أحرقت جلده حتى ظهر العظم.
(2) المسند 5/ 411.(3/434)
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ إِدْرِيسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ قَالَ بُعِثْتُ أَنَا وَرَجُلٌ آخَرُ إِلَى هِرَقْلَ صَاحِبِ الرُّومِ نَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْغُوطَةَ يَعْنِي غُوطَةَ دِمَشْقَ فَنَزَلْنَا عَلَى جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيِّ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا بِرَسُولِهِ نُكَلِّمُهُ فَقُلْنَا وَاللَّهِ لَا نُكَلِّمُ رَسُولًا وإنما بُعِثْنَا إِلَى الْمَلِكِ، فَإِنْ أَذِنَ لَنَا كَلَّمْنَاهُ وَإِلَّا لَمْ نُكَلِّمِ الرَّسُولَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ.
قَالَ: فَأَذِنَ لَنَا فَقَالَ: تَكَلَّمُوا فَكَلَّمَهُ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فإذا عليه ثياب سود فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ وَمَا هَذِهِ الَّتِي عَلَيْكَ؟ فقال لبستها وحلفت أن لا أَنْزَعَهَا حَتَّى أُخْرِجَكُمْ مِنَ الشَّامِ قُلْنَا وَمَجْلِسَكَ هَذَا وَاللَّهِ لَنَأْخُذَنَّهُ مِنْكَ وَلَنَأْخُذَنَّ مُلْكَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَصُومُونَ بِالنَّهَارِ وَيَقُومُونَ بِاللَّيْلِ فكيف صومكم؟
فأخبرناه، فملىء وَجْهُهُ سَوَادًا فَقَالَ: قُومُوا وَبَعَثَ مَعَنَا رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ لَنَا الَّذِي مَعَنَا: إِنَّ دَوَابَّكُمْ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ مَدِينَةَ الْمَلَكِ فَإِنْ شِئْتُمْ حَمَلْنَاكُمْ عَلَى بِرَاذِينَ وَبِغَالٍ، قُلْنَا وَاللَّهِ لَا نَدْخُلُ إِلَّا عَلَيْهَا فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ أنهم يأبون ذلك فأمرهم أن ندخل على رواحلنا.
فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له فَأَنَخْنَا فِي أَصْلِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْنَا، فَقُلْنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَاللَّهُ يعلم لقد انتفضت الْغُرْفَةُ «1» حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا عِذْقٌ تَصَفَقُهُ الرِّيَاحُ، قال: فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا عَلَيْنَا بِدِينِكُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا أَنِ ادْخُلُوا فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وهو على فراش له وعنده بطارقة مِنَ الرُّومُ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي مَجْلِسِهِ أَحْمَرُ وَمَا حَوْلَهُ حُمْرَةٌ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مِنَ الْحُمْرَةِ، فدنونا منه فضحك فقال: ما عَلَيْكُمْ لَوْ حَيَّيْتُمُونِي بِتَحِيَّتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ؟ وَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ فَصِيحٌ بِالْعَرَبِيَّةِ كَثِيرُ الْكَلَامِ فَقُلْنَا إِنْ تَحِيَّتَنَا فِيمَا بَيْنَنَا لَا تَحِلُّ لَكَ وتحيتك التي تحيا بها، لا يحل لَنَا أَنْ نُحَيِّيَكَ بِهَا.
قَالَ كَيْفَ تَحِيَّتُكُمْ فيما بينكم؟ قلنا السلام عليكم قال فكيف تحيون ملككم قلنا بها قال:
فكيف يَرُدُّ عَلَيْكُمْ؟ قُلْنَا بِهَا، قَالَ فَمَا أَعْظَمُ كَلَامِكُمْ؟ قُلْنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَلَمَّا تَكَلَّمْنَا بِهَا وَاللَّهُ يَعْلَمُ لَقَدْ انتفضت الْغُرْفَةُ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا قَالَ فَهَذِهِ الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة كلما قلتموها في بيوتكم انتفضت عَلَيْكُمْ غُرَفُكُمْ؟ قُلْنَا لَا، مَا رَأَيْنَاهَا فَعَلَتْ هَذَا قَطُّ إِلَّا عِنْدَكَ، قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم وإني قد خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي قُلْنَا لِمَ؟ قَالَ لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا تَكُونَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ حِيَلِ النَّاسِ، ثُمَّ سَأَلَنَا عَمَّا أَرَادَ فَأَخْبَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ كَيْفَ صَلَاتُكُمْ وَصَوْمُكُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: قوموا
__________
(1) انتفضت الغرفة: أي تشققت وسمع صوتها.(3/435)
فَأَمَرَ لَنَا بِمَنْزِلٍ حَسَنٍ وَنُزُلٍ كَثِيرٍ فَأَقَمْنَا ثَلَاثًا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا لَيْلًا فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَاسْتَعَادَ قَوْلَنَا فَأَعَدْنَاهُ.
ثُمَّ دَعَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الرَّبْعَةِ «1» الْعَظِيمَةِ مُذْهَبَةٍ فِيهَا بُيُوتٌ صِغَارٌ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ فَفَتَحَ بَيْتًا وَقُفْلًا فَاسْتَخْرَجَ «حَرِيرَةً سَوْدَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ حَمْرَاءُ، وَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمُ الْأَلْيَتَيْنِ لَمْ أَرَ مِثْلَ طُولِ عُنُقِهِ، وَإِذَا لَيْسَتْ لَهُ لِحْيَةٌ وَإِذَا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله فقال:
أَتَعْرِفُونَ هَذَا، قُلْنَا لَا قَالَ: هَذَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا هُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ شَعْرًا، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ وَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا لَهُ شَعْرٌ كَشَعْرِ الْقِطَطِ أَحْمَرُ الْعَيْنَيْنِ ضَخْمُ الْهَامَةِ حَسَنُ اللِّحْيَةِ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: هَذَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ وَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ صَلْتُ الْجَبِينِ «2» طَوِيلُ الْخَدِّ أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ يَبْتَسِمُ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَإِذَا فِيهِ صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا وَاللَّهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعرفون هذا؟ قلنا نعم هذا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَبَكَيْنَا قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَامَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ وَقَالَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَهُوَ قُلْنَا نَعَمْ إِنَّهُ لَهُوَ كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ فَأَمْسَكَ سَاعَةً يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ آخِرَ الْبُيُوتِ وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لَكُمْ لِأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ أَدْمَاءُ سَحْمَاءُ وَإِذَا رَجُلٌ جَعْدٌ قَطَطٌ غَائِرُ العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان متقلص الشَّفَةِ كَأَنَّهُ غَضْبَانُ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وإلى جنبه صُورَةٌ تُشْبِهُهُ إِلَّا أَنَّهُ مُدْهَانُّ الرَّأْسِ عَرِيضُ الجبين في عينيه نبل فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا قَالَ: هَذَا هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلِ آدَمَ سَبْطٍ رَبْعَةٍ كَأَنَّهُ غَضْبَانُ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: هَذَا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمزة أَقْنَى خَفِيفُ الْعَارِضِينَ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: هَذَا إِسْحَاقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ منه حَرِيرَةً بَيْضَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ تُشْبِهُ إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى شَفَتِهِ خَالٌ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: هَذَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ أَبْيَضَ حَسَنِ الْوَجْهِ أَقْنَى الْأَنْفِ حَسَنِ الْقَامَةِ يَعْلُو وَجْهَهُ نُورٌ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْخُشُوعُ يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ قَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيكم صلّى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً بيضاء فإذا فيها صورة كصورة آدم كَأَنَّ وَجْهَهَ الشَّمْسُ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قلنا لا، قال: هذا يوسف
__________
(1) الرّبعة: إناء مربع.
(2) صلت الجبين: أي واسعة، وقيل: الصلت: البارز، وقيل: الأملس.(3/436)
عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أَحْمَرَ حَمْشِ السَّاقَيْنِ أَخْفَشِ الْعَيْنَيْنِ ضَخْمِ الْبَطْنِ رَبْعَةٍ مُتَقَلِّدٍ سَيْفًا فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ:
هَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ ضَخْمِ الْأَلْيَتَيْنِ طَوِيلِ الرِّجْلَيْنِ رَاكِبٍ فَرَسًا فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: هَذَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا شَابٌّ شَدِيدٌ سَوَادِ اللِّحْيَةِ كَثِيرُ الشِّعْرِ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قُلْنَا مَنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الصُّوَرُ؟ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَى مَا صُوِّرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِأَنَّا رَأَيْنَا صُورَةَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْأَنْبِيَاءَ من ولده فأنزل عليه صورهم، فكانت فِي خِزَانَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَدَفَعَهَا إِلَى دَانْيَالَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كُنْتُ عَبْدًا لِأَشَرِّكُمْ مِلْكَةً حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ أَجَازَنَا فَأَحْسَنَ جَائِزَتَنَا وَسَرَّحَنَا.
فَلَمَّا أَتَيْنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا أَرَانَا وَبِمَا قَالَ لَنَا وَمَا أَجَازَنَا، قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مِسْكِينٌ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ وَالْيَهُودُ يَجِدُونَ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عندهم، وهكذا أورده الحافظ الكبير الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ الْحَاكِمِ إِجَازَةً فَذَكَرَهُ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ كَصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحَ بِهِ قُلُوبًا غُلْفًا وَآذَانًا صُمًّا وَأَعْيُنًا عُمْيًا، قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ لَقِيتُ كَعْبًا فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَمَا اخْتَلَفَ حَرْفًا إِلَّا أَنَّ كَعْبًا قَالَ بِلُغَتِهِ: قَالَ قُلُوبًا غُلُوفِيًا وَآذَانًا صُمُومِيًا وَأَعْيُنًا عُمُومِيًا.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «2» فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ فُلَيْحٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو ويصفح، وذكر حديث عبد الله بن عمرو، ثم قال: ويقع في كلام كثير من
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 84.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 48، باب 3، والبيوع باب 50. [.....](3/437)
السَّلَفِ إِطْلَاقُ التَّوْرَاةِ عَلَى كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يُشْبِهُ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن إدريس بن وراق بن الْحُمَيْدِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ وَلَدِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ سَعِيدٍ وَهِيَ جَدَّتِي عَنْ أَبِيهَا سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ: خَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ فَلَمَّا كُنْتُ بِأَدْنَى الشَّامِ لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ رَجُلٌ نَبِيًّا؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ صُورَتَهُ إِذَا رَأَيْتَهَا؟ قُلْتُ نَعَمْ، فَأَدْخَلَنِي بَيْتًا فِيهِ صُوَرٌ فَلَمْ أَرَ صُورَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فبينا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَيْنَا فَقَالَ:
فِيمَ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ فَذَهَبَ بِنَا إِلَى مَنْزِلِهِ فَسَاعَةَ مَا دَخَلْتُ نَظَرْتُ إِلَى صُورَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا رَجُلٌ آخِذٌ بِعَقِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الْقَابِضُ عَلَى عَقِبِهِ؟ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِلَّا هَذَا النَّبِيَّ فَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَهَذَا الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ وَإِذَا صِفَةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو داود: حدثنا عمر بن حفص أبو عمرو الضَّرِيرُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيَّ أَخْبَرَهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنِ الْأَقْرَعِ مُؤَذِّنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ إِلَى الْأَسْقُفِ فَدَعَوْتُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ تَجِدُنِي فِي الْكِتَابِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ تَجِدُنِي؟ قَالَ: أَجِدُكَ قَرْنًا فَرَفَعَ عُمَرُ الدُّرَّةَ وَقَالَ: قَرْنُ مَهْ؟ قَالَ: قَرْنُ حَدِيدٍ أَمِيرٌ شَدِيدٌ، قَالَ: فَكَيْفَ تَجِدُ الَّذِي بَعْدِي؟ قَالَ: أَجِدُ خَلِيفَةً صَالِحًا غَيْرَ أَنَّهُ يُؤْثِرُ قَرَابَتَهُ، قَالَ عُمَرُ يَرْحَمُ اللَّهُ عُثْمَانَ ثَلَاثًا قَالَ: كَيْفَ تَجِدُ الَّذِي بَعْدَهُ؟ قال: أجده صَدَأَ حَدِيدٍ، قَالَ فَوَضَعَ عُمَرُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: يَا دَفْرَاهُ يَا دَفْرَاهُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ خَلِيفَةٌ صَالِحٌ وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْلَفُ حِينَ يُسْتَخْلَفُ وَالسَّيْفُ مَسْلُولٌ وَالدَّمُ مُهْرَاقٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ هَذِهِ صِفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وهكذا كانت حَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عَنْهُ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ مَا بَعَثَهُ الله بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ كَمَا أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَبْلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النَّحْلِ: 36] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ «إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ له
__________
(1) المسند 3/ 497، 5/ 425.(3/438)
أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفُرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ منكم بعيد فأنا أبعدكم منه» رواه الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناد جيد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأعمش عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إذا سمعتم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى وَالَّذِي هو أهنى وَالَّذِي هُوَ أَتْقَى ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى عن ابن سَعِيدٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَاهُ وَأَهْنَاهُ وَأَتْقَاهُ.
وَقَوْلُهُ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ أَيْ يُحِلُّ لَهُمْ مَا كَانُوا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالِحَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا ضَيَّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالرِّبَا وَمَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى «2» .
وَقَالَ بعض العلماء فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فَهُوَ طَيِّبٌ نَافِعٌ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ فَهُوَ خَبِيثٌ ضَارٌّ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ يَرَى التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّيْنِ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لَهُ وَكَذَا احتج بها من ذهب من العلماء، إلا أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي حِلِّ الْمَآكِلِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ عَلَى تَحْلِيلِهَا وَلَا تَحْرِيمِهَا إِلَى مَا اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ فِي حَالِ رَفَاهِيَتِهَا وَكَذَا فِي جَانِبِ التَّحْرِيمِ إِلَى مَا اسْتَخْبَثَتْهُ وَفِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أَيْ إِنَّهُ جَاءَ بِالتَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحَةِ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السمحة» «3» وقال صلّى الله عليه وسلم لِأَمِيرَيْهِ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» «4» وَقَالَ صَاحِبُهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ «5» .
وَقَدْ كَانَتِ الأمم التي قَبْلَنَا فِي شَرَائِعِهِمْ ضِيقٌ عَلَيْهِمْ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أُمُورَهَا وَسَهَّلَهَا لَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ
__________
(1) المسند 1/ 122، 130، 131، 385، 415.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 85.
(3) أخرجه أحمد في المسند 5/ 266، 6/ 116، 233.
(4) أخرجه البخاري في الجهاد باب 164، ومسلم في الجهاد حديث 71.
(5) أخرجه أحمد في المسند 4/ 420، 423.(3/439)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
تَعْمَلْ» «1» وَقَالَ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» «2» وَلِهَذَا قَدْ: أَرْشَدَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يَقُولُوا رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 286] وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «3» أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: بَعْدَ كُلِّ سُؤَالٍ مِنْ هَذِهِ قَدْ فَعَلْتُ قَدْ فَعَلْتُ، وَقَوْلُهُ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ أي عظموه ووقروه، وقوله وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أَيِ الْقُرْآنَ وَالْوَحْيَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُبَلِّغًا إِلَى النَّاسِ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[سورة الأعراف (7) : آية 158]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ يَا مُحَمَّدُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً أَيْ جَمِيعُكُمْ وَهَذَا مِنْ شَرَفِهِ وعظمته صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى النَّاسِ كافة كما قال الله تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الْأَنْعَامِ: 19] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آلِ عِمْرَانَ: 20] .
وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ كَمَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ «4» رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عبد الله بن العلاء بن زير حدثني يسر بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فانصرف عنه عمر مُغْضَبًا فَأَتْبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدَ غَامَرَ» أَيْ غَاضَبَ وَحَاقَدَ. قَالَ وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إلى
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق باب 11، ومسلم في الإيمان حديث 201، 202.
(2) أخرجه ابن ماجة في الطلاق باب 16.
(3) كتاب الإيمان حديث 199، 200.
(4) كتاب التفسير، تفسير سورة 7، باب 3.(3/440)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ قال أبو الدرداء فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي وَلَا أَقُولُهُ فَخْرًا بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَأَخَّرْتُهَا لأمتي يوم القيامة فهي لمن لا يشرك بالله شيئا» إسناد جَيِّدٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» أَيْضًا: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مضر عن ابن الْهَادِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ «لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ لَمُلِئَ مِنِّي رُعْبًا وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا كَانُوا يَحْرِقُونَهَا وَجُعِلَتْ لِيَ الأرض مسجدا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ وَكَانَ مِنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ قِيلَ لِي سَلْ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ أَيْضًا وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَيْضًا»
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ سَمِعَ بِي مِنْ أُمَّتِي أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» وَهَذَا الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ» «4» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ وَهُوَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمة يهودي
__________
(1) المسند 1/ 301، 350.
(2) المسند 2/ 222.
(3) المسند 4/ 396.
(4) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 240. [.....]
(5) المسند 2/ 350.(3/441)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيتُ خَمْسًا بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِمَنْ كَانَ قَبْلِي وَنُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ سَأَلَ الشَّفَاعَةَ وَإِنِّي قَدِ اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا» وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَمْ أرهم خرجوه والله أعلم.
وله مثله من حديث ابن عمر بسند جيد أيضا وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» «2» .
وَقَوْلُهُ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى في قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمَلِكُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَلَهُ الْحُكْمُ» وَقَوْلُهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَيْ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ وَبُشِّرْتُمْ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُ مَنْعُوتٌ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ النبي الأمي وقوله الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أَيْ يُصَدِّقُ قَوْلَهُ عَمَلُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَاتَّبِعُوهُ أَيْ اسْلُكُوا طَرِيقَهُ وَاقْتَفُوا أَثَرَهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي إلى الصراط المستقيم.
[سورة الأعراف (7) : آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَعْدِلُونَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 113] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آلِ عِمْرَانَ:
199] وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص: 52- 54] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:
__________
(1) المسند 4/ 416.
(2) أخرجه البخاري في التيمم باب 1، ومسلم في المساجد حديث 3، 5.(3/442)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
121] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 107- 109] .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» فِي تَفْسِيرِهَا خَبَرًا عَجِيبًا فَقَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَكَفَرُوا وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا تَبْرَأَ سِبْطٌ مِنْهُمْ مِمَّا صَنَعُوا وَاعْتَذَرُوا وَسَأَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ، فَسَارُوا فِيهِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ فَهُمْ هُنَالِكَ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ يَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَنَا، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء: 104] ووعد الْآخِرَةِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَارُوا فِي السِّرْبِ سَنَةً وَنِصْفًا.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنِ السُّدِّيِّ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قَالَ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ وبينهم نهر من شهد «2» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ «3» وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ وَهَذَا السِّيَاقُ مَكِّيٌّ وَنَبَّهْنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا السِّيَاقِ وذاك بما أغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد والمنة.
[سورة الأعراف (7) : آية 163]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 89.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 88، 89.
(3) انظر تفسير الآية 60 من سورة البقرة.(3/443)
هَذَا السِّيَاقُ هُوَ بَسْطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة:
65] الآية يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَسْئَلْهُمْ أَيْ وَاسْأَلْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ بِحَضْرَتِكَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَفَاجَأَتْهُمْ نِقْمَتُهُ عَلَى صَنِيعِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ فِي الْمُخَالَفَةِ وَحَذِّرْ هَؤُلَاءِ مِنْ كِتْمَانِ صِفَتِكَ الَّتِي يَجِدُونَهَا فِي كُتُبِهِمْ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِإِخْوَانِهِمْ وَسَلَفِهِمْ وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ أَيْلَةُ وَهِيَ عَلَى شَاطِئِ بَحْرِ الْقُلْزُمِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى:
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قَالَ هِيَ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ بَيْنَ مَدْيَنَ وَالطُّورِ «1» وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْقَارِئُ سَمِعْنَا أَنَّهَا أَيْلَةُ «2» وَقِيلَ هِيَ مَدْيَنُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هِيَ قرية يقال لها مقنا بين مدين وعينونا «3» .
وَقَوْلُهُ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أَيْ يَعْتَدُونَ فِيهِ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ لَهُمْ بِالْوَصَاةِ بِهِ إِذْ ذَاكَ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شُرَّعًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ «4» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَوْلُهُ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أَيْ نَخْتَبِرُهُمْ بِإِظْهَارِ السَّمَكِ لَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ فِي الْيَوْمِ الْمُحَرَّمِ عليهم صيده وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لَهُمْ صَيْدُهُ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ نَخْتَبِرُهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يَقُولُ بِفِسْقِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَخُرُوجِهِمْ عَنْهَا «5» .
وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ احْتَالُوا عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِ اللَّهِ بِمَا تَعَاطَوْا مِنَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا فِي الْبَاطِنِ تَعَاطِي الْحَرَامِ وَقَدْ قَالَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ هَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَوَثَّقَهُ وَبَاقِي رِجَالِهِ مَشْهُورُونَ ثِقَاتٌ وَيُصَحِّحُ التِّرْمِذِيُّ بِمِثْلِ هَذَا الإسناد كثيرا.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 91.
(2) تفسير الطبري 6/ 91.
(3) تفسير الطبري 6/ 92.
(4) تفسير الطبري 6/ 93.
(5) تفسير الطبري 6/ 93.(3/444)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 166]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ فِرْقَةٌ ارْتَكَبَتِ الْمَحْذُورَ وَاحْتَالُوا عَلَى اصْطِيَادِ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِرْقَةٌ نَهَتْ عَنْ ذلك وَاعْتَزَلَتْهُمْ وَفِرْقَةٌ سَكَتَتْ فَلَمْ تَفْعَلْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَكِنَّهَا قَالَتْ لِلْمُنْكِرَةِ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً أَيْ لِمَ تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هَلَكُوا وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي نَهْيِكُمْ إِيَّاهُمْ.
قَالَتْ لَهُمُ الْمُنْكِرَةُ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالرَّفْعِ كَأَنَّهُ عَلَى تقدير هذه مَعْذِرَةٌ وَقَرَأَ آخَرُونَ بِالنَّصْبِ أَيْ نَفْعَلُ ذَلِكَ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أَيْ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يقولون ولعل لهذا الْإِنْكَارِ يَتَّقُونَ مَا هُمْ فِيهِ وَيَتْرُكُونَهُ وَيَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ تَائِبِينَ فَإِذَا تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أي فلما أبى الفاعلون قَبُولَ النَّصِيحَةِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيْ ارْتَكَبُوا الْمَعْصِيَةَ بِعَذابٍ بَئِيسٍ فَنَصَّ عَلَى نَجَاةِ النَّاهِينَ وَهَلَاكِ الظَّالِمِينَ وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ مَدْحًا فَيُمْدَحُوا وَلَا ارْتَكَبُوا عَظِيمًا فَيُذَمُّوا وَمَعَ هَذَا فَقَدَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيهِمْ هَلْ كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ أَوْ من الناجين على قولين.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ بَيْنَ مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ وَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ فَإِذَا مَضَى يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا فَمَضَى عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ إِنْ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ فَنَهَتْهُمْ طَائِفَةٌ وَقَالُوا تَأْخُذُونَهَا وَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ سَبْتِكُمْ، فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا غَيًّا وَعُتُوًّا وَجَعَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى تَنْهَاهُمْ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النُّهَاةِ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ وَكَانُوا أَشَدَّ غَضَبًا لِلَّهِ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَقَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَكُلٌّ قَدْ كَانُوا يَنْهَوْنَ فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ نَجَتِ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ قَالُوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ، وَالَّذِينَ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً «1» .
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زيد عن داود بن الحصين عن
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 94.(3/445)
عكرمة عن ابن عباس في الآية، قال: ما أدري أنجا الذين قالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَمْ لَا؟ قَالَ فَلَمْ أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة «1» .
وقال عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ جِئْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمًا وَهُوَ يَبْكِي وَإِذَا الْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ فَأَعْظَمْتُ أن أدنو منه ثُمَّ لَمْ أَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَقَدَّمْتُ فجلست فقلت: ما يبكيك يا ابن عَبَّاسٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْوَرَقَاتِ قَالَ وَإِذَا هُوَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَالَ تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ كان بها حي من اليهود سِيقَتِ الْحِيتَانُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ ثُمَّ غَاصَتْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَغُوصُوا بَعْدَ كَدٍّ ومؤنة شديدة كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظُهُورُهَا لِبُطُونِهَا بِأَفْنِيَتِهِمْ فَكَانُوا كَذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ.
ثُمَّ إِنِ الشَّيْطَانَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إنما نهيتهم عن أكلها وأخذها وصيدها يَوْمَ السَّبْتِ فَخُذُوهَا فِيهِ، وَكُلُوهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، فَقَالَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ نُهِيتُمْ عَنْ أَكْلِهَا وَأَخْذِهَا وَصَيْدِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَتِ الْجُمُعَةُ الْمُقْبِلَةُ فَغَدَتْ طَائِفَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَأَبْنَائِهَا وَنِسَائِهَا وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ الْيَمِينِ وَتَنَحَّتْ وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ اليسار وسكتت.
وقال الأيمنون ويلكم اللَّهَ، نَنْهَاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَقَالَ الْأَيْسَرُونَ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قَالَ الْأَيْمَنُونَ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي ينتهون، إن ينتهوا فهو أحب إلينا أن لا يُصَابُوا وَلَا يَهْلِكُوا وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا فَمَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فَمَضَوْا عَلَى الْخَطِيئَةِ وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ فَقَدْ فَعَلْتُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا نُبَايِتُكُمُ اللَّيْلَةَ فِي مَدِينَتِكُمْ وَاللَّهِ مَا نَرَاكُمْ تُصْبِحُونَ حَتَّى يُصَبِّحَكُمُ اللَّهُ بِخَسْفٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ بَعْضِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعَذَابِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا ضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ وَنَادَوْا فَلَمْ يُجَابُوا فَوَضَعُوا سُلَّمًا وَأَعْلَوْا سُورَ الْمَدِينَةِ رَجُلًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، قِرَدَةٌ وَاللَّهِ تعادى تعادى لَهَا أَذْنَابٌ.
قَالَ فَفَتَحُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ فَعَرَفَتِ الْقُرُودُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ وَلَا تَعْرِفُ الْإِنْسُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْقِرَدَةِ فَجَعَلَتِ الْقُرُودُ يَأْتِيهَا نَسِيبُهَا من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ كَذَا فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا: أَيْ نَعَمْ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ قَالَ: فَأَرَى الَّذِينَ نَهَوْا قَدْ نَجَوْا وَلَا أَرَى الْآخَرِينَ ذُكِرُوا وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا، قَالَ: قُلْتُ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ؟ وَقَالُوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ قَالَ: فَأَمَرَ لِي فَكُسِيتُ ثَوْبَيْنِ غَلِيظَيْنِ «2» ، وكذا روى مجاهد عنه.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 95.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 95، 96. [.....](3/446)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا يُونُسُ أَخْبَرَنَا أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: زَعَمَ ابْنُ رُومَانَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:
163] قَالَ: كَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ فَإِذَا كَانَ الْمَسَاءُ ذَهَبَتْ فَلَا يُرَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَى يَوْمِ السَّبْتِ الْآخَرِ، فَاتَّخَذَ لِذَلِكَ رَجُلٌ خَيْطًا وَوَتَدًا فَرَبَطَ حُوتًا مِنْهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا لَيْلَةَ الْأَحَدِ أَخَذَهُ فَاشْتَوَاهُ، فَوَجَدَ النَّاسُ رِيحَهُ، فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ فَإِنَّهُ جِلْدُ حُوتٍ وَجَدْنَاهُ فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ الْآخَرُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَالَ رَبَطَ حُوتَيْنِ فَلَمَّا أَمْسَى مِنْ ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجدوا رائحة فجاؤوا فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ شِئْتُمْ صَنَعْتُمْ كَمَا أَصْنَعُ.
فَقَالُوا لَهُ: وَمَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ وَكَانَتْ لَهُمْ مَدِينَةٌ لَهَا رَبَضٌ يُغْلِقُونَهَا عَلَيْهِمْ فَأَصَابَهُمْ من المسخ ما أصابهم فغدا عليهم جيرانهم ممن كَانُوا حَوْلَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ فَوَجَدُوا الْمَدِينَةَ مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ فَنَادَوْا فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمْ فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ فَجَعَلَ الْقِرْدُ يَدْنُو يَتَمَسَّحُ بِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَدْنُو مِنْهُ وَيَتَمَسَّحُ بِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْآثَارِ فِي خَبَرِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[الْقَوْلُ الثَّانِي] أَنَّ السَّاكِتِينَ كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ابْتَدَعُوا السَّبْتَ فَابْتُلُوا فِيهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحِيتَانُ فَكَانُوا إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ شَرَعَتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ فَإِذَا انْقَضَى السَّبْتُ ذَهَبَتْ فَلَمْ تُرَ حَتَّى السَّبْتِ الْمُقْبِلِ فَإِذَا جَاءَ السَّبْتُ جَاءَتْ شُرَّعًا فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا كَذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ حُوتًا فَخَزَمَ أَنْفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ وَتَدًا فِي السَّاحِلِ وَرَبَطَهُ وَتَرَكَهُ فِي الْمَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَخَذَهُ فَشَوَاهُ فَأَكَلَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَلَا يُنْكِرُونَ وَلَا يَنْهَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا عُصْبَةٌ مِنْهُمْ نَهَوْهُ حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ فَفُعِلَ عَلَانِيَةً قَالَ: فَقَالَتْ: طَائِفَةٌ لِلَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ فقالوا: نسخط أَعْمَالَهُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- قِرَدَةً خاسِئِينَ قَالَ ابْنُ عباس كانوا ثلاثا ثُلْثٌ نَهَوْا وَثُلْثٌ قَالُوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ وَثُلْثٌ أَصْحَابُ الْخَطِيئَةِ فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ «2» .
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ رُجُوعَهُ إِلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ فِي نَجَاةِ السَّاكِتِينَ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِهَذَا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ حَالَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 97.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 97، 98.(3/447)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
فِيهِ دَلَالَةٌ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ بَقُوا نجوا. وبئيس فِيهِ قِرَاءَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمَعْنَاهُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ الشَّدِيدُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَلِيمٍ وَقَالَ قَتَادَةُ مُوجِعٌ وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ خاسِئِينَ أَيْ ذليلين حقيرين مهانين.
[سورة الأعراف (7) : آية 167]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
تَأَذَّنَ تَفَعَّلَ من الأذان أَيْ: أَعْلَمَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَمَرَ، وَفِي قُوَّةِ الْكَلَامِ مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْقَسَمِ من هذه اللفظة، ولهذا أتبعت بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْيَهُودِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى الْمَحَارِمِ، وَيُقَالُ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، سَبْعَ سِنِينَ وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الْخَرَاجَ ثُمَّ كَانُوا فِي قَهْرِ الْمُلُوكِ من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية.
قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ الْمَسْكَنَةُ وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ هي الجزية والذي يسومونهم سُوءَ الْعَذَابِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: يَسْتَحَبُّ أَنْ تُبْعَثَ الْأَنْبَاطُ فِي الْجِزْيَةِ قلت: ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصارا للدجال فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ آخِرَ الزَّمَانِ وَقَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ أي لمن عصاه وخالف شَرْعَهُ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَرْنِ الرَّحْمَةِ مع العقوبة لئلا يحصل اليأس فيقرن تَعَالَى بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ كَثِيرًا لِتُبْقَى النُّفُوسُ بين الرجاء والخوف.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 168 الى 170]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ أمما أي طوائف وفرقا كما قال وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء: 104] .(3/448)
مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أَيْ فِيهِمُ الصالح وغير ذلك كقول الْجِنُّ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الْجِنِّ: 11] وَبَلَوْناهُمْ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أَيْ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى الآية يَقُولُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْجِيلِ الَّذِينَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ خَلْفٌ آخَرُ لَا خير فيهم وقد ورثوا دراسة الْكِتَابِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى «1» .
وَقَدْ يَكُونُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أَيْ يَعْتَاضُونَ عَنْ بَذْلِ الْحَقِّ وَنَشْرِهِ بِعَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُسَوِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَعِدُونَهَا بِالتَّوْبَةِ وَكُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقَعُوا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ وكما قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَعْمَلُونَ الذَّنْبَ ثُمَّ يستغفرون الله منه ويعترفون لله فإن عرض ذلك الذنب أخذوه «2» .
وقال مجاهد في قوله تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى قَالَ لَا يُشْرُفُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَخَذُوهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا وَيَتَمَنَّوْنَ الْمَغْفِرَةَ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ «3» ، وقال قتادة في الآية أَيْ وَاللَّهِ لَخَلَفُ سُوءٍ وَرِثُوا الْكِتابَ بَعْدَ أنبيائهم ورسلهم أورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله تعالى فِي آيَةٍ أُخْرَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ [مريم: 59] الآية قَالَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا تَمَنَّوْا عَلَى اللَّهِ أَمَانِيَّ وَغَرَّةً يَغْتَرُّونَ بِهَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ لَا يشغلهم شَيْءٍ وَلَا يَنْهَاهُمْ شَيْءٌ عَنْ ذَلِكَ كُلَّمَا هف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يُبَالُونَ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا «4» .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَوْلِهِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ إِلَى قَوْلِهِ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يَسْتَقْضُونَ قَاضِيًا إِلَّا ارْتَشَى فِي الْحُكْمِ وَإِنَّ خِيَارَهُمُ اجْتَمَعُوا فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا اسْتَقْضَى ارْتَشَى فَيُقَالُ لَهُ مَا شَأْنُكَ تَرْتَشِي فِي الْحُكْمِ؟ فَيَقُولُ سَيَغْفِرُ لِي، فَتَطْعَنُ عَلَيْهِ الْبَقِيَّةُ الْآخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا صَنَعَ فَإِذَا مَاتَ أَوْ نَزَعَ وَجُعِلَ مَكَانَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَطْعَنُ عَلَيْهِ فَيَرْتَشِي، يَقُولُ وَإِنْ يَأْتِ الْآخَرِينَ عَرْضُ الدُّنْيَا يَأْخُذُوهُ «5» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الآية يقول
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 105.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 105.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 106.
(4) انظر تفسير الطبري 6/ 106.
(5) انظر تفسير الطبري 6/ 106.(3/449)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي صَنِيعِهِمْ هَذَا مَعَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ لَيُبَيِّنُنَّ الْحَقَّ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ كَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قال فيما يتمنون عَلَى اللَّهِ مِنْ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَا يَزَالُونَ يَعُودُونَ فِيهَا وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ يرغبهم فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ وَبِيلِ عِقَابِهِ، أَيْ وَثَوَابِي وَمَا عِنْدِي خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى الْمَحَارِمَ وَتَرَكَ هَوَى نَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ يَقُولُ أَفَلَيِسَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَاضُوا بِعَرَضِ الدُّنْيَا عَمَّا عِنْدِي عَقْلٌ يَرْدَعُهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، ثُمَّ أَثْنَى تَعَالَى عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِكِتَابِهِ الَّذِي يَقُودُهُ إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أَيْ اعْتَصَمُوا بِهِ وَاقْتَدَوْا بِأَوَامِرِهِ، وَتَرَكُوا زَوَاجِرَهُ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
[سورة الأعراف (7) : آية 171]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس قوله وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ يَقُولُ رَفَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [النِّسَاءِ: 154] وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ رؤوسهم وهو قوله وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ وَقَالَ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثُمَّ سار بهم موسى عليه السلام إلى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عنه الغضب وأمرهم بالذي أمر الله أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أن يقروا بها حتى نتق اللَّهُ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ قَالَ: رَفَعَتْهُ الملائكة فوق رؤوسهم رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِطُولِهِ.
وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ هَذَا كِتَابٌ أَتَقْبَلُونَهُ بِمَا فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ وَمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَمَا أَمَرَكُمْ وَمَا نَهَاكُمْ؟ قَالُوا: انْشُرْ عَلَيْنَا مَا فيها فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قَبِلْنَاهَا. قَالَ: اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا قَالُوا: لَا حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهَا كَيْفَ حُدُودُهَا وَفَرَائِضُهَا فراجعوه مِرَارًا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَانْقَلَعَ فَارْتَفَعَ في السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وَبَيْنَ السَّمَاءِ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلَا تَرَوْنَ مَا يَقُولُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ لَئِنْ لَمْ تَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ بِمَا فِيهَا لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهَذَا الْجَبَلِ قَالَ: فَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
قَالَ: لَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ خَرَّ كُلُّ رَجُلٍ سَاجِدًا عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْجَبَلِ فَرِقًا مِنْ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَيْسَ الْيَوْمَ فِي الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ يَسْجُدُ إِلَّا عَلَى حاجبه(3/450)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
الْأَيْسَرِ يَقُولُونَ هَذِهِ السَّجْدَةُ الَّتِي رُفِعَتْ بِهَا الْعُقُوبَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَمَّا نَشَرَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ كَتَبَهُ بِيَدِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ فَلَيْسَ الْيَوْمَ يَهُودِيٌّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ تُقْرَأُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ إِلَّا اهْتَزَّ وَنَفَضَ لَهَا رَأْسَهُ «1» أَيْ حوّل كما قال تعالى فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ [الإسراء: 51] والله أعلم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرُّومِ: 30] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُولَدُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» «2» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «يقول الله إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «4» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ حَدَّثَهُمْ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ غَزَوَاتٍ قَالَ فَتَنَاوَلَ الْقَوْمُ الذُّرِّيَّةَ بَعْدَ مَا قَتَلُوا الْمُقَاتَلَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قال «ما بال أقوام يتناولون الذرية» فقال رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسُوا أَبْنَاءَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ أَلَا إِنَّهَا لَيْسَتْ نِسْمَةٌ تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهَا لِسَانُهَا فأبواها يهودانها وينصرانها» قَالَ الْحَسَنُ وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ حدثني
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 109.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز باب 79، ومسلم في القدر حديث 22، 24.
(3) أخرجه مسلم في الجنة حديث 63.
(4) تفسير الطبري 6/ 112.
(5) المسند 3/ 435.(3/451)
الْأَسْوَدُ بْنُ سُرَيْعٍ فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَاسْتِحْضَارَهُ الْآيَةَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَمْيِيزِهِمْ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ وأصحاب الشِّمَالِ، وَفِي بَعْضِهَا الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي» «2» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ يَعْنِي ابْنَ حازم عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إن أخذ الله الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يوم عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا
- إِلَى قَوْلِهِ- الْمُبْطِلُونَ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ صَاعِقَةٍ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ بِهِ، وَقَالَ:
صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَقَدِ احْتَجَّ مسلم بكلثوم بن جبر، هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَقَفَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ وَوَكِيعٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ عن جبر عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَعَلِيُّ بْنُ بُذَيْمَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَذَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ أَبِي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال أخرج الله ذرية آدم مِنْ ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ وَهُوَ فِي آذِي مِنَ الْمَاءِ.
وَقَالَ أَيْضًا»
: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مسعود عن جرير قال مات ابن الضحاك بن مزاحم ابْنُ سِتَّةِ أَيَّامٍ قَالَ: فَقَالَ: يَا جَابِرُ إذا أنت وضعت ابني في لحده
__________
(1) المسند 3/ 127.
(2) أخرجه مسلم في المنافقين حديث 51. [.....]
(3) المسند 1/ 272.
(4) تفسير الطبري 6/ 111.
(5) تفسير الطبري 6/ 111، 112.(3/452)
فَأَبْرِزْ وَجْهَهُ وَحُلَّ عَنْهُ عُقَدَهُ فَإِنَّ ابْنِي مجلس ومسؤول فَفَعَلْتُ بِهِ الَّذِي أَمَرَ فَلَمَّا فَرَغْتُ قُلْتُ يرحمك الله عما يُسْأَلُ ابْنُكَ مَنْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهُ قَالَ: يُسْأَلُ عَنِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ قُلْتُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَمَا هَذَا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم قال: حدثني ابن عباس: أَنَّ اللَّهَ مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَلَقَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْأَرْزَاقِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِهِ فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ مَنْ أَعْطَى الْمِيثَاقَ يَوْمَئِذٍ فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فَوَفَّى بِهِ نَفَعَهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ وَمَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الْمِيثَاقَ الْآخَرَ مَاتَ عَلَى الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى الْفِطْرَةِ.
فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا مِمَّا تُقَوِّي وَقْفَ هَذَا عَلَى ابْنِ عباس والله أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قَالَ: أَخَذَ مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ فَقَالَ لَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى قَالَتِ الملائكة شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَيْبَةَ هَذَا هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ قَاضِي قَوْمَسَ كَانَ أَحَدَ الزُّهَّادِ أَخْرَجَ لَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وقال ابن عدي حدث بأحاديث كثيرة غَرَائِبُ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حمزة بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وكذا رواه ابن جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ وَهَذَا أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا رَوْحٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ وَحَدَّثَنَا إسحاق حدثنا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ أَنَّ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ «إِنِ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ «فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ للنار استعمله بأعمال
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 112.
(2) المسند 1/ 44، 45.(3/453)
أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ» «1» .
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قتيبة والترمذي في تفسيرهما عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَعْنٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وهب وابن جرير عن رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ كُلُّهُمْ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يسمع عمر كذا قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ زَادَ أَبُو حَاتِمٍ وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ جُعْثُمٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ عُمَرَ بن جعثم يزيد بْنِ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرُّهَاوِيُّ وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا إِنَّمَا أَسْقَطَ ذِكْرَ نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم بن ربيعة وَلَمْ يَعْرِفْهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ولذلك يُسْقِطُ ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَا يَرْتَضِيهِمْ وَلِهَذَا يُرْسِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ وَيَقْطَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوْصُولَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ «2» عِنْدَ تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا خَلَقَ الله آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بين عينيه قال: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ قَالَ رَبِّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ قَالَ ستين سنة قال أي رب وقد وهبت له مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ أَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَوَ لَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطىء آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ» .
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ به وقال: صحيح على
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة باب 16، والترمذي في تفسير سورة 7، باب 2، ومالك في القدر حديث 2.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 7، باب 2.(3/454)
شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حدث عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ وَالْأَبْرَصُ وَالْأَعْمَى وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا بِذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: كَيْ تُشْكَرَ نِعْمَتِي وَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَاهُمْ أَظْهَرَ النَّاسِ نُورًا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ يَا آدَمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ» ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ «1» .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَتَادَةَ النضري عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُبْدَأُ الْأَعْمَالُ أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ثُمَّ أَشْهَدُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونُ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ وَقَضَى الْقَضِيَّةَ أَخَذَ أَهْلَ الْيَمِينِ بِيَمِينِهِ وَأَهْلَ الشِّمَالِ بِشِمَالِهِ فَقَالَ يَا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فَقَالُوا لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ يَا أَصْحَابَ الشِّمَالِ قَالُوا لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى ثُمَّ خَلَطَ بينهم فقال قائل له يَا رَبِّ لِمَ خَلَطْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ» رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
أَثَرٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قوله تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الآيات قَالَ: فَجَمْعُهُمْ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صَوَّرَهُمْ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى الآية قال: فإني أشهد عليكم السموات السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي وَلَا رَبَّ غيري ولا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلًا لينذروكم عَهْدِي وَمِيثَاقِي وَأْنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي.
قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمُ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ وَرَأَى فِيهِمُ الأنبياء مثل السرج عليهم النور
__________
(1) انظر الدر المنثور 3/ 260، 261، 262.
(2) تفسير الطبري 6/ 116.(3/455)
وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الآية وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الآية وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى
وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الآية.
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ رِوَايَةِ أبي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ بِهِ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ سِيَاقَاتٍ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ اكْتَفَيْنَا بِإِيرَادِهَا عَنِ التَّطْوِيلِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ كُلِّهَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ فَمَا هُوَ إِلَّا فِي حَدِيثِ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وفي حديث عبد الله بن عمرو وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا مَوْقُوفَانِ لَا مَرْفُوعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فَطْرُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ وَمِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ وقد فسر الحسن الْآيَةَ بِذَلِكَ قَالُوا: وَلِهَذَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ وَلَمْ يُقَلْ مِنْ ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ جَعَلَ نَسْلَهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَقَرْنًا بعد قرن كقوله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 165] وَقَالَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النَّمْلِ: 62] وَقَالَ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [الْأَنْعَامِ: 133] .
ثُمَّ قَالَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى أَيْ أَوَجَدَهُمْ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ قَائِلِينَ لَهُ حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
الآية وتارة تكون حالا كقوله تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 17] أَيْ حَالُهُمْ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ ذلك وكذا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [الْعَادِيَاتِ: 7] كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَالِ وَتَارَةً يكون بالحال كقوله وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إِبْرَاهِيمَ: 34] .
قَالُوا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هَذَا أَنْ جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ فَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا كَمَا قال مَنْ قَالَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ لِيُكُونَ حجة عليه فإن قيل إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جَعَلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَلِهَذَا قَالَ أَنْ تَقُولُوا أي لئلا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا أي التَّوْحِيدِ غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا الآية.(3/456)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الْآيَةَ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يقال له بلعم بن باعوراء وَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ «1» .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عن ابن عباس: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ قَالَ قَتَادَةُ وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَلْقَاءِ وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَكْبَرَ وَكَانَ مُقِيمًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ الْجَبَّارِينَ وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ بَلْعَمُ آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَتَرَكَهَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ يُقَدِّمُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ بَعَثَهُ نبي الله موسى عليه السلام إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ فَأَقْطَعُهُ وَأَعْطَاهُ فَتَبِعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِينَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هو بلعم بن باعوراء، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بِلْعَامُ وَقَالَتْ ثَقِيفٌ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عبد الله بن عمرو فِي قَوْلِهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الآية قَالَ: هُوَ صَاحِبُكُمْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ «3» .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ يُشْبِهُهُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّصَلَ إِلَيْهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَتْهُ أَعْلَامُهُ وَآيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ وَظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ وَمَعَ هَذَا اجْتَمَعَ بِهِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَصَارَ إِلَى مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُنَاصَرَتِهِمْ وَامْتِدَاحِهِمْ وَرَثَى أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَرْثَاةٍ بَلِيغَةٍ قبحه الله. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مِمَّنْ آمَنَ لِسَانُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ فَإِنَّ لَهُ أَشْعَارًا رَبَّانِيَّةً وَحِكَمًا وَفَصَاحَةً وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْرَحِ الله صدره للإسلام.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 119.
(2) تفسير الطبري 6/ 119.
(3) تفسير الطبري 6/ 120.(3/457)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابن أبي نمر حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَعْوَرِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها قَالَ هُوَ رَجُلٌ أُعْطِيَ ثَلَاثَ دَعْوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِنَّ وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَقَالَتْ اجْعَلْ لِي مِنْهَا وَاحِدَةً قَالَ فَلَكِ وَاحِدَةٌ فَمَا الَّذِي تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهَا أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهَا رَغِبَتْ عَنْهُ وَأَرَادَتْ شَيْئًا آخَرَ فَدَعَا اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَهَا كَلْبَةً فَصَارَتْ كَلْبَةً فَذَهَبَتْ دَعْوَتَانِ فَجَاءَ بَنُوهَا فَقَالُوا لَيْسَ بِنَا عَلَى هَذَا قَرَارٌ قَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فَدَعَا اللَّهَ فَعَادَتْ كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وتسمى الْبَسُوسُ «1» ، غَرِيبٌ.
وَأَمَّا الْمَشْهُورُ فِي سَبَبٍ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَامُ وَكَانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ مِنْ علماء السلف: كان مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَلَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ «2» ، وَأَغْرَبَ بَلْ أَبْعَدَ بَلْ أَخْطَأَ مَنْ قَالَ: كَانَ قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ فَانْسَلَخَ مِنْهَا، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ وَلَا يَصِحُّ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ مُوسَى بِهِمْ يَعْنِي بالجبارين ومن معه أتاه- يعني بلعم- أَتَاهُ بَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا يُهْلِكْنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَنَّا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: إِنِّي إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ذَهَبَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ فَسَلَخَهُ اللَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ «3» الآية.
وقال السدي: لَمَّا انْقَضَّتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً الَّتِي قَالَ اللَّهُ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ نَبِيًّا فَدَعَا بَنِي إسرائيل فأخبرهم أنه نبي وأن الله أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْجَبَّارِينَ فَبَايَعُوهُ وَصَدَّقُوهُ، وَانْطَلَقَ رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام فكان عَالَمًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الْمَكْتُومَ فَكَفَرَ- لَعَنَهُ اللَّهُ- وَأَتَى الْجَبَّارِينَ وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَرْهَبُوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عَلَيْهِمْ دَعْوَةً فَيَهْلِكُونَ وَكَانَ عِنْدَهُمْ فِيمَا شَاءَ مِنَ الدُّنْيَا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أن يأتي النساء لعظمهن فَكَانَ يَنْكِحُ أَتَانًا لَهُ وَهُوَ الَّذِي قَالَ الله تعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها «4» .
__________
(1) انظر الدر المنثور 3/ 266.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 120. [.....]
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 122.
(4) انظر تفسير الطبري 6/ 121.(3/458)
وقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي استحوذ عليه وعلى أَمْرِهِ فَمَهْمَا أَمَرَهُ امْتَثَلَ وَأَطَاعَهُ وَلِهَذَا قَالَ: فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ الْحَائِرَيْنِ الْبَائِرَيْنِ وَقَدْ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ الصَّلْتِ بْنِ بَهْرَامَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ الْبَجَلِيُّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَنَّ حُذَيْفَةَ يَعْنِي ابْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الْإِسْلَامِ اعْتَرَاهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ» قَالَ قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ الْمَرْمِيُّ أَوِ الرَّامِي؟ قال «بل الرامي» .
إِسْنَادٌ جَيِّدٌ وَالصَّلْتُ بْنُ بَهْرَامَ كَانَ مِنْ ثِقَاتِ الْكُوفِيِّينَ وَلَمْ يُرْمَ بِشَيْءٍ سِوَى الْإِرْجَاءِ وَقَدْ وَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ يَقُولُ تَعَالَى:
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أَيْ لَرَفَعْنَاهُ مِنَ التَّدَنُّسِ عَنْ قَاذُورَاتِ الدُّنْيَا بِالْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُ إِيَّاهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى زينة الحياة الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَأَقْبَلَ عَلَى لَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا وَغَرَّتْهُ كَمَا غَرَّتْ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْبَصَائِرِ والنهي، وقال أبو الراهويه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قال: تراءى له الشيطان على علوة مِنْ قَنْطَرَةِ بَانْيَاسَ، فَسَجَدَتِ الْحِمَارَةُ لِلَّهِ وَسَجَدَ بَلْعَامُ لِلشَّيْطَانِ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ هَذَا الرَّجُلِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَحَدَّثَ عَنْ سَيَّارٍ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا يُقَالُ له بلعام وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، قَالَ: وَإِنَّ مُوسَى أَقْبَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا بَلْعَامُ أَوْ قَالَ: الشَّامَ قَالَ: فَرُعِبَ النَّاسُ منه رعبا شديدا فَأَتَوْا بَلْعَامَ فَقَالُوا: ادْعُ اللَّهَ عَلَى هَذَا الرجل وجيشه، قال حتى أؤامر ربي أو حتى أؤامر، قال فآمر فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ لَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادِي وَفِيهِمْ نَبِيُّهُمْ.
قَالَ: فَقَالَ لِقَوْمِهِ إِنِّي قَدْ آمَرْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَإِنِّي قَدْ نُهِيتُ فَأَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا ثُمَّ رَاجَعُوهُ فَقَالُوا: ادْعُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: حتى أؤامر ربي فأمر فلم يأمره بشيء فقال: قد وأمرت فلم يأمرني بشيء فَقَالُوا: لَوْ كَرِهَ رَبُّكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَنَهَاكَ كَمَا نَهَاكَ الْمَرَّةَ الْأُولَى، قَالَ: فَأَخَذَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَإِذَا دَعَا عَلَيْهِمْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ الدُّعَاءُ عَلَى قَوْمِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ أَنْ يَفْتَحَ لِقَوْمِهِ دَعَا أَنْ يَفْتَحَ لموسى وجيشه أو نحوا من ذلك إن شاء الله، قال: فقالوا مَا نَرَاكَ تَدْعُو إِلَّا عَلَيْنَا، قَالَ: مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِي إِلَّا هَكَذَا وَلَوْ دَعَوْتُ عليه أيضا ما استجيب لي ولكن
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 123، 124.(3/459)
سَأَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الزِّنَا وَإِنَّهُمْ إِنْ وقعوا في الزنا هَلَكُوا وَرَجَوْتُ أَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ فَأَخْرِجُوا النِّسَاءَ تستقبلهم فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ مُسَافِرُونَ فَعَسَى أَنْ يَزْنُوا فَيَهْلَكُوا.
قال: ففعلوا فأخرجوا النساء تستقبلهم قَالَ وَكَانَ لِلْمَلِكِ ابْنَةٌ فَذَكَرَ مِنْ عِظَمِهَا ما الله أعلم به فقال: فَقَالَ أَبُوهَا أَوْ بَلْعَامُ لَا تُمَكِّنِي نَفْسَكِ إِلَّا مِنْ مُوسَى، قَالَ: وَوَقَعُوا فِي الزِّنَا قال: فأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل فَأَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِمُمَكِّنَةِ نفسي إلا من موسى فقال إن منزلتي كذا وكذا وإن في حالي كذا وكذا فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَبِيهَا تَسْتَأْمِرُهُ قَالَ فَقَالَ لَهَا: مكنيه قَالَ وَيَأْتِيهِمَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَارُونَ وَمَعَهُ الرُّمْحُ فَيَطْعَنُهُمَا. قَالَ: وَأَيَّدَهُ اللَّهُ بِقُوَّةٍ فَانْتَظَمَهُمَا جَمِيعًا وَرَفَعَهُمَا عَلَى رُمْحِهِ فَرَآهُمَا النَّاسُ- أَوْ كَمَا حَدَّثَ- قَالَ: وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا.
قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ: فحدثني سيار أن بلعاما رَكِبَ حَمَّارَةً لَهُ حَتَّى أَتَى الْعَلُولَى أَوْ قَالَ طَرِيقًا مِنَ الْعَلُولَى جَعَلَ يَضْرِبُهَا وَلَا تتقدم وَقَامَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: عَلَامَ تَضْرِبُنِي؟ أَمَا تَرَى هَذَا الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَإِذَا الشَّيْطَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: فَنَزَلَ وَسَجَدَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي بِهَذَا سَيَّارٌ وَلَا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ.
(قُلْتُ) هو بلعام ويقال بلعم بن باعوراء ويقال ابن أبر، ويقال ابن باعور بن شهتوم بْنِ قَوَشْتَمَ بْنِ مَابَ بْنِ لُوطِ بْنِ هاران ويقال بن حَرَانَ بْنِ آزَرَ وَكَانَ يَسْكُنُ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فَانْسَلَخَ مِنْ دِينِهِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ أَوْرَدَ من قصته نحوا مما ذكرناه ها هنا أورده عَنْ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق بن سيار: عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَ فِي أَرْضِ بَنِي كَنْعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، أَتَى قَوْمُ بَلْعَامَ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: هَذَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ جَاءَ يُخْرِجُنَا مِنْ بِلَادِنَا وَيَقْتُلُنَا وَيُحِلُّهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّا قَوْمُكَ وَلَيْسَ لَنَا مَنْزِلٌ وَأَنْتَ رَجُلٌ مُجَابُ الدَّعْوَةِ فَاخْرُجْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، قَالَ وَيَلْكُمُ نَبِيُّ اللَّهِ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ كَيْفَ أَذْهَبُ أَدْعُو عَلَيْهِمْ وَأَنَا أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ؟ قَالُوا لَهُ: مَا لَنَا مِنْ مَنْزِلٍ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ يُرَقِّقُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى فَتَنُوهُ فَافْتُتِنَ فَرَكِبَ حَمَارَةً لَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلَى عَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ جَبَلُ حُسْبَانَ.
فَلَمَّا سَارَ عَلَيْهَا غَيْرَ كَثِيرٍ رَبَضَتْ بِهِ فَنَزَلَ عَنْهَا فَضَرَبَهَا حَتَّى إذا أزلقها قَامَتْ فَرَكِبَهَا، فَلَمْ تَسْرِ بِهِ كَثِيرًا حَتَّى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقها أذن لَهَا فَكَلَّمَتْهُ حُجَّةً عَلَيْهِ فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا بَلْعَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِتَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَنْزِعْ عَنْهَا يَضْرِبُهَا فَخَلَّى اللَّهُ سَبِيلَهَا حِينَ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، فَانْطَلَقَتْ(3/460)
بِهِ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى رَأْسِ حُسْبَانَ عَلَى عَسْكَرِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ جَعَلَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَلَا يَدْعُو عَلَيْهِمْ بَشَرٍّ إِلَّا صَرَفَ اللَّهُ لِسَانَهُ إِلَى قَوْمِهِ وَلَا يَدْعُو لِقَوْمِهِ بِخَيْرٍ إِلَّا صَرَفَ لِسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: أَتَدْرِي يَا بَلْعَمُ مَا تَصْنَعُ؟ إِنَّمَا تَدْعُو لَهُمْ وَتَدْعُو عَلَيْنَا قال فهذا مالا أَمْلِكُ، هَذَا شَيْءٌ قَدْ غَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ «1» فَوَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ فَسَأَمْكُرُ لَكُمْ وَأَحْتَالُ، جَمِّلُوا النِّسَاءَ وَأَعْطُوهُنَّ السِّلَعَ ثُمَّ أَرْسِلُوهُنَّ إِلَى الْعَسْكَرِ يَبِعْنَهَا فِيهِ وَمُرُوهُنَّ فَلَا تَمْنَعُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ أَرَادَهَا فَإِنَّهُمْ إِنْ زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاحِدٌ كُفِيتُمُوهُمْ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا دخلت النِّسَاءُ الْعَسْكَرَ مَرَّتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ اسْمُهَا كَسْبَى- ابْنَةُ صُورَ رَأْسِ أُمَّتِهِ- بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ زَمْرَى بْنُ شَلُومَ رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال: إِنِّي أَظُنُّكَ سَتَقُولُ هَذَا حَرَامٌ عَلَيْكَ؟ قَالَ: أَجَلْ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ لَا تَقْرَبْهَا، قَالَ فو الله لا أطيعك في هذا فدخل بِهَا قُبَّتَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الطَّاعُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِنْحَاصُ بْنُ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ صَاحِبَ أَمْرِ مُوسَى وَكَانَ غَائِبًا حِينَ صَنَعَ زَمْرَى بْنُ شَلُومَ ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فيهم فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ فَأَخَذَ حَرْبَتَهُ وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ كُلُّهَا.
ثُمَّ دَخَلَ الْقُبَّةَ وَهُمَا مُتَضَاجِعَانِ فَانْتَظَمَهُمَا بِحَرْبَتِهِ ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا رَافِعَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَالْحَرْبَةُ قَدْ أَخَذَهَا بِذِرَاعِهِ وَاعْتَمَدَ بِمِرْفَقِهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ وَأَسْنَدَ الْحَرْبَةَ إِلَى لَحْيَيْهِ وَكَانَ بَكْرَ الْعَيْزَارِ، وَجَعَلَ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَنْ يَعْصِيكَ وَرُفِعَ الطَّاعُونُ، فَحُسِبَ مَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الطَّاعُونِ فِيمَا بَيْنُ أَنْ أَصَابَ زَمْرَى الْمَرْأَةَ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ فِنْحَاصُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ هَلَكَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا وَالْمُقَلِّلُ لَهُمْ يَقُولُ عِشْرُونَ أَلْفًا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، فَمِنْ هُنَالِكَ تُعْطِي بَنُو إِسْرَائِيلَ وَلَدَ فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى والبكر من كل أموالهم وأنفسها لِأَنَّهُ كَانَ بَكْرَ أَبِيهِ الْعَيْزَارِ، فَفِي بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ أَنْزَلَ اللَّهُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اختلف المفسرون في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم عن أبي النضر أن بلعاما انْدَلَعَ لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَتَشْبِيهُهُ بِالْكَلْبِ فِي لهيثه فِي كِلْتَا حَالَتَيْهِ إِنْ زُجِرَ وَإِنْ تُرِكَ ظاهر، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَصَارَ مِثْلَهُ فِي ضَلَالِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ فِيهِ وَعَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الدعاء كالكلب في لهيثه
__________
(1) اندلع لسانه: خرج من فمه واسترخى كلسان الكلب.
(2) انظر الأثر في تفسير الطبري 6/ 124، 125.(3/461)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
فِي حَالَتَيْهِ إِنْ حَمَلْتَ عَلَيْهِ وَإِنَّ تَرِكْتَهُ هُوَ يَلْهَثُ فِي الْحَالَيْنِ، فَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَا عَدَمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 80] وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَالضَّالِّ ضَعِيفٌ فَارِغٌ مِنَ الْهُدَى فَهُوَ كَثِيرُ الْوَجِيبِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِهَذَا نُقِلَ نَحْوُهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ أَيْ لَعَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَالِمِينَ بِحَالِ بَلْعَامَ وَمَا جَرَى لَهُ فِي إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِبْعَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِسَبَبِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ رَبِّهِ بَلْ دَعَا بِهِ عَلَى حِزْبِ الرَّحْمَنِ وَشِعْبِ الْإِيمَانِ، أَتْبَاعِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ فَيَحْذَرُوا أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاهُمْ عِلْمًا وَمَيَّزَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَجَعَلَ بِأَيْدِيهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُونَهَا كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، فَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ كَمَا أَخْبَرَتْهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَتْهُمْ بِهِ، وَلِهَذَا مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ مَا فِي كِتَابِهِ وَكَتَمَهُ فَلَمْ يُعْلِمْ بِهِ الْعِبَادَ أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَقُولُ تَعَالَى سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كذبوا بآياتنا [الأعراف: 177] أَيْ سَاءَ مَثَلُهُمْ أَنْ شُبِّهُوا بِالْكِلَابِ الَّتِي لَا هِمَّةَ لَهَا إِلَّا فِي تَحْصِيلِ أَكْلَةٍ أَوْ شَهْوَةٍ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَأَقْبَلَ عَلَى شَهْوَةِ نَفْسِهِ وَاتَّبِعْ هَوَاهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْكَلْبِ وَبِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُهُ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» «1» .
وَقَوْلُهُ وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أَيْ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى، وَطَاعَةِ الْمَوْلَى، إِلَى الرُّكُونِ إِلَى دَارِ الْبِلَى، وَالْإِقْبَالِ عَلَى تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ وموافقة الهوى.
[سورة الأعراف (7) : آية 178]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)
يَقُولُ تَعَالَى مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ أَضَلَّهُ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ وَضَلَّ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سيئات أعمالنا، من يهد الله
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة باب 30، ومسلم في الهبات حديث 5، 6، وأبو داود في البيوع باب 81، والنسائي في الهبة باب 3، 4، وابن ماجة في الصدقات باب 1، وأحمد في المسند 1/ 40، 54، 217، 237، 289، 349، 350، 2/ 27، 175، 208.(3/462)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد وأهل السنن وغيرهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 179]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
يقول تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ أَيْ خَلَقْنَا وَجَعَلْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَيْ هَيَّأْنَاهُمْ لَهَا وَبِعَمَلِ أَهْلِهَا يَعْمَلُونَ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق عَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ فَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» «1» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ خَالَتِهَا عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: دُعِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» «2» .
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ» «3» وَتَقَدَّمَ أَنَّ الله لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَجَعْلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ قَالَ «هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي» «4» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَمَسْأَلَةُ الْقَدَرِ كَبِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها يَعْنِي لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف: 26] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْبَقَرَةِ: 18] هَذَا فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 171] ولم يكونوا صما
__________
(1) أخرجه مسلم في القدر حديث 16، وأبو داود في فضائل القرآن باب 4، 20، والترمذي في القدر باب 18، وأحمد في المسند 1/ 392، 393، 432.
(2) أخرجه مسلم في القدر حديث 30، 31.
(3) أخرجه البخاري في التوحيد باب 28، ومسلم في القدر حديث 1، 4.
(4) أخرجه أحمد في المسند 5/ 239.(3/463)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
ولا بكما ولا عُمْيًا إِلَّا عَنِ الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَالِ: 23] وَقَالَ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] وَقَالَ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزُّخْرُفِ: 36- 37] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يُبْصِرُونَ الْهُدَى، كَالْأَنْعَامِ السَّارِحَةِ الَّتِي لَا تَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ مِنْهَا إِلَّا فِي الَّذِي يقيتها من ظاهر الحياة الدنيا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [الْبَقَرَةِ: 171] أَيْ وَمَثَلُهُمْ فِي حَالِ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الْأَنْعَامِ إِذَا دَعَاهَا رَاعِيهَا لَا تَسْمَعُ إِلَّا صَوْتَهُ، وَلَا تَفْقَهُ مَا يَقُولُ.
وَلِهَذَا قَالَ فِي هَؤُلَاءِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أي من الدواب لأنها قَدْ تَسْتَجِيبُ مَعَ ذَلِكَ لِرَاعِيهَا إِذَا أَبَسَّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلَامَهُ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ، ولأنها تفعل مَا خُلِقَتْ لَهُ إِمَّا بِطَبْعِهَا وَإِمَّا بِتَسْخِيرِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيُوَحِّدَهُ فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَأَشْرَكَ بِهِ، وَلِهَذَا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ كَانَ أَشْرَفَ مَنْ مِثْلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي مَعَادِهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَانَتِ الدَّوَابُّ أَتَمَّ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
[سورة الأعراف (7) : آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» «1» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ أبي الزناد عن الأعرج عنه، ورواه الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الترمذي في جامعه عَنِ الْجَوْزَجَانِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ فَذَكَرَ بِسَنَدِهِ مِثْلَهُ.
وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ «يُحِبُّ الْوِتْرَ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْغَفُورُ، الشَّكُورُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْحَفِيظُ الْمَقِيتُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ، الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ، الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ، الظاهر
__________
(1) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في التوحيد باب 12، والشروط باب 18، والترمذي في الدعوات باب 82، والوتر باب 2، وابن ماجة في الإقامة باب 114.(3/464)
الْبَاطِنُ الْوَالِي الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرؤوف، مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الْغَنِيُّ الْمُغْنِي، الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ، النُّورُ الْهَادِي الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُورُ» ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هريرة، وَلَا نَعْلَمُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ ذِكْرَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «1» فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فَسَرَدَ الْأَسْمَاءَ كنحو مما تَقَدَّمَ بِزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّ سَرْدَ الْأَسْمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُدْرَجٌ «2» فِيهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيُّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، أَيْ أَنَّهُمْ جَمَعُوهَا مِنَ الْقُرْآنِ. كما روي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَبِي زَيْدٍ اللُّغَوِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لِيُعْلَمْ أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْجُهَنِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكِ ابْنُ أَمَتِكِ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أن تجعل القرآن العظيم رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مَكَانَهُ فَرَحًا» فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ «بَلَى يَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا» .
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبَسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِمِثْلِهِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الْأَحْوَذِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَمَعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَلْفَ اسْمٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قَالَ:
إِلْحَادُ الْمُلْحِدِينَ أَنْ دَعَوُا اللَّاتَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ «4» . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ
__________
(1) كتاب الإقامة باب 114.
(2) الحديث المدرج: هو أن يذكر الراوي كلاما لنفسه أو لغيره، فيرويه بعده متصلا بالحديث من غير فصل، فيتوهم أنه من الحديث.
(3) المسند 1/ 391، 452. [.....]
(4) انظر تفسير الطبري 6/ 132.(3/465)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
قال اشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز «1» ، وقال قتادة يلحدون يشركون في أسمائه «2» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ التَّكْذِيبُ «3» : وَأَصِلُ الْإِلْحَادِ فِي كَلَامِ العرب العدول عَنِ الْقَصْدِ، وَالْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَالِانْحِرَافُ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِانْحِرَافِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ عَنْ سمت الحفر.
[سورة الأعراف (7) : آية 181]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
يقول تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أي بعض الْأُمَمِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ قَوْلًا وَعَمَلًا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يَقُولُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ وَبِهِ يَعْدِلُونَ يَعْمَلُونَ وَيَقْضُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ هِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي تفسير هذه الآية: بلغني أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِي الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «4» [الْأَعْرَافِ: 159] . وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «أن مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَتَّى مَا نَزَلَ» «5» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» وَفِي رواية «وهم بالشام» » .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
يَقُولُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ وَوُجُوهَ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَامِ:
44- 45] وَلِهَذَا قَالَ تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ أي وسأملي لهم، أي أُطَوِّلُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي قوي شديد.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 132.
(2) تفسير الطبري 6/ 132.
(3) تفسير الطبري 6/ 132.
(4) انظر تفسير الطبري 6/ 134.
(5) انظر الأثر في الدر المنثور 3/ 272.
(6) أخرجه البخاري في التوحيد باب 29، ومسلم في الإمارة حديث 170، 174.(3/466)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
[سورة الأعراف (7) : آية 184]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
يَقُولُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا مَا بِصاحِبِهِمْ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنَّةٍ أَيْ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ، بَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًا، دَعَا إِلَى حَقٍّ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ ظَاهِرٌ لمن كان له لب وقلب يَعْقِلُ بِهِ وَيَعِي بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التَّكْوِيرِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سَبَأٍ: 46] يَقُولُ: إِنَّمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أن تقوموا قِيَامًا خَالِصًا لِلَّهِ لَيْسَ فِيهِ تَعَصُّبٌ وَلَا عِنَادٌ مَثْنى وَفُرادى، أَيْ: مُجْتَمِعِينَ وَمُتَفَرِّقِينَ.
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِي هَذَا الَّذِي جَاءَكُمْ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ أَبِهِ جُنُونٌ أَمْ لَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ بَانَ لَكُمْ وَظَهَرَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَصِدْقًا، وَقَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا، فَجَعَلَ يُفَخِّذُهُمْ فَخِذًا فَخِذًا يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَ اللَّهِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٍ بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ أَوْ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ «1» .
[سورة الأعراف (7) : آية 185]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
يقول تعالى: أو لم ينظر هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا فِي مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ في السموات والأرض، وفيما خلق مِنْ شَيْءٍ فِيهِمَا، فَيَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ، وَمِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ وَالدِّينُ الْخَالِصُ إِلَّا لَهُ فَيُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَخْلَعُوا الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ آجَالُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَتْ فَيَهْلَكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَصِيرُوا إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ. وَقَوْلُهُ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ فَبِأَيِّ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ بعد تحذير محمد صلّى الله عليه وسلّم وَتَرْهِيبِهِ، الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي آيِ كِتَابِهِ يُصَدِّقُونَ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى وَعَفَّانَ بْنِ مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث، كلهم عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَبِي الصَّلْتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أَسْرِيَ بِي كذا، فلما انتهينا إلى السماء السابعة
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 134، 135.
(2) المسند 2/ 353، 363.(3/467)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
فَنَظَرْتُ فَوْقِي فَإِذَا أَنَا بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَصَوَاعِقَ، وَأَتَيْتُ عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكْلَةُ الرِّبَا، فَلَمَّا نَزَلْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَنَظَرْتُ إِلَى أَسْفَلَ مِنِّي فَإِذَا أَنَا بِرَهَجٍ وَدُخَانٍ وَأَصْوَاتٍ فَقُلْتُ: ما هذا يا جبريل؟ قال:
هؤلاء الشياطين يحومون عَلَى أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ أَنْ لَا يَتَفَكَّرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَوُا الْعَجَائِبَ» عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنُ جُدْعَانَ لَهُ مُنْكَرَاتٌ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الأعراف (7) : آية 186]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
يَقُولُ تَعَالَى: مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ، وَلَوْ نَظَرَ لِنَفْسِهِ فِيمَا نَظَرَ فَإِنَّهُ لَا يُجْزَى عَنْهُ شَيْئًا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة: 41] وكما قَالَ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يوسف: 101] .
[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
يَقُولُ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [الْأَحْزَابِ: 63] قِيلَ نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، وَقِيلَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 38] وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشُّورَى: 18] .
وَقَوْلُهُ أَيَّانَ مُرْساها قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُنْتَهَاهَا «1» أَيْ مَتَى مَحَّطُهَا وَأَيَّانَ آخَرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أَمَرَ تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُئِلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا أَيْ يَعْلَمُ جَلِيَّةَ أَمْرِهَا وَمَتَى يَكُونُ عَلَى التَّحْدِيدِ، لا يعلم ذلك إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال: ثقل علمها على أهل السموات وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ «2» ، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الحسن: إذا جاءت ثقلت على أهل السموات والأرض، يقول: كبرت عليهم «3» .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 137.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 137.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 138.(3/468)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا يُصِيبُهُ مِنْ ضَرَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: إِذَا جَاءَتِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ، وَكَانَ مَا قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَذَلِكَ ثِقْلُهَا «1» ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرَادَ ثَقُلَ عِلْمُ وقتها على أهل السموات وَالْأَرْضِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، وَهُوَ كَمَا قَالَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً وَلَا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض، والله أعلم.
وقال السدي: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ: خَفِيَتْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا حِينَ تَقُومُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ «2» لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَبْغَتُهُمْ قِيَامُهَا تَأْتِيهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً قَضَى اللَّهُ أَنَّهَا لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً قال: وذكر لنا أن نبي الله كان يقول «إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بِالنَّاسِ، وَالرَّجُلُ يَصْلِحُ حَوْضَهُ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ وَالرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ وَيُخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ» «3» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، أنبأنا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ.
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رَفَعَ أَكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا» «4» .
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ به، قال: تقوم الساعة والرجل يحلب لقحته، فَمَا يَصِلُ الْإِنَاءُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَالرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ فَمَا يَتَبَايَعَانِهِ حَتَّى تقوم الساعة، وَالرَّجُلُ يَلُوطُ حَوْضَهُ فَمَا يَصْدُرُ حَتَّى تَقُومَ «5» .
وقوله يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يَقُولُ: كَأَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةً كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لما سأل الناس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يُرُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَهُ استأثر به، فلم يطلع الله عليها ملكا مقربا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 138.
(2) تفسير الطبري 6/ 137. [.....]
(3) تفسير الطبري 6/ 138.
(4) أخرجه البخاري في الرقاق باب 40.
(5) أخرجه مسلم في الفتن حديث 116، 140.(3/469)
وَلَا رَسُولًا «1» .
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً فَأَسِرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها «2» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ، وَهَذَا قَوْلٌ، وَالصَّحِيحُ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وغيره يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قَالَ: اسْتَحْفَيْتَ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتَ وَقْتَهَا، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابن عباس يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يَقُولُ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا لَسْتَ تَعْلَمُهَا قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ بَعْضِهِمْ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا «3» . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها كَأَنَّكَ بها عالم وَقَدْ أَخْفَى اللَّهُ عَلِمَهَا عَلَى خَلْقِهِ، وَقَرَأَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] الآية، وهذا القول أرجح في المقام مِنَ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا قَالَ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. وَلِهَذَا لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام في صورة أعرابي ليعلم النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَجَلَسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ، وسأله صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَنِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ عَنِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» أَيْ لَسْتُ أَعْلَمَ بها منك ولا أحد بِهَا مِنْ أَحَدٍ، ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] الْآيَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فبين له أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ «فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ يَقُولُ لَهُ بَعْدَ كُلِّ جَوَابٍ: صَدَقْتَ، وَلِهَذَا عَجِبَ الصَّحَابَةُ مِنْ هَذَا السَّائِلِ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «وَمَا أَتَانِي فِي صُورَةٍ إِلَّا عَرَفْتُهُ فِيهَا إِلَّا صُورَتَهُ هَذِهِ» «4» وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلَمَّا سَأَلَهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ وَنَادَاهُ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هاؤم» عَلَى نَحْوٍ مِنْ صَوْتِهِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْحَكَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا» قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ ولا صيام، ولكنني أحب الله
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 139.
(2) تفسير الطبري 6/ 139.
(3) تفسير الطبري 6/ 139.
(4) أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، وتفسير سورة 31، باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 1، 5، 7، وأبو داود في السنة باب 16، والترمذي في الإيمان باب 4، والنسائي في الإيمان باب 5، 6، وابن ماجة في المقدمة باب 9، والفتن باب 25، وأحمد في المسند 2/ 426.(3/470)
وَرَسُولَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» «1» فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، فَفِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ هَذَا الَّذِي لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِهِ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي حَقِّهِمْ، وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ لِوُقُوعِ ذَلِكَ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا تَعْيِينَ وَقْتِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قالا: حدثنا أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَتِ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سألوه عن الساعة: متى الساعة؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول «إِنَّ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ» «2» يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْتَهُمُ الَّذِي يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْحُصُولِ فِي بَرْزَخِ الدَّارِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ مُسْلِمٌ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الساعة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» انْفَرَدَ بِهِ مسلم «3» .
وحدثني حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيد، حدثنا سعيد بن أبي هلال المصري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى غُلَامٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ فَقَالَ «إِنَّ عُمِّرَ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» قَالَ أَنَسٌ: ذَلِكَ الْغُلَامُ مِنْ أَتْرَابِي «4» ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ غُلَامٌ للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ يُؤَخَّرْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» «5» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «6» فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ الله متى الساعة؟ فذكر
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 96، ومسلم في البر حديث 165، والترمذي في الزهد باب 50، والدعوات باب 98، والدارمي في الرقاق باب 71، وأحمد في المسند 1/ 392، 3/ 104، 110، 159، 165، 167، 168، 172، 173، 178، 192، 198، 200، 202، 207، 208، 213، 222، 226، 227، 228، 255، 268، 276، 283، 288، 336، 394، 4/ 107، 160، 239، 241، 392، 395، 398، 405.
(2) أخرجه مسلم في الفتن حديث 136.
(3) كتاب الفتن حديث 137.
(4) أخرجه مسلم في الفتن حديث 138.
(5) أخرجه مسلم في الفتن حديث 139.
(6) كتاب الأدب باب 95.(3/471)
الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: فَمَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَذَكَرَهُ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ محمول على التقييد بساعتكم فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول قبل أن يموت بشهر «تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ «1» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْخِرَامَ ذَلِكَ الْقَرْنِ «2» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا الْعَوَّامُ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ مُوثِرِ بن عفارة عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ- قَالَ- فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِهَا فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِيسَى فَقَالَ عِيسَى: أَمَّا وَجْبَتُهَا فَلَا يَعْلَمُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ- قَالَ- وَمَعِي قَضِيبَانِ، فَإِذَا رَآنِي ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، قَالَ: فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إذا رآني حتى إن الشجر والحجر يَقُولُ: يَا مُسْلِمُ إِنَّ تَحْتِي كَافِرًا فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ.
قَالَ: فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَطَئُونَ بِلَادَهُمْ لَا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ: قَالَ: ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيَّ فَيَشْكُونَهُمْ فَأَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ وَيُمِيتُهُمْ حَتَّى تَجْوَى الْأَرْضُ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِمْ أَيْ تَنْتَنُ، قَالَ: فَيُنْزِلُ اللَّهُ عز وجل الْمَطَرَ فَيَجْتَرِفُ أَجْسَادَهُمْ حَتَّى يَقْذِفَهُمْ فِي الْبَحْرِ.
قال الإمام أَحْمَدُ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: ثُمَّ تُنْسَفُ الْجِبَالُ وَتُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ هُشَيْمٍ، قَالَ: فَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كذلك، فإن الساعة كالحامل المتمم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبَ بِسَنَدِهِ نَحْوَهُ، فَهَؤُلَاءِ أَكَابِرُ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِوَقْتِ السَّاعَةِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا رَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَكَلَّمَ عَلَى أَشْرَاطِهَا لِأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُنَفِّذًا لِأَحْكَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتُلُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ هَلَاكَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، فَأَخْبَرَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى به.
__________
(1) كتاب فضائل الصحابة حديث 217. [.....]
(2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث 216، وأبو داود في الملاحم باب 17، والترمذي في الفتن باب 64.
(3) المسند 1/ 375.(3/472)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بكير، حدثنا عبيد بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ «علمها عند ربي عز وجل لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا، إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً وَهَرْجًا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الفتنة قد عرفناها فما الهرج؟ قَالَ «بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ» قَالَ «وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعْرِفُ أَحَدًا» لَمْ يَرَوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَذْكُرُ مِنْ شَأْنِ السَّاعَةِ حَتَّى نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها الآية، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، فَهَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ وَالْعَاقِبُ وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ الَّذِي تُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ، مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا «2» ، وَمَعَ هَذَا كله قد أمره الله أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ وَقْتِ السَّاعَةِ إِلَيْهِ إِذَا سُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الغيب المستقبل وَلَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [الجن: 26] الآية. وَقَوْلُهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ متى أموت لعملت عملا صالحا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ مِثْلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ دِيمَةً «3» ، وَفِي رِوَايَةٍ:
كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ «4» ، فَجَمِيعُ عَمَلِهِ كَانَ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يُرْشِدَ غَيْرَهُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
__________
(1) المسند 5/ 389.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 39، ومسلم في الجمعة حديث 37.
(3) أخرجه البخاري في الصوم باب 64، ومسلم في المسافرين حديث 217.
(4) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 141، 215، وأبو داود في التطوع باب 27.(3/473)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
أَيْ مِنَ الْمَالِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَعَلِمْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مَا أَرْبَحُ فِيهِ، فَلَا أَبِيعُ شَيْئًا إِلَّا رَبِحْتُ فِيهِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ وَلَا يُصِيبُنِي الْفَقْرُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الْغَلَاءَ مِنَ الرُّخْصِ، فَاسْتَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الرُّخْصِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَاتَّقَيْتُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، أَيْ نَذِيرٌ مِنَ الْعَذَابِ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم: 97] .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 190]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ آدم عليه السلام. وأنه خلق منه زوجته حَوَّاءَ ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسُ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] الآية، وقال في هذا الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليألفها ويسكن بها، كقوله تَعَالَى:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:
21] فلا ألفة بين روحين أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ السَّاحِرَ رُبَّمَا تَوَصَّلَ بِكَيْدِهِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فَلَمَّا تَغَشَّاها أَيْ وَطِئَهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً وَذَلِكَ أَوَّلُ الْحَمْلِ لَا تَجِدُ الْمَرْأَةُ لَهُ أَلَمًا، إِنَّمَا هِيَ النُّطْفَةُ ثُمَّ الْعَلَقَةُ ثُمَّ الْمُضْغَةُ.
وَقَوْلُهُ فَمَرَّتْ بِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: اسْتَمَرَّتْ بِحَمْلِهِ «2» ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعَيِّ وَالسُّدِّيِّ نَحْوُهُ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ أَبِيهِ: اسْتَخَفَّتْهُ. وَقَالَ أَيُّوبُ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ فَمَرَّتْ بِهِ قَالَ: لَوْ كُنْتَ رَجُلًا عَرَبِيًّا لَعَرَفْتَ مَا هِيَ إِنَّمَا هِيَ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فَمَرَّتْ بِهِ استبان حَمْلُهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ اسْتَمَرَّتْ بِالْمَاءِ قَامَتْ بِهِ وَقَعَدَتْ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَمَرَّتْ بِهِ فَشَكَّتْ أَحَمَلَتْ أَمْ لَا «3» ؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ صَارَتْ ذَاتَ ثِقَلٍ بِحَمْلِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَبِرَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أَيْ بَشَرًا سَوِيًّا، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْفَقَا أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو البختري
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 141.
(2) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري 6/ 141، 142، 143.
(3) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري 6/ 141، 142، 143.(3/474)
وأبو مالك: أشفقا أن لا يَكُونَ إِنْسَانًا «1» .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَئِنْ آتَيْتِنَا غُلَامًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يذكر الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا آثَارًا وَأَحَادِيثَ سَأُورِدُهَا وَأُبَيِّنُ مَا فيها، ثم نتبع ذلك ببيان الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ»
فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سُمْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لما وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ» «3» ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ به، ورواه الترمذي في تفسير هَذِهِ الْآيَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَثْنَى عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بن إبراهيم، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ مَرْفُوعًا، ثُمَّ قَالَ:
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ عَنْ هِلَالِ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَرْفُوعًا.
وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ شَاذِّ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بن إبراهيم مرفوعا، قلت: وشاذ هُوَ هِلَالٌ، وَشَاذٌّ لَقَبُهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ [أَحَدُهَا] أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ الْبَصْرِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سُمْرَةَ مَرْفُوعًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الثَّانِي] أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ سُمْرَةَ نَفْسِهِ لَيْسَ مَرْفُوعًا، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ، حدثنا بكر بن عبد الله بن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ سَمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: سَمَّى آدَمُ ابْنَهُ عَبْدَ الْحَارِثِ. [الثَّالِثُ] أَنَّ الْحَسَنَ نَفْسَهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِغَيْرِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ عَنْ سُمْرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَمْ يَكُنْ بآدم.
وحدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: عَنَى بِهَا ذَرِّيَّةَ آدَمَ وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدَهُ يعني جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما «5» . وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ، حدثنا
__________
(1) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري 6/ 141، 142، 143.
(2) المسند 5/ 11.
(3) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 7، باب 4، والطبري في تفسيره 6/ 145.
(4) تفسير الطبري 6/ 147.
(5) تفسير الطبري 6/ 147. [.....](3/475)
يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ هُمُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا «1» ، وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ عَنِ الحسن رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعِهِ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ مِثْلِ كَعْبٍ أَوْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا سيأتي بيانه إن شاء الله إِلَّا أَنَّنَا بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ الْمَرْفُوعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَادًا فَيُعَبِّدُهُمْ لِلَّهِ ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: إنكما لو سميتماه بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانِهِ بِهِ لَعَاشَ، قَالَ: فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ أَنْزَلَ الله يقول هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
- إِلَى قَوْلِهِ- جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما إِلَى آخِرِ الْآيَةِ «2» .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ فِي آدَمَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَرَّتْ بِهِ شَكَّتْ أحملت أَمْ لَا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَأَتَاهُمَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يُولَدُ لَكُمَا؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أَمْ لَا؟ وَزَيَّنَ لَهُمَا الْبَاطِلَ، إِنَّهُ غَوِيٌّ مُبِينٌ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَا، فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِنَّكُمَا إِنْ لَمْ تُسَمِّيَاهُ بِي لَمْ يَخْرُجْ سَوِيًّا وَمَاتَ كَمَا مات الأول، فَسَمَّيَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما الْآيَةَ «3» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها آدم حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: إِنَّى صَاحِبُكُمَا الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني إبل فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكِ فَيَشُقُّهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ يُخَوِّفُهُمَا، فَسَمِّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ، فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّانِيَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ- يُخَوِّفُهُمَا- فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَذَكَرَ لَهُمَا فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الْوَلَدِ فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فذلك قوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ تَلْقَى هَذَا الْأَثَرَ عَنِ ابن عباس مِنْ أَصْحَابِهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ، ومن
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 147.
(2) تفسير الطبري 6/ 145.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 145.(3/476)
الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخَلَفِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ جَمَاعَاتٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَأَنَّهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِرِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:
لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيعِينِي وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ، سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَلَدَتْ فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ حملت الثالثة فَجَاءَهَا فَقَالَ:
إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَهِيمَةً، فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا.
وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ» «1» ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَهُوَ الْمَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» «2» وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَوْلِهِ «فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» وهذا الأثر هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فِيهِ نَظَرٌ، فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ الْقَسَمِ الثَّالِثِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ الله في هذا، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم قال فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، كقوله وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5] الآية، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات باب 29، وتفسير سورة 2، باب 11، والاعتصام باب 25، والتوحيد باب 51، وأبو داود في العلم باب 2، وأحمد في المسند 4/ 136.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 50، ومسلم في الزهد حديث 72، والترمذي في العلم باب 13، وابن ماجة في المقدمة باب 5، وأحمد في المسند 3/ 39، 46.(3/477)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 الى 198]
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ، لَا تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ولا تبصر وَلَا تَنْتَصِرُ لِعَابِدِيهَا، بَلْ هِيَ جَمَادٌ لَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَعَابِدُوهَا أَكَمُلُ مِنْهَا بِسَمْعِهِمْ وَبَصَرِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ أَتُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مَا لَا يَخْلُقُ شيئا ولا يستطيع ذلك، كقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَجِّ: 73- 74] .
أَخْبَرَ تَعَالَى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة بل لو سلبتهم الذُّبَابَةُ شَيْئًا مِنْ حَقِيرِ الْمَطَاعِمِ وَطَارَتْ، لَمَا استطاعوا إنقاذه مِنْهَا، فَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَحَالُهُ كَيْفَ يُعْبَدُ ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى: لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ بَلْ هُمْ مَخْلُوقُونَ مصنوعون كما قال الخليل أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] الآية.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أَيْ لِعَابِدِيهِمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يَعْنِي وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ يَنْصُرُونَ مِمَّنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ، كَمَا كَانَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْسِرُ أَصْنَامَ قَوْمِهِ وَيُهِينُهَا غَايَةَ الْإِهَانَةِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصَّافَّاتِ: 93] وَقَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 58] وَكَمَا كَانَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَا شَابَّيْنِ قَدْ أَسْلَمَا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَكَانَا يَعْدُوَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ يَكْسِرَانِهَا وَيُتْلِفَانِهَا وَيَتَّخِذَانِهَا حَطَبًا لِلْأَرَامِلِ لِيَعْتَبِرَ قَوْمُهُمَا بِذَلِكَ وَيَرْتَئُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ لِعَمْرِو بن الجموح وكان سيدا في قومه صَنَمٌ يَعْبُدُهُ وَيُطَيِّبُهُ، فَكَانَا يَجِيئَانِ فِي اللَّيْلِ فَيُنَكِّسَانِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَيُلَطِّخَانِهِ.
بِالْعَذِرَةِ، فَيَجِيءُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَيَرَى مَا صُنِعَ بِهِ، فَيَغْسِلُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ سَيْفًا وَيَقُولُ لَهُ: انْتَصَرَ، ثُمَّ يَعُودَانِ لِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَعُودُ إِلَى صَنِيعِهِ أيضا، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كَلْبٍ مَيِّتٍ، وَدَلَّيَاهُ فِي حَبْلٍ فِي بِئْرٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَرَأَى ذَلِكَ نَظَرَ فَعَلِمَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الدين باطل، وقال: [رجز]
تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ ... لَمْ تَكُ وَالْكَلْبُ جَمِيعًا فِي قَرَنْ «1»
ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ الآية، يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ
__________
(1) الرجز في سيرة ابن هشام 1/ 354.(3/478)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
دَعَاهَا، وَسَوَاءٌ لَدَيْهَا مَنْ دَعَاهَا وَمَنْ دَحَاهَا، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: 42] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهَا عَبِيدٌ مِثْلَ عَابِدِيهَا أَيْ مَخْلُوقَاتٌ مِثْلُهُمْ، بَلِ الأناس أَكْمَلُ مِنْهَا لِأَنَّهَا تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَبْطِشُ، وَتِلْكَ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الآية، أَيِ اسْتَنْصِرُوا بِهَا عَلَيَّ فَلَا تُؤَخِّرُونِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَاجْهَدُوا جُهْدَكُمْ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أَيِ اللَّهُ حَسْبِي وَكَافِيَّ، وَهُوَ نَصِيرِي وَعَلَيْهِ مُتَّكَلِي وَإِلَيْهِ أَلْجَأُ، وَهُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ صَالِحٍ بَعْدِي وَهَذَا كَمَا قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لَهُ قَوْمُهُ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هُودٍ: 54- 56] وكقول الخليل أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 75- 78] الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزُّخْرُفِ: 26- 28] .
وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، مُؤَكِّدٌ لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ [فاطر: 14] الآية. وَقَوْلُهُ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ إِنَّمَا قَالَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أَيْ يُقَابِلُونَكَ بِعُيُونٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ وَهِيَ جَمَادٌ، وَلِهَذَا عَامَلَهُمْ معاملة من يعقل لأنها على صورة مصورة كالإنسان وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْمُشْرِكُونَ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن جرير، وقاله قتادة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 200]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ خُذِ الْعَفْوَ يعني خذ ما عفي لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَخُذْهُ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضَ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلِهَا وَمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ الصَّدَقَاتُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خُذِ الْعَفْوَ أَنْفِقِ الْفَضْلَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: الْفَضْلُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ عَشْرَ سِنِينَ، ثم أمره(3/479)
بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وأعمالهم من غير تجسس. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَمَرَ الله رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةٍ قال: خذ ما عفي لَكَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّمَا أَنَزَلَ خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ «2» وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة أنهما قالا مثل لك، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ وَهْبِ بن كيسان عن أبي الزُّبَيْرِ خُذِ الْعَفْوَ، قَالَ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، وَاللَّهِ لَآخُذَنَّهُ مِنْهُمْ مَا صَحِبْتُهُمْ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أُمَيٍّ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيِّ كِتَابَةً، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أُمَيٍّ عَنِ الشعبي نحوه، وهذا مرسل على كل حال، وقد روي له شواهد مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ جَابِرٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْنَدَهُمَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ عَنِ القاسم بن أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، فَقَالَ «يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ. قُلْتُ: وَلَكِنْ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ وَشَيْخُهُ الْقَاسِمُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيهِمَا ضَعْفٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «4» : قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ العرف:
المعروف، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فنزل على ابن أخيه
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 153.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 7 باب 5، وأبو داود في الأدب باب 4.
(3) المسند 4/ 148.
(4) كتاب التفسير، تفسير سورة 7، باب 5.(3/480)
الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شَبَابًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابن أخيه: يا ابن أَخِي لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عمر، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِي يَا ابْنَ الخطاب فو الله مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فقال له الحر، يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وانفرد بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرَّ عَلَى عِيرٍ لِأَهْلِ الشَّامِ وَفِيهَا جَرَسٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَنْهِيُّ عَنْهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْكَ، إِنَّمَا يُكْرَهُ الْجُلْجُلُ الْكَبِيرُ، فَأَمَّا مِثْلُ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَسَكَتَ سَالِمٌ وَقَالَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «1» .
وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ: الْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ، نَصَّ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ «2» : أَنَّهُ يُقَالُ أوليته معروفا وعارفا، كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمَعْرُوفِ، قَالَ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لِخُلُقِهِ بِاحْتِمَالِ مَنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ لَا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ جَهِلَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ مَنْ حَقَّ اللَّهِ، وَلَا بِالصَّفْحِ عَمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَجَهِلَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ حَرْبٌ «3» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال: هذه أخلاق أمر الله بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَّهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَسَبَكَهُ فِي بَيْتَيْنِ فِيهِمَا جِنَاسٌ، فَقَالَ:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِعُرْفٍ كَمَا ... أُمِرْتَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
وَلِنْ فِي الْكَلَامِ لِكُلِّ الْأَنَامِ ... فَمُسْتَحْسَنٌ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ لِينْ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّاسُ رَجُلَانِ، فَرَجُلٌ مُحْسِنٌ فَخُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِهِ وَلَا تُكَلِّفْهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَا مَا يُحْرِجُهُ، وَإِمَّا مُسِيءٌ فَمُرْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ تَمَادَى عَلَى ضَلَالِهِ وَاسْتَعْصَى عَلَيْكَ وَاسْتَمَرَّ فِي جَهْلِهِ فَأَعْرِضْ عَنْهُ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ كَيْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 96- 98] وَقَالَ تعالى:
__________
(1) انظر الأثر في الدر المنثور 3/ 281.
(2) تفسير الطبري 6/ 154.
(3) تفسير الطبري 6/ 154.(3/481)
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] أي هذه الوصية وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأعراف: 200] .
وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْأَعْرَافِ والمؤمنون وحم السَّجْدَةِ لَا رَابِعَ لَهُنَّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى، يُرْشِدُ فِيهِنَّ إِلَى مُعَامَلَةِ الْعَاصِي مِنَ الْإِنْسِ بِالْمَعْرُوفِ بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُفُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] ثُمَّ يُرْشِدُ تَعَالَى إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ شَيْطَانِ الْجَانِّ، فَإِنَّهُ لَا يَكُفُّهُ عَنْكَ الْإِحْسَانُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ هَلَاكَكَ وَدَمَارَكَ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ مبين لك ولأبيك من قبلك.
وقال ابْنُ جَرِيرٍ «1» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ وَإِمَّا يُغْضِبَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ يَقُولُ: فَاسْتَجِرْ بِاللَّهِ مِنْ نَزْغِهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ لِجَهْلِ الْجَاهِلِ عَلَيْكَ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ نَزْغِهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لما نزلت خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال: يَا رَبِّ كَيْفَ بِالْغَضَبِ؟، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200] قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الِاسْتِعَاذَةِ حَدِيثُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَسَابَّا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا حَتَّى جَعَلَ أَنْفُهُ يتمرغ غَضَبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لِأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: مَا بِي مِنْ جُنُونٍ «2» . وَأَصْلُ النَّزْغِ الْفَسَادُ إِمَّا بِالْغَضَبِ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53] والعياذ الِالْتِجَاءُ وَالِاسْتِنَادُ وَالِاسْتِجَارَةُ مِنَ الشَّرِّ، وَأَمَّا الْمَلَاذُ فَفِي طَلَبِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطِّيبِ المتنبي في شعره: [البسيط]
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ «3»
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جابره
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 155. [.....]
(2) أخرجه البخاري في الأدب باب 44، ومسلم في البر حديث 110، وأبو داودي الأدب باب 3، والترمذي في الدعوات باب 51، وأحمد في المسند 5/ 240، 244.
(3) البيتان في ديوان المتنبي 1/ 87، طبعة دار الكتب العلمية.(3/482)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحَادِيثَ الِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هاهنا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَرَكُوا مَا عَنْهُ زَجَرَ أَنَّهُمْ إِذا مَسَّهُمْ أي أصابهم طيف. وقرأ الآخرون طَائِفٌ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، فَقِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالْغَضَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ بِالصَّرَعِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْهَمِّ بِالذَّنْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِإِصَابَةِ الذَّنْبِ وَقَوْلُهُ تَذَكَّرُوا أَيْ عِقَابَ اللَّهِ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ وَوَعْدَهُ، وَوَعِيدَهُ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللَّهِ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ أَيْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا مِمَّا كَانُوا فِيهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ هَاهُنَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا طَيْفٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فَقَالَ «إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكِ، وَإِنْ شِئْتِ فَاصْبِرِي وَلَا حِسَابَ عَلَيْكِ» فَقَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ وَلَا حِسَابَ عَلَيَّ، وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ وَعِنْدَهُمْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصْرَعُ وَأَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فَقَالَ «إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكَ، وَإِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ» فَقَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ وَلِيَ الْجَنَّةُ، وَلَكِنِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا فَكَانَتْ لَا تَتَكَشَّفُ: وَأَخْرَجَهُ الحاكم من مُسْتَدْرَكِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ جَامِعٍ مِنْ تَارِيخِهِ أَنَّ شَابًّا كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةٌ فدعته إلى نفسها، فما زَالَتْ بِهِ حَتَّى كَادَ يَدْخُلُ مَعَهَا الْمَنْزِلَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَعَادَهَا، فَمَاتَ، فَجَاءَ عُمَرُ فَعَزَّى فِيهِ أَبَاهُ، وَكَانَ قَدْ دُفِنَ لَيْلًا فَذَهَبَ فَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ بِمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَادَاهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا فَتَى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] فأجابه الْفَتَى مِنْ دَاخِلِ الْقَبْرِ: يَا عُمَرُ قَدْ أَعْطَانِيهِمَا رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ.
وقوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ أَيْ وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْإِنْسِ كَقَوْلِهِ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاءِ: 27] وَهُمْ أَتْبَاعُهُمْ وَالْمُسْتَمِعُونَ لَهُمُ، الْقَابِلُونَ لِأَوَامِرِهِمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي تساعدهم الشياطين على الْمَعَاصِي وَتُسَهِّلُهَا عَلَيْهِمْ وَتُحَسِّنُهَا لَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْمَدُّ الزِّيَادَةُ يَعْنِي يَزِيدُونَهُمْ فِي الْغَيِّ يَعْنِي الْجَهْلَ وَالسَّفَهَ.
ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ قِيلَ معناه إن الشياطين تمد الإنس لَا تُقْصِرُ فِي أَعْمَالِهِمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ الآية، قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون، ولا الشياطين تمسك(3/483)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
عنهم «1» ، وقيل مَعْنَاهُ كَمَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ قَالَ: هُمُ الْجِنُّ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، يَقُولُ لَا يسأمون «2» ، وكذا قال السدي وغيره أن يعني الشَّيَاطِينَ يَمُدُّونَ أَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَلَا تَسْأَمُ مِنْ إِمْدَادِهِمْ فِي الشَّرِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ طَبِيعَةٌ لهم وسجية لا يُقْصِرُونَ لَا تَفْتُرُ فِيهِ وَلَا تَبْطُلُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مَرْيَمَ: 83] قَالَ ابْنُ عباس وغيره: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
[سورة الأعراف (7) : آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يَقُولُ: لَوْلَا تَلَقَّيْتَهَا. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: لَوْلَا أَحْدَثْتَهَا فَأَنْشَأْتَهَا «3» ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ في قوله وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قَالَ: لَوْلَا اقْتَضَيْتَهَا، قَالُوا: تُخْرِجُهَا عَنْ نَفْسِكَ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقول: تلقيتها من الله تعالى «5» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ لَوْلا اجْتَبَيْتَها يَقُولُ: لَوْلَا أَخَذْتَهَا أَنْتَ فَجِئْتَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ «6» .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ أَيْ مُعْجِزَةٍ وخارق، كقوله تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشُّعَرَاءِ: 4] يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُجْهِدُ نَفْسَكَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى نَرَاهَا وَنُؤْمِنَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أَيْ أَنَا لَا أَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا أَمَرَنِي بِهِ فَأَمْتَثِلُ مَا يُوحِيهِ إِلَيَّ، فَإِنْ بَعَثَ آيَةً قَبِلْتُهَا وَإِنَّ مَنَعَهَا لَمْ أَسْأَلْهُ ابْتِدَاءَ إِيَّاهَا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لِي فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ وَأَبْيَنُ الدَّلَالَاتِ وَأَصْدَقُ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، فَقَالَ هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[سورة الأعراف (7) : آية 204]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ، أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْصَاتِ عِنْدَ تلاوته
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 158.
(2) تفسير الطبري 6/ 158.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 159.
(4) تفسير الطبري 6/ 159.
(5) تفسير الطبري 6/ 160.
(6) تفسير الطبري 6/ 160.(3/484)
إِعْظَامًا لَهُ وَاحْتِرَامًا، لَا كَمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِمْ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] الآية، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إِذَا جهر الإمام بالقراءة، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإذا قرأ فأنصتوا» «1» وكذا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضا، وَصَحَّحَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَيْضًا، وَلَمْ يُخْرِجْهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهِجْرِيُّ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ والآية الأخرى، أمروا بالإنصات.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَقَالَ أَيْضًا «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ فَسَمِعَ نَاسًا يَقْرَءُونَ مَعَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَمَا آنَ لَكُمْ أَنْ تَفْهَمُوا، أَمَا آنَ لَكُمْ أَنْ تَعْقِلُوا وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، قَالَ «4» : وَحَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا قَرَأَ شَيْئًا قَرَأَهُ، فَنَزَلَتْ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ «هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي آنِفًا؟» قَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ» قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَصَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ لَا يَقْرَأُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ، تَكْفِيهِمْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْهُمْ صَوْتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ فِيمَا لَا يجهر به سرا في
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 63، وأبو داود في الصلاة باب 68، والنسائي في الافتتاح باب 30، وابن ماجة في الإقامة باب 13، وأحمد في المسند 2/ 376، 430، 4/ 415.
(2) تفسير الطبري 6/ 161.
(3) تفسير الطبري 6/ 161.
(4) تفسير الطبري 6/ 161.
(5) أخرجه الترمذي في الصلاة باب 116، والنسائي في الافتتاح باب 28، وابن ماجة في الإقامة باب 13، ومالك في النداء حديث 44، وأحمد في المسند 2/ 302.(3/485)
أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «1» .
قُلْتُ: هَذَا مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ قِرَاءَةٌ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ لَا الْفَاتِحَةُ وَلَا غَيْرُهَا، وهو أحد قولي الشافعية، وَهُوَ الْقَدِيمُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فَقَطْ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ قِرَاءَةٌ أصلا في السرية ولا الجهرية بما وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فقراءته قراءة له» »
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَهُوَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٌ عَنْ وَهَبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفًا، وَهَذَا أَصَحُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ أَفْرَدَ لَهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَاخْتَارَ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السَّرِيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في الآية قوله وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَتَحَدَّثَانِ، وَالْقَاصُّ يَقُصُّ، فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَمِعَانِ إِلَى الذِّكْرِ وَتَسْتَوْجِبَانِ الْمَوْعُودَ؟ قَالَ: فَنَظَرَا إِلَيَّ ثُمَّ أَقْبَلَا عَلَى حَدِيثِهِمَا، قَالَ: فَأَعَدْتُ فَنَظَرَا إِلَيَّ وَأَقْبَلَا عَلَى حَدِيثِهِمَا، قَالَ: فَأَعَدْتُ الثَّالِثَةَ قَالَ فَنَظَرَا إِلَيَّ فَقَالَا: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هشام إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قَالَ: فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَنْ يُتَكَلَّمَ «4» ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بن أبي حمزة يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي هَذِهِ الآية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة،
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 163. [.....]
(2) أخرجه ابن ماجة في الإقامة باب 13، وأحمد في المسند 3/ 339.
(3) تفسير الطبري 6/ 161، 163.
(4) تفسير الطبري 6/ 163.(3/486)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الذِّكْرِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ بَقِيَّةَ: سَمِعْتُ ثَابِتَ بْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قَالَ: الْإِنْصَاتُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ «1» ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة، كما جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَحَالَ الْخُطْبَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ إِذَا مَرَّ الْإِمَامُ بِآيَةِ خَوْفٍ أَوْ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْ خَلْفِهِ شَيْئًا، قَالَ: السُّكُوتُ. وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ:
إِذَا جَلَسْتَ إِلَى الْقُرْآنِ فَأَنْصِتْ لَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَمَنْ تَلَاهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» تَفَرَّدَ بِهِ الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
يَأْمُرُ تعالى بذكره أول النهار واخره كثيرا، كَمَا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَهَذِهِ الآية مكية. وقال هاهنا: بالغدو، وهو أول النَّهَارِ، وَالْآصَالِ جَمْعُ أَصِيلٍ كَمَا أَنَّ الْأَيْمَانَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أَيِ اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وَبِالْقَوْلِ لَا جَهْرًا، وَلِهَذَا قَالَ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وَهَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ لا يكون نداء وجهرا بَلِيغًا، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أم بعيد فنناديه؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَةِ: 186] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» «3» .
وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا في قوله تعالى:
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 164.
(2) المسند 2/ 341.
(3) أخرجه البخاري في الدعوات باب 51، ومسلم في الذكر حديث 44، 45.(3/487)
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 110] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَبُّوهُ وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ وسبوا من جاء به، فأمره الله تعالى أن لا يَجْهَرَ بِهِ لِئَلَّا يَنَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَا يُخَافِتَ بِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ فَلَا يُسْمِعُهُمْ، وَلْيَتَّخِذْ سَبِيلًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَكَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ.
وَقَدْ زعم ابن جرير وقبله عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ إِنَّ المراد بها أَمْرُ السَّامِعِ لِلْقُرْآنِ فِي حَالِ اسْتِمَاعِهِ بِالذِّكْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَهَذَا بِعِيدٌ مَنَافٍ لِلْإِنْصَاتِ المأمور به، ثم إن الْمُرَادُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوِ في الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْصَاتَ إِذْ ذَاكَ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ، سَوَاءً كَانَ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، فَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ لَمْ يُتَابَعَا عَلَيْهِ، بَلِ الْمُرَادُ الْحَضُّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ مِنَ الْعِبَادِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، لِئَلَّا يَكُونُوا مِنَ الْغَافِلِينَ، وَلِهَذَا مَدَحَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَقَالَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بِهِمْ فِي كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ.
وَلِهَذَا شُرِعَ لَنَا السُّجُودَ هَاهُنَا لَمَّا ذُكِرَ سُجُودُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا يُتِمُّونَ الصفوف الأول فالأول وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» «1» وَهَذِهِ أَوَّلُ سَجْدَةٍ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُشْرَعُ لِتَالِيهَا وَمُسْتَمِعِهَا السُّجُودُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَدَّهَا فِي سَجْدَاتِ الْقُرْآنِ.
آخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنّة
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 119، وأبو داود في الصلاة باب 93، 96، والنسائي في الإمامة باب 28، وابن ماجة في الإقامة باب 50، وأحمد في المسند 2/ 98، 5/ 101.(3/488)
فهرس المحتويات
سورة المائدة
الآيتان: 1، 2 4 الآية: 3 11 الآية: 4 28 الآية: 5 35 الآية: 6 39 الآيات: 7- 11 55 الآيات: 12- 14 57 الآيات: 15- 18 61 الآية: 19 63 الآيات: 20- 26 65 الآيات: 27- 31 73 الآيات: 32- 34 83 الآيات: 35- 37 93 الآيات: 38- 40 97 الآيات: 41- 44 102 الآية: 45 109 الآيتان: 46، 47 114 الآيات: 48- 50 115 الآيات: 51- 53 120 الآيات: 54- 56 123 الآيتان: 57، 58 127 الآيات: 59- 63 129 الآيات: 64- 66 132 الآية: 67 136 الآيتان: 68، 69 140(3/489)
الآيتان: 70، 71 141 الآيات: 72- 75 142 الآيات: 76- 81 144 الآيات: 82- 86 149 الآيتان: 87، 88 152 الآية: 89 155 الآيات: 90- 93 160 الآيتان: 94، 95 171 الآيات: 96- 99 177 الآيات: 100- 102 182 الآيتان: 103، 104 187 الآية: 105 190 الآيات: 106- 108 193 الآية: 109 199 الآيتان: 110، 111 200 الآيات: 112- 115 202 الآيات: 116- 118 208 الآيتان: 119، 120 211
سورة الأنعام
الآيات: 1- 3 214 الآيات: 4- 6 215 الآيات: 7- 11 216 الآيات: 12- 16 217 الآيات: 17- 21 218 الآيات: 22- 26 220 الآيات: 27- 30 222 الآيات: 31- 36 223 الآيات: 37- 39 226 الآيات: 40- 45 228 الآيات: 46- 54 230(3/490)
الآيات: 55- 59 235 الآيات: 60- 62 238 الآيات: 63- 65 240 الآيات: 66- 69 248 الآية: 70 249 الآيات: 71- 73 250 الآيات: 74- 79 258 الآيات: 80- 83 262 الآيات: 84- 90 266 الآيتان: 91، 92 269 الآيتان: 93، 94 270 الآيات: 95- 97 272 الآيتان: 98، 99 274 الآية: 100 275 الآية: 101 276 الآيتان: 102، 103 277 الآيتان: 104، 105 279 الآيتان: 106، 107 281 الآية: 108 282 الآيتان: 109، 110 283 الآيات: 111- 113 285 الآيتان: 114، 115 288 الآيات: 116- 120 289 الآية: 121 290 الآيات: 122- 124 296 الآية: 125 300 الآيتان: 126، 127 302 الآية: 128 303 الآية: 129 304 الآية: 130 305(3/491)
الآيات: 131- 135 306 الآية: 136 308 الآية: 137 309 الآيتان: 138، 139 310 الآية: 140 311 الآيتان: 141، 142 312 الآيتان: 143، 144 315 الآية: 145 316 الآية: 146 318 الآيات: 147- 150 321 الآية: 151 322 الآية: 152 327 الآية: 153 328 الآيتان: 154، 155 330 الآيتان: 156، 157 332 الآية: 158 333 الآية: 159 338 الآية: 160 339 الآيات: 161- 163 342 الآية: 164 344 الآية: 165 345
سورة الأعراف
الآيات: 1- 7 348 الآيتان: 8، 9 350 الآيتان: 10، 11 351 الآية: 12 352 الآيات: 13- 15 353 الآيتان: 16، 17 354 الآية: 18 356 الآيات: 19- 23 357(3/492)
الآيات: 24- 26 359 الآيات: 27- 30 361 الآية: 31 365 الآيتان: 32، 33 367 الآيات: 34- 37 368 الآيتان: 38، 39 369 الآيتان: 40، 41 370 الآيتان: 42، 43 373 الآيتان: 44، 45 374 الآيتان: 46، 47 375 الآيتان: 48، 49 379 الآيتان: 50، 51 380 الآيتان: 52، 53 381 الآية: 54 382 الآيتان: 55، 56 384 الآيتان: 57، 58 386 الآيات: 59- 62 387 الآيات: 63- 69 388 الآيات: 70- 72 390 الآيات: 73- 78 393 الآية: 79 398 الآيات: 80- 84 399 الآيات: 85- 87 401 الآيات: 88- 92 402 الآيات: 93- 95 403 الآيات: 96- 99 404 الآية: 100 405 الآيتان: 101، 102 406 الآية: 103 407 الآيات: 104- 108 408(3/493)
الآيات: 109- 112 409 الآيات: 113- 116 410 الآيات: 117- 126 411 الآيات: 127- 129 413 الآيات: 130- 135 414 الآيات: 136- 139 419 الآيات: 140- 142 420 الآية: 143 421 الآيتان: 144، 145 425 الآيتان: 146، 147 426 الآيتان: 148، 149 427 الآيتان: 150، 151 428 الآيتان: 152، 153 429 الآيات: 154- 156 431 الآية: 157 434 الآية: 158 440 الآية: 159 442 الآيات: 160- 163 443 الآيات: 164- 166 445 الآيات: 167- 170 448 الآية: 171 450 الآيات: 172- 174 451 الآيات: 175- 177 457 الآية: 178 462 الآية: 179 463 الآية: 180 464 الآيات: 181- 183 466 الآيتان: 184، 185 467 الآيتان: 186، 187 468 الآية: 188 473(3/494)
الآيتان: 189، 190 474 الآيات: 191- 198 477 الآيتان: 199، 200 479 الآيتان: 201، 202 483 الآيتان: 203، 204 484 الآيتان: 205، 206 487(3/495)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
[الجزء الرابع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةِ الْأَنْفَالِ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. آيَاتُهَا سَبْعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ. كَلِمَاتُهَا أَلْفُ كَلِمَةٍ وَسِتُّمِائَةِ كَلِمَةٍ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً. حُرُوفُهَا خَمْسَةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَأَرْبَعَةٌ وتسعون حرفا والله أعلم.
[سورة الأنفال (8) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : قَالَ ابْنُ عباس: الأنفال المغانم، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سُورَةُ الْأَنْفَالِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ. أَمَّا مَا عَلَّقَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ «2» ، كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهَا شَيْءٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُ واحد أنها المغانم، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ، قَالَ فِيهَا لبيد: [الرمل]
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلٍ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ ريثي وعجل «3»
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنِي يُونُسُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ. ثُمَّ عَادَ لِمَسْأَلَتِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: الْأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِيَ؟ قَالَ الْقَاسِمُ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى كَادَ يُحْرِجُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَدْرُونَ مَا مِثْلُ هَذَا مِثْلُ صَبِيغٍ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ. ثُمَّ قال
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 8، باب 1.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 168.
(3) البيت في ديوان لبيد ص 174، ولسان العرب (نفل) ومقاييس اللغة 46412، وتاج العروس (نفل) ، ويروى «ريثي والعجل» بدل «ريثي وعجل» .
(4) تفسير الطبري 6/ 170.(4/3)
ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا زَاجِرًا آمِرًا محللا مُحَرِّمًا. قَالَ الْقَاسِمُ فَسُلِّطَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رجل فسأله عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ يَنْفُلُ فَرَسَ الرَّجُلِ وَسِلَاحَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فقال له مثل ذلك، ثم عاد عَلَيْهِ حَتَّى أَغْضَبَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَدْرُونَ مَا مِثْلُ هَذَا؟ مِثْلُ صَبِيغٍ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى سَالَتِ الدِّمَاءُ عَلَى عَقِبَيْهِ أَوْ عَلَى رِجْلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ أَمَّا أَنْتَ فَقَدِ انْتَقَمَ اللَّهُ لِعُمَرَ مِنْكَ «1» .
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ فَسَّرَ النَّفَلَ بِمَا يَنْفُلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ مِنْ سَلَبٍ أَوْ نَحْوِهِ بَعْدَ قَسْمِ أَصْلِ الْمَغْنَمِ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى فَهْمِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ لَفْظِ النَّفَلِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخُمُسِ بعد الأربعة من الأخماس، فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ «2» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ: لَا نَفَلَ يَوْمَ الزَّحْفِ، إِنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ الْتِقَاءِ الصُّفُوفِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عطاء بن أبي رباح في الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قَالَ يَسْأَلُونَكَ فِيمَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ، مِنْ دَابَّةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ مَتَاعٍ فَهُوَ نَفَلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ «3» ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَسَّرَ الْأَنْفَالَ بِالْفَيْءِ وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنَ الكفار من غير قتال.
قال ابْنُ جَرِيرٍ «4» : وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أَنْفَالُ السَّرَايَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن صالح بن حيي، قال بلغني في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قال السرايا «5» ، ومعنى هَذَا مَا يَنْفُلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ السَّرَايَا زِيَادَةً عَلَى قَسْمِهِمْ مَعَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ.
وَقَدْ صَرَّحَ بذلك الشعبي، واختار ابن جرير أنها زيادة عَلَى الْقَسْمِ.
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» ، حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد اللَّهِ الثَّقَفِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَقُتِلَ أَخِي عمير قتلت سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذا الكتيفة، فأتيت به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبَضِ» قَالَ فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سلبي، قال فما جاوزت إلا يسيرا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 170.
(2) تفسير الطبري 6/ 170.
(3) تفسير الطبري 6/ 169. [.....]
(4) تفسير الطبري 6/ 169.
(5) تفسير الطبري 6/ 169.
(6) المسند 1/ 180.(4/4)
حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اذْهَبْ فَخُذْ سلبك» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مالك، قال: قلت يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شَفَانِي اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي، ضعه» قال: فوضعته، ثم رجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي، قال:
فإذا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي قَالَ: قُلْتُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لِي، وَإِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي، فَهُوَ لَكَ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ «2» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ، أَصَبْتُ سَيْفًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ نَفِّلْنِيهِ، فَقَالَ «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ عَاوَدْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية وَتَمَامُ الْحَدِيثِ، فِي نُزُولِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [الْعَنْكَبُوتِ: 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [الْمَائِدَةِ: 90] وَآيَةِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ «3» فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بَكْرٍ عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ مَالِكَ بْنَ رَبِيعَةَ يَقُولُ: أَصَبْتُ سَيْفَ ابْنِ عَائِذٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ السَّيْفُ يُدْعَى بِالْمَرْزُبَانِ، فَلَمَّا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ النَّفَلِ، أَقْبَلْتُ بِهِ فَأَلْقَيْتُهُ فِي النَّفَلِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ، فَرَآهُ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ، فَسَأَلَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ «4» ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «5» مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
(سَبَبٌ آخَرُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عن عبد الرحمن عن
__________
(1) المسند 1/ 178.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 145، والترمذي في تفسير سورة 8، باب 1، والدارمي في الوصايا باب 4.
(3) كتاب فضائل الصحابة حديث 43.
(4) تفسير الطبري 6/ 173.
(5) تفسير الطبري 6/ 173.
(6) المسند 5/ 322.(4/5)
سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ، نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، عَنْ بَوَاءٍ يَقُولُ عَنْ سَوَاءٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ بن عمر أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ أبي سلامة عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ، فَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ منا، نحن منعنا عنه الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ، وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خفنا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً فَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أغار فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ نَفَّلَ الرُّبُعَ، فَإِذَا أَقْبَلَ راجعا نفل الثلث، وكان يكره الأنفال «2» ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بِهِ نحوه، قال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وكذا» فتسارع في ذلك شبان القوم وَبَقِيَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمَغَانِمُ جَاءُوا يَطْلُبُونَ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ، فَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ لَوِ انْكَشَفْتُمْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا. فَتَنَازَعُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فله كذا وكذا، ومن أتى أسيرا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا» . فَجَاءَ أَبُو الْيَسَرِ بِأَسِيرَيْنِ فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، أنت وعدتنا، فقام سعد بن عبادة فقال:
__________
(1) المسند 5/ 324.
(2) أخرجه الترمذي في السير باب 12، وابن ماجة في الجهاد باب 35.
(3) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 144.(4/6)
يا رسول الله، إنك لو أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْقَ لِأَصْحَابِكَ شَيْءٌ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنَا مِنْ هَذَا زَهَادَةٌ فِي الْأَجْرِ، وَلَا جُبْنٌ عَنِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا قُمْنَا هَذَا المقام محافظة عليك مخافة أَنْ يَأْتُوكَ مِنْ وَرَائِكَ، فَتَشَاجَرُوا وَنَزَلَ الْقُرْآنُ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، قَالَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41] إلى آخر الآية.
وقال الإمام أبو عبيد الله الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِ جِهَاتِهَا وَمَصَارِفِهَا، أَمَّا الْأَنْفَالُ فَهِيَ الْمَغَانِمُ وَكُلُّ نَيْلٍ نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أموال أهل الحرب، فكانت الأنفال الأولى لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَقَسَمَهَا يوم بدر على ما أراه اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ آيَةُ الْخُمُسِ فَنَسَخَتِ الْأُولَى.
قُلْتُ هَكَذَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَوَاءً، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ، والأنفال أصلها جماع الْغَنَائِمِ، إِلَّا أَنَّ الْخُمُسَ مِنْهَا مَخْصُوصٌ لِأَهْلِهِ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ الْكِتَابُ وَجَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَمَعْنَى الْأَنْفَالِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ إِحْسَانٍ فَعَلَهُ فَاعِلٌ تَفَضُّلًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ النَّفَلُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَمْوَالِ عَدُوِّهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ شيء خصهم اللَّهُ بِهِ تَطَوُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها الله تعالى هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَهَذَا أَصْلُ النَّفَلِ.
قُلْتُ: شَاهِدُ هذا ما في الصحيحين عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ- وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» «1» . وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلِهَذَا سُمِّيَ مَا جَعَلَ الْإِمَامُ لِلْمُقَاتِلَةِ نَفَلًا، وَهُوَ تَفْضِيلُهُ بَعْضَ الْجَيْشِ عَلَى بَعْضٍ بِشَيْءٍ سِوَى سِهَامِهِمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ عَلَى قَدْرِ الْغَنَاءِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالنِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ.
وَفِي النَّفَلِ الَّذِي يَنْفُلُهُ الْإِمَامُ سُنَنٌ أَرْبَعٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَوْضِعٌ غَيْرُ مَوْضِعِ الْأُخْرَى [فَإِحْدَاهُنَّ] فِي النَّفَلِ لَا خُمُسَ فِيهِ وَذَلِكَ السلب، [والثانية] النَّفَلِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ وَهُوَ أَنْ يُوَجِّهَ الْإِمَامُ السَّرَايَا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، فَتَأْتِي بِالْغَنَائِمِ، فَيَكُونُ لِلسَّرِيَّةِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّبُعُ أَوِ الثُّلْثُ بَعْدَ الْخُمُسِ، [وَالثَّالِثَةُ] فِي النَّفَلِ مِنَ الْخُمُسِ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ تُحَازَ الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا، ثُمَّ تُخَمَّسُ فَإِذَا صَارَ الْخُمُسُ فِي يَدَيِ الْإِمَامِ، نَفَلَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى. [وَالرَّابِعَةُ] فِي النَّفَلِ فِي جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يُخَمَّسَ مِنْهَا شيء، وهو أن
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم باب 1، والخمس باب 8، ومسلم في المساجد حديث 3، 5، والترمذي في السير باب 29.(4/7)
يُعْطَى الْأَدِلَّاءُ وَرُعَاةُ الْمَاشِيَةِ وَالسَّوَّاقُ لَهَا. وَفِي كُلِّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ.
قَالَ الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الأنفال أن لا يَخْرُجَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْخُمُسِ شَيْءٌ غَيْرُ السَّلَبِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ النَّفَلِ هُوَ شَيْءٌ زِيدُوهُ غَيْرَ الَّذِي كَانَ لَهُمْ وَذَلِكَ مِنْ خُمُسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ لَهُ خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ كُلِّ غَنِيمَةٍ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ، فَإِذَا كَثُرَ الْعَدُوُّ وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ وَقَلَّ مَنْ بِإِزَائِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، نَفَلَ مِنْهُ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْفُلْ.
[وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ] مِنَ النَّفَلِ إِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا فَقَالَ لَهُمْ قَبْلَ اللِّقَاءِ مَنْ غَنِمَ شيئا، فهو له، بعد الخمس فهو لَهُمْ عَلَى مَا شَرَطَ الْإِمَامُ، لِأَنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَزَوْا وَبِهِ رَضُوا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ لَمْ تُخَمَّسْ نَظَرٌ.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي شَارِفَيْهِ اللَّذَيْنِ حَصَلَا لَهُ مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ بَيَانًا شَافِيًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أَي اتَّقُوا اللَّهَ فِي أُمُورِكُمْ وَأَصْلِحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَلَا تَظَالَمُوا وَلَا تَخَاصَمُوا وَلَا تَشَاجَرُوا فَمَا آتَاكُمُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ خَيْرٌ مِمَّا تَخْتَصِمُونَ بِسَبَبِهِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ فِي قَسْمِهِ بَيْنَكُمْ عَلَى ما أراده الله، فإنه إنما يقسمه كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَقَالَ ابن عباس: هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ لا تستبوا.
ولنذكر هَاهُنَا حَدِيثًا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مُسْنَدِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ شَيْبَةَ الْحَبَطِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بأبي أنت وأمي؟ فقال: «رجلان من أمتي جثيا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا:
يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلَمَتِي مِنْ أخي.
فقال الله تعالى، أعط أخاك مظلمته، قَالَ: يَا رَبِّ لَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِي شَيْءٌ قَالَ: رَبِّ فَلْيَحْمِلْ عَنِّي مِنْ أَوْزَارِي» . قال: فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ ثُمَّ قَالَ «إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ يَوْمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى مَنْ يَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ: ارْفَعْ بصرك وانظر فِي الْجِنَانِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى مَدَائِنَ مِنْ فِضَّةٍ وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً بِاللُّؤْلُؤِ، لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا؟ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا؟ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِمَنْ أعطى ثمنه، قال رب ومن يملك ثمنه؟ قَالَ أَنْتَ تَمْلِكُهُ، قَالَ: مَاذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: تَعْفُو عَنْ(4/8)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
أَخِيكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذْ بِيَدِ أَخِيكَ، فادخلا الْجَنَّةَ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ القيامة» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 2 الى 4]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. قَالَ: الْمُنَافِقُونَ لَا يَدْخُلُ قُلُوبُهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ.
وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَلَا يَتَوَكَّلُونَ وَلَا يُصَلُّونَ إِذَا غَابُوا وَلَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ ليسوا بمؤمنين، ثم وصف الله الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً يقول زادتهم تَصْدِيقًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يَقُولُ لَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ «1» .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَرِقَتْ أَيْ فَزِعَتْ وَخَافَتْ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ «2» ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ حَقَّ الْمُؤْمِنِ الَّذِي إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ أَيْ خَافَ مِنْهُ، فَفَعَلَ أَوَامِرَهُ وَتَرَكَ زَوَاجِرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، [آلِ عِمْرَانَ: 135] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: 4- 5] وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ السُّدِّيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَوْ قَالَ يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَيَجِلُ قَلْبُهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال: الوجل في القلب كاحتراق السَّعَفَةِ، أَمَا تَجِدُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً؟ قَالَ: بَلَى. قالت: إِذَا وَجَدْتَ ذَلِكَ فَادْعُ اللَّهَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُذْهِبُ ذَلِكَ «3» .
وَقَوْلُهُ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، كَقَوْلِهِ وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 9] .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 178. [.....]
(2) تفسير الطبري 6/ 178.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 178.(4/9)
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَشْبَاهِهَا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ، بَلْ قد حكى الإجماع عليه غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ لَا يَرْجُونَ سِوَاهُ وَلَا يَقْصِدُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وَلَا يَلُوذُونَ إِلَّا بِجَنَابِهِ، وَلَا يَطْلُبُونَ الْحَوَائِجَ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَرْغَبُونَ إِلَّا إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمُلْكِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ جِمَاعُ الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يُنَبِّهُ تعالى بِذَلِكَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ مَا ذَكَرَ اعْتِقَادَهُمْ وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْخَيْرِ كُلَّهَا، وَهُوَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِقَامَتُهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَإِسْبَاغُ الطُّهُورِ فِيهَا وَتَمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا وَالتَّشَهُّدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا إقامتها، والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزَّكَاةِ وَسَائِرَ الْحُقُوقِ لِلْعِبَادِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِخَلْقِهِ. قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، فَأَنْفِقُوا مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ فَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَمْوَالَ عَوَارِيٌّ وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ أَوْشَكْتَ أَنْ تُفَارِقَهَا.
وَقَوْلُهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، أَي الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ السَّكْسَكِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟» قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ:
«انظر ما تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟» فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا. فَقَالَ: «يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ» ثَلَاثًا.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ فِي قَوْلِهِ تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ كَقَوْلِكَ فُلَانٌ سَيِّدٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ سَادَةٌ. وَفُلَانٌ تَاجِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ تُجَّارٌ. وَفُلَانٌ شَاعِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ شُعَرَاءُ. وَقَوْلُهُ لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ مَنَازِلُ وَمَقَامَاتٌ وَدَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما(4/10)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
يَعْمَلُونَ
[آلِ عِمْرَانَ: 163] وَمَغْفِرَةٌ أَيْ يَغْفِرُ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ وَيَشْكُرُ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ فَوْقُ فَضْلَهُ عَلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ، وَلَا يرى الذي هو أسفل منه أَنَّهُ فُضِّلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَاهُمْ مَنْ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَنَالُهَا غَيْرُهُمْ فقال: «بلى والذي نفسي بيده، لرجال آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» «1» . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حديث أبي عطية عن ابن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم «إن أهل الجنة ليتراؤون أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ منهم وأنعما» «2» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ»
: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي السَّبَبِ الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ شُبِّهَ بِهِ فِي الصَّلَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم وطاعتهم لله وَرَسُولَهُ، ثُمَّ رَوَى عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَ هَذَا.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ كَمَا أَنَّكُمْ لَمَّا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمَغَانِمِ وَتَشَاحَحْتُمْ فِيهَا فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ مِنْكُمْ وَجَعَلَهَا إِلَى قَسْمِهِ، وَقَسْمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَّمَهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ، فَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَصْلَحَةَ التَّامَّةَ لَكُمْ، وَكَذَلِكَ لَمَّا كَرِهْتُمُ الْخُرُوجَ إِلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ قِتَالِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، وَهُمُ النَّفِيرُ الَّذِينَ خَرَجُوا لِنَصْرِ دِينِهِمْ وَإِحْرَازِ عِيرِهِمْ، فَكَانَ عَاقِبَةُ كَرَاهَتِكُمْ لِلْقِتَالِ بِأَنْ قَدَّرَهُ لَكُمْ وَجَمَعَ بِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ رَشَدًا وَهُدًى، وَنَصْرًا وَفَتْحًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 8، والرقاق باب 51، ومسلم في الجنة حديث 11، وأحمد في المسند 3/ 50.
(2) أخرجه أبو داود في الحروف باب 19، وابن ماجة في المقدمة باب 11، وأحمد في المسند 3/ 26، 27.
(3) تفسير الطبري 6/ 180.(4/11)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، عَلَى كُرْهٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ هُمْ كَارِهُونَ لِلْقِتَالِ فَهُمْ يُجَادِلُونَكَ فِيهِ بَعْدَ مَا تبين لهم. ثم روي عن مجاهد نحوه أَنَّهُ قَالَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ قَالَ كَذَلِكَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ وَمُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ لِطَلَبِ الْمُشْرِكِينَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ «2» وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ مُجَادَلَةً كَمَا جَادَلُوكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالُوا أَخْرَجْتَنَا لِلْعِيرِ وَلَمْ تُعْلِمْنَا قِتَالًا فَنَسْتَعِدُّ لَهُ.
قُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ طَالِبًا لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي بَلَغَهُ خَبَرُهَا أَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنَ الشَّامِ فِيهَا أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ لِقُرَيْشٍ فَاسْتَنْهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ خَفَّ مِنْهُمْ فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَطَلَبَ نَحْوَ السَّاحِلِ مِنْ عَلَى طَرِيقِ بَدْرٍ، وَعَلِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ، فَبَعَثَ ضَمْضَمَ بْنَ عمرو نذيرا إلى أهل مَكَّةَ، فَنَهَضُوا فِي قَرِيبٍ مِنْ أَلْفِ مُقَنَّعٍ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ وَتَيَامَنَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ فَنَجَا وَجَاءَ النفير فوردوا ماء بدر، وجمع الله بين الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَصْرِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ خُرُوجُ النَّفِيرِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَعِدُهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِيرَ وَإِمَّا النَّفِيرَ، وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِيرِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِلَا قِتَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ «إِنِّي أُخْبِرْتُ عَنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا مُقْبِلَةٌ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ قَبْلَ هَذِهِ الْعِيرِ لَعَلَّ الله أن يُغْنِمُنَاهَا؟» فَقُلْنَا نَعَمْ فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، قَالَ لَنَا «مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ؟» فَقُلْنَا لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ وَلَكِنَّا أَرَدْنَا الْعِيرَ، ثُمَّ قَالَ «مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ؟» فَقُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: إذًا لَا نَقُولُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 181.
(2) تفسير الطبري 6/ 181.(4/12)
[الْمَائِدَةِ: 24] قَالَ فَتَمَنَّيْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ لَوْ قُلْنَا كَمَا قَالَ الْمِقْدَادُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَالٌ عَظِيمٌ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ «1» .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لهيعة بنحوه.
وروى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عمرو بن علقمة بن أبي وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ:
«كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِيَّانَا تريد؟» فو الذي أكرمك وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ وَلَا لي بها علم، ولئن سرت حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكِ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَةِ: 24] وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا معكما مقاتلون، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ لَهُ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ «2» الْآيَاتِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَا قَالَ وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ أمر الناس أن يتهيئوا لِلْقِتَالِ وَأَمَرَهُمْ بِالشَّوْكَةِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ «3» وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ: فِي الْقِتَالِ «4» ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ أَيْ كَرَاهِيَةً لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْكَارًا لِمَسِيرِ قُرَيْشٍ حِينَ ذُكِرُوا لَهُمْ «5» ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أَيْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ إِلَّا مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ «6» . قال ابن جرير «7» :
__________
(1) انظر الدر المنثور 3/ 299.
(2) انظر الدر المنثور 3/ 299.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 182.
(4) تفسير الطبري 6/ 181.
(5) تفسير الطبري 6/ 182.
(6) تفسير الطبري 6/ 182.
(7) تفسير الطبري 6/ 182. [.....](4/13)
وقال آخرون عنى بذلك المشركين، حدثنا يُونُسُ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ جَادَلُوهُ فِي الْحَقِّ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. قَالَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَةِ الْآخَرِينَ، هَذِهِ صِفَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لِأَهْلِ الْكُفْرِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَ قَوْلِهِ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالَّذِي يَتْلُوهُ خَبَرٌ عَنْهُمْ. وَالصَّوَابُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ:
عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي وِثَاقِهِ إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ، قَالَ وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَعَدَكَ إِحْدَى الطائفتين، وقد أعطاك الله مَا وَعَدَكَ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلَمْ يُخْرِجْهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أَيْ يُحِبُّونَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا مَنَعَةَ وَلَا قِتَالَ تَكُونُ لَهُمْ وَهِيَ الْعِيرُ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي هو يريد أي يَجْمَعَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَهَا الشَّوْكَةُ والقتال ليظفركم بهم وينصركم عَلَيْهِمْ، وَيُظْهِرَ دِينَهُ وَيَرْفَعَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ وَيَجْعَلَهُ غَالِبًا عَلَى الْأَدْيَانِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وهو الذي يدبركم بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ يُحِبُّونَ خِلَافَ ذلك فيما يظهر لهم كقوله تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 216] .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ قَالُوا لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أي يَنْفِلَكُمُوهَا فَانْتَدَبَ النَّاسُ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا.
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مَنِ
__________
(1) المسند 1/ 229.(4/14)
الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْرِ النَّاسِ، حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ ذَفِرَانَ، فَخَرَجَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ، فَأَحْسَنَ. ثُمَّ قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ، فَأَحْسَنَ.
ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، فَنَحْنُ مَعَكَ وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَةِ: 24] ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ، يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا رسول الله إنا برآء من زمامك حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فأنت في زمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخوف أن لا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أجل» فقال آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ الله لما أمرك الله فو الذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا يَتَخَلَّفُ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللقاء، ولعل اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ «سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ» «1» وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذَا، وَكَذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، اخْتَصَرْنَا أَقْوَالَهُمُ اكْتِفَاءً بِسِيَاقِ محمد بن إسحاق.
__________
(1) انظر الأثر في تفسير الطبري 6/ 184، 185، وسيرة ابن هشام 1/ 606، 607.(4/15)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٍ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا» قَالَ فَمَا زَالَ يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ ثُمَّ التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
فلما كان يومئذ التقوا، فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا وَأُسِرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر وعمر وعليا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالْإِخْوَانُ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ فَيَكُونَ مَا أَخَذْنَاهُ مِنْهُمْ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قَالَ:
قُلْتُ وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تمكني مِنْ فُلَانٍ قَرِيبٍ لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلَانٍ أَخِيهِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ.
فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ فغدوت إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وهما يبكيان فقلت: مَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِلَّذِي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» لشجرة قريبة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- إلى قوله- فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال: 69] فأحل لَهُمُ الْغَنَائِمَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَفَرَّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ فأنزل الله أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آلِ عِمْرَانَ: 165] بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ «2» .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عكرمة بن عمار به
__________
(1) المسند 1/ 30، 31.
(2) أخرجه مسلم في الجهاد حديث 58.(4/16)
وَصَحَّحَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْيَمَانِيِّ وَهَكَذَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الكريمة قوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ يُثَيْعٍ والسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يناشد ربه أشد المناشدة يَدْعُو فَأَتَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بعض مناشدتك فو الله ليفين الله لك بما وعدك.
قال الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ-إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبُهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ موسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] ولكنا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرق وجهه وسره يعني «1» قوله. حدثني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ «اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ فَخَرَجَ وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر» «2» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عن عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أَيْ يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَالَ هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرْدِفِينَ متتابعين ويحتمل أن الْمُرَادُ مُرْدِفِينَ لَكُمْ أَيْ نَجْدَةً لَكُمْ كَمَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرْدِفِينَ يَقُولُ المدد كما تقول ائت للرجل زده كَذَا وَكَذَا وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ الْقَارِئُ وَابْنُ زَيْدٍ مُرْدِفِينَ مُمَدِّينَ، وَقَالَ أَبُو كُدَيْنةَ عَنْ قَابُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يمدكم ربكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ قَالَ وَرَاءَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ. وَفِي رِوَايَةٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُرْدِفِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ وَكَذَا قَالَ أَبُو ظِبْيَانَ وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الزَّمْعِيِّ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ مُحَمَّدِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْمَنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأنا في الميسرة. وهذا يقتضي إن صح إسناده أن الألف
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب 4.
(2) أخرجه البخاري في المغازي باب 4.
(3) تفسير الطبري 6/ 191.(4/17)
مُرْدَفَةٌ بِمِثْلِهَا وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ مُرْدِفِينَ بِفَتْحِ الدال، والله أَعْلَمُ. وَالْمَشْهُورُ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنَّبَةً، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنَّبَةً.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ وَلِيدٍ الْحَنَفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتُ الْفَارِسِ يَقُولُ أَقْدِمْ حَيْزُومُ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا قَالَ فَنَظَرَ إليه فإذا هو قد حطم وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : بَابُ شُهُودِ الْمَلَائِكَةِ بَدْرًا. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيُّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ «مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ» أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وهو خطأ، والصواب رواية البخاري والله أَعْلَمُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ لَمَّا شَاوَرَهُ فِي قَتْلِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غفرت لكم» «2» .
وقوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى الْآيَةَ، أَيْ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ بَعْثَ الْمَلَائِكَةِ وَإِعْلَامَهُ إِيَّاكُمْ بِهِمْ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَإِلَّا فَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى نَصْرِكُمْ على أعدائكم وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عند الله أي بِدُونِ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ
[مُحَمَّدٍ: 4- 6] وَقَالَ تَعَالَى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 140- 141] فَهَذِهِ حِكَمٌ شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْكُفَّارِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِهَا.
وَقَدْ كَانَ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَاقِبُ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْقَوَارِعِ التي تعم تلك الأمم
__________
(1) كتاب المغازي باب 11.
(2) أخرجه البخاري في المغازي باب 9، ومسلم في فضائل الصحابة حديث 161.(4/18)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
الْمُكَذِّبَةَ كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَعَادًا الْأُولَى بِالدَّبُورِ، وَثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْخَسْفِ وَالْقَلْبِ وَحِجَارَةِ السِّجِّيلِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِيَوْمِ الظُّلَّةِ، فلما بعث الله تعالى موسى وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بِالْغَرَقِ فِي الْيَمِّ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى التَّوْرَاةَ شَرَعَ فِيهَا قِتَالَ الْكُفَّارِ وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ [القصص: 43] وقتل المؤمنين للكافرين، أَشَدُّ إِهَانَةً لِلْكَافِرِينَ، وَأَشْفَى لِصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التَّوْبَةِ: 14] وَلِهَذَا كَانَ قَتْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَعْيُنِ ازْدِرَائِهِمْ أَنَكَى لَهُمْ وَأَشْفَى لِصُدُورِ حِزْبِ الْإِيمَانِ، فَقَتْلُ أَبِي جَهْلٍ فِي مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ وَحَوْمَةِ الْوَغَى أَشَدُّ إهانة له من موته عَلَى فِرَاشِهِ بِقَارِعَةٍ أَوْ صَاعِقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ بِالْعَدَسَةِ «1» بِحَيْثُ لَمْ يَقْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَإِنَّمَا غَسَّلُوهُ بِالْمَاءِ قَذْفًا مِنْ بَعِيدٍ، وَرَجَمُوهُ حَتَّى دَفَنُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أَيْ لَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمَا في الدنيا والآخرة كقوله تَعَالَى:
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غَافِرِ: 51] حَكِيمٌ فِيمَا شَرَعَهُ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَمَارِهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ سبحانه وتعالى.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 14]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)
يذكرهم الله تعالى بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِلْقَائِهِ النُّعَاسَ عليهم أمانا أمنهم به مِنْ خَوْفِهِمُ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى بِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آلِ عمران:
154] الآية، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: كُنْتُ مِمَّنْ أَصَابَهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَقَدْ سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِي مِرَارًا يَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَلَقَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهِمْ يَمِيدُونَ وَهُمْ تَحْتَ الْحَجَفِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أمنة
__________
(1) العدسة: بثرة تشبه العدسة، تخرج في الجسد، تقتل صاحبها غالبا.(4/19)
مِنَ اللَّهِ، وَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ «1» ، وَقَالَ قَتَادَةُ: النُّعَاسُ فِي الرَّأْسِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ.
قُلْتُ: أَمَّا النُّعَاسُ فَقَدْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ وأمر ذلك مشهور جدا، وأما الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ بَدْرٍ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ أَيْضًا وكأن ذلك كائن لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَأْسِ لِتَكُونَ قُلُوبُهُمْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِنَصْرِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ورحمته بهم ونعمته عَلَيْهِمْ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح: 5- 6] وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْعَرِيشِ مَعَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسما فَقَالَ: «أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ» ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الْعَرِيشِ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَرِ:
45] .
وَقَوْلُهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ وَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ شَدِيدٌ وَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمِ الْغَيْظَ يُوَسْوِسُ بَيْنَهُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ فَأَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رجس الشيطان وثبت الرَّمْلُ حِينَ أَصَابَهُ الْمَطَرُ وَمَشَى النَّاسُ عَلَيْهِ والدواب فساروا إلى القوم، وأمد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبَةً، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبَةً «2» .
وَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ لَمَّا خَرَجُوا لِيَنْصُرُوا الْعِيرَ وَلِيُقَاتِلُوا عَنْهَا نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ فَغَلَبُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ الظَّمَأُ فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ حَتَّى تعاطوا ذَلِكَ فِي صُدُورِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون وملؤوا الْأَسْقِيَةَ وَسَقَوُا الرِّكَابَ وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْجَنَابَةِ فَجَعَلَ الله في ذلك طهورا وثبت به الْأَقْدَامَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ رَمْلَةٌ فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَطَرَ عَلَيْهَا فَضَرَبَهَا حَتَّى اشْتَدَّتْ وَثَبَتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَامُ «3» .
وَنَحْوُ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَقَدْ رُوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ والزُّهْرِيِّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ إِنَّهُ طَشٌّ «4» أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ «5» .
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إِلَى بَدْرٍ نَزَلَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ هُنَاكَ أَيْ أَوَّلِ ماء وجده
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 192.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 194.
(3) تفسير الطبري 6/ 194.
(4) الطش: المطر القليل، وهو فوق الرذاذ. [.....]
(5) تفسير الطبري 6/ 193، 194.(4/20)
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَنْزِلُ الَّذِي نَزَلْتَهُ مَنْزِلٌ أنزلك الله إياه فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُجَاوِزَهُ أَوْ مَنْزِلٌ نَزَلْتَهُ لِلْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ؟ فَقَالَ «بَلْ مَنْزِلٌ نَزَلْتُهُ لِلْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ» فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ وَلَكِنْ سِرْ بِنَا حَتَّى نَنْزِلَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ يَلِي الْقَوْمَ وَنُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، وَنَسْتَقِي الْحِيَاضَ فَيَكُونُ لَنَا مَاءٌ وَلَيْسَ لَهُمْ مَاءٌ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَ كَذَلِكَ «1» .
وَفِي مَغَازِي الْأُمَوِيِّ أَنَّ الْحُبَابَ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ وَجِبْرِيلُ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ذلك الملك، يا محمد إن ربك يقرئك السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ إِنَّ الرَّأْيَ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ «هَلْ تَعْرِفُ هَذَا» ؟
فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا كَلُّ الْمَلَائِكَةِ أَعْرِفُهُمْ وَإِنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ.
وَأَحْسَنُ مَا فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبُ الْمُغَازِي رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ وَأَصَابَ قُرَيْشًا مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يرحلوا مَعَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ قَبْلَ النُّعَاسِ فَأَطْفَأَ بِالْمَطَرِ الْغُبَارَ وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنَ الْمَطَرِ يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ والْحَجَفِ نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ.
وَقَوْلُهُ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أَيْ مِنْ حَدَثٍ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ وَهُوَ تَطْهِيرُ الظَّاهِرِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أَيْ مِنْ وَسْوَسَةٍ أَوْ خَاطِرٍ سَيِّئٍ وَهُوَ تَطْهِيرُ الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ فَهَذَا زِينَةُ الظاهر وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أَيْ مُطَهِّرًا لِمَا كَانَ مِنْ غِلٍّ أَوْ حَسَدٍ أَوْ تَبَاغُضٍ وَهُوَ زِينَةُ الْبَاطِنِ وَطَهَارَتُهُ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أَيْ بِالصَّبْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ وَهُوَ شَجَاعَةُ الْبَاطِنِ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ وَهُوَ شَجَاعَةُ الظَّاهِرِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَفِيَّةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ لِيَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَبَارَكَ وَتَمَجَّدَ أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَنْزَلَهُمْ لِنَصْرِ نَبِيِّهِ وَدِينِهِ وَحِزْبِهِ الْمُؤْمِنَيْنِ يُوحِي إِلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ يُثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَازَرُوهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَاتَلُوا مَعَهُمْ وَقِيلَ كَثَّرُوا سَوَادَهُمْ وَقِيلَ كان ذلك بأن
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 620.
(2) تفسير الطبري 6/ 193.(4/21)
الْمَلَكَ كَانَ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول سَمِعْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَئِنْ حَمَلُوا عَلَيْنَا لَنَنْكَشِفَنَّ فَيُحَدِّثُ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ فَتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ.
وَقَوْلُهُ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي ثبتوا أنتم المؤمنين وَقَوُّوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ عَنْ أَمْرِي لَكُمْ بذلك سألقي الرعب والذلة وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَكَذَّبَ رَسُولِي فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أَيِ اضْرِبُوا الْهَامَ فَفَلِّقُوهَا، وَاحْتَزُّوا الرِّقَابَ فَقَطِّعُوهَا، وَقَطِّعُوا الْأَطْرَافَ مِنْهُمْ وَهِيَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى فَوْقَ الْأَعْناقِ فَقِيلَ معناه اضربوا الرؤوس، قاله عكرمة وقيل معناه أَيْ عَلَى الْأَعْنَاقِ وَهِيَ الرِّقَابُ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ [مُحَمَّدٍ: 4] وَقَالَ وَكِيعٌ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الرِّقَابِ وَشَدِّ الْوَثَاقِ» وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا قَدْ تَدُلُّ عَلَى ضَرْبِ الرِّقَابِ وَفَلْقِ الْهَامِ، قُلْتُ وَفِي مَغَازِي الْأُمَوِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَمُرُّ بَيْنَ الْقَتْلَى يَوْمَ بَدْرٍ فَيَقُولُ «نُفَلِّقُ هَامًا» فَيَقُولُ أبو بكر: [الطويل]
مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا ... وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا «1»
فَيَبْتَدِئُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَّلِ الْبَيْتِ وَيَسْتَطْعِمُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْشَادَ آخِرِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُحْسِنُ إِنْشَادَ الشِّعْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدِ أُحْرِقَ بِهِ، وَقَوْلُهُ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ وقال ابن جرير «2» :
معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كُلَّ طَرَفٍ وَمِفْصَلٍ مِنْ أَطْرَافِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر: [الطويل]
ألا ليتني قطعت مني بَنَانَةً ... وَلَاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرًا «3»
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يَعْنِي بِالْبَنَانِ الْأَطْرَافَ وكذا قال الضحاك وابن جرير: وَقَالَ السُّدِّيُّ الْبَنَانُ الْأَطْرَافُ وَيُقَالُ كُلُّ مِفْصَلٍ وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالضَّحَّاكُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كُلُّ مِفْصَلٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ قَالَ اضْرِبْ مِنْهُ الْوَجْهَ وَالْعَيْنَ وَارْمِهِ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ فإذا أخذته حرم
__________
(1) البيت للحصين بن الحمام المري في الشعر والشعراء 2/ 648.
(2) تفسير الطبري 6/ 197.
(3) البيت لعباس بن مرداس في ديوانه ص 125، وتاج العروس (بنن) ، وتفسير الطبري 6/ 197.(4/22)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْكَ وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَذَكَرَ قِصَّةَ بَدْرٍ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَا تَقْتُلُوهُمْ قَتْلًا وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا حَتَّى تُعَرِّفُوهُمُ الَّذِي صَنَعُوا مِنْ طَعْنِهِمْ فِي دِينِكُمْ وَرَغْبَتِهِمْ عَنِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ الآية، فَقُتِلَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي تِسْعَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَأُسِرَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَقُتِلَ صَبْرًا فَوَفَّى ذَلِكَ سَبْعِينَ يَعْنِي قَتِيلًا.
ولهذا قال تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أَيْ خَالَفُوهُمَا فَسَارُوا فِي شَقٍّ، وَتَرَكُوا الشَّرْعَ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَاتِّبَاعَهُ في شق، ومأخوذ أَيْضًا مِنْ شَقِّ الْعَصَا وَهُوَ جَعْلُهَا فِرْقَتَيْنِ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
أَيْ هُوَ الطَّالِبُ الْغَالِبُ لِمَنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ وَلَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ تبارك وتعالى لا إله وَلَا رَبَّ سِوَاهُ ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ أَيْ ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ وَالنَّكَالَ فِي الدُّنْيَا وَاعْلَمُوا أَيْضًا أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ بِالنَّارِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أَيْ تَقَارَبْتُمْ مِنْهُمْ وَدَنَوْتُمْ إِلَيْهِمْ فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أَيْ تَفِرُّوا وَتَتْرُكُوا أَصْحَابَكُمْ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَيْ يَفِرُّ بَيْنَ يَدَيْ قِرْنِهِ مَكِيدَةً لِيُرِيَهُ أَنَّهُ قَدْ خَافَ مِنْهُ فَيَتْبَعُهُ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِيَرَى غِرَّةً مِنَ الْعَدُوِّ فَيُصِيبَهَا أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أَيْ فَرَّ مِنْ هَاهُنَا إِلَى فِئَةٍ أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لَوْ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَفَرَّ إِلَى أَمِيرِهِ أو الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ دَخَلَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فحاص الناس حيصة فكنت فِيمَنْ حَاصَ فَقُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ ثُمَّ قُلْنَا لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَبِتْنَا، ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا، فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَخَرَجَ فَقَالَ «مَنِ الْقَوْمُ؟» فَقُلْنَا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ فَقَالَ «لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ أَنَا فِئَتُكُمْ وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» قال فأتيناه حتى قبلنا يده «2» .
__________
(1) المسند 2/ 70، 86، 100، 111.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 96، والترمذي في الجهاد باب 36.(4/23)
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي زياد وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ بِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ.
قَالَ أهل العلم معنى قوله «العكارون» أي العطاقون، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَبِي عُبَيْدٍ لَمَّا قُتِلَ عَلَى الْجِسْرِ بِأَرْضِ فَارِسَ لِكَثْرَةِ الْجَيْشِ مِنْ نَاحِيَةِ المجوس فقال عمر لو تحيز إلي لكنت لَهُ فِئَةً هَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عُمَرَ قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدٍ قال عمر: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا فِئَتُكُمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ قَالَ عُمَرُ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ عُمَرَ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّمَا كَانَتْ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَا فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ قُلْتُ إِنَّا قَوْمٌ لَا نَثْبُتُ عِنْدَ قِتَالِ عَدُوِّنَا، وَلَا نَدْرِي مَنِ الْفِئَةُ إِمَامُنَا أَوْ عَسْكَرُنَا؟ فَقَالَ إِنَّ الْفِئَةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً الآية، فقال إنما أنزلت هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ الْمُتَحَيِّزُ الْفَارُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ الْيَوْمَ إِلَى أَمِيرِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْفِرَارُ لَا عَنْ سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ «الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» »
وله شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ باءَ أَيْ رَجَعَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ أَيْ مَصِيرُهُ وَمُنْقَلَبُهُ يَوْمَ مِيعَادِهِ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا عبد اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى الْعَبْدِيُّ سَمِعْتُ السَّدُوسِيَّ يَعْنِي ابْنَ الْخَصَاصِيَةِ وَهُوَ بَشِيرُ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَايِعَهُ فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا اثنتان فو الله لَا أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا باب 23، والطب باب 48، والحدود باب 44، ومسلم في الإيمان حديث 144، وأبو داود في الوصايا باب 10، والنسائي في الوصايا باب 12.
(2) المسند 5/ 224.(4/24)
وكرهت الموت، والصدقة فو الله مَا لِي إِلَّا غُنَيْمَةٌ وَعَشْرُ ذَوْدٍ هُنَّ رَسَلُ أَهْلِي وَحَمُولَتَهُمْ، فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ثُمَّ قَالَ: «فَلَا جِهَادَ وَلَا صَدَقَةَ فبم تدخل الجنة إذا؟» قلت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أُبَايِعُكَ فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَعُ مَعَهُنَّ عَمَلٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ» وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَسْفَاطِيُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الشَّنِّيُّ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال سمعت أبي يحدث عن جدي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» «1» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قُلْتُ وَلَا يُعْرَفُ لِزَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ سِوَاهُ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ الْفِرَارَ إنما كان حراما على الصحابة لأنه كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ عَلَى الْأَنْصَارِ خَاصَّةً لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المنشط والمكره. وقيل الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ بَدْرٍ خَاصَّةً يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي نَضْرَةَ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ وقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ، وَحُجَّتُهُمْ فِي هَذَا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عِصَابَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ يفيئون إليها إلا عِصَابَتِهِمْ تِلْكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» «2» .
وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قَالَ ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ فَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنِ انْحَازَ إِلَى فِئَةٍ أَوْ مِصْرٍ أَحْسَبُهُ قَالَ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عن الْمُبَارَكِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ فَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ النَّارَ قَالَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ- إلى قوله- وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سنين قال ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ [التوبة: 27] .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الوتر باب 26، والترمذي في الدعوات باب 117.
(2) أخرجه مسلم في الجهاد حديث 58، وأحمد في المسند 1/ 30، 32.(4/25)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَمُسْتَدْرِكِ الْحَاكِمِ وَتَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ «1» ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ حَرَامًا عَلَى غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فِيهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الموبقات كما هو مذهب الجماهير، والله أعلم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 17 الى 18]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)
يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ الْمَحْمُودُ على جميع ما صدر منهم مِنْ خَيْرٍ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِذَلِكَ وأعانهم عليه وَلِهَذَا قَالَ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أَيْ لَيْسَ بِحَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ قَتَلْتُمْ أَعْدَاءَكُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ. أَيْ بَلْ هُوَ الذي أظفركم عليهم كما قال:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آلِ عمران: 123] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التَّوْبَةِ: 25] يَعْلِمُ تَبَارَكَ وتعالى أن النصر ليس على كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَلَا بِلِبْسِ اللَّأْمَةِ «2» وَالْعَدَدِ، وَإِنَّمَا النصر من عنده تعالى كما قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 249] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْقَبْضَةِ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي حَصَبَ بِهَا وجوه الكافرين يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْعَرِيشِ بَعْدَ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ فَرَمَاهُمْ بِهَا وَقَالَ: «شَاهَتِ الوجوه» ثم أمر أصحابه أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ إِثْرَهَا فَفَعَلُوا فَأَوْصَلَ اللَّهُ تِلْكَ الْحَصْبَاءَ إِلَى أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا نَالَهُ مِنْهَا مَا شَغَلَهُ عَنْ حَالِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أَيْ هُوَ الَّذِي بَلَّغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَكَبَتَهُمْ بِهَا لَا أَنْتَ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ:
«يَا رَبِّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدٌ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمِنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ «3» .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ «أَعْطِنِي حَصَبًا مِنَ الْأَرْضِ» فَنَاوَلَهُ حَصَبًا عَلَيْهِ تُرَابٌ فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَبْقَ مشرك إلا دخل عينيه من ذلك التراب
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 96.
(2) اللأمة: هي الدرع، والسلاح. [.....]
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 204.(4/26)
شَيْءٌ، ثُمَّ رَدِفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» . وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ قَالَا: لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَدَخَلَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ كُلِّهِمْ وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ وَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فِي رَمْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «2» .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى قَالَ هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِحَصَاةٍ مَيْمَنَةِ الْقَوْمِ، وَحَصَاةٍ فِي مَيْسَرَةِ الْقَوْمِ وَحَصَاةٍ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَقَالَ «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَانْهَزَمُوا، وَقَدْ روي في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنه أنزلت فِي رَمْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خيثمة عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ سَمِعْنَا صَوْتًا وَقَعَ مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَصَاةٍ وَقَعَتْ فِي طَسْتٍ وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الرَّمْيَةَ فَانْهَزَمْنَا، غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَاهُنَا قَوْلَانِ آخَرَانِ غَرِيبَانِ جِدًّا.
[أَحَدُهُمَا] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الطَّائِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ دَعَا بِقَوْسٍ فَأَتَى بِقَوْسٍ طَوِيلَةٍ وقال «جيئوني بقوس غيرها» فجاؤوه بِقَوْسٍ كَبْدَاءَ فَرَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِصْنَ فَأَقْبَلَ السَّهْمُ يَهْوِي حَتَّى قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَهَذَا غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَئِمَّةِ الْعِلْمِ واللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَالثَّانِي] رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ والزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: أُنْزِلَتْ فِي رَمْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِالْحَرْبَةِ وَهُوَ فِي لَأْمَتِهِ فَخَدَشَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ فَجَعَلَ يَتَدَأْدَأُ عن فرسه مرارا حتى كانت وفاته بعد أيام قاسى فيها العذاب
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 203.
(2) تفسير الطبري 6/ 203.
(3) تفسير الطبري 6/ 203.
(4) لم أجد هذا الأثر والذي يليه في تفسير الطبري.(4/27)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
الْأَلِيمَ مَوْصُولًا بِعَذَابِ الْبَرْزَخِ الْمُتَّصِلِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ هَذَيْنَ الْإِمَامَيْنِ غَرِيبٌ أَيْضًا جِدًّا وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهَا لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عروة بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعرف المؤمنين نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ ويشكروا بذلك نعمته «1» وهكذا فسره ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَفِي الْحَدِيثِ «وَكُلُّ بَلَاءٍ حَسَنٌ أَبْلَانَا» وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعُ الدُّعَاءِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ، وَقَوْلُهُ ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ هَذِهِ بِشَارَةٌ أُخْرَى مَعَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّصْرِ أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُضْعِفُ كيد الكافرين فيما يستقبل مصغر أمرهم وأنهم وكل مَا لَهُمْ فِي تَبَارٍ وَدَمَارٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
[سورة الأنفال (8) : آية 19]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
يَقُولُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أَيْ تَسْتَنْصِرُوا وَتَسْتَقْضُوا اللَّهَ وَتَسْتَحْكِمُوهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ جَاءَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعيْرٍ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ. وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ فَنَزَلَتْ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ. فَكَانَ الْمُسْتَفْتِحَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وقَتَادَةَ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ أَخَذُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَقَالُوا اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأَكْرَمَ الْفِئَتَيْنِ وَخَيْرَ الْقَبِيلَتَيْنِ فَقَالَ اللَّهُ:
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ يَقُولُ قَدْ نَصَرْتُ مَا قُلْتُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَنْتَهُوا أَيْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ لِرَسُولِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ كقوله
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 668، وتفسير الطبري 6/ 204.
(2) المسند 5/ 431.(4/28)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاءِ: 8] مَعْنَاهُ وَإِنْ عُدْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ نَعُدْ لَكُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَإِنْ تَعُودُوا أي إلى الاستفتاح نَعُدْ أي إِلَى الْفَتْحِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّصْرِ لَهُ وَتَظْفِيرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ وَلَوْ جَمَعْتُمْ مِنَ الْجُمُوعِ مَا عَسَى أَنْ تَجْمَعُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فلا غالب له وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْحِزْبُ النَّبَوِيُّ وَالْجَنَابُ المصطفوي.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَيَزْجُرُهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْكَافِرِينَ بِهِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أَيْ تَتْرُكُوا طَاعَتَهُ وَامْتِثَالَ أَوَامِرِهِ وَتَرْكَ زَوَاجِرِهِ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أَيْ بَعْدَ مَا عَلِمْتُمْ مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ قِيلَ: الْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ قَدْ سَمِعُوا وَاسْتَجَابُوا وَلَيْسُوا كَذَلِكَ «1» .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ بَنِي آدَمَ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ فَقَالَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ أَيْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ الْبُكْمُ عَنْ فَهْمِهِ وَلِهَذَا قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لِأَنَّ كُلَّ دابة مما سواهم مطيعة لله فِيمَا خَلَقَهَا لَهُ وَهَؤُلَاءِ خُلِقُوا لِلْعِبَادَةِ فَكَفَرُوا، وَلِهَذَا شَبَّهَهُمْ بِالْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً
[البقرة: 171] الآية، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 179] .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ مِنْ قُرَيْشٍ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مَسْلُوبُ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَالْقَصْدِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا فَهْمَ لَهُمْ صَحِيحٌ وَلَا قَصْدَ لَهُمْ صَحِيحٌ لَوْ فُرِضَ أَنَّ لَهُمْ فَهْمًا فَقَالَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَلَكِنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ فَلَمْ يُفْهِمْهُمْ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أَيْ أَفْهَمَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ قَصْدًا وَعِنَادًا بَعْدَ فَهْمِهِمْ ذَلِكَ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عنه.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 209.(4/29)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : اسْتَجِيبُوا أَجِيبُوا لِما يُحْيِيكُمْ لِمَا يصلحكم. حدثني إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن حبيب بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عنه قال كنت أصلي فمر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ- ثُمَّ قَالَ- لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ» فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ فَذَكَرْتُ لَهُ. وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بهذا وقال الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي.
هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِذِكْرِ طُرُقِهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ لِما يُحْيِيكُمْ قال للحق «2» ، وَقَالَ قَتَادَةُ لِما يُحْيِيكُمْ قَالَ هُوَ هَذَا القرآن فيه النجاة والبقاء وَالْحَيَاةُ وَقَالَ السُّدِّيُّ لِما يُحْيِيكُمْ فَفِي الْإِسْلَامِ إِحْيَاؤُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالْكُفْرِ «3» ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ أَيْ لِلْحَرْبِ الَّتِي أَعَزَّكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا بَعْدَ الذُّلِّ، وَقَوَّاكُمْ بِهَا بَعْدَ الضَّعْفِ، وَمَنَعَكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ مِنْهُمْ لَكُمْ «4» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ «5» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مَوْقُوفًا، وَقَالَ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ وَعَطِيَّةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ والسُّدِّيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي حتى يتركه لَا يَعْقِلُ «6» ، وَقَالَ السُّدِّيُّ يَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَقَلْبِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤْمِنَ وَلَا يَكْفُرَ إِلَّا بِإِذْنِهِ «7» . وَقَالَ قَتَادَةُ هُوَ كَقَوْلِهِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] «8» وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 8، باب 1.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 211، 212.
(3) تفسير الطبري 6/ 212.
(4) تفسير الطبري 6/ 212.
(5) تفسير الطبري 6/ 213.
(6) تفسير الطبري 6/ 215. [.....]
(7) تفسير الطبري 6/ 215.
(8) تفسير الطبري 6/ 215.(4/30)
يُنَاسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولُ «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» .
قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَلِّبُهَا» . وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «2» فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ جَامِعِهِ عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ الضَّرِيرِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَاسْمُهُ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنِ الأعمش، ورواه بَعْضُهُمْ عَنْهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَنَسٍ أَصَحُّ.
حَدِيثٌ آخَرُ: وقال الإمام أحمد «3» في مسنده: حدثنا عبد بن حميد حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» . هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى شَرْطِ أَهْلِ السُّنَنِ وَلَمْ يخرجوه.
حديث آخر: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جَابِرٍ يَقُولُ:
حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الكلابي رضي الله عنه يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنُ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ» وَكَانَ يَقُولُ «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَ «وَالْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ يَخْفِضُهُ وَيَرْفَعُهُ» «5» وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «6» : حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَعَوَاتٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَا «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رسول الله إنك تكثر أن تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ «إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أزاغه وإذا شاء أقامه» .
__________
(1) المسند 3/ 112.
(2) كتاب القدر باب 7.
(3) المسند 4/ 182.
(4) المسند 4/ 182، 418.
(5) أخرجه ابن ماجة في المقدمة باب 13، وأحمد في المسند 4/ 182.
(6) المسند 6/ 91.(4/31)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا هَاشِمُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ حَدَّثَنِي شَهْرٌ سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ يَقُولُ «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَتْ فقلت يا رسول الله أو إنّ الْقُلُوبَ لَتُقَلَّبُ؟ قَالَ «نَعَمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ» قَالَتْ فقلت:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي؟ قَالَ «بَلَى قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنِي» .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كَيْفَ شَاءَ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا إِلَى طَاعَتِكَ» «3» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ عَنِ الْبُخَارِيِّ فَرَوَاهُ مَعَ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ حَيْوَةَ بن شريح المصري به.
[سورة الأنفال (8) : آية 25]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)
يُحَذِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِتْنَةً أَيِ اخْتِبَارًا وَمِحْنَةً يَعُمُّ بِهَا الْمُسِيءَ وَغَيْرَهُ لَا يَخُصُّ بِهَا أَهْلَ الْمَعَاصِي وَلَا مَنْ بَاشَرَ الذَّنْبَ بَلْ يَعُمُّهُمَا حَيْثُ لَمْ تُدْفَعُ وَتُرْفَعُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قُلْنَا لِلزُّبَيْرِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا جَاءَ بِكُمْ؟ ضَيَّعْتُمُ الْخَلِيفَةَ الَّذِي قُتِلَ ثُمَّ جِئْتُمْ تَطْلُبُونَ بِدَمِهِ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً لَمْ نَكُنْ نَحْسَبُ أَنَّا أَهْلُهَا حَتَّى وَقَعَتْ مِنَّا حَيْثُ وَقَعَتْ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مُطَرِّفٍ عَنِ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: لَا نَعْرِفُ مُطَرِّفًا رَوَى عَنِ الزُّبَيْرِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ الزبير نحو هذا.
وقد روى ابْنُ جَرِيرٍ»
: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ، قَالَ الزُّبَيْرُ لَقَدْ خُوِّفْنَا بِهَا يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
__________
(1) المسند 6/ 301، 302.
(2) المسند 2/ 168، 173.
(3) أخرجه مسلم في القدر حديث 17.
(4) المسند 1/ 165.
(5) تفسير الطبري 6/ 217.(4/32)
مِنْكُمْ خَاصَّةً وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ظَنَنَّا أَنَّا خُصِصْنَا بِهَا خَاصَّةً وَكَذَا رَوَاهُ حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ يَقُولُ: لَقَدْ قَرَأْتُ هَذِهِ الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً فَأَصَابَتْهُمْ يَوْمَ الْجَمَلِ فَاقْتَتَلُوا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً هِيَ أَيْضًا لَكُمْ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التَّغَابُنِ: 15] فَأَيُّكُمُ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ يَعُمُّ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَهُمْ هُوَ الصَّحِيحُ، ويدل عليه الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ وَلِذَلِكَ كِتَابٌ مُسْتَقِلٌّ يُوَضَّحُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ وَأَفْرَدُوهُ بِالتَّصْنِيفِ وَمِنْ أَخَصِّ مَا يُذْكَرُ هَاهُنَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ عَدِيٍّ الْكِنْدِيَّ يَقُولُ، حَدَّثَنِي مَوْلًى لَنَا أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي يَعْنِي عَدِيَّ بْنَ عَمِيرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ والعامة» فيه رجل متهم وَلَمْ يُخْرِجُوهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْهَاشِمِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْهَلِ عن حذيفة بن اليماني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ وَقَالَ «أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَوْمًا ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» .
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 217. [.....]
(2) المسند 4/ 192.
(3) المسند 5/ 388، 389.(4/33)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قال حدثنا رزين حَبِيبٍ الْجُهَنِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو الرُّقَادِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَوْلَايَ فَدُفِعْتُ إِلَى حُذَيْفَةَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصِيرُ مُنَافِقًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ فِي الْمَقْعَدِ الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عَنِ الْمُنْكَرِ ولَتَحَاضُّنَ عَلَى الْخَيْرِ أَوْ لَيُسْحِتَنَّكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا بِعَذَابٍ أَوْ لَيُؤَمِّرَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» أَيْضًا. حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد عن زكريا حدثنا عامر رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ يَقُولُ: وَأَوْمَأَ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ يَقُولُ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فيها والمداهن فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا وَأَوْعَرَهَا وَشَرَّهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوُا الْمَاءَ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَآذُوهُمْ فَقَالُوا لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا: فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا «3» ، انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ فَرَوَاهُ فِي الشَّرِكَةِ والشهادات، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْفِتَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيِّ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول «إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمَا فِيهِمْ أُنَاسٌ صَالِحُونَ قَالَ «بَلَى» قَالَتْ فَكَيْفَ يَصْنَعُ أُولَئِكَ؟ قَالَ «يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسُ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ» .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا حجاج بن محمد حدثنا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ قَوْمٍ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي وَفِيهِمْ رَجُلٌ أَعَزُّ مِنْهُمْ وَأَمْنَعُ لا يغيره إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ أَوْ أَصَابَهُمُ الْعِقَابُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «6» عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ أَبِي الأحوص عن أبي إسحاق به.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «7» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ أبا إسحاق
__________
(1) المسند 5/ 390.
(2) المسند 4/ 269، 270، 274.
(3) أخرجه البخاري في الشركة باب 6، والشهادات باب 30، والترمذي في الفتن باب 12.
(4) المسند 6/ 304.
(5) المسند 4/ 361.
(6) كتاب الملاحم باب 17.
(7) المسند 4/ 364، 366.(4/34)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ثم لَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» ، ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَعَنْ أَسْوَدَ عَنْ شَرِيكٍ وَيُونُسَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ بِهِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ «1» عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ وَكِيعٍ به، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَامِعُ بن أبي راشد عن منذر عن الحسن بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ عَائِشَةَ تَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَهْلِ الأرض بأسه» فقلت وَفِيهِمْ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ ثُمَّ يصيرون إلى رحمة الله» .
[سورة الأنفال (8) : آية 26]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، حَيْثُ كَانُوا قَلِيلِينَ فَكَثَّرَهُمْ وَمُسْتَضْعَفِينَ خَائِفِينَ فَقَوَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ، وَفُقَرَاءَ عَالَةً فَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاسْتَشْكَرَهُمْ، فَأَطَاعُوهُ وَامْتَثَلُوا جَمِيعَ مَا أَمَرَهُمْ. وَهَذَا كَانَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ قَلِيلِينَ مُسْتَخْفِينَ مضطهدين يَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ بِلَادِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكٍ وَمَجُوسِيٍّ وَرُومِيٍّ، كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لَهُمْ لِقِلَّتِهِمْ وَعَدَمِ قُوَّتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَآوَاهُمْ إِلَيْهَا وَقَيَّضَ لَهُمْ أَهْلَهَا آووا ونصروا يوم بدر وغيره، وواسوا بِأَمْوَالِهِمْ وَبَذَلُوا مُهَجَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رسوله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا وأبينه ضلالا، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا مِنْ حَاضِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ وَجَعَلَهُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رأيتم فاشكروا الله على نِعَمَهُ فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُّكْرَ، وَأَهْلُ الشكر في مزيد من الله.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
قال عبد الرزاق بْنُ أَبِي قَتَادَةَ والزُّهْرِيُّ: أُنْزِلَتْ فِي أَبِي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه
__________
(1) كتاب الفتن باب 20.
(2) المسند 6/ 41.(4/35)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَشَارُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَيْ إِنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ فَطِنَ أَبُو لُبَابَةَ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَحَلَفَ لَا يَذُوقُ ذَوَاقًا حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَانْطَلَقَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةٍ مِنْهُ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ تِسْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى كَانَ يَخِرُّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْدِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَجَاءَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَهُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَحُلُّوهُ مِنَ السَّارِيَةِ، فَحَلَفَ لَا يَحُلُّهُ مِنْهَا إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَحَلَّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً، فَقَالَ «يَجْزِيكَ الثُّلُثُ أَنْ تَصدَّقَ بِهِ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ الطَّائِفِيُّ حَدَّثَنَا محمد بن عبيد الله بن عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ حَدَّثَنَا شَبَابةُ بْنُ سَوَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُحْرِمِ قَالَ لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَحَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَاخْرُجُوا إِلَيْهِ وَاكْتُمُوا» فَكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَيْهِ إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ الْآيَةَ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي سَنَدِهِ وَسِيَاقِهِ نَظَرٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قِصَّةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بِقَصْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ عَامَ الْفَتْحِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ فِي إِثْرِ الْكِتَابِ فاسترجعه واستحضر حاطبا فأقر بما صنع، وفيها فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: «دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ شهد بدرا، وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» «3» .
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَإِنْ صَحَّ أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْخِيَانَةُ تَعُمُّ الذُّنُوبَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ اللَّازِمَةَ وَالْمُتَعَدِّيَةَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ الْأَمَانَةُ، الْأَعْمَالُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِبَادَ، يَعْنِي الْفَرِيضَةَ. يَقُولُ: لَا تَخُونُوا لَا تَنْقُضُوهَا «4» .
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، يَقُولُ بِتَرْكِ سُنَّتِهِ وارتكاب معصيته.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 220.
(2) تفسير الطبري 6/ 220.
(3) تقدم الحديث مع تخريجه في الآية 9، من هذه السورة. [.....]
(4) انظر تفسير الطبري 6/ 221.(4/36)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ في هذه الآية، أي لا تظهروا له مِنَ الْحَقِّ مَا يَرْضَى بِهِ مِنْكُمْ، ثُمَّ تُخَالِفُوهُ فِي السِّرِّ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هَلَاكٌ لِأَمَانَاتِكُمْ، وَخِيَانَةٌ لِأَنْفُسِكُمْ «1» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا خَانُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَقَدْ خَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، وَقَالَ أَيْضًا: كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ فَيُفْشُونَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُشْرِكِينَ، وقال عبد الرحمن بن زيد: نَهَاكُمْ أَنْ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ كَمَا صَنَعَ المنافقون «2» .
وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
، أَيْ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانُ مِنْهُ لَكُمْ إِذْ أَعْطَاكُمُوهَا لِيَعْلَمَ أَتَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا وَتُطِيعُونَهُ فِيهَا أَوْ تَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْهُ وتعتاضون بها منه كما قال تعالى:
َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[التَّغَابُنِ: 15] وَقَالَ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 35] . وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 9] . وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] الآية.
وَقَوْلُهُ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أَيْ ثَوَابُهُ وَعَطَاؤُهُ وَجَنَّاتُهُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِنْهُمْ عَدُوٌّ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْمَالِكُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَدَيْهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْأَثَرِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يا ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وجد حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ منه» «3» ، بل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ، كَمَا ثَبَتَ في الصحيح أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» «4» .
[سورة الأنفال (8) : آية 29]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بن حيان وغير واحد فُرْقاناً مَخْرَجًا، زَادَ مُجَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فُرْقاناً نَجَاةً، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ نَصْرًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فُرْقاناً أَيْ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وهذا
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 221.
(2) تفسير الطبري 6/ 220.
(3) أخرجه البخاري في الإيمان باب 9، والأدب باب 42، ومسلم في الإيمان حديث 66.
(4) أخرجه البخاري في الإيمان باب 8، ومسلم في الإيمان حديث 69، 70.(4/37)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
التَّفْسِيرُ مِنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ وهو يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ وُفِّقَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ نَصْرِهِ وَنَجَاتِهِ وَمَخْرَجِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَسَعَادَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ وَهُوَ مَحْوُهَا، وَغَفْرُهَا سَتْرُهَا عَنِ الناس وسببا لنيل ثواب الله الجزيل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28] .
[سورة الأنفال (8) : آية 30]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ لِيُثْبِتُوكَ لِيُقَيِّدُوكَ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: لِيَحْبِسُوكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْإِثْبَاتُ هُوَ الْحَبْسُ وَالْوَثَاقُ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَهُوَ مَجْمَعُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ صَنِيعِ مَنْ أَرَادَ غَيْرَهُ بِسُوءٍ، وَقَالَ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ عَطَاءٌ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: لَمَّا ائْتَمَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ. قَالَ لَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ: هَلْ تَدْرِي مَا ائْتَمَرُوا بِكَ؟ قَالَ «يُرِيدُونَ أَنْ يَسْحَرُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي» . فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ «رَبِّي» قَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ اسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا. قَالَ «أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ، بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي» «1» .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جرير «2» : حدثني محمد بن إسماعيل المصري الْمَعْرُوفُ بِالْوَسَاوِسِيِّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي داود عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَأْتَمِرُ بِكَ قَوْمُكَ؟ قَالَ «يُرِيدُونَ أَنْ يَسْحَرُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي» . فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ «رَبِّي» . قَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ فَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا. قَالَ «أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ، بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي» . قَالَ: فَنَزَلَتْ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ.
وَذِكْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي هَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَاجْتِمَاعَ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا الِائْتِمَارِ وَالْمُشَاوَرَةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَتْلِ إِنَّمَا كَانَ لَيْلَةَ الْهِجْرَةِ سَوَاءً، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ لَمَّا تَمَكَّنُوا مِنْهُ وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِ بسبب مَوْتِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي كَانَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَقُومُ بِأَعْبَائِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قلنا ما روى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبُ الْمُغَازِي عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعُوا لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ فاعترضهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 226.
(2) تفسير الطبري 6/ 225، 226.(4/38)
إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ فَلَمَّا رَأَوْهُ قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نَجْدٍ، سَمِعْتُ أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ وَلَنْ يُعْدِمَكُمْ رَأْيِي وَنُصْحِي. قَالُوا: أَجَلْ، ادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: انْظُرُوا فِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ، وَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يُوَاثِبَكُمْ فِي أَمْرِكُمْ بأمره.
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي وِثَاقٍ ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةٌ إِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ. قَالَ: فَصَرَخَ عَدُوُّ اللَّهِ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ وَاللَّهِ لَيُخْرِجَنَّهُ رَبُّهُ مِنْ مَحْبِسِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ فَيَمْنَعُوهُ مِنْكُمْ، فَمَا آمَنُ عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا.
قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا مِنْهُ فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَنْ يَضُرَّكُمْ مَا صَنَعَ وَأَيْنَ وَقَعَ إِذَا غَابَ عَنْكُمْ أَذَاهُ وَاسْتَرَحْتُمْ وَكَانَ أَمْرُهُ فِي غَيْرِكُمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ أَلَمْ تروا حلاوة قوله وطلاقة لِسَانِهِ. وَأَخْذَ الْقُلُوبِ مَا تَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْعَرَبَ لَيَجْتَمِعَنَّ عليه ثُمَّ لَيَأْتِيَنَّ إِلَيْكُمْ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله، فانظروا رأيا غَيْرَ هَذَا.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ الله، والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلَامًا شَابًّا وَسِيطًا نَهِدًا، ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلُوهُ تفرق دمه في القبائل كلها، فما أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْوَوْنَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا. فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ، قَبِلُوا الْعَقْلَ وَاسْتَرَحْنَا وَقَطَعْنَا عَنَّا أَذَاهُ.
قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: هَذَا وَاللَّهِ الرَّأْيُ، القول ما قال الفتى، لا أرى غَيْرَهُ. قَالَ:
فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ. فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمره أن لا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَكْرِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَبِتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ الْأَنْفَالَ يَذْكُرُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ وَبَلَاءَهُ عِنْدَهُ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وأنزل فِي قَوْلِهِمْ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] فكان ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى يَوْمَ الزَّحْمَةِ لِلَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْيِ «1» .
وَعَنِ السُّدِّيِّ نَحْوُ هَذَا السِّيَاقِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِرَادَتِهِمْ إِخْرَاجَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 76] وكذا
__________
(1) انظر الأثر في تفسير الطبري 6/ 226، وسيرة ابن هشام 1/ 480، 483.(4/39)
رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وقَتَادَةَ ومِقْسَمٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ أَمْرَ اللَّهِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فَمَكَرَتْ بِهِ وَأَرَادُوا بِهِ مَا أَرَادُوا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فأمره أن لا يَبِيتَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيتَ على فراشه ويتسجى بِبُرْدٍ لَهُ أَخْضَرَ فَفَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِحَفْنَةٍ مِنْ تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [يس: 9] ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مَا يُؤَكِّدُ هَذَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكِ يَا بُنَيَّةُ؟» قَالَتْ يَا أَبَتِ وما لِي لَا أَبْكِي وَهَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ في الحجر يتعاهدون بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى لَوْ قَدْ رَأَوْكَ لَقَامُوا إِلَيْكَ فَيَقْتُلُونَكَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ ائْتِنِي بِوَضُوءٍ» فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلَمْ يَرْفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبضة من تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ مِنْ حَصَيَاتِهِ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الآية قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوِثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ فَأَطْلَعُ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ لَا أَدْرِي، فاقتصوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ فَصَعَدُوا فِي الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالْغَارِ فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ فَمَكَرْتُ بِهِمْ بِكَيْدِيَ المتين حتى خلصتك منهم.
__________
(1) المسند 1/ 348.(4/40)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 الى 33]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ قُرَيْشٍ وَعُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ودعواهم الباطل عند سماع آياته إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا وَهَذَا مِنْهُمْ قَوْلٌ بلا فِعْلٌ وَإِلَّا فَقَدَ تُحُدُّوا غَيْرَ مَا مَرَّةٍ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَلَا يَجِدُونَ إلى ذلك سبيلا وإنما هذا القول منهم يغرون به أنفسهم ومن تبعهم عَلَى بَاطِلِهِمْ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَعَنَهُ اللَّهُ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ وَتَعَلَّمَ مِنْ أَخْبَارِ مُلُوكِهِمْ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ، وَلَمَّا قَدِمَ وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ وَهُوَ يَتْلُو عَلَى النَّاسِ القرآن فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول بالله أينا أَحْسَنُ قَصَصًا أَنَا أَوْ مُحَمَّدٌ؟ وَلِهَذَا لَمَّا أَمْكَنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَوَقَعَ فِي الْأُسَارَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ رَقَبَتُهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَفُعِلَ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وطُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيٍّ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَكَانَ الْمِقْدَادُ أَسَرَ النَّضْرَ فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ قَالَ الْمِقْدَادُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسِيرِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يَقُولُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَقُولُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ فَقَالَ الْمِقْدَادُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسِيرِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ أَغْنِ الْمِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ» فَقَالَ الْمِقْدَادُ هَذَا الَّذِي أَرَدْتُ، قَالَ وَفِيهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَكَذَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي دحية عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ بَدَلَ طُعَيْمَةَ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ لَمْ يَكُنْ حَيًّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ: لو كان المطعم بن عدي حَيًّا ثُمَّ سَأَلَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَوَهَبْتُهُمْ لَهُ» «2» يَعْنِي الْأُسَارَى لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَجَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ.
وَمَعْنَى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ جَمْعُ أُسْطُورَةٍ أَيْ كُتُبُهُمُ اقْتَبَسَهَا فَهُوَ يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَيَتْلُوهَا عَلَى النَّاسِ وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الأخرى
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 230.
(2) أخرجه البخاري في الخمس باب 16، والمغازي باب 12، وأبو داود في الجهاد باب 120، وأحمد في المسند 4/ 80.(4/41)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الْفُرْقَانِ: 5- 6] أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ فَإِنَّهُ يَتَقَبَّلُ مِنْهُ وَيَصْفَحُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ هَذَا مِنْ كَثْرَةِ جَهْلِهِمْ وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، وَهَذَا مِمَّا عِيبُوا بِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاهْدِنَا لَهُ وَوَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِهِ وَلَكِنِ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ، وَتَقْدِيمَ العقوبة كقوله تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 53] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ
[ص: 16] وقوله سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ [الْمَعَارِجِ: 1- 3] .
وَكَذَلِكَ قَالَ الْجَهَلَةُ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعَرَاءِ: 187] وَقَالَ هَؤُلَاءِ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ هُوَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فَنَزَلَتْ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «1» عَنْ أَحْمَدَ وَمُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ وَأَحْمَدُ هَذَا هُوَ أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قَالَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ [الْمَعَارِجِ: 1- 2] وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ زَادَ عَطَاءٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] وَقَالَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 94] وَقَالَ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ [المعارج: 1- 2] قال عطاء ولقد أنزل الله فِيهِ بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «2» ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَاقِفًا يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَاخْسِفْ بِي وَبِفَرَسِي. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ قَالَ: قَالَ ذَلِكَ سَفَهَةُ هَذِهِ الأمة وجهلتها
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 8، باب 2.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 231.(4/42)
فَعَادَ اللَّهُ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى سَفَهَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَهَلَتِهَا «1» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم: قد، قد، ويقولون: اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَيَقُولُونَ غُفْرَانَكَ غُفْرَانَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِغْفَارُ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ الِاسْتِغْفَارُ «2» .
وَقَالَ ابن جرير «3» : حدثني الحارث حدثني عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَا: قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ مُحَمَّدٌ أَكْرَمُهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِنَا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية فَلَمَّا أَمْسَوْا نَدِمُوا عَلَى مَا قَالُوا فَقَالُوا غفرانك اللهم. فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ- إلى قوله- وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ يَقُولُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا وَأَنْبِيَاؤُهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ ثُمَّ قَالَ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يَقُولُ وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ يَسْتَغْفِرُونَ يَعْنِي يُصَلُّونَ يَعْنِي بِهَذَا أَهْلَ مَكَّةَ» .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وعكرمة وعطية والعوفي وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والسُّدِّيِّ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو مَالِكٍ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَمَانَيْنِ لَا يَزَالُونَ مَعْصُومِينَ مُجَارِينَ مِنْ قَوَارِعِ الْعَذَابِ مَا دَامَا بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، فَأَمَانٌ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَمَانٌ بَقِيَ فِيكُمْ، قَوْلُهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وقال أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ الْغَفَّارِ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أن النضر بن عدي حَدَّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ نَحْوًا مِنْ هَذَا. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي الْعَلَاءِ النَّحْوِيِّ الْمُقْرِئِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ «5» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 231. [.....]
(2) تفسير الطبري 6/ 233.
(3) تفسير الطبري 6/ 233، 234.
(4) تفسير الطبري 6/ 233.
(5) كتاب التفسير، تفسير سورة 8، باب 4.(4/43)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
«أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ وَعَزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي» . ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا رِشْدِينُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سَعْدٍ التُّجِيبِيُّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الْعَبْدُ آمِنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عز وجل» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 34 الى 35]
وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُعَذِّبَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهُمْ أَوْقَعَ اللَّهُ بهم بأسه يوم بدر، فقتل صناديدهم وأسر سَرَاتُهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ تَعَالَى إِلَى الِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ.
وقال قَتَادَةُ والسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَوْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لَمَا عُذِّبُوا «3» .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَلَوْلَا مَا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنَ المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بِهِمُ الْبَأْسُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَلَكِنْ دُفِعَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْحِ: 25] .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَ: وكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين، يعني بمكة يَسْتَغْفِرُونَ فلما خرجوا أنزل الله
__________
(1) المسند 3/ 29، 41، 76.
(2) المسند 6/ 20.
(3) تفسير الطبري 6/ 235.
(4) تفسير الطبري 6/ 232.(4/44)
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، قَالَ:
فَأَذِنَ اللَّهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي وَعَدَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ نَحْوُ هَذَا، وَقَدْ قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صُدُورَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا: قَالَ فِي الْأَنْفَالِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، فَقُوتِلُوا بِمَكَّةَ فَأَصَابَهُمْ فِيهَا الْجُوعُ وَالضُّرُّ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نميلة يَحْيَى بْنِ وَاضِحٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عطاء عن ابن عباس وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ثُمَّ استثنى أهل الشرك فقال وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2» .
وَقَوْلُهُ- وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ وَكَيْفَ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أي الذي بمكة يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فيه وَالطَّوَافِ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أَيْ هُمْ لَيْسُوا أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا أَهْلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التَّوْبَةِ: 16- 17] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217] ، الْآيَةَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ هُوَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ صَدَقَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أولياؤك؟ قَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ» وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 236.
(2) أخرجه السيوطي في الدر المنثور 3/ 328.(4/45)
قريشا فقال: «هل فيكم من غيركم؟» فقالوا فِينَا ابْنُ أُخْتِنَا وَفِينَا حَلِيفُنَا وَفِينَا مَوْلَانَا فَقَالَ:
«حَلِيفُنَا مِنَّا وَابْنُ أُخْتِنَا مِنَّا وَمَوْلَانَا مِنَّا إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ» ثُمَّ قَالَ هذا صَحِيحٌ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَقَالَ عُرْوَةُ والسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ قَالَ هُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْمُجَاهِدُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَهُ بِهِ، فَقَالَ: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً، قال عبد الله بن عمرو وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وحُجْرُ بْنُ عَنْبَسٍ ونُبَيْطُ بْنُ شُرَيْطٍ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الصَّفِيرُ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ وَكَانُوا يُدْخِلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ عَلَى نَحْوِ طَيْرٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ الْمُكَاءُ وَيَكُونُ بِأَرْضِ الحجاز وَتَصْدِيَةً.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلَّادٍ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَّادٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأشعري، حدثنا جَعْفَرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً، قَالَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق والمكاء الصفير والتصدية التَّصْفِيقِ. وَهَكَذَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالضَّحَّاكِ وقَتَادَةَ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وحُجْرِ بْنِ عَنْبَسٍ وَابْنِ أَبْزَى نَحْوُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أبو عامر حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ وَما كانَ صَلاتُهُمْ ... قال المكاء التصفير وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ، قَالَ قُرَّةُ: وَحَكَى لَنَا عَطِيَّةُ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ فَصَفَّرَ ابْنُ عُمَرَ وَأَمَالَ خَدَّهُ وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أنه قال: إنهم كَانُوا يَضَعُونَ خُدُودَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَيُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عَلَى الشِّمَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِنَّمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ذَلِكَ لِيَخْلِطُوا بِذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِلَاتَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَتَصْدِيَةً قَالَ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
هُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ عَذَابُ أهل
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 239.
(2) تفسير الطبري 6/ 241.(4/46)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
الْإِقْرَارِ بِالسَّيْفِ وَعَذَابُ أَهْلِ التَّكْذِيبِ بِالصَّيْحَةِ وَالزَّلْزَلَةِ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالُوا لَمَّا أُصِيبَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِهِ مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا فَفَعَلُوا، قَالَ فَفِيهِمْ كَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ- إلى قوله- جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ «1» ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَكَمِ بن عيينة وقَتَادَةَ والسُّدِّيِّ وَابْنِ أَبْزَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ وَنَفَقَتِهِ الْأَمْوَالَ فِي أُحُدٍ لِقِتَالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهِيَ عَامَّةٌ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا خَاصًّا فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنِ اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْحَقِّ فَسَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ تَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أَيْ نَدَامَةً حَيْثُ لَمْ تُجْدِ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ وَظُهُورَ كَلِمَتِهِمْ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ وَنَاصِرٌ دِينَهُ وَمُعْلِنٌ كَلِمَتَهُ وَمُظْهِرٌ دِينَهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ فَهَذَا الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ رَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا يَسُوءُهُ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ فَإِلَى الْخِزْيِ الْأَبَدِي وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِي، وَلِهَذَا قَالَ: فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فَيَمِيزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَمِيزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يكون هذا التمييز في الآخرة كقوله: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس: 28] الآية، وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الرُّومِ: 14] ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الرُّومِ: 43] وَقَالَ تَعَالَى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الدُّنْيَا بِمَا يظهر من أعمالهم للمؤمنين.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 243.(4/47)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
وتكون اللام معللة لما جعل الله للكافرين من مال ينفقونه فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ إِنَّمَا أَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أَيْ مَنْ يُطِيعُهُ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ [آل عمران: 166- 167] الآية وَقَالَ تَعَالَى: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179] الآية.
وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عمران: 142] ونظيرها فِي بَرَاءَةَ أَيْضًا فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا ابْتَلَيْنَاكُمْ بِالْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَكُمْ وَأَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ الأموال وبذلها في ذلك لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ أَيْ يَجْمَعَهُ كُلَّهُ وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَابِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ مُتَرَاكِمًا مُتَرَاكِبًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الدنيا والآخرة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا أَيْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُشَاقَّةِ وَالْعِنَادِ وَيَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةِ يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وائل عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» «1» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا» «2» .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ يَعُودُوا أَيْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا هُمْ فيه فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أَيْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ أَنَّا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة. قال مجاهد في قوله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أَيْ فِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أي يوم بدر.
وقوله تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قال البخاري «3» : حدثنا
__________
(1) أخرجه البخاري في المرتدين باب 1، وابن ماجة في الزهد باب 29. [.....]
(2) أخرجه أحمد في المسند 4/ 199، 204، 205.
(3) كتاب التفسير، تفسير سورة 8، باب 5.(4/48)
الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ بكر بن عمر عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رجلا جاء فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الآية فما يمنعك أن لا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أُعَيَّرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعَيَّرَ بِالْآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: 93] إلى آخر الآية قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ قَدْ فعلنا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُوثِقُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ فِيمَا يريد قال فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر أما قَوْلِي فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، أَمَّا عُثْمَانُ فَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ وَكَرِهْتُمْ أَنْ يَعْفُوَ الله عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَهَذِهِ ابْنَتُهُ أَوْ بِنْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا بَيَانٌ أن ابن وَبْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا أَوْ إِلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فقال كَيْفَ تَرَى فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ «1» . هَذَا كُلُّهُ سياق البخاري رحمه الله تعالى وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا مَا تَرَى وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ قَالَ يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ دَمَ أَخِي الْمُسْلِمِ.
قَالُوا أَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؟ قَالَ قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وكذا روى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيِّ، قَالَ كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، قَالَ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لم تكن فتنة، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بن سلمة، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَاتَلْتُ أَنَا وَأَصْحَابِي حَتَّى كَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَذَهَبَ الشِّرْكُ وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَلَكِنَّكَ وَأَصْحَابَكَ تُقَاتِلُونَ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ، رَوَاهُمَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ: عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ ذُو الْبُطَيْنِ، يَعْنِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: لَا أُقَاتِلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبَدًا. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبَدًا، فَقَالَ رَجُلٌ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؟ فَقَالَا: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. رَوَاهُ ابْنُ مردويه، وقال
__________
(1) راجع الحاشية السابقة.(4/49)
الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، يعني لَا يَكُونَ شِرْكٌ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ومجاهد والحسن وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا، حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُسْلِمٌ عَنْ دِينِهِ.
وَقَوْلُهُ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ يُخْلِصُ التَّوْحِيدَ لِلَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَيَكُونَ التَّوْحِيدُ خَالِصًا لِلَّهِ، لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ، وَيَخْلَعَ مَا دُونَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لَا يَكُونُ مَعَ دِينِكُمْ كُفْرٌ، ويشهد لهذا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجل» «1» وفيهما عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» «2» .
وَقَوْلُهُ فَإِنِ انْتَهَوْا أَيْ بِقِتَالِكُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ فَكَفُّوا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا بواطنهم فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، كقوله فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] ، الآية، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التَّوْبَةِ: 11] ، وَقَالَ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 193] وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُسَامَةَ، لَمَّا عَلَا ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأُسَامَةَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله يوم القيامة؟ فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا، قَالَ «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟» وَجَعَلَ يَقُولُ وَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ، «مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» قَالَ أُسَامَةُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لم أكن أسلمت إلا يومئذ «3» .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، أَيْ وَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى خِلَافِكُمْ وَمُحَارَبَتِكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ، وسيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان 17، ومسلم في الإيمان حديث 34، 36.
(2) أخرجه البخاري في العلم باب 45، ومسلم في الإمارة حديث 150، 151.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 158، وأبو داود في الجهاد باب 95، وابن ماجة في الفتن باب 1، وأحمد في المسند 4/ 439، 5/ 207.(4/50)
وَنِعْمَ النَّصِيرُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي، عَنْ مُخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَسَأُخْبِرُكَ بِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله، كان من شأن خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ، فَنِعْمَ النَّبِيُّ وَنِعْمَ السَّيِّدُ وَنِعْمَ الْعَشِيرَةُ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَعَرَّفَنَا وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَحْيَانَا عَلَى ملته وأماتنا وبعثنا عليها، وَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ به مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَمْ يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه، وكانوا يسمعون له، حتى إذا ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ.
وَقَدِمَ نَاسٌ مِنَ الطَّائِفِ مِنْ قريش لهم أموال، أنكر ذلك عليه ناس وَاشْتَدُّوا عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا مَا قَالَ وَأَغْرَوْا بِهِ من أطاعهم، فانعطف عَنْهُ عَامَّةُ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بِأَنْ يَفْتِنُوا مَنِ اتَّبَعَهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةُ الزِّلْزَالِ، فَافْتَتَنَ مَنِ افْتَتَنَ وَعَصَمَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا فُعِلَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، أَمَرَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يَخْرُجُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ مَلِكٌ صَالِحٌ، يُقَالُ لَهُ النَّجَاشِيُّ، لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ بِأَرْضِهِ، وَكَانَ يُثْنَى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ أَرْضُ الْحَبَشَةِ مَتْجَرًا لِقُرَيْشٍ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَكَانَتْ مساكن لِتُجَّارِهِمْ يَجِدُونَ فِيهَا رَفَاغًا مِنَ الرِّزْقِ، وَأَمْنًا وَمَتْجَرًا حَسَنًا، فَأَمَرَهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا عَامَّتُهُمْ لَمَّا قُهِرُوا بمكة، وخافوا عَلَيْهِمُ الْفِتَنَ، وَمَكَثَ هُوَ فَلَمْ يَبْرَحْ.
فَمَكَثَ بِذَلِكَ سَنَوَاتٍ يَشْتَدُّونَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ فَشَا الْإِسْلَامُ فِيهَا، وَدَخَلَ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اسْتَرْخَوُا اسْتِرْخَاءَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الْأُولَى: هي التي أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَتَهَا، وَفِرَارًا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالزِّلْزَالِ فَلَمَّا اسْتُرْخِيَ عَنْهُمْ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ تُحُدِّثَ بِاسْتِرْخَائِهِمْ عَنْهُمْ، فَبَلَغَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِ اسْتُرْخِيَ عَمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ وَكَادُوا يَأْمَنُونَ بِهَا، وَجَعَلُوا يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ، وَأَنَّهُ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ بالمدينة ناس كثير.
وفشا الإسلام بالمدينة وَطَفِقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذلك، توامروا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ وَيَشْتَدُّوا، فَأَخَذُوهُمْ فَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، فَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الآخرة، فَكَانَتْ فِتْنَتَانِ: فِتْنَةٌ أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ حِينَ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَفِتْنَةٌ: لَمَّا رَجَعُوا وَرَأَوْا مَنْ يأتيهم من
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 246، 247.(4/51)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ سَبْعُونَ نقيبا، رؤوس الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَوَافَوْهُ بِالْحَجِّ فَبَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، وَأَعْطَوْهُ عهودهم ومواثيقهم، عَلَى أَنَّا مِنْكَ وَأَنْتَ مِنَّا، وَعَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَوْ جِئْتَنَا فَإِنَّا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ قريش، عند ذلك، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الْفِتْنَةُ الْآخِرَةُ الَّتِي أَخْرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَخَرَجَ هُوَ، وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِهَذَا، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى عُرْوَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
[سورة الأنفال (8) : آية 41]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
يُبَيِّنُ تَعَالَى تَفْصِيلَ مَا شَرَعَهُ مُخَصَّصًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّرِيفَةِ، من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم. والغنيمة هِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْكُفَّارِ، بِإِيجَافِ «1» الْخَيْلِ والركاب، والفيء مَا أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَالْأَمْوَالِ الَّتِي يُصَالَحُونَ عَلَيْهَا أَوْ يُتَوَفَّوْنَ عَنْهَا، وَلَا وَارِثَ لَهُمْ، وَالْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْفَيْءَ عَلَى ما تطلق عليه الغنيمة، وبالعكس أَيْضًا، وَلِهَذَا ذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْحَشْرِ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الحشر: 8] الآية، قَالَ فَنَسَخَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ تِلْكَ، وَجَعَلَتِ الْغَنَائِمَ أربعة أخماس لِلْمُجَاهِدِينَ، وَخُمُسًا مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَتِلْكَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي قَاطِبَةً، أن بني النضير بعد بدر، وهذا أَمْرٌ لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُرْتَابُ، فَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَعْنَى الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةِ، يَقُولُ تِلْكَ نزلت في أموال الفيء، وهذه في الغنائم، ومن يجعل أمر الغنائم وَالْفَيْءِ رَاجِعًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، يَقُولُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ آيَةِ الْحَشْرِ وَبَيْنَ التَّخْمِيسِ، إِذَا رآه الإمام والله أعلم.
فقوله تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ تَوْكِيدٌ لِتَخْمِيسِ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ حَتَّى الْخَيْطِ وَالْمَخِيطِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 161] ، وَقَوْلُهُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلَّهِ نَصِيبٌ مِنَ الْخُمُسِ يُجْعَلُ فِي الْكَعْبَةِ. قَالَ أبو جعفر
__________
(1) الإيجاف: سرعة السير، وأوجف دابته: حثها على السير.(4/52)
الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، يؤتى بالغنيمة فيخمسها عَلَى خَمْسَةٍ، تَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ شَهِدَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الَّذِي قَبَضَ كَفُّهُ فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ، وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ «1» .
وَقَالَ آخَرُونَ: ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلتَّبَرُّكِ، وَسَهْمٌ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خَمَّسَ الْغَنِيمَةَ، فَضَرَبَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ، ثُمَّ قَرَأَ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، مِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فَجَعَلَ سَهْمَ الله وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا، وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ محمد ابن الحنيفة، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ وقَتَادَةُ وَمُغِيرَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شقيق، عن رجل، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، وَهُوَ يَعْرِضُ فَرَسًا، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ؟ فقال: «لله خمسها وأربعة أخماسها لِلْجَيْشِ» قُلْتُ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: «لَا وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جيبك لَيْسَ أَنْتَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبَانٌ عَنِ الْحَسَنِ، قال: أوصى الحسن بِالْخُمُسِ مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ أَلَا أَرْضَى مِنْ مَالِي بِمَا رَضِيَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ، فَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تخمس عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ أخماس، فربع لله وللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ لِلَّهِ وللرسول فهو لقرابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْمِنْقَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ، قَالَ: الَّذِي لِلَّهِ فَلِنَبِيِّهِ، وَالَّذِي لِلرَّسُولِ لِأَزْوَاجِهِ. وَقَالَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ، يَحْمِلُ مِنْهُ وَيَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أعم وأشمل، وهو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَرَّفُ فِي الْخُمُسِ الذي جعله الله بِمَا شَاءَ، وَيَرُدُّهُ فِي أُمَّتِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 250.
(2) تفسير الطبري 6/ 250.
(3) المسند 5/ 326، 6/ 31.(4/53)
إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَعْرَجِ، عَنِ المقدام بن معد يكرب الْكِنْدِيِّ، أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَالْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَتَذَاكَرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِعُبَادَةَ: يَا عُبَادَةُ كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَأْنِ الْأَخْمَاسِ، فَقَالَ عُبَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي غَزْوَةٍ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَاوَلَ وَبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ غَنَائِمِكُمْ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا نصيبي معكم الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ، وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ، وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الغلول عار ونار عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي السفر والحضر، وجاهدوا في اللَّهِ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عظيم، ينجي الله به مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ» ، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَلَكِنْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ الْخُمُسِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْغُلُولِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عنبسة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سلم أخذ وبرة من هذا الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: «وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلَ هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عليكم» «1» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك كما نص عليه مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَتَبِعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ «2» ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصَّفِيِّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «3» فِي سُنَنِهِ، وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا بِالْمِرْبَدِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مَعَهُ قِطْعَةُ أَدِيمٍ، فَقَرَأْنَاهَا فَإِذَا فِيهَا «مِنْ مُحَمَّدٍ رسول الله إلى بني زهير بن قيس إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَسَهْمَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَسَهْمَ الصَّفِيِّ، أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» فقلنا من كتب هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» ، فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرير هذا وثبوته.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 149، والنسائي في الفيء.
(2) أخرجه الترمذي في السير باب 12، وأحمد في المسند 1/ 271.
(3) كتاب الإمارة باب 21. [.....]
(4) أخرجه أبو داود في الإمارة باب 21، والنسائي في الفيء.(4/54)
وَلِهَذَا جَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرُونَ مِنَ الْخَصَائِصِ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْخُمُسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعُلِمَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الَّذِي كَانَ يَنَالُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْخُمُسِ، مَاذَا يُصْنَعُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ يَكُونُ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ، ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى، مَرْدُودَانِ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقِيلَ إِنَّ الْخُمُسَ جَمِيعُهُ لِذَوِي الْقُرْبَى، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عبد الغفار، حدثنا المنهال بن عمرو، سألت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عَنِ الْخُمُسِ، فَقَالَا:
هُوَ لَنَا، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَقَالَا: يَتَامَانَا وَمَسَاكِينُنَا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ قَيْسِ بن مسلم، سألت الحسن بن محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ فقال: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَيْنَ السَّهْمَيْنِ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال قَائِلُونَ: سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليما للخليفة من بعده، وقال آخرون لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ آخرون: سهم القرابة لقرابة الخليفة، واجتمع رأيهم أَنْ يَجْعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَا عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «2» .
قَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ يَجْعَلَانِ سَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ مَا كان علي يقول فيه؟ قال: كان أَشَدَّهُمْ فِيهِ «3» ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، لأن بني المطلب ووازروا بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي الشِّعْبِ غَضَبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِمَايَةً لَهُ، مُسْلِمُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَافِرُهُمْ حَمِيَّةً لِلْعَشِيرَةِ وَأَنَفَةً وطاعة لأبي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ، وَإِنْ كانوا بني عَمِّهِمْ، فَلَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ حَارَبُوهُمْ ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول، ولهذا
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 254.
(2) تفسير الطبري 6/ 253.
(3) تفسير الطبري 6/ 253.(4/55)
كَانَ ذَمُّ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ أَشَدَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، لِشِدَّةِ قُرْبِهِمْ، وَلِهَذَا يقول في أثناء قصيدته: [الطويل]
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلٍ غَيْرَ آجِلِ «1»
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شُعَيْرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا ... بَنِي خلف قيضا بنا والعياطل
وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ: «إنما بنو هاشم وبنو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ» «2» ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ»
: وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، ثُمَّ رَوَى عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي بَنِي هَاشِمٍ فَقُرَاءَ، فَجَعَلَ لَهُمُ الْخُمُسَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: هُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نَحْوُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عن ذوي الْقُرْبَى، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، كُنَّا نَقُولُ: إنا هم، فأبى علينا ذلك قَوْمُنَا، وَقَالُوا قُرَيْشٌ كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى «5» وَهَذَا الحديث صحيح، رواه مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى، فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَالزِّيَادَةُ مِنْ أَفْرَادِ أَبِي مَعْشَرٍ نَجِيحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مهدي المصيصي، حدثنا المعتمر بن
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي طالب بن عبد المطلب ص 128، والبيت الأول في لسان العرب (عيل) ، والبيت الثاني في لسان العرب (عيل) ، وتهذيب اللغة 3/ 196، 402، وتاج العروس (حصص) ، ومقاييس اللغة 2/ 124، وبلا نسبة في لسان العرب (حصص) ، والمخصص 12/ 263، وكتاب العين 3/ 14.
(2) أخرجه النسائي في الفيء باب 5.
(3) تفسير الطبري 6/ 251.
(4) تفسير الطبري 6/ 252.
(5) انظر تفسير الطبري 6/ 252. وأخرجه أيضا. مسلم في الجهاد حديث 140، وأبو داود في الإمارة باب 20، والنسائي في الفيء باب 1، 2.(4/56)
سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَغِبْتُ لَكُمْ عَنْ غُسَالَةِ الْأَيْدِي، لِأَنَّ لَكُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ أَوْ يَكْفِيكُمْ» «1» ، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ هَذَا وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: يَأْتِي بِمَنَاكِيرَ، والله أعلم.
وقوله وَالْيَتامى أي أيتام الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَخْتَصُّ بِالْأَيْتَامِ الْفُقَرَاءِ، أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين، والمساكين هُمُ الْمَحَاوِيجُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُمْ وَمَسْكَنَتَهُمْ، وَابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ أَوِ الْمُرِيدُ لِلسَّفَرِ إِلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُهُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا أَي امْتَثِلُوا مَا شَرَعْنَا لَكُمْ مِنَ الْخُمُسِ فِي الْغَنَائِمِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: «وَآمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ- ثُمَّ قَالَ- هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ» «2» ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، فَجَعَلَ أَدَاءَ الْخُمُسِ مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ صَحِيحِهِ، فَقَالَ: [بَابُ أَدَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الْإِيمَانِ] ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ أَيْ في القسمة، وقوله يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ، بِمَا فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ، وَيُسَمَّى الْفُرْقَانَ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَى فِيهِ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ عَلَى كَلِمَةِ الْبَاطِلِ وَأَظْهَرَ دِينَهُ وَنَصَرَ نَبِيَّهُ وَحِزْبَهُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ ومِقْسَمٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمٌ فَرَقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَأْسُ الْمُشْرِكِينَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ الْأَلِفِ
__________
(1) أخرجه السيوطي في الدر المنثور 3/ 337.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان باب 40، ومسلم في الإيمان حديث 24.(4/57)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
وَالتِّسْعِمِائَةِ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى السَّبْعِينَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: تَحَرَّوْهَا لِإِحْدَى عَشْرَةَ يبقين، فإن في صَبِيحَتَهَا يَوْمُ بَدْرٍ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَرُوِيَ مِثْلُهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ رَجُلٍ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يعقوب أبو طالب، عن ابن عون عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ، لَيْلَةُ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، فِي صَبِيحَتِهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسَّيْرِ، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي زَمَانِهِ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى هَذَا، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الأنفال (8) : آية 42]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفُرْقَانِ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أَيْ إِذْ أَنْتُمْ نُزُولٌ بِعُدْوَةِ الْوَادِي الدُّنْيَا الْقَرِيبَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُمْ أَي الْمُشْرِكُونَ نُزُولٌ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أَي الْبَعِيدَةِ من المدينة إلى نَاحِيَةِ مَكَّةَ، وَالرَّكْبُ أَي الْعِيرُ الَّذِي فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ بِمَا مَعَهُ مِنَ التِّجَارَةِ، أَسْفَلَ مِنْكُمْ أَيْ مِمَّا يَلِي سَيْفَ الْبَحْرِ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أَيْ أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَانٍ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، ثُمَّ بَلَغَكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ، مَا لَقِيتُمُوهُمْ.
وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أَيْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ مَا أَرَادَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، من غَيْرِ مَلَأٍ مِنْكُمْ «2» ، فَفَعَلَ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ، وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ حَدَّثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الركب من الشام، وخرج أبو جهل
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 255.
(2) على غير ملأ: أي على غير اجتماع وتشاور.
(3) تفسير الطبري 6/ 257. [.....](4/58)
لِيَمْنَعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يَشْعُرُ هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ، وَلَا هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ، حَتَّى التقى السُّقَاةُ، وَنَهَدَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ «1» : وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصَّفْرَاءِ، بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيَّيْنِ، يَلْتَمِسَانِ الْخَبَرَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا وَرَدَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا بَعِيرَيْهِمَا إِلَى تَلٍّ مِنَ الْبَطْحَاءِ، فَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا مِنَ الْمَاءِ، فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ تَخْتَصِمَانِ، تَقُولُ إِحْدَاهُمَا لِصَاحِبَتِهَا اقْضِينِي حَقِّي، وَتَقُولُ الْأُخْرَى إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ فَأَقْضِيكِ حَقَّكَ، فَخَلَّصَ بَيْنَهُمَا مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ صَدَقْتِ، فسمع بذلك بَسْبَسُ وَعَدِيٌّ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ وَلَّيَا وَقَدْ حَذِرَ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ عِيرِهِ، وَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو هَلْ أَحْسَسْتَ عَلَى هَذَا الْمَاءِ مِنْ أَحَدٍ تُنْكِرُهُ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ فاستقيا من شَنٍّ لَهُمَا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مُنَاخِ بَعِيرَيْهِمَا، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا فَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ فانطلق بها فساحل، حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَرِجَالَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا- وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ- فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا فَنُطْعِمَ بِهَا الطَّعَامَ، وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ، ونَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بنا العرب وبمسيرنا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا بَعْدَهَا أَبَدًا. فَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ:
يَا مَعْشَرَ بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ الله قد أنجى أموالكم ونجى صاحبكم فارجعوا فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ، فَلَمْ يَشْهَدُوهَا، وَلَا بَنُو عَدِيٍّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «2» : وَحَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قال: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَنَا مِنْ بَدْرٍ، عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَجَسَّسُونَ لَهُ الْخَبَرَ، فَأَصَابُوا سُقَاةً لِقُرَيْشٍ غُلَامًا لِبَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَغُلَامًا لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدُوهُ يُصَلِّي فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُمَا لِمَنْ أَنْتُمَا؟ فَيَقُولَانِ: نَحْنُ سُقَاةٌ لِقُرَيْشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، فَكِرَهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ فضربوهما، فلما أزلقوهما قَالَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَقَالَ «إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا وَاللَّهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ، أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ» قَالَا هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَالْكَثِيبُ: الْعَقَنْقَلُ.
فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَمِ الْقَوْمُ؟» قَالَا: كَثِيرٌ. قَالَ: «مَا عِدَّتُهُمْ؟» قالا ما ندري. قال
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 617- 619.
(2) سيرة ابن هشام 1/ 616، 617.(4/59)
«كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟» قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ» ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: «فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟» قَالَا: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ونَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا» .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ، وَنُنِيخُ إِلَيْكَ رَكَائِبَكَ، وَنَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَظْفَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَعَزَّنَا فَذَاكَ مَا نُحِبُّ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَتَجْلِسْ عَلَى رَكَائِبِكَ وَتَلْحَقْ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ وَاللَّهِ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، لَوْ عَلِمُوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، ويوازرونك وَيَنْصُرُونَكَ. فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِهِ فَبُنِيَ لَهُ عَرِيشٌ، فَكَانَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَا مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ، فَلَمَّا أَقْبَلَتْ وَرَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصَوِّبُ مِنَ الْعَقَنْقَلِ، وَهُوَ الكثيب، الذي جاءوا منه إلى الوادي، فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ الْغَدَاةَ» .
وَقَوْلُهُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَيْ لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْحُجَّةِ لِمَا رَأَى مِنَ الْآيَةِ وَالْعِبْرَةِ، وَيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ جَيِّدٌ. وَبَسْطُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا جَمَعُكُمْ مَعَ عَدُوِّكُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، لِيَنْصُرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَرْفَعَ كَلِمَةَ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، لِيَصِيرَ الْأَمْرُ ظَاهِرًا وَالْحُجَّةُ قَاطِعَةً وَالْبَرَاهِينُ سَاطِعَةً، وَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ حُجَّةٌ، وَلَا شُبْهَةٌ، فَحِينَئِذٍ يَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ أَيْ يَسْتَمِرُّ فِي الْكُفْرِ مَنِ اسْتَمَرَّ فِيهِ، عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ أَيْ يُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ عَنْ بَيِّنَةٍ أَيْ حُجَّةٍ وَبَصِيرَةٍ، وَالْإِيمَانُ هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام: 122] وقالت عائشة في قصة الإفك فهلك فيّ مَنْ هَلَكَ «2» ، أَيْ قَالَ فِيهَا مَا قَالَ من البهتان وَالْإِفْكِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ أَيْ لِدُعَائِكُمْ وَتَضَرُّعِكُمْ وَاسْتِغَاثَتِكُمْ بِهِ، عَلِيمٌ أَيْ بِكُمْ، وَأَنَّكُمْ تستحقون النصر
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 620، 621.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 24، باب 6، والمغازي باب 34، ومسلم في التوبة حديث 56، وأحمد في المسند 6/ 195، ولفظ أحمد في المسند: «فهلك فيمن هلك في شأني» ، ولفظ البخاري ومسلم: «فهلك من هلك في شأنى» .(4/60)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
على أعدائكم الكفرة المعاندين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 43 الى 44]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قال مجاهد: أراهم الله إياه في منامه قليلا، وأخبر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَثْبِيتًا لَهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ رَآهُمْ بِعَيْنِهِ الَّتِي يَنَامُ بِهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا يُوسُفُ بن موسى، حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، عَنْ سَهْلٍ السَّرَّاجِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا قَالَ بِعَيْنِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ، وَقَدْ صُرِّحَ بِالْمَنَامِ هَاهُنَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أَيْ لَجَبُنْتُمْ عَنْهُمْ، وَاخْتَلَفْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَيْ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ أَرَاكَهُمْ قَلِيلًا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ بِمَا تُكِنُّهُ الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: 19] وَقَوْلُهُ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِهِمْ، إِذْ أَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ قَلِيلًا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، فيجزؤهم عَلَيْهِمْ وَيُطْمِعُهُمْ فِيهِمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إلى جنبي تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: لَا بَلْ هُمْ مِائَةٌ، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه، فقال: كُنَّا أَلْفًا، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيد، عن الزبير بن الحارث عن عكرمة وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ الآية، قَالَ: حَضَّضَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أَيْ لِيُلْقِيَ بَيْنَهُمُ الْحَرْبَ لِلنِّقْمَةِ مِمَّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ، وَالْإِنْعَامِ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَمَامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى أَغْرَى كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ، وَقَلَّلَهُ فِي عَيْنِهِ لِيَطْمَعَ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ، فَلَمَّا الْتَحَمَ الْقِتَالُ وَأَيَّدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ، بَقِيَ حِزْبُ الْكُفَّارِ يَرَى حِزْبَ الْإِيمَانِ ضِعْفَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آلِ عِمْرَانَ: 13] وَهَذَا هُوَ الجمع بين هاتين الآيتين، فإن كلا منهما حق وصدق، ولله الحمد والمنة.(4/61)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
هَذَا تَعْلِيمُ من الله تعالى لعباده الْمُؤْمِنِينَ آدَابَ اللِّقَاءِ وَطَرِيقَ الشَّجَاعَةِ عِنْدَ مُوَاجَهَةِ الْأَعْدَاءِ، فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أوفى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» «1» .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا واذكروا الله، فإن صخبوا وصاحوا فَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ» «2» ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرْفُوعًا، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الصَّمْتَ عِنْدَ ثَلَاثٍ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الزَّحْفِ، وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمَرْفُوعِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِيَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُنَاجِزٌ قِرْنَهُ» «3» أَيْ لَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ الْحَالُ، عَنْ ذِكْرِي وَدُعَائِي وَاسْتِعَانَتِي.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عِنْدَ أَشْغَلِ مَا يكون عند الضرب بِالسُّيُوفِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: وَجَبَ الإنصات وذكر الله عِنْدَ الزَّحْفِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، قُلْتُ: يجهرون بالذكر؟ قال: نعم، وقال أيضا: قرأ عَلَى يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ يزيد بن فوذر عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أُمِرَ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ وَالْقِتَالِ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ، فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قال الشاعر: [الطويل]
ذَكَرْتُكِ والْخَطَى يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهَلَتْ فِينَا المثقّفة السّمر «4»
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 112، ومسلم في الجهاد حديث 2، وأبو داود في الجهاد باب 89، وأحمد في المسند 4/ 354.
(2) أخرجه الدارمي في السير باب 6.
(3) أخرجه الترمذي في الدعوات باب 118، بلفظ: «إنّ عبدي كل عندي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه» .
(4) البيت لأبي العطاء السندي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 56، وشرح شواهد المغني 2/ 840، وبلا نسبة في شرح المفصل 2/ 67، ومغني اللبيب 2/ 426.(4/62)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
وقال عنترة: [الكامل]
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... منّي وبيض الهند تقطر من دمي
فَأَمَرَ تَعَالَى بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُبَارَزَتِهِمْ، فَلَا يَفِرُّوا وَلَا يَنْكُلُوا وَلَا يَجْبُنُوا، وَأَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِي تِلْكَ الْحَالِ ولا ينسوه، بل يستعينوا به ويتوكلوا عَلَيْهِ وَيَسْأَلُوهُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي حَالِهِمْ ذَلِكَ، فَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ائْتَمَرُوا، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ انْزَجَرُوا، وَلَا يَتَنَازَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْضًا فَيَخْتَلِفُوا فَيَكُونَ سَبَبًا لِتَخَاذُلِهِمْ وَفَشَلِهِمْ، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أَيْ قُوَّتُكُمْ وَحِدَّتُكُمْ، وَمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْإِقْبَالِ.
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَقَدْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به، وَامْتِثَالِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ قَبْلَهُمْ، وَلَا يَكُونُ لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، فَتَحُوا الْقُلُوبَ وَالْأَقَالِيمَ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُيُوشِ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْبَرْبَرِ والْحُبُوشِ، وَأَصْنَافِ السُّودَانِ وَالْقِبْطِ وَطَوَائِفِ بَنِي آدَمَ. قَهَرُوا الْجَمِيعَ حَتَّى عَلَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَظَهَرَ دِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَامْتَدَّتِ الْمَمَالِكُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ إنه كريم وهاب.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 47 الى 49]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
يَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ أَمْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، نَاهِيًا لَهُمْ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، بَطَرًا أَيْ دَفْعًا لِلْحَقِّ، وَرِئاءَ النَّاسِ وَهُوَ الْمُفَاخَرَةُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعِيرَ قَدْ نَجَا فَارْجِعُوا، فَقَالَ:
لَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ، حَتَّى نَرِدَ مَاءَ بَدْرٍ، وَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ بِمَكَانِنَا فِيهَا يَوْمَنَا أَبَدًا، فَانْعَكَسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَجْمَعُ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَرَدُوا مَاءَ بَدْرٍ وَرَدُوا بِهِ الحمام، وركموا فِي أَطْوَاءِ بَدْرٍ مُهَانِينَ أَذِلَّاءَ، صَغَرَةً أَشْقِيَاءَ فِي عَذَابٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ، وَلِهَذَا قَالَ: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أَيْ عَالِمٌ بِمَا جَاءُوا به وله، ولهذا جازاهم عليه شَرَّ الْجَزَاءِ لَهُمْ.(4/63)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ قَالُوا: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَاتَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ، خَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ «1» .
وقوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ الْآيَةَ، حَسَّنَ لَهُمْ- لَعَنَهُ اللَّهُ- مَا جَاءُوا لَهُ وَمَا هَمُّوا بِهِ، وَأَطْمَعَهُمْ أَنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يُؤْتُوا فِي دِيَارِهِمْ من عدوهم بني بكر، فقال: إني جَارٌ لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَبَدَّى لَهُمْ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، سَيِّدِ بَنِي مُدْلِجٍ كَبِيرِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ منه كما قال تَعَالَى عَنْهُ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النِّسَاءِ: 120] قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ إِلَى إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ، نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقَالَ:
إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ الْآيَةَ «2» .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَايَتُهُ، فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مدلج، فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ يَدَهُ ثم ولى مدبرا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ، وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ «3» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ إِبْلِيسَ خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالَ وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ، نَكَصَ عَلَى عقبيه وقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، فتشبث به الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَنَخَرَ فِي وَجْهِهِ فَخَرَّ صَعِقًا، فَقِيلَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا سُرَاقَةُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، تَخْذُلُنَا وَتَبْرَأُ مِنَّا، فَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 263.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 265.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 264.(4/64)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عُقْبَةَ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ أُغْمِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً، ثُمَّ كُشِفَ عَنْهُ فَبَشَّرَ النَّاسَ بِجِبْرِيلَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَيْمَنَةَ النَّاسِ، وَمِيكَائِيلَ فِي جُنْدٍ آخَرَ مَيْسَرَةَ النَّاسِ، وَإِسْرَافِيلَ فِي جُنْدٍ آخَرَ أَلْفٍ، وَإِبْلِيسُ قَدْ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ يُدَبِّرُ الْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ عَدُوُّ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ، نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سُرَاقَةُ لِمَا سَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَسَقَطَ الْحَارِثُ، وَانْطَلَقَ إِبْلِيسُ لَا يُرَى حَتَّى سَقَطَ فِي الْبَحْرِ وَرَفَعَ ثَوْبَهُ، وَقَالَ يَا رَبِّ مَوْعِدَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، قَرِيبٌ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَأَبْسَطُ مِنْهُ، ذَكَرْنَاهُ فِي السِّيرَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزبير، قال: لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ ذَكَرَتِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ مِنَ الْحَرْبِ، فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يُثْنِيَهُمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ أَنَا جَارٌ لَكُمْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا «1» .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ لَا يُنْكِرُونَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْتَقَى الْجَمْعَانِ، كَانَ الَّذِي رَآهُ حِينَ نَكَصَ، الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أو عمير بن وهب، فقال أين سراقة؟ أين وميل عَدُوُّ اللَّهِ فَذَهَبَ، قَالَ فَأَوْرَدَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ، قال ونظر عدوا اللَّهِ إِلَى جُنُودِ اللَّهِ قَدْ أَيَّدَ اللَّهُ بهم رسوله والمؤمنين، فنكص عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ، وَصَدَقَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَالَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ «2» ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَنَزَّلُ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ، فَعَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَدَانِ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَكَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. وَاللَّهِ مَا بِهِ مَخَافَةُ اللَّهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا مَنَعَةَ، وَتِلْكَ عَادَةُ عَدُوِّ اللَّهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاسْتَقَادَ لَهُ، حَتَّى إِذَا الْتَقَى الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ أَسْلَمَهُمْ شَرَّ مُسَلَّمٍ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ «3» .
قُلْتُ: يَعْنِي بِعَادَتِهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، قَوْلَهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر: 16] وقوله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 264.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 264، وسيرة ابن هشام 1/ 663.
(3) تفسير الطبري 6/ 265. [.....](4/65)
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: 22] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ مَالِكَ بن ربيعة بعد ما كف بَصَرُهُ، يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْآنَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَخْبَرْتُكُمْ بِالشِّعْبِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ وَلَا أَتَمَارَى، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَرَآهَا إِبْلِيسُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَثْبِيتُهُمْ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ أَبْشِرْ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ وَاللَّهُ معكم فكروا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ، وَهُوَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ، وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ يُحَضِّضُ أَصْحَابَهُ، وَيَقُولُ لَا يَهُولَنَّكُمْ خُذْلَانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَوْعِدٍ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْرِنَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي الْحِبَالِ، فَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَخُذُوهُمْ أَخْذًا، وَهَذَا مِنْ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ لَمَّا أَسْلَمُوا: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها [الْأَعْرَافِ: 123] وَكَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:
71] وَهُوَ مِنْ بَابِ الْبُهْتِ وَالِافْتِرَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أنس: عن إبراهيم بن أبي علية، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رأى إبليس يوما هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَدْحَرُ ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من نزول الرَّحْمَةِ وَالْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ» قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ رَأَى جبريل عليه السلام يزع الملائكة» «1» وهذا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَوْلُهُ: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس في هذه الآية: لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَلَّلَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قِلَّتِهِمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَهْزِمُونَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَالَ قَتَادَةُ: رَأَوْا عِصَابَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَشَدَّدَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَذُكِرَ لَنَا، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ عَدُوَّ اللَّهِ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، قال: والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتوا «2» .
__________
(1) أخرجه مالك في الحج حديث 245.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 266.(4/66)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمْ قَوْمٌ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَكَّةَ، قَالُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ «1» ، وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ، قَالُوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ «2» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ قَالَ فِئَةٌ من قريش، قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ، وَهُمْ عَلَى الِارْتِيَابِ فَحَبَسَهُمُ ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ سَوَاءً.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسُمُّوا مُنَافِقِينَ، قَالَ مَعْمَرٌ:
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ، قَالُوا غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، وَقَوْلُهُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ يَعْتَمِدْ عَلَى جَنَابِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أَيْ لَا يُضَامُ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ مَنِيعُ الْجَنَابِ عَظِيمُ السُّلْطَانِ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا يَضَعُهَا إِلَّا فِي مَوَاضِعِهَا، فَيَنْصُرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ، ويخذل من هو أهل لذلك.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ عَايَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَالَ تَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ، لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا هَائِلًا فَظِيعًا مُنْكَرًا، إِذْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ويقولون لهم وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ أَدْبارَهُمْ أستاهم، قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ «4» . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، ضَرَبُوا وُجُوهَهُمْ بِالسُّيُوفِ، وَإِذَا وَلَّوْا أَدْرَكَتْهُمُ الملائكة يضربون أدبارهم.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلَهُ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 267.
(2) تفسير الطبري 6/ 266.
(3) تفسير الطبري 6/ 266.
(4) انظر تفسير الطبري 6/ 268.(4/67)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
عن مجاهد، وعن شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ قَالَ وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكْنِي، وَكَذَا قَالَ عُمَرُ مَوْلَى عفرة. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مثل الشوك، قال «ذاك ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ» رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَهَذَا السِّيَاقُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ كَافِرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَصِّصْهُ تَعَالَى بِأَهْلِ بَدْرٍ، بَلْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَفِي سُورَةِ الْقِتَالِ «2» مثلها.
وتقدم في سورة الأنعام قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَامِ: 93] أَيْ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ بالضرب فيهم بأمر ربهم، إذ اسْتَصْعَبَتْ أَنْفُسُهُمْ، وَامْتَنَعَتْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَجْسَادِ أَنْ تَخْرُجَ قَهْرًا، وَذَلِكَ إِذْ بَشَّرُوهُمْ بِالْعَذَابِ والغضب من الله، كما فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا جَاءَ الْكَافِرَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُنْكَرَةِ، يَقُولُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ إِلَى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، فَتَتَفَرَّقُ فِي بَدَنِهِ فَيَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ جَسَدِهِ، كَمَا يَخْرُجُ السَّفُّودُ «3» مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ «4» ، فَتَخْرُجُ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ هَذَا الْجَزَاءُ بِسَبَبِ مَا عَمِلْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، جَازَاكُمُ اللَّهُ بِهَا هَذَا الْجَزَاءَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عِنْدَ مُسْلِمٍ»
رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمِنْ وَجَدَ غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ولهذا قال تعالى.
[سورة الأنفال (8) : آية 52]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52)
يَقُولُ تَعَالَى: فَعَلَ هَؤُلَاءِ من المشركين المكذبين بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمَا فَعَلَ الأمم
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 268.
(2) أي سورة محمد الآية 27.
(3) السفود: حديدة ذات شعب معقوفة. يشوى بها اللحم.
(4) أخرجه أحمد في المسند 4/ 288، 296.
(5) كتاب البر حديث 55.(4/68)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
الْمُكَذِّبَةُ قَبْلَهُمْ، فَفَعَلْنَا بِهِمْ مَا هُوَ دَأْبُنَا أَيْ عَادَتُنَا وَسُنَّتُنَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالرُّسُلِ، الْكَافِرِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أَيْ لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ وَلَا يَفُوتُهُ هارب.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 53 الى 54]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ فِي حُكْمِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا على أحد، إلا بسبب ذنب ارتكبه، كقوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [الرَّعْدِ: 11] وَقَوْلُهُ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أَيْ كَصُنْعِهِ بِآلِ فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِمْ، حِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ، أَهْلَكَهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَسَلَبَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ الَّتِي أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ، مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بل كانوا هم الظالمين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 57]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ شَرَّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَقَضُوهُ، وَكُلَّمَا أَكَّدُوهُ بِالْأَيْمَانِ نَكَثُوهُ، وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ أَيْ لَا يَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْآثَامِ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ أَيْ تَغْلِبُهُمْ وَتَظْفَرُ بِهِمْ فِي حَرْبٍ، فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أَيْ نَكِّلْ بِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَعْنَاهُ غَلِّظْ عُقُوبَتَهُمْ وَأَثْخِنْهُمْ قَتْلًا، لِيَخَافَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا لَهُمْ عِبْرَةً، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُ: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَنْكُثُوا فَيُصْنَعَ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
[سورة الأنفال (8) : آية 58]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ قَدْ عَاهَدْتَهُمْ خِيانَةً أَيْ نَقْضًا لِمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أَيْ عَهْدَهُمْ عَلى سَواءٍ، أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِأَنَّكَ قَدْ نَقَضْتَ عَهْدَهُمْ، حَتَّى يَبْقَى عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّكَ حَرْبٌ لَهُمْ، وَهُمْ حَرْبٌ لَكَ، وَأَنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، أَيْ تَسْتَوِي أَنْتَ وَهُمْ فِي ذلك، قال الراجز: [رجز](4/69)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
فاضرب وجوه الغدر للأعداء ... حَتَّى يُجِيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ «1»
وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مسلم أنه قال في قوله تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أَيْ عَلَى مَهْلٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ أَيْ حَتَّى ولو في حق الكفار لَا يُحِبُّهَا أَيْضًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الْفَيْضِ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ، فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَفَاءً لَا غَدْرًا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحِلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» قال:
فبلغ ذلك معاوية، فرجع، فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «3» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ سَلْمَانَ، يَعْنِي الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: دَعُونِي أَدْعُوهُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ، فَقَالَ:
إِنَّمَا كُنْتُ رجلا منكم، فهداني الله عز وجل للإسلام، فإن أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، وإن أَبَيْتُمْ نَابَذْنَاكُمْ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ يفعل ذلك بهم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ غَدَا الناس إليها ففتحوها بعون الله.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 59 الى 60]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أَيْ فَاتُونَا، فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ بَلْ هُمْ تَحْتَ قَهْرِ قُدْرَتِنَا، وَفِي قَبْضَةِ مَشِيئَتِنَا، فَلَا يُعْجِزُونَنَا، كقوله تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 4] أَيْ يَظُنُّونَ، وقوله تَعَالَى:
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور: 57] وقوله تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ
__________
(1) الرجز بلا نسبة في تفسير الطبري 6/ 272.
(2) المسند 4/ 111.
(3) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 152، والترمذي في السير باب 27. [.....]
(4) المسند 5/ 440.(4/70)
[آلِ عِمْرَانَ: 196- 197] ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى، بِإِعْدَادِ آلَاتِ الْحَرْبِ لِمُقَاتَلَتِهِمْ حَسَبَ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ أَيْ مَهْمَا أَمْكَنَكُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي علي ثمامة بن شفي، أخي عقبة بن عامر، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» «2» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِهِ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخَرُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ رَجُلٍ عَنْهُ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا» «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ، لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا «4» ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ، كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا، فَاسْتَنَّتْ «5» شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ «6» كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا «7» ، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا ورياء ونواء «8» ، فهي على ذلك وزر» «9» .
__________
(1) المسند 4/ 156، 157.
(2) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 167، وأبو داود في الجهاد باب 23، وابن ماجة في الجهاد باب 19، والدارمي في الجهاد باب 14، والترمذي في تفسير سورة 8، باب 5.
(3) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 23، والترمذي في فضائل الجهاد باب 11، والنسائي في الخيل باب 8، وابن ماجة في الجهاد باب 19، وأحمد في المسند 4/ 144، 146، 148.
(4) الطيل، بكسر الطاء وفتح الياء: الحبل الذي تربط فيه.
(5) استنّت: جرت.
(6) الشرف: المكان العالي من الأرض.
(7) تغنيا وتعففا: أي استغناء عن الناس وتعففا عن السؤال.
(8) النواء: المناوأة والمعاداة.
(9) أخرجه البخاري في الشرب باب 12، والجهاد باب 48، والمناقب باب 28، وتفسير سورة 99، باب 1، والاعتصام باب 24، ومسلم في الزكاة حديث 24، 26، والترمذي في فضائل الجهاد باب 10، والنسائي في الخيل باب 1، وابن ماجة في الجهاد باب 14، ومالك في الجهاد حديث 3، وأحمد في المسند 2/ 262، 283.(4/71)
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1» [الزَّلْزَلَةِ: 7- 8] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَمُسْلِمٌ كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَالَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ- وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللَّهُ- وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ، فَالَّذِي يُقَامَرُ أو يراهن عليها، وأما فرس الإنسان، فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها، فهي له ستر من الفقر» وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، إِلَى أَنَّ الرَّمْيَ أَفْضَلُ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، إِلَى أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّمْيِ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَقْوَى لِلْحَدِيثِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَهِشَامٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شماسة، أن معاوية بن خديج، مَرَّ عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ فرس له، فسأله ما تعاني مِنْ فَرَسِكَ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْفَرَسَ قَدِ اسْتُجِيبَ لَهُ دَعْوَتُهُ، قَالَ: وَمَا دُعَاءُ بَهِيمَةٍ مِنَ الْبَهَائِمِ؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ فَرَسٍ إِلَّا وَهُوَ يَدْعُو كُلَّ سَحَرٍ، فَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ أَنْتَ خَوَّلْتَنِي عَبْدًا مِنْ عِبَادِكَ، وَجَعَلْتَ رِزْقِي بِيَدِهِ، فَاجْعَلْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أبي جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قيس، عن معاوية بن خديج عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ إِلَّا يُؤْذَنُ لَهُ مَعَ كُلِّ فَجْرٍ، يَدْعُو بِدَعْوَتَيْنِ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ خَوَّلْتَنِي مَنْ خَوَّلْتَنِي مِنْ بَنِي آدَمَ، فَاجْعَلْنِي مِنْ أَحَبِّ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيْهِ- أَوْ- أَحَبَّ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيْهِ» «4» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْمُطْعِمُ بْنُ الْمِقْدَامِ الصَّنْعَانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ يَعْنِي سَهْلًا: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلُهَا معانون عليها،
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 99، باب 1.
(2) المسند 1/ 395.
(3) المسند 5/ 162.
(4) أخرجه أحمد في المسند 5/ 170، والنسائي في الخيل باب 9. [.....](4/72)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
وَمَنْ رَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ كَالْمَادِّ يَدَهُ بِالصَّدَقَةِ لَا يَقْبِضُهَا» ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ كَثِيرَةٌ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ» «1» .
وَقَوْلُهُ: تُرْهِبُونَ أَيْ تُخَوِّفُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ قَالَ مجاهد يعني بني قُرَيْظَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَارِسُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قَالَ ابْنُ يَمَانٍ: هُمُ الشَّيَاطِينُ الَّتِي فِي الدُّورِ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُتْبَةَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيْوَةَ يَعْنِي شريح بن يزيد المقري، حدثنا سعيد بن سنان، عن ابن غريب، يعني يزيد بن عبد الله بن غريب، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي قول الله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ قَالَ هُمُ الْجِنُّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دُحَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سنان بن سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الله بن غريب بِهِ، وَزَادَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُخْبَلُ بَيْتٌ فِيهِ عَتِيقٌ مِنَ الْخَيْلِ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ وَلَا مَتْنُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنِ حَيَّانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التَّوْبَةِ: 101] .
وَقَوْلُهُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ يُوَفَّى إِلَيْكُمْ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «2» :
أَنَّ الدِّرْهَمَ يُضَاعَفُ ثَوَابُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَةِ: 261] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يأمر أن لا يُتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى نَزَلَتْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا، عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينٍ، وَهَذَا أَيْضًا غريب.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 44، والخمس باب 8، ومسلم في الإمارة حديث 98، 99.
(2) كتاب الجهاد باب 13.(4/73)
يَقُولُ تَعَالَى: إِذَا خِفْتَ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى حَرْبِكَ وَمُنَابِذَتِكَ، فَقَاتِلْهُمْ وَإِنْ جَنَحُوا أَيْ مَالُوا لِلسَّلْمِ أَيْ الْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، فَاجْنَحْ لَها أَيْ فَمِلْ إِلَيْهَا وَاقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الصُّلْحَ، وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِسْعَ سِنِينَ، أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَعَ مَا اشْتَرَطُوا مِنَ الشُّرُوطِ الْأُخَرِ. وقال عبد الله ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المقدمي، حدثني فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ يَعْنِي النُّمَيْرِيَّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إنه سيكون اخْتِلَافٌ أَوْ أَمْرٌ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَكُونَ السِّلْمُ فَافْعَلْ» «1» .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ «2» ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَذِكْرُهَا مُكْتَنِفٌ لِهَذَا كُلِّهِ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وقَتَادَةَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي بَرَاءَةَ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] الآية، وفيه نَظَرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ آيَةَ بَرَاءَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مُهَادَنَتُهُمْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ صَالِحْهُمْ وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَلَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالصُّلْحِ خَدِيعَةً، لِيَتَقَوَّوْا وَيَسْتَعِدُّوا فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أَيْ كَافِيكَ وحده، ثم ذكر نعمته عليه مما أَيَّدَهُ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أَيْ جَمَعَهَا عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ، وَعَلَى طَاعَتِكَ وَمُنَاصَرَتِكَ وَمُوَازَرَتِكَ، لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أَيْ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَأُمُورٌ يَلْزَمُ مِنْهَا التَّسَلْسُلُ فِي الشَّرِّ، حَتَّى قَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِنُورِ الإيمان، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 103] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ الْأَنْصَارَ، فِي شَأْنِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، قَالَ لَهُمْ:
«يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي» كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ «3» ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 90.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 279.
(3) أخرجه البخاري في المغازي باب 56، ومسلم في الزكاة حديث 139، وأحمد في المسند 3/ 57، 76، 104، 253، 4/ 42.(4/74)
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ عَزِيزُ الْجَنَابِ، فَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، حَكِيمٌ في أفعاله وأحكامه، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ بِشْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي مَنْزِلِنَا، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الله محمد بن الحسين الْقِنْدِيلِيُّ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ الشَّرُودِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَابَةُ الرَّحِمِ تُقْطَعُ، وَمِنَّةُ النِّعْمَةِ تُكْفَرُ، وَلَمْ يُرَ مِثْلُ تَقَارُبِ الْقُلُوبِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الشِّعْرِ:
إِذَا بت ذو قربى إليك بزلة ... فَغَشَّكَ وَاسْتَغْنَى فَلَيْسَ بِذِي رَحِمِ «1»
وَلَكِنَّ ذَا القربى الذي إن دعوته ... أجاب وأن يَرْمِي الْعَدُوَّ الَّذِي تَرْمِي
قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ:
وَلَقَدْ صَحِبْتُ النَّاسَ ثُمَّ سَبَرْتُهُمْ ... وَبَلَوْتُ مَا وَصَلُوا مِنَ الْأَسْبَابِ «2»
فِإِذَا الْقَرَابَةُ لَا تُقَرِّبُ قَاطِعًا ... وَإِذَا الْمَوَدَّةُ أَقْرَبُ الْأَسْبَابِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا أَدْرِي هَذَا مَوْصُولٌ بِكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهُ مِنَ الرُّوَاةِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، سمعه يَقُولُ:
لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ، قَالَ هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ الرَّحِمَ لَتُقْطَعُ، وَإِنَّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ الْقُلُوبِ لَمْ يُزَحْزِحْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَقِيتُهُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ:
إِذَا التقى الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما تحات وَرَقُ الشَّجَرِ. قَالَ عَبْدَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ فَإِنَّ الله يَقُولُ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قَالَ عَبْدَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنِّي «3» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الجزري عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا غُفِرَ لَهُمَا، قال قلت لمجاهد
__________
(1) البيتان بلا نسبة في الدر المنثور 3/ 361.
(2) البيتان بلا نسبة في الدر المنثور 3/ 361.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 280، 281.
(4) تفسير الطبري 6/ 280، وفيه: إبراهيم الخوزيّ بدل إبراهيم الجزري.(4/75)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
بمصافحة يغفر لهما؟ قال مُجَاهِدٌ: أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ الْوَلِيدُ لِمُجَاهِدٍ: أَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي، وَكَذَا رَوَى طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ عمير بن إسحاق، قال: كنا نتحدث أن أول ما يرفع من النَّاسِ الْأُلْفَةُ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ، سَمِعْتُ جَعْدًا أَبَا عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذنوبهما، كما تحات الْوَرَقُ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
يُحَرِّضُ تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَمُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُبَارَزَةِ الْأَقْرَانِ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ حَسْبُهُمْ أَيْ كَافِيهِمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَإِنْ كَثُرَتْ أَعْدَادُهُمْ وَتَرَادَفَتْ أَمْدَادُهُمْ، وَلَوْ قَلَّ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عن ابن شَوْذَبٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُ مَنْ شَهِدَ مَعَكَ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن زيد مِثْلَهُ.
وَلِهَذَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أي حثهم أو مرهم عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، عِنْدَ صَفِّهِمْ وَمُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، كَمَا قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي عَدَدِهِمْ وعُدَدِهِمْ: «قُومُوا إلى جنة عرضها السموات والأرض» فقال عمير بن الحمام: عرضها السموات وَالْأَرْضِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَعَمْ» ، فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ فَقَالَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» فَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ، فَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَلْقَى بَقِيَّتَهُنَّ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَهُنَّ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «1» ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَمُلَ بِهِ الْأَرْبَعُونَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَإِسْلَامُ عُمَرَ كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وقبل الهجرة إلى المدينة، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 146، وأحمد في المسند 3/ 136.(4/76)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَآمِرًا: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْأَمْرُ وَبَقِيَتِ الْبِشَارَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المبارك: حدثنا جرير بن حازم، حدثنا الزبير بن الحريث، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شق ذلك على المسلمين، حتى فرض الله عليهم أن لا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ التَّخْفِيفُ، فَقَالَ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ قَالَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعُدَّةِ، وَنَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ، بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ عَنْهُمْ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ «1» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ نَحْوَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: كتب عليهم أن لا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَلَا يَنْبَغِي لِمِائَةٍ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ مِائَتَيْنِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بن عبد الله عن سفيان به نحوه، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَقُلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمُوا أَنْ يُقَاتِلَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ، وَمِائَةٌ أَلْفًا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَنَسَخَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَقَالَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الْآيَةَ، فَكَانُوا إِذَا كَانُوا عَلَى الشَّطْرِ من عدوهم، لم يسغ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَإِذَا كَانُوا دُونَ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ، وَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَحَوَّزُوا عَنْهُمْ «2» .
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وعطاء الخراساني والضحاك، وغيرهم نَحْوُ ذَلِكَ، وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: مِنْ حَدِيثِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، في قوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ قَالَ نَزَلَتْ فِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً رَفْعٌ ثُمَّ قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69]
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
__________
(1) كتاب التفسير تفسير سورة 8، باب 6، 7.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 283.(4/77)
قال الإمام أحمد «1» : حدثنا علي بن هاشم، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال:
استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ» فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ» فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لِلنَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَأَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، قَالَ فَذَهَبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الأعمش: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَتِبْهُمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عليهم، وقال عمر «يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنت في واد كثير الحطب، أضرم الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا، ثُمَّ أَلْقِهِمْ فِيهِ، قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ.
ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: 36] وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] وإن مثلك يا عمر، كمثل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ:
88] وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ، كَمَثَلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] أنتم عالة فلا ينفكن أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ، أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ» قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إلا سهيل ابن بَيْضَاءَ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يوم أخوف من أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إلا سهيل ابن بيضاء» فأنزل اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى إلى آخر الآية «2» ،
__________
(1) المسند 3/ 243.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 8، باب 6، وأحمد في المسند 1/ 383، 384، والطبري في تفسيره 6/ 287. [.....](4/78)
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا، وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا أُسِرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، أُسِرَ الْعَبَّاسُ فِيمَنْ أُسِرَ، أَسَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ وَقَدْ أَوْعَدَتْهُ الْأَنْصَارُ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَمْ أَنَمِ اللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِ عَمِّي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ زَعَمَتِ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ» فَقَالَ لَهُ عمر أفآتهم؟ فقال «نَعَمْ» ، فَأَتَى عُمَرُ الْأَنْصَارَ فَقَالَ لَهُمْ: أَرْسِلُوا الْعَبَّاسَ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نُرْسِلُهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضًى؟ قَالُوا فَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضًى فَخُذْهُ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَلَمَّا صَارَ فِي يَدِهِ، قال له: يا عباس أسلم فو الله لَأَنْ تُسْلِمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ إِسْلَامُكَ، قال وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر فيهم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَشِيرَتُكَ فَأَرْسِلْهُمْ، فَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَقَالَ: اقْتُلْهُمْ فَفَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الْآيَةَ، قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَقَالَ سفيان الثوري عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: خَيِّرْ أصحابك في الأسارى، إن شاؤوا الفداء، وإن شاؤوا القتل، على أن يقتل عاما مقبلا منهم مِثْلَهُمْ، قَالُوا: الْفِدَاءُ وَيُقْتَلُ مِنَّا»
، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَالَ ابن عون عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُسَارَى يَوْمِ بَدْرٍ:
«إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ وَاسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ» قَالَ فَكَانَ آخِرُ السَّبْعِينَ، ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُبَيْدَةَ مُرْسَلًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ عَذابٌ عَظِيمٌ. قَالَ غَنَائِمُ بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُمْ، يَقُولُ:
لَوْلَا أَنِّي لَا أُعَذِّبُ مَنْ عَصَانِي، حَتَّى أَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ «2» ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ الأعمش: سبق منه أن لا يُعَذِّبَ أَحَدًا شَهِدَ بَدْرًا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ، وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَيْ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَنَحْوُهُ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ الله.
__________
(1) أخرجه الترمذي في السير باب 18.
(2) انظر سيرة ابن هشام 1/ 676.(4/79)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ يَعْنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمَغَانِمَ وَالْأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ مِنَ الْأُسَارَى عَذابٌ عَظِيمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً الْآيَةَ. وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشِ أَيْضًا، أَنَّ الْمُرَادَ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِإِحْلَالِ الْغَنَائِمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَيُسْتَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ، بِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» «1» وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ تَحِلَّ الغنائم لسود الرؤوس غيرنا» «2» ولهذا قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً الآية، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذُوا مِنَ الْأُسَارَى الْفِدَاءَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن المبارك العبسي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ جَعَلَ فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أربعمائة «3» ، وقد استمر الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ إِنْ شَاءَ قَتَلَ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنْ شَاءَ فَادَى بِمَالٍ كَمَا فَعَلَ بِأَسْرَى بَدْرٍ، أَوْ بِمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْجَارِيَةِ وَابْنَتِهَا، اللَّتَيْنِ كَانَتَا فِي سَبْيِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، حَيْثُ رَدَّهُمَا وَأَخَذَ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ مَنْ أَسَرَ. هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ آخَرُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم باب 1، والصلاة باب 56، والخمس باب 8، ومسلم في المساجد حديث 3، 5.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 8، باب 7، وأحمد في المسند 2/ 252.
(3) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 121.(4/80)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أنا أُنَاسًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كُرْهًا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْهُمْ- أَيْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ- فَلَا يَقْتُلُهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامٍ فَلَا يَقْتُلُهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَا يَقْتُلُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا» فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَعَشَائِرَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأَلْجِمَنَّهُ بِالسَّيْفِ فَبَلَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «يَا أَبَا حَفْصٍ- قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا حفص- أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ؟» فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ الله ائذن لي فأضرب عنقه فو الله لَقَدْ نَافَقَ، فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهِ مَا آمَنُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا إِلَّا أن يكفرها الله تعالى عَنِّي بِشَهَادَةٍ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَبِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْأُسَارَى مَحْبُوسُونَ بِالْوِثَاقِ، بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاهِرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ لَا تَنَامُ؟ وَقَدْ أَسَرَ الْعَبَّاسَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَمِعْتُ أَنِينَ عَمِّيَ الْعَبَّاسِ فِي وِثَاقِهِ فَأَطْلَقُوهُ» فَسَكَتَ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَكْثَرُ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ فِدَاءً الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ ذَهَبًا، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بن عقبة قال ابن شهاب حدثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ قالوا يا رسول الله ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. قَالَ «لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا» «1» .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عن الزُّهْرِيِّ عَنْ جَمَاعَةٍ سَمَّاهُمْ قَالُوا: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا فَافْتَدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ» : قَالَ مَا ذَاكَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: «فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ؟ فَقُلْتَ لَهَا إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَهَذَا الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتُهُ لِبَنِيَّ الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقُثَمَ» قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ أُمِّ الْفَضْلِ فَاحْسِبْ لِي يَا رسول الله ما أصبتم مني عشرين
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 172، والمغازي باب 12.(4/81)
أُوقِيَّةً مِنْ مَالٍ كَانَ مَعِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْكَ» فَفَدَى نَفْسَهُ وابني أخويه وحليفه فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَالَ الْعَبَّاسُ فَأَعْطَانِي اللَّهُ مَكَانَ الْعِشْرِينَ الْأُوقِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ مَعَ مَا أَرْجُو مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَحْوٍ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وكيع حدثنا ابن إدريس عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: فِيَّ نَزَلَتْ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِي وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُحَاسِبَنِي بالعشرين الأوقية التي أخذت مِنِّي فَأَبَى فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهَا عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ تَاجِرٌ مَالِي فِي يَدِهِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن جابر بن عبد الله بن رباب قَالَ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ فِيَّ نَزَلَتْ وَاللَّهِ حِينَ ذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْلَامِي ثُمَّ ذَكَرَ نحو الحديث كالذي قَبْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى عَبَّاسٌ وَأَصْحَابُهُ قَالَ: قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا يُخْلِفْ لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الشَّرْكَ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ قَالَ فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ مَا أُحِبُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِينَا وَأَنَّ لِيَ الدُّنْيَا لَقَدْ قَالَ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ فَقَدْ أَعْطَانِي خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ وَقَالَ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وأرجو أن يكون قد غُفِرَ لِي «2» .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ الْعَبَّاسُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ قُرِئَتْ هذه الآية لقد أعطاني اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَصْلَتَيْنِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِمَا الدُّنْيَا: إِنِّي أُسِرْتُ يَوْمَ بَدْرٍ فَفَدَيْتُ نَفْسِي بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَآتَانِي أَرْبَعِينَ عَبْدًا وإني لأرجو المغفرة التي وعدنا الله عز وجل «3» . وَقَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَالُ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانُونَ أَلْفًا وَقَدْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَمَا أَعْطَى يَوْمَئِذٍ شَاكِيًا وَلَا حَرَمَ سَائِلًا وَمَا صَلَّى يَوْمَئِذٍ حَتَّى فَرَّقَهُ، فَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَأْخُذَ منه ويحتثي فكان العباس
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 292.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 292، 293.
(3) تفسير الطبري 6/ 292.(4/82)
يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنَّا وَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ «1» .
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ بَعَثَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنَ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانِينَ أَلْفًا مَا أَتَاهُ مَالٌ أَكْثَرَ مِنْهُ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. قَالَ فَنُثِرَتْ عَلَى حَصِيرٍ وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ. قَالَ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَثُلَ قَائِمًا عَلَى الْمَالِ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَمَا كَانَ يَوْمَئِذٍ عَدَدٌ وَلَا وَزْنٌ مَا كَانَ إلا فيضا وجاء العباس بن عبد المطلب فحثا فِي خَمِيصَةٍ «2» عَلَيْهِ وَذَهَبَ يَقُومُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْفَعْ عَلَيَّ. قَالَ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَرَجَ ضَاحِكُهُ «3» أَوْ نَابُهُ وَقَالَ لَهُ:
«أَعِدْ مِنَ الْمَالِ طَائِفَةً وَقُمْ بِمَا تُطِيقُ» قَالَ فَفَعَلَ وَجَعَلَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: وَهُوَ مُنْطَلِقٌ أَمَّا إِحْدَى اللَّتَيْنِ وَعَدَنَا اللَّهُ فَقَدْ أَنْجَزْنَا، وَمَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ الله فِي الْأُخْرَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: هذا خير مما أخذ منا وما أَدْرِي مَا يَصْنَعُ اللَّهُ فِي الْأُخْرَى فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماثلا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ وَمَا بَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ أَتَى الصَّلَاةَ فَصَلَّى.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ- قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّعِيدِيُّ حَدَّثَنَا محمد بْنُ عِصَامٍ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمال من البحرين فقال «انثروه في مسجدي» قَالَ وَكَانَ أَكْثَرُ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إلا أعطاه إذ جاءه الْعَبَّاسُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خُذْ» فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُهُ إِلَيَّ قَالَ «لَا» قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ «لَا» فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَنْهُ عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «4» فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ يَقُولُ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَيَسُوقُهُ وَفِي بَعْضِ السِّيَاقَاتِ أَتَمُّ مِنْ هَذَا.
وقوله وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فِيمَا أَظْهَرُوا لَكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ بَدْرٍ بالكفر به فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 292.
(2) الخميصة: كساء أسود مربع.
(3) خرج ضاحكه: أي بدت أسنانه عند الضحك، والضواحك: الأسنان التي تبدو عند الضحك، وهي الأربع التي بين الأسنان والأضراس.
(4) أخرجه البخاري في الصلاة باب 42، والجزية باب 1.(4/83)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
أي بالأسارى يَوْمَ بَدْرٍ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بفعله حَكِيمٌ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْكَاتِبِ حِينَ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ «1» ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ قَالُوا:
لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا «2» وَفَسَّرَهَا السُّدِّيُّ عَلَى الْعُمُومِ وَهُوَ أشمل وأظهر والله أعلم.
[سورة الأنفال (8) : آية 72]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
ذَكَرَ تَعَالَى أَصْنَافَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَسَمَهُمْ إِلَى مُهَاجِرِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَجَاءُوا لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَبَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِلَى أَنْصَارٍ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذْ ذَاكَ آوَوْا إِخْوَانَهُمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَوَاسَوْهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَنَصَرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِالْقِتَالِ مَعَهُمْ فَهَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ كُلٌّ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِالْآخَرِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلِهَذَا آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كُلُّ اثْنَيْنِ أَخَوَانِ فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إِرْثًا مُقَدَّمًا عَلَى الْقَرَابَةِ حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْمَوَارِيثِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عنه، وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ جَرِيرٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» تَفَرَّدَ بِهِ أحمد.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سفيان حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيَّ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ شَقِيقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَالطُّلَقَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعُتَقَاءُ مِنْ ثَقِيفَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» هَكَذَا رَوَاهُ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ [التوبة: 100] الآية، وَقَالَ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة: 117]
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 293. [.....]
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 293.
(3) المسند 4/ 363.(4/84)
الآية، وَقَالَ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 8- 9] الآية.
وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا أَيْ لَا يَحْسُدُونَهُمْ عَلَى فَضْلِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ عَلَى هِجْرَتِهِمْ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ تَقْدِيمُ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: خَيَّرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، فَاخْتَرْتُ الْهِجْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ قَرَأَ حَمْزَةُ وِلَايَتِهِمْ بِالْكَسْرِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، وَهُمَا وَاحِدٌ كَالدِّلَالَةِ وَالدَّلَالَةِ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا هَذَا هُوَ الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، بَلْ أَقَامُوا فِي بَوَادِيهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَغَانِمِ نَصِيبٌ، وَلَا فِي خُمُسِهَا إِلَّا مَا حَضَرُوا فيه القتال.
كما قال أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبيه، عن يزيد بْنِ الْخَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ، أوصاه في خاصة نفسه، بتقوى الله وبمن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَقَالَ:
«اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالْلَّهِ، إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ- أَوْ خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ. ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَعْلِمْهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. فَإِنْ أَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وقاتلهم» انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ «2» ، وَعِنْدَهُ زِيَادَاتٌ أُخَرُ.
وَقَوْلُهُ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ الآية، يقول تعالى وإن استنصركم هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ، الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فِي قِتَالٍ دِينِيٍّ عَلَى عَدُوٍّ لَهُمْ فَانْصُرُوهُمْ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عليكم
__________
(1) المسند 5/ 352.
(2) كتاب الجهاد وحديث 2.(4/85)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
نَصْرُهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ، بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَيْ مُهَادَنَةٌ إِلَى مُدَّةٍ، فَلَا تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ وَلَا تَنْقُضُوا أَيْمَانَكُمْ مَعَ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
[سورة الأنفال (8) : آية 73]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ.
الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بن هانئ، حدثنا أبو سعيد يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، وَلَا يَرِثُ مُسْلِمٌ كَافِرًا، وَلَا كَافِرٌ مُسْلِمًا- ثُمَّ قَرَأَ- وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
قُلْتُ: الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» «1» وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ، مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» «2» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَى رَجُلٍ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: «تُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَأَنَّكَ لَا تَرَى نَارَ مُشْرِكٍ إِلَّا وَأَنْتَ لَهُ حَرْبٌ» وهذا مرسل في هذا الوجه، وقد روي متصلا في وَجْهٍ آخَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ» ثُمَّ قَالَ: «لَا يَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» «4» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ «5» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن سعد بن سمرة بن جندب أخبرني خبيب بن سليمان عن سمرة بن جندب: أما بعد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» وذكر الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدٍ ابْنَيْ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض باب 26، ومسلم في الفرائض حديث 1.
(2) أخرجه أبو داود في الفرائض باب 10، والترمذي في الفرائض باب 16، وابن ماجة في الفرائض باب 6، والدارمي في الفرائض باب 29، وأحمد في المسند 2/ 187، 195.
(3) تفسير الطبري 6/ 296.
(4) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 95، والنسائي في القسامة باب 27.
(5) باب 170.(4/86)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» قَالُوا:
يا رسول الله وإن كان فيه قَالَ: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «1» ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ بِنَحْوِهِ.
ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سليمان: عن ابن عجلان عن أبي وثيمة النضري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عريض» «2» ومعنى قوله إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أَيْ إِنْ لَمْ تُجَانِبُوا الْمُشْرِكِينَ وَتُوَالُوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 74 الى 75]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا عَطَفَ بذكر مالهم فِي الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ كَمَا تقدم في أول السورة وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إِنْ كَانَتْ، وَبِالرِّزْقِ الْكَرِيمِ وَهُوَ الْحَسَنُ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ الشَّرِيفُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَنْقَضِي وَلَا يُسْأَمُ وَلَا يُمَلُّ لِحُسْنِهِ وَتَنَوُّعِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَتْبَاعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُمْ مَعَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قال وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ [التوبة: 100] الآية وقال وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] الآية. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ بَلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» «3» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا فهو منهم» وفي رواية «حُشِرَ مَعَهُمْ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء لِبَعْضٍ، وَالطُّلَقَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعُتَقَاءُ مِنْ ثَقِيفٍ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قَالَ شَرِيكٌ: فَحَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولُوا الْأَرْحامِ خُصُوصِيَّةَ مَا يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين
__________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح باب 31، والترمذي في النكاح باب 3.
(2) أخرجه الترمذي في النكاح باب 3، وابن ماجة في النكاح باب 46.
(3) أخرجه البخاري في الأدب باب 96، ومسلم في البر حديث 165.
(4) المسند 4/ 343.(4/87)
لَا فَرْضَ لَهُمْ وَلَا هُمْ عَصَبَةٌ، بَلْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ كَالْخَالَةِ وَالْخَالِ وَالْعَمَّةِ وَأَوْلَادِ الْبَنَاتِ وَأَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ وَنَحْوِهِمْ، كَمَا قَدْ يَزْعُمُهُ بَعْضُهُمْ وَيَحْتَجُّ بِالْآيَةِ وَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الْمَسْأَلَةِ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ القرابات، كما نص عليه ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْإِرْثِ بِالْحِلْفِ وَالْإِخَاءِ اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا، وَعَلَى هَذَا فَتَشْمَلُ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ، وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْهُمْ يَحْتَجُّ بِأَدِلَّةٍ مِنْ أَقْوَاهَا حَدِيثُ «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «1» قَالُوا: فَلَوْ كان ذا حق لكان ذا فَرْضٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُسَمًّى فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، واللَّهُ أَعْلَمُ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الوصايا باب 6، والترمذي في الوصايا باب 6، وأحمد في المسند 4/ 186، 187، 5/ 267. [.....](4/88)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
سورة التوبة
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النَّسَاءِ: 176] وَآخِرُ سورة نزلت براءة، وإنما لم يُبَسْمَلُ فِي أَوَّلِهَا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكْتُبُوا البسملة في أولها في المصحف الإمام، بل اقتدوا فِي ذَلِكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهيل بْنُ يُوسُفَ قَالُوا: حَدَّثَنَا عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ، أَخْبَرَنِي يَزِيدُ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي «2» وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ «3» وقرنتم بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ «4» وَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ ما نزل من الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا وَحَسِبْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال»
، وكذا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ بِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهَمَّ بِالْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَحْضُرُونَ عَامَهُمْ هَذَا الْمَوْسِمَ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 9، باب 1.
(2) المثاني: كل سورة عدد آياتها أقل من مائتين آية.
(3) المئين: كل سورة عدد آياتها أكثر من مائتين آية.
(4) أي يأتي عليه الزمان الطويل.
(5) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 122، والترمذي في تفسير سورة 9، باب 1، وأحمد في المسند 1/ 69.(4/89)
يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم وبعث أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَأَنْ يُنَادِيَ فِي الناس بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَمَّا قَفَلَ أَتْبَعُهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَكُونَ مُبَلِّغًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ عُصْبَةً لَهُ كَمَا سَيَأْتِي بيانه.
فقوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ أَيْ تَبَرُّؤٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمَلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة: 4] الآية، وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ. وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ الآية، قَالَ: حَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَاهَدُوا رَسُولَهُ أَرْبَعَةَ أشهر يسيحون في الأرض حيث شاؤوا وأجل مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ من يوم النحر إلى سلخ المحرم فَذَلِكَ خَمْسُونَ لَيْلَةً، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا انسلخ الأشهر الحرم أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبينه عهد بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كَانَ لَهُ عَهْدٌ إِذَا انْسَلَخَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضا حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ «1» .
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةَ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ، يُؤَجِّلُ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَعَشْرًا مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَقَالَ: لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ «2» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ خُزَاعَةَ وَمُدْلِجٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أَوْ غَيْرُهُمْ، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تَبُوكَ حِينَ فَرَغَ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجُّ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا يَحْضُرُ الْمُشْرِكُونَ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ» فَأَرْسَلَ أَبَا بكر
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 303.
(2) تفسير الطبري 6/ 304.(4/90)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَطَافَا بِالنَّاسِ فِي ذِي الْمَجَازِ وَبِأَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمّنوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَهِيَ الْأَشْهُرُ الْمُتَوَالِيَاتُ عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى عَشْرٍ يَخْلُونَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَآذَنَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْقِتَالِ إِلَّا أَنْ يُؤَمَّنُوا «1» ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ وقَتَادَةَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ شَوَّالٍ وَآخِرُهُ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ وَكَيْفَ يُحَاسَبُونَ بِمُدَّةٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حُكْمَهَا وَإِنَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَمْرُهَا يَوْمَ النَّحْرِ حِينَ نَادَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بذلك ولهذا قال تعالى:
[سورة التوبة (9) : آية 3]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)
يَقُولُ تَعَالَى وَإِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَقَدُّمٌ وَإِنْذَارٌ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْمَنَاسِكِ وَأَظْهَرُهَا وَأَكْثَرُهَا جَمْعًا أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أَيْ بَرِيءٌ مِنْهُمْ أَيْضًا ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ إِلَيْهِ، فَقَالَ فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ بَلْ هو قادر عليكم وَأَنْتُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمَقَامِعِ وَالْأَغْلَالِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يوم النحر ببراءة، وأن لا يحج بعد هذا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «3» أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فيمن يؤذن يوم النحر بِمِنَى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حجة الوداع الذي حج فيه
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 304.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 9، باب 2، 3.
(3) كتاب الجهاد باب 66.(4/91)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشرك، هذا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ حُنَيْنٍ اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ ثُمَّ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى تِلْكَ الْحَجَّةِ، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَمَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ أَتْبَعَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ وَأَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ كَمَا هُوَ أَوْ قَالَ عَلَى هَيْئَتِهِ. وَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَمِيرَ الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ إِنَّمَا هُوَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا كَانَ أَمِيرًا سَنَةَ تِسْعٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ محرر بن أبي هريرة عن أبيه قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تنادون؟. قال: كنا ننادي أنه لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فإن أجله أو مدته إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلَا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مُشْرِكٌ، قَالَ: فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي «2» .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَرَّرُ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي فَكَانَ إِذَا صحل ناديت فقلت: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُنَادُونَ؟
قَالَ بِأَرْبَعٍ، لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهْمًا مِنْ بَعْضِ نَقَلَتِهِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مُتَظَاهِرَةٌ فِي الْأَجَلِ بِخِلَافِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بعثه ببراءة مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: «لَا يُبَلِّغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي» فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَوَاهُ الترمذي «6» في التفسير: عن
__________
(1) المسند 2/ 299.
(2) صحل صوتي: أي بح صوتي.
(3) تفسير الطبري 6/ 306.
(4) تفسير الطبري 6/ 306. [.....]
(5) المسند 3/ 283.
(6) كتاب التفسير، تفسير سورة 9، باب 5.(4/92)
بُنْدَارٍ عَنْ عَفَّانَ وَعَبْدِ الصَّمَدِ كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، - لُوَيْنٌ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ بَرَاءَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَبَعَثَهُ بِهَا لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: «أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَحِقْتَهُ فَخُذِ الْكِتَابَ مِنْهُ فَاذْهَبْ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَاقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ» فَلَحِقْتُهُ بِالْجُحْفَةِ فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ مِنْهُ وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ فَقَالَ «لَا وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَنِي فَقَالَ:
لَنْ يُؤَدِّيَ عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ» «1» هَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ بَلْ بَعْدَ قَضَائِهِ لِلْمَنَاسِكِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين بعثه ببراءة قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي لَسْتُ بِاللَّسِنِ ولا بالخطيب قال: «لا بُدٌّ لِي أَنْ أَذْهَبَ بِهَا أَنَا أَوْ تَذْهَبَ بِهَا أَنْتَ» قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَسَأَذْهَبُ أَنَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَإِنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ لِسَانَكَ وَيَهْدِي قَلْبَكَ» قَالَ: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ «2» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، سَأَلْنَا عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ؟ يَعْنِي يَوْمَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْحَجَّةِ، قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ:
لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَحُجُّ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «4» عَنْ قِلَابَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ كَذَا قَالَ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عن أبي إسحاق فقال: زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ وَهِمَ فِيهِ، وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ بَرَاءَةُ بأربع: أن لا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «6» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الأعلى عن
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 151.
(2) أخرجه أحمد في المسند 1/ 151.
(3) المسند 1/ 79.
(4) كتاب التفسير، تفسير سورة 9، باب 5.
(5) تفسير الطبري 6/ 306.
(6) تفسير الطبري 6/ 306.(4/93)
ابْنِ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُمِرْتُ بِأَرْبَعٍ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالَ: نَزَلَتْ بَرَاءَةُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر ثم أرسل عليا فأخذها، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: «لَا وَلَكِنْ أُمِرْتُ أَنْ أُبَلِّغَهَا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي» فَانْطَلَقَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَامَ فِيهِمْ بِأَرْبَعٍ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ «1» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ؟ فَقَالَ: «لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي» ثُمَّ دَعَا عليا فقال «اذهب بهذه القصة من سورة بَرَاءَةَ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو له إِلَى مُدَّتِهِ» فَخَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءِ حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: أَمِيرٌ أو مأمور؟ فقال بَلْ مَأْمُورٌ، ثُمَّ مَضَيَا فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ للناس الحج إِذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ، وَلَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ولا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ثُمَّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَكَانَ هَذَا مِنْ بَرَاءَةَ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِّ وَأَهْلِ الْمُدَّةِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى «2» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَهْبُ اللَّهِ بْنُ راشد، أخبرنا حيوة بن شريح، أخبرنا ابن صَخْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيَّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيَّ وهو يقول: سألت عليا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ وَبَعَثَنِي مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: قُمْ يَا عَلِيُّ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُمْتُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةَ، ثُمَّ صَدَرْنَا فَأَتَيْنَا مِنًى فَرَمَيْتُ الْجَمْرَةَ وَنَحَرْتُ الْبَدَنَةَ ثُمَّ حَلَقْتُ رَأْسِي وَعَلِمْتُ أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 306.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 307.
(3) تفسير الطبري 6/ 309، 310.(4/94)
أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ فَطُفْتُ أَتَتَبَّعُ بِهَا الفساطيط أقرأها عَلَيْهِمْ فَمِنْ ثَمَّ إِخَالُ حَسِبْتُمْ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ أَلَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ.
وَقَالَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَأَلْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ: يَوْمُ عَرَفَةَ، فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ أَمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كُلٌّ فِي ذَلِكَ «1» ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: عن ابن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ «2» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ الشَّنِّيُّ: حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَصَرِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: هَذَا يَوْمُ عَرَفَةَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا يُصَومَنَّهُ أَحَدٌ. قَالَ: فَحَجَجْتُ بَعْدَ أَبِي فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِهَا فَقَالُوا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ عُمَرُ أَوْ ابْنُ عُمَرَ، كَانَ يَنْهَى عَنْ صَوْمِهِ وَيَقُولُ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا:
يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، أُخْبِرْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بن قيس عن ابن مَخْرَمةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» «4» وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَهُمْ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ قَالَ هُشَيْمٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يوم النحر، وقال إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ «5» .
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ يُرِيدُ الْجَبَّانَةَ فَجَاءَ رجل فأخذ بلجام دابته فسأله عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ هُوَ يَوْمُكَ هَذَا خَلِّ سَبِيلَهَا «6» ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ سُفْيَانَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ «7» ، وَرَوَى شُعْبَةُ وغيره عن
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 310.
(2) تفسير الطبري 6/ 310.
(3) تفسير الطبري 6/ 310. [.....]
(4) تفسير الطبري 6/ 310.
(5) تفسير الطبري 6/ 311.
(6) تفسير الطبري 6/ 312.
(7) تفسير الطبري 6/ 311.(4/95)
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: خَطَبَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمَ الْأَضْحَى عَلَى بَعِيرٍ فَقَالَ:
هَذَا يَوْمُ الْأَضْحَى وَهَذَا يَوْمُ النَّحْرِ وَهَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ يَوْمُ النَّحْرِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ والزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ أُخَرُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ محمد الحساني، حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ الْحَرَمِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ الغازي الْجُرَشِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَابِرٍ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الوليد بن مسلم عن هشام بن الغازي بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ نَافِعٍ بِهِ، وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ مُخَضْرَمَةٍ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ يَوْمُكُمْ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: «صَدَقْتُمْ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ قَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ وَأَخَذَ النَّاسُ بِخِطَامِهِ أَوْ زِمَامِهِ، فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالَ: فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، فَقَالَ «أَلَيْسَ هَذَا يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟» وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» فَقَالُوا:
الْيَوْمُ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النحر رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 315، وفيه: سهل بن محمد السجستاني، بدل: سهل بن محمد الحساني.
(2) تفسير الطبري 6/ 315.(4/96)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ الْحَجِّ كُلِّهَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ سفيان: يوم الحج ويوم الجمل ويوم صِفِّينَ أَيْ أَيَّامُهُ كُلُّهَا، وَقَالَ سَهْلٌ السَّرَّاجُ: سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟ فَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلِلْحَجِّ الْأَكْبَرِ ذَاكَ عَامٌ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَّ بِالنَّاسِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو أسامة عن ابْنِ عَوْنٍ، سَأَلْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: كَانَ يَوْمًا وَافَقَ فِيهِ حَجُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وحج أهل الوبر.
[سورة التوبة (9) : آية 4]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ، فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ يَذْهَبُ فِيهَا لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ، إِلَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي عُوهِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وذلك بشرط أن لا يَنْقُضَ الْمُعَاهَدُ عَهْدَهُ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا أَيْ يُمَالِئْ عَلَيْهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ، فَهَذَا الَّذِي يُوَفَّى لَهُ بِذِمَّتِهِ وَعَهْدِهِ إِلَى مُدَّتِهِ ولهذا حرض تَعَالَى عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي الموفين بعهدهم.
[سورة التوبة (9) : آية 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ هَاهُنَا مَا هِيَ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] الآية، قال أبو جعفر الباقر، ولكن قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: آخِرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حَقِّهِمُ الْمُحَرَّمُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ حَكَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَشْهُرُ التَّسْيِيرِ الأربعة المنصوص عليها بقوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَةِ: 2] ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَيْ إِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ فِيهَا قِتَالَهُمْ وَأَجَّلْنَاهُمْ فِيهَا فَحَيْثُمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ عود العهد على
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 313.(4/97)
مَذْكُورٍ أَوْلَى مِنْ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ إِنَّ الْأَشْهُرَ الْأَرْبَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ سَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى بَعْدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أَيْ مِنَ الْأَرْضِ وَهَذَا عَامٌّ، وَالْمَشْهُورُ تَخْصِيصُهُ بِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، بِقَوْلِهِ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: 191] وَقَوْلُهُ: وَخُذُوهُمْ أَيْ وَأْسِرُوهُمْ إِنْ شِئْتُمْ قَتْلًا وَإِنْ شِئْتُمْ أَسْرًا، وَقَوْلُهُ: وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أَيْ لَا تَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِكُمْ لَهُمْ، بَلِ اقْصِدُوهُمْ بِالْحِصَارِ فِي مَعَاقِلِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَالرَّصْدِ فِي طُرُقِهِمْ وَمَسَالِكِهِمْ حَتَّى تُضَيِّقُوا عَلَيْهِمُ الْوَاسِعَ وَتَضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا، حَيْثُ حَرَّمَتْ قِتَالَهُمْ بِشَرْطِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامُ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ، وَنَبَّهَ بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَعْدَهَا أَدَاءُ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَهِيَ أَشْرَفُ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» «1» الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أُمِرْتُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ الصَّلَاةَ إِلَّا بِالزَّكَاةِ وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهَهُ! وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ»
: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا وَصَلُّوا صَلَاتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ» «3» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 17، ومسلم في الإيمان حديث 32.
(2) المسند 3/ 199، 224، 225.
(3) أخرجه البخاري في الصلاة باب 28، وأبو داود في الزكاة باب 1، والجهاد باب 95، والترمذي في الإيمان باب 1، 2، وتفسير سورة 88، والنسائي في الزكاة باب 3، والإيمان باب 15، والجهاد باب 1، والتحريم باب 1، وابن ماجة في المقدمة باب 9، والفتن باب 1.(4/98)
الْمُبَارَكِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَارَقَهَا وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ» قَالَ: وَقَالَ أَنَسٌ: هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَلَّغُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ قَبْلَ هَرْجِ الْأَحَادِيثِ وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ قَالَ: تَوْبَتُهُمْ خَلْعُ الْأَوْثَانِ وَعِبَادَةُ رَبِّهِمْ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التَّوْبَةِ: 11] وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا حكام بن سلمة، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ بِهِ سَوَاءً.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ السَّيْفِ الَّتِي قَالَ فِيهَا الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: إِنَّهَا نَسَخَتْ كُلَّ عَهْدٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أحد من المشركين وكل عقد وَكُلَّ مُدَّةٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ وَلَا ذِمَّةٌ مُنْذُ نَزَلَتْ بَرَاءَةُ، وَانْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَمُدَّةُ مَنْ كَانَ لَهُ عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، مِنْ يَوْمِ أُذِّنَ بِبَرَاءَةَ إِلَى عَشْرٍ مِنْ أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عباس فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ عَاهَدَ إِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَنَقْضِ مَا كَانَ سَمَّى لهم من العهد وَالْمِيثَاقِ، وَأَذْهَبَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنصاري قال: قال سفيان بن عيينة: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ أَسْيَافٍ سَيْفٍ في المشركين من العرب، قال الله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا، وَأَظُنُّ أَنَّ السَّيْفَ الثَّانِيَ هو قتال أهل الكتاب لقوله تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَةِ: 29] وَالسَّيْفُ الثَّالِثُ قِتَالُ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73 والتحريم: 9] الآية، وَالرَّابِعُ قِتَالُ الْبَاغِينَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 9] ثُمَّ اخْتَلَفَ المفسرون في آية السيف هذه فقال
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 320.(4/99)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [مُحَمَّدٍ: 4] وَقَالَ قَتَادَةُ بالعكس.
[سورة التوبة (9) : آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ وَأَحْلَلْتُ لَكَ اسْتِبَاحَةَ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ اسْتَجارَكَ أَيْ اسْتَأْمَنَكَ فَأَجِبْهُ إِلَى طِلْبَتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ أَيْ الْقُرْآنَ تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ وَتَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدين تقيم به عليه حُجَّةَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أَيْ وَهُوَ آمِنٌ مُسْتَمِرُّ الْأَمَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ وَدَارِهِ وَمَأْمَنِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ إِنَّمَا شَرَعْنَا أَمَانَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لِيَعْلَمُوا دِينَ اللَّهِ وَتَنْتَشِرَ دَعْوَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تفسير هذه الآية قال: إنسان يأتيك ليسمع مَا تَقُولُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ فَهُوَ آمِنٌ حتى يأتيك فتسمعه كَلَامَ اللَّهِ وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيْثُ جَاءَ «1» ، وَمِنْ هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَمَانَ لِمَنْ جَاءَهُ مُسْتَرْشِدًا أَوْ فِي رِسَالَةٍ، كَمَا جَاءَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُمْ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَرَأَوْا مِنْ إِعْظَامِ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَهَرَهُمْ وَمَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ عِنْدَ مَلِكٍ ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بِذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ هِدَايَةِ أَكْثَرِهِمْ، وَلِهَذَا أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ» وَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ ضَرْبَ الْعُنُقِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ النَّوَّاحَةِ ظَهَرَ عَنْهُ فِي زَمَانِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِمُسَيْلِمَةَ بِالرِّسَالَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ الْآنَ لَسْتَ فِي رِسَالَةٍ وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبْتَ عُنُقُهُ لَا رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ صُلْحٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ أَوْ حَمْلِ جِزْيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأسباب، وطلب مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ، لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ رحمهم الله.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 322.(4/100)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
[سورة التوبة (9) : آية 7]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
يُبَيِّنُ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَظْرَتِهِ إِيَّاهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ السَّيْفُ الْمُرْهَفُ أَيْنَ ثُقِفُوا فَقَالَ تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ أي أمان وَيُتْرَكُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ كَافِرُونَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: 25] الآية، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أَيْ مَهْمَا تَمَسَّكُوا بِمَا عَاقَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَعَاهَدْتُمُوهُمْ مِنْ تَرْكِ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
وَقَدْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ. اسْتَمَرَّ الْعَقْدُ وَالْهُدْنَةُ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ إِلَى أَنْ نقضت قريش العهد ومالؤوا حلفاءهم وهم بنو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلُوهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا فَعِنْدَ ذَلِكَ غَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْبَلَدَ الْحَرَامَ وَمَكَّنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَأَطْلَقَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَفَرَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ وَالتَّسْيِيرِ فِي الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء، ومنهم صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ هَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ التَّامِّ، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يقدره ويفعله.
[سورة التوبة (9) : آية 8]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)
يَقُولُ تَعَالَى مُحَرِّضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى معاداتهم وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ وَمُبَيِّنًا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم لو ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأُدِيلُوا عَلَيْهِمْ لَمْ يُبْقُوا وَلَمْ يَذَرُوا وَلَا رَاقَبُوا فِيهِمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَعِكْرِمَةُ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْإِلُّ الْقَرَابَةُ وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ كَمَا قَالَ تميم بن مقبل: [الرمل]
أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الْإِلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمِ «1»
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: [الطويل]
__________
(1) البيت لابن مقبل في تفسير الطبري 6/ 326، وبلا نسبة في تفسير البحر المحيط 5/ 5.(4/101)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
وَجَدْنَاهُمُ كَاذِبًا إِلُّهُمْ ... وَذُو الْإِلِّ وَالْعَهْدِ لَا يَكْذِبُ «1»
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا، قال: الإل اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَرْقُبُونَ اللَّهَ وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة: 10] مثل قوله جبريل ميكائيل إسرافيل كَأَنَّهُ يَقُولُ لَا يَرْقُبُونَ اللَّهَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أظهر وأشهر وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا الْإِلُّ الْعَهْدُ. وقال قتادة: الإل الحلف.
[سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 11]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
يَقُولُ تَعَالَى ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ وَحَثًّا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يَعْنِي أَنَّهُمُ اعْتَاضُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ بِمَا الْتَهَوْا بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الْخَسِيسَةِ فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ مَنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِلَى آخِرِهَا تَقَدَّمَتْ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا يُشْرِكُ بِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ فَارَقَهَا وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ» وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَلَّغُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ، قَبْلَ هَرْجِ الْأَحَادِيثِ وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ تابُوا يَقُولُ فَإِنْ خَلَعُوا الْأَوْثَانَ وَعِبَادَتَهَا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: آخِرُ الْحَدِيثِ عِنْدِي واللَّهُ أَعْلَمُ فَارَقَهَا وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ وَبَاقِيهِ عِنْدِي مِنْ كلام الربيع بن أنس.
[سورة التوبة (9) : آية 12]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
يَقُولُ تَعَالَى وَإِنْ نكث الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتُمُوهُمْ عَلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَيْمَانَهُمْ أَيْ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ عَابُوهُ وَانْتَقَصُوهُ، وَمِنْ هَاهُنَا أُخِذَ قَتْلُ مَنْ سب الرسول
__________
(1) البيت ليس في ديوان حسان بن ثابت، وهو بلا نسبة في تفسير الطبري 6/ 327. [.....]
(2) تفسير الطبري 6/ 325.(4/102)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ طَعَنَ في دين الإسلام أو ذكره بنقص، وَلِهَذَا قَالَ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ يَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَالضَّلَالِ. وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: أَئِمَّةُ الْكُفْرِ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعَدَّدَ رِجَالًا «1» ، وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: مر سعد بن أبي وقاص بِرَجُلٍ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ فَقَالَ سَعْدٌ كَذَبْتَ بَلْ أَنَا قَاتَلْتُ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِثْلُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَهِيَ عَامَّةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّاسِ حِينَ وَجَّهَهُمْ إِلَى الشام قال: إنكم ستجدون قوما محوّقة رؤوسهم، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف، فو الله لَأَنْ أَقْتُلَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ سَبْعِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
وَهَذَا أَيْضًا تَهْيِيجٌ وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الْأَنْفَالِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: 1] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الإسراء: 76] الآية، وقوله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ قِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ: يَوْمُ بَدْرٍ حِينَ خَرَجُوا لِنَصْرِ عِيرِهِمْ، فَلَمَّا نَجَتْ وَعَلِمُوا بِذَلِكَ اسْتَمَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ، طَلَبًا لِلْقِتَالِ بَغْيًا وَتَكَبُّرًا كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ وَقِتَالُهُمْ مَعَ حُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ لِخُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَكَانَ مَا كان ولله الحمد والمنة.
وَقَوْلُهُ: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى لَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ يَخْشَى الْعِبَادُ مِنْ سَطْوَتِي وَعُقُوبَتِي فَبِيَدِي الْأَمْرُ وَمَا شِئْتُ كَانَ وَمَا لم أشأ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 329.(4/103)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
لم يكن، ثم قال عَزِيمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَانًا لِحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِ الْأَعْدَاءِ بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يَعْنِي خُزَاعَةَ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ أَيْضًا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مُؤَذِّنٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَضِبَتْ أَخَذَ بِأَنْفِهَا وَقَالَ «يَا عُوَيْشُ قَوْلِي اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ» سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ، عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عمار حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجوزاء عَنْهُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أَيْ مِنْ عِبَادِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ أَيْ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهُوَ العادل الحاكم الذي لا يجوز أَبَدًا وَلَا يُضِيعُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، بَلْ يُجَازِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
يَقُولُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ نَتْرُكَكُمْ مُهْمَلِينَ لَا نَخْتَبِرُكُمْ بِأُمُورٍ يَظْهَرُ فِيهَا أَهْلُ الْعَزْمِ الصَّادِقِ مِنَ الْكَاذِبِ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أَيْ بِطَانَةً وَدَخِيلَةً بَلْ هُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الآخر كما قال الشاعر: [الوافر]
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي «1»
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 2- 3] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 142] ، وَقَالَ تَعَالَى: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] الآية، والحاصل أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بَيَّنَ أَنَّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةً وَهُوَ اخْتِبَارُ عَبِيدِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَهُوَ تَعَالَى العالم بما كان
__________
(1) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص 212، وخزانة الأدب 11/ 80، وشرح اختيارات المفضل ص 1267، وشرح شواهد العيني 1/ 191، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص 145، وخزانة الأدب 6/ 37.(4/104)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ فَيَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ وَمَعَ كَوْنِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَلَا راد لما قدّره وأمضاه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18]
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
يَقُولُ تَعَالَى مَا يَنْبَغِي لِلْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَنْ قَرَأَ مَسْجِدَ اللَّهِ فَأَرَادَ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَشْرَفَ الْمَسَاجِدِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي بُنِيَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَسَّسَهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، هَذَا وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالكفر أي بحالهم وقال لهم كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَوْ سَأَلْتَ النَّصْرَانِيَّ مَا دينك؟ لقال نصراني، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال يهودي، والصابئ لقال صابئ، وَالْمُشْرِكَ لَقَالَ مُشْرِكٌ «1» .
أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ بشركهم وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ وقال تَعَالَى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأنفال: 34] ولهذا قال تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَشَهِدَ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ لِعُمَّارِ المساجد كما قال الإمام أحمد «2» : حدثنا شريح، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «3» وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرحمن بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ وَجَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّمَا عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ» وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ بَشِيرٍ الْمُرِّيِّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ غَيْرُ صَالِحٍ، وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ حَكَّامَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهَا عَنْ أَخِيهِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَاهَةً نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ فَصَرَفَ عَنْهُمْ» ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، وَرَوَى الْحَافِظُ البهائي في
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 334.
(2) المسند 3/ 68، 76.
(3) كتاب التفسير، تفسير سورة 9، باب 8.(4/105)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
الْمُسْتَقْصَى عَنْ أَبِيهِ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي أُمَيَّةَ الطَّرَسُوسِيِّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ صُقَيْرٍ، حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا يَقُولُ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنِّي لَأَهِمُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى عُمَّارِ بُيُوتِي وَإِلَى الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَإِلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ صَرَفْتُ ذَلِكَ عَنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ، كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ» وَقَالَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ زَارَهُ فِيهَا. وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ: عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَعَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ ولم يأت الْمَسْجِدَ وَيُصَلِّي فَلَا صَلَاةَ لَهُ وَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الْآيَةَ، رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِهَا.
وَقَوْلُهُ: وَأَقامَ الصَّلاةَ أَيْ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ وَآتَى الزَّكاةَ أَيْ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ المتعدية إلى بر الخلائق، وقوله وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أَيْ وَلَمْ يَخَفْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَخْشَ سِوَاهُ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس فِي قَوْلِهِ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقُولُ: مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقُولُ مَنْ آمَنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقامَ الصَّلاةَ يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ يَقُولُ لَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ يقول تعالى: إِنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَكُلُّ عَسَى فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ «2» ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وعسى من الله حق «3» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
__________
(1) المسند 5/ 232، 233، 243.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 335.
(3) تفسير الطبري 6/ 335.(4/106)
قَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: عِمَارَةُ بَيْتِ اللَّهِ وَقِيَامٌ عَلَى السِّقَايَةِ خَيْرٌ مِمَّنْ آمَنَ وَجَاهَدَ، وَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِالْحَرَمِ وَيَسْتَكْبِرُونَ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ وَعُمَّارُهُ، فَذَكَرَ اللَّهُ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ، فَقَالَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ:
67] يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَكْبِرُونَ بِالْحَرَمِ قال بِهِ سامِراً [المؤمنون: 67] كَانُوا يَسْمُرُونَ بِهِ وَيَهْجُرُونَ الْقُرْآنَ وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَالْجِهَادَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِمَارَةِ الْمُشْرِكِينَ الْبَيْتَ وَقِيَامِهِمْ عَلَى السِّقَايَةِ وَلَمْ يَكُنْ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ، وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون به. قال الله تعالى: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَعْنِي الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِمَارَةِ فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ ظَالِمِينَ بِشِرْكِهِمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمُ الْعِمَارَةُ شَيْئًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية قال: قد نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أسر ببدر قَالَ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ- إِلَى قَوْلِهِ- وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن ذلك كله كَانَ فِي الشِّرْكِ وَلَا أَقْبَلُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ «1» ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: أَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالشِّرْكِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نُعَمِّرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ وَنَحْجُبُ الْبَيْتَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الْآيَةَ «2» .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: قَالَ: نَزَلَتْ فِي على والعباس رضي الله عنهما بما تكلما في ذلك، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أخبرني ابن لهيعة عَنْ أَبِي صَخْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ مَعِي مِفْتَاحُهُ وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِيهِ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ لَقَدْ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الْآيَةَ كُلَّهَا.
وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: افْتَخَرَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وعباس وعثمان وشيبة
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 336.
(2) تفسير الطبري 6/ 337.
(3) تفسير الطبري 6/ 337.(4/107)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا أَرَانِي إلا أني تَارِكٌ سِقَايَتَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَقِيمُوا عَلَى سِقَايَتِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا» وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ: عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فَلَا بد من ذكره هنا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رجلا قال: ما أبالي أن لا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ.
فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الجمعة، ولكن إذا صلينا الجمعة دَخْلَنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألناه. فَنَزَلَتْ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- إِلَى قَوْلِهِ- لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ «1» .
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ منهم: ما أبالي أن لا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ. وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. قَالَ فَفَعَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «2» ورواه مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
أمر تَعَالَى بِمُبَايَنَةِ الْكُفَّارِ بِهِ وَإِنْ كَانُوا آبَاءً أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إن اسْتَحَبُّوا أَيْ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَوَعَّدَ على ذلك كقوله تَعَالَى لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 336.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 336، وأخرجه أيضا مسلم في الإمارة حديث 111، وأحمد في المسند 4/ 269، والحديث بهذا اللفظ ليس في سنن أبي داود. [.....](4/108)
[المجادلة: 22] الآية، وروى الحافظ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: جَعَلَ أَبُو أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ يَنْعَتُ لَهُ الْآلِهَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ فَلَمَّا أَكْثَرَ الْجَرَّاحُ قَصَدَهُ ابْنُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] الآية.
ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَتَوَعَّدَ مَنْ آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَقَالَ: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أَيْ اكْتَسَبْتُمُوهَا وَحَصَّلْتُمُوهَا وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَيْ تُحِبُّونَهَا لِطِيبِهَا وَحُسْنِهَا، أَيْ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا أَيْ فَانْتَظِرُوا مَاذَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَنَكَالِهِ بِكُمْ وَلِهَذَا قَالَ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَّتْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ» فَقَالَ عُمَرُ فَأَنْتَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْآنَ يَا عُمَرُ» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ «2» فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِي عُقَيْلٍ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» «3» وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» «4» وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا شَاهِدٌ لِلَّذِي قبله والله أعلم.
__________
(1) المسند 4/ 336.
(2) كتاب الأيمان باب 3.
(3) أخرجه البخاري في الإيمان باب 8، ومسلم في الإيمان حديث 69، 70.
(4) أخرجه أبو داود في البيوع باب 54، وأحمد في المسند 2/ 42.
(5) المسند 2/ 84.(4/109)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ بَرَاءَةَ يَذْكُرُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ لَدَيْهِمْ فِي نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَبِتَأْيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ لَا بِعَدَدِهِمْ وَلَا بِعُدَدِهِمْ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ سَوَاءٌ قَلَّ الْجَمْعُ أَوْ كَثُرَ فَإِنَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَعْجَبَتْهُمْ كَثْرَتُهُمْ وَمَعَ هَذَا مَا أَجْدَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أنزل نَصْرَهُ وَتَأْيِيدَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَصَّلًا لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَبِإِمْدَادِهِ وَإِنَّ قَلَّ الْجَمْعُ فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ تُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» «2» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ ثُمَّ قَالَ هذا حديث حسن غريب جدا لا يسنده أَحَدٍ غَيْرَ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ حُنَيْنٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وذلك لما فرغ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَتَمَهَّدَتْ أُمُورُهَا وَأَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا وَأَطْلَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَلَغَهُ أَنَّ هَوَازِنَ جَمَعُوا لَهُ لِيُقَاتِلُوهُ وأن أميرهم مالك بن عوف بن النضر، وَمَعَهُ ثَقِيفُ بِكَمَالِهَا وَبَنُو جُشَمٍ وَبَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَأَوْزَاعٌ «3» مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ وعوف بن عامر وقد أقبلوا ومعهم النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ وَالشَّاءَ وَالنَّعَمَ وَجَاءُوا بِقَضِّهِمْ وقَضِيضِهِمْ «4» فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَيْشِهِ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ لِلْفَتْحِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمَعَهُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وهم الطلقاء في ألفين فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ فَالْتَقَوْا بِوَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ يُقَالُ لَهُ حُنَيْنٌ فَكَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فِي غَلَسِ الصُّبْحِ انْحَدَرُوا فِي الْوَادِي وَقَدْ كَمَنَتْ فِيهِ هَوَازِنُ فَلَمَّا تَوَاجَهُوا لَمْ يَشْعُرِ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا بِهِمْ قد ثاوروهم «5» ، ورشقوا بالنبال
__________
(1) المسند 1/ 294، 299.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 82، وابن ماجة في الجهاد باب 25.
(3) الأوزاع: الفرق من الناس.
(4) جاءوا بقضهم وقضيضهم: أي بأجمعهم.
(5) ثاوروهم: أي ثاوبوهم، والمثاورة: المواثبة.(4/110)
وَأَصْلَتُوا السُّيُوفَ وَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَمَا أَمَرَهُمْ مَلِكُهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِبٌ يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو الْعَدُوِّ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّهُ آخِذٌ بِرِكَابِهَا الْأَيْمَنِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِرِكَابِهَا الْأَيْسَرِ يُثْقِلَانِهَا لِئَلَّا تُسْرِعَ السَّيْرَ وَهُوَ يُنَوِّهُ بِاسْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَدْعُو الْمُسْلِمِينَ إلى الرجعة ويقول: «إليّ عِبَادَ اللَّهِ إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» وَيَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ:
«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبدِ الْمُطَّلِبْ»
«1» وَثَبَتَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ثَمَانُونَ فَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سفيان بن الحارث وأيمن ابن أُمِّ أَيْمَنَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ أَنْ يُنَادِيَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ يَعْنِي شَجَرَةَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يَفِرُّوا عَنْهُ فَجَعَلَ يُنَادِي بِهِمْ يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، وَيَقُولُ تَارَةً يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، وَانْعَطَفَ الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يُطَاوِعُهُ بَعِيرُهُ عَلَى الرُّجُوعِ لَبِسَ دِرْعَهُ ثُمَّ انْحَدَرَ عَنْهُ وَأَرْسَلَهُ وَرَجَعَ بِنَفْسِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فلما اجتمعت شرذمة منهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ وَأَخَذَ قبضة من تراب بعد ما دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَهُ، وَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي» ثُمَّ رَمَى الْقَوْمَ بِهَا فَمَا بَقِيَ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَصَابَهُ مِنْهَا فِي عينه وفمه ما يشغله عَنِ الْقِتَالِ ثُمَّ انْهَزَمُوا فَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ أَقْفَاءَهُمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَمَا تَرَاجَعَ بَقِيَّةُ النَّاسِ إِلَّا والأسرى مجندلة بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يسار عن أَبِي هَمَّامٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ وَيُقَالُ يَزِيدُ بْنُ أُنَيْسٍ وَيُقَالُ كُرْزٌ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ قَائِظٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَنَزَلْنَا تَحْتَ ظِلَالِ الشَّجَرِ فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لَأْمَتِي وَرَكِبْتُ فَرَسِي فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ فَقُلْتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ورحمة الله وبركاته حَانَ الرَّوَاحُ؟ فَقَالَ: «أَجَلْ» فَقَالَ: «يَا بِلَالُ» فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظِلُّ طَائِرٍ فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَأَنَا فِدَاؤُكَ فَقَالَ «أَسْرِجْ لِي فَرَسِي» فَأَخْرَجَ سَرْجًا دَفَّتَاهُ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ.
__________
(1) الرجز لرسول الله ص في كتاب العين 6/ 65، وتهذيب اللغة 10/ 611.
(2) المسند 5/ 286.(4/111)
قَالَ فَأَسْرَجَ فَرَكِبَ وَرَكِبْنَا فَصَافَفْنَاهُمْ عَشِيَّتَنَا وَلَيْلَتَنَا فتشامت الخيلان فولى المسلمون مدبرين كمال قال الله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» قَالَ ثُمَّ اقتحم عَنْ فَرَسِهِ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ ضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تعالى. قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنِي أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ تُرَابًا وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَإِمْرَارِ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ الْجَدِيدِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جابر بن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَخَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ فَسَبَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي وَأَحْنَائِهِ وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْحَطَّ بِهِمُ الْوَادِي فِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْحَطَّ الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عَلَيْهِمْ وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ لَا يُقْبِلُ أَحَدٌ على أَحَدٍ وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» فَلَا شَيْءَ وَرَكِبَتِ الْإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ الناس قَالَ: «يَا عَبَّاسُ اصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» فَأَجَابُوهُ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ لِيَعْطِفَ بِعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقْذِفُ دِرْعَهُ فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ ثُمَّ يَؤُمَّ الصَّوْتَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مِائَةٌ فَاسْتَعْرَضَ النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَا كَانَتْ بِالْأَنْصَارِ ثُمَّ جُعِلَتْ آخِرًا بِالْخَزْرَجِ وَكَانُوا صُبَراء عِنْدَ الْحَرْبِ وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ركابه فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ فَقَالَ: «الْآنَ حَمِيَ الوطيس» قال: فو الله مَا رَاجَعَهُ النَّاسُ إِلَّا وَالْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ الله مُلْقَوْنَ فَقَتَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ وَانْهَزَمَ منهم ما انْهَزَمَ وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أن رجلا قال له: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ وَحَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ فَانْهَزَمَ النَّاسُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته الْبَيْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ:
«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطلب» «2»
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 2/ 442، 445.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد باب 52، ومسلم في الجهاد حديث 80. [.....](4/112)
قُلْتُ: وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّجَاعَةِ التَّامَّةِ إِنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى وَقَدِ انْكَشَفَ عَنْهُ جَيْشُهُ وهو مع هذا عَلَى بَغْلَةٍ وَلَيْسَتْ سَرِيعَةَ الْجَرْيِ وَلَا تَصْلُحُ لفر ولا لكر وَلَا لِهَرَبٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا أَيْضًا يَرْكُضُهَا إِلَى وُجُوهِهِمْ وَيُنَوِّهُ بِاسْمِهِ لِيَعْرِفَهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَمَا هَذَا كُلُّهُ إِلَّا ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَعِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ وَيُتِمُّ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ وَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ أَيْ طُمَأْنِينَتَهُ وَثَبَاتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ الَّذِينَ مَعَهُ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَوْفٍ هُوَ ابْنُ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَوْلَى ابْنِ بُرْثُنٍ حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلَبَ شَاةٍ، قَالَ: فَلَمَّا كَشَفْنَاهُمْ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَتَلَقَّانَا عِنْدَهُ رِجَالٌ بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَقَالُوا لَنَا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا قَالَ فَانْهَزَمْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا فَكَانَتْ إِيَّاهَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ حَصِيرَةَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ وَبَقِيتُ مَعَهُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَدِمْنَا وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته البيضاء يَمْضِي قُدُمًا فَحَادَتْ بَغْلَتُهُ فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ فَقُلْتُ: ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ. قَالَ:
«نَاوِلْنِي كَفًّا مِنَ التُّرَابِ» فَنَاوَلْتُهُ قَالَ: فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا قَالَ: «أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؟» قُلْتُ: هُمْ هُنَاكَ قَالَ: «اهْتِفْ بِهِمْ» فَهَتَفْتُ بهم فجاؤوا وَسُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَفَّانَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عُرِيَ ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا فَقُلْتُ الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْهُ قَالَ: فَذَهَبْتُ لِأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ فَإِذَا أَنَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَائِمًا عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَكْشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُلَهُ قَالَ فَجِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ فَجِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ أُسَوِّرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ إِذْ رُفِعَ لِي شُوَاظٌ من نار
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 343، وفيه: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسن بن عرفة.(4/113)
بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَأَنَّهُ بَرْقٌ فَخِفْتُ أَنْ تَمْحَشَنِي فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «يا شيبة يا شيبة ادْنُ مِنِّي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ» قَالَ: فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي وَلَهُو أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سمعي وبصري فقال: «يا شيبة قَاتِلِ الْكُفَّارَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ فَذَكَرَهُ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حُنَيْنٍ وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِسْلَامٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ به ولكنني أَبَيْتُ أَنْ تَظْهَرَ هَوَازِنُ عَلَى قُرَيْشٍ فَقُلْتُ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى خَيْلًا بُلْقًا فَقَالَ: «يَا شَيْبَةُ إِنَّهُ لا يراها إلا كافر» فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ» ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَالَ:
«اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ» ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّالِثَةَ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ شيبة» قال: فو الله مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي الْتِقَاءِ النَّاسِ وَانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ وَنِدَاءِ الْعَبَّاسِ وَاسْتِنْصَارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله تعالى المشركين.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّا لَمَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ إِذْ نَظَرْتُ إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَإِذَا نَمْلٌ مَنْثُورٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ فَمَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ «1» ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَامِرٍ السُّوَائِيَّ وَكَانَ شَهِدَ حُنَيْنًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَكُنَّا نَسْأَلُهُ عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَكَانَ يَأْخُذُ الْحَصَاةَ فَيَرْمِي بِهَا فِي الطَّسْتِ فَيَطِنُّ فَيَقُولُ كُنَّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا «2» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ «3» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ تَابَ اللَّهُ على بقية هوازن فأسلموا وَقَدِمُوا عَلَيْهِ مُسْلِمِينَ وَلَحِقُوهُ وَقَدْ قَارَبَ مَكَّةَ عِنْدَ الْجِعْرَانَةَ وَذَلِكَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا فَعِنْدَ ذَلِكَ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ سَبْيِهِمْ وبين أموالهم فاختاروا سبيهم وكانوا ستة
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 2/ 449.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 343.
(3) كتاب المساجد حديث 5.(4/114)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
آلَافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، فَرَدَّهُ عليهم وقسم الأموال بين الغانمين ونفل أناسا من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام فأعطاهم مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أعطى مائة مالك بن عوف النّصري وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا كَانَ فَامْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ التي يقول فيها: [الطويل]
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ ... فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ «1»
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إِذَا اجْتُدِي ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ
وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ أَنْيَابُهَا ... بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ
فَكَأنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ المباءة خادر في مرصد
[سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 29]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنَيْنِ الطَّاهِرِينَ دِينًا وَذَاتًا بِنَفْيِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ نَجَسٌ دِينًا عن المسجد الحرام وأن لا يَقْرَبُوهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَانَ نُزُولُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَلِهَذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَامَئِذٍ وَأَمَرَهُ أَنْ ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. فَأَتَمَّ اللَّهُ ذَلِكَ وَحَكَمَ بِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ «2» . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الْأَشْعَثِ يَعْنِي ابْنَ سَوَّارٍ عَنِ الحسن عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا يَدْخُلُ مَسْجِدَنَا بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ إِلَّا أَهْلُ الْعَهْدِ وَخَدَمُهُمْ» تفرد به الإمام أَحْمَدُ مَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ إِسْنَادًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، كَتَبَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِ امْنَعُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُولِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْبَعَ نَهْيَهُ قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا.
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح «المؤمن لا ينجس» «4» وأما
__________
(1) الأبيات في سيرة ابن هشام 2/ 491.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 348.
(3) المسند 3/ 392.
(4) أخرجه البخاري في الغسل باب 23، 24.(4/115)
نَجَاسَةُ بَدَنِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْبَدَنِ وَالذَّاتِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَقَالَ أَشْعَثُ عَنِ الْحَسَنِ مَنْ صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ محمد بن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فأنزل الله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ إِنْ شاءَ إلى قوله وَهُمْ صاغِرُونَ أي هَذَا عِوَضُ مَا تَخَوَّفْتُمْ مِنْ قَطْعِ تِلْكَ الأسواق فعوضهم الله مما قطع أَمْرِ الشِّرْكِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْجِزْيَةِ «2» ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أَيْ بِمَا يُصْلِحُكُمْ حَكِيمٌ أَيْ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ الْعَادِلُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلِهَذَا عَوَّضَهُمْ عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذوها من أهل الذمة.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ فَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِيمَانٌ صَحِيحٌ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا بِمَا جَاءُوا بِهِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَآبَاءَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمَا بِأَيْدِيهِمْ إِيمَانًا صَحِيحًا لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن جميع الأنبياء بَشَّرُوا بِهِ وَأَمَرُوا بِاتِّبَاعِهِ فَلَمَّا جَاءَ وَكَفَرُوا بِهِ وَهُوَ أَشْرَفُ الرُّسُلِ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. بَلْ لِحُظُوظِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فَلِهَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ بِبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ كَفَرُوا بِسَيِّدِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَخَاتَمِهِمْ وَأَكْمَلِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَهَذِهِ الْآيَةُ الكريمة أَوَّلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ مَا تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ الله أفواجا واستقامت جَزِيرَةُ الْعَرَبِ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَلِهَذَا تَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقِتَالِ الرُّومِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ وَأَظْهَرَهُ لَهُمْ وَبَعَثَ إِلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَنَدَبَهُمْ فَأَوْعَبُوا مَعَهُ وَاجْتَمَعَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَامِ جَدْبٍ ووقت قيظ وحر وَخَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الشَّامَ لِقِتَالِ الرُّومِ فَبَلَغَ تَبُوكَ فَنَزَلَ بها وأقام بها قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ فِي الرُّجُوعِ فَرَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ لِضِيقِ الْحَالِ وَضَعْفِ النَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ إِنْ شاء الله تعالى.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 345.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 348.(4/116)
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الكتاب أو من أشبههم كالمجوس كما صَحَّ فِيهِمُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعَاجِمِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ الْجِزْيَةُ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنْ كِتَابِيٍ وَمَجُوسِيٍ وَوَثَنِيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِمَأْخَذِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَذِكْرِ أَدِلَّتِهَا مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَيْ إِنْ لَمْ يُسْلِمُوا عَنْ يَدٍ أَيْ عَنْ قَهْرٍ لَهُمْ وَغَلَبَةٍ وَهُمْ صاغِرُونَ أَيْ ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ مُهَانُونَ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْزَازُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا رَفْعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُمْ أَذِلَّاءُ صَغَرَةٌ أَشْقِيَاءُ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تبدؤوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ» «1» وَلِهَذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةَ فِي إِذْلَالِهِمْ وَتَصْغِيرِهِمْ وَتَحْقِيرِهِمْ.
وَذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِينَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ على أنفسنا أن لا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قِلَايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا نُحْيِيَ منها ما كان خططا للمسلمين وَأَلَّا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَأَنْ نُوَسِّعَ أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل مَنْ مَرَّ بِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نطعمهم ولا نؤوي فِي كَنَائِسِنَا وَلَا مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا وَلَا نَدْعُوَ إِلَيْهِ أَحَدًا وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إِنْ أَرَادُوهُ وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إِنْ أَرَادُوا الْجُلُوسَ وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ مَلَابِسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَكْتَنِيَ بِكُنَاهُمْ وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نَبِيعَ الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدَّ الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نُظْهِرَ صُلُبَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ وَلَا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا وأن لا نرفع أصواتنا
__________
(1) أخرجه مسلم في السلام حديث 14.(4/117)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نُخْرِجَ شَعَانِينَ وَلَا بَاعُوثًا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا وَلَا نَتَّخِذَ مِنَ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نُرْشِدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ.
قَالَ فَلَمَّا أَتَيْتُ عُمَرَ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ وَلَا نَضْرِبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا فِي شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ وَوَظَّفْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ من أهل المعاندة والشقاق.
[سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
وَهَذَا إِغْرَاءٌ مِنَ الله تعالى للمؤمنين على قتال الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَقَالَتِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الشَّنِيعَةَ وَالْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَالُوا فِي الْعُزَيْرِ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَالِقَةَ لَمَّا غَلَبَتْ عَلَى بَنِي إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزيز يَبْكِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَهَابِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ حتى سقطت جفون عينيه فبينما هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ مَرَّ عَلَى جَبَّانَةٍ وإذا امرأة تبكي عند قبر وهي تقول: وا مطعماه وا كاسياه فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ مَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ قَبْلَ هَذَا؟ قَالَتْ: اللَّهُ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يموت، قالت يا عزيز فَمَنْ كَانَ يُعَلِّمُ الْعُلَمَاءَ قَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: اللَّهُ.
قَالَتْ: فَلِمَ تَبْكِي عَلَيْهِمْ؟ فَعَرَفَ أَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ وُعِظَ بِهِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى نَهْرِ كَذَا فَاغْتَسِلْ مِنْهُ وَصَلِّ هُنَاكَ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّكَ سَتَلْقَى هُنَاكَ شَيْخًا فَمَا أَطْعَمَكَ فَكُلْهُ فَذَهَبَ فَفَعَلَ مَا أُمِرَ به فإذا الشيخ فَقَالَ لَهُ: افْتَحْ فَمَكَ فَفَتَحَ فَمَهُ فَأَلْقَى فِيهِ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْجَمْرَةِ الْعَظِيمَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَرَجَعَ عُزَيْرٌ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالتَّوْرَاةِ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ فَقَالُوا يَا عُزَيْرُ مَا كُنْتَ كَذَّابًا فَعَمَدَ فَرَبَطَ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ قَلَمًا وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِإِصْبَعِهِ كُلِّهَا فَلَمَّا تَرَاجَعَ النَّاسُ مِنْ عدوهم ورجع العلماء أخبروا بشأن عزيز فَاسْتَخْرَجُوا النُّسَخَ الَّتِي كَانُوا أَوْدَعُوهَا فِي الْجِبَالِ وَقَابَلُوهَا بِهَا فَوَجَدُوا مَا جَاءَ بِهِ صَحِيحًا فَقَالَ بَعْضُ جَهَلَتِهِمْ: إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا لِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ «1» .
وَأَمَّا ضَلَالُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ فَظَاهِرٌ، وَلِهَذَا كَذَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ:
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 351.(4/118)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أَيْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم يُضاهِؤُنَ أَيْ يُشَابِهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ ضَلُّوا كَمَا ضل هؤلاء قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟ أَيْ كَيْفَ يَضِلُّونَ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيَعْدِلُونَ إِلَى الْبَاطِلِ؟
وَقَوْلُهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّ إِلَى الشَّامِ وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ ثُمَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُخْتِهِ وَأَعْطَاهَا فَرَجَعَتْ إلى أخيها فرغبته فِي الْإِسْلَامِ وَفِي الْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى الْمَدِينَةَ وَكَانَ رَئِيسًا فِي قَوْمِهِ طَيِّئٍ وَأَبُوهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْكَرَمِ فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِ عَدِيٍّ صَلِيبٌ مِنْ فِضَّةٍ وهو يقرأ هَذِهِ الْآيَةَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَقَالَ: «بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عدي ما تقول؟ أيضرك أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أكبر من الله ما يضرك أيضرك أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهَلْ تعلم إلها غير اللَّهُ؟» ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ شهادة الحق قال فلقد رأيت وجه اسْتَبْشَرَ ثُمَّ قَالَ «إِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ» «1» .
وَهَكَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا فِي تَفْسِيرِ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِيمَا حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: استنصحوا الرجال ونبذوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أَيْ الَّذِي إِذَا حَرَّمَ الشَّيْءَ فَهُوَ الْحَرَامُ وَمَا حلله فهو الحلال وَمَا شَرَعَهُ اتُّبِعَ وَمَا حَكَمَ بِهِ نُفِّذَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَوْلَادِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 32 الى 33]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
يَقُولُ تَعَالَى: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي ما بعث بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ جِدَالِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شُعَاعَ الشَّمْسِ أَوْ نُورَ الْقَمَرِ بِنَفْخِهِ وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلَ به
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 9، باب 10.(4/119)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ وَيَظْهَرَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقَابِلًا لَهُمْ فِيمَا رَامُوهُ وَأَرَادُوهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وَالْكَافِرُ هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّيْءَ وَيُغَطِّيهِ وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ وَالزَّارِعُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ كَمَا قال أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ فَالْهُدَى هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الصَّادِقَةِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَدِينُ الْحَقِّ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الصَّحِيحَةُ النَّافِعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أَيْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» «1» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حدثنا شعبة عن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ حَيَّانَ يُحَدِّثُ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ قَبِيصَةَ أَوْ قَبِيصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: صَلَّى هَذَا الْحَيُّ مِنْ مُحَارِبٍ الصُّبْحَ فَلَمَّا صَلَّوْا قَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إنه ستفتح لَكُمْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَإِنَّ عُمَّالَهَا فِي النَّارِ إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ» ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ويذل ذليلا، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» فَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قد عرفت ذلك أَهْلِ بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ وَالشَّرَفَ وَالْعِزَّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ كافرا منهم الذُّلَّ وَالصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ «لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَيْتُ مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزا، ويذل ذليلا إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِمَّا يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا» .
وَفِي الْمُسْنَدِ «5» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ سَمِعَهُ يَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: «يَا عَدِيُّ أَسْلِمْ تَسْلَمْ» فَقُلْتُ إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ قَالَ: «أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ» فَقُلْتُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ أَلَسْتَ مَنِ الرَّكُوسِيَّةِ وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟ قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لك في
__________
(1) أخرجه مسلم في الفتن حديث 19. [.....]
(2) المسند 5/ 366، 367.
(3) المسند 4/ 103.
(4) المسند 6/ 4.
(5) المسند 4/ 257، 377، 378.(4/120)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
دِينِكَ» قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا، قَالَ: «أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، تَقُولُ إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟» قُلْتُ لَمْ أَرَهَا وَقَدْ سمعت بها، قال: «فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ من غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ وَلَتَفْتَحُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ» قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟
قَالَ: «نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَهَذِهِ الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهَا.
وَقَالَ مُسْلِمٌ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْنٍ زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى» فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ الآية، أَنَّ ذَلِكَ تَامٌّ، قَالَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَيَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إلى دين آبائهم» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قَالَ السُّدِّيُّ: الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى «2» وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الْأَحْبَارَ هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [الْمَائِدَةِ: 63] وَالرُّهْبَانُ عُبَّادُ النَّصَارَى وَالْقِسِّيسُونَ عُلَمَاؤُهُمْ كَمَا قَالَ تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً [الْمَائِدَةِ: 82] وَالْمَقْصُودُ التَّحْذِيرُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ وَعُبَّادِ الضَّلَالِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ» قَالُوا: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» ؟ وَفِي رِوَايَةٍ فارس والروم، قال: «فمن النَّاسُ إِلَّا هَؤُلَاءِ؟» «3» وَالْحَاصِلُ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّشَبُّهِ بهم في أقوالهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى:
__________
(1) كتاب الفتن حديث 52.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 357.
(3) أخرجه أحمد في المسند 4/ 125.(4/121)
لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورئاستهم فِي النَّاسِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا كَانَ لِأَحْبَارِ الْيَهُودِ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ شَرَفٌ وَلَهُمْ عِنْدُهُمْ خَرْجٌ وَهَدَايَا وَضَرَائِبُ تَجِيءُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ طَمَعًا مِنْهُمْ أَنْ تَبْقَى لَهُمْ تِلْكَ الرِّيَاسَاتُ فَأَطْفَأَهَا اللَّهُ بنور النبوة وسلبهم إياها وعوضهم الذل والصغار وباؤوا بغضب من الله تعالى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ وَهُمْ مَعَ أَكْلِهِمُ الْحَرَامَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَيُلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيُظْهِرُونَ لِمَنِ اتبعهم من الجهلة أنهم يدعونه إِلَى الْخَيْرِ وَلَيْسُوا كَمَا يَزْعُمُونَ بَلْ هُمْ دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، هَؤُلَاءِ هم القسم الثالث من رؤوس النَّاسِ فَإِنَّ النَّاسَ عَالَةٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَعَلَى الْعُبَّادِ وَعَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَإِذَا فَسَدَتْ أَحْوَالُ هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك:
وَهَلْ أفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
وَأَمَّا الْكَنْزُ فَقَالَ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عمر هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ وَمَا كَانَ ظَاهِرًا لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا، وقال عمر بن الخطاب نحوه أَيُّمَا مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَأَيُّمَا مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا نزلت جعلها الله طهرة لِلْأَمْوَالِ، وَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ قَالَ: حِلْيَةُ السُّيُوفِ مِنَ الكنز. ما أحدثكم إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فَهُوَ كَنْزٌ «1» وَهَذَا غَرِيبٌ وَقَدْ جَاءَ فِي مَدْحِ التَّقَلُّلِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَذَمِّ التَّكَثُّرِ مِنْهُمَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
وَلْنُورِدْ مِنْهَا هُنَا طَرَفًا يدل على الباقي قال عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية. قال النبي: «تَبًّا لِلذَّهَبِ تَبًّا لِلْفِضَّةِ» يَقُولُهَا ثَلَاثًا قَالَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: فَأَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا أَعْلَمُ لكم ذلك فقال:
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 358.(4/122)
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابَكَ قَدْ شَقَّ عليهم وقالوا: فأي المال نَتَّخِذُ قَالَ: «لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا شَاكِرًا وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ» «1» .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عن أبي محمد جعفر حدثنا شعبة حدثني سالم بن عبد الله أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ حَدَّثَنِي صَاحِبٌ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال «تبا للذهب والفضة» قال وحدثني صَاحِبِي أَنَّهُ انْطَلَقَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلُكُ: «تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» مَاذَا نَدَّخِرُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا شَاكِرًا وَزَوْجَةً تُعِينُ عَلَى الْآخِرَةِ» .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لما نزل في الذهب والفضة مَا نَزَلَ قَالُوا: فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟
قَالَ عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فَأَوْضَعَ عَلَى بَعِيرٍ فَأَدْرَكَهُ وَأَنَا فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قال: «قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ على أَمْرِ الْآخِرَةِ» «4» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ، وَحُكِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ سَالِمًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ثَوْبَانَ قُلْتُ: وَلِهَذَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْهُ مُرْسَلًا، واللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَالِكٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَامِعٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عُثْمَانَ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ جعفر بن أبي إِيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْآيَةَ، كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَتْرُكَ لِوَلَدِهِ مالا يَبْقَى بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَفُرِّجُ عَنْكُمْ فَانْطَلَقَ عُمَرُ وَاتَّبَعَهُ ثَوْبَانُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ مِنْ أَمْوَالٍ تَبْقَى بَعْدَكُمْ» قَالَ فَكَبَّرَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى بِهِ وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: كَانَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَفَرٍ فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ لِغُلَامِهِ ائْتِنَا بِالشَّفْرَةِ نَعْبَثْ بِهَا فأنكرت
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 359.
(2) المسند 5/ 366.
(3) المسند 5/ 282.
(4) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 9، باب 9، وابن ماجة في النكاح باب 5.
(5) المسند 4/ 123.(4/123)
عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا وَأَنَا أَخْطِمُهَا وَأَزُمُّهَا غَيْرَ كَلِمَتِي هَذِهِ فَلَا تَحْفَظُوهَا عَلَيَّ وَاحْفَظُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ عِبَادَتِكَ وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامُ تَبْكِيتًا وَتَقْرِيعًا وَتَهَكُّمًا كَمَا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 48- 49] أي هذا بذاك وهذا الَّذِي كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ لِأَنْفُسِكُمْ وَلِهَذَا يُقَالُ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَقَدَّمَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ جَمْعُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ آثَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ عُذِّبُوا بِهَا كَمَا كَانَ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ جاهدا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَامْرَأَتُهُ تُعِينُهُ فِي ذَلِكَ كَانَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَوْنًا عَلَى عَذَابِهِ أَيْضًا فِي جِيدِهَا أَيْ عنقها حبل من مسد أَيْ تَجْمَعُ مِنَ الْحَطَبِ فِي النَّارِ وَتُلْقِي عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي عَذَابِهِ مِمَّنْ هو أشفق عليه في الدنيا كما أن هذه الأموال كما كَانَتْ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَرْبَابِهَا كَانَتْ أَضَرَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَنَاهِيكَ بِحَرِّهَا فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ.
قَالَ سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:
والذي لا إله غيره لا يكوى عبد يكنز فَيَمَسُّ دِينَارٌ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمٌ دِرْهَمًا وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فَيُوضَعُ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ عَلَى حِدَتِهِ «1» ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْكَنْزَ يَتَحَوَّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا «2» يَتْبَعُ صَاحِبَهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ لَا يُدْرِكُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا أَخَذَهُ «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ»
: حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ثَوْبَانَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ «مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنْزًا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يتبعه ويقول: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ بَعْدَكَ وَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا ثُمَّ يُتْبِعُهَا سَائِرَ جَسَدِهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدٍ به.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 363. [.....]
(2) الشجاع، بضم الشين وكسرها: الحية.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 363.
(4) تفسير الطبري 6/ 363.(4/124)
وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العباد ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» «1» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «2» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ مَا أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الْأَرْضِ؟. قَالَ كُنَّا بِالشَّامِ فَقَرَأْتُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ مَا هَذِهِ فِينَا مَا هَذِهِ إِلَّا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: قُلْتُ إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ حَدِيثِ عَبْثَرِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَهُ وَزَادَ فَارْتَفَعَ فِي ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْقَوْلُ فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أُقْبِلَ إِلَيْهِ قَالَ فَأَقْبَلْتُ إليه فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ رَكِبَنِي النَّاسُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ يَوْمَئِذٍ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لِي: تَنَحَّ قَرِيبًا قُلْتُ: وَاللَّهِ لَنْ أَدَعَ مَا كُنْتُ أَقُولُ.
(قُلْتُ) كَانَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحْرِيمُ ادِّخَارِ مَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ الْعِيَالِ وَكَانَ يفتي بِذَلِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيُغْلِظُ فِي خِلَافِهِ فَنَهَاهُ مُعَاوِيَةُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَخَشِيَ أَنَّ يضر الناس فِي هَذَا فَكَتَبَ يَشْكُوهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَأَنْ يَأْخُذَهُ إِلَيْهِ فَاسْتَقْدَمَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنْزَلَهُ بِالرَّبَذَةِ وَحْدَهُ وَبِهَا مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَقَدِ اخْتَبَرَهُ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عِنْدُهُ هَلْ يُوَافِقُ عَمَلُهُ قَوْلَهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَفَرَّقَهَا مِنْ يَوْمِهِ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا فَقَالَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَى غَيْرِكَ فَأَخْطَأْتُ فَهَاتِ الذَّهَبَ فَقَالَ وَيْحَكَ إِنَّهَا خَرَجَتْ وَلَكِنْ إِذَا جَاءَ مَالِي حَاسَبْنَاكَ بِهِ وَهَكَذَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا عَامَّةٌ وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ أَخْشَنُ الْجَسَدِ أَخْشَنُ الْوَجْهِ فَقَامَ عليهم فقال: بشر الكنازين بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ قَالَ فَوَضَعَ القوم رؤوسهم فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا قَالَ وَأَدْبَرَ فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَرِهُوا مَا قلت لهم، فقال:
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 24، 25.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 9، باب 6.
(3) تفسير الطبري 6/ 361.(4/125)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا «1» .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مثل أحد ذهبا يمر عليّ ثلاثة أيام وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا دِينَارٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ» «2» فهذا والله أعلم هو الذي حدا بأبي ذَرٍّ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ أَبِي ذَرٍّ فَخَرَجَ عَطَاؤُهُ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ فَجَعَلَتْ تَقْضِي حَوَائِجَهُ فَفَضَلَتْ مَعَهَا سَبْعَةٌ فَأَمَرَهَا أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ فُلُوسًا قَالَ: قُلْتُ لَوِ ادخرته لحاجة بيوتك وَلِلضَّيْفِ يَنْزِلُ بِكَ قَالَ إِنَّ خَلِيلِي عَهِدَ إليّ أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عَلَيْهِ فَهُوَ جَمْرٌ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُفْرِغَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ هَمَّامٍ بِهِ وَزَادَ إِفْرَاغًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ حدثنا عمر بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ الرُّهَاوِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَ اللَّهَ فَقِيرًا، وَلَا تَلْقَهُ غَنِيًّا» قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: «مَا سُئِلْتَ فَلَا تمنع، وما رزقت فلا تخبئ» قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ ذَاكَ وَإِلَّا فَالنَّارُ» إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سليمان حدثنا عيينة عن يزيد بن الصرم قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيَّتَانِ، صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ.
وَقَالَ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَيَّةٌ» ثم توفي رجل فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَيَّتَانِ» «5» وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَرَادِيسِيُّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى الْأَطْرَابُلُسِيُّ حَدَّثَنِي أَرْطَاةُ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ الْهَوْزَنِيُّ سَمِعْتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بِكُلِّ قِيرَاطٍ صَفْحَةً مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا مِنْ قَدَمِهِ إِلَى ذَقْنِهِ» .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يعلى: حدثنا محمود بْنُ خِدَاشٍ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّوْرِيُّ حدثنا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 363.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 14.
(3) المسند 5/ 156، 175، 176.
(4) المسند 1/ 101، 137، 138، 412.
(5) انظر تفسير الطبري 6/ 359.(4/126)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُوضَعُ الدِّينَارُ عَلَى الدِّينَارِ، وَلَا الدِّرْهَمُ عَلَى الدِّرْهَمِ وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فَيُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجَنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تكنزون» سيف هذا كذاب متروك.
[سورة التوبة (9) : آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» ثم قال «ألا أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا بَلَى ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟» قُلْنَا بَلَى ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: «أَلَيْسَتِ الْبَلْدَةُ؟» قُلْنَا بَلَى قال: «فإن دماءكم وأموالكم- وَأَحْسَبُهُ قَالَ- وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فَلَعَلَّ مَنْ يُبَلَّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بعض من سمعه» «2» رواه الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ. وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ به.
وقد قال ابن جرير «3» : حدثنا مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قد استدار كهيئته يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ:
ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ- ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ- وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَوْنٍ وَقُرَّةُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أبيه به.
__________
(1) المسند 5/ 37.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 9، باب 8، ومسلم في القسامة حديث 29.
(3) تفسير الطبري 6/ 364، ولفظه: حدثنا محمد بن معمر بدل «معمر» . [.....](4/127)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ أَوَّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ» وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَمْرَ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ زيد عن أبي حمزة الرَّقَاشِيُّ عَنْ عَمِّهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات وَالْأَرْضِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» «2» .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ قَالَ مُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ» تَقْرِيرٌ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله، فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَلَا نَسِيءٍ وَلَا تَبْدِيلٍ كَمَا قَالَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تعالى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات والأرض» أي الأمر اليوم شرعا كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ «قَدِ اسْتَدَارَ كهيئته يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ وَأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَانَتْ نَسَأَتِ النَّسِيءَ يَحُجُّونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السِّنِينَ بَلْ أَكْثَرِهَا فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَزَعَمُوا أَنَّ حَجَّةَ الصِّدِّيقِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ كَمَا سنبينه إذا تكلمنا عن النَّسِيءِ وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي جُمْلَةِ حَدِيثٍ أَنَّهُ اتَّفَقَ حَجُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ واللَّهُ أعلم.
[فَصْلٍ] ذَكَرَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ سَمَّاهُ «الْمَشْهُورُ فِي أَسْمَاءِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ» أَنَّ الْمُحَرَّمَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَهْرًا مُحَرَّمًا، وَعِنْدِي أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ تَأْكِيدًا لِتَحْرِيمِهِ
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 364.
(2) أخرجه أحمد في المسند 5/ 72، 73.(4/128)
لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَقَلَّبُ بِهِ فَتُحِلُّهُ عَامًا وَتُحَرِّمُهُ عَامًا قَالَ وَيُجْمَعُ عَلَى مُحَرَّمَاتٍ وَمَحَارِمَ ومحاريم، وصفر سمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حِينَ يَخْرُجُونَ لِلْقِتَالِ وَالْأَسْفَارِ يُقَالُ صَفِرَ الْمَكَانُ إِذَا خَلَا وَيُجْمَعُ عَلَى أَصْفَارٍ كَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ، وشهر رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِارْتِبَاعِهِمْ فِيهِ وَالِارْتِبَاعُ الْإِقَامَةُ فِي عِمَارَةِ الرَّبْعِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْبِعَاءَ كنصيب وأنصباء، وعلى أربعة كرغيف وأرغفة، وربيع الْآخِرُ كَالْأَوَّلِ. جُمَادَى سُمِّيَ بِذَلِكَ لِجُمُودِ الْمَاءِ فِيهِ، قَالَ وَكَانَتِ الشُّهُورُ فِي حِسَابِهِمْ لَا تَدُورُ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ إِذْ كَانَتْ شُهُورُهُمْ منوطة بالأهلة فلا بُدَّ مِنْ دَوَرَانِهَا فَلَعَلَّهُمْ سَمَّوْهُ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَا سُمِّيَ عِنْدَ جُمُودِ الْمَاءِ فِي الْبَرْدِ، كما قال الشاعر: [البسيط]
وَلَيلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لَا يُبْصِرُ العبد في ظلمائها الطُّنُبَا «1»
لَا يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خُرْطُومِهِ الذَّنَبَا
وَيُجْمَعُ عَلَى جُمَادِيَّاتٍ كَحُبَارَى وحُبَارِيَّاتٍ وَقَدْ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَالُ جمادى الأولى والأول جمادى الْآخِرُ وَالْآخِرَةُ. رَجَبٌ مِنَ التَّرْجِيبِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْجَابٍ ورِجَابٍ ورَجَبَاتٍ. شَعْبَانُ مِنْ تَشَعُّبِ الْقَبَائِلِ وَتَفَرُّقِهَا لِلْغَارَةِ وَيُجْمَعُ عَلَى شَعَابِينَ وشعبانات. رمضان مِنْ شِدَّةِ الرَّمْضَاءِ وَهُوَ الْحُرُّ يُقَالُ رَمِضَتِ الْفِصَالُ إِذَا عَطِشَتْ وَيُجْمَعُ عَلَى رَمَضَانَاتٍ وَرَمَاضِينَ وَأَرْمِضَةٍ قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ خَطَأٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، قُلْتُ:
قَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَبَيَّنْتُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصِّيَامِ. شَوَّالٌ مِنْ شَالَتِ الْإِبِلُ بِأَذْنَابِهَا لِلطِّرَاقِ قَالَ وَيُجْمَعُ عَلَى شَوَاوِلَ وَشَوَاوِيلَ وَشَوَّالَاتٍ. الْقَعْدَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ، قُلْتُ وَكَسْرِهَا، لِقُعُودِهِمْ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ وَالتَّرْحَالِ وَيُجْمَعُ عَلَى ذَوَاتِ الْقَعْدَةِ. الْحِجَّةُ بكسر الحاء قلت وفتحها سمي بذلك لإقامتهم الْحَجَّ فِيهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى ذَوَاتِ الْحِجَّةِ.
أَسْمَاءُ الأيام أولها الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووجود، ثُمَّ يَوْمُ الْاثْنَيْنِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَثَانِينَ، الثُّلَاثَاءُ يُمَدُّ وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُجْمَعُ عَلَى ثَلَاثَاوَاتٍ وَأَثَالِثَ، ثُمَّ الْأَرْبِعَاءُ بِالْمَدِّ وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْبَعَاوَاتٍ وَأَرَابِيعَ وَالْخَمِيسُ يُجْمَعُ عَلَى أَخْمِسَةٍ وَأَخَامِسَ ثُمَّ الْجُمُعَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِهَا وَفَتْحِهَا أَيْضًا وَيُجْمَعُ عَلَى جمع وجماعات، السَّبْتُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْتِ وَهُوَ الْقَطْعُ لِانْتِهَاءِ الْعَدَدِ عِنْدَهُ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَيَّامَ أَوَّلَ ثُمَّ أَهْوَنَ ثُمَّ جُبَارَ ثُمَّ دُبَارَ ثُمَّ مؤنس ثم العروبة ثم شيار،
__________
(1) يروى البيت الأول:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمات الطّنبا
وهو لمرة بن محكان في الأغاني 3/ 318، والخصائص 3/ 52، 237، وسر صناعة الإعراب ص 620، وشرح التصريح 2/ 293، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1563، ولسان العرب (ندى) ، والمقاصد النحوية 4/ 510، والمقتضب 3/ 81، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 294، وشرح الأشموني 3/ 656، وشرح شافية ابن الحاجب ص 329، وشرح المفصل 10/ 17، ولسان العرب (رجل) .(4/129)
قَالَ الشَّاعِرُ مِنَ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ الْعَارِبَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ: [الوافر]
أُرَجِّي أَنْ أَعِيشَ وَأَنَّ يَوْمِي ... بِأَوَّلَ أَوْ بِأَهْوَنَ أَوْ جُبَارِ «1»
أَوِ التَّالِي دُبَارِ فِإِنْ أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِسَ أَوْ عَرُوبَةَ أَوْ شِيَارِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَهَذَا مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ أَيْضًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَرِّمُهُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ إِلَّا طَائِفَةً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمُ الْبَسْلُ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنَ السَّنَةِ ثَمَانِيَةَ أشهر تعمقا وتشديدا، وأما قوله «ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» فَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى مُضَرَ لِيُبَيِّنَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ فِي رَجَبٍ أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ لا كما تَظُنُّهُ رَبِيعَةُ مِنْ أَنَّ رَجَبَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ لَا كَمَا تَظُنُّهُ رَبِيعَةُ مِنْ أَنَّ رَجَبَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ وَشَوَّالٍ وَهُوَ رَمَضَانُ اليوم فبين صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَجَبُ مُضَرَ لَا رَجَبُ رَبِيعَةَ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَشْهُرُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، لِأَجْلِ أَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَحَرُمَ قبل أشهر الحج شهرا وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ لِأَنَّهُمْ يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ وَحَرُمَ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِعُونَ فِيهِ الْحَجَّ وَيَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وَحَرُمَ بعده شهرا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أَقْصَى بِلَادِهِمْ آمِنِينَ، وَحَرُمَ رَجَبُ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ لِأَجْلِ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَالِاعْتِمَارِ بِهِ لِمَنْ يَقْدُمُ إِلَيْهِ مِنْ أَقْصَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَيَزُورُهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ فِيهِ آمِنًا.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُسْتَقِيمُ مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا جَعَلَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْحَذْوُ بِهَا عَلَى مَا سبق من كتاب الله الأول قال تَعَالَى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أَيْ فِي هذه الأشهر المحرمة لأنها آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُضَاعَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْحَجِّ:
25] وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تَغْلُظُ فِيهِ الْآثَامُ، وَلِهَذَا تَغْلُظُ فِيهِ الدِّيَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا فِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ ذَا مَحْرَمٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ قَالَ: فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا «2» ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ الْآيَةَ، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ فِي كُلِّهِنَّ ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حَرَامًا وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ والعمل الصالح والأجر
__________
(1) البيت الأول لبعض شعراء الجاهلية في لسان العرب (هون) ، وتاج العروس (هون) ، والبيتان بلا نسبة في الإنصاف 2/ 497، وجمهرة اللغة ص 1311، والدرر 1/ 103، ولسان العرب (عرب) (جبر) ، (دبر) ، (شبر) ، (أنس) ، (هون) ، والمقاصد النحوية 4/ 367، وهمع الهوامع 1/ 37، ويروى «أؤمّل» بدل «أرجّي» .
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 366.(4/130)
أَعْظَمَ «1» .
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايا مِنْ خَلْقِهِ. اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ. وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ. فَإِنَّمَا تعظيم الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ «2» .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الحسن عن محمد ابن الحنفية بأن لا تُحَرِّمُوهُنَّ كَحُرْمَتِهِنَّ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا وَلَا حَلَالَهَا حَرَامًا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشِّرْكِ فَإِنَّمَا النَّسِيءُ الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ «3» .
وَقَوْلُهُ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أَيْ جَمِيعَكُمْ كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أَيْ جَمِيعَهُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ عَلَى قَوْلَيْنِ [أَحَدُهُمَا] وَهُوَ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما ولو كَانَ مُحَرَّمًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ فِي شَوَّالَ فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجئوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ حَاصَرَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ وَأَنَّهُ لم ينسخ تحريم الشهر الْحَرَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَةِ: 2] وَقَالَ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [المائدة: 194] الآية، وَقَالَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] الآية.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْأَرْبَعَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَا أَشْهَرُ التَّسْيِيرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالتَّحْضِيضِ أَيْ كَمَا يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِكُمْ إِذَا حَارَبُوكُمْ فاجتمعوا
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 366.
(2) تفسير الطبري 6/ 366.
(3) تفسير الطبري 6/ 366.(4/131)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
أَنْتُمْ أَيْضًا لَهُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ وَقَاتِلُوهُمْ بِنَظِيرِ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَةِ: 194] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: 191] الآية.
وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حِصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ وَاسْتِصْحَابِهِ الْحِصَارَ إِلَى أَنْ دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَإِنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ قِتَالِ هَوَازِنَ وَأَحْلَافِهَا مِنْ ثَقِيفٍ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَءُوا الْقِتَالَ وَجَمَعُوا الرِّجَالَ وَدَعَوْا إلى الحرب والنزال فعندها قَصَدَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَمَّا تَحَصَّنُوا بِالطَّائِفِ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ فَنَالُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالْمَجَانِيقِ وَغَيْرِهَا قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ وَدَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَاسْتَمَرَّ فِيهِ أَيَّامًا ثُمَّ قَفَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لا يغتفر في الابتداء، وهذا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ واللَّهُ أَعْلَمُ، وَلْنَذْكُرِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ حَرَّرْنَا ذلك في السيرة والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
هَذَا مِمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي شَرْعِ اللَّهِ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَتَغْيِيرِهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ بِأَهْوَائِهِمُ الْبَارِدَةِ، وَتَحْلِيلِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، فَإِنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَالشَّهَامَةِ وَالْحَمِيَّةِ مَا اسْتَطَالُوا بِهِ مُدَّةَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فِي التَّحْرِيمِ الْمَانِعِ لَهُمْ مِنْ قضاء أو طارهم مِنْ قِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، فَكَانُوا قَدْ أَحْدَثُوا قَبْلَ الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إِلَى صَفَرٍ فَيُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الحلال ليواطئوا عدة ما حرم الله الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ وَهُوَ عُمَيْرُ بن قيس المعروف بجذل الطعان: [الوافر]
لقد علمت معدّ بأن قَوْمِي ... كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامًا «1»
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا
فَأَيُّ النَّاسِ لَمْ نُدْرِكَ بِوِتْرٍ ... وَأَيُّ النَّاسِ لم نعلك لجاما
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ قَالَ النَّسِيءُ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ عَوْفِ بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ فِي كُلِّ عَامٍ وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ فَيُنَادِي ألا إن أبا ثمامة لا يجاب وَلَا يُعَابُ أَلَا وَإِنَّ صَفَرَ الْعَامَ الْأَوَّلَ العام حلال فيحله للناس
__________
(1) الأبيات في سيرة ابن هشام 1/ 45، والبيت الثاني لعمير الطعان في لسان العرب (نسأ) ، وتهذيب اللغة 13/ 83، وتاج العروس (نسأ) ، ومعجم الشعراء ص 243، وبلا نسبة في تاج العروس (قلمس) .(4/132)
فَيُحَرِّمُ صَفَرًا عَامًا وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يَقُولُ:
يَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَ عَامًا وَعَامًا يُحَرِّمُونَهُ «1» .
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يَأْتِي كُلَّ عَامٍ إِلَى الْمَوْسِمِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا الناس: إني لا أعاب ولا أجاب وَلَا مَرَدَّ لِمَا أَقُولُ، إِنَّا قَدْ حَرَّمْنَا المحرم وأخرنا صفر. ثُمَّ يَجِيءُ الْعَامُ الْمُقْبِلُ بَعْدَهُ فَيَقُولُ مِثْلَ مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قَالَ يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِتَأْخِيرِ هَذَا الشَّهْرِ الْحَرَامِ «2» ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَالضَّحَّاكِ وقَتَادَةَ نَحْوَ هَذَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الْآيَةَ قَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ يَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ وَلَا يَمُدُّ إِلَيْهِ يَدَهُ، فَلَمَّا كَانَ هُوَ قَالَ اخْرُجُوا بِنَا قَالُوا لَهُ هَذَا الْمُحَرَّمُ قَالَ نَنْسَئُهُ الْعَامَ هُمَا الْعَامُ صَفَرَانِ، فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ قَضَيْنَا جَعَلْنَاهُمَا مُحَرَّمَيْنِ، قَالَ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ عَامَ قَابِلٍ قَالَ لَا تَغْزُوا فِي صَفَرٍ حَرِّمُوهُ مَعَ الْمُحَرَّمِ هُمَا مُحَرَّمَانِ «3» ، فَهَذِهِ صِفَةٌ غَرِيبَةٌ فِي النَّسِيءِ وَفِيهَا نَظَرٌ لِأَنَّهُمْ فِي عَامٍ إِنَّمَا يُحَرِّمُونَ عَلَى هَذَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَقَطْ وَفِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ يُحَرِّمُونَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ صِفَةٌ أُخْرَى غَرِيبَةٌ أَيْضًا فَقَالَ عَبْدُ الرزاق أخبرنا معمر عن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الْآيَةَ، قَالَ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحَجَّ فِي ذِي الحجة، قال وكان المشركون يسمون ذا الحجة المحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ يحجون فيه مرة ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنِ الْمُحَرَّمِ وَلَا يَذْكُرُونَهُ ثُمَّ يعودون فيسمون صفرا، ثم يسمون رجب جُمَادَى الْآخِرَةَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ شَعْبَانَ رَمَضَانَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ شَوَّالًا رَمَضَانَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْقَعْدَةِ شَوَّالًا، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْحِجَّةِ ذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ ذَا الْحِجَّةِ فَيَحُجُّونَ فِيهِ واسمه عندهم ذا الحجة. ثم عادوا بمثل هذه الصفة فكانوا يحجون في كل عام شهرين حتى إذا وَافَقَ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ الْآخِرُ مِنَ الْعَامَيْنِ في ذي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ الَّتِي حَجَّ فَوَافَقَ ذَا الْحِجَّةِ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» «4» وهذا
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 369.
(2) تفسير الطبري 6/ 370.
(3) تفسير الطبري 6/ 371.
(4) تفسير الطبري 6/ 370، 371.(4/133)
الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا وَكَيْفَ تَصِحُّ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَأَنَّى هَذَا؟.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3] الآية وإنما نودي به فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي ذِي الْحِجَّةِ لَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِمُ النَّسِيءَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ دَوَرَانِ السَّنَةِ عَلَيْهِمْ وَحَجِّهِمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ فَإِنَّ النَّسِيءَ حَاصِلٌ بِدُونِ هَذَا فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُحِلُّونَ شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بِحَالِهَا عَلَى نِظَامِهَا وَعِدَّتِهَا وَأَسْمَاءِ شُهُورِهَا ثُمَّ في السنة الثانية يُحَرِّمُونَ الْمُحَرَّمَ وَيَتْرُكُونَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَبَعْدَهُ صَفَرٌ وربيع وربيع إلى آخرها يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ فِي تَحْرِيمِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ تَارَةً يُقَدِّمُونَ تَحْرِيمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَوَالِيَةِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ وَتَارَةً يَنْسَئُونَهُ إِلَى صَفَرٍ أَيْ يُؤَخِّرُونَهُ وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الزمان قد استدار» الحديث أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي عِدَّةِ الشُّهُورِ وَتَحْرِيمِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالتَّوَالِي لَا كما تعتمده جَهَلَةُ الْعَرَبِ مِنْ فَصْلِهِمْ تَحْرِيمَ بَعْضِهَا بِالنَّسِيءِ عَنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ بِشْرِ بْنِ سَلَمَةَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: «وَإِنَّمَا النَّسِيءُ مِنَ الشَّيْطَانِ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا» فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْمُحَرَّمَ عَامًا ويستحلون صفر ويستحلون المحرم هو النَّسِيءُ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ السِّيرَةِ كَلَامًا جَيِّدًا مفيدا حَسَنًا فَقَالَ:
كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ فَأَحَلَّ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمَ مِنْهَا مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ القلمس وهو حذيفة بن عبد فُقَيْمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نَزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ: ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبَّادٌ ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عَبَّادٍ ابْنُهُ قَلَعُ بْنُ عَبَّادٍ ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ بْنُ قَلَعٍ ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ ثُمَّ ابْنُهُ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ آخِرَهُمْ وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ فَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَحَرَّمَ رَجَبًا وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ وَيُحِلُّ الْمُحَرَّمَ عَامًا ويجعل مكانه صفر ويحرمه لِيُوَاطِئَ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ يَعْنِي وَيُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ «1» . والله أعلم.
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 44. [.....](4/134)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 39]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
هَذَا شُرُوعٌ فِي عِتَابِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وحَمَارَّةِ الْقَيْظِ فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَيْ تَكَاسَلْتُمْ وَمِلْتُمْ إِلَى الْمَقَامِ فِي الدَّعَةِ وَالْخَفْضِ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أَيْ ما لكم فعلتم هكذا أرضى مِنْكُمْ بِالدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ؟ ثُمَّ زَهَّدَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَرَغَّبَ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» :
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَني فِهْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الآخرة إلا كما يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» وأشار بالسبابة انفرد بإخراجه مسلم «2» .
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُسْلِمِ بن عبد الحميد الحمصي بحمص حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ رَوْحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ حَدَّثَنَا زِيَادٌ يَعْنِي الْجَصَّاصَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ مِنْ إِخْوَانِي بِالْبَصْرَةِ أَنَّكَ تَقُولُ: سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآية فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ فَالدُّنْيَا مَا مَضَى مِنْهَا وَمَا بقي منها عند الله قليل. وقال الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي الْآيَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ قَالَ: كَزَادِ الرَّاكِبِ.
وَقَالَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ: لَمَّا حَضَرَتْ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ الْوَفَاةُ. قَالَ:
ائْتُونِي بِكَفَنَيِ الَّذِي أُكَفَّنُ فِيهِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَمَا لِي مِنْ كَبِيرِ مَا أُخَلِّفُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا هَذَا؟ ثُمَّ وَلَّى ظَهْرَهُ فَبَكَى وَهُوَ يَقُولُ أُفٍّ لَكِ مِنْ دَارٍ إِنْ كَانَ كَثِيرُكِ لَقَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلُكِ لَقَصِيرٌ، وَإِنْ كُنَّا مِنْكِ لفي غرور. ثم توعد تعالى من تَرْكِ الْجِهَادِ فَقَالَ:
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ فَكَانَ عَذَابَهُمْ «3» .
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أَيْ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وإقامة دينه كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
__________
(1) المسند 4/ 228، 229.
(2) كتاب الجنة حديث 55.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 373.(4/135)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 38] وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أَيْ وَلَا تَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا بِتَوَلِّيكُمْ عَنِ الْجِهَادِ، ونُكُولِكُمْ وَتَثَاقُلِكُمْ عَنْهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِدُونِكُمْ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَوْلَهُ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] وَقَوْلَهُ:
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 120] إِنَّهُنَّ مَنْسُوخَاتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التَّوْبَةِ: 122] رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَرَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ:
إِنَّمَا هَذَا فِيمَنْ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِهَادِ فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَلَوْ تَرَكُوهُ لَعُوقِبُوا عَلَيْهِ وَهَذَا لَهُ اتِّجَاهٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أعلم بالصواب.
[سورة التوبة (9) : آية 40]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
يَقُولُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ أَيْ تَنْصُرُوا رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ وَحَافِظُهُ كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ أَيْ عَامَ الْهِجْرَةِ لَمَّا هَمَّ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلِهِ أَوْ حَبْسِهِ أَوْ نَفْيِهِ فَخَرَجَ مِنْهُمْ هَارِبًا بصحبة صِدِّيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَلَجَأَ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَرْجِعَ الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجْزَعُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَخْلُصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أَذًى فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَكِّنُهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَقُولُ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَنْبَأَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ قَالَ:
فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» «2» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أَيْ تَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَقِيلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا: لِأَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لَمْ تَزَلْ مَعَهُ سَكِينَةٌ وَهَذَا لَا يُنَافِي تَجَدُّدَ سَكِينَةٍ خَاصَّةٍ بِتِلْكَ الْحَالِ وَلِهَذَا قَالَ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أَيِ الْمَلَائِكَةِ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة اللَّهِ هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن
__________
(1) المسند 1/ 4.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 9، باب 11.(4/136)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» «1» وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ أَيْ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ، مَنِيعُ الْجَنَابِ لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ، وَاحْتَمَى بِالتَّمَسُّكِ بِخِطَابِهِ حَكِيمٌ في أقواله وأفعاله.
[سورة التوبة (9) : آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ: هَذِهِ الْآيَةُ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ «2» وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: زَعَمَ حَضْرَمِيٌّ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ نَاسًا كَانُوا عَسَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ عليلا وكبيرا فَيَقُولُ: إِنِّي لَا آثَمُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا الْآيَةَ «3» .
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّفِيرِ العام مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الرُّومِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَتَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ فَقَالَ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ: كُهُولًا وَشَبَابًا مَا سمع الله عذر أحد ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَفِي رِوَايَةٍ قَرَأَ أَبُو طَلْحَةَ سُورَةَ بَرَاءَةَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جَهِّزُونِي يَا بَنِيَّ، فَقَالَ بَنُوهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ قد غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَاتَ وَمَعَ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ فَنَحْنُ نَغْزُو عَنْكَ فَأَبَى فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَمَاتَ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ جَزِيرَةً يَدْفِنُوهُ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ فلم يتغير فدفنوه فيها.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي صالح والحسن البصري وسهيل بْنِ عَطِيَّةَ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالشَّعْبِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا كهولا وشبانا وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وغير واحد، وقال مجاهد شبانا وَشُيُوخًا وَأَغْنِيَاءَ وَمَسَاكِينَ وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلَ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا يَقُولُ انْفَرُوا نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قَالُوا فَإِنَّ فِينَا الثَّقِيلَ، وَذَا الْحَاجَةِ والضيعة والشغل والمتيسر به أمره فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَبَى أَنْ يَعْذُرَهُمْ دُونَ أَنْ ينفروا خِفافاً وَثِقالًا أي على مَا كَانَ مِنْهُمْ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الحسن البصري أيضا في
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم باب 45، ومسلم في الإمارة حديث 150، 151.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 379.
(3) تفسير الطبري 6/ 378.(4/137)
الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ فِي الْآيَةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَ النَّفِيرُ إِلَى دُرُوبِ الرُّومِ نَفَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا خِفَافًا وَرُكْبَانًا وَإِذَا كَانَ النَّفِيرُ إِلَى هَذِهِ السَّوَاحِلِ نَفَرُوا إِلَيْهَا خِفَافًا وَثِقَالًا وَرُكْبَانًا وَمُشَاةً وَهَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ قَوْلُهُ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا يَقُولُ غَنِيًّا وَفَقِيرًا وَقَوِيًّا وَضَعِيفًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ زَعَمُوا أَنَّهُ الْمِقْدَادُ وَكَانَ عَظِيمًا سَمِينًا فَشَكَا إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَبَى فَنَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشتد على الناس فَنَسَخَهَا اللَّهُ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ شَهِدَ أَبُو أَيُّوبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا ثُمَّ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غزاة للمسلمين إِلَّا عَامًا وَاحِدًا قَالَ وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ يقول: قال الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فَلَا أَجِدُنِي إِلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ حدثنا بقية حدثنا جرير حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنِي أَبُو رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيُّ قَالَ: وَافَيْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى تَابُوتٍ مِنْ تَوَابِيتِ الصَّيَارِفَةِ بِحِمْصَ وقد فصل عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ يُرِيدُ الْغَزْوَ فَقُلْتُ: لَهُ قد أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَقَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ البعوث «3» انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
وقال ابن جرير «4» : حدثني حبان بْنُ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيُّ قَالَ: نَفَرْنَا مَعَ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ وَالِيًا عَلَى حِمْصَ قِبَلَ الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا همّا قد سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِيمَنْ أَغَارَ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا عَمِّ لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ قَالَ فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي اسْتَنْفَرَنَا الله خفافا وثقالا ألا إِنَّهُ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ فَيُبْقِيهِ وَإِنَّمَا يَبْتَلِي اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ شَكَرَ وَصَبَرَ وَذَكَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ رَغَّبَ تَعَالَى فِي النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ وَبَذْلِ الْمُهَجِ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ فَقَالَ:
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة لأنكم تَغْرَمُونَ فِي النَّفَقَةِ قَلِيلًا فَيُغْنِمُكُمُ اللَّهُ أَمْوَالَ عَدُوِّكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 378.
(2) تفسير الطبري 6/ 378.
(3) قال الأستاذ شاكر في حاشية تفسير الطبري 6/ 378: لم أجد من سمى سورة التوبة سورة البعوث، بل أجمعوا على تسميتها سورة البحوث، سميت بها لما تضمنت من البحث في أسرار المنافقين.
(4) تفسير الطبري 6/ 377.(4/138)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ بما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» «1» وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ» قَالَ: أَجِدُنِي كارها قال: «أسلم وإن كنت كارها» .
[سورة التوبة (9) : آية 42]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
يَقُولُ تَعَالَى مُوَبِّخًا لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوة تبوك وقعدوا بَعْدَ مَا اسْتَأْذَنُوهُ فِي ذَلِكَ مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ ذَوُو أَعْذَارٍ وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ وَسَفَراً قاصِداً أَيْ قَرِيبًا أَيْضًا لَاتَّبَعُوكَ أَيْ لَكَانُوا جَاءُوا مَعَكَ لِذَلِكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أَي الْمَسَافَةُ إِلَى الشَّامِ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أَيْ لَكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ أي لو لم يكن لَنَا أَعْذَارٌ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 43 الى 45]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو حصين بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَوْنٍ قَالَ: هَلْ سَمِعْتُمْ بمعاتبة أحسن من هذا؟ نداء بِالْعَفْوِ قَبْلَ الْمُعَاتَبَةِ فَقَالَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وَكَذَا قَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَاتَبَهُ كَمَا تَسْمَعُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ فَرَخَّصَ لَهُ في أن يأذن لهم إن شاء فقال فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور: 62] الآية «3» . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُنَاسٍ قَالُوا: اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فاقعدوا «4» .
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 28، 30، ومسلم في الإمارة حديث 104، وأحمد في المسند 2/ 231، 374، 399، 424، 494.
(2) المسند 3/ 109، 181. [.....]
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 381.
(4) تفسير الطبري 6/ 381.(4/139)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أَيْ فِي إِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يَقُولُ تَعَالَى هَلَّا تَرَكْتَهُمْ لَمَّا اسْتَأْذَنُوكَ فَلَمْ تَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْقُعُودِ لِتَعْلَمَ الصَّادِقَ مِنْهُمْ فِي إِظْهَارِ طَاعَتِكَ مِنَ الْكَاذِبِ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ.
وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لأنهم يَرَوْنَ الْجِهَادَ قُرْبَةً وَلَمَّا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ بَادَرُوا وَامْتَثَلُوا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ فِي الْقُعُودِ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ شَكَّتْ فِي صِحَّةِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أَيْ يَتَحَيَّرُونَ يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى وَلَيْسَتْ لَهُمْ قَدَمٌ ثَابِتَةٌ فِي شَيْءٍ فَهُمْ قَوْمٌ حَيَارَى هَلْكَى لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يضلل الله فلن تجد له سبيلا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 47]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ أَيْ مَعَكَ إِلَى الْغَزْوِ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أَيْ لَكَانُوا تَأَهَّبُوا لَهُ وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أَيْ أَبْغَضَ أَنْ يَخْرُجُوا معكم قَدَرًا فَثَبَّطَهُمْ أَيْ أَخَّرَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ أي قدرا ثم بين تَعَالَى وَجْهَ كَرَاهِيَتِهِ لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أَيْ لِأَنَّهُمْ جُبَنَاءُ مَخْذُولُونَ وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أَيْ وَلَأَسْرَعُوا السَّيْرَ وَالْمَشْيَ بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْفِتْنَةِ.
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ مُطِيعُونَ لَهُمْ وَمُسْتَحْسِنُونَ لِحَدِيثِهِمْ وَكَلَامِهِمْ يَسْتَنْصِحُونَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إِلَى وُقُوعِ شَرٍّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَسَادٍ كَبِيرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ عُيُونٌ يَسْمَعُونَ لَهُمُ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا لَا يَبْقَى لَهُ اخْتِصَاصٌ بِخُرُوجِهِمْ مَعَهُمْ بَلْ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ بِالسِّيَاقِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وقال محمد بن إسحاق: كان الذين استأذنوا فيما بلغني مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبَّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ فَقَالَ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «1» .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 384.(4/140)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عِلْمِهِ فَقَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ خَرَجُوا وَمَعَ هَذَا مَا خَرَجُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الْأَنْعَامِ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَالِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النِّسَاءِ: 66- 68] وَالْآيَاتُ في هذا كثيرة.
[سورة التوبة (9) : آية 48]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
يَقُولُ تَعَالَى مُحَرِّضًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أَيْ لَقَدْ أَعْمَلُوا فِكْرَهُمْ وَأَجَالُوا آرَاءَهُمْ فِي كَيْدِكَ وَكَيْدِ أَصْحَابِكَ وخذلان دينك وإخماده مُدَّةً طَوِيلَةً، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ رَمَتْهُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَحَارَبَتْهُ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمُنَافِقُوهَا، فَلَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ:
هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا ثُمَّ كُلَّمَا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ غَاظَهُمْ ذَلِكَ وَسَاءَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ.
[سورة التوبة (9) : آية 49]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)
يَقُولُ تَعَالَى وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لَكَ: يَا مُحَمَّدُ ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَلا تَفْتِنِّي بِالْخُرُوجِ مَعَكَ بِسَبَبِ الْجَوَارِي مِنْ نِسَاءِ الرُّومِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أَيْ قَدْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ هَذَا كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخِي بَنِي سَلَمَةَ: «هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟» فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أو تأذن لي ولا تفتني، فو الله لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بني الأصفر أن لَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:
«قَدْ أَذِنْتُ لَكَ» فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي الْآيَةَ، أَيْ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَخْشَى مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ(4/141)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَعْظَمُ «1» .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدْ كَانَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ هَذَا مِنْ أَشْرَافِ بَنِي سَلَمَةَ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟» قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ البخل! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أَيْ لَا مَحِيدَ لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.
[سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 51]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بِعَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ لَهُ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٌ أَيْ فَتْحٍ وَنَصْرٍ وَظَفَرٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ مِمَّا يَسُرُّهُ وَيَسُرُّ أَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أَيْ قَدِ احْتَرَزْنَا مِنْ مُتَابَعَتِهِ مِنْ قَبْلِ هَذَا وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ فَأَرْشَدَ اللَّهُ تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جَوَابِهِمْ فِي عَدَاوَتِهِمْ هَذِهِ التَّامَّةِ فَقَالَ: قُلْ أَيْ لَهُمْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي نحن تحت مشيئته وَقَدَرِهِ هُوَ مَوْلانا أَيْ سَيِّدُنَا وَمَلْجَؤُنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ وَنَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 52 الى 54]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أَيْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ شَهَادَةٌ أَوْ ظَفَرٌ بِكُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أي ننتظر بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا أَيْ نَنْتَظِرُ بِكُمْ هَذَا أَوْ هذا إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا بِسَبْيٍ أَوْ بِقَتْلٍ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ وقوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ لا يتقبل منهم لأنهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أي وَالْأَعْمَالُ إِنَّمَا تَصِحُّ بِالْإِيمَانِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى أَيْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صحيح
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 387.(4/142)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
وَلَا هِمَّةٌ فِي الْعَمَلِ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يمل حتى تملوا وأن الله طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا. فَلِهَذَا لَا يقبل اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ نَفَقَةً وَلَا عَمَلًا لِأَنَّهُ إنما يتقبل من المتقين.
[سورة التوبة (9) : آية 55]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه:
131] وَقَالَ أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55- 56] .
وَقَوْلُهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِزَكَاتِهَا وَالنَّفَقَةِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ تَقْدِيرُهُ: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ «2» . وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَوِيُّ الْحَسَنُ، وَقَوْلُهُ وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أَيْ وَيُرِيدُ أَنْ يُمِيتَهُمْ حِينَ يُمِيتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنَكَى لَهُمْ وَأَشَدَّ لِعَذَابِهِمْ. عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الاستدراج لهم فيما هم فيه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عَنْ جَزَعِهِمْ وَفَزَعِهِمْ وَفَرَقِهِمْ وَهَلَعِهِمْ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يَمِينًا مُؤَكَّدَةً وَما هُمْ مِنْكُمْ أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أَيْ فَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْحَلِفِ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَيْ حِصْنًا يَتَحَصَّنُونَ بِهِ وحرزا يتحرزون بِهِ أَوْ مَغاراتٍ وَهِيَ الَّتِي فِي الْجِبَالِ أَوْ مُدَّخَلًا وَهُوَ السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ وَالنَّفَقُ قَالَ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أَيْ يُسْرِعُونَ فِي ذَهَابِهِمْ عَنْكُمْ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَالِطُونَكُمْ كُرْهًا لَا مَحَبَّةً وَوَدُّوا أَنَّهُمْ لَا يُخَالِطُونَكُمْ وَلَكِنْ لِلضَّرُورَةِ أَحْكَامٌ وَلِهَذَا لَا يَزَالُونَ فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ وَغَمٍّ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ لَا يَزَالُ فِي عِزٍّ وَنَصْرٍ وَرِفْعَةٍ، فَلِهَذَا كُلَّمَا سُرَّ المسلمون ساءهم ذلك فهم يودون أن لا يُخَالِطُوا الْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 391.
(2) تفسير الطبري 6/ 391.(4/143)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَلْمِزُكَ أَيْ يَعِيبُ عَلَيْكَ فِي قَسْمَ الصَّدَقاتِ إِذَا فَرَّقْتَهَا وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ وَهُمُ الْمُتَّهَمُونَ الْمَأْبُونُونَ وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا يُنْكِرُونَ لِلدِّينِ وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ولهذا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ أَيْ يَغْضَبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقة قسمها هَاهُنَا وَهَاهُنَا حَتَّى ذَهَبَتْ قَالَ وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ «1» .
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ يَقُولُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي الصَّدَقَاتِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَدِيثَ عَهْدٍ بِأَعْرَابِيَّةٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ مَا عَدَلْتَ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ويلك فمن ذا الذي يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي؟» ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: «احْذَرُوا هَذَا وَأَشْبَاهَهُ فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَشْبَاهَ هَذَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ» وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُعْطِيكُمْ شَيْئًا وَلَا أَمْنَعُكُمُوهُ إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ» «2» .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قتادة يشبه ما رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَاسْمُهُ حُرْقُوصٌ لَمَّا اعْتَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لَهُ: اعْدِلْ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ فَقَالَ: «لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَآهُ مُقَفِّيًا: «إِنَّهُ يَخْرُجُ من ضئضيء هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهِ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ» «3» وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى ما هو خير لهم من ذلك فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَدَبًا عَظِيمًا وَسِرًّا شَرِيفًا حَيْثُ جَعَلَ الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ في التوفيق لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 393.
(2) تفسير الطبري 6/ 393، 394.
(3) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 148.(4/144)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ وَالِاقْتِفَاءِ بآثاره.
[سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
لما ذكر تَعَالَى اعْتِرَاضَ الْمُنَافِقِينَ الْجَهَلَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْزَهُمْ إِيَّاهُ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَهَا وَبَيَّنَ حُكْمَهَا وَتَوَلَّى أَمْرَهَا بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكِلْ قَسْمَهَا إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ فَجَزَّأَهَا لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ «1» فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ وَفِيهِ ضَعْفٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ» وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ هَلْ يَجِبُ استيعاب الدفع لها أَوْ إِلَى مَا أَمْكَنَ مِنْهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ [أَحَدُهُمَا] أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ.
[وَالثَّانِي] أَنَّهُ لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بَلْ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعْطَى جَمِيعَ الصَّدَقَةِ مَعَ وُجُودِ الْبَاقِينَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ قول جماعة عامة من أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا ذَكَرْتُ الْأَصْنَافَ هَاهُنَا لِبَيَانِ الْمَصْرَفِ لَا لِوُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْإِعْطَاءِ.
وَلِوُجُوهِ الْحِجَاجِ وَالْمَآخِذِ مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا واللَّهُ أعلم، وإنما قدم الفقراء هاهنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدة فَاقَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ وَهُوَ كَمَا قَالَ أحمد.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْفَقِيرُ لَيْسَ بِالَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْفَقِيرَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ:
الْأَخْلَقُ الْمُحَارَفُ عِنْدَنَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا وَالْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ وَيَطُوفُ وَيَتَّبِعُ النَّاسَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ مَنْ بِهِ زَمَانَةٌ وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ «3» وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَعْنِي وَلَا يُعْطَى الْأَعْرَابُ مِنْهَا شَيْئًا وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا تَقُولُوا لِفُقَرَاءِ المسلمين
__________
(1) كتاب الزكاة باب 24.
(2) تفسير الطبري 6/ 396.
(3) تفسير الطبري 6/ 395.(4/145)
مساكين إنما المساكين أَهْلِ الْكِتَابِ وَلْنَذْكُرْ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنَ الأصناف الثمانية.
فأما الفقراء فعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» «1» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألانه من الصدقة فقلب فيهما الْبَصَرَ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» «2» رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد قَوِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: أَبُو بَكْرٍ الْعَبْسِيُّ قَالَ قَرَأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ رَوَى عَنْهُ عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ (قُلْتُ) وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ أَبُو حَاتِمٍ عَلَى جَهَالَتِهِ لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَجْهُولِ.
وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، والتمرة والتمرتان قالوا فمن الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسُ شَيْئًا» «3» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمُ الْجُبَاةُ وَالسُّعَاةُ يَسْتَحِقُّونَ منه قِسْطًا عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَقْرِبَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ انْطَلَقَ هُوَ وَالْفَضْلُ بن العباس يَسْأَلَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» «4» . وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَأَقْسَامٌ مِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيُسْلِمَ، كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ كَانَ شَهِدَهَا مُشْرِكًا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينِي حَتَّى صَارَ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَيَّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ أنبأنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 24، والترمذي في الزكاة باب 23، والنسائي في الزكاة باب 90، وابن ماجة في الزكاة باب 26، والدارمي في الزكاة باب 15، وأحمد في المسند 2/ 164، 292، 377، 389، 4/ 62، 5/ 375.
(2) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 24، والنسائي في الزكاة باب 91، وأحمد في المسند 4/ 224، 5/ 362. [.....]
(3) أخرجه البخاري في الزكاة باب 53، ومسلم في الزكاة حديث 101.
(4) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 167، 168.(4/146)
إِلَيَّ «1» ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيَحْسُنَ إِسْلَامُهُ وَيَثْبُتَ قَلْبُهُ، كَمَا أَعْطَى يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا جَمَاعَةً مِنْ صَنَادِيدِ الطُّلَقَاءِ وَأَشْرَافِهِمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَقَالَ «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أحب إلي منه خشية أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» «2» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بذهبية فِي تُرْبَتِهَا مِنَ الْيَمَنِ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ، وَزَيْدِ الْخَيْرِ، وَقَالَ «أَتَأَلَّفُهُمْ» «3» وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِمَا يُرْجَى مِنْ إِسْلَامِ نُظَرَائِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيَجْبِيَ الصَّدَقَاتِ مِمَّنْ يَلِيهِ، أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْ حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ الضَّرَرَ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ هَذَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَلْ تُعْطَى الْمُؤَلَّفَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فِيهِ خِلَافٌ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَامِرٍ والشعبي وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ بَعْدَهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَأَذَلَّ لَهُمْ رِقَابَ الْعِبَادِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُعْطَوْنَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَعْطَاهُمْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَسْرِ هَوَازِنَ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا الرِّقَابُ فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ والزُّهْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمُ الْمُكَاتَبُونَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ نَحْوَهُ، وَهُوَ قول الشافعي والليث رضي الله عنهما.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد وَمَالِكٍ وَإِسْحَاقَ، أَيْ إِنَّ الرِّقَابَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ أَوْ يَشْتَرِيَ رَقَبَةً فَيُعْتِقَهَا اسْتِقْلَالًا، وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَوَابِ الْإِعْتَاقِ وَفَكِّ الرَّقَبَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعْتِقُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ مُعْتِقِهَا حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «ثلاثة حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» «4» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ.
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟ فَقَالَ: «أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أو ليسا
__________
(1) أخرجه مسلم في الفضائل حديث 59، والترمذي في الزكاة باب 30، وأحمد في المسند 3/ 401، 408، 6/ 465.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة باب 53، ومسلم في الزكاة حديث 131.
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 6، ومسلم في الزكاة حديث 132، 133، 143.
. (4) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد باب 20، والنسائي في النكاح باب 5، وابن ماجة في العتق باب 3، وأحمد في المسند 2/ 251، 437.(4/147)
وَاحِدًا؟ قَالَ: «لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تُفْرَدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» «1» .
وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَهُمْ أَقْسَامٌ فَمِنْهُمْ: مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً أَوْ ضَمِنَ دَيْنًا فَلَزِمَهُ فَأَجْحَفَ بِمَالِهِ أَوْ غَرِمَ فِي أَدَاءِ دَيْنِهِ أَوْ فِي مَعْصِيَةٍ ثُمَّ تَابَ فَهَؤُلَاءِ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا» قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ:
رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ «2» اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ «3» - أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ «4» - وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا من قرابة قَوْمِهِ فَيَقُولُونَ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ «5» فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ سُحْتٌ «6» يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ «7» .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» فتصدق الناس عليه فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ «8» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «9» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، أَنْبَأَنَا صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عن قيس بن يزيد عَنْ قَاضِي الْمِصْرَيْنِ «10» عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْعُو اللَّهُ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ فِيمَ أَخَذْتَ هَذَا الدَّيْنَ وَفِيمَ ضَيَّعْتَ حُقُوقَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَخَذْتُهُ فَلَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ وَلَمْ أُضَيِّعْ وَلَكِنْ أَتَى عَلَى يَدَيَّ إِمَّا حَرْقٌ وَإِمَّا سَرَقٌ وَإِمَّا وَضِيعَةٌ. فَيَقُولُ اللَّهُ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ الْيَوْمَ، فَيَدْعُو اللَّهُ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ» وَأَمَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ والحج من سبيل الله الحديث.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 299.
(2) الجائحة: كل مصيبة عظيمة، والآفة التي تهلك الثمار والأموال.
(3) قوام من عيش: أي يجد ما تقوم به حاجته.
(4) سداد من عيش: ما يسد به حاجته.
(5) أي: حتى يقوموا على رؤوس الأشهاد قائلين: إن فلانا أصابته فاقة. وذوو الحجا: أي ذوو العقل.
(6) السحت: الحرام.
(7) كتاب الزكاة 109.
(8) كتاب المساقاة حديث 19. [.....]
(9) المسند 1/ 197، 198.
(10) قاضي المصرين: هو شريج. والمصران هما البصرة والكوفة.(4/148)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَفَرِهِ، فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يَكْفِيهِ إِلَى بَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ أَرَادَ إِنْشَاءَ سَفَرٍ مِنْ بَلَدِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، فَيُعْطَى مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ كِفَايَتَهُ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْآيَةُ وَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلِ عَلَيْهَا أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى لِغَنِيٍّ» «1» وَقَدْ رَوَاهُ السُّفْيَانَانِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا، وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ أَوْ جَارٍ فَقِيرٍ فَيُهْدِي لَكَ أَوْ يَدْعُوكَ» «2» وَقَوْلُهُ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ حُكْمًا مُقَدَّرًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَفَرْضِهِ وَقَسْمِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِ الأمور وبواطنها وبمصالح عباده حَكِيمٌ فيما يقوله ويفعله وَيَشْرَعُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
يَقُولُ تَعَالَى وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ قَوْمٌ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَلَامِ فِيهِ، وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أَيْ مَنْ قَالَ لَهُ شَيْئًا صَدَّقَهُ فينا ومن حدثه صدقه، فإذا جئناه وَحَلَفْنَا لَهُ صَدَّقَنَا. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أَيْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أَيْ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَلِهَذَا قَالَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الْآيَةَ. قَالَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. قَالَ: فَسَمِعَهَا رجل من المسلمين فقال: والله مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَحَقٌّ وَلَأَنْتَ أَشَرُّ مِنَ الْحِمَارِ، قَالَ: فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَقَالَ «مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ؟» فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصادق وكذب الكاذب، فأنزل الله الآية «3» . وقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 25، وابن ماجة في الزكاة باب 27، ومالك في الزكاة حديث 29.
(2) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 25.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 407.(4/149)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، أَيْ أَلَمْ يَتَحَقَّقُوا وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ حَادَّ الله عز وجل أَيْ شَاقَّهُ وَحَارَبَهُ وَخَالَفَهُ، وَكَانَ فِي حَدٍّ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي حَدٍّ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها أي مهانا معذبا، وذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أَيْ وَهَذَا هُوَ الذُّلُّ الْعَظِيمُ والشقاء الكبير.
[سورة التوبة (9) : آية 64]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ الْقَوْلَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى اللَّهُ أن لا يُفْشِيَ عَلَيْنَا سِرَّنَا هَذَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْمُجَادَلَةِ: 8] ، وَقَالَ في هذه الآية:
قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ أَيْ إِنَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ عَلَى رَسُولِهِ مَا يَفْضَحُكُمْ بِهِ ويبين له أمركم، كقوله تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 29- 30] الآية، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ الفاضحة فاضحة المنافقين «1» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدِينِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ:
مَا أَرَى قُرَّاءَنَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَرْغَبَنَا بُطُونًا وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ. فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَقَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ نَاقَتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. فَقَالَ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ- إلى قوله- كانُوا مُجْرِمِينَ وإن رجليه لتسفعان الْحِجَارَةَ وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنِسْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تبوك في مجلس: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ. فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل القرآن، فقال عبد الله بن عمر أنا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، وَهُوَ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 408.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 409، 410.(4/150)
يقول: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ الآية «1» . وقد رواه الليث عن هشام بن سعيد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ كان من جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ أخو بني أمية بن زيد بن عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير، يسيرون مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلَادَ بَنِي الْأَصْفَرِ «2» كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا؟ وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أن أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مائة جلدة، وإننا نغلب أَنْ يُنَزَّلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بَلَغَنِي لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قد احترقوا فاسألهم عَمَّا قَالُوا فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ورسول الله وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بِحَقَبِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونلعب فقال مخشي بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَعَدَ بِيَ اسْمِي وَاسْمُ أَبِي فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ في هذه الآية مخشي بْنُ حُمَيِّرٍ فَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَسَأَلَ اللَّهَ أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ «3» .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَكْبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الرُّومِ وَحُصُونَهَا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالَ عَلَيَّ بِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ «قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» فَحَلَفُوا مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ «4» . وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْمَعُ آيَةً أَنَا أُعْنَى بِهَا تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَتَجِبُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَا غُسِّلْتُ أَنَا كُفِّنْتُ أَنَا دفنت.
قال: فأصيب يوم اليمامة فما من أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَقَدْ وُجِدَ غَيْرُهُ «5» . وَقَوْلُهُ:
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أَيْ بِهَذَا الْمَقَالِ الَّذِي اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً أَيْ لَا يُعْفَى عَنْ جَمِيعِكُمْ وَلَا بُدَّ مِنْ عَذَابِ بَعْضِكُمْ بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أَيْ مُجْرِمِينَ بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 409.
(2) بنو الأصفر: هم الروم.
(3) انظر سيرة ابن هشام 2/ 524، 525.
(4) تفسير الطبري 6/ 409.
(5) انظر تفسير الطبري 6/ 409.(4/151)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 68]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى خِلَافِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَانَ هَؤُلَاءِ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أَيْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نَسُوا اللَّهَ أَيْ نَسُوا ذِكْرَ اللَّهِ فَنَسِيَهُمْ أَيْ عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ نَسِيَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الْجَاثِيَةِ: 34] إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ الْخَارِجُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ الدَّاخِلُونَ فِي طَرِيقِ الضَّلَالَةِ، وَقَوْلُهُ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ أَيْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الَّذِي ذُكِرَ عَنْهُمْ خالِدِينَ فِيها أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ هُمْ وَالْكُفَّارُ هِيَ حَسْبُهُمْ أَيْ كِفَايَتُهُمْ فِي الْعَذَابِ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أَيْ طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : آية 69]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)
يَقُولُ تَعَالَى أَصَابَ هَؤُلَاءِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كما أصاب من قبلهم، وقوله بِخَلاقِهِمْ قال الحسن البصري: بدينهم «1» ، وقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أَيْ فِي الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ بَطَلَتْ مَسَاعِيهِمْ فَلَا ثَوَابَ لَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عمرو بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ شُبِّهْنَا بِهِمْ لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّهُمْ حَتَّى لَوْ دَخَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» «2» .
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي زياد بن سعد عن محمد بن زياد بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 413.
(2) تفسير الطبري 6/ 413. [.....](4/152)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُ الكتاب؟ قال «فمن؟» «1» وهكذا رواه أبو معشر عن أبي سَعِيدٍ الْمُقْبِرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَكَرَهُ، وَزَادَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمُ الْقُرْآنَ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الآية، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْخَلَاقُ الدِّينُ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا صَنَعَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ «فَهَلِ النَّاسُ إِلَّا هُمْ؟» «2» وهذا الحديث له شاهد في الصحيح.
[سورة التوبة (9) : آية 70]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظًا لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ أَلَمْ تُخْبَرُوا خَبَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ قَوْمِ نُوحٍ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعادٍ كَيْفَ أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ لَمَّا كَذَّبُوا هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَمُودَ كَيْفَ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ لَمَّا كَذَّبُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ كَيْفَ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ عليهم وأهلك ملكهم نمروذ بْنَ كَنْعَانَ بْنِ كُوشَ الْكَنْعَانِيَّ لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وكيف أصابتهم الرجفة وَعَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَالْمُؤْتَفِكاتِ قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ كَانُوا يَسْكُنُونَ فِي مَدَائِنَ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النَّجْمِ: 53] أَي الْأُمَّةَ الْمُؤْتَفِكَةَ وَقِيلَ أُمُّ قُرَاهُمْ، وَهِيَ سَدُومُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّ الله لوط عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِتْيَانِهِمُ الْفَاحِشَةَ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أَيْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ فَصَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ والدمار.
[سورة التوبة (9) : آية 71]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
لما ذكر تَعَالَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الذَّمِيمَةَ عَطَفَ بِذِكْرِ صِفَاتِ المؤمنين المحمودة، فقال:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ يَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» «3» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ أيضا «مثل
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 413.
(2) تفسير الطبري 6/ 412، 413.
(3) أخرجه البخاري في الصلاة باب 88، ومسلم في البر حديث 65.(4/153)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» «1» وَقَوْلُهُ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ كقوله تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 104] الآية.
وقوله: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَيُحْسِنُونَ إِلَى خَلْقِهِ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ فِيمَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرَ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أَيْ سَيَرْحَمُ اللَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفات إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي عز من أطاعه فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِهَؤُلَاءِ وَتَخْصِيصِهِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَاتِهِمُ المتقدمة، فإنه لَهُ الْحِكْمَةَ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ تَبَارَكَ وتعالى.
[سورة التوبة (9) : آية 72]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
يُخْبِرُ تَعَالَى بِمَا أَعَدَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أَيْ حَسَنَةَ الْبِنَاءِ طَيِّبَةَ الْقَرَارِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» «2» وَبِهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا فِي السَّمَاءِ! لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ لا يرى بعضهم بعضا» «3» أخرجاه في الصحيحين.
وفيهما أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ في سبيل الله أو حبس فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُخْبِرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» «4» وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاذِ بن جبل
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 27، ومسلم في البر حديث 66.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 55، باب 1، 2، ومسلم في الإيمان حديث 296.
(3) أخرجه البخاري في تفسير سورة 55، باب 2، ومسلم في الجنة حديث 23.
(4) أخرجه البخاري في التوحيد باب 22، والترمذي في الجنة باب 4، والنسائي في الجهاد باب 18، وأحمد في المسند 2/ 335، 339.(4/154)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِثْلُهُ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ» «1» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، ثُمَّ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَكَانٌ يُقَالُ لَهُ الْوَسِيلَةُ لِقُرْبِهِ مِنَ الْعَرْشِ وَهُوَ مَسْكَنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجنة، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَسَلُوا اللَّهَ لي الوسيلة» قيل يا رسول الله وما الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ «أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ هو، فمن سأل الله لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «3» وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلُوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أو شفيعا يوم القيامة» رواه الطبراني. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «4» مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ بن مجاهد الطائي عن أبي المدله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ. مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ لَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هِيَ؟ فَقَالَ: «لِمَنْ طَيَّبَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» «5» ثُمَّ قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وكل من الإسنادين جيد وحسن، وعنده أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في الجنة باب 19.
(2) المسند 2/ 265.
(3) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 11.
(4) المسند 2/ 304، 305.
(5) أخرجه الترمذي في الجنة باب 3.(4/155)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
السائل هو أبو مالك الأشعري، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا هل من مُشَمِّرٌ إِلَى الْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ. وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ وَحَبْرَةٍ وَنَعْمَةٍ فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَالَ الْقَوْمُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «1» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أَيْ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ والخير في يديك. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟
فَيَقُولُونَ يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» «2» أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحسين بن إسماعيل المحاملي: حدثنا الفضل الرجائي، حدثنا الْفِرْيَابِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا فَأَزِيدُكُمْ؟ قَالُوا يَا رَبَّنَا مَا خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَيْتَنَا؟
قَالَ: رِضْوَانِي أَكْبَرُ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ صِفَةِ الْجَنَّةِ: هَذَا عِنْدِي عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، واللَّهُ أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَخْفِضَ جَنَاحَهُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَصِيرَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إِلَى النَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ أَسْيَافٍ: سَيْفٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] وَسَيْفٍ لكفار أَهْلِ الْكِتَابِ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
__________
(1) كتاب الزهد باب 39.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 51، ومسلم في الإيمان حديث 302، والجنة حديث 9. [.....](4/156)
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَةِ: 29] وَسَيْفٍ للمنافقين جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَسَيْفٍ لِلْبُغَاةِ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 9] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُجَاهَدُونَ بِالسُّيُوفِ إِذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ «1» .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قَالَ: بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَكْفَهِرَّ فِي وَجْهِهِ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ وَأَذْهَبَ الرِّفْقَ عَنْهُمْ «3» ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَاغْلُظْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْكَلَامِ وَهُوَ مُجَاهَدَتُهُمْ «4» ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ وَالرَّبِيعِ مِثْلُهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ مُجَاهَدَتُهُمْ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ تَارَةً يُؤَاخِذُهُمْ بِهَذَا وَتَارَةً بِهَذَا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ قَالَ قَتَادَةُ:
نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَذَلِكَ أَنَّهُ اقْتَتَلَ رَجُلَانِ جُهَنِيٌّ وَأَنْصَارِيٌّ فَعَلَا الْجُهَنِيُّ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِلْأَنْصَارِ أَلَا تَنْصُرُوا أَخَاكُمْ؟ وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَقَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ منها الأذل، فَسَعَى بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ «5» .
وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قال: فحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ مِنْ قَوْمِي فَكَتَبَ إِلَيَّ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَبَلَغَهُ شِدَّةُ حُزْنِي يذكر أنه سمع رسول الله يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» وَشَكَّ ابْنُ الْفَضْلِ فِي أَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ ابن الفضل: فسأل أنس بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْفَى اللَّهُ له بإذنه» قال:
وذلك حِينَ سَمِعَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ: لَئِنْ كان صَادِقًا فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَهُوَ وَاللَّهِ صَادِقٌ وَلَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ. ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَجَحَدَهُ الْقَائِلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ تَصْدِيقًا لِزَيْدٍ، يَعْنِي قَوْلَهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 419.
(2) تفسير الطبري 6/ 419.
(3) تفسير الطبري 6/ 420.
(4) تفسير الطبري 6/ 420.
(5) تفسير الطبري 6/ 422.(4/157)
الْآيَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «1» فِي صَحِيحِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ- إِلَى قَوْلِهِ- هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِهِ، وَلَعَلَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِإِسْنَادِهِ: ثُمَّ قَالَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَذَكَرَ مَا بَعْدَهُ عَنْ مُوسَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
وَالْمَشْهُورُ في هذه القصة أنه كَانَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ وَهِمَ فِي ذِكْرِ الْآيَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ غيرها فذكرها، والله أعلم. قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أبيه عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَنِي قَوْمِي فَقَالُوا: إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْتَذِرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ الْعِلَّةِ ثُمَّ يَكُونُ ذَنْبًا تَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَ مِمَّنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ مِنْهُمْ مِمَّنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَ عَلَى أُمِّ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ عُمَيْرٌ فِي حِجْرِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ بِمَا ذَكَرَ مِمَّا أَنْزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ قَالَ الْجُلَاسُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَادِقًا فِيمَا يَقُولُ لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الحمير؟ فَسَمِعَهَا عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا جلاس إنك لأحب الناس إليّ وأحسنهم بلاء عندي وَأَعَزُّهُمْ عَلَيَّ أَنْ يَصِلَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَلَقَدْ قُلْتَ مَقَالَةً لَئِنْ ذَكَرْتُهَا لَتَفْضَحَنَّكَ وَلَئِنْ كَتَمْتُهَا لَتُهْلِكَنِّي، وَلَإِحْدَاهُمَا أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الْأُخْرَى، فَمَشَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ الْجُلَاسُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذلك الجلاس خرج حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ مَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ وَلَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَوَقَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا فَزَعَمُوا أَنَّ الْجُلَاسَ تَابَ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ وَنَزَعَ فَأَحْسَنَ النُّزُوعَ.
هَكَذَا جَاءَ هَذَا مُدْرَجًا «2» فِي الْحَدِيثِ مُتَّصِلًا بِهِ وَكَأَنَّهُ واللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ نَفْسِهِ لَا مِنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، أَقْبَلَ هُوَ وَابْنُ امْرَأَتِهِ مُصْعَبُ مِنْ قُبَاءَ، فَقَالَ الْجُلَاسُ: إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَنَحْنُ أَشَرُّ مِنْ حُمُرِنَا هَذِهِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا، فَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَا وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قُلْتَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ الْقُرْآنُ أَوْ تُصِيبَنِي قَارِعَةٌ أَوْ أَنْ أُخْلَطَ بِخَطِيئَتِهِ، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْبَلْتُ أَنَا وَالْجُلَاسُ مِنْ قُبَاءَ فَقَالَ كَذَا وَكَذَا وَلَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ أُخْلَطَ بِخَطِيئَةٍ أَوْ تُصِيبَنِي قَارِعَةٌ مَا أَخْبَرْتُكَ، قَالَ: فَدَعَا الْجُلَاسَ فَقَالَ «يَا جلاس أقلت الذي قاله مصعب؟»
__________
(1) كتاب التفسير، تفسير سورة 63، باب 6.
(2) المدرج: هو أن يذكر الراوي عقيبه حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلاما لنفسه أو لغيره. فيرويه من بعده متصلا بالحديث من غير فصل. فيتوهم أنه من الحديث.(4/158)
فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا الْآيَةَ «1» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ الَّذِي قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِيمَا بَلَغَنِي الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ فَرَفَعَهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ في حجره يقال له عمير بن سعد فَأَنْكَرَهَا فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَهَا، فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ تَابَ وَنَزَعَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَلَغَنِي «2» ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «3» :
حَدَّثَنِي أَيُّوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: «إنه سيأتيكم إنسان فينظر إِلَيْكُمْ- بِعَيْنَيِ الشَّيْطَانِ- فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ» فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاءه بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى تَجَاوُزَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية.
وقوله وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قيل أنزلت في الجلاس بن سويد وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل في عبد الله بن أبي، هم بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال السدي: نزلت في أناس أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك، في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلا، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الْآيَةَ.
وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِيمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُ بِهِ وَعَمَّارٌ يَسُوقُ النَّاقَةَ أَوْ أَنَا أَسُوقُهُ وَعَمَّارٌ يَقُودُهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَقَبَةِ فَإِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا قَدِ اعْتَرَضُوهُ فِيهَا، قَالَ فَأَنْبَهْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، فَصَرَخَ بِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟» قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ وَلَكُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الرِّكَّابَ قَالَ: «هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا أرادوا؟» قلنا: لا، قال: «أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْعَقَبَةِ فَيُلْقُوهُ مِنْهَا» قُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أفلا تَبْعَثُ إِلَى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: «لَا، أَكْرَهُ أَنْ تَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ بَيْنَهَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَاتَلَ بِقَوْمٍ حَتَّى إِذَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ يَقْتُلُهُمْ- ثُمَّ قَالَ- اللَّهُمَّ ارْمِهِمْ بِالدُّبَيْلَةِ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ: «شِهَابٌ مِنْ نَارٍ يَقَعُ عَلَى نِيَاطِ قَلْبِ أَحَدِهِمْ فَيَهْلِكُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جميع عن أبي
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 421.
(2) تفسير الطبري 6/ 421.
(3) تفسير الطبري 6/ 422.
(4) المسند 5/ 453، 454.(4/159)
الطُّفَيْلِ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْعَقَبَةَ فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُهُ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ فَغَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ «قَدْ قَدْ» حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا هَبَطَ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ فَقَالَ يَا عَمَّارُ: «هَلْ عَرَفْتَ القوم؟» قال: لقد عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ قَالَ «هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «أَرَادُوا أَنْ يُنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى الله عليه وسلم- راحلته فيطرحوه» قال: فسأل عمار رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ كَمْ تَعْلَمُ كَانَ أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلا فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانُوا خَمْسَةَ عشر قال فعد رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً قَالُوا: وَاللَّهِ مَا سَمِعْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا عَلِمْنَا مَا أَرَادَ الْقَوْمُ فَقَالَ عَمَّارٌ أَشْهَدُ: أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْبَاقِينَ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَ هَذَا، وَأَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أَنْ يَمْشِيَ النَّاسُ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَصَعَدَ هُوَ وَحُذَيْفَةُ وَعَمَّارٌ الْعَقَبَةَ، فَتَبِعَهُمْ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الْأَرْذَلُونَ وَهُمْ مُتَلَثِّمُونَ فَأَرَادُوا سُلُوكَ الْعَقَبَةِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى مُرَادِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ حُذَيْفَةَ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبَ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ فَفَزِعُوا وَرَجَعُوا مَقْبُوحِينَ، وَأَعْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا بِأَسْمَائِهِمْ وَمَا كَانُوا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْفَتْكِ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُمَا أَنْ يكتما عليهم، وكذا رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّهُ سَمَّى جَمَاعَةً مِنْهُمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَا قَدْ حُكِيَ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَيَشْهَدُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِالصِّحَّةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «1» : حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ:
أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: أَخْبِرْهُ إذ سألك؟ فقال: كُنَّا نُخْبِرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَإِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَعَذَرَ ثَلَاثَةً قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ؟ وَقَدْ كَانَ فِي حَرَّةٍ يمشي فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ فَلَا يَسْبِقْنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَوَجَدَ قَوْمًا قَدْ سَبَقُوهُ فَلَعَنَهُمْ يَوْمَئِذٍ.
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «2» أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا حَتَّى يَلِجَ الجمل في سم الخياط: ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار
__________
(1) كتاب صفات المنافقين حديث 11.
(2) كتاب صفات المنافقين حديث 9، 10.(4/160)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صُدُورِهِمْ» وَلِهَذَا كَانَ حُذَيْفَةُ يُقَالُ لَهُ صَاحِبُ السر الذي لا يعلمه غيره أي من تَعْيِينِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَرْجَمَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ حُذَيْفَةَ تَسْمِيَةَ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ معتب بن قشيرة وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَدُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الطَّائِيُّ وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيِّ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ وَسَعْدُ بْنُ زرارة وقيس بن فهد وسويد بن داعس مِنْ بَنِي الْحُبُلِيِّ وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ وَزَيْدُ بْنُ اللَّصِيتِ وَسُلَالَةُ بْنُ الْحِمَامِ وَهُمَا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ وَمَا لِلرَّسُولِ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته، ولو تمت عليه السَّعَادَةُ لَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِمَا جَاءَ بِهِ كَمَا قال صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي» كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ «1» . وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُقَالُ حَيْثُ لَا ذنب، كَقَوْلِهِ: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [البروج: 8] الآية. وقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ» «2» ثُمَّ دَعَاهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَيْ وَإِنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقِهِمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا أَيْ بِالْقَتْلِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَالْآخِرَةِ أَيْ بِالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْهَوَانِ وَالصَّغَارِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَيْ وَلَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ يُسْعِدُهُمْ وَلَا يُنْجِدُهُمْ لا يُحَصِّلُ لَهُمْ خَيْرًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ شَرًّا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
يَقُولُ تَعَالَى وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ لَئِنْ أَغْنَاهُ مِنْ فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ مِنْ مَالِهِ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَمَا وَفَّى بِمَا قَالَ وَلَا صَدَقَ فِيمَا ادَّعَى، فَأَعْقَبَهُمْ هَذَا الصَّنِيعُ نِفَاقًا سَكَنَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِياذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطب الأنصاري.
__________
(1) تقدم الحديث مع تخريج في تفسير الآية 63 من سورة الأنفال. [.....]
(2) أخرجه البخاري في الزكاة باب 49، ومسلم في الزكاة حديث 11.(4/161)
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» هَاهُنَا، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَانِ بن رفاعة عن علي بن يزيد عن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مالا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» قَالَ: ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تكون مثل نبي الله- فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَارَتْ» قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَرَزَقَنِي مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالًا» قَالَ فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى عَنْهَا فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ وَيَتْرُكَ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ فَتَنَحَّى حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْجُمُعَةَ، وَهِيَ تَنْمُو كَمَا يَنْمُو الدُّودُ حَتَّى تَرَكَ الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عَنِ الْأَخْبَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ غَنَمًا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، فَأَخْبَرُوهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ» .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ جل ثناؤه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 102] الآية، ونزلت فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين على الصدقة من المسلمين رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ وَرَجُلًا مِنْ سُلَيْمٍ وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ لَهُمَا: «مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلَانٍ- رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ- فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا» فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا ثُمَّ عُودَا إِلَيَّ فَانْطَلَقَا وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ فَعَزْلَهَا لِلصَّدَقَةِ ثُمَّ استقبلهما بهما، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا مَا يَجِبُ عَلَيْكَ هَذَا وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال: بَلَى فَخُذُوهَا فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ وَإِنَّمَا هي لله، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما فقرأه فَقَالَ مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ» قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ وَالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ [التوبة: 75] الآية.
قَالَ وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ فَسَمِعَ ذَلِكَ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: ويحك إِنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ» فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ لَهُ
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 425.(4/162)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَذَا عَمَلُكَ قَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي» فَلَمَّا أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يقبل صدقته رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتُخْلِفَ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ مَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعِي مِنَ الْأَنْصَارِ فَاقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَقْبَلْهَا.
فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْبَلْ صَدَقَتِي فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ فَقُبِضَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فلما ولي عثمان رضي الله عنه أتاه فقال: اقْبَلْ صَدَقَتِي فَقَالَ لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟
فَلَمْ يَقْبَلْهَا منه فهلك ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ الآية، أَيْ أَعْقَبَهُمُ النِّفَاقَ فِي قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمُ الوعد وكذبهم كما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» «1» وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ الآية، يخبر تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ بِضَمَائِرِهِمْ وَإِنْ أَظْهَرُوا أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ لَهُمْ أموال تصدقوا منها وشكروا عليها فإن الله أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّامُ الْغُيُوبِ أَيْ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ وَشَهَادَةٍ وَكُلَّ سِرٍّ وَنَجْوَى وَيَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ.
[سورة التوبة (9) : آية 79]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)
وهذا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عَيْبِهِمْ وَلَمْزِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَتَّى وَلَا الْمُتَصَدِّقُونَ يَسْلَمُونَ مِنْهُمْ، إِنْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَالٍ جَزِيلٍ قَالُوا هَذَا مِرَاءٌ، وَإِنْ جَاءَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن صدقة هذا، كما روى الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عن أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل عَلَى ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ: فَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا. فَنَزَلَتْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ «2» الْآيَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي السَّلِيلِ قال: وقف علينا رجل
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات باب 28، ومسلم في الإيمان حديث 107، 109.
(2) أخرجه بلفظ «كنا نحامل» ، البخاري في الزكاة باب 10، ومسلم في الزكاة حديث 74، وأخرجه بلفظ «كنا نتحامل» البخاري في تفسير سورة 9، باب 11.
(3) المسند 5/ 34.(4/163)
فِي مَجْلِسِنَا بِالْبَقِيعِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَوْ عَمِّي أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ أَشْهَدُ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: فَحَلَلْتُ مِنْ عِمَامَتِي لَوْثًا أَوْ لَوْثَيْنِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا، فَأَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ ابْنَ آدَمَ فَعَقَدْتُ عَلَى عِمَامَتِي، فَجَاءَ رَجُلٌ لم أر بالبقيع رجلا أشد منه سَوَادًا وَلَا أَصْغَرَ مِنْهُ وَلَا أَدَمَّ، بِبَعِيرٍ سَاقَهُ لَمْ أَرَ بِالْبَقِيعِ نَاقَةً أَحْسَنَ مِنْهَا فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَدَقَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قال: دُونَكَ هَذِهِ النَّاقَةُ، قَالَ فَلَمَزَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هذا يتصدق بهذه فو الله لَهِيَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: فَسَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «كَذَبْتَ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْهَا» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: «وَيْلٌ لِأَصْحَابِ الْمِئِينَ مِنَ الْإِبِلِ» ثَلَاثًا قَالُوا إِلَّا مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا» وَجَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُزْهِدُ الْمُجْهِدُ» ثَلَاثًا. الْمُزْهِدُ فِي الْعَيْشِ، الْمُجْهِدُ فِي الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هذه الآية قال: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ مَا جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا رياء، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ هَذَا الصَّاعِ «1» .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ يَوْمًا فَنَادَى فِيهِمْ أَنِ اجْمَعُوا صَدَقَاتِكُمْ، فَجَمَعَ النَّاسُ صَدَقَاتِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ آخِرِهِمْ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ بِتُّ لَيْلَتِي أَجُرُّ بِالْجَرِيرِ الْمَاءَ حَتَّى نِلْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ فَأَمْسَكْتُ أَحَدُهُمَا وَأَتَيْتُكَ بِالْآخَرِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْثُرَهُ فِي الصَّدَقَاتِ، فَسَخِرَ مِنْهُ رِجَالٌ وَقَالُوا:
إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ هَذَا وما يصنعون بِصَاعِكَ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصدقات؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم يبق أحد غيرك» فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَإِنَّ عِنْدِي مِائَةَ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي الصَّدَقَاتِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَجْنُونٌ أَنْتَ؟ قَالَ لَيْسَ بِي جُنُونٌ، قال أفعلت مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ أَمَّا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَأُقْرِضُهَا رَبِّي وَأَمَّا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَلِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ» وَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا أَعْطَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَطِيَّتَهُ إِلَّا رِيَاءً وَهُمْ كَاذِبُونَ إِنَّمَا كَانَ بِهِ مُتَطَوِّعًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَهُ وَعُذْرَ صَاحِبِهِ الْمِسْكِينِ الَّذِي جَاءَ بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ فَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ «2» الآية.
وهكذا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ وَقَالَ ابْنُ إسحاق: كان من المطوعين من المؤمنين في
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 430.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 430.(4/164)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
الصَّدَقَاتِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلاف درهم وعاصم بن عدي أخو بَنِي الْعَجْلَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رغب في الصدقة وَحَضَّ عَلَيْهَا فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فتصدق بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدي وتصدق بِمِائَةِ وَسَقٍ مِنْ تَمْرٍ فَلَمَزُوهُمَا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا رِيَاءٌ، وَكَانَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِجُهْدِهِ أَبُو عَقِيلٍ أَخُو بَنِي أُنَيْفٍ الْإِرَاشِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَتَى بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَأَفْرَغَهُ فِي الصَّدَقَةِ فَتَضَاحَكُوا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ أَبِي عَقِيلٍ «1» .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا» قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَلْفَيْنِ أُقْرِضُهُمَا رَبِّي وَأَلْفَيْنِ لِعِيَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ» ، وَبَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَصَابَ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَصَبْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ صَاعٌ أُقْرِضُهُ لِرَبِّي وَصَاعٌ لِعِيَالِي، قَالَ فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا أَعْطَى الَّذِي أَعْطَى ابْنُ عَوْفٍ إِلَّا رِيَاءً، وَقَالُوا: أَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ غَنِيَّيْنِ عَنْ صَاعِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ الْآيَةَ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا، قَالَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ أَحَدٌ إِلَّا طَالُوتُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَقِيلٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بِتُّ أَجُرُّ الْجَرِيرَ عَلَى ظَهْرِي عَلَى صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَانْقَلَبْتُ بِأَحَدِهِمَا إِلَى أَهْلِي يَتَبَلَّغُونَ بِهِ وَجِئْتُ بِالْآخَرِ أَتَقَرَّبُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «انْثُرْهُ فِي الصَّدَقَةِ» قَالَ فَسَخِرَ القوم وقالوا لقد كان الله غنيا من صَدَقَةِ هَذَا الْمِسْكِينِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ الْآيَتَيْنِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بن حباب بِهِ، وَقَالَ: اسْمُ أَبِي عَقِيلٍ حُبَابٌ وَيُقَالُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
وقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ هذا مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جَنْسِ الْعَمَلِ فَعَامَلَهُمْ معاملة من سخر منهم انْتِصَارًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لِلْمُنَافِقِينَ فِي الآخرة عذابا أليما لأن الجزاء من جنس العمل.
[سورة التوبة (9) : آية 80]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
يُخْبِرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاسْتِغْفَارِ وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ سبعين
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 431.
(2) تفسير الطبري 6/ 432.(4/165)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
مرة فلن يغفر الله لَهُمْ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ السَّبْعِينَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ حَسْمًا لِمَادَّةِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي أساليب كلاهما تَذْكُرُ السَّبْعِينَ فِي مُبَالَغَةِ كَلَامِهَا، وَلَا تُرِيدُ التَّحْدِيدَ بِهَا وَلَا أَنْ يَكُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا بِخِلَافِهَا، وَقِيلَ بَلْ لَهَا مَفْهُومٌ كَمَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَسْمَعُ رَبِّي قَدْ رَخَّصَ لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ» فَقَالَ اللَّهُ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَمَّا ثَقُلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ انْطَلَقَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي قَدِ احْتُضَرَ فأحب أن تشهده وتصلي عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اسْمُكَ؟» قَالَ: الْحُبَابُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
«بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الله إن الحباب اسم شيطان» ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى شَهِدَهُ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ وَهُوَ عَرِقٌ وَصَلَّى عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وهو منافق؟ فقال: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ولأستغفرن لهم سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِينَ» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقَتَادَةَ بْنِ دعامة ورواه ابن جرير «1» بأسانيده.
[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 82]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَحَابَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بَعْدَ خُرُوجِهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا مَعَهُ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ وَذَلِكَ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ عِنْدَ طِيبِ الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ، فَلِهَذَا قَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ الَّتِي تَصِيرُونَ إِلَيْهَا بمخالفتكم أَشَدُّ حَرًّا مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ مِنَ الْحَرِّ بَلْ أَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي توقدونها جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ؟ فَقَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا» «2» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 434، 435.
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 10، ومسلم في الجنة حديث 30، ومالك في جهنم حديث 1.
(3) المسند 2/ 244.(4/166)
مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، وعن يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوْقِدَ الله عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ» «1» ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ يَحْيَى، كَذَا قَالَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بن مردويه، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ شَرِيكٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ بِهِ.
وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ ثابت بن أَنَسٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التَّحْرِيمِ: 6] قَالَ: «أُوقِدُ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا، وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ تمام بن نجيج، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ رفعه «لَوْ أَنَّ شَرَارَةً بِالْمَشْرِقِ- أَيْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ- لَوَجَدَ حَرَّهَا مَنْ بِالْمَغْرِبِ» وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَبِيبٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لو كان في هَذَا الْمَسْجِدُ مِائَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَتَنَفَّسَ فَأَصَابَهُمْ نَفَسُهُ لَاحْتَرَقَ الْمَسْجِدُ وَمَنْ فِيهِ» غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ جهنم يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ، لَا يرى أن أَحَدًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْهُ وَإِنَّهُ أَهُوَنُهُمْ عَذَابًا» «2» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أبي كثير، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ» «3» ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال «إن أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا رَجُلٌ يُجْعَلُ لَهُ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ رِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ واللَّهُ أَعْلَمُ، والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في جهنم باب 8.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 51، ومسلم في الإيمان حديث 364. [.....]
(3) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 361.
(4) المسند 2/ 432، 438، 439.(4/167)
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى [الْمَعَارِجِ: 15- 16] وَقَالَ تَعَالَى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الْحَجِّ: 19- 22] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاءِ: 56] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَيَفْهَمُونَ لَنَفَرُوا مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحَرِّ ليتقوا به من حَرَّ جَهَنَّمَ الَّذِي هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا ولكنهم كما قال الآخر: [البسيط] كالمستجير من الرمضاء بالنار «1» وقال الآخر: [البسيط]
عمرك بالحمية أفنيته ... خوفا من البارد والحار
وكان أولى لك أَنْ تَتَّقِيَ ... مِنَ الْمَعَاصِي حَذَرَ النَّارِ
ثُمَّ قال تعالى جل جلاله متوعدا هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا الآية، قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا وَصَارُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَأْنَفُوا بُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو رَزِينٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَعَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ أَبِي خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا محمد بن جبير عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ فَتَسِيلَ الدِّمَاءُ فَتَقَرَّحُ الْعُيُونُ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُزْجِيَتْ فِيهَا لَجَرَتْ» «2» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حدثنا محمد بن عباس، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ الْجَزَرِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ رَفَعَهُ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ بَكَوُا الدُّمُوعَ زَمَانًا ثُمَّ بَكَوُا الْقَيْحَ زَمَانًا، قَالَ: فَتَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ يَا مَعْشَرَ الْأَشْقِيَاءِ تَرَكْتُمُ الْبُكَاءَ فِي الدَّارِ الْمَرْحُومِ فِيهَا أَهْلُهَا فِي الدُّنْيَا هَلْ تَجِدُونَ الْيَوْمَ مَنْ تَسْتَغِيثُونَ بِهِ؟ قَالَ: فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ يَا مَعْشَرَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَوْلَادِ خَرَجْنَا مِنَ الْقُبُورِ عِطَاشًا وَكُنَّا طُولَ الْمَوْقِفِ عِطَاشًا ونحن
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الدعصاء بالنار
وهو لابن دريد في تاج العروس (دعص) ، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (دعص) ، وجمهرة اللغة ص 653.
(2) أخرجه ابن ماجة في الإقامة باب 176، والزهد باب 19.(4/168)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
الْيَوْمَ عِطَاشٌ، فَأَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، فَيَدْعُونَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يجيبهم، ثم يجيبهم إِنَّكُمْ ماكِثُونَ فييأسون من كل خير» .
[سورة التوبة (9) : آية 83]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لرسوله عليه الصلاة السلام فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أَيْ رَدَّكَ اللَّهُ مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أَيْ مَعَكَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا أَيْ تَعْزِيرًا لَهُمْ وَعُقُوبَةً، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 110] الآية، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، كقوله فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها [الفتح: 15] الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزَاةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أَيْ مَعَ النِّسَاءِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ جَمْعَ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ وَلَوْ أُرِيدُ النِّسَاءُ لَقَالَ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَوَالِفِ أَوِ الْخَالِفَاتِ، وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما.
[سورة التوبة (9) : آيَةَ 84]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84)
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات، وأن لا يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عُرِفَ نِفَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا توفي عبد الله بن أُبَيٍّ «جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ» قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ «1» ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 9، باب 12، ومسلم في المنافقين حديث 4، وفضائل الصحابة حديث 25، وأحمد في المسند 2/ 18.(4/169)
الْبُخَارِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ بِهِ، وَقَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الْآيَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَفْسِهِ أَيْضًا بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» :
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عن ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ يوم كذا وكذا وَكَذَا يُعَدِّدُ أَيَّامَهُ، قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه فقال: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قد قيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية. لو أعلم أني لو زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ» قَالَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَمَشَى مَعَهُ وَقَامَ عَلَى قبره حتى فرغ منه، قال فعجبت مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم والله ورسوله أعلم. قال فو الله مَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية. فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «2» . وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ فذكر مثله، قال: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّى إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عليها» قال فصلى عليه رسول الله ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ الْآيَةَ، فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ «3» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَتَى ابْنُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ إِنْ لَمْ تَأْتِهِ لَمْ نَزَلْ نُعَيَّرُ بِهَذَا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ قَدْ أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ فَقَالَ: «أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلُوهُ» فَأُخْرِجَ مِنْ حُفْرَتِهِ وَتَفَلَ عَلَيْهِ مِنْ ريقه مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَرَّانِيِّ عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ بِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ واللَّهُ
__________
(1) المسند 1/ 16.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 9، باب 12، والترمذي في تفسير سورة 9 باب 12، 13.
(3) راجع الحاشية السابقة.
(4) المسند 3/ 371.(4/170)
أَعْلَمُ «1» .
وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، حَدَّثَنَا عَامِرٌ، حَدَّثَنَا جَابِرٌ «ح» وَحَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ الدَّوْسِيُّ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِالْمَدِينَةِ فَأَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فجاء ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن أبي أوصى أن يكفن بقميصك وَهَذَا الْكَلَامُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَغْرَاءَ، قَالَ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ: فَصَلَّى عَلَيْهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ وَزَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَخَلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَمَشَى فَصَلَّى عَلَيْهِ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَلَّى قَالَ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ وإسناده لَا بَأْسَ بِهِ وَمَا قَبْلَهُ شَاهِدٌ لَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ «2» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن إسحاق، حدثنا أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِثَوْبِهِ وَقَالَ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودٍ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي، ثُمَّ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً «3» الآية.
وقد ذكر بعض السلف أنه إنما كساه قَمِيصَهُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا قَدِمَ الْعَبَّاسُ طُلِبَ لَهُ قَمِيصٌ فَلَمْ يُوجَدْ عَلَى تَفْصِيلِهِ إِلَّا ثَوْبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لِأَنَّهُ كَانَ ضَخْمًا طَوِيلًا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَافَأَةً لَهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ لَا يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دُعِيَ إلى جنازة سَأَلَ عَنْهَا، فَإِنْ أُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا قَامَ فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها «شأنكم
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب 22، واللباس باب 8، ومسلم في المنافقين حديث 2، والنسائي في الجنائز باب 40.
(2) تفسير الطبري 6/ 439، 440.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 440، 441.
(4) المسند 5/ 299، 300.(4/171)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
بِهَا» وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةِ مَنْ جُهِلَ حَالُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، قَدْ أَخْبَرَهُ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ صَاحِبُ السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصَّحَابَةِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْغَرِيبِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ فَمَرَزَهُ حُذَيْفَةُ كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَصُدَّهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا. ثُمَّ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمَرْزَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ هُوَ الْقَرْصُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ على قبورهم للاستغفار لهم، كان هذه الصَّنِيعُ مِنْ أَكْبَرِ الْقُرُبَاتِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فشرع ذلك، وفي فعله الأجر الجزيل كما ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ» «1» وَأَمَّا الْقِيَامُ عند قبر المؤمن إذا مات، فروى أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ عَنْ هَانِئٍ، وَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْبَرِيُّ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فرغ من دفن الميت وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ أَبُو داود «2» رحمه الله.
[سورة التوبة (9) : آية 85]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الآية الكريمة ولله الحمد والمنة «3» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 87]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا وَذَامًّا لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ النَّاكِلِينَ عَنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَوُجُودِ السَّعَةِ وَالطَّوْلِ. وَاسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ فِي الْقُعُودِ وَقَالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْعَارِ وَالْقُعُودِ فِي الْبَلَدِ مَعَ النِّسَاءِ، وَهُنَّ الْخَوَالِفُ بَعْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ، فَإِذَا وَقَعَ الْحَرْبُ كَانُوا أَجْبَنَ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ أَمْنٌ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ كَلَامًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [الْأَحْزَابِ: 19] أَيْ عَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْكَلَامِ الْحَادِّ الْقَوِيِّ فِي الْأَمْنِ، وَفِي الْحَرْبِ أجبن شيء، وكما قال الشاعر: [الطويل]
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب 59، ومسلم في الجنائز حديث 52. [.....]
(2) كتاب الجنائز باب 69.
(3) انظر تفسير الآية 55 من هذه السورة.(4/172)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
أَفِي السِّلْمِ أَعْيَارًا جَفَاءً وَغِلْظَةً ... وَفِي الْحَرْبِ أَشْبَاهُ النِّسَاءِ الْعَوَارِكِ؟ «1»
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد: 20- 21] الآية، وَقَوْلُهُ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أَيْ بِسَبَبِ نُكُولِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ فَيَفْعَلُوهُ وَلَا مَا فيه مضرة لهم فيجتنبوه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 88 الى 89]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
لَمَّا ذكر تعالى ذنب المنافقين وبين ثناءه على المؤمنين ومالهم فِي آخِرَتِهِمْ، فَقَالَ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ وَالدَّرَجَاتِ العلى.
[سورة التوبة (9) : آية 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ ذَوِي الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ الَّذِينَ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيُبَيِّنُونَ لَهُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخُرُوجِ وَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِمَّنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَيَقُولُ: هُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ سَوَاءً، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ نَفَرٌ من بني غفار خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ «2» .
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ لَمْ يَأْتُوا فَيَعْتَذِرُوا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قَالَ: نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ جَاءُوا فَاعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذِرْهُمُ اللَّهُ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ واللَّهُ أَعْلَمُ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ وَقَعَدَ آخَرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الْمَجِيءِ لِلِاعْتِذَارِ ثُمَّ أَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ الأليم فقال:
__________
(1) البيت لهند بنت عتبة في خزانة الأدب 3/ 263، والمقاصد النحوية 3/ 142، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 382، والكتاب 1/ 344، ولسان العرب (عور) ، (عير) ، (عرك) ، والمقتضب 3/ 265، والمقرب 1/ 258، وتاج العروس (عرك) ، وسيرة ابن هشام 1/ 656.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 444، 445.(4/173)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 93]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْأَعْذَارَ الَّتِي لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قعد معها عَنِ الْقِتَالِ، فَذَكَرَ مِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلشَّخْصِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَهُوَ الضَّعْفُ فِي التَّرْكِيبِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِلَادَ فِي الْجِهَادِ، وَمِنْهُ الْعَمَى وَالْعَرَجُ وَنَحْوُهُمَا، وَلِهَذَا بَدَأَ به ومنه مَا هُوَ عَارِضٌ بِسَبَبِ مَرَضٍ عَنَّ لَهُ فِي بَدَنِهِ شَغَلَهُ عَنِ الْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ بِسَبَبِ فَقْرِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التجهيز لِلْحَرْبِ، فَلَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ حَرَجٌ إِذَا قَعَدُوا وَنَصَحُوا فِي حَالِ قُعُودِهِمْ وَلَمْ يُرْجِفُوا بِالنَّاسِ وَلَمْ يُثَبِّطُوهُمْ وَهُمْ مُحْسِنُونَ فِي حَالِهِمْ هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي ثُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا رُوحَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنِ النَّاصِحِ لِلَّهِ؟ قَالَ الَّذِي يُؤْثِرُ حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ النَّاسِ، وَإِذَا حَدَثَ لَهُ أَمْرَانِ أَوْ بَدَا لَهُ أَمْرُ الدُّنْيَا وَأَمْرُ الْآخِرَةِ، بَدَأَ بِالَّذِي لِلْآخِرَةِ ثُمَّ تَفَرَّغَ لِلَّذِي لِلدُّنْيَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: خَرَجَ النَّاسُ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ فَقَامَ فِيهِمْ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ، يَا مَعْشَرَ مَنْ حَضَرَ أَلَسْتُمْ مُقِرِّينَ بِالْإِسَاءَةِ؟ قَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْمَعُكَ تَقُولُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ اللَّهُمَّ وَقَدْ أَقْرَرْنَا بِالْإِسَاءَةِ فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَاسْقِنَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ فَسُقُوا، وَقَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ عَنِ ابْنِ فَرْوَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْتُ أَكْتُبُ بَرَاءَةَ، فَإِنِّي لَوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي إِذْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ، إِذْ جَاءَ أَعْمَى فَقَالَ: كَيْفَ بِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أعمى؟ فنزلت لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا غَازِينَ مَعَهُ، فَجَاءَتْهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عبد الله بن مغفل بن مقرن الْمُزَنِيُّ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنَا فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» فتولوا وهم يبكون وَعَزَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْلِسُوا عَنِ الْجِهَادِ وَلَا يَجِدُونَ نَفَقَةً وَلَا مَحْمَلًا. فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ حِرْصَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ أَنْزَلَ عُذْرَهُمْ في كتابه فقال لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ إلى قوله فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ «1» .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 445، 446.(4/174)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ «1» ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنْ بَنِي وَاقِفٍ حرمي بْنُ عَمْرٍو، وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ وَيُكَنَّى أَبَا لَيْلَى، وَمِنْ بَنِي الْمُعَلَّى سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ، وَمِنْ بني سلمة عمرو بن غنمة وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ «2» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ تَبُوكَ: ثُمَّ إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم البكاؤون وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وعلية بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيُّ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ بَلْ هُوَ عَبْدُ الله بن عمرو المزني، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بْنُ سَارِيَةَ الْفَزَارِيُّ، فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ «3» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الرَّبِيعِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا نِلْتُمْ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا وَقَدْ شَرَكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ» ثُمَّ قَرَأَ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ الآية، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا قَطَعْتُمْ واديا ولا سرتم سيرا إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ» قَالُوا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟
قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» «4» ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا سَلَكْتُمْ طَرِيقًا إِلَّا شَرَكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» «6» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى الْمَلَامَةَ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَأَنَّبَهُمْ فِي رِضَاهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ النِّسَاءِ الْخَوَالِفِ فِي الرِّحَالِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 446.
(2) تفسير الطبري 6/ 447.
(3) سيرة ابن هشام 2/ 518.
(4) أخرجه البخاري في الجهاد باب 35، والمغازي باب 81.
(5) المسند 3/ 300.
(6) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 159، وابن ماجة في الجهاد باب 6.(4/175)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
[سورة التوبة (9) : الآيات 94 الى 96]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أَيْ لَنْ نُصَدِّقَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أَيْ قَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ أَحْوَالَكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ أَيْ سَيُظْهِرُ أَعْمَالَكُمْ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَيُجْزِيكُمْ عليها، ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون لكم مُعْتَذِرِينَ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَلَا تُؤَنِّبُوهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ احتقارا لهم إنهم رجس أي خبث نَجِسٌ بَوَاطِنُهُمْ وَاعْتِقَادَاتُهُمْ، وَمَأْوَاهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ مِنَ الْآثَامِ والخطايا، وأخبر أنهم إن رَضُوا عَنْهُمْ بِحَلِفِهِمْ لَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أَيِ الْخَارِجِينَ عَنْ طاعة الله وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ الْخُرُوجُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةَ لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا لِلْإِفْسَادِ، وَيُقَالُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا
[سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ كُفَّارًا وَمُنَافِقِينَ وَمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ كُفْرَهُمْ وَنِفَاقَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَشَدُّ وَأَجْدَرُ، أَيْ أَحْرَى أن لا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ كَمَا قَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: جَلَسَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ وَكَانَتْ يَدُهُ قَدْ أُصِيبَتْ يَوْمَ نَهَاوَنْدَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّ حَدِيثَكَ لَيُعْجِبُنِي، وَإِنَّ يَدَكَ لَتُرِيبُنِي. فَقَالَ زَيْدٌ: مَا يُرِيبُكَ مِنْ يَدِي إِنَّهَا الشِّمَالُ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي الْيَمِينَ يَقْطَعُونَ أَوِ الشِّمَالَ؟ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ: صَدَقَ اللَّهُ الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، ومن اتبع الصيد
__________
(1) المسند 1/ 357.(4/176)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ» «1» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْغِلْظَةُ وَالْجَفَاءُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولًا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْبَعْثَةُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يُوسُفَ: 109] وَلَمَّا أَهْدَى ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ تِلْكَ الْهَدِيَّةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَضْعَافَهَا حَتَّى رَضِيَ، قَالَ: «لقد هممت أن لا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ دُوسِيٍّ» لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْمُدُنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ وَالْمَدِينَةَ وَالْيَمَنَ، فَهُمْ أَلْطَفُ أَخْلَاقًا مِنَ الْأَعْرَابِ لِمَا فِي طِبَاعِ الْأَعْرَابِ مِنَ الْجَفَاءِ.
[حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فِي تَقْبِيلِ الْوَلَدِ] قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا نعم، قالوا لكنا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمْلِكُ أَنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ» وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: «مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» «2» .
وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ، حَكِيمٌ فِيمَا قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِعَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ أَيْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَغْرَماً أَيْ غَرَامَةً وَخَسَارَةً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أَيْ يَنْتَظِرُ بِكُمُ الْحَوَادِثَ وَالْآفَاتِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أَيْ هِيَ مُنْعَكِسَةٌ عَلَيْهِمْ وَالسَّوْءُ دَائِرٌ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْخُذْلَانَ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْمَمْدُوحُ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَيَبْتَغُونَ بِذَلِكَ دُعَاءَ الرَّسُولِ لَهُمْ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ أَيْ أَلَا إِنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : آية 100]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقَيْنِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَرِضَاهُمْ عَنْهُ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: السابقون الأولون من
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب 24، والترمذي في الفتن باب 69، والنسائي في الصيد باب 24.
(2) أخرجه البخاري في الأدب باب 18، ومسلم في الفضائل حديث 64. [.....](4/177)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ «1» ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِرَجُلٍ يقرأ هذه الآية، وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَقَالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذَا؟ فَقَالَ:
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: لَا تُفَارِقْنِي حَتَّى أَذْهَبَ بِكَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ عُمَرُ أَنْتَ أَقْرَأْتَ هَذَا هَذِهِ الْآيَةَ هَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَسَمِعْتَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. قال: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّا رَفَعَنَا رَفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا، فَقَالَ أُبَيٌّ تَصْدِيقُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْجُمُعَةِ: 3] وفي سورة الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] الآية، وفي الأنفال وَالَّذِينَ آمَنُوا ... وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال:
75] الآية، ورواه ابْنُ جَرِيرٍ «3» .
قَالَ: وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا بِرَفْعِ الْأَنْصَارِ عَطْفًا عَلَى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ الْعَظِيمُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَيَا وَيْلُ مَنْ أَبْغَضَهُمْ أَوْ سَبَّهُمْ أَوْ أَبْغَضَ أَوْ سَبَّ بَعْضَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا سَيِّدُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الرَّسُولِ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَعْنِي الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ وَالْخَلِيفَةَ الْأَعْظَمَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْمَخْذُولَةَ مِنَ الرَّافِضَةِ يُعَادُونَ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَيُبْغِضُونَهُمْ وَيَسُبُّونَهُمْ. عِياذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُقُولَهُمْ مَعْكُوسَةٌ وَقُلُوبَهُمْ مَنْكُوسَةٌ، فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ إِذْ يَسُبُّونَ مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؟ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَرَضُّونَ عَمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَسُبُّونَ مَنْ سَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُوَالُونَ مَنْ يُوَالِي اللَّهَ وَيُعَادُونَ مَنْ يُعَادِي اللَّهَ وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدئون، وَلِهَذَا هُمْ حِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ.
[سورة التوبة (9) : آية 101]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)
يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِمَّنْ حَوْلَ المدينة منافقون، وَفِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا مُنَافِقُونَ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أَيْ مَرَنُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ شَيْطَانٌ مَرِيدٌ، وَمَارِدٌ وَيُقَالُ تَمَرَّدَ فُلَانٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ عَتَا وَتَجَبَّرَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 453.
(2) تفسير الطبري 6/ 454.
(3) تفسير الطبري 6/ 455.(4/178)
[مُحَمَّدٍ: 30] لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّمِ فِيهِمْ بِصِفَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، لَا أَنَّهُ يَعْرِفُ جَمِيعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي بَعْضِ مَنْ يُخَالِطُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ نِفَاقًا وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ صَبَاحًا وَمَسَاءً.
وَشَاهِدُ هَذَا بِالصِّحَّةِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَجْرٌ بِمَكَّةَ فَقَالَ: «لَتَأْتِيَنَّكُمْ أُجُورُكُمْ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي جُحْرِ ثَعْلَبٍ» وَأَصْغَى إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ فَقَالَ «إِنَّ فِي أَصْحَابِي مُنَافِقِينَ» وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يَبُوحُ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْجِفِينَ مِنَ الْكَلَامِ بِمَا لَا صِحَّةَ لَهُ وَمِنْ مِثْلِهِمْ صَدَرَ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أنه صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ حُذَيْفَةَ بِأَعْيَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ مُنَافِقًا، وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ كُلِّهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عُمَرَ الْبَيْرُوتِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا ابن جابر، حدثني شيخ ببيروت يُكَنَّى أَبَا عُمَرَ، أَظُنُّهُ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ حَرْمَلَةُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْإِيمَانُ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ، وَالنِّفَاقُ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى قَلْبِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَارْزُقْهُ حُبِّي وَحَبَّ مَنْ يُحِبُّنِي، وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إِلَى خَيْرٍ» فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ لِي أَصْحَابٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَكُنْتُ رَأْسًا فِيهِمْ أَفَلَا آتِيكَ بِهِمْ؟ قَالَ: «من أتانا استغفرنا له، ومن أصر فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِ، وَلَا تَخْرِقَنَّ عَلَى أَحَدٍ سِتْرًا» ، قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاغَنْدِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَكَلَّفُونَ عِلْمَ النَّاسِ، فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَفُلَانٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا سَأَلْتَ أَحَدَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ لَا أَدْرِي لَعَمْرِي أَنْتَ بِنَفْسِكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَلَقَدْ تَكَلَّفْتَ شَيْئًا مَا تَكَلَّفَهُ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَكَ، قَالَ نبي الله نوح عليه السلام وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وقال نبي الله شعيب عليه السلام بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وقال اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ «2» .
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «اخْرُجْ يَا فُلَانُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، وَاخْرُجْ يَا فُلَانُ إنك منافق» فأخرج من المسجد
__________
(1) المسند 4/ 82، 83، 84.
(2) تفسير الطبري 6/ 456.(4/179)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
نَاسًا مِنْهُمْ فَضَحَهُمْ، فَجَاءَ عُمَرُ وَهُمْ يُخْرَجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَبَأَ مِنْهُمْ حَيَاءً أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةِ وَظَنَّ أَنَّ النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا، وَاخْتَبَئُوا هُمْ مِنْ عُمَرَ ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِأَمْرِهِمْ، فَجَاءَ عُمَرُ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ لَمْ يُصَلُّوا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ قَدْ فَضَحَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهَذَا الْعَذَابُ الْأَوَّلُ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالْعَذَابُ الثَّانِي عَذَابُ الْقَبْرِ «1» ، وَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَحْوَ هَذَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ في قوله سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ يعني القتل والسبي، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ بِالْجُوعِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ «2» ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم النَّارِ «3» ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٌ فِي الْقَبْرِ «4» ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: أَمَّا عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا فَالْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ، وقرأ قوله تَعَالَى فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَهَذِهِ الْمَصَائِبُ لَهُمْ عَذَابٌ وَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَجْرٌ، وَعَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ قَالَ النَّارُ «5» ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قَالَ: هُوَ فِيمَا بَلَغَنِي مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْظِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ حِسْبَةٍ، ثُمَّ عَذَابُهُمْ فِي الْقُبُورِ إِذَا صَارُوا إِلَيْهَا، ثُمَّ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُرَدُّونَ إِلَيْهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَالْخَلَدِ فِيهِ «6» ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ عَذَابُ الدنيا وعذاب القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ رجلا من المنافقين، فقال ستة منهم تكفيهم الدُّبَيْلَةُ سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يَأْخُذُ فِي كَتِفِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى صَدْرِهِ، وَسِتَّةٌ يَمُوتُونَ مَوْتًا، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا مَاتَ رَجُلٌ مِمَّنْ يُرَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، نَظَرَ إِلَى حُذَيْفَةَ فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَذُكِرَ لنا أن عمر قال لحذيفة أنشدك الله أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قَالَ لَا وَلَا أُومِنُ مِنْهَا أحدا بعدك.
[سورة التوبة (9) : آية 102]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْغَزَاةِ رَغْبَةً عَنْهَا وَتَكْذِيبًا وَشَكًّا، شَرَعَ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا عَنِ الْجِهَادِ كَسَلًا وَمَيْلًا إِلَى الرَّاحَةِ مَعَ إِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِالْحَقِّ، فَقَالَ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أَيْ أَقَرُّوا بِهَا وَاعْتَرَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وبين ربهم، ولهم أعمال
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 457.
(2) تفسير الطبري 6/ 457.
(3) تفسير الطبري 6/ 458.
(4) تفسير الطبري 6/ 458.
(5) تفسير الطبري 6/ 458.
(6) تفسير الطبري 6/ 458.(4/180)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
أُخَرُ صَالِحَةٌ خَلَطُوا هَذِهِ بِتِلْكَ فَهَؤُلَاءِ تَحْتَ عَفْوِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ إِلَّا أَنَّهَا عَامَّةٌ في كل المذنبين الخطائين الْمُخْلِطِينَ الْمُتَلَوِّثِينَ، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ:
إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ لَمَّا قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّهُ الذَّبْحُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ «1» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وجماعة من أصحابه تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَبُو لُبَابَةَ وَخَمْسَةٌ مَعَهُ، وَقِيلَ وَسَبْعَةٌ مَعَهُ، وَقِيلَ وَتِسْعَةٌ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غَزْوَتِهِ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ وَحَلَفُوا لَا يَحُلُّهُمْ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أطلقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَفَا عَنْهُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا «أَتَانِي الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ وَلَبِنٍ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، قالا وأما الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سيئا تجاوز الله عنهم» هكذا رواه البخاري مختصرا في تفسير هذه الآية.
[سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 104]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ بِهَا وَهَذَا عَامٌّ وَإِنْ أَعَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمِيرَ فِي أَمْوَالِهِمْ إِلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَخَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَلِهَذَا اعْتَقَدَ بَعْضُ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَنَّ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا كَانَ هذا خاصا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّأْوِيلَ وَالْفَهْمَ الْفَاسِدَ، أبو بكر الصديق وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَدَّوُا الزَّكَاةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: والله لو منعوني عناقا- وفي رواية عقالا- كانوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ «3» .
وَقَوْلُهُ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أَيْ ادْعُ لَهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِصَدَقَةِ قَوْمٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ فَأَتَاهُ أبي بصدقته فقال: «اللهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 462.
(2) كتاب التفسير، تفسير سورة 9، باب 10.
(3) أخرجه البخاري في الاعتصام باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 32. [.....](4/181)
صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» «1» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي، فَقَالَ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِكِ» «2» .
وقوله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ صَلَوَاتِكَ عَلَى الْجَمْعِ وَآخَرُونَ قَرَءُوا إِنَّ صَلَاتَكَ عَلَى الْإِفْرَادِ سَكَنٌ لَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحْمَةٌ لَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَقَارٌ، وَقَوْلُهُ:
وَاللَّهُ سَمِيعٌ أَيْ لِدُعَائِكَ عَلِيمٌ أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْكَ وَمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بن عتبة عن ابن حذيفة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا لِرَجُلٍ أَصَابَتْهُ وَأَصَابَتْ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنٍ لِحُذَيْفَةَ، قَالَ مِسْعَرٌ: وَقَدْ ذَكَرَهُ مَرَّةً عَنْ حُذَيْفَةَ إِنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُدْرِكُ الرَّجُلَ وَوَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ «4» .
وَقَوْلُهُ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ اللتين كل منهما يَحُطُّ الذُّنُوبَ وَيُمَحِّصُهَا وَيَمْحَقُهَا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبِ حَلَالٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ مِثْلَ أُحُدٍ، كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَوَكِيعٌ كِلَاهُمَا عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتكون مِثْلَ أُحُدٍ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «5» [الْبَقَرَةِ:
276] .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ «6» .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّاعِرِ السَّكْسَكِيِّ الدِّمَشْقِيِّ وَأَصْلُهُ حِمْصِيٌّ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ، رَوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ، وَحَكَى عَنْهُ حَوْشَبُ بْنُ سَيْفٍ السَّكْسَكِيُّ الْحِمْصِيُّ قَالَ: غَزَا النَّاسُ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 176.
(2) أخرجه أبو داود في الوتر باب 28.
(3) المسند 5/ 385، 386.
(4) المسند 5/ 400.
(5) انظر تفسير الطبري 6/ 466.
(6) تفسير الطبري 6/ 466.(4/182)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
الْوَلِيدِ، فَغَلَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِائَةَ دِينَارٍ رُومِيَّةٍ. فَلَمَّا قَفَلَ الْجَيْشُ نَدِمَ وَأَتَى الْأَمِيرَ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ وَقَالَ: قَدْ تَفَرَّقَ النَّاسَ وَلَنْ أَقْبَلَهَا مِنْكَ حَتَّى تَأْتِيَ اللَّهَ بها يوم القيامة، فجعل الرجل يستقري الصَّحَابَةَ فَيَقُولُونَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ ذَهَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ لِيَقْبَلَهَا مِنْهُ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَسْتَرْجِعُ، فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّاعِرِ السَّكْسَكِيِّ فَقَالَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَهُ، فَقَالَ له: أو مطيعي أَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ اذْهَبْ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقُلْ لَهُ اقْبَلْ مِنِّي خُمْسَكَ فَادْفَعْ إِلَيْهِ عشرين دينارا وانظر إلى الثَّمَانِينَ الْبَاقِيَةَ فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِأَسْمَائِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأَنْ أَكُونَ أَفْتَيْتُهُ بِهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ، أَحْسَنَ الرجل.
[سورة التوبة (9) : آية 105]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا وَعِيدٌ يَعْنِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُخَالِفِينَ أَوَامِرَهُ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: 9] وَقَالَ: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات: 10] وقد يظهر الله تعالى ذَلِكَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مرفوعا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ أَعْمَالَ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْعَشَائِرِ فِي الْبَرْزَخِ، كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقْرِبَائِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ فِي قُبُورِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِكَ» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : أنبأنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَمَّنْ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «3» : قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عمل امرئ مسلم فَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ شَبِيهٌ بِهَذَا، قَالَ الإمام
__________
(1) المسند 3/ 28.
(2) المسند 3/ 164، 165.
(3) كتاب الشهادات باب 26.(4/183)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بعمل صالح لو مات عليه دخل الْجَنَّةَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فيعمل عملا صالحا، وإذا أراد الله بعبده خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثم يقبضه عليه» تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ، وَهُمْ مَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَعَدُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَعَدَ كَسَلًا وَمَيْلًا إِلَى الدَّعَةِ وَالْحِفْظِ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ وَالظِّلَالِ لَا شَكًّا وَنِفَاقًا، فَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ، فَنَزَلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ وَأَرْجَى هَؤُلَاءِ عَنِ التَّوْبَةِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الْآتِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 117] الآية، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة: 118] الآية، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُهُ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَيْ هُمْ تَحْتَ عَفْوِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَفْوَ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 108]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَرَأَ عِلْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ فِيهِ عِبَادَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَهُ شَرَفٌ فِي الْخَزْرَجِ كَبِيرٌ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَصَارَتْ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ وَأَظْهَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِقَ اللَّعِينُ أَبُو عَامِرٍ بِرِيقِهِ وَبَارَزَ بِالْعَدَاوَةِ وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مكة من مشركي قريش، يمالئهم
__________
(1) المسند 3/ 120.(4/184)
عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ ما كان وامتحنهم الله عز وجل، وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
وَكَانَ هَذَا الْفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَوَقَعَ فِي إِحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصيب ذلك اليوم فجرح وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى وَشُجَّ رَأْسُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَبُو عَامِرٍ فِي أَوَّلِ الْمُبَارَزَةِ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَخَاطَبَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى نَصْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا كَلَامَهُ قَالُوا: لَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وَسَبُّوهُ فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَاهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ فِرَارِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وَتَمَرَّدَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُوتَ بَعِيدًا طَرِيدًا فَنَالَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ أُحُدٍ، وَرَأَى أَمْرَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي ارْتِفَاعٍ وَظُهُورٍ، ذَهَبَ إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَدَهُ وَمَنَّاهُ وَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ أَنَّهُ سَيَقَدَمُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَغْلِبُهُ وَيَرُدُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعْقِلًا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فِيهِ مَنْ يَقْدَمُ مِنْ عِنْدِهِ لِأَدَاءِ كُتُبِهِ وَيَكُونُ مَرْصَدًا لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ فَيُصَلِّيَ في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فِيهِ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِ الْعِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَالَ: «إِنَّا عَلَى سَفَرٍ وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَلَمَّا قَفَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ تَبُوكَ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ، نَزَلَ عليه جبريل بِخَبَرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمَا اعْتَمَدَهُ بَانُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ مسجد قباء الذي أسس من أول يوم عَلَى التَّقْوَى. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ مَنْ هَدَمَهُ قَبْلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، هم أناس من الأنصار بنوا مَسْجِدًا.
فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ: ابْنُوا مَسْجِدًا وَاسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَآتِي بجنود مِنَ الرُّومِ وَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقالوا له: قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا فَنُحِبُّ أَنْ تُصَلِيَ فِيهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بِالْبَرَكَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً إلى قوله: الظَّالِمِينَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عمر بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي مِنْ تَبُوكَ حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ(4/185)
يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصِلِّيَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: «إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ» أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «ولو قَدْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ» .
فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ أَتَاهُ خَبَرُ الْمَسْجِدِ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ أَوْ أَخَاهُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ أَخَا بَلْعِجْلَانَ فَقَالَ: «انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ» فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمَ. فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي، فَدَخَلَ أَهْلَهُ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا ثُمَّ خَرَجَا يَشْتَدَّانِ حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ، فَحَرَقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا: خُذَامُ بْنُ خَالِدٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشِّقَاقِ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وموالي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بن الأزعر مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مِنْ بَنِي عمرو بن عوف، وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة ونبتل الحارث وهم من بني ضبيعة ومخرج، وهم مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُوَ من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت، وموالي بَنِي أُمَيَّةَ رَهْطُ أَبِي لَبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ.
وَقَوْلُهُ وَلَيَحْلِفُنَّ أَيْ الَّذِينَ بَنَوْهُ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي ما أردنا بِبُنْيَانِهِ إِلَّا خَيْرًا وَرِفْقًا بِالنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَيْ فِيمَا قَصَدُوا وَفِيمَا نَوَوْا، وَإِنَّمَا بَنُوهُ ضِرَارًا لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ وَكَفْرًا بِاللَّهِ وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الرَّاهِبُ لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً نهي له صلى الله عليه وسلم وَالْأُمَّةُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنْ يَقُومَ فِيهِ أَيْ يُصَلِّي فِيهِ أَبَدًا. ثُمَّ حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنيانه عَلَى التَّقْوَى، وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَجَمْعًا لِكَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْقِلًا وَمَوْئِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِضِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ» «1» ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا «2» ، وفي
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في الصلاة باب 30.
(2) أخرجه مسلم في الحج حديث 515، وأحمد في المسند 2/ 5.(4/186)
الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَنَاهُ وَأَسَّسَهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ وَنُزُولِهِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَ لَهُ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِيَ مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا- قَالَ- كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الْآيَةُ» «1» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ فَقَالَ: «مَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ من الغائط إلا وغسل فَرْجَهُ أَوْ قَالَ مَقْعَدَتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُوَ هَذَا» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا شُرَحْبِيلُ عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ، فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَهَّرُونَ بِهِ؟» فَقَالُوا:
وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ شَيْئًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَدَنِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ: «مَا هَذَا الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا؟» الآية، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَغْسِلُ الْأَدْبَارَ بِالْمَاءِ «3» ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأسدي، حدثنا محمد بن سعد عن إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ قَالَ كَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «5» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ يَعْنِي ابْنَ مِغْوَلٍ، سَمِعْتُ سَيَّارًا أَبَا الْحَكَمِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي قُبَاءَ، فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ خَيْرًا أَفَلَا
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطهارة باب 23، والترمذي في تفسير سورة 9، باب 15، وابن ماجة في الطهارة باب 28.
(2) المسند 3/ 422. [.....]
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 477.
(4) تفسير الطبري 6/ 476.
(5) المسند 6/ 6.(4/187)
تخبروني؟» يعني قوله فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ورواه عبد الرزاق عن معمر الزهري عن عروة بن الزبير، وقال عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ هَذَا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ قَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ «1» .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فَقَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ فَقَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يوم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا لَيْثٌ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ عَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُوَ مَسْجِدِي» «5» وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ مسلم كما سيأتي.
__________
(1) المسند 5/ 116.
(2) المسند 5/ 331.
(3) المسند 3/ 89.
(4) المسند 3/ 7.
(5) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 9، باب 14، والنسائي في المساجد باب 8.(4/188)
طريق أخرى قال الإمام أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْعَمْرِيُّ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ» لَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال في ذلك يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ.
طَرِيقٌ أُخْرَى قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الْخَرَّاطُ الْمَدَنِيُّ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ فَقُلْتُ كَيْفَ سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ فَقَالَ إني أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي بَيْتٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هذا» ثم قال سَمِعْتُ أَبَاكَ يَذْكُرُهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ «3» مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ بِهِ، وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْقَدِيمَةِ الْمُؤَسَّسَةِ مِنْ أَوَّلِ بِنَائِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ مَعَ الجماعة الصَّالِحِينَ وَالْعِبَادِ الْعَامِلِينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ مُلَابَسَةِ الْقَاذُورَاتِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، سَمِعْتُ شَبِيبًا أَبَا رَوْحٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بهم الصبح فقرأ الروم فيها فَأَوْهَمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّهُ يَلْبَسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ إِنْ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ» ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ شَبِيبٍ أَبِي رَوْحٍ مِنْ ذِي الْكَلَاعِ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِكْمَالَ الطَّهَارَةِ يُسَهِّلُ الْقِيَامَ فِي الْعِبَادَةِ وَيُعِينُ عَلَى إِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا وَالْقِيَامِ بِمَشْرُوعَاتِهَا.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ إِنَّ الطَّهُورَ بِالْمَاءِ لَحَسَنٌ ولكنهم
__________
(1) المسند 3/ 23.
(2) تفسير الطبري 6/ 473، 474.
(3) كتاب الحج الحديث 514.
(4) المسند 3/ 471، 472.(4/189)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
الْمُطَّهِّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ التَّوْبَةُ مِنَ الذنوب والتطهر مِنَ الشِّرْكِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ قُبَاءٍ: «قَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ فَمَاذَا تَصْنَعُونَ؟» فَقَالُوا نَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أحمد بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ أَبِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فَسَأَلَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا إنا نتبع الحجارة بالماء رواه البزار، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى ابْنِهِ، (قُلْتُ) وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ كَثِيرٌ مِنَ المحدثين المتأخرين أو كلهم، والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 109 الى 110]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
يَقُولُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ ورسوله من قبل، فإنما يبني هَؤُلَاءِ بُنْيَانَهُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، أَيْ طَرَفِ حَفِيرَةٍ، مِثَالُهُ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ضِرَارًا يَخْرُجُ مِنْهُ الدخان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا حَفَرُوا فَوَجَدُوا الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ «2» ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ خَلَفُ بْنُ يَاسِينَ الْكُوفِيُّ: رَأَيْتُ مَسْجِدَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَفِيهِ جَحَرٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الدُّخَانُ وَهُوَ الْيَوْمُ مَزْبَلَةٌ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» رَحِمَهُ الله.
وقوله تعالى: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ شَكًّا وَنِفَاقًا، بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ أَوْرَثَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أُشْرِبَ عَابِدُو الْعِجْلِ حُبَّهُ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أَيْ بِمَوْتِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالضَّحَّاكُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ أَيْ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حَكِيمٌ فِي مُجَازَاتِهِمْ عَنْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 479.
(2) تفسير الطبري 6/ 479. [.....]
(3) تفسير الطبري 6/ 479.(4/190)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
[سورة التوبة (9) : آية 111]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ عَاوَضَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِذْ بَذَلُوهَا فِي سَبِيلِهِ بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ قَبِلَ الْعِوَضَ عَمَّا يَمْلِكُهُ بِمَا تَفَضَّلَ به على عبيده الْمُطِيعِينَ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: بَايَعَهُمْ وَاللَّهِ فَأَغْلَى ثَمَنَهُمْ. وَقَالَ شَمِرُ بْنُ عَطِيَّةَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، وَفَّى بِهَا أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ «1» . وَلِهَذَا يُقَالُ مَنْ حَمَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَايَعَ اللَّهَ أَيْ قَبِلَ هَذَا الْعَقْدَ وَوَفَّى بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ «أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ» قَالُوا فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ «الْجَنَّةُ» قَالُوا:
رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ «2» .
الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أَيْ سَوَاءٌ قَتَلُوا أَوْ قُتِلُوا، أَوِ اجْتَمَعَ لَهُمْ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي بِأَنْ تَوَفَّاهُ أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» «3» .
وَقَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْوَعْدِ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ فِي كُتُبِهِ الْكِبَارِ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلُ الْمُنَزَّلُ عَلَى عِيسَى، وَالْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فإنه لا يخلف الميعاد. هذا كقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النِّسَاءِ: 87] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاءِ: 122] وَلِهَذَا قَالَ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ فَلْيَسْتَبْشِرْ مَنْ قَامَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْعَقْدِ وَوَفَى بِهَذَا الْعَهْدِ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ والنعيم المقيم.
[سورة التوبة (9) : آية 112]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 482.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 482.
(3) أخرجه البخاري في الخمس باب 8، ومسلم في الإمارة حديث 104.(4/191)
هَذَا نَعْتُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْخِلَالِ الْجَلِيلَةِ التَّائِبُونَ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ الْعابِدُونَ أَيْ الْقَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُحَافِظِينَ عَلَيْهَا وَهِيَ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ، فَمِنْ أَخَصِّ الْأَقْوَالِ الْحَمْدُ، فَلِهَذَا قَالَ: الْحامِدُونَ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصِّيَامُ وَهُوَ تَرْكُ الْمَلَاذِّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالسِّيَاحَةِ هَاهُنَا، وَلِهَذَا قَالَ: السَّائِحُونَ كَمَا وَصَفَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
سائِحاتٍ [التَّحْرِيمِ: 5] أَيْ صَائِمَاتٍ، وَكَذَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَهُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَنْفَعُونَ خَلْقَ اللَّهِ وَيُرْشِدُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَيَجِبُ تَرْكُهُ، وَهُوَ حِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، فَقَامُوا بِعِبَادَةِ الْحَقِّ وَنُصْحِ الْخُلُقِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَالسَّعَادَةُ كُلُّ السَّعَادَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِ.
[بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيَاحَةِ الصِّيَامُ] قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ السَّائِحُونَ الصَّائِمُونَ «1» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ السِّيَاحَةَ هُمُ الصَّائِمُونَ «2» ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِحِينَ الصَّائِمُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:
السَّائِحُونَ الصَّائِمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الْعَبْدِيُّ: السَّائِحُونَ الَّذِينَ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ نَحْوَ هَذَا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «السائحون هم الصَّائِمُونَ» وَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّائِحِينَ، فَقَالَ «هُمُ الصَّائِمُونَ» وهذا مرسل جيد وهذا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَشْهَرُهَا.
وَجَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّيَاحَةَ الْجِهَادُ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «سياحة أمتي الجهاد في
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 484.
(2) تفسير الطبري 6/ 484.
(3) تفسير الطبري 6/ 486.
(4) تفسير الطبري 6/ 484.(4/192)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
سَبِيلِ اللَّهِ» «1» وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ أَنَّ السِّيَاحَةَ ذُكِرَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْدَلَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالتَّكْبِيرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ» وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السِّيَاحَةِ مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بَعْضُ مَنْ يَتَعَبَّدُ بِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّفَرُّدِ فِي شَوَاهِقِ الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْبَرَارِي، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ وَالزَّلَازِلِ فِي الدِّينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» «2» وَقَالَ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قَالَ الْقَائِمُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وعنه رواية الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قَالَ: لِفَرَائِضِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ القائمون على أمر الله.
[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 114]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزَّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ «أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عبد المطلب؟ فقال: أنا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ قَالَ وَنَزَلَتْ فِيهِ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «4» [القصص: 56] أخرجاه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 6.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان باب 12، والفتن باب 14، والرقاق باب 34، وأبو داود في الفتن باب 4، والنسائي في الإيمان باب 30، وابن ماجة في الفتن باب 13، ومالك في الاستئذان حديث 16، وأحمد في المسند 3/ 6، 30، 43، 57.
(3) المسند 5/ 533.
(4) أخرجه البخاري في تفسير سورة 9، باب 16، ومسلم في الإيمان حديث 39.(4/193)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال: أو لم يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، قَالَ لَمَّا مَاتَ فَلَا أَدْرِي، قَالَهُ سُفْيَانُ أَوْ قَالَهُ إِسْرَائِيلُ أَوْ هُوَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا مَاتَ، (قُلْتُ) : هَذَا ثَابِتٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا زُبَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيُّ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في سفر، فنزل بنا ونحن قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفَدَاهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ؟ قَالَ «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَدَمِعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا لِتُذَكِّرَكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرًا. وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أَتَى رَسْمَ قَبْرٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يُخَاطِبُ ثُمَّ قَامَ مُسْتَعْبِرًا، فقلنا يا رسول الله إنا رأينا مَا صَنَعْتَ. قَالَ: «إِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي فَأَذِنَ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي» فَمَا رُئِيَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَئِذٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ فَاتَّبَعْنَاهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا، فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ بكى فب كينا لِبُكَائِهِ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَدَعَاهُ ثُمَّ دَعَانَا، فَقَالَ «مَا أَبْكَاكُمْ؟» فَقُلْنَا بَكَيْنَا لِبُكَائِكَ. قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرَ آمِنَةَ، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي» «4» ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَرِيبًا مِنْهُ، وَفِيهِ «وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَأَنْزَلَ علي ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تذكر الآخرة» .
__________
(1) المسند 1/ 99.
(2) المسند 5/ 355. [.....]
(3) تفسير الطبري 6/ 489.
(4) أخرجه السيوطي في الدر المنثور 3/ 507.(4/194)
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُنِيبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَاعْتَمَرَ، فَلَمَّا هَبَطَ مِنْ ثَنِيَّةِ عُسْفَانَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنِ اسْتَنِدُوا إِلَى الْعَقَبَةِ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكُمْ، فَذَهَبَ فَنَزَلَ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ فَنَاجَى رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَكَى فَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ وَبَكَى هَؤُلَاءِ لِبُكَائِهِ، وَقَالُوا مَا بَكَى نَبِيُّ اللَّهِ بِهَذَا الْمَكَانِ إِلَّا وَقَدْ أحدث الله في أمته شيئا لَا تُطِيقُهُ، فَلَمَّا بَكَى هَؤُلَاءِ قَامَ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكُمْ؟» قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَكَيْنَا لِبُكَائِكَ، فَقُلْنَا لَعَلَّهُ أُحْدِثَ فِي أُمَّتِكَ شَيْءٌ لَا تُطِيقُهُ، قَالَ: «لَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُ، وَلَكِنْ نَزَلْتُ عَلَى قَبْرِ أُمِّي فسألت اللَّهَ أَنْ يَأْذَنَ لِي فِي شَفَاعَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَأْذَنَ لِي فَرَحِمْتُهَا وَهِيَ أُمِّي فَبَكَيْتُ، ثُمَّ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ فَتَبَرَّأْ أَنْتَ مِنْ أُمِّكَ كَمَا تَبَرَّأَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ، فَرَحِمْتُهَا وَهِيَ أُمِّي وَدَعَوْتُ رَبِّي أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا فَرَفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ وَأَبَى أَنْ يرفع عنهم اثنتين، ودعوت رَبِّي أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْغَرَقَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْقَتْلَ وَالْهَرْجَ» وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى قَبْرِ أُمِّهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَدْفُونَةً تَحْتَ كَدَاءٍ وَكَانَتْ عُسْفَانُ لَهُمْ «1» ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ.
وَأَغْرَبُ مِنْهُ وَأَشَدُّ نَكَارَةً مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ بِسَنَدٍ مَجْهُولٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ فِيهِ قِصَّةُ، أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أُمَّهُ فَآمَنَتْ ثُمَّ عَادَتْ، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ بِسَنَدٍ فِيهِ جَمَاعَةٌ مَجْهُولُونَ: أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا لَهُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَآمَنَا بِهِ. وَقَدْ قال الحافظ ابْنِ دِحْيَةَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ كَمَا رَجَعَتِ الشَّمْسُ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا، فَصَلَّى عَلِيٌّ الْعَصْرَ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ يَعْنِي حَدِيثُ الشَّمْسِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَلَيْسَ إِحْيَاؤُهُمَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، قَالَ وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ فَآمَنَ بِهِ، (قُلْتُ) وَهَذَا كُلُّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَإِذَا صَحَّ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لأمه فنهاه الله عز وجل عن ذلك، فقال «إن إبراهيم خليل الله قد اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «2» الْآيَةَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لهم حتى نزلت هذه الآية، فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم
__________
(1) انظر الدر المنثور 3/ 506، 507، وأضاف: وبها ولد النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 489.(4/195)
أَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الآية.
وقال قتادة في الْآيَةِ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْجِوَارَ وَيَصِلُ الْأَرْحَامَ وَيَفُكُّ الْعَانِي وَيُوفِي بِالذِّمَمِ أَفَلَا نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ لِأَبِي كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ» فَأَنْزَلَ الله مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ حتى بلغ قوله الْجَحِيمِ ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام، فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الآية، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: «قد أوحى الله إِلَيَّ كَلِمَاتٌ فَدَخَلْنَ فِي أُذُنِي وَوَقَرْنَ فِي قلبي: أمرت أن لا أَسْتَغْفِرَ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا، وَمَنْ أَعْطَى فَضْلَ مَالِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكَ فَهُوَ شَرٌّ لَهُ، وَلَا يَلُومُ اللَّهُ عَلَى كَفَافٍ» «1» .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وَلَهُ ابْنٌ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ وَيَدْفِنَهُ وَيَدْعُوَ لَهُ بِالصَّلَاحِ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ وَكَلَهُ إِلَى شَأْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ- إلى قوله- تَبَرَّأَ مِنْهُ لم يدع «2» . وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وغيره عن علي رضي الله عنه، لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ:
«اذْهَبْ فَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تأتيني» «3» فذكر تمام الحديث، وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّتْ بِهِ جنازة عمه أبي طالب قال: «وصلتك رحمة يَا عَمِّ» وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَلَوْ كَانَتْ حَبَشِيَّةً حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، لِأَنِّي لَمْ أَسْمَعِ اللَّهَ حَجَبَ الصَّلَاةَ إلا عن الْمُشْرِكِينَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «4» ، عَنِ ابْنِ وَكِيعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ زَامَلٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا اسْتَغْفَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَلِأُمِّهِ، قُلْتُ وَلِأَبِيهِ. قَالَ لَا. قَالَ إِنَّ أَبِي مَاتَ مُشْرِكًا، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَالَ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسَعِيدُ بن جبير: إنه يتبرأ منه يوم القيامة حتى يلقى أباه، وعلى وجه أبيه القترة والغبرة، فَيَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنِّي كُنْتُ أَعْصِيكَ وَإِنِّي اليوم لا أعصيك، فيقول أي رب ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 489.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 490، 491.
(3) أخرجه أبو داود في الجنائز باب 66، والنسائي في الطهارة باب 127، والجنائز باب 84، وأحمد في المسند 1/ 97، 103، 130، 131.
(4) تفسير الطبري 6/ 491.(4/196)
أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ، فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَا وَرَاءَكَ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ «1» ، أَيْ قد مسخ ضبعا ثُمَّ يُسْحَبُ بِقَوَائِمِهِ وَيُلْقَى فِي النَّارِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ الْأَوَّاهُ الدَّعَّاءُ، وَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ منهال، حدثني عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامٍ، حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ قَالَ:
رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْأَوَّاهُ؟ قَالَ: «الْمُتَضَرِّعُ» قَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عبد الحميد بن بهرام به، ولفظه قال الأواه الْمُتَضَرِّعُ الدَّعَّاءُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ مسلم البطين عن أبي الغدير، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْأَوَّاهِ فَقَالَ هُوَ الرَّحِيمُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَيْسَرَةَ عمر بن شرحبيل والحسن البصري وقتادة وغيرهما أي الرَّحِيمُ أَيْ بِعِبَادِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْأَوَّاهُ الْمُوقِنُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْمُوقِنُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَمُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَوَّاهُ الْمُؤْمِنُ، زاد علي بن أبي طلحة عنه: هو الْمُؤْمِنُ التَّوَّابُ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ هُوَ الْمُؤْمِنُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ هُوَ المؤمن بلسان الحبشة.
وقال الإمام أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ذُو الْبِجَادَيْنِ «إِنَّهُ أَوَّاهٌ» وَذَلِكَ أَنَّهُ رجل كان إذا ذكر الله في القرآن رفع صوته بالدعاء، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ: الْأَوَّاهُ الْمُسَبِّحُ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا يُحَافِظُ عَلَى سُبْحَةِ الضحى إلا الأواه، وقال شفي بن مانع عن أبي أَيُّوبَ، الْأَوَّاهُ الَّذِي إِذَا ذَكَرَ خَطَايَاهُ اسْتَغْفَرَ مِنْهَا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْأَوَّاهُ الْحَفِيظُ الْوَجِلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ سِرًّا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ سِرًّا، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ الْحَسَنِ بن مسلم بن بيان، أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ وَيُسَبِّحُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال «إنه أواه» .
__________
(1) الذيخ، بكسر الذال: ذكر الضباع، وذيخ متلطخ: أي متلطخ برجيعه أو بالطين.
(2) تفسير الطبري 6/ 498.
(3) المسند 4/ 159.
(4) تفسير الطبري 6/ 499.
(5) تفسير الطبري 6/ 497.(4/197)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ هانئ، حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَنَ مَيِّتًا فَقَالَ: «رَحِمَكَ اللَّهُ إِنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا» يَعْنِي تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ، وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي يُونُسَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ وَكَانَ أَصْلُهُ رُومِيًّا وَكَانَ قَاصًّا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: أَوِّهِ أَوِّهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ أَوَّاهٌ» قَالَ: فَخَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْفِنُ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَيْلًا وَمَعَهُ الْمِصْبَاحُ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابن جرير «1» .
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: سمعت إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ قَالَ كَانَ إِذَا ذَكَرَ النَّارَ قَالَ:
أَوِّهِ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ قال: فقيه. قال الإمام أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الدَّعَّاءُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ كَثِيرَ الدُّعَاءِ حَلِيمًا عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَأَنَالَهُ مَكْرُوهًا، وَلِهَذَا اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ مع شدة أذاه له فِي قَوْلِهِ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَمَ: 46] فَحَلُمَ عَنْهُ مَعَ أَذَاهُ لَهُ وَدَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 116]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَحُكْمِهِ العادل: إنه لا يضل قوما بعد إبلاغ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت:
17] الآية، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ الآية، قَالَ بَيَانُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه لهم من معصيته وطاعته عَامَّةً، فَافْعَلُوا أَوْ ذَرُوا «3» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَقْضِيَ عَلَيْكُمْ فِي اسْتِغْفَارِكُمْ لِمَوْتَاكُمُ الْمُشْرِكِينَ بِالضَّلَالِ بَعْدَ إِذْ رَزَقَكُمُ الْهِدَايَةَ وَوَفَّقَكُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَتَتْرُكُوا، فَأَمَّا قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهي عنه فلم تضيعوا نهيه إلى ما نهاكم
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 498. [.....]
(2) تفسير الطبري 6/ 499.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 500.
(4) تفسير الطبري 6/ 500.(4/198)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
عنه فإنه لا يحكم عليه بِالضَّلَالِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ مِنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ وَلَمْ يُنْهَ فَغَيْرُ كَائِنٍ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، هَذَا تحريض من الله تعالى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُلُوكِ الْكُفْرِ، وأن يثقوا بنصر الله مالك السموات والأرض ولا يَرْهَبُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا نَصِيرَ لَهُمْ سِوَاهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي دُلَامَةَ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟» قَالُوا مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ وَمَا فِيهَا مِنْ مَوْضِعِ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ» وَقَالَ كَعْبُ الأحبار: ما من موضع خرم إِبْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا يُرْفَعُ عِلْمُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَإِنَّ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ لَأَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ التُّرَابِ، وَإِنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ كَعْبِ أَحَدِهِمْ إِلَى مُخِّهِ مسيرة مائة عام.
[سورة التوبة (9) : آية 117]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهَا فِي شِدَّةٍ مِنَ الْأَمْرِ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ وَحَرٍّ شَدِيدٍ وَعُسْرٍ مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ، قَالَ قَتَادَةُ: خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْدِ، أَصَابَهُمْ فِيهَا جَهْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمْ يَمُصُّهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَمُصُّهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَقْفَلَهُمْ مِنْ غَزْوَتِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَأْنِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فادع لنا، فقال «تُحِبُّ ذَلِكَ؟» قَالَ نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت، فَمَلَؤُوا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نجدها جاوزت العسكر.
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 502.(4/199)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» فِي قَوْلِهِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي من النفقة والطهر وَالزَّادِ وَالْمَاءِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَيْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَشُكُّ في دين الرسول صلى الله عليه وسلم ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: ثُمَّ رَزَقَهُمُ الْإِنَابَةَ إِلَى رَبِّهِمْ وَالرُّجُوعَ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 118 الى 119]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بن مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ غزاها قط إلا في غزاة تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة حين تواثقنا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا وَأَشْهَرَ.
وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى «3» بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز «4» ، واستقبل عدوا كثيرا فخلى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ وَجْهَهُ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حافظ- يريد الديوان-.
قال كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظن أن ذلك سيخفى عليه مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزَاةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ والظلال وأنا إليها
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 502.
(2) المسند 3/ 456- 459.
(3) ورّى بغيرها: أي سترها، وأوهم أنه يريد غيرها.
(4) المفاوز: بريه وصحراء قليلة الماء.(4/200)
أَصْعَرُ «1» ، فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون معه، فطفقت أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، فَأَقُولُ لِنَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى شَمَّرَ بِالنَّاسِ الْجَدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا وقلت أتجهز بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُ فَغَدَوْتُ بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وَلَيْتَ أَنِّي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحزنني أني لا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالك» فقال رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: حَبَسَهُ يَا رَسُولَ الله برداه والنظر في عطفيه.
فقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قد توجه قافلا من تبوك، حضرني بثي وطفقت أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ غدا وأستعين على ذلك بكل ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَمْ أَنْجُ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فصلى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُتَخَلِّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ لِي «تَعَالَ» فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ، لَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسْخِطُكَ عَلِيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ بِصِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَفْرَغُ وَلَا أَيْسَرُ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فيك» فقمت وقام إلى رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هذا ولقد عجزت إلا أن تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ مِنْ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ، قال: فو الله مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فأكذب نفسي،
__________
(1) أصعر: أي أميل.(4/201)
قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أَحَدٌ؟ قَالُوا نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ قَالَا مثل مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لك، فقلت فَمَنْ هُمَا؟ قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صالحين قد شهد بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ.
قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي قَالَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أنا فكنت أشد الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأُسَلِّمُ وَأَقُولُ فِي نَفْسِي أحرك شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أعرض عنّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ حَائِطَ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عليه فو الله مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ فَسَكَتَ، قَالَ فَعُدْتُ له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِطَعَامٍ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَ فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكَ غَسَّانَ وَكُنْتُ كَاتِبًا، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك، قال: فقلت حين قرأته وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ: فَتَيَمَّمْتُ بِهِ التنور فسجرته به حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، إِذَا بِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، قَالَ فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أفعل؟ فقال: بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، قَالَ وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هذا الأمر ما يشاء، قَالَ فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إن هلالا شيخ ضعيف لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ، قَالَ «لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ» قَالَتْ وَإِنَّهُ والله ما به من حركة إلى شيء، وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، قَالَ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ، قَالَ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَدْرِي ما يقول فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ.
قَالَ: فَلَبِثْنَا عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى عَنْ كَلَامِنَا، قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صلاة الصبح صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صارخا أوفى(4/202)
على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك، قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا، فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ.
فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نزعت له ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ يومئذ غيرهما، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ أَؤُمُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بتوبة الله، يَقُولُونَ لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ المسجد، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ في المسجد والناس حوله، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» قال: قلت أمن عندك رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ «لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ حَتَّى يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» .
قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا نَجَّانِي اللَّهُ بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، قال: فو الله مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فِيمَا بَقِيَ.
(قَالَ) وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
إلى آخر الآيات. قال كعب: فو الله مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، أن لا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلَكُ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينِ كَذَبُوهُ حِينَ أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال اللَّهُ تَعَالَى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التَّوْبَةِ: 96] قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ أَمْرَنَا(4/203)
حتى قضى الله فيه، فلذلك قال عز وجل وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَلَيْسَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ «1» .
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مُتَّفِقٌ عَلَى صِحَّتِهِ رَوَاهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَبْسَطِهَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا، كَمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ: هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَكُلُّهُمْ قَالَ مُرَارَةُ بن ربيعة، وكذا في مسلم بْنُ رَبِيعَةَ فِي بَعْضِ نُسَخِهِ، وَفِي بَعْضِهَا مرارة بن الربيع، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُهُ فَسَمَّوْا رَجُلَيْنِ شَهِدَا بَدْرًا قِيلَ إِنَّهُ خَطَأٌ مِنَ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ شُهُودُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بَدْرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فَرَّجَ بِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الضِّيقِ وَالْكَرْبِ مِنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ لَيْلَةً بِأَيَّامِهَا، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، أي مع سعتها فسدت عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكُ وَالْمَذَاهِبُ فَلَا يَهْتَدُونَ مَا يَصْنَعُونَ، فَصَبَرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَكَانُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَثَبَتُوا حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ صِدْقِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ عَنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَاقِبَةُ صِدْقِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ وَتَوْبَةً عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أَيْ اصْدُقُوا وَالْزَمُوا الصدق تكونوا من أَهْلِهِ وَتَنْجُوَا مِنَ الْمَهَالِكِ، وَيَجْعَلُ لَكُمْ فَرَجًا مِنْ أُمُورِكُمْ وَمَخْرَجًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجنة، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» «3» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ: سَمِعَ أَبَا عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال: الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هَكَذَا قَرَأَهَا، ثُمَّ قَالَ فَهَلْ تَجِدُونَ لِأَحَدٍ فِيهِ رُخْصَةً «4» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 9، باب 18، ومسلم في التوبة حديث 53.
(2) المسند 1/ 384.
(3) أخرجه البخاري في الأدب باب 69، ومسلم في البر حديث 103، 104، 105.
(4) انظر تفسير الطبري 6/ 509، 510.(4/204)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
عمرو في قوله اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ وَأَصْحَابِهِمَا «1» ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مَعَ الصَّادِقِينَ فَعَلَيْكَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْكَفِّ عن أهل الملة.
[سورة التوبة (9) : آية 120]
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
يُعَاتِبُ تبارك وتعالى الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلِهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَرَغْبَتَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ عن مواساته فيما حصل له مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَإِنَّهُمْ نَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ لِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَهُوَ الْعَطَشُ وَلا نَصَبٌ وَهُوَ التَّعَبُ وَلا مَخْمَصَةٌ وَهِيَ الْمَجَاعَةُ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ. أَيْ يَنْزِلُونَ مَنْزِلًا يُرْهِبُ عَدُوَّهُمْ وَلا يَنالُونَ مِنْهُ ظَفَرًا وَغَلَبَةً عَلَيْهِ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ قدرهم وَإِنَّمَا هِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِمْ أَعْمَالًا صَالِحَةً وَثَوَابًا جَزِيلًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ كَقَوْلِهِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] .
[سورة التوبة (9) : آية 121]
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلا يُنْفِقُونَ هَؤُلَاءِ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً أَيْ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أَيْ فِي السَّيْرِ إِلَى الْأَعْدَاءِ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ هَاهُنَا بِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ صَادِرَةٌ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَقَدْ حَصَلَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَظٌّ وَافِرٌ وَنَصِيبٌ عَظِيمٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْفَقَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ النَّفَقَاتِ الْجَلِيلَةَ وَالْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ:
حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنِي سليمان بن المغيرة، حدثني الوليد بن أبي هشام، عَنْ فَرْقَدٍ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ السُّلَمِيِّ، قَالَ:
خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، قَالَ ثم حث، فقال عثمان: عليّ مائة بعير أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، قَالَ ثُمَّ نَزَلَ مَرْقَاةً مِنَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ حَثَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: عَلَيَّ مِائَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا. قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بِيَدِهِ هَكَذَا يُحَرِّكُهَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الصَّمَدِ يَدَهُ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 509. [.....](4/205)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
كَالْمُتَعَجِّبِ «مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا» «1» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:
جَاءَ عثمان رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دينار في ثوبه حتى جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، قَالَ: فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم فرأيت النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» يُرَدِّدُهَا مِرَارًا «2» ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ الآية. ما ازداد قوم في سبيل الله بعدا من أهليهم إلا ازدادوا قربا من الله.
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا أراد من نفير الأحياء مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فإنه قد ذهبت طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ النَّفِيرُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التَّوْبَةِ: 41] وَقَالَ مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [التوبة: 121] الآية، قال فَنُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِمُرَادِهِ تَعَالَى مِنْ نَفِيرِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا وَشِرْذِمَةٍ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ إِنْ لَمْ يَخْرُجُوا كُلُّهُمْ، لِيَتَفَقَّهَ الْخَارِجُونَ مَعَ الرَّسُولِ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ، فَيَجْتَمِعُ لَهُمُ الْأَمْرَانِ فِي هَذَا النَّفِيرُ الْمُعِينُ، وبعده صلى الله عليه وسلم تَكُونُ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنَ الْحَيِّ إِمَّا لِلتَّفَقُّهِ وَإِمَّا لِلْجِهَادِ، فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْأَحْيَاءِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يَقُولُ:
مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يَعْنِي عُصْبَةً يَعْنِي السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ قُرْآنًا وَقَدْ تَعَلَّمْنَاهُ فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ بِعَدَهُمْ وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخْرَى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يَقُولُ: لِيَتَعَلَّمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَلِيُعَلِّمُوا السَّرَايَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «3» .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هذه الآية في أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجُوا فِي الْبَوَادِي فَأَصَابُوا مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفًا، وَمِنَ الْخِصْبِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَدَعَوْا من وجدوا من الناس إلى
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 75.
(2) أخرجه أحمد في المسند 5/ 63.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 514.(4/206)
الْهُدَى، فَقَالَ النَّاسُ لَهُمْ: مَا نَرَاكُمْ إِلَّا وَقَدْ تَرَكْتُمْ أَصْحَابَكُمْ وَجِئْتُمُونَا؟ فَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ تَحَرُّجًا وَأَقْبَلُوا مِنَ الْبَادِيَةِ كُلُّهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبغون الْخَيْرَ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيَسْتَمِعُوا مَا فِي الناس وما أنزل الله فعذرهم وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1» .
وقال قتادة في الْآيَةِ: هَذَا إِذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمُ طَائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَتَنْطَلِقُ طَائِفَةٌ تَدْعُو قَوْمَهَا وَتُحَذِّرُهُمْ وَقَائِعَ اللَّهِ فِيمَنْ خَلَا قَبْلَهُمْ «2» .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَّا أَهْلِ الأعذار، وكان إذا قام وأسرى السَّرَايَا لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَنْطَلِقُوا إِلَّا بإذنه، وكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْقَاعِدِينَ مَعَهُ، فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرِيَّةُ قَالَ لَهُمُ الَّذِينَ أَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ بَعْدَكُمْ عَلَى نَبِيِّهِ قُرْآنًا فَيُقْرِئُونَهُمْ وَيُفَقِّهُونَهُمْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يَقُولُ إِذَا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم النَّاسِ «3» .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ أَيْضًا عن ابن عباس في الآية، قوله وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إنها لَيْسَتْ فِي الْجِهَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ، أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ وَكَانَتِ الْقَبِيلَةُ مِنْهُمْ تُقْبِلُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى يَحِلُّوا بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْجَهْدِ وَيَعْتَلُّوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأجهدوهم، فأنزل الله تعالى يُخْبِرُ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ، فَرَدَّهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَشَائِرِهِمْ وَحَذَّرَ قَوْمَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ الْآيَةَ «4» .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ يَنْطَلِقُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ عِصَابَةٌ فَيَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُونَهُ عَمَّا يُرِيدُونَ مِنْ أَمْرِ دينهم ويتفقهون في دينهم، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:
ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم، قال فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله ورسوله وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَكَانُوا إِذَا أتوا قومهم قالوا: إِنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا وَيُنْذِرُونَهُمْ، حَتَّى إن الرجل ليفارق أباه، وأمه، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ قَوْمَهُمْ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُنْذِرُونَهُمُ النار ويبشرونهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 513.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 514.
(3) تفسير الطبري 6/ 514.
(4) تفسير الطبري 6/ 514.(4/207)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
بِالْجَنَّةِ «1» .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التوبة: 39] وما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ [التوبة: 120] الآية، قَالَ الْمُنَافِقُونَ: هَلَكَ أَصْحَابُ الْبَدْوِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا إِلَى الْبَدْوِ إِلَى قَوْمِهِمْ يُفَقِّهُونَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ «2» [الشورى: 16] وقال الحسن البصري في الآية: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم اللَّهُ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالنُّصْرَةِ، وَيُنْذِرُوا قومهم إذا رجعوا إليهم «3» .
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْكُفَّارَ أَوَّلًا، فَأَوَّلًا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالطَّائِفَ وَالْيَمَنَ وَالْيَمَامَةَ وهجر وخيبر وحضر موت وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقَالِيمِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، شَرَعَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَجَهَّزَ لِغَزْوِ الرُّومِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الإسلام لأنهم أَهْلَ الْكِتَابِ، فَبَلَغَ تَبُوكَ ثُمَّ رَجَعَ لِأَجْلِ جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اشتغل في السنة العاشرة بحجة الْوَدَاعِ، ثُمَّ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه بعد حجته بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، فَاخْتَارَهُ اللَّهُ لِمَا عِنْدَهُ.
وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَزِيرُهُ وَصَدِيقُهُ وَخَلِيفَتُهُ أَبُو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ مَالَ الدِّينُ مَيْلَةً كَادَ أَنْ يَنْجَفِلَ فَثَبَّتَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَوَطَّدَ الْقَوَاعِدَ وَثَبَّتَ الدَّعَائِمَ، وَرَدَّ شَارِدَ الدِّينِ وَهُوَ رَاغِمٌ، وَرَدَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ الزَّكَاةَ مِمَّنْ مَنَعَهَا مِنَ الطَّغَامِ «4» ، وَبَيَّنَ الْحَقَّ لِمَنْ جَهِلَهُ، وَأَدَّى عَنِ الرَّسُولِ مَا حَمَلَهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الرُّومِ عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، وَإِلَى الْفُرْسِ عَبَدَةِ النِّيرَانِ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ سِفَارَتِهِ الْبِلَادَ، وَأَرْغَمَ أنف كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَنْ أَطَاعَهُمَا مِنَ الْعِبَادِ. وَأَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رسول الله وَكَانَ تَمَامُ الْأَمْرِ عَلَى يَدِي وَصِيِّهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَوَلِيِّ عَهْدِهِ الْفَارُوقِ الْأَوَّابِ، شَهِيدِ الْمِحْرَابِ، أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِهِ أُنُوفَ الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ، وَقَمَعَ الطغاة والمنافقين
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 514، 515.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 515.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 516.
(4) الطغام: أوغاد الناس.(4/208)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَمَالِكِ شَرْقًا وَغَرْبًا.
وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ بُعْدًا وَقُرْبًا: فَفَرَّقَهَا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ.
وَالسَّبِيلِ الْمَرْضِيِّ. ثُمَّ لَمَّا مَاتَ شَهِيدًا وَقَدْ عَاشَ حَمِيدًا. أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شهيد الدار.
فكسى الإسلام رئاسته حلة سابغة. وامتدت فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ حُجَّةُ الله البالغة. فظهر الْإِسْلَامُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا. وَعَلَتْ كَلِمَةُ الله وظهر دينه. وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها. وكلما عَلَوْا أُمَّةً انْتَقَلُوا إِلَى مَنْ بَعْدِهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنَ الْعُتَاةِ الْفُجَّارِ، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التَّوْبَةِ: 123] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أَيْ وَلِيَجِدَ الكفار منكم غلظة فِي قِتَالِكُمْ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَفِيقًا لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ غَلِيظًا عَلَى عدوه الكافر.
كقوله تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] وقوله تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] وقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 73 وَالتَّحْرِيمِ: 9] وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أَنَا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ» يَعْنِي أَنَّهُ ضَحُوكٌ فِي وَجْهِ وَلِيِّهِ قَتَّالٌ لِهَامَةِ عَدُوِّهِ، وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ قَاتِلُوا الْكُفَّارَ وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ إذا اتَّقَيْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ لَمَّا كَانَتِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَالُوا ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَلَمْ تَزَلِ الْفُتُوحَاتُ كَثِيرَةً وَلَمْ تَزَلِ الْأَعْدَاءُ فِي سَفَالٍ وَخَسَارٍ.
ثُمَّ لَمَّا وَقَعَتِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ وَالِاخْتِلَافَاتُ بَيْنَ الْمُلُوكِ طَمِعَ الْأَعْدَاءُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهَا، فَلَمْ يُمَانِعُوا لِشُغْلِ الْمُلُوكِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا إِلَى حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذُوا مِنَ الْأَطْرَافِ بُلْدَانًا كَثِيرَةً، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا حَتَّى اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلِلَّهِ لأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، فَكُلَّمَا قَامَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ وَأَطَاعَ أَوَامِرَ اللَّهِ وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ وَاسْتَرْجَعَ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِحَسَبِهِ وَبِقَدْرِ مَا فِيهِ من ولاية الله. والله المسؤول الْمَأْمُولُ أَنْ يُمَكِّنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوَاصِي أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ وَأَنْ يُعْلِيَ كَلِمَتَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إنه جواد كريم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125]
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ إِيمَانًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ(4/209)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَكْبَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ العلماء. بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أَيْ زَادَتْهُمْ شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ وَرَيْبًا إِلَى رَيْبِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ الآية، وقوله تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فُصِّلَتْ: 44] وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ شَقَائِهِمْ أَنَّ مَا يَهْدِي الْقُلُوبَ يَكُونُ سَبَبًا لِضَلَالِهِمْ وَدَمَارِهِمْ كَمَا أن سيئ المزاج لو غُذِّيَ بِهِ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا خَبَالًا وَنَقْصًا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 126 الى 127]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
يقول: تعالى أو لا يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أَيْ يُخْتَبَرُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ وَلَا هُمْ يَذْكُرُونَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ يُخْتَبَرُونَ بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْغَزْوِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ جَابِرٍ: هُوَ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ حُذَيْفَةَ في قوله: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ فِي كُلِّ عَامٍ كِذْبَةً أَوْ كِذْبَتَيْنِ فَيَضِلُّ بِهَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ: لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً وَلَا يَزْدَادُ النَّاسُ إِلَّا شُحًّا وَمَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» .
وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أَيْ تَلَفَّتُوا هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا أَيْ تَوَلَّوْا عَنِ الْحَقِّ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَهَذَا حَالُهُمْ فِي الدِّينِ لَا يَثْبُتُونَ عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه كقوله تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 49- 41] وقوله تَعَالَى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ
[الْمَعَارِجِ: 36- 37] أَيْ مَا لهؤلاء القوم يتفللون عَنْكَ يَمِينًا وَشِمَالًا هُرُوبًا مِنَ الْحَقِّ وَذَهَابًا إِلَى الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ... بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الصف: 5] أَيْ لَا يَفْهَمُونَ عَنِ اللَّهِ خِطَابَهُ وَلَا يقصدون لفهمه
__________
(1) تفسير الطبري 6/ 520.
(2) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب 24.(4/210)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
ولا يريدونه بل هم في شغل عَنْهُ وَنُفُورٍ مِنْهُ فَلِهَذَا صَارُوا إِلَى مَا صاروا إليه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَعَلَى لُغَتِهِمْ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَةِ: 129] وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 164] وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيْ مِنْكُمْ وَبِلُغَتِكُمْ كَمَا قَالَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّجَاشِيِّ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِرَسُولِ كِسْرَى: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِفَتَهُ وَمُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قَالَ: لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ وِلَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ» «1» .
وَقَدْ وُصِلَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْوَاعِي: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ يُوسُفُ بْنُ هَارُونَ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي لَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي لَمْ يمسني من سفاح الجاهلية شيء» .
وقوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أَيْ يَعِزُّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ الَّذِي يَعْنَتُ أُمَّتَهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهَا وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» «2» وَفِي الصَّحِيحِ «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَشَرِيعَتَهُ كُلَّهَا سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ كَامِلَةٌ يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ» «3» حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ عَلَى هِدَايَتِكُمْ ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن فطن عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ إِلَّا وهو يذكر لنا منه علما قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ» وقال الإمام أحمد «4» : حدثنا قطن حدثنا المسعودي عن
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 522. [.....]
(2) أخرجه أحمد في المسند 5/ 266، 6/ 233.
(3) أخرجه البخاري في الإيمان باب 29، وأحمد في المسند 5/ 69.
(4) المسند 1/ 390.(4/211)
الحسن بن سعد عن عبدة الهذلي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ حُرْمَةً إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَطَّلِعُهَا مِنْكُمْ مُطَّلِعٌ أَلَا وَإِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ أَنْ تَهَافَتُوا فِي النَّارِ كَتَهَافُتِ الْفِرَاشِ أَوِ الذُّبَابِ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ مَلَكَانِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ. فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَلَ هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَهُ وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ انتَهَوْا إلى رأس مفازة ولم يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حِبَرَةٍ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رِوَاءً تَتَّبِعُونِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا فَقَالَ لَهُمْ: أَلَمْ أَلْفِكُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ فقالوا بلى فقال: فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا هِيَ أَعْشَبُ مِنْ هَذِهِ وَحِيَاضًا هِيَ أَرَوَى مِنْ هَذِهِ فَاتَّبَعُونِي فَقَالَتْ طَائِفَةٌ صَدَقَ وَاللَّهِ لِنَتَّبِعْهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يستعينه فِي شَيْءٍ قَالَ عِكْرِمَةُ: أَرَاهُ قَالَ فِي دَمٍ فَأَعْطَاهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: «أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ» قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَا وَلَا أَجْمَلْتَ فَغَضِبَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَهَمُّوا أَنْ يَقُومُوا إِلَيْهِ فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَ إِلَى مَنْزِلِهِ دعا الأعرابي إلى البيت فقال: «إنك إنما جئتنا تسألنا فَأَعْطَيْنَاكَ فَقُلْتَ مَا قُلْتَ» فَزَادَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَقَالَ: «أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟» فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلَتْنَا فَأَعْطَيْنَاكَ فَقُلْتَ مَا قُلْتَ. وَفِي أَنْفُسِ أَصْحَابِي عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَإِذَا جِئْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قَلْتَ بين يدي حتى يذهب عن صدورهم» فقال: نعم فلما جاء الأعرابي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن صاحبكم كان جاء فَسَأَلَنَا فَأَعْطَيْنَاهُ فَقَالَ مَا قَالَ، وَإِنَّا قَدْ دَعَوْنَاهُ فَأَعْطَيْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ، كَذَلِكَ يا أعرابي؟» فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيْهِ فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا. فَقَالَ لَهُمْ صَاحِبُ النَّاقَةِ خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي فَأَنَا أرفق بها وأنا أعلم بِهَا فَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَأَخْذَ لَهَا مِنْ قَتَامِ الْأَرْضِ وَدَعَاهَا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَجَابَتْ وَشَدَّ عَلَيْهَا
__________
(1) المسند 1/ 267.(4/212)
رحلها وإني لَوْ أَطَعْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ مَا قَالَ لَدَخَلَ النار» رواه البزار ثُمَّ قَالَ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
(قُلْتُ) وَهُوَ ضَعِيفٌ بِحَالِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ بن أبان والله أعلم، وقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ كقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [الشُّعَرَاءِ: 215- 217] وَهَكَذَا أَمَرَهُ تَعَالَى في هذه الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تولوا عما جئتم بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ اللَّهُ كَافِيَّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 9] .
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَيْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقِهِ، لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ من السموات وَالْأَرْضِينَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا تَحْتَ الْعَرْشِ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَقَدَرُهُ نَافِذٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَ عبد الله ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهم أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي مَصَاحِفَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ رِجَالٌ يَكْتُبُونَ وَيُمْلِي عَلَيْهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة: 127] الآية فظنوا أن هذا آخر ما نزل مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُمْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِي بَعْدَهَا آيَتَيْنِ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِ السورة قال هذا آخر ما نزل من القرآن فَخَتَمَ بِمَا فُتِحَ بِهِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ «2» [الأنبياء: 25] وهذا غريب أيضا.
وقال أحمد «3» : حدثنا علي بن بحر حدثنا علي بن محمد بن سلمة عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ عَنْ أَبِيهِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال أتى الحارث بن خزيمة بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ بَرَاءَةٌ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: من
__________
(1) المسند 5/ 117.
(2) أخرجه أحمد في المسند 5/ 134.
(3) المسند 1/ 199.(4/213)
مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ إِنِّي لَأَشْهَدُ لَسَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعَيْتُهَا وَحَفِظْتُهَا فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا سُورَةً عَلَى حِدَةٍ فَانْظُرُوا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَضَعُوهَا فِيهَا، فَوَضَعُوهَا فِي آخر براءة.
وقد تقدم الكلام أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَجَمَعَهُ وَكَانَ عُمَرُ يَحْضُرُهُمْ وَهُمْ يَكْتُبُونَ ذَلِكَ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ زَيْدًا قَالَ: فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةٌ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خزيمة «1» ، وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ حِينَ ابْتَدَأَهُمْ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ «2» عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ عُمَرَ- وَقَالَ: كَانَ مِنْ ثِقَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ يَزِيدُ شَيْخٌ ثِقَةٌ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَبْعَ مَرَّاتٍ إِلَّا كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عساكر في ترجمة عبد الرزاق عن عُمَرَ، هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبَى زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَعْدٍ مُدْرِكِ بْنِ أَبِي سَعْدٍ الْفَزَارِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حُلَيْسٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ صَادِقًا كَانَ بِهَا أَوْ كَاذِبًا إِلَّا كَفَاهُ اللَّهُ مَا أهمه. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ، ثُمَّ رَوَاهُ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ عُمَرَ بِسَنَدِهِ فَرَفَعَهُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ بِالزِّيَادَةِ وَهَذَا مُنْكَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
آخِرُ سورة براءة ولله الحمد والمنة
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 9، باب 20.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب باب 101.(4/214)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
سورة يونس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
أَمَّا الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الكلام عليها فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الر أي أنا الله أرى «1» . وكذلك قَالَ الضَّحَّاكُ.
وَغَيْرُهُ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمِ الْمُبِينِ وَقَالَ مجاهد الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قَالَ الْكُتُبُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا معناه.
وقوله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الْآيَةَ. يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ تَعَجَّبَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ إِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ كما أخبر تعالى عن القرون الماضين مِنْ قَوْلِهِمْ: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التَّغَابُنُ:
6] وَقَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ لِقَوْمِهِمَا: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ [الْأَعْرَافِ: 63- 69] وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ أَوْ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ قَالَ فَأَنْزَلَ الله عز وجل أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً «2» الآية.
وَقَوْلُهُ: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ يَقُولُ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ «3» وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَقُولُ: أَجْرًا حَسَنًا بِمَا قَدَّمُوا «4» وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهَذَا كقوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: 2] الآية، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ صَلَاتُهُمْ وَصَوْمُهُمْ وَصَدَقَتُهُمْ وتسبيحهم قال: ومحمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم، وكذا قال
__________
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 525.
(2) انظر تفسير الطبري 6/ 527.
(3) انظر تفسير الطبري 6/ 528.
(4) تفسير الطبري 6/ 528.(4/215)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَقَالَ قَتَادَةُ سَلَفُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَاخْتَارَ ابْنُ جرير قول مجاهد أن الأعمال الصالحة التي قدموها كما يقال له قدم في الإسلام، كقول حسان: [الطويل]
لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا ... لِأَوَّلِنَا فِي طاعة الله تابع «1»
وقول ذي الرمة: [الطويل]
لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا ... مَعَ الْحَسَبِ الْعَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى الْبَحْرِ «2»
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ أَيْ مَعَ أَنَّا بَعَثْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ جِنْسِهِمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ أَيْ ظَاهِرٌ وَهُمُ الْكَاذِبُونَ في ذلك.
[سورة يونس (10) : آية 3]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِ جَمِيعِهِ، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قِيلَ كَهَذِهِ الْأَيَّامِ وَقِيلَ كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ كما سيأتي بيانه ثم على استوى الْعَرْشِ وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدًا الطَّائِيَّ يَقُولُ: الْعَرْشُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ خَلَقَهُ اللَّهُ من نوره وهذا غريب. وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أَيْ يُدَبِّرُ أَمْرَ الْخَلَائِقِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سَبَأٍ: 3] وَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شأن ولا تغلطه الْمَسَائِلُ وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ وَلَا يُلْهِيهِ تَدْبِيرُ الْكَبِيرِ عَنِ الصَّغِيرِ فِي الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْعِمْرَانِ وَالْقَفَارِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] الْآيَةَ.
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كعب أَنَّهُ قَالَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية، لَقِيَهُمْ رَكْبٌ عَظِيمٌ لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنَ الْجِنِّ خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَخْرَجَتْنَا هَذِهِ الْآيَةُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَوْلُهُ: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النَّجْمِ: 26] وَقَوْلُهُ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت الأنصاري في ديوانه ص 241، ولسان العرب (خلف) ، والمخصص 16/ 189، وتاج العروس (خلف) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 197، والمستقصى 2/ 301. وتفسير الطبري 6/ 529. [.....]
(2) البيت الذي الرمة في تفسير البحر المحيط 5/ 127، وتفسير الطبري 6/ 529.(4/216)