الْعَرَبِ: اللَّمْسُ الْجِمَاعُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ نَاسًا مِنَ الْمَوَالِي وَالْعَرَبِ اخْتَلَفُوا فِي اللَّمْسِ، فَقَالَتِ الْمَوَالِي: لَيْسَ بِالْجِمَاعِ، وقالت العرب: الجماع، قال: فمن أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كُنْتَ؟ قُلْتُ: كُنْتُ مِنَ الْمَوَالِي، قَالَ: غُلِبَ فَرِيقُ الْمُوَالِي. إِنَّ اللَّمْسَ وَالْمَسَّ وَالْمُبَاشَرَةَ:
الْجِمَاعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ بَشَّارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ نَحْوَهُ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَمَثَلَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَالْمُبَاشَرَةُ: الْجِمَاعُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي بِمَا يَشَاءُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
الْمُلَامَسَةُ: الْجِمَاعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا يَشَاءُ، وَقَدْ صَحَّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ بَعْضِ مَنْ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى الله تعالى بذلك كل لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجبوا الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ مَنْ مَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهَا مُفْضِيًا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: اللَّمْسُ مَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِمِثْلِهِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: الْقُبْلَةُ مِنَ المس وفيها الوضوء. وروى الطبراني بإسناده، عن عبد الله بن مسعود، قال: يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ هو الغمز، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قُبْلَةِ الْمَرْأَةِ، وَيَرَى فِيهَا الْوُضُوءَ، وَيَقُولُ: هِيَ مِنَ اللِّمَاسِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اللَّمْسُ مَا دُونَ الْجِمَاعِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعُبَيْدَةَ، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، نَحْوُ ذَلِكَ، (قُلْتُ) وَرَوَى مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهُ بِيَدِهِ مِنَ الْمُلَامَسَةِ، فَمَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ أوجسها بِيَدِهِ، فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدارقطني في سننه: عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ رُوِّينَا عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُقَّبِلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ، فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَحْمِلُ مَا قَالَهُ فِي الْوُضُوءِ إِنْ صَحَّ عَنْهُ، عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَسِّ، هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وأصحابه، ومالك، والمشهور عن
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 107.(2/277)
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، قَالَ نَاصِرُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: قَدْ قُرِئَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَامَسْتُمُ وَلَمَسْتُمْ، وَاللَّمْسُ يُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الجس باليد، قال تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الْأَنْعَامِ: 7] أَيْ جَسُّوهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ بِالزِّنَا، يُعَرِّضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ» ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَالْيَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ» ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَيْنَا، فَيُقَبِّلُ وَيَلْمِسُ، ومنه ما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ، عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ، قَالُوا: وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِمَاعِ، قَالَ الشَّاعِرُ: [الطويل] ولمست كَفِّي كَفَّهُ أَطْلُبُ الْغِنَى وَاسْتَأْنَسُوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الذي رواه أَحْمَدُ «1» ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي ليلى، عن معاذ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أتاه رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَقِيَ امْرَأَةً لَا يَعْرِفُهَا، فَلَيْسَ يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أَتَاهُ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [هُودٍ: 114] ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلِّ» قَالَ مُعَاذٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ للمؤمنين عامة؟ فقال «بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً» ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ زائدة به، وقال: ليس بمتصل، ورواه النَّسَائِيُّ: مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، مُرْسَلًا، قَالُوا: فَأَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ لَمَسَ الْمَرْأَةَ وَلَمْ يُجَامِعْهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ ابن أَبِي لَيْلَى وَمُعَاذٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ لِلتَّوْبَةِ، كما تقدم في حديث الصديق: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، عِنْدَ قَوْلِهِ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 135] .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الْجِمَاعَ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي اللَّمْسِ، لِصِحَّةِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السُّدِّيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يُقَبِّلُ ثُمَّ يُصَلِّي، وَلَا يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قبّل بعض
__________
(1) مسند أحمد 5/ 244.(2/278)
نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قُلْتُ: مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ؟ فَضَحِكَتْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِمْ، عَنْ وَكِيعٍ بِهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا حَدَّثَنَا حَبِيبٌ إِلَّا عَنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ، وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ لِرَجُلٍ: احْكِ عَنِّي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شِبْهُ لَا شَيْءَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَضْعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: لا شك حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنُ مَاجَهْ: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا نَصٌّ فِي كَوْنِهِ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ فَضَحِكَتْ، لَكِنْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ الطَّالْقَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَغْرَاءَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابٌ لَنَا، عَنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حدثنا أبو زيد، عمر بن أنيس عن هشام بن عباد، حدثنا مسدد بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَالُ مِنِّي الْقُبْلَةَ بَعْدَ الْوُضُوءِ، ثُمَّ لَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي رَوْقٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ ثُمَّ صَلَّى ولم يتوضأ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ: وَابْنُ مَهْدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ مِنْ عائشة «2» .
ثم قال ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَلَا يُحْدِثُ وُضُوءًا. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو كَرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ زَيْنَبَ السَّهْمِيَّةِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ زَيْنَبَ السَّهْمِيَّةِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم به، وقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً اسْتَنْبَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء، فَمَتَى طَلَبَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، جَازَ لَهُ حِينَئِذٍ
__________
(1) مسند أحمد 6/ 210.
(2) سنن أبي داود (طهارة باب 68) .(2/279)
التَّيَمُّمُ، وَقَدْ ذَكَرُوا كَيْفِيَّةَ الطَّلَبِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ «يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ «عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» ولهذا قال تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ، هُوَ الْقَصْدُ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
تَيَمَّمَكَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، أَيْ قَصَدَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ شعرا: [الطويل]
وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الْمَنِيَّةَ وِرِدُهَا ... وَأَنَّ الْحَصَى من تحت أقدامها دامي
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الفيء عرمضها طامي «1»
وَالصَّعِيدُ قِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا صَعِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التُّرَابُ وَالرَّمْلُ وَالشَّجَرُ وَالْحَجَرُ وَالنَّبَاتُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: مَا كان من جنس التراب، كالرمل وَالزَّرْنِيخُ وَالنَّوْرَةُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: هُوَ التُّرَابُ فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمَا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً [الْكَهْفِ: 40] أَيْ تُرَابًا أَمْلَسَ طَيِّبًا، وَبِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» وَفِي لَفْظٍ «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» قَالُوا: فَخَصَّصَ الطَّهُورِيَّةَ بِالتُّرَابِ، فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ لَذَكَرَهُ مَعَهُ.
وَالطَّيِّبُ هَاهُنَا قِيلَ: الْحَلَالُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَيْسَ بِنَجَسٍ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ، فَإِذَا وَجَدَهُ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حُبَّانَ أَيْضًا، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ في مسنده، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْيَبُ الصَّعِيدِ تُرَابُ الْحَرْثِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرَفَعَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ فِي التَّطَهُّرِ بِهِ، لَا أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، بَلْ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أنه يجب أن يمسح الوجه
__________
(1) رواية البيتين في ديوانه ص 475:
ولما رأت أن الشريعة همّها ... وأن البياض من فرائصها دَامِ
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عليها الطلح عرمضها طام
وهما في لسان العرب (ضرج، عرمض) ومقاييس اللغة 3/ 262 و 4/ 435 وتاج العروس (ضرج) .(2/280)
وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ بِضَرْبَتَيْنِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ يَصْدُقُ إِطْلَاقُهُمَا عَلَى مَا يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، وَعَلَى مَا يَبْلُغُ الْمِرْفَقَيْنِ، كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِمَا مَا يَبْلُغُ الْكَفَّيْنِ، كَمَا فِي آيَةِ السَّرِقَةِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: 38] قَالُوا: وَحَمْلُ مَا أُطْلِقَ هَاهُنَا عَلَى مَا قُيِّدَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ أَوْلَى لِجَامِعِ الطَّهُورِيَّةِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فِي أَسَانِيدِهِ ضُعَفَاءُ، لَا يَثْبُتُ الْحَدِيثُ بِهِمْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ «1» عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فِي حَدِيثٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، ضَرْبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ وَمَسْحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذِرَاعَيْهِ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ العبدي، وقد ضعفه بعض الحافظ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الثِّقَاتِ، فَوَقَفُوهُ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ عدي: وهو الصَّوَابُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْكَرٌ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا نَعِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي جُهَيْمٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُولُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْحَائِطِ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَيْهِ، فَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ فَمَسَحَ بِهِمَا يَدَيْهِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكَفَّيْنِ بِضَرْبَتَيْنِ، وَهُوَ قول الشافعي في القديم.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً، فَقَالَ عُمَرُ لَا تُصَلِّ، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ، وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ» وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
__________
(1) سنن أبي داود (طهارة باب 122) . [.....]
(2) تفسير الطبري 4/ 115) .
(3) مسند أحمد 4/ 265.(2/281)
عَمَّارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي التَّيَمُّمِ «ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ» «1» .
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عبد الواحد، عن سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ لَمْ يُصَلِّ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لا، فقال أبو موسى: أما تذكر إذا قال عمار لعمر: أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيَّاكَ فِي إِبِلٍ، فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَتَمَرَّغْتُ فِي التُّرَابِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا، وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا، وَمَسَحَ وَجْهَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ» ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا جَرَمَ، مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَنِعَ بِذَاكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً؟ قَالَ: فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ، وَقَالَ:
لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ لَأَوْشَكَ أَحَدُهُمْ إِذَا بَرَدَ الْمَاءُ عَلَى جِلْدِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [النساء: 43] استدل بذلك الشافعي، عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّيَمُّمِ، أَنْ يَكُونَ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ، لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ واليدين منه شيء، كما روى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ ابْنِ الصِّمَّةِ: أَنَّهُ مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَارٍ فَحَتَّهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فضرب بيده عليه، ثم مسح وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] أَيْ فِي الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة: 6] فَلِهَذَا أَبَاحَ لَكُمْ، إِذَا لَمْ تَجِدُوا الْمَاءَ، أَنْ تَعْدِلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التَّيَمُّمِ، دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ» وَفِي لَفْظٍ «فَعِنْدَهُ طَهُورُهُ وَمَسْجِدُهُ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» «3» وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ، جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» .
وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً أي ومن عفوه عنكم وغفرانه لَكُمْ أَنْ شَرَعَ التَّيَمُّمَ، وَأَبَاحَ لَكُمْ فِعْلَ الصلاة به إذا فقدتم
__________
(1) مسند أحمد 4/ 263.
(2) مسند أحمد 4/ 265.
(3) صحيح البخاري (تيمم باب 1 وصلاة باب 56) وصحيح مسلم (مساجد حديث 4 و 5) .(2/282)
الْمَاءَ، تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ وَرُخْصَةً لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا تَنْزِيهُ الصَّلَاةِ، أَنْ تُفْعَلَ عَلَى هَيْئَةٍ نَاقِصَةٍ، مِنْ سُكْرٍ حَتَّى يَصْحُوَ الْمُكَلَّفُ وَيَعْقِلَ مَا يَقُولُ، أَوْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْتَسِلَ، أَوْ حَدَثٍ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ عَادِمًا لِلْمَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَرْخَصَ فِي التَّيَمُّمِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَرَأْفَةً بِهِمْ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ:
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي النِّسَاءِ مُتَقَدِّمَةُ النُّزُولِ عَلَى آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحَتُّمِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالْخَمْرُ إِنَّمَا حُرِّمَ بعد أحد بيسير يُقَالُ: فِي مُحَاصَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لبني النضير، وَأَمَّا الْمَائِدَةُ فَإِنَّهَا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ وَلَا سِيَّمَا صَدْرُهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ السَّبَبُ هاهنا، وبالله الثقة.
قال أحمد «1» : حدثنا ابن نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا فِي طَلَبِهَا فَوَجَدُوهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماء فصلوا بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى رسول الله، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحضير لعائشة: جزاك الله خيرا، فو الله مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بكر فقالوا: ألا ترى إلى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ، أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أصبح عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ:
مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ قَالَ، قال ابن
__________
(1) مسند أحمد 6/ 57.
(2) صحيح البخاري (تيمم باب 1) .
(3) مسند أحمد 4/ 264.(2/283)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
شِهَابٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة، فَانْقَطَعَ عِقْدٌ لَهَا مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ، فَحَبَسَ النَّاسَ ابْتِغَاءَ عِقْدِهَا، وَذَلِكَ حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَقَامَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضربوا بأيديهم إلى الْأَرْضَ، ثُمَّ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ يَقْبِضُوا مِنَ التُّرَابِ شَيْئًا، فَمَسَحُوا بِهَا وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَمِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ إِلَى الْآبَاطِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا صَيْفِيٌّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن عبيد اللَّهِ، عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلَكَ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ، فَتَغَيَّظَ أَبُو بكر على عائشة، فنزلت عليه رخصة الْمَسْحُ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهَا: إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ نَزَلَتْ فِيكِ رُخْصَةٌ، فَضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا ضَرْبَةً لِوُجُوهِنَا، وَضَرْبَةً لِأَيْدِينَا إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالْآبَاطِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ اللَّيْثِ، حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا العباس بن أبي سويّة، حدثني الهيثم بن رزيق الْمَالِكِيِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ وَعَاشَ مِائَةً وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْأَسْلَعِ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: كُنْتُ أُرَحِّلُ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّحْلَةَ، فكرهت أن أُرَحِّلُ نَاقَةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جُنُبٌ، وَخَشِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَأَمُوتَ أَوْ أَمْرَضَ، فَأَمَرْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَحَّلَهَا، ثُمَّ رَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأصحابه، فقال: «يا أسلع ما لي أَرَى رِحْلَتَكَ تَغَيَّرَتْ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُرَحِّلْهَا، رَحَّلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ «وَلِمَ» ؟
قُلْتُ: إِنِّي أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَخَشِيتُ الْقُرَّ عَلَى نَفْسِي، فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُرَحِّلَهَا، وَرَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وَقَدْ رُوِيَ من وجه آخر عنه.
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ- عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَيُعْرِضُونَ عما أنزل الله على رسوله، وَيَتْرُكُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ حُطَامِ الدنيا، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 115.(2/284)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تَكْفُرُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَتْرُكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أَيْ هو أعلم بِهِمْ وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْهُمْ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً أَيْ كَفَى بِهِ وَلَيًّا لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ وَنَصِيرًا لِمَنِ اسْتَنْصَرَهُ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا «من» في هذا لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] ، وقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [النساء: 46] أي يتأولون الكلام عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُفَسِّرُونَهُ بِغَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَصْدًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا أَيْ يَقُولُونَ سَمْعَنَا مَا قُلْتَهُ يَا مُحَمَّدُ وَلَا نُطِيعُكَ فِيهِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي كفرهم وعنادهم وأنهم يَتَوَلَّوْنَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ بَعْدَ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ، وَقَوْلُهُ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أَيْ اسْمَعْ مَا نَقُولُ، لَا سَمِعْتَ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمْ واستهتار، عليهم لعنة الله، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أَيْ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَاعِنَا سَمْعَكَ بِقَوْلِهِمْ رَاعَنَا، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا [الْبَقَرَةِ: 104] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِكَلَامِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَهُ لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، يَعْنِي بِسَبِّهِمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ قُلُوبُهُمْ مَطْرُودَةٌ عَنِ الْخَيْرِ مُبْعَدَةٌ مِنْهُ، فَلَا يَدْخُلُهَا مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ نَافِعٌ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 88] وَالْمَقْصُودُ أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا.
[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 48]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِمَا نَزَّلَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي فِيهِ تَصْدِيقُ الْأَخْبَارِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ، وَمُتَهَدِّدًا لهم إن لم يَفْعَلُوا بِقَوْلِهِ:
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مِنْ قبل أن نطمس وجوها، فطمسها هُوَ رَدُّهَا إِلَى الْأَدْبَارِ وَجَعْلُ أَبْصَارِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ:
مِنْ قَبْلِ أن نطمس وجوها فلا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أثرا، ومع ذلك نردها إِلَى نَاحِيَةِ الْأَدْبَارِ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس في الآية وهي مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً وَطَمْسُهَا أَنْ تعمى(2/285)
فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها يَقُولُ: نَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَقَفِيَتِهِمْ، فَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى، وَنَجْعَلُ لِأَحَدِهِمْ عَيْنَيْنِ مَنْ قَفَاهُ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي صَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَرَدِّهِمْ إِلَى الْبَاطِلِ، وَرُجُوعِهِمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالَةِ، يَهْرَعُونَ وَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [يس: 8] : إن هذا مثل ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، وَمَنْعِهِمْ عَنِ الْهُدَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا، يَقُولُ: عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ فَنَرُدَّهَا عَلَى أدبارها، أي في الضلال. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ نَحْوُ هَذَا. قَالَ السُّدِّيُّ: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، فَنَمْنَعَهَا عَنِ الْحَقِّ، قَالَ: نُرْجِعُهَا كُفَّارًا وَنَرُدُّهُمْ قِرَدَةً، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَرُدُّهُمْ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ.
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَسْلَمَ حِينَ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ إِسْلَامَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَسْلَمَ كَعْبٌ زَمَانَ عُمَرَ، أَقْبَلَ وَهُوَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ:
يَا كَعْبُ، أَسْلِمْ. فقال: ألستم تقرأون في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ- إلى- أَسْفاراً [الجمعة: 5] وَأَنَا قَدْ حَمَلْتُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَتَرَكَهُ عُمَرُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حِمْصَ، فَسَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا حَزِينًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها الْآيَةَ، قَالَ كَعْبٌ: يَا رَبُّ أَسْلَمْتُ مَخَافَةَ أَنْ تُصِيبَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى أَهْلَهُ فِي الْيَمَنِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ مُسْلِمِينَ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظٍ آخَرَ من وجه آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَائِذِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْجَلِيلِيُّ مُعَلِّمَ كَعْبٍ، وَكَانَ يَلُومُهُ فِي إِبْطَائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ لِيَنْظُرَ أَهْوَ هُوَ؟
قَالَ كَعْبٌ: فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا تَالٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها فَبَادَرْتُ الْمَاءَ فاغتسلت، وإني لأمس وَجْهِي مَخَافَةَ أَنْ أُطْمَسَ ثُمَّ أَسْلَمْتُ.
وَقَوْلُهُ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ يَعْنِي الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ بِالْحِيلَةِ عَلَى الِاصْطِيَادِ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ قِصَّتِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَوْلُهُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانِعُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. أَيْ لَا يَغْفِرُ لِعَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ، أي من
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 127.(2/286)
الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشاءُ، أَيْ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حدثنا صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: دِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، وقال إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [الْمَائِدَةِ: 72] ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرْكَهُ أَوْ صَلَاةٍ تَرْكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، الْقَصَاصُ لَا مَحَالَةَ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ أَبِي الرُّقَادِ، عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ «الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ:
فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لَا يَتْرُكُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ، وَقَالَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَتْرُكُهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يَدِينَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ» .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» ورواه النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنَّى عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى بِهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا شَهْرٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ غَنْمٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا عَبْدِي مَا عَبَدْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، فَإِنِّي غَافِرٌ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ، يَا عَبْدِي إِنَّكَ إِنْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً مَا لَمْ تُشْرِكْ بِي، لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أبي، حدثنا حسين عن
__________
(1) مسند أحمد 6/ 240.
(2) مسند أحمد 6/ 99.
(3) مسند أحمد 5/ 154.
(4) مسند أحمد 5/ 166. [.....](2/287)
ابْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ حَدَّثَهُ أن أبا الأسود الدئلي حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَدَّثَهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا دَخَلَ الجنة، قلت:
وإن زنى وإن سرق؟ قال: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنَّ زَنَى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» ، قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَجُرُّ إِزَارَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ بهذا وَيَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.
أَخْرَجَاهُ من حديث حسين به.
طريق أخرى: لحديث أبي ذر. قَالَ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ، فقال «يا أبا ذر» قلت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبًا أُمْسِي ثَالِثَةً وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ يَعْنِي لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا» ، وَحَثَا عَنْ يَمِينِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا، فَقَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا» ، فَحَثَا عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا، فَقَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ كَمَا أَنْتَ حَتَّى آتِيَكَ» قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، قَالَ:
فَسَمِعْتُ لَغَطًا، فَقُلْتُ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ لَهُ، قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَّبِعَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ:
لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى جَاءَ، فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ، فَقَالَ «ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:
«وإن زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَحْدَهُ لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي في ظل القمر، فالتفت قرآني، فَقَالَ «مَنْ هَذَا؟» فَقُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَ» . قَالَ:
فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ «إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا» قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فقال لي «اجلس هاهنا» ، فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ، فَقَالَ لِي «اجْلِسْ هَاهُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ» .
قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لَا أَرَاهُ، فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ وهو يقول «وإن زنى وإن سرق» قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ: يا نبي الله، جعلني الله فداك مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَالَ «ذَاكَ جِبْرِيلُ عَرَضَ لِي مِنْ جَانِبِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ: قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى، قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى، قَالَ: نَعَمْ: قُلْتُ: وَإِنْ سرق وإن
__________
(1) مسند أحمد 5/ 152.(2/288)
زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ» .
الْحَدِيثُ السادس: قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُوَجِبَتَانِ، قَالَ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خَلَادٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بن عبيدة الرّبذي، أخبرني عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا حَلَّتْ لَهَا الْمَغْفِرَةُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَذَّبَهَا وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَزَالُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْعَبْدِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ» قِيلَ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا الْحِجَابُ؟ قَالَ «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ- قَالَ- مَا مِنْ نَفْسٍ تَلْقَى اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا إِلَّا حَلَّتْ لَهَا الْمَغْفِرَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ يَشَأْ أَنْ يُعَذِّبَهَا وَإِنْ يَشَأْ أَنْ يَغْفِرَ لَهَا غَفَرَ لَهَا» ثُمَّ قَرَأَ نَبِيُّ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ» تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو قُبَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَاشِرٍ مِنْ بَنِي سَرِيعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رُهْمٍ قَاصَّ أَهْلِ الشَّامِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ خَيَّرَنِي بَيْنَ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَفْوًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَبَيْنَ الْخَبِيئَةِ عِنْدَهُ لِأُمَّتِي، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يا رسول الله، أيخبأ ذَلِكَ رَبُّكَ؟ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ وَهُوَ يُكَبِّرُ فَقَالَ «إِنَّ رَبِّي زَادَنِي مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا وَالْخَبِيئَةُ عِنْدَهُ» قَالَ أَبُو رُهْمٍ: يَا أَبَا أَيُّوبَ: وَمَا تَظُنُّ خَبِيئَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَكَلَهُ النَّاسُ بِأَفْوَاهِهِمْ، فَقَالُوا: وَمَا أَنْتَ وَخَبِيئَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: دَعُوا الرَّجُلَ عَنْكُمْ أُخْبِرْكُمْ عَنْ خَبِيئَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَظُنُّ، بَلْ كَالْمُسْتَيْقِنِ إِنَّ خَبِيئَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مُصَدِّقًا لِسَانَهُ قلبه أدخله الجنة» .
__________
(1) مسند أحمد 3/ 79.
(2) مسند أحمد 5/ 413.(2/289)
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَأَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ نَفْسُهُ عَنْ وَاصِلِ بْنِ السائب الرقاضي، عَنْ أَبِي سَوْرَةَ ابْنِ أَخِي أَبِي أَيُّوبَ الأنصاري، عن أبي أيوب، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي ابْنَ أَخٍ لَا يَنْتَهِي عَنِ الْحَرَامِ. قَالَ «وَمَا دِينُهُ؟» قَالَ: يُصَلِّي وَيُوَحِّدُ اللَّهَ تَعَالَى. قَالَ «اسْتَوْهِبْ مِنْهُ دِينَهُ، فَإِنْ أَبَى فَابْتَعْهُ مِنْهُ» فَطَلَبَ الرَّجُلُ ذَاكَ مِنْهُ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ «وَجَدْتُهُ شَحِيحًا فِي دِينِهِ» قَالَ: فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الضَّحَّاكِ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَسْتُورٌ أَبُو هَمَّامٍ الْهُنَائِيُّ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَرَكْتُ حَاجَةً وَلَا ذَا حَاجَةٍ إِلَّا قَدْ أَتَيْتُ، قَالَ «أَلَيْسَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «فَإِنَّ ذَلِكَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ» .
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عن ضمضم بن جوش الْيَمَامِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا يمامي لا تقولون لِرَجُلٍ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا أَحَدُنَا لِأَخِيهِ وَصَاحِبِهِ إِذَا غَضِبَ قَالَ: لَا تَقُلْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلَانِ: كَانَ أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ الْآخَرُ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ، وَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَزَالُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى ذَنْبٍ فَيَقُولُ: يَا هَذَا أَقْصِرْ، فَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا قَالَ: إِلَى أَنْ رَآهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ، أَقْصِرْ! قَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ الله الْجَنَّةَ أَبَدًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، وَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنت عَالِمًا، أَكُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ اذهبوا به إلى النار: قال: «فو الذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أو بقت دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عمار، حدثني ضمضم بن جوش بِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أبو الشيخ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَجْلَانَ الْأَصْبَهَانِيِّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي، مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا» .
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَالْحَافِظُ أَبُو يعلي: حدثنا هدبة بن خالد،
__________
(1) مسند أحمد 2/ 323.(2/290)
حدثنا سهل بن أبي حازم عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا، فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ تَوَعَّدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا، فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ» تَفَرَّدَا بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ الْخَوْلَانِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيَّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بن حماد عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
كُنَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَشُكُّ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ، وَآكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَاذِفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَشَاهِدِ الزُّورِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَأَمْسَكَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهَادَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» من حديث الهيثم بن جمّاز بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا صَالِحٌ يعني المري، حدثنا أَبُو بِشْرٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا لَا نَشْكُ فِيمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ فِي الْكِتَابِ، حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْنَاهَا كَفَفْنَا عَنِ الشَّهَادَةِ وَأَرْجَيْنَا الْأُمُورَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ سُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ: كُنَّا نُمْسِكُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ حَتَّى سَمِعْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَقَالَ: «أَخَّرْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ، أَخْبَرَنِي مُجَبَّرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] إلى آخر الآية، قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ «2» الَّتِي فِي سُورَةِ تَنْزِيلِ مَشْرُوطَةٌ بِالتَّوْبَةِ، فَمَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ وَإِنَّ تَكَرَّرَ مِنْهُ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] أَيْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَدَخَلَ الشِّرْكُ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ هَاهُنَا بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وَحَكَمَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا عَدَاهُ لِمَنْ يَشَاءُ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَتُبْ صَاحِبُهُ فَهَذِهِ أَرْجَى مِنْ تِلْكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً كَقَوْلِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 129.
(2) أي الآية 53 من سورة الزمر: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا....(2/291)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
13] وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟
قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» «1» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ» ثُمَّ قَرَأَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. ثُمَّ قَرَأَ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لُقْمَانَ: 14] .
[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] ، وَفِي قَوْلِهِمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةَ: 111] ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُقَدِّمُونَ الصِّبْيَانَ أَمَامَهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ يَؤُمُّونَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا ذَنْبَ لَهُمْ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وأبو مالك، وروى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ أَبْنَاءَنَا تُوُفُّوا وَهُمْ لَنَا قُرْبَةٌ وَسَيَشْفَعُونَ لَنَا ويزكوننا، فأنزل الله على محمد أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا ابن حمير عن ابن لهيعة، عن بشير بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ اليهود يقومون صِبْيَانَهُمْ يُصَلُّونَ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ، وَكَذَبُوا، قَالَ الله: إِنِّي لَا أُطَهِّرُ ذَا ذَنْبٍ بِآخِرَ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ، نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالُوا: لَيْسَ لَنَا ذُنُوبٌ كما ليس لأبنائنا ذنوب، فأنزل اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِيهِمْ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ذَمِّ التَّمَادُحِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثُوَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُخْرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحِذَاءِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بكرة،
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة البقرة باب 3) وصحيح مسلم (إيمان حديث 141- 142) .
(2) تفسير الطبري 4/ 130.(2/292)
عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» ، ثُمَّ قَالَ: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ أَحْسَبُهُ كَذَا، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ هُوَ عَالَمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ:
إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ عَالَمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَحَجَّاجٌ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَلَّمَا يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَكَانَ قَلَّمَا يَكَادُ أَنْ يَدَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِنَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْهُ «إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ» عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ، وَمَعْبَدٌ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُوَيْمٍ الْبَصْرِيُّ الْقَدَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ جرير «2» : حدثنا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْدُو بِدِينِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَمَا مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، يَلْقَى الرَّجُلَ لَيْسَ يَمْلِكُ له نفعا ولا ضرا، فيقول له:
إنك والله كَيْتُ وَكَيْتُ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ، ثُمَّ قَرَأَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُطَوَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النَّجْمِ: 32] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أَيْ الْمَرْجِعُ فِي ذلك إلى الله عز وجل لأنه أعلم بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ وَلَا يُتْرَكُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُوَازِنُ مِقْدَارَ الْفَتِيلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ مَا يَكُونُ فِي شِقِّ النَّوَاةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ مَا فَتَلْتَ بَيْنَ أَصَابِعِكَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارِبٌ.
وَقَوْلُهُ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيْ فِي تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلِهِمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] ، وَقَوْلِهِمْ
__________
(1) مسند أحمد 4/ 93.
(2) تفسير الطبري 4/ 131.(2/293)
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آلِ عمران: 24] وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى أَعْمَالِ آبَائِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْآبَاءِ لَا تُجْزِي عَنِ الأنباء شَيْئًا فِي قَوْلِهِ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 134] ، ثُمَّ قَالَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي وكفى بصنيعهم هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً ظَاهِرًا.
وَقَوْلُهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ أَمَّا الْجِبْتُ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ عُمَرَ بن الخطاب أنه قال: الجبت السحر، والطاغوت الشَّيْطَانُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جبير والشعبي والحسن وعطية: الجبت الشيطان، وزاد ابْنُ عَبَّاسٍ:
بِالْحَبَشِيَّةِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْجِبْتُ الشِّرْكُ. وَعَنْهُ: الْجِبْتُ الْأَصْنَامُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: الْجِبْتُ الْكَاهِنُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجِبْتُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْجِبْتُ كَعْبُ بْنُ الأشرف، وقال العلامة أَبُو نَصْرٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الصِّحَاحِ: الْجِبْتُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ «الطِّيَرَةُ وَالْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ من الجبت» .
قال: وليس هذا مِنْ مَحْضِ الْعَرَبِيَّةِ لِاجْتِمَاعِ الْجِيمِ وَالتَّاءِ فِي كلمة واحدة من غير حرف ذو لقيّ «1» .
وهذا الحديث الذي ذكره الإمام أحمد «2» في مسنده، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ حَيَّانَ أَبِي الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ قَبِيصَةُ بْنُ مُخَارِقٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ الْعِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْجِبْتِ» وقال عوف: العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط في الأرض، والجبت، قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الشَّيْطَانُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «3» فِي سُنَنِهِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الضَّيْفِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الطَّوَاغِيتِ، فَقَالَ: هُمْ كُهَّانٌ تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَاحِبُ أَمْرِهِمْ. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: الطَّاغُوتُ هُوَ كُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أَيْ يُفَضِّلُونَ الكفار على
__________
(1) أي الحرف الذي يخرج من ذلق اللسان، وهو طرفه.
(2) مسند أحمد 5/ 60.
(3) سنن أبي داود (طب باب 23) .(2/294)
الْمُسْلِمِينَ بِجَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ دِينِهِمْ، وَكَفْرِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن يزيد المقري، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ، فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ «1» ، وَنَسْقِي الْمَاءَ عَلَى اللَّبَنِ، وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَمُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ «2» قَطَّعَ أَرْحَامَنَا، وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو غِفَارٍ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً الآية، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الصُّنْبُورَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، قَالَ فَنَزَلَتْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الْكَوْثَرِ: 3] وَنَزَلَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ- إِلَى- نَصِيراً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ «3» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ أَبُو رَافِعٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَبُو عَمَّارٍ وَوَحْوَحُ بْنُ عَامِرٍ وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ، فأما وحوح وأبو عامر وَهَوْذَةُ فَمِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ الْأُوَلِ فاسألوهم أَدِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ فَقَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنِ اتَّبَعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [آل عمران: 23] إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: 54] وَهَذَا لَعْنٌ لَهُمْ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَهَبُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ، لِيَسْتَمِيلُوهُمْ إِلَى نُصْرَتِهِمْ، وَقَدْ أَجَابُوهُمْ وَجَاءُوا مَعَهُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ حَتَّى حَفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْخَنْدَقَ، فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب: 25] .
__________
(1) الكوماء: الناقة العالية السنام. [.....]
(2) الصنبور: الذي لا عقب له. وأصل الصنبور النخلة المنفردة التي يدق أسفلها.
(3) سيرة ابن هشام 1/ 561.(2/295)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
[سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 55]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
يَقُولُ تَعَالَى: أَمْ لهم نصيب من الملك، وهذا استفهام إنكاري، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْبُخْلِ، فَقَالَ: فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ لَمَا أَعْطَوْا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، وَلَا مَا يَمْلَأُ النَّقِيرَ وَهُوَ النُّقْطَةُ الَّتِي فِي النَّوَاةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [لإسراء: 100] أَيْ خَوْفَ أَنْ يَذْهَبَ مَا بِأَيْدِيكُمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ نَفَادُهُ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بخلكم وشحكم، ولهذا قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً [الْإِسْرَاءِ: 100] أَيْ بَخِيلًا، ثُمَّ قَالَ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي بِذَلِكَ حَسَدَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَنَعَهَمْ مِنْ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ حَسَدُهُمْ لَهُ، لِكَوْنِهِ مِنَ الْعَرَبِ وَلَيْسَ من بني إسرائيل. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَحْنُ النَّاسُ دُونَ النَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً أَيْ فَقَدْ جَعَلْنَا فِي أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ النُّبُوَّةَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ وَحَكَمُوا فِيهِمْ بِالسُّنَنِ، وَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَجَعَلَنَا منهم الْمُلُوكَ وَمَعَ هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، أَيْ بِهَذَا الْإِيتَاءِ وَهَذَا الْإِنْعَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أَيْ كَفَرَ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَسَعَى فِي صَدِّ النَّاسِ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْهُمْ وَمِنْ جِنْسِهِمْ أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَسْتَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، أَيْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ، فَالْكَفَرَةُ مِنْهُمْ أَشَدُّ تَكْذِيبًا لَكَ، وَأَبْعَدُ عَمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، وَلِهَذَا قَالَ مُتَوَعِّدًا لَهُمْ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أَيْ وَكَفَى بِالنَّارِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ كُتُبَ الله ورسله.
[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يُعَاقِبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَصَدَّ عَنْ رُسُلِهِ، فَقَالَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا الْآيَةَ، أَيْ نُدْخِلُهُمْ نَارًا دُخُولًا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَجْرَامِهِمْ وَأَجْزَائِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ دَوَامِ عُقُوبَتِهِمْ وَنَكَالِهِمْ، فَقَالَ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ قَالَ الْأَعْمَشُ عَنِ ابْنِ عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها بيضاء أمثال القراطيس،(2/296)
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يزيد الحضرمي أنه بلغه في الآية، قَالَ: يُجْعَلُ لِلْكَافِرِ مِائَةُ جِلْدٍ، بَيْنَ كُلِّ جلدين لون من العذاب، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هشام، عن الحسن قوله: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الْآيَةَ، قَالَ: تُنْضِجُهُمْ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ. قَالَ حُسَيْنٌ: وَزَادَ فِيهِ فُضَيْلٌ عَنْ هشام عن الحسن كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ كُلَّمَا أَنْضَجَتْهُمْ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ قِيلَ لَهُمْ عُودُوا فَعَادُوا. وَقَالَ أَيْضًا: ذُكِرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى- يَعْنِي سَعْدَانَ- حَدَّثَنَا نَافِعٌ مَوْلَى يُوسُفَ السُّلَمِيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها فَقَالَ عُمَرُ: أَعِدْهَا عَلَيَّ، فَأَعَادَهَا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: عِنْدِي تَفْسِيرُهَا تُبَدَّلُ فِي سَاعَةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. فَقَالَ عُمَرُ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ بِهِ. وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَبُو هُرْمُزَ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: تَلَا رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ هَذِهِ الْآيَةَ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الْآيَةَ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَعِدْهَا عَلَيَّ، وَثَمَّ كعب، فقال أَنَا عِنْدِي تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَرَأْتُهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ قَالَ: فَقَالَ هَاتِهَا يَا كَعْبُ فَإِنْ جِئْتَ بِهَا كَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقْنَاكَ، وَإِلَّا لَمْ نَنْظُرْ إِلَيْهَا، فَقَالَ: إِنِّي قَرَأْتُهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ:
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ مَرَّةٍ. فَقَالَ عُمَرُ:
هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: أَنَّ جِلْدَ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ ذراعا، وسنه سبعون ذِرَاعًا، وَبَطْنَهُ لَوْ وُضِعَ فِيهِ جَبَلٌ لَوَسِعَهُ، فَإِذَا أَكَلَتِ النَّارُ جُلُودَهُمْ بُدِّلُوا جُلُودًا غَيْرَهَا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الطَّوِيلُ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَعْظُمُ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ حَتَّى إِنَّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِ أَحَدِهِمْ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عام، وإن غلظ جلده سبعون ذرعا، وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلَ أُحُدٍ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أَيْ سَرَابِيلُهُمْ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً
__________
(1) مسند أحمد 2/ 26.
(2) تفسير الطبري 4/ 146.(2/297)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مَآلِ السُّعَدَاءِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَارُ فِي جَمِيعِ فجاجها، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وَأَيْنَ أَرَادُوا وَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا لَا يُحَوَّلُونَ وَلَا يَزُولُونَ وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا. وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أَيْ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْأَذَى وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَذَى. وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْبَوْلِ وَالْحَيْضِ وَالنُّخَامِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَذَى وَالْمَآثِمِ، وَلَا حَيْضَ وَلَا كَلَفَ. وَقَوْلُهُ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أَيْ ظَلَّا عَمِيقًا كَثِيرًا غَزِيرًا طَيِّبًا أَنِيقًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الضَّحَّاكِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها: شجرة الخلد» .
[سورة النساء (4) : آية 58]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال «أَدِّ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ من الصلوات والزكوات والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ، وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَالْوَدَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتَمِنُونَ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِ بَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَدَائِهَا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ» «2» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يوم القيامة، وإن كان قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فيقول فأنى أُؤَدِّيهَا وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَتُمَثَّلُ لَهُ الْأَمَانَةُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي إِلَيْهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، قَالَ: فَتَنْزِلُ عَنْ عَاتِقِهِ فَيَهْوِي عَلَى أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ.
قَالَ زَاذَانُ: فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ أَخِي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابن عباس في الآية، قال: هي مبهمة
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 147.
(2) مسند أحمد 2/ 235. والشاة الجماء: التي ذهب قرناها.(2/298)
لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ مُسَجَّلَةٌ «1» لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ الْأَمَانَةُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنِ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مِنَ الْأَمَانَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ ائْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هِيَ مِنَ الْأَمَانَاتِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، قَالَ: قَالَ يَدْخُلُ فِيهِ وَعْظُ السُّلْطَانِ النِّسَاءَ يَعْنِي يَوْمَ الْعِيدِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الْقُرَشِيُّ الْعَبْدَرِيُّ حَاجِبُ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الَّذِي صَارْتِ الْحِجَابَةُ فِي نَسْلِهِ إِلَى الْيَوْمِ، أَسْلَمَ عُثْمَانُ هَذَا فِي الْهُدْنَةِ بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفْتُحِ مَكَّةَ، هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَمَّا عَمُّهُ عُثْمَانُ بن طلحة بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، فَكَانَ مَعَهُ لِوَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا النَّسَبِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قد يشتبه عليه هَذَا بِهَذَا، وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيهِ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «2» فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ، فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ «3» فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَخْذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فَفُتِحَتْ لَهُ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ اسْتَكَفَّ «4» لَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أهل العلم أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدْعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ» وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟» فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ «هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر» .
__________
(1) مسجلة: مطلقة لكل إنسان برا كان أو فاجرا.
(2) سيرة ابن هشام 2/ 411.
(3) المحجن: عود معوج الطرف يمسكه الراكب للبعير في يده.
(4) استكف: استجمع. من الكافة وهي الجماعة.(2/299)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عن حجاج، عن ابن جريج في الآية، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، قَبَضَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحُ الكعبة فدخل في الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها الآية، فَدَعَا عُثْمَانَ إِلَيْهِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمِفْتَاحَ، قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَعْبَةِ وهو يتلو هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا الزِّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَعِينُوهُ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ دَعَا عثمان بن طَلْحَةَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ «أَرِنِي الْمِفْتَاحَ» فَأَتَاهُ به، فلما بسط يده إليه قام إليه الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ، فَكَفَّ عُثْمَانُ يده، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَرِنِي الْمِفْتَاحَ يَا عُثْمَانُ» فَبَسَطَ يَدَهُ يُعْطِيهِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ مِثْلَ كَلِمَتِهِ الْأُولَى، فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عُثْمَانُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَاتِنِي الْمِفْتَاحَ» فَقَالَ: هَاكَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَتَحَ بَابَ الْكَعْبَةِ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم عليه الصلاة والسلام مَعَهُ قِدَاحٌ يُسْتَقْسَمُ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا لِلْمُشْرِكِينَ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَمَا شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ وَشَأْنُ الْقِدَاحِ» ثُمَّ دَعَا بِجَفْنَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَأَخَذَ مَاءً فَغَمَسَهُ فِيهِ، ثُمَّ غَمَسَ بِهِ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ، وَأَخْرَجَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ فِي الْكَعْبَةِ، فَأَلْزَقَهُ فِي حَائِطِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذِهِ الْقِبْلَةُ» ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطاف في البيت شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فيما ذكر لنا برد المفتاح ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ.
وَهَذَا مِنَ الْمَشْهُورَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا، فَحَكَمُهَا عَامٌّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، أَيْ هِيَ أَمْرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَشَهْرُ بن حوشب: إن هذه الآية إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْأُمَرَاءِ، يَعْنِي الْحُكَّامِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي الْحَدِيثِ «إِنِ اللَّهَ مَعَ الْحَاكِمِ ما لم يجر فإذا جار وكله الله إِلَى نَفْسِهِ» ، وَفِي الْأَثَرِ «عَدْلُ يَوْمٍ كَعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» .
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ والحكم بالعدل بين الناس
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 148.(2/300)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِهِ وَشَرَائِعِهِ الْكَامِلَةِ الْعَظِيمَةِ الشاملة.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ سَمِيعًا لِأَقْوَالِكُمْ، بَصِيرًا بِأَفْعَالِكُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقْرِئُ هَذِهِ الْآيَةَ سَمِيعاً بَصِيراً يَقُولُ: بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدَكَ الْقَزْوِينِيُّ، أَنْبَأَنَا الْمُقْرِئُ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ يعني ابن عمران التجيبي المصري، حدثني أَبُو يُونُسَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً وَيَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله يَقْرَؤُهَا وَيَضَعُ أُصْبُعَيْهِ. قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا: وَصَفَهُ لَنَا الْمُقْرِيُّ، وَوَضَعَ أَبُو زَكَرِيَّا إِبْهَامَهُ الْيُمْنَى عَلَى عَيْنِهِ الْيُمْنَى، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى الْأُذُنِ الْيُمْنَى، وَأَرَانَا فَقَالَ: هَكَذَا وَهَكَذَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَأَبُو يُونُسَ هَذَا مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْمُهُ سُلَيْمُ بن جبير.
[سورة النساء (4) : آية 59]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حديث ابن جريج.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا خَرَجُوا وَجَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ، قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَكُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا، ثُمَّ دَعَا بِنَارٍ فَأَضْرَمَهَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَتَدْخُلُنَّهَا، قَالَ: فَهَمَّ الْقَوْمُ أَنْ يَدْخُلُوهَا قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ شَابٌّ مِنْهُمْ: إِنَّمَا فررتم إلى رسول الله مِنَ النَّارِ، فَلَا تَعْجَلُوا حَتَّى تَلْقَوْا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَمَرَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوهَا فَادْخُلُوهَا، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ «لَوْ دَخَلْتُمُوهَا مَا خَرَجْتُمْ مِنْهَا أَبَدًا، إنما
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 10) .
(2) مسند أحمد 1/ 82.(2/301)
الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «1» : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى الْقَطَّانِ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا. وأن لا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ» ، أَخْرَجَاهُ «2» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال:
«اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنَّ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: «وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبَدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، اسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ «عَبْدًا حَبَشِيًّا مَجْدُوعًا» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ، فيليكم البرّ ببره والفاجر بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ «أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطَوْهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» ، أَخْرَجَاهُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «من رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» ، أَخْرَجَاهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بن العاص
__________
(1) سنن أبي داود (جهاد باب 87) . [.....]
(2) صحيح البخاري (فتن باب 2) وصحيح مسلم (إمارة حديث 42) .
(3) تفسير الطبري 4/ 153.(2/302)
جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ «1» ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ «2» ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«إنه لم يكن نبي من قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتَنٌ يَرْفُقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تنكشف وتجئ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ منيته وهو يؤمن با لله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ، قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاءِ: 29] قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ «3» .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحسين، حدثنا أحمد بن مفضل، حدثنا أسباط عن السدي في قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَارُوا قِبَلَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ، فَلَمَّا بَلَغُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ عَرَّسُوا وَأَتَاهُمْ ذُو الْعُيَيْنَتَيْنِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَصْبَحُوا قَدْ هَرَبُوا غَيْرَ رَجُلٍ فَأَمَرَ أَهْلَهُ فَجَمَعُوا مَتَاعَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حَتَّى أَتَى عَسْكَرَ خَالِدٍ، فَسَأَلَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمَّا سَمِعُوا بِكُمْ هَرَبُوا، وَإِنِّي بَقِيتُ فَهَلْ إِسْلَامِي نَافِعِي غَدًا، وَإِلَّا هَرَبْتُ؟ قَالَ عَمَّارٌ: بَلْ هو ينفع فَأَقِمْ، فَأَقَامَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَغَارَ خَالِدٌ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا غَيْرَ الرَّجُلِ، فَأَخَذَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ، فَبَلَغَ عَمَّارًا الْخَبَرُ، فَأَتَى خَالِدًا فَقَالَ: خَلِّ عَنِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ وَإِنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنِّي، فَقَالَ خَالِدٌ: وَفِيمَ أَنْتَ تُجِيرُ؟ فَاسْتَبَّا وَارْتَفَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَازَ أَمَانَ عَمَّارٍ وَنَهَاهُ أَنْ يُجِيرَ الثَّانِيَةَ عَلَى أَمِيرٍ، فَاسْتَبَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال خالد: أتترك هذا العبد
__________
(1) انتضل القوم وتناضلوا: تراموا بالسهام.
(2) الجشر: الدواب.
(3) صحيح مسلم (إمارة حديث 46) .
(4) تفسير الطبري 4/ 151.(2/303)
الْأَجْدَعَ يَسُبُّنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا خَالِدُ لَا تَسُبَّ عَمَّارًا فَإِنَّهُ مَنْ يَسُبُّ عَمَّارًا يَسُبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يبغضه يبفضه اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنْ عَمَّارًا يَلْعَنْهُ اللَّهُ» فَغَضِبَ عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بِثَوْبِهِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَرَضِيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَنِ السُّدِّيِّ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ ابن مردويه من رواية الحكم بن ظُهَيْرٍ عَنِ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَعْنِي أَهَّلَ الْفِقْهِ وَالدِّينِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَعْنِي الْعُلَمَاءُ وَالظَّاهِرُ والله أعلم أنها عامة في كل أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [الْمَائِدَةِ: 63] وَقَالَ تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْلِ: 43] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» «1» ، فَهَذِهِ أَوَامِرٌ بِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى أَطِيعُوا اللَّهَ أَيْ اتَّبِعُوا كِتَابَهُ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْ خُذُوا بِسُنَّتِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أَيْ فِيمَا أَمَرُوكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا هُمَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مُرَايَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» . وَقَوْلُهُ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَيْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَنْ يَرُدَّ التَّنَازُعَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشُّورَى: 10] فَمَا حَكَمَ بِهِ الكتاب والسنة وَشَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ رَدُّوا الْخُصُومَاتِ وَالْجَهَالَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ من لم يتحاكم في محل النِّزَاعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَرْجِعْ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَوْلُهُ ذلِكَ خَيْرٌ أَيِ التَّحَاكُمُ إِلَى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلًا كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وأحسن جزاء وهو قريب.
__________
(1) صحيح البخاري (أحكام باب 1) وصحيح مسلم (إمارة حديث 32) وسنن النسائي (بيعة باب 27) .
(2) مسند أحمد 4/ 426.(2/304)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، وَهُوَ مع ذلك يريد أن يتحاكم فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ورجل من اليهود تخصاما، فَجَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ، وَذَاكَ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَقِيلَ: فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، أَرَادُوا أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهَا ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَحَاكَمُوا إِلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ هَاهُنَا، وَلِهَذَا قَالَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى آخرها. وَقَوْلُهُ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْكَ إِعْرَاضًا كَالْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لقمان: 21] وَهَؤُلَاءِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النور:
51] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا سَاقَتْهُمُ الْمَقَادِيرُ إِلَيْكَ فِي مَصَائِبَ تَطْرُقُهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذلك ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً أَيْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ وَيَحْلِفُونَ مَا أَرَدْنَا بِذَهَابِنَا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إِلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ، أَيِ الْمُدَارَاةَ وَالْمُصَانَعَةَ لَا اعْتِقَادًا مِنَّا صِحَّةَ تِلْكَ الْحُكُومَةِ، كَمَا أَخْبَرَنَا تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى - إلى قوله- فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [الْمَائِدَةِ: 52] .
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فِيهِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ(2/305)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
الْمُنَافِقُونَ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عَالِمٌ بِظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ لَا تُعَنِّفْهُمْ عَلَى مَا فِي قلوبهم وَعِظْهُمْ أي وانههم عما فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَسَرَائِرِ الشَّرِّ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أَيْ وَانْصَحْهُمْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ رَادِعٍ لَهُمْ.
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
يَقُولُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ أَيْ فُرِضَتْ طَاعَتُهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يُطِيعُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِي، يَعْنِي لَا يُطِيعُهُمْ إِلَّا مَنْ وَفَّقْتُهُ لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 152] أَيْ عَنْ أَمْرِهِ وَقَدْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَسْلِيطِهِ إِيَّاكُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، يُرْشِدُ تَعَالَى الْعُصَاةَ وَالْمُذْنِبِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطَأُ وَالْعِصْيَانُ أَنْ يَأْتُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ وَيَسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ الشَّامِلِ الْحِكَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عَنْ الْعُتْبِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول: [البسيط]
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ يَا عُتْبِيُّ، الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ» .
وَقَوْلُهُ فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ يُقْسِمُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكِّمَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَلِهَذَا قَالَ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أَيْ إِذَا حَكَّمُوكَ يُطِيعُونَكَ فِي بَوَاطِنِهِمْ فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمْتَ بِهِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَيُسَلِّمُونَ لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ وَلَا مُنَازِعَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ(2/306)
هواه تبعا لم جِئْتُ بِهِ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَاصَمَ الزبير رجلا في شراج الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» . وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ، وكان أشار عليهما صلّى الله عليه وسلّم بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية. هكذا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا، أَعْنِي فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، وَفِي كِتَابِ الشُّرْبِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ أَيْضًا، وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، ثُلَاثَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، فَذَكَرَهُ، وَصُورَتُهُ صُورَةُ الْإِرْسَالِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ فِي الْمَعْنَى.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَصَرَّحَ بِالْإِرْسَالِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ يُخَاصِمُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهَا كِلَاهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ «اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ» فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟
فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ» فَاسْتَوْعَى «3» النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ سَعَةً لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، قَالَ عُرْوَةُ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً، هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ عُرْوَةَ وَبَيْنَ أَبِيهِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ، رَوَاهُ كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وهب، أخبرني اللَّيْثُ وَيُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي شِرَاجِ «4» الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلَاهُمَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سرح الماء يمر، فأبى عليه
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 11) .
(2) مسند أحمد 1/ 165- 166.
(3) استوعى الشيء: أخذه كله. والجدد: الحائط.
(4) شراج: جمع شريج، وهو مسيل الماء. والحرة: موضع بالمدينة.(2/307)
الزُّبَيْرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ» فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ» وَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ السَّعَةَ له وللأنصار، فَلَمَّا أَحْفَظَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا فِي ذَلِكَ فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بِهِ. وَجَعَلَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَكَذَا سَاقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنَ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ فَإِنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ:
صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَامَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بذكر عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ غَيْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَهُوَ عَنْهُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ رَجُلٍ مِنْ آلِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا قَضَى لَهُ لِأَنَّهُ ابْنُ عمته، فنزلت: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الْآيَةُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيْوَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ، فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى ثُمَّ الْأَسْفَلُ، هَذَا مُرْسَلٌ وَلَكِنْ فِيهِ فَائِدَةُ تَسْمِيَةِ الْأَنْصَارِيِّ.
ذِكْرُ سَبَبٍ آخَرَ غَرِيبٍ جِدًّا: - قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، وأخبرني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأُسُودِ، قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال المقضي عَلَيْهِ: رُدَّنَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَعَمْ» ، انطلقا إليه، فلما أتيا إليه، فقال الرَّجُلُ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَضَى لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا.
فقال: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فردنا إليك: فقال: أكذاك؟ قال: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ:
مَكَانَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا فأقضي بينكما. فخرج إليها مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ فَضَرَبَ الَّذِي قَالَ:
رُدَّنَا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَتَلَ عُمَرُ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْجَزْتُهُ لَقَتَلَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَجْتَرِئَ عُمَرُ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية، فهدر دم ذلك الرجل(2/308)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
وبرىء عُمَرُ مِنْ قَتْلِهِ، فَكَرِهَ اللَّهُ أَنْ يُسَنَّ ذلك بعد، فأنزل وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 66] ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ بِهِ، وَهُوَ أثر غريب مُرْسَلٌ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: - قَالَ الْحَافِظُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دُحَيْمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ ضَمْرَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: لَا أَرْضَى، فَقَالَ صَاحِبُهُ: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَنْ نَذْهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَذَهَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ لَهُ: قَدِ اخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فقضى لي، فقال أبو بكر: أَنْتُمَا عَلَى مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى صَاحِبُهُ أَنْ يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ لَهُ: قَدِ اخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَضَى لِي عَلَيْهِ، فأبى أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب فَقَالَ كَذَلِكَ، فَدَخَلَ عُمَرُ مَنْزِلَهُ وَخَرَجَ وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ قَدْ سَلَّهُ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية.
[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 70]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِمَا هُمْ مُرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَنَاهِي لَمَا فَعَلُوهُ، لَأَنَّ طِبَاعَهُمُ الرَّدِيئَةَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ، فَكَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» .
ورواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُنِيرٍ، حدثنا روح، حدثنا هشام عن الحسن بإسناده عن الأعمش، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ فَعَلَ رَبُّنَا لَفَعَلْنَا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَلْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِ أهله من الجبال الرواسي» .
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 163.(2/309)
وَقَالَ السُّدِّيُّ: افْتَخَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقَتْلَ فَقَتَلْنَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاللَّهِ لَوْ كَتَبَ عَلَيْنَا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لفعلنا فأنزل الله هذه الآية.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ عَمِّهِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ نَزَلَتْ لَكَانَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ» .
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ» يَعْنِي ابْنَ رَوَاحَةَ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ أَيْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَتَرَكُوا مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أَيْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً، قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ وَأَشَدَّ تَصْدِيقًا وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَيْ مِنْ عِنْدِنَا أَجْراً عَظِيماً يَعْنِي الْجَنَّةَ وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. أَيْ مَنْ عمل بما أمره الله به وَتَرَكَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقًا لِلْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ وهم الصديقون، ثم الشهداء والصالحون الَّذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلَانِيَتُهُمْ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ تَعَالَى فَقَالَ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ» فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الآخر «اللهم الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.
ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عن
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 12) . [.....]
(2) تفسير الطبري 4/ 166.(2/310)
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا فُلَانُ مَا لِي أَرَاكَ محزونا؟» فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه، فقال: مَا هُوَ؟
قَالَ: نَحْنُ نَغْدُو عَلَيْكَ وَنَرُوحُ نَنْظُرُ إِلَى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ وَغَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ فَلَا نَصِلُ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم شَيْئًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الآية، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرَهُ.
وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعن عكرمة، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِهَا سَنَدًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ الآية، وقال: إِنَّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فَضْلٌ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، وَكَيْفَ لَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْجَنَّةِ أَنْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ «إِنِ الْأَعْلَيْنَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ منهم، فيجتمعون في رياض فَيَذْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيَنْزِلُ لَهُمْ أَهْلُ الدَّرَجَاتِ فَيَسْعَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ وَمَا يَدْعُونَ بِهِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ فِيهِ» .
وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ في صِفَةُ الْجَنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْخَلَّالِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْعَابِدِيِّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَرَى بِإِسْنَادِهِ بَأْسًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَسْفَاطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَبَّاسٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأُحِبُّكَ حَتَّى إِنِّي لَأَذَكُرُكَ فِي الْمُنَزَّلِ فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الدَّرَجَةِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم شيئا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ هِقْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ(2/311)
أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي «سَلْ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» «1» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زَكَاةَ مَالِي. وَصُمْتُ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ عَلَى ذلك كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وهكذا- وَنَصَبَ أُصْبُعَيْهِ- مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ «2» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زَبَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «مَنْ قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتُبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ الصالحين، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبُو حَمْزَةَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ شَيْخٌ بَصْرِيٌّ.
وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بِشَارَةً مَا ثَبَتَ في الصحيح وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، فَقَالَ:
«الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قال: إني لأحب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَرْجُو أن الله يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم، قال الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فوقهم، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين من حديث مالك واللفظ لمسلم.
__________
(1) صحيح مسلم (صلاة حديث 225) وسنن أبي داود (تطوع باب 22) وسنن النسائي (تطبيق باب 79) .
(2) لم نقع عليه في مسند أحمد. والمثبت فيه حديث واحد لعمرو بن مرة الجهني 4/ 231.
(3) مسند أحمد 3/ 447. وفي إسناده بين ابن لهيعة وزبان: يحيى بن غيلان ورشدين بن سعد.(2/312)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
ورواه الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» ، حَدَّثَنَا فَزَارَةُ، أَخْبَرَنِي فُلَيْحٌ عَنْ هِلَالٍ يَعْنِي ابْنَ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْجَنَّةِ كما تراءون- أو ترون- الكوكب الدري الغابر في الأفق الطالع فِي تَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ؟ قَالَ: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا عُفَيْفُ بْنُ سَالِمٍ عن أيوب، عن عُتْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْ وَاسْتَفْهِمْ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلْتُمْ عَلَيْنَا بالصور والألوان والنبوة، ثم قال: أَفَرَأَيْتَ إِنْ آمَنْتُ بِمَا آمَنْتَ بِهِ وَعَمِلْتُ بما عَمِلْتَ بِهِ، إِنِّي لَكَائِنٌ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُضِيءُ بَيَاضُ الْأَسْوَدِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، كُتِبَ لَهُ بِهَا مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ» فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَهْلَكُ بَعْدَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَمَلِ لَوْ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لَأَثْقَلَهُ فَتَقُومُ النِّعْمَةُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ، فَتَكَادُ أَنْ تستنفد ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
- إِلَى قَوْلِهِ- نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَانِ: 1] فَقَالَ الْحَبَشِيُّ: وَإِنَّ عَيْنَيَّ لَتَرَيَانِ مَا ترى عيناك في الجنة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» فَاسْتَبْكَى حَتَّى فَاضَتْ نَفْسُهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْلِيهِ فِي حُفْرَتِهِ بِيَدَيْهِ.
فِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ برحمته وهو الَّذِي أَهَّلَهُمْ لِذَلِكَ لَا بِأَعْمَالِهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ والتوفيق.
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 74]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
__________
(1) مسند أحمد 2/ 339.(2/313)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
يأمر الله تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّأَهُّبَ لَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ وَالْعُدَدِ، وَتَكْثِيرِ العدد بالنفير في سبيل الله ثُباتٍ أَيْ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ وَفِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ وَسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَالثُّبَاتُ جَمْعُ ثُبَةٍ، وَقَدْ تُجْمَعُ الثُّبَةُ عَلَى ثُبِينٍ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: قوله: فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَيْ عُصَبًا، يَعْنِي سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً يَعْنِي كُلَّكُمْ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَخُصَيْفٍ الْجَزَرِيِّ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَيُبَطِّئَنَّ أَيْ لَيَتَخَلَّفَنَّ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَبَاطَأُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَيُبَّطِئُ غَيْرَهُ عَنِ الْجِهَادِ كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ- قَبَّحَهُ اللَّهُ- يَفْعَلُ، يَتَأَخَّرُ عَنِ الْجِهَادِ وَيُثَبِّطُ النَّاسَ عَنِ الْخُرُوجِ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْجِهَادِ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أَيْ قَتْلٌ وَشَهَادَةٌ وَغَلَبُ الْعَدُوِّ لَكُمْ لِمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أَيْ إِذْ لَمْ أَحْضُرْ مَعَهُمْ وَقْعَةَ الْقِتَالِ يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدْرِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ فِي الصَّبْرِ أَوِ الشَّهَادَةِ إِنْ قُتِلَ.
وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ نَصْرٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أَيْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أَيْ بِأَنْ يُضْرَبَ لِي بِسَهْمٍ مَعَهُمْ فَأَحْصُلَ عَلَيْهِ. وَهُوَ أَكْبَرُ قَصْدِهِ وَغَايَةُ مُرَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلْيُقاتِلْ أَيِ الْمُؤْمِنُ النَّافِرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أَيْ يَبِيعُونَ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكُفْرِهِمْ وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أَيْ كُلُّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَوَاءٌ قُتِلَ أَوْ غَلَبَ عِنْدَ اللَّهِ مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ وَأَجْرٌ جَزِيلٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:
وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.
[سورة النساء (4) : الآيات 75 الى 76]
وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
يُحَرِّضُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَعَلَى السَّعْيِ فِي اسْتِنْقَاذِ(2/314)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْمُتَبَرِّمِينَ من المقام بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي مَكَّةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [مُحَمَّدٍ: 13] ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً أَيْ سَخِّرْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ وَلِيًّا وَنَاصِرًا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:
كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابن مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلَا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النساء: 98] قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ يُقَاتِلُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَالْكَافِرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ هَيَّجَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِ بِقَوْلِهِ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً
[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 79]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ بِمَكَّةَ مَأْمُورِينَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وإن لم تكن ذات النصب، وكانوا مَأْمُورِينَ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّبْرِ إِلَى حِينٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّقُونَ وَيَوَدُّونَ لَوْ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ لِيَشْتَفُوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَمْ يَكُنِ الْحَالُ إِذْ ذَاكَ مُنَاسِبًا لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: قِلَّةُ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ عَدَدِ عَدُّوِهِمْ، وَمِنْهَا:
كَوْنُهُمْ كَانُوا فِي بلدهم، وهو بلد حرام، أشرف بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ فِيهِ ابتداء كما يقال، فَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْجِهَادِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ لَمَّا صَارَتْ لَهُمْ دَارٌ وَمَنَعَةٌ وَأَنْصَارٌ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا أُمِرُوا بِمَا كَانُوا يَوَدُّونَهُ، جَزِعَ بَعْضُهُمْ منه، وخافوا مُوَاجَهَةِ النَّاسِ خَوْفًا شَدِيدًا وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي لولا أَخَّرْتَ فَرْضَهُ إِلَى مُدَّةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ فِيهِ سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء، وهذه الآية كقوله تَعَالَى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [محمد: 20] .(2/315)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ وَعَلِيُّ بْنُ زِنْجَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عن عمرو بن دينار، وعن عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا:
يَا نَبِيَّ الله، كنا في عزة وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، قَالَ: «إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ» ، فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ بِهِ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَفْرِضَ عليهم القتال، فلما فرض عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وَهُوَ الْمَوْتُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى.
وقال مجاهد: إن هذه الآية نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى أَيْ آخِرَةُ الْمُتَّقِي خَيْرٌ مِنْ دُنْيَاهُ.
وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ بَلْ تُوَفَّوْنَهَا أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لَهُمْ عَنِ الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَحْرِيضٌ لَهُمْ على الجهاد.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هشام، قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَحِبَهَا عَلَى حَسَبِ ذلك، وما الدُّنْيَا كُلُّهَا أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا إِلَّا كَرَجُلٍ نَامَ نَوْمَةً فَرَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ مَا يُحِبُّ ثُمَّ انْتَبَهَ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ كَانَ أَبُو مسهر ينشد: [الطويل]
ولا خير في الدنيا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ... مِنَ اللَّهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ
فِإِنْ تُعْجِبِ الدُّنْيَا رِجَالًا فإنها ... متاع قليل والزوال قريب
وقوله تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: 26] ، وَقَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 185] ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الْأَنْبِيَاءِ: 34] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ صَائِرٌ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا ينجيه من ذلك شيء سواء جَاهَدَ أَوْ لَمْ يُجَاهِدْ، فَإِنَّ لَهُ أَجَلًا محتوما، ومقاما مَقْسُومًا، كَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حِينَ جاء الْمَوْتُ عَلَى فِرَاشِهِ: لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا، وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلَّا وَفِيهِ جُرْحٌ مِنْ طَعْنَةٍ أَوْ رَمْيَةٍ، وَهَا أنا أموت على فراشي، فلا
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 174.(2/316)
نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ حَصِينَةٍ مَنِيعَةٍ عَالِيَةٍ رَفِيعَةٍ، وقيل، هي بروج في السماء قال السُّدِّيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْمَنِيعَةُ، أَيْ لَا يُغْنِي حَذَرٌ وَتَحَصُّنٌ مِنَ الْمَوْتِ، كَمَا قال زهير بن أبي سلمى: [الطويل]
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
ثُمَّ قِيلَ: الْمُشَيَّدَةُ هِيَ الْمَشِيدَةُ كَمَا قَالَ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وَقِيلَ: بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشَيَّدَةَ بِالتَّشْدِيدِ هِيَ الْمُطَوَّلَةُ، وَبِالتَّخْفِيفِ هِيَ الْمُزَيَّنَةُ بِالشَّيْدِ وَهُوَ الْجَصُّ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ- هَاهُنَا- حِكَايَةً مُطَوَّلَةً عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ امْرَأَةً فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا أَخْذَهَا الطَّلْقُ، فَأَمَرَتْ أَجِيرَهَا أَنْ يَأْتِيَهَا بِنَارٍ، فَخَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ وَاقِفٍ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ:
مَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: جَارِيَةً، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا سَتَزْنِي بِمِائَةِ رَجُلٍ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا أَجِيرُهَا وَيَكُونُ مَوْتُهَا بِالْعَنْكَبُوتِ. قَالَ: فَكَرَّ رَاجِعًا، فبعج بطن الجارية بسكين فَشَقَّهُ ثُمَّ ذَهَبَ هَارِبًا، وَظَنَّ أَنَّهَا قَدْ مَاتَتْ، فَخَاطَتْ أُمُّهَا بَطْنَهَا فَبَرِئَتْ وَشَبَّتْ وَتَرَعْرَعَتْ وَنَشَأَتْ أَحْسَنَ امْرَأَةٍ بِبَلْدَتِهَا، فَذَهَبَ ذَاكَ الْأَجِيرُ مَا ذَهَبَ وَدَخَلَ الْبُحُورَ فَاقْتَنَى أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثم رجع إلى بلده وأراد التزوج، فَقَالَ لِعَجُوزٍ: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِأَحْسَنِ امْرَأَةٍ بهذه البلدة، فقالت ليس هاهنا أَحْسَنَ مِنْ فُلَانَةٍ، فَقَالَ: اخْطُبِيهَا عَلَيَّ، فَذَهَبَتْ إِلَيْهَا فَأَجَابَتْ، فَدَخَلَ بِهَا فَأَعْجَبَتْهُ إِعْجَابًا شَدِيدًا، فَسَأَلَتْهُ عَنْ أَمْرِهِ وَمِنْ أَيْنَ مَقْدِمُهُ، فَأَخْبَرَهَا خبره وما كان من أمره في الجارية، فَقَالَتْ: أَنَا هِيَ وَأَرَتْهُ مَكَانَ السِّكِّينِ، فَتَحَقَّقَ ذلك، فقال: لئن كنت إياها فلقد أخبرني بِاثْنَتَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا إِحْدَاهُمَا أَنَّكِ قَدْ زَنَيْتِ بِمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَالَتْ: لَقَدْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا عَدَدُهُمْ فقال: هم مائة: والثاني أَنَّكِ تَمُوتِينَ بِالْعَنْكَبُوتِ فَاتَّخَذَ لَهَا قَصْرًا مَنِيعًا شاهقا ليحرزها من ذلك، فبينما هم يوما فإذا بالعنكبوت في السقف فأراها، فقالت: أهذه هي الَّتِي تَحْذَرُهَا عَلَيَّ، وَاللَّهِ لَا يَقْتُلُهَا إِلَّا أَنَا، فَأَنْزَلُوهَا مِنَ السَّقْفِ، فَعَمَدَتْ إِلَيْهَا فَوَطِئَتْهَا بِإِبْهَامِ رِجْلِهَا فَقَتَلَتْهَا، فَطَارَ مِنْ سُمِّهَا شَيْءٌ فوقع بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها، فكان في ذلك أجلها، فماتت.
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا قِصَّةَ صَاحِبِ الْحَضْرِ وَهُوَ السَّاطِرُونَ «2» لَمَّا احْتَالَ عَلَيْهِ سَابُورُ حَتَّى حَصَرَهُ فِيهِ وَقَتَلَ مَنْ فِيهِ بَعْدَ مُحَاصَرَةِ سَنَتَيْنِ، وَقَالَتِ العرب «3» في ذلك أشعارا منها: [الخفيف]
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابور
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 175.
(2) الساطرون معناه بالسريانية: الملك. وقال ابن هشام (سيرة 1/ 71) : النعمان بن المنذر من ولد ساطرون ملك الحضر. والحضر: حصن عظيم كالمدينة على شاطئ الفرات.
(3) الشعر لعدي بن زيد كما ذكر ابن هشام في السيرة النبوية.(2/317)
شاده مرمرا وجلّله كلسا ... فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ تَهَبْهُ أَيْدِي المنون فباد ... الملك عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
وَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ جعل يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْمَعْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ثُمَّ تَمَثَّلَ بقول الشاعر: [الطويل]
أَرَى الْمَوْتَ لَا يُبْقِي عَزِيزًا وَلَمْ يَدَعْ ... لِعَادٍ مَلَاذًا فِي الْبِلَادِ وَمَرْبَعَا
يُبَيَّتُ أَهْلُ الْحِصْنِ وَالْحِصْنُ مُغْلَقٌ ... وَيَأْتِي الْجِبَالَ فِي شَمَارِيخِهَا معا
قال ابن هشام «1» : وكان كسرى سابور ذو الأكتاف قتل الساطرون ملك الحضر، وقال ابن هشام: إن الذي قتل صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان، وأذل ملوك الطوائف، ورد الملك إلى الأكاسرة، فأما سابور ذو الأكتاف فهو من بعد ذلك بزمن طويل، والله أعلم، ذكره السهيلي، قال ابن هشام: فحصره سنتين وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته وهو في العراق، وأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، فدست إليه أن تتزوجيني إن فتحت لك باب الحصن «2» ، فقال: نعم، فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه فبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب، ويقال: دلتهم على طلسم كان في الحصن لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء فتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل، فإذا وقعت على سور الحصن سقط ذلك ففتح الباب، ففعل ذلك، فدخل سابور، فقتل ساطرون واستباح الحصن وخربه، وسار بها معه وتزوجها، فبينما هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تتململ لا تنام، فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد فيه ورقة آس، فقال لها سابور: هذا الذي أسهرك فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ، ويسقيني الخمر، قال الطبري: كان يطعمني المخ والزبد، وشهد أبكار النحل، وصفو الخمر! وذكر أنه كان يرى مخ ساقها، قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به؟! أنت إلي بذاك أسرع، ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس، فركض الفرس حتى قتلها، وفيه يقول عدي بن زيد العبادي أبياته المشهورة: [الخفيف]
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلد أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر وأين ... أم أين قبله سابور
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 71.
(2) في السيرة: «أتتزوجيني إن فتحت لك باب الحضر» .(2/318)
وبنو الأصفر الكرام ملوك ... الروم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ... الملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ شرف ... يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يملك ... والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبطة ... حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور
ثم بعد الفلاح والملك والأمة ... وارتهم هناك القبور
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ أَيْ خِصْبٌ وَرِزْقٌ مِنْ ثِمَارٍ وَزُرُوعٍ وَأَوْلَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيِّ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَقْصٌ فِي الثِّمَارِ والزروع أو موت أولاد أو إنتاج أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أَيْ مِنْ قِبَلِكَ وَبِسَبَبِ اتِّبَاعِنَا لَكَ وَاقْتِدَائِنَا بِدِينِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: 131] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَجِّ:
11] ، وَهَكَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا وَهُمْ كَارِهُونَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِهَذَا إِذَا أَصَابَهُمْ شَرٌّ إِنَّمَا يسندونه إلى أتباعهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَإِنْ تصبهم حسنة، قال: والحسنة الخصب، تنتج مواشيهم وخيولهم، ويحسن حالهم وَتَلِدُ نِسَاؤُهُمُ الْغِلْمَانَ، قَالُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ وَالسَّيِّئَةُ الْجَدْبُ وَالضَّرَرُ فِي أَمْوَالِهِمْ، تَشَاءَمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يَقُولُونَ: بِتَرْكِنَا ديننا وَاتِّبَاعِنَا مُحَمَّدًا أَصَابَنَا هَذَا الْبَلَاءُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيِ الْجَمِيعُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَهُوَ نَافِذٌ فِي الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ شَكٍّ وَرَيْبٍ، وَقِلَّةِ فَهْمٍ وَعِلْمٍ وَكَثْرَةِ جَهْلٍ وَظُلْمٍ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.
ذِكْرُ حَدِيثٍ غَرِيبٍ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا السَّكَنُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَجَلَسَ أبو بكر قريبا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسَ عُمَرُ قَرِيبًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِمَ(2/319)
ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُكُمَا؟» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال أبو بكر: يا رسول الله الْحَسَنَاتُ مِنَ اللَّهِ وَالسَّيِّئَاتُ مِنْ أَنْفُسِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فما قلت يا عمر؟» فقال: قلت الحسنات والسيئات من اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَقَالَ مِيكَائِيلُ مَقَالَتَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَقَالَ جِبْرِيلُ مَقَالَتَكَ يَا عُمَرُ» فَقَالَ: «نَخْتَلِفُ فَيَخْتَلِفُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَإِنْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السَّمَاءِ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى إِسْرَافِيلَ فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ اللَّهِ» . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: «احْفَظَا قضائي بينكما، لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إِبْلِيسَ» .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ لِيَحْصُلَ الْجَوَابُ مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَمَنِّهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أَيْ فَمِنْ قِبَلِكَ، وَمِنْ عَمَلِكَ أَنْتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشُّورَى: 30] قَالَ السُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أَيْ بذنبك. وقال قتادة في الآية فَمِنْ نَفْسِكَ عقوبة لك يَا ابْنَ آدَمَ بِذَنْبِكَ. قَالَ:
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُصِيبُ رَجُلًا خَدْشُ عُودٍ وَلَا عَثْرَةُ قَدَمٍ، وَلَا اخْتِلَاجُ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ» وَهَذَا الَّذِي أَرْسَلَهُ قَتَادَةُ قَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا فِي الصَّحِيحِ «1» «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، وَلَا نَصَبٌ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» .
وَقَالَ أَبُو صالح وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أَيْ بِذَنْبِكَ وَأَنَا الَّذِي قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سَهْلٌ يَعْنِي ابْنَ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ وَاصِلِ ابن أَخِي مُطَرِّفٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
مَا تُرِيدُونَ مِنَ الْقَدَرِ أَمَا تَكْفِيكُمُ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ؟ أَيْ مِنْ نَفْسِكَ وَاللَّهِ مَا وُكِلُوا إِلَى الْقَدَرِ وَقَدْ أُمِرُوا وَإِلَيْهِ يَصِيرُونَ.
وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ قَوِيٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ أَيْضًا. وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أَيْ تُبْلِغُهُمْ شَرَائِعَ اللَّهِ وَمَا يُحِبُّهُ الله وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَكَ وَهُوَ شَهِيدٌ أَيْضًا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم
__________
(1) صحيح البخاري (مرض باب 1) وصحيح مسلم (بر حديث 50 و 51 و 52) .
(2) تفسير الطبري 4/ 179.(2/320)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
إِيَّاهُ وَبِمَا يَرُدُّونَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ كُفْرًا وعنادا.
[سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 81]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يوحى. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ ما عَلَيْكَ مِنْهُ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ فَمَنْ اتبعك سَعِدَ وَنَجَا، وَكَانَ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ نَظِيرُ مَا حَصَلَ لَهُ، وَمَنْ تَوَلَّى عَنْكَ خَابَ وَخَسِرَ وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ» .
وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أَيْ خَرَجُوا وَتَوَارَوْا عَنْكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أَيْ اسْتَسَرُّوا لَيْلًا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ ما أظهروه لك، فَقَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ أَيْ يَعْلَمُهُ وَيَكْتُبُهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ حَفِظْتَهُ الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يُضْمِرُونَهُ وَيُسِرُّونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ لَيْلًا مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم وَعِصْيَانِهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا [النُّورِ: 47] ، وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيِ اصْفَحْ عَنْهُمْ وَاحْلُمْ عَلَيْهِمْ وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ، وَلَا تَكْشِفْ أُمُورَهُمْ لِلنَّاسِ، وَلَا تَخَفْ مِنْهُمْ أَيْضًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ كَفَى بِهِ وَلِيًّا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إليه.
[سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 83]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
يقول تعالى آمرا لهم بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَنْ تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ الْمُحْكَمَةِ وَأَلْفَاظِهِ الْبَلِيغَةِ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، وَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ حَقٍّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها(2/321)
[مُحَمَّدٍ: 24] ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أَيْ لَوْ كَانَ مُفْتَعَلًا مُخْتَلَقًا، كما يقوله من يقول مِنْ جَهَلَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي بَوَاطِنِهِمْ لَوَجَدُوا فيه اختلافا، أَيْ اضْطِرَابًا وَتَضَادًّا كَثِيرًا، أَيْ وَهَذَا سَالِمٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَيْثُ قَالُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آلِ عِمْرَانَ: 7] أَيْ مُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ حَقٌّ، فَلِهَذَا رَدُّوا الْمُتَشَابِهَ إِلَى الْمُحْكَمِ فَاهْتَدَوْا، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ رَدُّوا الْمُحْكَمَ إِلَى الْمُتَشَابِهِ فغووا، وَلِهَذَا مَدَحَ تَعَالَى الرَّاسِخِينَ وَذَمَّ الزَّائِغِينَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا أبو حازم، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَقَدْ جَلَسْتُ أَنَا وَأَخِي مَجْلِسًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، أَقْبَلْتُ أنا وأخي وإذا مشيخة مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَجَلَسْنَا حَجْرَةً «2» إِذْ ذَكَرُوا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَتَمَارَوْا فِيهَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ يَرْمِيهِمْ بِالتُّرَابِ وَيَقُولُ: «مَهْلًا يَا قَوْمُ بِهَذَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ مَنْ قَبْلِكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمُ الْكُتُبَ بَعْضَهَا ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، إنما نزل يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وما جهلتم منه فردوه إِلَى عَالِمِهِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ «3» أَيْضًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ، فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الغضب، فقال لهم: «مالكم تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» قَالَ: فَمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أَشْهَدْهُ مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنِّي لَمْ أَشْهَدْهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: هَجَّرْتُ «5» إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يوما، فإنا لجلوس إذا اخْتَلَفَ اثْنَانِ فِي آيَةٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النساء: 83] إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْأُمُورِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا فَيُخْبِرُ بِهَا وَيُفْشِيهَا وَيَنْشُرُهَا، وَقَدْ لَا يكون لها صحة. وقد قال
__________
(1) مسند أحمد 2/ 181. [.....]
(2) أي منفردين.
(3) مسند أحمد 2/ 178.
(4) مسند أحمد 2/ 192.
(5) هجرت: بادرت فذهبت مبكرا.(2/322)
مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كفى بالمرء كذبا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِشْكَابٍ، عَنْ علي بن حفص عن شعبة مسندا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ الْعَنْبَرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ عمرو النَّمِرِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خُبَيْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ بِهِ مُرْسَلًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ «1» ، أَيْ الَّذِي يُكْثِرُ مِنَ الْحَدِيثِ عَمَّا يَقُولُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، وَلَا تَدَبُّرٍ، وَلَا تَبَيُّنٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «بئس مطية الرجل زعموا» «2» . وَفِي الصَّحِيحِ «مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» .
وَيُذْكَرُ هَاهُنَا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، طلق نساءه، فجاء مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَفْهَمَهُ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فقال «لَا» فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ فَقَالَ «لَا» فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي، لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 83] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذلك الأمر.
ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه مِنْ مَعَادِنِهِ، يُقَالُ: اسْتَنْبَطَ الرَّجُلُ الْعَيْنَ إِذَا حفرها واستخرجها من قعورها. وقوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 83] ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا يَعْنِي كُلَّكُمْ، وَاسْتَشْهَدَ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِ الطِّرْمَاحِ بْنِ حَكِيمٍ فِي مَدْحِ يَزِيدَ بن المهلب: [المتقارب]
أشم نديّ كثير النوادي «3» ... قَلِيلَ الْمَثَالِبِ وَالْقَادِحَةْ
يَعْنِي لَا مَثَالِبَ لَهُ ولا قادحة فيه.
__________
(1) صحيح مسلم (أقضية حديث 12- 14) .
(2) سنن أبي داود (أدب باب 72) .
(3) رواية الطبري (4/ 186) : «أشمّ كثير يديّ النّوال» .(2/323)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
[سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 87]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
يَأْمُرُ تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فَلَا عَلَيْهِ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُبَيْحٍ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ الْكِنْدِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ عَنِ الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله فيه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَةِ: 195] ؟ قَالَ: قد قال الله تعالى لنبيه: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ:
قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَهْوَ مِمَّنْ أَلْقَى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، إن الله بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الآية، قال لأصحابه: «وقد أَمَرَنِي رَبِّي بِالْقِتَالِ فَقَاتِلُوا» حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ عَلَى الْقِتَالِ وَرَغِّبْهُمْ فِيهِ وشجعهم عليه، كما قال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ يسوي الصفوف: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «1» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا» . قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فإنه وسط الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تفجر أنهار الجنة» وروي من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء، نَحْوُ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وبالإسلام دينا، بمحمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا ونبيا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» ، قَالَ: فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سعيد، فقال: أعدها
__________
(1) صحيح البخاري (جهاد باب 4) .(2/324)
عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُخْرَى يرفع الله العبد بها مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ «1» .
وَقَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ بِتَحْرِيضِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى الْقِتَالِ تَنْبَعِثُ هِمَمُهُمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ. وَمُدَافَعَتِهِمْ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَمُقَاوَمَتِهِمْ ومصابرتهم.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [مُحَمَّدٍ: 4] .
وَقَوْلُهُ: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أي من يسعى في أمر فيترتب عَلَيْهِ خَيْرٌ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أَيْ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَى سَعْيِهِ وَنِيَّتِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
«اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» ، وَقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَفَاعَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ ولم يقل مَنْ يُشَفَّعْ، وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَعَطِيَّةُ وَقَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ مُقِيتاً أَيْ حَفِيظًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَهِيدًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: حَسِيبًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: قَدِيرًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: الْمُقِيتُ الْوَاصِبُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ الْمَقِيتُ الرَّزَّاقُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُطَرِّفٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ رَجُلٍ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وسأله رجل عن قول الله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً قَالَ: مقيت لكل إنسان بقدر عَمَلِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها أَيْ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْمُسْلِمُ فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا سَلَّمَ، أَوْ ردوا عليه بمثل ما سلم، فَالزِّيَادَةُ مَنْدُوبَةٌ، وَالْمُمَاثَلَةُ مَفْرُوضَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حدثنا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ الْأَنْطَاكِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ لَاحِقٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ورحمة الله» ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ: «وَعَلَيْكَ» ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَتَاكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَسَلَّمَا عَلَيْكَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ فَقَالَ: «إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ
__________
(1) صحيح مسلم (إمارة حديث 116) .
(2) تفسير الطبري 4/ 192) .(2/325)
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فَرَدَدْنَاهَا عَلَيْكَ» ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُعَلَّقًا، فَقَالَ:
ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَنْطَاكِيُّ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا: حدثنا هشام بن لاحق فذكره بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ لَاحِقٍ أَبُو عُثْمَانَ فَذَكَرَهُ مثله، وَلَمْ أَرَهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي السَّلَامِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِذْ لَوْ شُرِعَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَزَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن كثير أخو سليمان عن كثير، حدثنا جعفر بن سليمان بن عَوْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بن حصين أن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فقال: السلام عليكم يا رسول الله فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: «عَشْرٌ» ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ يا رسول اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «عِشْرُونَ» ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: «ثَلَاثُونَ» ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وعلي وسهل بن حنيف، وَقَالَ الْبَزَّارُ: قَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ هَذَا أَحْسَنُهَا إِسْنَادًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عبد الرحمن الرواسي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: من سلم عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، يَعْنِي لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ رُدُّوهَا يَعْنِي لأهل الذمة.
وهذا التنزيل فيه نظر كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَرُدَّ بِأَحْسَنِ مِمَّا حَيَّاهُ بِهِ، فَإِنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُ غَايَةَ مَا شُرِعَ فِي السَّلَامِ، رُدَّ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا قَالَ، فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يُبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ وَلَا يُزَادُونَ، بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليك» «2» في صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تبدأوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ» «3» . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: السَّلَامُ تَطَوُّعٌ والرد فريضة، وهذا الذي قال هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً، أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، فَيَأْثَمُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فحيوا بأحسن منها أو ردوها
__________
(1) مسند أحمد 1/ 439.
(2) صحيح البخاري (استئذان باب 22) وصحيح مسلم (سلام حديث 9) .
(3) صحيح مسلم (سلام حديث 14) .(2/326)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ [أَبُو دَاوُدَ بسنده إلى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» ] «1» .
وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِخْبَارٌ بِتَوْحِيدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَضَمَّنَ قَسَمًا لِقَوْلِهِ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَهَذِهِ اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، فَقَوْلُهُ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ وَقَسَمٌ أَنَّهُ سَيَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أَيْ لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ فِي حَدِيثِهِ وَخَبَرِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تَقُولُ: نَقْتُلُهُمْ، وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» «3» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَجَعَ يَوْمَئِذٍ بِثُلُثِ الْجَيْشِ، رَجَعَ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَبَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِمِائَةٍ، وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من سنن أبي داود (أدب باب 131) ومكانه في الأصل بياض. [.....]
(2) مسند أحمد 5/ 184.
(3) هذا لفظ مسلم (حج حديث 488) من طريق أبي هريرة. أما لفظ أحمد (5/ 184) ومسلم (حج 490 ومنافقين 6) والبخاري (تفسير سورة النساء باب 12) جميعا من طريق زيد بن ثابت فهو: «كما تنفي النار خبث الفضة» .(2/327)
فِي قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وكانوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ، قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ كَمَا قَالُوا: أَتَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ من أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَلَمْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، نستحل دماءهم وَأَمْوَالُهُمْ؟ فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ عِنْدَهُمْ لَا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنِ ابْنٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقَاوُلِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي شَأْنِ عَبْدِ الله بن أبي، حين استعذر مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَيْ رَدَّهُمْ وَأَوْقَعَهُمْ فِي الْخَطَأِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرْكَسَهُمْ أَيْ أَوْقَعَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلَكَهُمْ وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَضَلَّهُمْ، وَقَوْلُهُ: بِما كَسَبُوا أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الهدى ولا مخلص له إليه، وقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَسْتَوُوا أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ فِيهَا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَبُغْضِهِمْ لَكُمْ وَلِهَذَا قَالَ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ تَرَكُوا الْهِجْرَةَ، قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أَيْ لَا تُوَالُوهُمْ وَلَا تَسْتَنْصِرُوا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك، ثم استثنى الله مِنْ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَيْ إِلَّا الَّذِينَ لَجَئُوا وَتَحَيَّزُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مُهَادَنَةٌ، أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لما ظهر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ، قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا: صَهٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟» قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنَّ تُوَادِعَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا لَمْ تَخْشُنْ قُلُوبُ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: «اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ» فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَلَّا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَسْلَمَتْ قريش أسلموا معهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما(2/328)
كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فكان من وصل إليهم كان مَعَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، وَهَذَا أَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: فَكَانَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي صُلْحِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي صلح محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابِهِ وَعَهْدِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَةِ: 5] .
وَقَوْلُهُ: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ الآية، هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَصَافِّ وَهُمْ حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ أَيْ ضَيِّقَةٌ صُدُورُهُمْ مُبْغِضِينَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ، وَلَا يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ بَلْ هُمْ لَا لَكُمْ وَلَا عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ أَيْ مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أَيِ الْمُسَالَمَةَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي فليس لكم أن تقاتلوهم مَا دَامَتْ حَالُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ كَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بِدْرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَحَضَرُوا الْقِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ كَالْعَبَّاسِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ عن قتل العباس وأمر بِأَسْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ كَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَلَكِنْ نِيَّةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ نِيَّةِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ هؤلاء قوم مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ الْإِسْلَامَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون مَعَهُمْ مَا يَعْبُدُونَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مَعَ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 14] ، وَقَالَ هَاهُنَا كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها أَيْ انْهَمَكُوا فِيهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفِتْنَةُ- هَاهُنَا- الشِّرْكُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُونَ رِيَاءً ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصْلِحُوا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ المهادنة والصلح، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي عن القتال، فَخُذُوهُمْ أسراء، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَيْ أَيْنَ لَقِيتُمُوهُمْ، وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ بَيِّنًا واضحا.(2/329)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بوجه من الوجوه، وكما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» «1» ثُمَّ إِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا خَطَأً قَالُوا: هو استثناء منقطع، كقول الشاعر: [الطويل]
مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأْ ... عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا رَيْطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ «2»
وَلِهَذَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخِي أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ وهي أسماء بنت مخرمة، وذلك أنه قتل رجلا يُعَذِّبُهُ مَعَ أَخِيهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْحَارِثُ بن يزيد الغامدي، فَأَضْمَرَ لَهُ عَيَّاشٌ السُّوءَ، فَأَسْلَمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَهَاجَرَ وَعِيَاشٌ لَا يَشْعُرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَآهُ فَظَنَّ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ فَحَمَلَ عليه فقتله، فأنزل الله هذه الْآيَةِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّرْدَاءِ لِأَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السَّيْفَ، فَأَهْوَى بِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ كَلِمَتَهُ، فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا فَقَالَ لَهُ: هَلْ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ لِغَيْرِ أَبِي الدَّرْدَاءِ «3» .
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ هَذَانَ وَاجِبَانِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، أَحَدُهُمَا الْكَفَّارَةُ لِمَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً، وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مؤمنة فلا تجزئ الكافرة، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُجْزِئُ الصَّغِيرُ حَتَّى يَكُونَ قَاصِدًا لِلْإِيمَانِ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: في حرف، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا يُجْزِئُ فِيهَا صَبِيٌّ، واختار ابن جرير «4» أنه إِنْ كَانَ مَوْلُودًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَجَزَأَ وَإِلَّا فَلَا، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُسْلِمًا صَحَّ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ سَوَاءٌ كان صغيرا أو كبيرا.
__________
(1) صحيح البخاري (ديات باب 6) وصحيح مسلم (قسامة حديث 25- 26) وسنن الترمذي (حدود باب 15) وسنن أبي داود (حدود باب 1) .
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 457 وتفسير الطبري 4/ 205. والريط: الملاءة. والمرحّل: الموشّى. قال ابن جرير الطبري: ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البرد من الأرض.
(3) وردت هذه القصة بشأن المقداد بن الأسود في رواية مسند أحمد 4/ 438.
(4) تفسير الطبري 4/ 207.(2/330)
قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّهُ جَاءَ بِأَمَةٍ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ علي عتق رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَإِنْ كُنْتَ تَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً أعتقتها، فقال لها رسول الله: «أتشهدين أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ.
قال: «أتشهدين أني رسول الله؟» قالت: نعم. قال: «أتؤمنين بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟» قَالَتْ:
نَعَمْ. قَالَ: «أَعْتِقْهَا» . وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره، وفي موطأ مالك ومسند الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ السَّوْدَاءِ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: «من أنا» قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
«أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» «2» .
وَقَوْلُهُ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ هُوَ الْوَاجِبُ الثَّانِي فِيمَا بَيْنُ الْقَاتِلِ وَأَهْلِ الْقَتِيلِ عِوَضًا لَهُمْ عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْ قتيلهم، وَهَذِهِ الدِّيَةُ إِنَّمَا تَجِبُ أَخْمَاسًا، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خَشْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُورًا، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جذعة، وعشرين حقة «3» ، لفظ النسائي قال التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْقُوفًا، كما روي عن علي وطائفة، وقيل: تجب أرباعا وهذه الدية على العاقلة لَا فِي مَالِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ «4» وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَدِيثِ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةُ «5» عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ حكم عمد الخطأ حكم الْمَحْضِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لَكِنَّ هَذَا تَجِبُ فيه الدية أثلاثا لشبهة العمد.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ
__________
(1) مسند أحمد 3/ 451.
(2) مسند أحمد 5/ 447.
(3) الحقة: هي الداخلة في السنة الرابعة. وابن اللبون: ما دخل في الثالثة. وابن المخاض ما دخل في الثانية. والجذعة: ما تمّ له أربع سنوات.
(4) عاقلة الرجل: عصبته، وهم القرابة من جهة الأب الذين يشتركون في دفع ديته.
(5) الغرة من القوم: شريفهم وسيدهم. ومن المتاع: خياره ورأسه.(2/331)
خَالِدٌ يَقْتُلُهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» «1» وَبَعَثَ عَلِيًّا فَوَدَى قَتْلَاهُمْ وَمَا أُتْلِفَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى مِيلَغَةَ «2» الْكَلْبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أَيْ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا فَلَا تَجِبُ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَيْ إِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُؤْمِنًا وَلَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ مِنَ الْكُفَّارِ أَهْلَ حَرْبٍ، فَلَا دِيَةَ لَهُمْ، وَعَلَى الْقَاتِلِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا غَيْرَ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الْآيَةَ، أَيْ فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ أَوْلِيَاؤُهُ أَهْلَ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ فَلَهُمْ دِيَةُ قَتِيلِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَدِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَا إِنْ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ: يَجِبُ فِي الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَقِيلَ: ثُلُثُهَا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْقَاتِلِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أَيْ لَا إِفْطَارَ بَيْنَهُمَا بَلْ يَسْرُدُ صَوْمَهُمَا إِلَى آخِرِهِمَا، فَإِنْ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ اسْتَأْنَفَ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ هَلْ يَقْطَعُ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَوْلُهُ: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ هَذِهِ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ خَطَأً إِذَا لَمْ يَجِدِ الْعِتْقَ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، واختلفوا فيمن لا يستطع الصِّيَامَ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا، لِأَنَّ هَذَا مَقَامُ تَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْهِيلِ والترخيص، والقول الثاني لا يعدل إلى الطعام، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَخَّرَ بَيَانَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَقَالَ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ تَعَاطَى هَذَا الذَّنْبَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْفَرْقَانِ: 68] ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام: 151] ، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» «3» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبَدَةَ الْمِصْرِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فإذا
__________
(1) صحيح البخاري (أحكام باب 35 ومغازي باب 58 ودعوات باب 22) .
(2) الميلغة: الإناء الذي يشرب منه الكلب.
(3) صحيح البخاري (ديات باب 1) وصحيح مسلم (قسامة حديث 28) . [.....](2/332)
أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ» «1» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رجل مسلم» ، وفي الحديث الآخر «ومن أعان على قتل المسلم وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .
وَقَدْ كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا المغيرة بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ، وَكَذَا رَوَاهُ هُوَ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «3» عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ فقال: ما نسخها شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابن عون، حدثنا شعبة عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرحمن بن أبزا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية، قال: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: 68] إلى آخرها، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» أَيْضًا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ وَلَا تَوْبَةَ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ: إِلَّا مَنْ نَدِمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ يَحْيَى الْجَابِرِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، مَا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا. قَالَ:
أَفَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ وَالْهُدَى؟
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ قَاتِلُ مُؤْمِنٍ مُتَعَمِّدًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشَمَالِهِ تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه، يقول: يا رب، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي» وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ، لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
__________
(1) سنن أبي داود (فتن باب 6) . والمعنق: خفيف الظهر سريع السير. والمراد: المسرع في طاعته. وبلّح (بتضعيف اللام وآخره حاء مهملة) : أعيا وانقطع.
(2) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 14) .
(3) سنن أبي داود (فتن باب 6) .
(4) تفسير الطبري 4/ 221.
(5) تفسير الطبري 4/ 220.(2/333)
فَمَا نَسَخَتْهَا مِنْ آيَةٍ حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَزَلْ بَعْدَهَا مِنْ بُرْهَانٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ الْمُجَبِّرِ يُحَدِّثُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال: أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، الآية، قال: لقد نزلت من آخِرِ مَا نَزَلْ، مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ حَتَّى قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَزَلْ وَحَيٌّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ: وَأَنَّى لَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا قاتله بيمينه أو بيساره- أو آخذا رَأْسَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشَمَالِهِ- تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا مِنْ قُبُلِ الْعَرْشِ، يَقُولُ: يَا رَبُّ، سَلْ عَبْدَكَ فِيمَ قَتَلَنِي» .
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ وَيَحْيَى الْجَابِرِ وَثَابِتٍ الثُّمَالِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنَ السَّلَفِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَلَمَةَ بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ نَقَلَهُ ابْنُ أبي حاتم.
وفي الباب أحاديث كثيرة، فمن ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ الْحَافِظُ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ (ح) «2» ، وحدثنا عبد الله بن جعفر، وحدثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ فَهْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بإسناده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«يَجِيءُ الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا رَأْسَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَيَقُولُ يَا رَبُّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ قَالَ، فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي، قَالَ وَيَجِيءُ آخَرُ مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ فَيَقُولُ: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي. قَالَ فَيَقُولُ: قَتَلَتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ، قَالَ: فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ بُؤْ بِإِثْمِهِ، قَالَ: فَيَهْوِي في النار سبعين خريفا» وقد رواه النَّسَائِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُسْتَمِرِّ الْعَوْفِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُلُّ ذَنْبٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كَافِرًا، أَوِ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا» وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى بِهِ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
__________
(1) مسند أحمد 1/ 240.
(2) انتقال من إسناد إلى إسناد. وهو مأخوذ من كلمة التحول.
(3) مسند أحمد 4/ 99.(2/334)
جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سَمُّوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَكَرِيَّا، قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا، أَوْ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا» وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ بَقَيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «من قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَزَّ وجل» وهذا حديث منكر أيضا، فإسناده متكلم فيه جدا.
قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: أَتَانِي أَبُو الْعَالِيَةِ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَقَالَ لَنَا: هَلُمَّا فَأَنْتُمَا أشب سنا مِنِّي، وَأَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنِّي، فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ: حدث هؤلاء بحديثك، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مَالِكٍ اللَّيْثِيُّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سرية فأغارت على قوم، فشد مع الْقَوْمِ رَجُلٌ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ السَّرِيَّةِ شَاهِرًا سَيْفَهُ، فَقَالَ الشَّادُّ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي مُسْلِمٌ فلم ينظر فيما قال، قَالَ:
فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَنَمَى الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، فَبَلَغَ الْقَاتِلَ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذْ قَالَ الْقَاتِلُ: وَاللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، قَالَ: فَأَعْرَضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبِلَهُ مِنَ النَّاسِ وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبِلَهُ مِنَ النَّاسِ وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ثم لم يصبر حتى قال الثَّالِثَةَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ الذي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْرَفُ الْمَسَاءَةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا ثَلَاثًا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا أَنَّ الْقَاتِلَ له توبة فيما بينه وبين الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ، وَخَشَعَ وَخَضَعَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفَرْقَانِ: 68] ، وَهَذَا خَبَرٌ لَا يَجُوزُ نُسْخُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَاجُ حَمْلُهُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 53] ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَشَكٍّ وَنِفَاقٍ وَقَتْلٍ وَفِسْقٍ وَغَيْرِ ذلك، كل من تاب أي من أي ذلك تاب الله عليه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 116] فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مَا عَدَا الشِّرْكَ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وقبلها لتقوية الرجاء، والله
__________
(1) مسند أحمد 5/ 288- 289.(2/335)
أَعْلَمُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَرُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَدٍ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، فَهَاجَرَ إِلَيْهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وإذا كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار، والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية المسحة.
فَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية، فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مردويه بإسناده مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَامِعٍ الْعَطَّارِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ مَيْمُونٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ، وَمَعْنَى هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جُوزِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَا كُلُّ وَعِيدٍ عَلَى ذَنْبٍ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ مُعَارَضٌ مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْ أَصْحَابِ الموازنة والإحباط، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُسْلَكُ فِي بَابِ الْوَعِيدِ، والله أعلم بالصواب، وبتقدير دخول القاتل في النَّارِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ، أَوْ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ حَيْثُ لَا عَمَلَ لَهُ صَالِحًا ينجو به فليس بمخلد فِيهَا أَبَدًا، بَلِ الْخُلُودُ هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كان في قلبه أدنى مثقال ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ «كُلُّ ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» فعسى لِلتَّرَجِّي، فَإِذَا انْتَفَى التَّرَجِّي فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لا تنفي وُقُوعُ ذَلِكَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْقَتْلُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا فالنص أن الله لَا يُغْفَرُ لَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا مُطَالَبَةُ الْمَقْتُولِ الْقَاتِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الآدميين، وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْمَقْذُوفِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إِلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فلا بد من المطالبة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يَكُونُ لِلْقَاتِلِ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تُصْرَفُ إِلَى الْمَقْتُولِ أَوْ بَعْضُهَا، ثُمَّ يَفْضُلُ لَهُ أَجْرٌ يَدْخُلُ به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله مِنْ قُصُورِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِ فِيهَا ونحو ذلك والله أعلم.
ثم لقاتل الْعَمْدِ أَحْكَامٌ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامٌ فِي الْآخِرَةِ، فأما فِي الدُّنْيَا فَتَسَلُّطُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الْإِسْرَاءِ: 33] ، ثُمَّ هُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَعْفُوا، أَوْ يَأْخُذُوا دِيَةً مُغَلَّظَةً أَثْلَاثًا، ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذْعَةً، وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً «1» ، كَمَا هو مقرر في كتاب الْأَحْكَامِ، وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامٌ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كفارة الخطأ، على
__________
(1) الخلفة: الحامل من النوق. وقد تقدم شرح معنى الحقة والجذعة.(2/336)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قَوْلَيْنِ فَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ نعم، يجب عليه، لأنه إذا وجبت عليه الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ فَلَأَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي العمد أولى، فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس واعتذروا بقضاء الصلاة الْمَتْرُوكَةِ عَمْدًا كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ فِي الخطأ، وقال أصحابه، الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَآخَرُونَ: قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَكَذَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ عَمْدًا، فَإِنَّهُمْ يقولون بوجوب قضائها إذا تركت عندا.
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنِ الْغَرِيفِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ «2» ، قَالَ: «فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً يَفْدِي اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» وَقَالَ أَحْمَدُ «3» :
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنِ الْغَرِيفِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ اللَّيْثِيَّ فقلنا لَهُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ، فَقَالَ: «أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ بِهِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ «4» عَنِ الْغَرِيفِ الدَّيْلَمِيِّ «5» قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ فَغَضِبَ فَقَالَ: إِنْ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قُلْنَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ، يَعْنِي النَّارَ، بِالْقَتْلِ فَقَالَ: «أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» .
[سورة النساء (4) : آية 94]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
قَالَ الْإِمَامُ أحمد «6» : حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قَالُوا:
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بني سليم بنفر من
__________
(1) مسند أحمد 4/ 107.
(2) أي فعل فعلا استوجب به النار.
(3) مسند أحمد 3/ 491.
(4) سنن أبي داود (عتق باب 13) . [.....]
(5) في أبي داود: «الغريف بن الديلمي» .
(6) مسند أحمد 1/ 229، 272.(2/337)
أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يرعى غنما له فسلم عليهم، فقالوا: لا يسلم عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى آخِرِهَا.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أبي رزمة، عن إسرائيل بِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَعَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهِ، وَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ غَيْرِ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَطْ، وَهَذَا خَبَرٌ عِنْدَنَا صَحِيحٌ سَنَدُهُ، وَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْآخَرِينَ سَقِيمًا لِعِلَلٍ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَخْرَجٌ عَنْ سِمَاكٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْهَا أَنَّ عِكْرِمَةَ فِي رِوَايَتِهِ عندهم نظر، ومنها أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه فقال بعضهم: نزلت فِي مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَهَذَا كَلَامٌ غَرِيبٌ وَهُوَ مَرْدُودٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ ثَابِتٌ عَنْ سِمَاكٍ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ غير واحد من الأئمة الْكِبَارِ، الثَّانِي أَنَّ عِكْرِمَةَ مُحْتَجٌّ بِهِ فِي الصَّحِيحِ، الثَّالِثُ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قال ابن عباس: عرض الدنيا تلك الغنيمة، وقرأ ابْنُ عَبَّاسٍ السَّلامَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حدثنا منصور عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَحِقَ الْمُسْلِمُونَ رجلا في غنيمة له، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَنَزَلَتْ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طريق سفيان بن عيينة به، وقد «3» في ترجمة: أن أخاه فزارا، هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أمر أبيه بإسلامهم وإسلام قومهم، فلقيته سرية لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي عماية الليل، وكان قد قال لهم إنه مسلم، فلم يقبلوا منه فقتلوه فقال أبوه: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاني ألف دينار ودية أخرى وسيرني، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية.
وَأَمَّا قِصَّةُ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أحمد «4» رحمه الله: حدثنا يعقوب: حدثني أبي
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 5) .
(2) تفسير الطبري 4/ 226.
(3) بياض في الأصل بعد هذا اللفظ.
(4) مسند أحمد 6/ 11.(2/338)
عن محمد «1» بن إسحاق، حدثنا يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ القعقاع بن عبد الله بن أبي حدود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمَ فَخَرَجْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيِّ، وَمُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى قعود «2» له، معه متيع له وَوَطْبٍ مِنْ لَبَنٍ، فَلَمَّا مَرَّ بِنَا سَلَّمَ عَلَيْنَا، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جثامة فقتله، لشيء كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ بِعِيرَهُ وَمُتَيْعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- إلى قوله تعالى- خَبِيراً تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعْثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ مَبْعَثًا، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ فَحَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وكانت بينهم إحنة فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَمَاهُ مُحَلِّمٌ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ: فَقَالَ الْأَقْرَعُ يا رسول الله، سر اليوم وغر غَدًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَذُوقَ نِسَاؤُهُ مِنَ الثُّكْلِ مَا ذَاقَ نِسَائِي، فَجَاءَ مُحَلِّمٌ فِي بُرْدَيْنِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ» ، فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَيْهِ، فَمَا مَضَتْ لَهُ سَابِعَةٌ حَتَّى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاؤوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ الْأَرْضَ تَقَبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَنْ صَاحَبِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أن يعظكم» ثُمَّ طَرَحُوهُ بَيْنَ صَدَفَيْ جَبَلٍ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الحجارة فنزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «4» : قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِقْدَادِ: «إِذَا كَانَ رَجُلٌ مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتلته، فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل» هكذا ذكره البخاري مُعَلَّقًا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ رُوِيَ مُطَوَّلًا مَوْصُولًا، فَقَالَ الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا حماد بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيِّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا، وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَبْرَحْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأهوى عليه الْمِقْدَادُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَقَتَلْتَ رَجُلًا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَاللَّهِ لَأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ رَجُلًا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله، فقتله المقداد، فقال:
__________
(1) في المسند: «عن إسحاق» .
(2) القعود: البعير.
(3) تفسير الطبري 4/ 224.
(4) صحيح البخاري (ديات باب 1) .(2/339)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
«ادْعُوَا لِي الْمِقْدَادَ، يَا مِقْدَادُ: أَقَتَلْتَ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَدًا؟» قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِقْدَادِ: «كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، وَكَذَلِكَ كُنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ قُبَلُ» .
وَقَوْلُهُ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أَيْ خَيْرٌ مِمَّا رَغِبْتُمْ فِيهِ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى قَتْلِ مِثْلِ هَذَا الَّذِي أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ، وَأَظْهَرَ لكم الْإِيمَانَ فَتَغَافَلْتُمْ عَنْهُ وَاتَّهَمْتُمُوهُ بِالْمُصَانَعَةِ وَالتَّقِيَّةِ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرزق الْحَلَّالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ مَالِ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ قَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَهَذَا الَّذِي يُسِرُّ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْ قَوْمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ آنِفًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 26] ، وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ تَسْتَخْفُونَ بِإِيمَانِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى هَذَا الرَّاعِي بِإِيمَانِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَذُكِرَ عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:
قَوْلُهُ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ تَابَ عَلَيْكُمْ فَحَلَفَ أُسَامَةُ لَا يَقْتُلُ رَجُلًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمَا لَقِيَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: فَتَبَيَّنُوا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هذا تهديد ووعيد.
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضِرَارَتَهُ، فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ فُلَانًا، فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ وَالْكَتِفُ، فَقَالَ اكْتُبْ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 16) .(2/340)
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ وَخَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا ضَرِيرٌ، فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ:
فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَمْلَى عَلَيَّ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمْلِيهَا عَلَيَّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ أعمى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان فخذه على فخذي فثقلت علي خفت أن ترض فخدي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- تفرد بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وجه آخر عند الإمام أحمد «1» عن زيد فقال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنِّي قَاعِدٌ إلى جنب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وغشيته السكينة، قال: فرفع فَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي حِينَ غَشِيَتْهُ السَّكِينَةُ، قَالَ زَيْدٌ: فَلَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا قَطُّ أَثْقَلَ مِنْ فَخِذِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: اكْتُبْ يَا زَيْدُ، فَأَخَذْتُ كَتِفًا، فَقَالَ: اكْتُبْ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ إلى قوله: أَجْراً عَظِيماً فكتبت ذلك فِي كَتِفٍ، فَقَامَ حِينَ سَمِعَهَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، فَقَامَ حِينَ سَمِعَ فضيلة المجاهدين، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك؟ قال زيد: فو الله ما قضى كَلَامُهُ- أَوْ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَضَى كلامه- غَشِيَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّكِينَةُ، فَوَقَعَتْ فَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَوَجَدْتُ مِنْ ثِقْلِهَا كَمَا وَجَدْتُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، قَالَ زيد: فألحقتها، فو الله كأني أَنْظُرُ إِلَى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ كَانَ فِي الْكَتِفِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرزاق: أنبأنا معمر، أنبأنا الزُّهْرِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اكْتُبْ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنَّ بِي مِنَ الزَّمَانَةِ مَا قَدْ تَرَى، قَدْ ذَهَبَ بَصَرِي، قَالَ زَيْدٌ: فَثَقُلَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي حَتَّى خَشِيتُ أَنْ تَرُضَّهَا ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم وابن جرير «2» وقال
__________
(1) مسند أحمد 5/ 191.
(2) تفسير الطبري 4/ 231.(2/341)
عبد الرزاق: أخبرنا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ، أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ، انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ «1» دُونَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نَزَلَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: إِنَّا أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ لَنَا رُخْصَةٌ؟ فَنَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً فَهَؤُلَاءِ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، هَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيُّ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ من هذا الوجه.
فقوله: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ مُطْلَقًا، فَلَمَّا نَزَلَ بِوَحْيٍ سَرِيعٍ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، صَارَ ذَلِكَ مَخْرَجًا لِذَوِي الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ الْجِهَادِ مِنِ الْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْمَرَضِ، عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِفَضِيلَةِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أن يكون، كما ثبت في صحيح الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ، قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ حَبَسَهُمُ العذر» «2» ، وهكذا رواه أَحْمَدُ «3» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مَجْزُومًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «4» عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا ما سرتم من مسير وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ واد إلا وهم معكم فيه» ، قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الشاعر: [البسيط]
يَا رَاحِلِينَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ ... سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا
إنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَعَنْ قَدَرٍ ... وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ فَقَدْ رَاحَا
وَقَوْلُهُ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيِ الْجَنَّةَ وَالْجَزَاءَ الْجَزِيلَ. وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، بَلْ هُوَ فرض على الكفاية. قال تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 16) . [.....]
(2) صحيح البخاري (جهاد باب 35) .
(3) مسند أحمد 3/ 103.
(4) سنن أبي داود (جهاد باب 19) .(2/342)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ثم أخبر سبحانه بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ مِنَ الدَّرَجَاتِ، فِي غُرَفِ الْجِنَانِ الْعَالِيَاتِ، وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَالزَّلَّاتِ، وَحُلُولِ الرَّحْمَةِ والبركات، إحسانا منه وتكريما، ولهذا قال: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ الأرض» «1» . وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
«من رمى بِسَهْمٍ فَلَهُ أَجْرُهُ دَرَجَةٌ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدَّرَجَةُ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهَا لَيْسَتْ بِعَتَبَةِ أُمُّكَ. مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِائَةُ عام» «2» .
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «3» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْأَسْوَدِ، قَالَ: قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ، فَاكْتَتَبْتُ فِيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، يأتي السهم يرمى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ، فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ عُنُقُهُ فيقتل، فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ يَعْنِي الزُّبَيْرِيَّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَسْتَخِفُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ بِفِعْلِ بَعْضٍ. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية.
قال عكرمة: فَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا عُذْرَ لَهُمْ. قَالَ: فَخَرَجُوا، فَلَحِقَهُمُ المشركون، فأعطوهم التقية، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
__________
(1) صحيح مسلم (إمارة حديث 116) .
(2) سنن النسائي (جهاد باب 26) ومسند أحمد 4/ 235.
(3) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 17) .(2/343)
[البقرة: 8] الآية. قال عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَبَابٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ مُنَبِّهِ بن الحجاج والحارث بن زمعة، قال الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبُوا فِيمَنْ أُصِيبَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ مَنْ أَقَامَ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَيْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ، وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أَيْ لِمَ مكثتم ها هنا وَتَرَكْتُمُ الْهِجْرَةَ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا نَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ، وَلَا الذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً الآية.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خُبَيْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ سمرة، عن سمرة بن جندب، أما بعد، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ وَعَقِيلٌ وَنَوْفَلٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: «افد نفسك وابن أخيك» فقال: يا رسول الله، ألم نصل إلى قِبْلَتَكَ، وَنَشْهَدْ شَهَادَتَكَ، قَالَ «يَا عَبَّاسُ، إِنَّكُمْ خَاصَمْتُمْ فَخُصِمْتُمْ» ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً الآية، ورواه ابن أبي حاتم.
وقوله: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ إلى آخر الآية، هذه عذر من الله لِهَؤُلَاءِ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ قَدَرُوا مَا عَرَفُوا يَسْلُكُونَ الطَّرِيقَ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ:
يَعْنِي طَرِيقًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أَيْ يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة، عسى مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً، قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذْ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ «اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أبو معمر المقري، حدثني عبد الوارث، حدثنا
__________
(1) سنن أبي داود (جهاد باب 170) .
(2) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 18) .(2/344)
عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ خَلِّصِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَضَعَفَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي دُبُرِ صَلَاةِ الظُّهْرِ «اللَّهُمَّ خَلِّصِ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَضَعَفَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا» .
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوَلَدَانِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : أَنْبَأَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً، هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرْغِيبٌ فِي مُفَارَقَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَجَدَ عَنْهُمْ مندوحة وملجأ يتحصن فيه، والمراغم مَصْدَرٌ تَقُولُ الْعَرَبُ: رَاغَمَ فُلَانُ قَوْمَهُ مُرَاغَمًا ومراغمة، قال النابغة بن جعدة: [المتقارب]
كَطَوْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ ... عَزِيزُ الْمُرَاغَمِ وَالْمَهْرَبِ «3»
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَاغَمُ التَّحَوُّلُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أنس والثوري. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُراغَماً كَثِيراً يَعْنِي مُتَزَحْزَحًا عَمَّا يُكْرَهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مُرَاغَمًا كَثِيرًا يعني بروجا، والظاهر- والله أعلم- أنه المنع الَّذِي يُتَحَصَّنُ بِهِ وَيُرَاغَمُ بِهِ الْأَعْدَاءُ. قَوْلُهُ وَسَعَةً يَعْنِي الرِّزْقَ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَادَةُ حَيْثُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً أي مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنِ الْقِلَّةِ إِلَى الْغِنَى.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ومن يخرج مِنْ مَنْزِلِهِ بِنِيَّةِ الْهِجْرَةِ فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطريق فقد حصل له عند اللَّهِ ثَوَابُ مَنْ هَاجَرَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ الليثي، عن
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 238.
(2) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 17) .
(3) البيت في ديوانه ص 233 ولسان العرب (رغم) ومقاييس اللغة 2/ 404 ومجمل اللغة 2/ 397 وكتاب العين 4/ 418 وتفسير الطبري 4/ 239.(2/345)
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» «1» . وَهَذَا عَامٌّ فِي الْهِجْرَةِ وَفِي جميع الْأَعْمَالِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ أَكْمَلَ بِذَلِكَ الْعَابِدِ الْمِائَةَ ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا: هل له من توبة؟ فقال له، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ. فَلَمَّا ارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الْبَلَدِ الْآخَرِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّهُ جَاءَ تَائِبًا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ، فَأُمِرُوا أَنْ يَقِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب مِنْ هَذِهِ، وَهَذِهِ أَنْ تَبْعُدَ فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ الْمَوْتُ نَاءَ بِصَدْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إليها.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يقول: «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله، ثم قال «3» : - وأين المجاهدون في سبيل الله- فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ مَاتَ حَتْفَ أنفه فقد وقع أجره على الله» - يعني بحتف أنفه على فراشه، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَكَلِمَةٌ مَا سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ قُتِلَ قَعْصًا «4» فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الجنة» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ شَيْبَةَ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةِ الخزامي، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: هَاجَرَ خَالِدُ بْنُ حِزَامٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ فَنَزَلَتْ فِيهِ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، قَالَ الزُّبَيْرُ، فَكُنْتُ أَتَوَقَّعُهُ وَأَنْتَظِرُ قُدُومَهُ وَأَنَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَمَا أَحْزَنَنِي شَيْءٌ حُزْنَ وفاته حين بلغتني، لِأَنَّهُ قَلَّ أَحَدٌ مِمَّنْ هَاجَرَ مِنْ قُرَيْشٍ إلا ومعه
__________
(1) صحيح البخاري (إيمان باب 41) وصحيح مسلم (إمارة حديث 155) ومسند أحمد 1/ 25) من طريق عمر بن الخطاب.
(2) مسند أحمد 4/ 36.
(3) في المسند: «ثُمَّ قَالَ بِأَصَابِعِهِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ والإبهام فجمعهن وقال: وابن المجاهدون ... » إلخ. [.....]
(4) في المسند: «ومن مات قصعا» . وقعصه قعصا: طعنه بالرمح طعنا سريعا. وقتله مكانه.(2/346)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
بَعْضُ أَهْلِهِ، أَوْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَلَا أَرْجُو غَيْرَهُ.
وَهَذَا الْأَثَرُ غَرِيبٌ جِدًّا، فَإِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَكِّيَّةٌ، وَنُزُولَ هَذِهِ الآية مدينة، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ تَعُمُّ حُكْمَهُ مَعَ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبَ النُّزُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن بن سليمان، حدثنا أشعث هُوَ ابْنُ سَوَّارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما، قَالَ: خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية، وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ بْنِ الْعِيصِ الزُّرَقِيِّ الَّذِي كَانَ مُصَابَ الْبَصَرِ وَكَانَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً فَقُلْتُ: إِنِّي لَغَنِيٌّ، وَإِنِّي لذو حيلة، فَتَجَهَّزَ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ الآية.
وقال الطبراني: حدثنا الحسن بن عروبة البصري، حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه، حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أنبأنا أبو مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يقول: «إن الله قال: من انتدب خارجا في سبيلي غازيا ابتغاء وجهي، وتصديق وعدي، وإيمانا برسلي فهو في ضمان على الله، إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة، وإما أن يرجع في ضمان الله، وإن طالب عبدا فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر، أو غنيمة، ونال من فضل الله فمات، أو قتل، أو رفصته فرسه، أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله، فهو شهيد» . وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره، وزاد بعد قوله: فهو شهيد، وإن له الجنة.
وقال الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ سَبَلَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْغَازِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوجه.
[سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ سَافَرْتُمْ فِي الْبِلَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] .(2/347)
وَقَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَيْ تُخَفِّفُوا فِيهَا إِمَّا مِنْ كَمِّيَّتِهَا بِأَنْ تُجْعَلَ الرُّبَاعِيَّةُ ثُنَائِيَّةً كَمَا فَهِمَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ قَائِلٍ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ طَاعَةٍ مِنْ جِهَادٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ زِيَارَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ ويحيى عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ نَحْوُهُ، لِظَاهِرِ قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَمِنْ قَائِلٍ: لَا يُشْتَرَطُ سَفَرُ الْقُرْبَةِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، لِقَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ [المائدة: 3] ، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يَكُونَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وكيع، عن الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ تَاجِرٌ أَخْتَلِفُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَمِنْ قَائِلٍ: يَكْفِي مُطْلَقُ السَّفَرِ سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ تَرَخَّصَ لِوُجُودِ مُطْلَقِ السفر، وهذا قول أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ وَدَاوُدَ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ حَالَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ فِي مَبْدَأِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَانَ غَالِبُ أَسْفَارِهِمْ مَخُوفَةً، بَلْ مَا كَانُوا يَنْهَضُونَ إِلَّا إِلَى غَزْوٍ عام، أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للإسلام وَأَهْلِهِ، وَالْمَنْطُوقُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ أَوْ على حادثة فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النُّورِ: 33] ، وكقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ [النِّسَاءِ: 23] ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَيْهِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قلت له: قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَدْ أَمَّنَ اللَّهُ النَّاسَ؟ فَقَالَ لِي عُمَرُ رضي الله عنه: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصْدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَلَا يُحْفَظُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرِجَالُهُ مَعْرُوفُونَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ أَبِي حَنْظَلَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ السفر، فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) مسند أحمد 1/ 25- 26.(2/348)
وَنَحْنُ آمِنُونَ؟ فَقَالَ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ:
حَدَّثَنَا مِنْجَابٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أبي الوداك، قال: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: هِيَ رُخْصَةٌ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوهَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَنَحْنُ آمِنُونَ لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين. وهكذا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ بِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البر: وهكذا رواه أيوب وهشام وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ قُلْتُ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عن هشيم، عن منصور، عن زَاذَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لَا يَخَافُ إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قُلْتُ أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا.
وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِمِنًى- أَكْثَرَ مَا كَانَ النَّاسُ وَآمَنَهُ- رَكْعَتَيْنِ.
وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْهُ بِهِ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ مَا كَانَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عبيد الله، أخبرني نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود رضي الله عنه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي من أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ مِنْهَا عَنْ قُتَيْبَةَ كما تقدم.
__________
(1) مسند أحمد 4/ 306.(2/349)
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ مَنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْخَوْفِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ قَصْرُ الْكَيْفِيَّةِ لَا الْكَمِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاعْتَضْدُوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فُرَضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْحَضَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ «1» ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ التَّنِّيسِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَّائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ «2» ، قَالُوا: فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ هِيَ الثِّنْتَيْنِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَصْرِ هَاهُنَا قَصْرَ الْكَمِّيَّةِ، لِأَنَّ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يُقَالُ فِيهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ بِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ بِسَمَاعِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ قَدْ قَالُوا، إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عُمَرَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ، زَادَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ: وَأَيُّوبُ بْنُ عَائِدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نبيكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الخوف ركعة، فَكَمَا يُصَلَّى فِي الْحَضَرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فَكَذَلِكَ يُصَلَّى فِي السَّفَرِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ طَاوُسٍ نَفْسِهِ، فَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ، وَلَكِنْ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ، صح أن
__________
(1) موطأ مالك (قصر الصلاة في السفر حديث 8) .
(2) صحيح البخاري (صلاة باب 1) وصحيح مسلم (مسافرين حديث 1 و 3) وسنن أبي داود (سفر باب 1) وسنن النسائي (صلاة باب 3) .
(3) مسند أحمد 1/ 37.(2/350)
يُقَالَ: إِنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعٌ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَكِنِ اتَّفَقَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَأَنَّهَا تَامَّةٌ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ قَصْرَ الْكَيْفِيَّةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: 102] الْآيَةَ، فَبَيَّنَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَصْرِ هَاهُنَا، وَذَكَرَ صِفَتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ، وَلِهَذَا لَمَّا عَقَدَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ صَلَاةِ الْخَوْفِ صَدَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النساء: 102] ، وَهَكَذَا قَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ قَالَ: ذَاكَ عِنْدَ الْقِتَالِ يُصَلِّي الرَّجُلُ الرَّاكِبُ تَكْبِيرَتَيْنِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ الْآيَةَ، إِنَّ الصَّلَاةَ إِذَا صُلِّيَتْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، فَهِيَ تَمَامٌ التَّقْصِيرُ لَا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عَنِ الصَّلَاةِ فَالتَّقْصِيرُ رَكْعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يَوْمَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِعُسْفَانَ، وَالْمُشْرِكُونَ بِضَجْنَانَ، فَتَوَافَقُوا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِرُكُوعِهِمْ، وَسُجُودِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ مَعًا جَمِيعًا فَهَمَّ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أَمْتِعَتِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَعَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ مَا حَكَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ: وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
إِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَصْرَ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَلَا نَجِدُ قَصْرَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا وَجَدْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ عَمَلًا عَمِلْنَا بِهِ.
فَقَدْ سَمَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً وَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَيْهَا لَا عَلَى قَصْرِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَأَقَرَّهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ عَلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ بِفِعْلِ الشَّارِعِ لَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» أيضا: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سماك الحنفي قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، إِنَّمَا الْقَصْرُ في صَلَاةُ الْمَخَافَةِ، فَقُلْتُ: وَمَا صَلَاةُ الْمَخَافَةِ؟ فَقَالَ: يصلي الإمام بطائفة ركعة،
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 245.
(2) تفسير الطبري 4/ 246.
(3) تفسير الطبري 4/ 248.(2/351)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء مَكَانِ هَؤُلَاءِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً، فَيَكُونُ لِلْإِمَامِ ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.
[سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
صَلَاةُ الْخَوْفِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ تَارَةً يَكُونُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي غَيْرِ صَوْبِهَا، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثية كالمغرب، وتارة تكون ثُنَائِيَّةً كَالصُّبْحِ وَصَلَاةِ السَّفَرِ، ثُمَّ تَارَةً يُصَلُّونَ جَمَاعَةً، وَتَارَةً يَلْتَحِمُ الْحَرْبُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْجَمَاعَةِ، بَلْ يُصَلُّونَ فُرَادَى مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا وَرِجَالًا وَرَكِبَانَا، وَلَهُمْ أَنْ يَمْشُوا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَضْرِبُوا الضَّرْبَ الْمُتَتَابِعَ فِي مَتْنِ الصَّلَاةِ. وَمِنِ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يُصَلُّونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي الْحَوَاشِي: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَجَابِرٌ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَكَمُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَاوُسٌ وَالضَّحَّاكُ، وَقَدْ حَكَى أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَرَى رَدَّ الصُّبْحِ إِلَى رَكْعَةٍ فِي الْخَوْفِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حزم أيضا. وقال إسحاق بن رَاهْوَيْهِ: أَمَّا عِنْدَ الْمُسَايَفَةِ فَيَجْزِيكَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ تُومِئُ بِهَا إِيمَاءً، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: تَكْفِي تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ رَكْعَةً وَاحِدَةً. كَمَا قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي، ورواه ابن جرير، ولكن الذي حَكَوْهُ إِنَّمَا حَكَوْهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الِاجْتِزَاءِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ الْمَكِّيُّ حَتَّى قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّكْبِيرَةِ فَلَا يَتْرُكْهَا فِي نَفْسِهِ يَعْنِي بِالنِّيَّةِ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنِ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبَاحَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ الْقِتَالِ وَالْمُنَاجَزَةِ، كَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأحزاب الظهر والعصر فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهُمَا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ الْعَشَاءَ، وَكَمَا قَالَ بَعْدَهَا يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ جَهَّزَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشَ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَعْجِيلَ الْمَسِيرِ، وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، فَصَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فِي الطَّرِيقِ، وَأَخَّرَ آخَرُونَ مِنْهُمُ صلاة الْعَصْرَ فَصَلَّوْهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنَ(2/352)
الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ السِّيرَةِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الَّذِينَ صَلَّوُا الْعَصْرَ لِوَقْتِهَا أَقْرَبُ إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُونَ مَعْذُورِينَ أَيْضًا، وَالْحُجَّةُ هَاهُنَا فِي عُذْرِهِمْ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى حِصَارِ النَّاكِثِينَ لِلْعَهْدِ مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَلْعُونَةِ الْيَهُودِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: هَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ نُسِخَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل السنن، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ:
[بَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ] قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، صَلُّوا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ، أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا فلا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُونَهَا حَتَّى يَأْمَنُوا، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:
حَضَرْتُ مُنَاهَضَةَ حِصْنِ تُسْتَرُ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتِحَ لَنَا، قَالَ أَنَسٌ:
وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحَدِيثِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إياهم أن لا يُصَلُّوا الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَأَنَّهُ كَالْمُخْتَارِ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِمَنْ جَنَحَ إِلَى ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِصَنِيعِ أَبِي مُوسَى وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ فَتْحِ تُسْتَرَ فَإِنَّهُ يَشْتَهِرُ غَالِبًا، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَلَا أحد من الصحابة، والله أعلم، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَشْرُوعَةً في الخندق لأن غزوة ذَاتَ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ فِي قَوْلِ الجمهور عُلَمَاءِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «1» وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْوَاقِدِيُّ ومحمد بن سعد كاتبه وخليفة بن الخياط وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «2» وَغَيْرُهُ: كَانَتْ ذَاتُ الرِّقَاعِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَمَا قَدِمَ إِلَّا فِي خَيْبَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّ الْمُزَنِيَّ وَأَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة والسلام الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَحُمِلَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ يَوْمَئِذٍ عَلَى مَا قَالَهُ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ أَقْوَى وَأَقْرَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أَيْ إِذَا صَلَّيْتَ بِهِمْ إِمَامًا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ غَيْرُ الْأُولَى، فَإِنَّ تِلْكَ قَصْرُهَا
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/ 203 والمغازي للواقدي 1/ 395.
(2) صحيح البخاري (مغازي باب 33) .(2/353)
إِلَى رَكْعَةٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ- فُرَادَى وَرِجَالًا وَرُكْبَانَا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِمَامِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَيْثُ اغْتُفِرَتْ أَفْعَالٌ كَثِيرَةٌ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَنْسُوخَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ:
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَبَعْدَهُ تَفُوتُ هَذِهِ الصِّفَةُ، فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 103] قَالُوا: فَنَحْنُ لَا نَدْفَعُ زَكَاتَنَا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَحَدٍ، بَلْ نُخْرِجُهَا نَحْنُ بِأَيْدِينَا على من نراه، ولا ندفعها إلا إِلَى مَنْ صِلَاتُهُ أَيْ دُعَاؤُهُ سَكَنٌ لَنَا، وَمَعَ هَذَا رَدَّ عَلَيْهِمُ الصَّحَابَةُ، وَأَبَوْا عَلَيْهِمْ هذا الاستدلال، وأجبروهم على أداء الزكاة وقتلوا مَنْ مَنَعَهَا مِنْهُمْ.
وَلْنَذْكُرْ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ صِفَتِهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، أَنْبَأَنَا سَيْفٌ عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلَ قَوْمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ «2» رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثُمَّ انْقَطَعَ الْوَحْيُّ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ، غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَمْكَنَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ هَلَّا شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ لَهُمْ أُخْرَى مِثْلَهَا فِي إِثْرِهَا، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101] الآيتين، فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ.
وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَكِنْ لِبَعْضِهِ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عنه عند الإمام أحمد وأهل السنن، فقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزرقي، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ، فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ، فَقَالُوا: لَقَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ أَصَبْنَا غُرَّتَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: تَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ قال: فحضرت، فَأَمَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ، قَالَ: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا، جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، وجاء هؤلاء إلى
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 245.
(2) في الطبري: «سأل قوم من التجار» .
(3) مسند أحمد 4/ 59- 60. [.....](2/354)
مَصَافِّ هَؤُلَاءِ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ، قَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِعُسْفَانَ، وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ نَحْوَهُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «1» عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، كُلُّهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «2» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حرب عن الزبيدي، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبُرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قام للثانية فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بن قيس الْيَشْكُرِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِقْصَارِ الصَّلَاةِ أَيُّ يَوْمٍ أُنْزِلَ؟ أَوْ أَيُّ يَوْمٍ هُوَ؟، فَقَالَ جَابِرٌ: انْطَلَقْنَا نَتَلَقَى عيرا لقريش آتية من الشام حتى إذا كنا بنخلة، جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هل تخافني؟ قال: «لا» قال فمن يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ» قَالَ: فَسَلَّ السَّيْفَ، ثُمَّ تَهَدَّدَهُ وَأَوْعَدَهُ، ثُمَّ نَادَى بِالتَّرَحُّلِ وَأَخَذَ السِّلَاحَ، ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْقَوْمِ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَحْرُسُهُمْ، فَصَلَّى بِالَّذِينِ يَلُونَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الَّذِينَ يَلُونَهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَقَامُوا فِي مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَالْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، ثُمَّ سَلَّمَ فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع ركعات، وللقوم رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَيَوْمَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِقْصَارِ الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.
ورواه الإمام أحمد «4» فقال: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَاتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ» ، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «وَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟» قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ. قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله» ؟ قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونُ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خير
__________
(1) سنن أبي داود (صلاة باب 12) .
(2) صحيح البخاري (صلاة الخوف باب 3) .
(3) تفسير الطبري 4/ 247.
(4) مسند أحمد 3/ 365.(2/355)
النَّاسِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَكَانَ الناس طائفتين: طائفة بإزاء العدو، وَطَائِفَةٌ صَلَّوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ وانصرفوا، فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو، ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فَصَّلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَقْصُرُهُمَا؟
فقال: الرَّكْعَتَانِ فِي السَّفَرِ تَمَامٌ، إِنَّمَا الْقَصْرُ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْقِتَالِ، بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالٍ، إِذْ أقيمت الصلاة، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفَّ طَائِفَةً، وَطَائِفَةٌ وَجْهُهَا قِبَلَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ الَّذِينَ خَلَّفُوا انْطَلَقُوا إِلَى أُولَئِكَ فَقَامُوا مَقَامَهُمْ وَمَكَانَهُمْ نَحْوَ ذَا، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَقَامُوا خَلْفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ وَسَلَّمَ، وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَلْفَهُ، وَسَلَّمَ أُولَئِكَ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً، ثُمَّ قَرَأَ وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَزِيدُ الْفَقِيرُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَقَامَ صَفٌّ بَيْنَ يَدَيْهِ وصف خلفه، فصلى بالذين خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ حَتَّى قَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ، وَجَاءَ أُولَئِكَ حَتَّى قاموا في مَقَامَ هَؤُلَاءِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَهُمْ رَكْعَةٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ جَابِرٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ فِي الصحيح والسنن والمسانيد.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ قَالَ: هِيَ صَلَاةُ الْخَوْفِ، صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُقْبِلَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَأَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي كَانَتْ مُقْبِلَةً عَلَى الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ، ثُمَّ قَامَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَصَلَتْ رَكْعَةً ركعة، وهذا الحديث رواه الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِهِ، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن الجماعة مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَجَادَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي سَرْدِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ، وَكَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَلْنُحَرِّرْهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وبه الثقة.
__________
(1) مسند أحمد 3/ 298.(2/356)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
وَأَمَّا الْأَمْرُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَمَحْمُولٌ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوُجُوبِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَيَدُلُّ عليه قول الله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أَيْ بِحَيْثُ تَكُونُونَ عَلَى أُهْبَةٍ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا لَبِسْتُمُوهَا بِلَا كُلْفَةٍ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ عُقَيْبَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا مُرَغَّبًا فِيهِ أَيْضًا بَعْدَ غَيْرِهَا، وَلَكِنَّ هَاهُنَا آكَدُ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّخْفِيفِ فِي أَرْكَانِهَا، وَمِنَ الرُّخْصَةِ فِي الذَّهَابِ فِيهَا وَالْإِيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمَ: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَةِ: 36] وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمتها، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ أَيْ فِي سائر أحوالكم، ثم قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أَيْ فَإِذَا أَمِنْتُمْ وَذَهَبَ الْخَوْفُ، وَحَصَلَتِ الطُّمَأْنِينَةُ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أَيْ فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركوعها، وسجودها، وجميع شؤونها.
وقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً قال ابن عباس: أي مفروضا، وقال أيضا: إن للصلاة وقتا كوقت الحج، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ والحسن ومقاتل والسدي وعطية العوفي. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً قَالَ:
مُنَجَّمًا كلما مضى نجم جاء نجم، يَعْنِي كُلَّمَا مَضَى وَقْتٌ جَاءَ وَقْتٌ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أَيْ لَا تَضْعُفُوا فِي طَلَبِ عَدُّوِّكُمْ، بَلْ جِدُّوا فِيهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أَيْ كَمَا يُصِيبُكُمُ الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ كَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُمْ، كَمَا قال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران: 140] ، ثم قال تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ أَيْ أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ فِيمَا يُصِيبُكُمْ، وَإِيَّاهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْآلَامِ، وَلَكِنْ أَنْتُمْ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم وهو وعد حق، وخبر صدق، وَهُمْ لَا يَرْجُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْتُمْ أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه، وفي إِقَامَةِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِعْلَائِهَا، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ هُوَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ وَيُنَفِّذُهُ وَيُمْضِيهِ(2/357)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
مِنْ أَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى كل حال.
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 109]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
يَقُولُ تَعَالَى: مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أَيْ هُوَ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْحَقَّ فِي خَبَرِهِ وَطَلَبِهِ، وَقَوْلُهُ: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ من علماء الأصول إلى أنه كان صلّى الله عليه وسلّم لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالِاجْتِهَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هي قطعة من النار فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ لِيَذَرْهَا» «1» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ، لَيْسَ عِنْدَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ يَأْتِي بِهَا إِسْطَامًا «3» فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَبَكَى الرَّجُلَانِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: حَقِّي لِأَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَّا إِذَا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما «4» ، ثم ليحلل كل مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ بِهِ، وَزَادَ «إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِرَأْيٍ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ» «5» .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نفرا من الأنصار غزوا مع
__________
(1) صحيح البخاري (شهادات باب 27 وحيل باب 10 وأحكام باب 20) وصحيح مسلم (أقضية حديث 4) وسنن أبي داود (أقضية باب 7) وسنن ابن ماجة (أحكام باب 5) وموطأ مالك (أقضية حديث 1) .
(2) مسند أحمد 6/ 32.
(3) السطام والإسطام: المسعار، وهو حديدة عريضة الرأس تحرك بها النار. والمراد أنه يقضي له بما يمكن أن يسعر عليه النار يوم الحساب إذا لم تكن حجته صحيحة.
(4) استهما: اقترعا.
(5) سنن أبي داود (أقضية باب 7) .(2/358)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَسُرِقَتْ دِرْعٌ لِأَحَدِهِمْ، فَأُظِنَّ بِهَا رجلا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ سَرَقَ دِرْعِي، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ، وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي غَيَّبْتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُ، فَانْطَلِقُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ وَإِنَّ صَاحِبَ الدِّرْعِ فُلَانٌ، وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْمًا، فَاعْذُرْ صَاحِبَنَا عَلَى رُؤُوسِ الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يَعْصِمْهُ اللَّهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَرَّأَهُ وَعَذَرَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ الآية.
ثم قال تعالى لِلَّذِينِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
الآيتين، يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ يُجَادِلُونَ عَنِ الْخَائِنِينَ، ثُمَّ قال عز وجل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: 110] ، يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
[النساء: 112] يَعْنِي السَّارِقَ وَالَّذِينَ جَادَلُوا عَنِ السَّارِقِ، وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَكَذَا ذَكَرَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سارق بني أبريق عَلَى اخْتِلَافِ سِيَاقَاتِهِمْ وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ.
وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُطَوَّلَةً، فَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ جَامِعِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ «1» فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ أَبُو مُسْلِمٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ: بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلًا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله لبعض الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشِّعْرَ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلَّا هَذَا الْخَبِيثُ أَوْ كَمَا قَالَ: الرَّجُلُ، وَقَالُوا: ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا، قَالُوا: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ «2» مِنَ الشَّامِ مِنَ الدَّرْمَكِ «3» ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 265.
(2) الضافطة: العير تحمل المتاع. أو التجار يحملون الطعام وغيره.
(3) الدرمك: الدقيق النقي الأبيض.(2/359)
فجعله في مشربة «1» له، وفي المشربة سلاح ودرع وَسَيْفٌ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ، فَنُقِبَتِ الْمَشْرَبَةُ، وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَنُقِبَتْ مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا، فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ، وقال: وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا- وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ-: وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ؟! وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهَّلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مُشْرَبَةً لَهُ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «سآمر في ذلك» ، فلما سمع بذلك بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ، عَمِدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ:
«عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ، تَرْمِيهِمْ بالسرقة على غير بينة ولا ثبت، قَالَ:
فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً يعني بني أبيرق، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- رَحِيماً أَيْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَغَفَرَ لَهُمْ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
- إلى قوله- إِثْماً مُبِيناً
[النساء: 111] قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
- إلى قوله- فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:
83] فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّلَاحِ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ، فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شيخا قد عسا «2» أو عشا- الشَّكُّ مِنْ أَبِي عِيسَى- فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنْتُ أرى إسلامه مدخولا «3» لما أَتَيْتُهُ بِالسِّلَاحِ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بُشَيْرٌ بِالْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سُمَيَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً،
__________
(1) المشربة: الغرفة والعلية. [.....]
(2) عسا: كبر وأسنّ.
(3) أي فيه فساد ونفاق.(2/360)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [النساء: 115- 116] فلما نزل على سلافة بنت سعد، هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ به، فرمته فِي الْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أَهْدَيْتَ لِي شِعْرَ حَسَّانَ مَا كُنْتَ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ، لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الحراني.
ورواه يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ أَبِيهِ عن جده، ورواه ابن أبي حَاتِمٍ عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ بِبَعْضِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَعْنِي الصَّائِغَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ وَالْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سَلَمَةَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: سَمِعَ مِنِّي هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بن إسرائيل، وقد روى هذا الحديث الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عباس الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ وَفِيهِ الشِّعْرُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، ولم يخرجاه.
وقوله تَعَالَى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
الْآيَةَ، هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَسْتَخْفُونَ بِقَبَائِحِهِمْ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَيُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِهَا، لِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
تَهْدِيدٌ لهم ووعيد. ثم قال تعالى: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
الآية، أَيْ هَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ انْتَصَرُوا فِي الدُّنْيَا بِمَا أَبْدَوْهُ أَوْ أُبْدِيَ لَهُمْ عِنْدَ الْحُكَّامِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِالظَّاهِرِ وَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِذَلِكَ، فَمَاذَا يَكُونُ صَنِيعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تعالى الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم؟
أي لا أحد يومئذ يكون لَهُمْ وَكِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.
[سورة النساء (4) : الآيات 110 الى 113]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، تَابَ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ. فَقَالَ تَعَالَى:(2/361)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَخْبَرَ اللَّهُ عباده بعفوه وحلمه وَكَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ فَمَنْ أَذْنَبَ ذَنَبًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أعظم من السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أبي عدي، حدثنا شُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ قَدْ كُتِبَ كَفَّارَةُ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَى بَابِهِ، وَإِذَا أَصَابَ الْبَوْلُ منه شيئا قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ فَقَالَ رَجُلٌ: لَقَدْ آتَى اللَّهُ بني إسرائيل خيرا، فقال عبد الله رضي الله عنه: ما آتاكم الله خير مِمَّا آتَاهُمْ، جَعَلَ الْمَاءَ لَكُمْ طَهُورًا، وَقَالَ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ:
135] ، وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
، وقال أيضا: حدثني يعقوب، حدثنا هشيم عن ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: جَاءْتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فَسَأَلْتُهُ عَنِ امْرَأَةٍ فَجَرَتْ فَحَبَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَتَلَتْ وَلَدَهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ: مَا لَهَا؟ لَهَا النَّارُ. فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَبْكِي فَدَعَاهَا ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَى أَمْرَكِ إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
قَالَ:
فَمَسَحَتْ عَيْنَهَا ثُمَّ مَضَتْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَسْمَاءَ أَوِ ابْنِ أَسْمَاءَ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، قَالَ:
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم شَيْئًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ. وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ- وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يتوضأ ثم يصلي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَلِكَ الذَّنْبِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ» وَقَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية، وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:
135] . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَعَزَيْنَاهُ إِلَى مَنْ رَوَاهُ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَذَكَرَنَا مَا فِي سَنَدِهِ مِنْ مَقَالٍ فِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إسحاق الحراني، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ مِهْرَانَ الدَّبَّاغُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ- هُوَ الصِّدِّيقُ- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أذنب فقام فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى واستغفر
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 273.
(2) مسند أحمد 1/ 8.(2/362)
مِنْ ذَنْبِهِ، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أن يغفر له» لأن الله يَقُولُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ الصِّدِّيقِ، بِنَحْوِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَرْوَانَ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيُّ عَنْ تَمَّامِ بْنِ نَجِيحٍ حَدَّثَنِي كَعْبُ بْنُ ذُهْلٍ الْأَزْدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يُحَدِّثُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَكَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَقَامَ إِلَيْهَا وَأَرَادَ الرُّجُوعَ، تَرَكَ نَعْلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ أَوْ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ قَامَ فَتَرَكَ نَعْلَيْهِ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فَأَخَذَ رَكْوَةً مِنْ مَاءٍ فَاتَّبَعْتُهُ فَمَضَى سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ، فَقَالَ: «إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: إِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَشِّرَ أَصْحَابِي» .
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَكَانَتْ قَدْ شَقَّتْ عَلَى النَّاسِ الْآيَةُ الَّتِي قبلها مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ غَفَرَ لَهُ؟ قَالَ «نعم» .
ثم قلت الثانية، قال «نعم» . قُلْتُ الثَّالِثَةَ، قَالَ «نَعَمْ» وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سرق ثم استغفر الله، غفر الله له على رغم أنف أبي الدرداء» . قَالَ: فَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَضْرِبُ أَنْفَ نَفْسِهِ بِأُصْبُعِهِ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا السِّيَاقِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
الآية، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ، يعني أنه لا يغني أحد عن أَحَدٍ، وَإِنَّمَا عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ لَا يَحْمِلُ عَنْهَا غَيْرُهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
أَيْ مِنْ عِلْمِهِ وَحَكْمَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
الآية، يَعْنِي كَمَا اتَّهَمَ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِصَنِيعِهِمُ الْقَبِيحِ ذَلِكَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ وَهُوَ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَوْ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ الْيَهُودِيُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ، وَقَدْ كَانَ بَرِيئًا وَهُمُ الظَّلَمَةُ الْخَوَنَةُ، كَمَا أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ هَذَا التَّقْرِيعُ وَهَذَا التَّوْبِيخُ عَامٌّ فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مِثْلَ خَطِيئَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ مَثَلَ عُقُوبَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
وقال الْإِمَامُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي أُبَيْرِقٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
يعني أسيد بْنَ عُرْوَةَ وَأَصْحَابَهُ، يَعْنِي بِذَلِكَ لَمَّا أَثْنَوْا عَلَى بَنِي أُبَيْرِقٍ وَلَامُوا قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ فِي كَوْنِهِ اتَّهَمَهُمْ وَهُمْ صُلَحَاءُ بُرَآءُ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا أَنْهَوْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ فصل القضية وجلاءها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَعِصْمَتِهِ لَهُ، وما أنزل(2/363)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ، وَهِيَ السُّنَّةُ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أَيْ قَبِلَ نُزُولِ ذَلِكَ عَلَيْكَ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ [الشورى: 52] إلى آخر السورة، وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86] ولهذا قال: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
يَقُولُ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ يَعْنِي كَلَامَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ أَيْ إِلَّا نَجْوَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ نعوده، فدخل علينا سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ الْمَخْزُومِيُّ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح، ردّده عَلَيَّ، فَقَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ صَالِحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَامُ ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل، أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ» فقال سفيان:
أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ، أَوْ مَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ، أَوَ مَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1- 2] إلخ؟ فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ «1» ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ به، ولم يذكر أَقْوَالَ الثَّوْرِيِّ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حديث غريب، لا يعرف إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُنَيْسٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: يقول «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» ، وَقَالَتْ لَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ:
فِي الْحَرْبِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، قَالَ:
وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ اللَّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقد رواه الجماعة سوى
__________
(1) قارن بالدر المنثور 2/ 388.
(2) مسند أحمد 403.(2/364)
ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ» ، قَالَ: «وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» «2» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟» قال: بلى يا رسول الله. قال «تسعى في إصلاح بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَتُقَارِبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا» ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ لَيِّنٌ، وَقَدْ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا.
وَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أَيْ مُخْلِصًا فِي ذَلِكَ مُحْتَسِبًا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي ثوابا جزيلا كَثِيرًا وَاسِعًا.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أَيْ وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَ فِي شِقٍّ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ، وَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ منه بعد ما ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لَهُ وَاتَّضَحَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا مُلَازِمٌ لِلصِّفَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ لِنَصِّ الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فِيمَا عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ قَدْ ضُمِنَتْ لَهُمُ الْعِصْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّهِمْ، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك، قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا فِي كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأُصُولِ، وَمِنِ الْعُلَمَاءِ مَنِ ادَّعَى تَوَاتُرَ مَعْنَاهَا، وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا، وَإِنْ كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدِّلَالَةَ مِنْهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً أَيْ إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ جَازَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ نُحْسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ وَنُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [الْقَلَمِ: 44] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّفِّ: 5] ، وَقَوْلُهُ: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْأَنْعَامِ: 110] وَجَعْلَ النَّارَ مَصِيرَهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الهدى لم يكن له طريق إلا
__________
(1) مسند أحمد 6/ 444.
(2) الحالقة: التي تستأصل الدين فتحلقه كما يحلق الشعر.(2/365)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف:
53] .
[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ الآية، وَذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ سَعِيدِ بْنِ عَلَاقَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، ثم قال: هذا حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أَيْ فَقَدْ سَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْحَقِّ، وَضَلَّ عَنِ الْهُدَى وَبَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ وَخَسِرَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفَاتَتْهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عن أبي بن كعب قَالَ: مَعَ كُلِّ صَنَمٍ جِنِّيَّةٌ، وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَاهِلِيُّ عَنْ عَبْدِ العزيز بن محمد، عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَالَتْ: أَوْثَانًا. وَرَوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ جويبر عن الضحاك في الآية، قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: فاتخذوهن أربابا، وصوروهن جواري فَحَكَمُوا وَقَلَّدُوا، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ يُشْبِهْنَ بَنَاتَ اللَّهِ الَّذِي نَعْبُدُهُ، يَعْنُونُ الْمَلَائِكَةَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ شَبِيهٌ بقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْمِ: 19] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] ، وقال: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: 158] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَالَ: يَعْنِي مَوْتَى. وَقَالَ مُبَارَكٌ، يَعْنِي ابْنَ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: إِنْ(2/366)
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً
. قَالَ الْحَسَنُ: الْإِنَاثُ كُلُّ شَيْءٍ مَيِّتٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، إِمَّا خَشَبَةٌ يَابِسَةٌ وَإِمَّا حَجَرٌ يَابِسٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً أَيْ هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم، وَهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ إِبْلِيسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] . وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا عِبَادَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سَبَأٍ: 41] .
وَقَوْلُهُ: لَعَنَهُ اللَّهُ أَيْ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ، وَقَالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَيْ مُعَيَّنًا مُقَدَّرًا مَعْلُومًا. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ، تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أَيْ عَنِ الْحَقِّ، وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أَيْ أُزَيِّنُ لَهُمْ تَرْكَ التَّوْبَةِ، وَأَعِدُهُمُ الْأَمَانِيَ، وَآمُرُهُمْ بِالتَّسْوِيفِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَغُرُّهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا:
يَعْنِي تَشْقِيقَهَا وَجَعْلَهَا سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني بذلك خصي الدواب، وقد رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَسَعِيدِ بْنِ المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح وَالثَّوْرِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ «1» .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْوَشْمَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، النَّهْيُ عَنِ الْوَشْمِ فِي الْوَجْهِ، وَفِي لَفْظٍ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَفِي الصَّحِيحِ «2» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ:
لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَلْعَنُ «3» مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَعْنِي قَوْلَهُ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الْحَشْرِ: 7] .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ يعني دين الله عز
__________
(1) انظر مسند أحمد 3/ 378، 382، 383.
(2) صحيح مسلم (لباس حديث 120) .
(3) في صحيح مسلم: «وما لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ» . وذلك أن امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن أتت ابن مسعود فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات ... إلخ.
فأجابها بذلك. والواشمة: فاعلة الوشم. والمفعول بها ذلك هي الموشومة. فإن طلبت فعل ذلك فهي مستوشمة. والنامصة هي التي تزيل الشعر من الوجه. والمتنمصة هي التي تطلب فعل ذلك بها.
والمتفلجات للحسن: مفلجات الأسنان، بأن تبرد الواحدة ما بين أسنانها، الثنايا والرباعيات. وتفعل ذلك العجوز إظهارا للصغر، لأن هذه الفرجة اللطيفة بين الأسنان تكون للبنات الصغار.(2/367)
وجل، هذا كقوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرُّومِ: 30] عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْرًا، أَيْ لَا تُبَدِّلُوا فِطْرَةَ اللَّهِ وَدَعُوا النَّاسَ عَلَى فِطْرَتِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها مِنْ جَدْعَاءَ» «1» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» «2» .
ثم قال تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أَيْ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتِلْكَ خَسَارَةٌ لَا جَبْرَ لها ولا استدراك لفائتها. وقوله تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وهذا إخبار عن الواقع، فإن الشَّيْطَانَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذلك، ولهذا قال الله تعالى:
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْلِيسَ يَوْمَ الْمَعَادِ وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ- إلى قوله- وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .
وقوله: أُولئِكَ أَيِ الْمُسْتَحْسِنُونَ لَهُ فِيمَا وَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عَنْهَا مَنْدُوحَةٌ وَلَا مَصْرِفٌ، وَلَا خَلَاصٌ، وَلَا مناص، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومالهم في مآلهم من الكرامة التامة، فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْخَيِّرَاتِ، وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أَيْ يُصَّرِّفُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا وَأَيْنَ شَاؤُوا خالِدِينَ فِيها أَبَداً أَيْ بِلَا زَوَالٍ وَلَا انْتِقَالٍ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أَيْ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ، وَوَعْدُ اللَّهِ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ، وهو قوله حقا، ثم قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أَيْ لَا أحد أصدق منه قولا، أي خبرا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النار» «3» .
__________
(1) صحيح البخاري (جنائز باب 80 و 93) وصحيح مسلم (قدر حديث 22- 25) .
(2) صحيح مسلم (جنة حديث 63) . واجتالتهم عن دينهم: استخفتهم فجالوا معها في الضلالة.
(3) صحيح البخاري (اعتصام باب 2) وصحيح مسلم (جمعة حديث 43) وسنن ابن ماجة (مقدمة باب 7) وسنن الدارمي (مقدمة باب 23) ومسند أحمد 3/ 319. [.....](2/368)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بالله منكم ونبينا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ الآية، ثم أفلج اللَّهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عن ابن عباس رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَخَاصَمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ، فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: كِتَابُنَا خَيْرُ الْكُتُبِ، وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ: لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَكِتَابُنَا نَسَخَ كُلَّ كِتَابٍ، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأُمِرْتُمْ وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بكتابنا فقضى الله بينهم، وقال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ الآية.
وَخَيَّرَ بَيْنَ الْأَدْيَانِ فَقَالَ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ إِلَى قَوْلِهِ:
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْعَرَبُ: لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] ، وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آلِ عمران: 80] وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ هو على الحق سُمِعَ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لَهُمُ النَّجَاةُ بِمُجَرَّدِ التمني بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الْكِرَامِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7- 8] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كيف الفلاح بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملناه جزينا به؟ فقال
__________
(1) مسند أحمد 1/ 11.(2/369)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ، أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ «1» ؟» قَالَ: بلى. قال: «فهو مما تُجْزَوْنَ بِهِ» . وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ زِيَادٍ الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هُشَيْمِ بْنِ جُهَيْمَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ الْجَصَّاصُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر: انظروا المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوبا فلا تمرن عليه، قال: فسها الغلام فإذا عبد الله بن عُمَرَ يَنْظُرُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ثَلَاثًا، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إلا ضوّاما قَوَّامًا وَصَّالًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ مع مساوي ما أصبت أن لا يُعَذِّبَكَ اللَّهُ بَعْدَهَا، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من يَعْمَلْ سُوءًا فِي الدُّنْيَا يُجْزَ بِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بن عطاء به مختصرا، وقال فِي مُسْنَدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المستمر العروقي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي حَيَّانَ بْنِ بِسْطَامٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرَّ بِعَبْدِ الله بن الزبير وهو مصلوب، فقال: رحمة الله عليك أَبَا خُبَيْبٍ، سَمِعْتُ أَبَاكَ يَعْنِي الزُّبَيْرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة» ثُمَّ قَالَ:
لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي مَوْلَى بن سِبَاعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: فاقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مالك يَا أَبَا بَكْرٍ؟» قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَإِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنْتَ يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون، فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم
__________
(1) اللأواء: المشقة والشدة.
(2) مسند أحمد 1/ 6.(2/370)
ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» ، وكذا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ يَضْعُفُ، وَمَوْلَى بن سباع مجهول. وقال ابن جرير «1» : حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: لَمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر:
جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما هي المصيبات فِي الدُّنْيَا» .
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ الصِّدِّيقِ: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عياض عن سلمان بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَشَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ وَالْأَحْزَانُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وأحمد بن منصور، قالا:
أنبأنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الحسن المحاربي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قُنْفُذٍ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ مَا نَعْمَلُ نُؤَاخَذُ بِهِ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ يُصِيبُكَ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ» .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بَكْرَ بْنَ سِوَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي يَزِيدَ حَدَّثَهُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فَقَالَ: إِنَّا لنجزي بكل ما عملناه، هَلَكْنَا إذًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «نَعَمْ يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا فِي نَفْسِهِ فِي جَسَدِهِ فِيمَا يُؤْذِيهِ» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ: «مَا هِيَ يَا عَائِشَةُ؟» قُلْتُ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، فَقَالَ: «هُوَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا» ورواه ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ الْخَزَّازِ بِهِ «3» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمَيَّةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، فقالت: ما سألني أحد عن هذه الآية مُنْذُ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُبَايَعَةُ الله للعبد
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 294.
(2) تفسير الطبري 4/ 293.
(3) تفسير الطبري 4/ 291 وسنن أبي داود (جنائز باب 1) .(2/371)
مِمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ حَتَّى الْبِضَاعَةُ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ، فَيَفْزَعُ لَهَا، فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَمَا أن الذهب يخرج مِنَ الْكِيرِ» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُؤْجَرُ فِي كل شيء حتى في القبض عِنْدَ الْمَوْتِ» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ: إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا عَنْهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ يُخْبِرُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا والنكبة ينكبها» ، هكذا رَوَاهُ أَحْمَدُ «2» عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ رَوْحٍ وَمُعْتَمِرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا، وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَكَمَا أنزلت، وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خَطِيئَتَهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ» وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المسلم مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله مِنْ سَيِّئَاتِهِ» أَخْرَجَاهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أبي سعيد الخدري، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فقال: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا، مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: كَفَّارَاتٌ. قَالَ أُبَيٌّ: وَإِنْ قَلَّتْ قال: حتى الشوكة فَمَا فَوْقَهَا، قَالَ: فَدَعَا أُبَيٌّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ الْوَعْكُ حَتَّى يَمُوتَ فِي أن لا يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَجَدَ حَرَّهُ حَتَّى مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أحمد.
__________
(1) مسند أحمد 6/ 157.
(2) مسند أحمد 2/ 248.
(3) مسند أحمد 3/ 23.(2/372)
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، قَالَ: «نَعَمْ وَمَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً يُجْزَ بِهَا عشرا» فهلك من غلب واحدته عشراته. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قَالَ:
الْكَافِرُ، ثُمَّ قَرَأَ وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سَبَأٍ: 17] ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا فَسَّرَا السُّوءَ هَاهُنَا بِالشِّرْكِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ، لَمَّا ذَكَرَ الْجَزَاءَ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مُسْتَحَقَّهَا مِنَ الْعَبْدِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْأَجْوَدُ لَهُ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسْأَلُهُ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالصَّفْحَ وَالْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ، شَرَعَ فِي بَيَانِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادِهِ، ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يَظْلِمُهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا مِقْدَارَ النَّقِيرِ، وَهُوَ النَّقْرَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ على الفتيل وهو الخيط فِي شِقِّ النَّوَاةِ، وَهَذَا النَّقِيرُ وَهُمَا فِي نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَكَذَا الْقِطْمِيرُ وَهُوَ اللِّفَافَةُ الَّتِي على نواة التمرة، والثلاثة فِي الْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَمِلَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيِ اتَّبَعَ فِي عَمَلِهِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَصِحُّ عَمَلُ عَامِلٍ بِدُونِهِمَا، أَيْ يَكُونُ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ متابعا لِلشَّرِيعَةِ فَيَصِحُّ ظَاهِرُهُ بِالْمُتَابَعَةِ، وَبَاطِنُهُ بِالْإِخْلَاصِ، فَمَتَى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقا وهم الذين يراءون النَّاسَ، وَمَنْ فَقَدَ الْمُتَابَعَةَ كَانَ ضَالًّا جَاهِلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الَّذِينَ يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ [الْأَحْقَافِ: 16] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ [آل عمران: 68] ، وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 123] وَالْحَنِيفُ هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ قَصْدًا، أَيْ تَارِكًا لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَمُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ بِكُلِّيَّتِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ راد.
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 291.(2/373)
وَقَوْلُهُ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ حَيْثُ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ لَهُ، فَإِنَّهُ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الْخُلَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ مَقَامَاتِ الْمُحِبَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِرَبِّهِ، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 37] ، قال كثير من علماء السَّلَفِ: أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ في كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ أَمْرٌ جَلِيلٌ عَنْ حَقِيرٍ، وَلَا كَبِيرٌ عَنْ صَغِيرٍ وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 124] . وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 120] ، والآية بعدها، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: إِنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى بهم الصبح، فَقَرَأَ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيلًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَصَابَ أَهْلَ نَاحِيَتِهِ جَدْبٌ، فَارْتَحَلَ إِلَى خَلِيلٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، لِيَمْتَارَ طَعَامًا لِأَهْلِهِ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمْ يُصِبْ عِنْدَهُ حَاجَتَهُ، فَلَمَّا قرب من أهله قرّ بِمَفَازَةٍ ذَاتِ رَمْلٍ، فَقَالَ:
لَوْ مَلَأْتُ غَرَائِرِي من هذا الرمل لئلا يغتم أَهْلِي بِرُجُوعِي إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ مِيرَةٍ، وَلِيَظُنُّوا أَنِّي أَتَيْتُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَتَحَوَّلَ مَا في الغرائر مِنَ الرَّمْلِ دَقِيقًا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ نَامَ، وَقَامَ أَهْلُهُ فَفَتَحُوا الْغَرَائِرَ فَوَجَدُوا دَقِيقًا فعجنوا منه وخبزوا، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي خَبَزُوا، فَقَالُوا: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ مِنْ عند خليلي الله، فسماه الله خَلِيلًا.
وَفِي صِحَّةِ هَذَا وَوُقُوعِهِ نَظَرٌ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا إِسْرَائِيلِيًّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَلِيلَ اللَّهِ لِشِدَّةِ مَحَبَّةِ ربه عز وجل له لما قام به مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ في الصحيحين من رواية أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» وَجَاءَ مِنْ طَرِيقِ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود عن النبي قال: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهران، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَلَسَ
__________
(1) صحيح البخاري (مغازي باب 60) .
(2) تفسير الطبري 4/ 297.(2/374)
ناس من أصحاب رسول الله يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يتذاكرون فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجب، إِنِ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ، وَقَالَ آخَرُ:
مَاذَا بِأَعْجَبِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، وَقَالَ آخَرُ:
آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَتَعَجُّبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَآدَمَ اصطفاه الله وهو كذلك، وكذلك محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: أَلَا وَإِنِّي حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، رَوَاهُ الحاكم في المستدرك، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ وَالْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عبدك القزويني، حدثنا محمد يعني سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو يَعْنِي ابْنَ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُضِيفُ النَّاسَ، فَخَرَجَ يَوْمًا يَلْتَمِسُ أحدا يُضِيفُهُ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُضِيفُهُ، فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلًا قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا أَدْخَلَكَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ قَالَ: دَخَلْتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا، قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ أَرْسَلَنِي رَبِّي إِلَى عبد من عباده، أبشره بأن اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟
فو الله إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِ، ثُمَّ كَانَ بِأَقْصَى الْبِلَادِ لَآتِيَنَّهُ، ثُمَّ لَا أَبْرَحُ لَهُ جَارًا حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا الْمَوْتُ، قَالَ: ذَلِكَ الْعَبْدُ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فِيمَ اتَّخَذَنِي ربي خَلِيلًا؟ قَالَ: إِنَّكَ تُعْطِي النَّاسَ وَلَا تَسْأَلُهُمْ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قلبه الوجل حتى أن خَفَقَانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ.
وَهَكَذَا جَاءَ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ إذا اشتد غليانها مِنَ الْبُكَاءِ «1» .
وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وخلقه وهو
__________
(1) رواه أحمد في المسند 4/ 25، من حديث مطرف بن عبد الله عن أبيه أنه رأى رسول الله على الهيئة المذكورة.(2/375)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا رَادَّ لِمَا قَضَى، وَلَا مُعَقِّبَ لِمَا حَكَمَ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أَيْ عِلْمُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَعْزُبُ عن علمه مثقال ذرة في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ ذَرَّةٌ لِمَا تراءى للناظرين وما توارى.
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ- إلى قوله- وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قالت عائشة: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا ووارثها، فأشركته فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيَشْرَكَهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ، فَيَعْضُلُهَا «2» ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ «3» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أُسَامَةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الآية، قال: والذي ذكر الله أنه يتلى عليه فِي الْكِتَابِ، الْآيَةُ الْأَوْلَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجِمَالِ، فَنُهُوا أَنْ ينكحوا من رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجِمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ.
وَأَصْلُهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ بِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا، فَتَارَةً يَرْغَبُ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أن يمهرها أسوة بأمثالها مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيَعْدِلْ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى الَّتِي في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 20) . [.....]
(2) أي يمنعها الزواج.
(3) صحيح مسلم (تفسير حديث 7) .(2/376)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
نَفْسِ الْأَمْرِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْضِلَهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ خَشْيَةَ أَنْ يَشْرَكُوهُ فِي مَالِهِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآية، وهي قوله: فِي يَتامَى النِّساءِ الآية، كان الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ فَيُلْقِي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبَدًا فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَهَوِيَهَا، تَزَوَّجَهَا وَأَكَلَ مَالَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً مَنْعَهَا الرِّجَالَ أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُورِثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْبَنَاتَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لِكُلِّ ذِي سَهْمٍ سَهْمَهُ، فَقَالَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11 و 176] صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير وغيره وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ كَمَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ نَكَحْتَهَا وَاسْتَأْثَرْتَ بِهَا، كَذَلِكَ إِذَا لَمْ تكن ذات مال ولا جمال فَانْكِحْهَا وَاسْتَأْثِرْ بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً تهييجا على فعل الخيرات وامتثالا للأوامر، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.
[سورة النساء (4) : الآيات 128 الى 130]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
يَقُولُ تعالى مخبرا ومشرعا من حَالِ الزَّوْجَيْنِ تَارَةً فِي حَالِ نُفُورِ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَتَارَةً فِي حَالِ اتِّفَاقِهِ مَعَهَا، وَتَارَةً فِي حَالِ فِرَاقِهِ لَهَا، فَالْحَالَةُ الْأُولَى مَا إِذَا خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَنْ يَنْفِرَ عَنْهَا أَوْ يُعْرِضَ عَنْهَا، فَلَهَا أَنْ تسقط عنه حَقَّهَا أَوْ بَعْضَهُ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ كُسْوَةٍ أو مبيت أو غير ذلك من حقها عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهَا فَلَا حرج عَلَيْهَا فِي بَذْلِهَا ذَلِكَ لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً، ثُمَّ قَالَ:
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أَيْ مِنَ الْفِرَاقِ، وَقَوْلُهُ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ أَيِ الصُّلْحُ عِنْدَ الْمُشَاحَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْفِرَاقِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ عَزْمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِرَاقِهَا فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ يُمْسِكَهَا وَتَتْرُكَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا وَأَبْقَاهَا عَلَى ذَلِكَ.
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تُطَلِّقْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَفَعَلَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ(2/377)
جَائِزٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غريب.
قال الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وهبت يومها لعائشة، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَهَا بِيَوْمِ سَوْدَةَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ «1» .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ، عن أبيه عروة، قال:
أنزل الله فِي سَوْدَةَ وَأَشْبَاهِهَا وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً وَذَلِكَ أَنَّ سَوْدَةَ كَانَتِ امْرَأَةً قَدْ أَسَنَّتْ، فَفَزِعَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَنَّتْ بِمَكَانِهَا مِنْهُ، وَعَرَفَتْ مِنْ حُبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَمَنْزِلَتِهَا مِنْهُ، فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بن يونس عن الحسن بن أبي الزناد موصولا، وهذه الطريقة رَوَاهَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى مَنْ هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا، وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أسنت وفزعت أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمِي هَذَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً وكذلك رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ به، والحاكم في مستدركه، ثم قال: صحيح الإسناد، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ نَحْوَهُ وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عن هشام بن عروة بنحو مُخْتَصَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيُّ «2» فِي أَوَّلِ مُعْجَمِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، قَالَ:
بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ بِطَلَاقِهَا، فَلَمَّا أَنْ أَتَاهَا جَلَسَتْ لَهُ عَلَى طَرِيقِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ لَهُ: أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ كَلَامَهُ وَاصْطَفَاكَ عَلَى خَلْقِهِ لَمَا رَاجَعْتَنِي، فَإِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَلَا حَاجَةَ لِي فِي الرِّجَالِ، لَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أُبْعَثَ مَعَ نسائك يوم القيامة، فراجعها فقالت:
فإني جَعَلْتُ يَوْمِي وَلَيْلَتِي لِحِبَّةِ «3» رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا غريب مرسل. وقال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، أنبأنا عبد الله، أنبأنا هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ
__________
(1) صحيح البخاري (نكاح باب 98) .
(2) توفي سنة 325. له معجم في الحديث ورجاله.
(3) الحبة: المحبوبة.(2/378)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قال: الرجل تكون عنده المرأة المسنة لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حَلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قَالَتْ: هَذَا فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَلَعَلَّهُ لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد ويكون لها صُحْبَةٌ فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي. حَدَّثَنِي «2» الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بن سلمة عن هشام، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قالت: هو الرجل يكون له امرأتان: إِحْدَاهُمَا قَدْ كَبِرَتْ، أَوْ هِيَ دَمِيمَةٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ «3» ، بِنَحْوِ ما تقدم، ولله الحمد والمنة.
قال ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ ابْنِ سيرين قال: جاء رجل الى عمر بن الخطاب فسأله عن آية، فكره ذلك فضربه بِالدِّرَّةِ، فَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فقال عن مثل هذا فاسألوا، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَدْ خَلَا مِنْ سِنِّهَا، فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ يَلْتَمِسُ وَلَدَهَا، فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين الْهِسِنْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب، فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما، قَالَ عَلِيٌّ:
يَكُونُ الرَّجُلُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ فَتَنْبُو عَيْنَاهُ عَنْهَا مِنْ دَمَامَتِهَا أَوْ كِبَرِهَا، أَوْ سُوءِ خُلُقِهَا، أَوْ قُذَذِهَا فَتَكْرَهُ فِرَاقَهُ، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا حَلَّ لَهُ، وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ أَيَّامِهَا فَلَا حَرَجَ.
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي الْأَحْوَصِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سِمَاكٍ بِهِ. وَكَذَا فَسَّرَهَا ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد بن جبير وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ ومكحول والحسن والحكم بن عتيبة وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَلَا أعلم في ذلك خلافا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 306.
(2) إسناد آخر من رواية ابن جرير 4/ 306.
(3) صحيح مسلم (تفسير حديث 14) .
(4) تفسير الطبري 4/ 305.(2/379)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن ابن المسيب أن بنت محمد بن مسلم كَانَتْ عِنْدَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فِكْرِهَ مِنْهَا أَمْرًا إِمَّا كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ، فَأَرَادَ طَلَاقَهَا فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا بَدَا لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الآية، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ بِأَطْوَلِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي: حدثنا سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بن محمد بن عيسى، أنبأنا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وَإِعْرَاضَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ، أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا نَشَزَ عَنِ امْرَأَتِهِ وَآثَرَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ تَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ أَثَرَةٍ فِي الْقَسْمِ من ماله ونفسه صلح له ذلك وكان صُلْحُهَا عَلَيْهِ. كَذَلِكَ ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ الصُّلْحَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاتة شَابَّةً، وَآثَرَ عَلَيْهَا الشَّابَّةَ، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَحِلُّ راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فَنَاشَدَتْهُ الطَّلَاقَ، فَقَالَ لَهَا: مَا شِئْتِ، إِنَّمَا بَقِيَتْ لَكِ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ شِئْتِ اسْتَقْرَرْتِ عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنَ الْأَثَرَةِ، وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتُكِ، فَقَالَتْ: لَا بَلْ أَسْتَقِرُّ عَلَى الْأَثَرَةِ فَأَمْسَكَهَا عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ صُلْحَهُمَا وَلَمْ يَرَ رَافِعٌ عَلَيْهِ إِثْمًا حِينَ رَضِيَتْ أَنْ تَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ عَلَى الْأَثَرَةِ فِيمَا آثَرَ بِهِ عليها، وهكذا رَوَاهُ بِتَمَامِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي التَّخْيِيرَ أَنْ يُخَيِّرَ الزَّوْجُ لَهَا بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفِرَاقِ خَيْرٌ مِنْ تَمَادِي الزَّوْجِ عَلَى أَثَرَةِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ صُلْحَهُمَا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا لِلزَّوْجِ وَقَبُولِ الزَّوْجِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْمُفَارَقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا أَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ عَلَى أَنْ تَرَكَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَمْ يُفَارِقْهَا، بَلْ تَرَكَهَا مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِ وَفِعْلُهُ ذلك للتتأسى بِهِ أُمَّتُهُ فِي مَشْرُوعِيَّةٍ ذَلِكَ وَجَوَازِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمَّا كان الوفاق أحب الى الله مِنَ الْفِرَاقِ. قَالَ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ بَلِ الطَّلَاقُ بَغِيضٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، جَمِيعًا عَنْ كَثِيرِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بن خالد، عن معروف بْنِ وَاصِلٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلى الله(2/380)
الطَّلَاقُ» «1» . ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ معروف عَنْ مُحَارِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ مُرْسَلًا.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تَكْرَهُونَ مِنْهُنَّ وَتُقْسِمُوا لَهُنَّ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَسَيَجْزِيَكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ أَيْ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُسَاوُوا بَيْنَ النِّسَاءِ مِنْ جميع الوجوه، فإنه وإن وقع الْقَسْمُ الصُّورِيُّ لَيْلَةً وَلَيْلَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ والضحاك بن مزاحم، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فِي عَائِشَةَ، يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أملك» يعني القلب، هذا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ «2» ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، لَكِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ مُرْسَلًا، قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ.
وَقَوْلُهُ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فَلَا تُبَالِغُوا فِي الْمَيْلِ بِالْكُلِّيَّةِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أَيْ فَتَبْقَى هَذِهِ الْأُخْرَى مُعَلَّقَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: معناها لا ذات زوج ولا مطلقة. وقال أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: أَنْبَأَنَا هُمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نهيك عن أبي هرير، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ» ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وقال الترمذي: إنما أسنده همام ورواه هشام الدستوائي عن قتادة، قال: كان يقال: ولا يعرف هَذَا الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ وَإِنْ أَصْلَحْتُمْ فِي أُمُورِكُمْ وَقَسَمْتُمْ بِالْعَدْلِ فِيمَا تَمْلِكُونَ وَاتَّقَيْتُمِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ مَا كَانَ من ميل إلى
__________
(1) سنن أبي داود (طلاق باب 3) وسنن ابن ماجة (طلاق باب 1) .
(2) سنن أبي داود (نكاح باب 38) .
(3) مسند أحمد 3/ 347.(2/381)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الثالثة، وهي حالة الفراق وقد أخبر الله تَعَالَى أَنَّهُمَا إِذَا تَفَرَّقَا فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِيهِ عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا، وَيُعَوِّضَهَا عَنْهُ بِمَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ، وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً أَيْ وَاسْعَ الْفَضْلِ عَظِيمَ الْمَنِّ حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَيْ وَصَّيْنَاكُمْ بِمَا وَصَّيْنَاهُمْ بِهِ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إِبْرَاهِيمَ: 8] . وَقَالَ: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التَّغَابُنِ: 6] أَيْ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادِهِ، (حَمِيدٌ) أَيْ مَحْمُودٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَشْرَعُهُ.
قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِكُمْ وَتَبْدِيلِكُمْ بغيركم إذا عصيتموه، وكما قال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 38] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللَّهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إِبْرَاهِيمَ: 19- 20] أي وما هُوَ عَلَيْهِ بِمُمْتَنِعٍ.
وَقَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي يا من ليس له هَمُّهُ إِلَّا الدُّنْيَا، اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا سَأَلْتَهُ مِنْ هَذِهِ أغناك وأعطاك وَأَقْنَاكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [الْبَقَرَةِ: 200- 202] ، وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشُّورَى: 20] ، وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ- إلى قوله- انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الإسراء: 18- 21] الآية، وقد زعم ابن جرير «1»
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 318.(2/382)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
أَنَّ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وهو ما حصل مِنَ الْمَغَانِمِ وَغَيْرِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ:
وَالْآخِرَةِ أَيْ وَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا ادَّخَرَهُ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَجَعَلَهَا كَقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها- إلى قوله- وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [هُودٍ: 15- 16] وَلَا شَكَّ أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسير الْآيَةَ الْأَوْلَى بِهَذَا فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:
فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ظَاهِرٌ فِي حصول الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَيْ بِيَدِهِ هَذَا وَهَذَا، فَلَا يَقْتَصِرَنَّ قَاصِرُ الْهِمَّةِ عَلَى السَّعْيِ لِلدُّنْيَا فَقَطْ، بَلْ لِتَكُنْ هِمَّتُهُ سَامِيَةٌ إِلَى نَيْلِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هو الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وَعَدَلَ بَيْنَهُمْ فِيمَا عَلِمَهُ فِيهِمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا وَمِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا. وَلِهَذَا قَالَ: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً
[سورة النساء (4) : آية 135]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ، فَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا، وَلَا تَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَلَا يَصْرِفَهُمْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ مُتَسَاعِدِينَ مُتَعَاضِدِينَ مُتَنَاصِرِينَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: شُهَداءَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2] أَيْ لِيَكُنْ أَدَاؤُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ صَحِيحَةً عَادِلَةً حَقًّا خَالِيَةً مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكِتْمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَيْ اشْهَدِ الْحَقَّ وَلَوْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْكَ، وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِ الْأَمْرِ فَقُلِ الْحَقَّ فِيهِ ولو عادت مضرته عَلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَضِيقُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَيْ وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ فَلَا تُرَاعِهِمْ فِيهَا بَلِ اشْهَدْ بِالْحَقِّ وَإِنَّ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الحق حاكم عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أَيْ لَا تَرْعَاهُ لِغِنَاهِ وَلَا تُشْفِقْ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ، اللَّهُ يَتَوَلَّاهُمَا بَلْ هُوَ أَوْلَى بِهِمَا مِنْكَ وَأَعْلَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمَا. وَقَوْلُهُ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أَيْ فَلَا يَحْمِلْنَّكُمُ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةُ وبغض النَّاسِ إِلَيْكُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي أُمُورِكُمْ وَشُؤُونِكُمْ، بَلِ الْزَمُوا الْعَدْلَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَةِ: 8] ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثمارهم وزروعهم، فَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ لِيَرْفُقَ بِهِمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَلْأَنْتَمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَعْدَادِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ(2/383)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
وَالْخَنَازِيرِ وَمَا يَحْمِلُنِي حُبِّي إِيَّاهُ، وَبُغْضِي لَكُمْ على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات وَالْأَرْضُ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ مُسْنَدًا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: تَلْوُوا، أَيْ تُحَرِّفُوا الشَّهَادَةَ وَتُغَيِّرُوهَا، وَاللَّيُّ هو التحريف وتعمد الكذب، قال تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ [آل عمران: 78] ، والإعراض هو كتمان الشهادة وتركها، قال تَعَالَى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَيْرُ الشهداء الذي يأتي بالشهادة قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» «1» وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أَيْ وسيجازيكم بذلك.
[سورة النساء (4) : آية 136]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
يأمر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ وَأَرْكَانِهِ وَدَعَائِمِهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَكْمِيلِ الْكَامِلِ وَتَقْرِيرِهِ وَتَثْبِيتِهِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، كَمَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَةِ: 6] أَيْ بَصِّرْنَا فِيهِ وَزِدْنَا هُدَى وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الْحَدِيدِ: 28] . وَقَوْلُهُ: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَهَذَا جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ:
نَزَّلَ لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى الْوَقَائِعِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وَأَمَّا الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَكَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لهذا قال تعالى: وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ قَالَ تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أَيْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى وَبَعُدَ عَنِ الْقَصْدِ كل البعد.
[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 140]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ وَازْدَادَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ لَا تَوْبَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى، وَلِهَذَا قَالَ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. قَالَ
__________
(1) رواه أحمد في المسند 4/ 118 و 5/ 192 من حديث زيد بن خالد الجهني بلفظ: «خير الشهادة ما شهد بها صاحبها قبل أن يسألها» . [.....](2/384)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيْعٍ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال: تمموا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْمُعَلَّى عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يَعْنِي أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُوَالُونَهُمْ وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ: إِنَّمَا نَحْنُ مَعَكُمْ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ، فِي إِظْهَارِنَا لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، ثم أخبر الله تعالى بأن العزة كلها له وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ، كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فَاطِرٍ: 10] . وَقَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 8] ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّهْيِيجِ عَلَى طَلَبِ العزة من جناب الله والإقبال على عُبُودِيَّتِهِ وَالِانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لهم النصرة في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، ويناسب هنا أن نذكر الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ بن حميد الكندي، عن عبادة بن نسيء، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَفَخْرًا، فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَأَبُو ريحانة هذا هو أزدي، ويقال أنصاري، واسمه شَمْعُونُ، بِالْمُعْجَمَةِ، فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بالمهملة، والله أعلم.
وقوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ، أي إنكم إِذَا ارْتَكَبْتُمِ النَّهْيَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمْ وَرَضِيتُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُكْفَرُ فِيهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأُ وَيُنْتَقَصُ بِهَا وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الَّذِي هُمْ فِيهِ، فلهذا قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فِي الْمَأْثَمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» وَالَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَامِ:
68] ، قَالَ مُقَاتِلُ بُنُ حَيَّانَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الآية التي في سورة الْأَنْعَامِ، يَعْنِي نُسِخَ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ لِقَوْلِهِ- وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الْأَنْعَامِ: 69] .
__________
(1) مسند أحمد 4/ 133.(2/385)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً أَيْ كَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الْكُفْرِ كذلك يشارك اللَّهُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أبدا ويجمع بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ وَالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ وشراب الحميم والغسلين لا الزلال.
[سورة النساء (4) : آية 141]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السُّوءِ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَتِهِمْ وَظُهُورَ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ نَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أَيْ يَتَوَدَّدُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أَيْ إِدَالَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَإِنَّ الرُّسُلَ تُبْتَلَى ثُمَّ يَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ سَاعَدْنَاكُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَمَا أَلَوْنَاهُمْ خَبَالًا وَتَخْذِيلًا حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [الْمُجَادَلَةِ: 19] وَهَذَا أَيْضًا تَوَدُّدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَانِعُونَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لِيَحْظَوْا عِنْدَهُمْ وَيَأْمَنُوا كَيْدَهُمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَقِلَّةِ إِيقَانِهِمْ، قال تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ مِنِ الْبَوَاطِنِ الرَّدِيئَةِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْكُمْ ظاهرا في الحياة الدنيا، لما له فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنْفَعُكُمْ ظَوَاهِرُكُمْ بَلْ هُوَ يَوْمٌ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ وَيُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذر، عن سبيع الْكِنْدِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فَقَالَ علي رضي الله عنه: ادنه ادنه، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، قَالَ: ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَذَا رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، يَعْنِي يَوْمَ القيامة. وقال السدي: سبيلا أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، أَيْ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ اسْتِئْصَالٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ظَفَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر: 51] ، وعلى هذا يكون ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه وَانْتَظَرُوهُ مِنْ زَوَالِ دَوْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُصَانَعَتِهِمُ الْكَافِرِينَ خَوْفًا(2/386)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ إِذَا هُمْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ- إلى قوله- نادِمِينَ [الْمَائِدَةِ: 52] وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بهذا الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ المنع من بيع العبد المسلم للكافر، لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ، يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 9] ، وَقَالَ هَاهُنَا: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
ولا شك أن الله لَا يُخَادَعُ، فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة وأن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْلِفُونَ لَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لهم عنده، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18] ، وقوله: هُوَ خادِعُهُمْ
أَيْ هُوَ الَّذِي يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَيَخْذُلُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الدنيا، وكذلك يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- إلى قوله- وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْحَدِيدِ: 13] وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ سَمَّعَ سمّع الله به، ومن رأيا رأيا اللَّهُ بِهِ» «1» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إِنِ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَبْدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَيُعْدَلُ بِهِ إِلَى النَّارِ» .
عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
الآية، هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِهَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ الصَّلَاةُ إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا، قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا، لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ فِيهَا وَلَا إِيمَانَ لَهُمْ بِهَا وَلَا خَشْيَةَ، وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا كَمَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَسْلَانُ، وَلَكِنْ يَقُومُ إِلَيْهَا طَلْقَ الْوَجْهِ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ شديد الفرح، فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يَغْفِرُ لَهُ وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
وَرَوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا
__________
(1) سمّع: تباهي بعمله وأظهره. وسمّع الله به: فضحه يوم القيامة. وراءى الله به: عرّف خلقه أن هذا مراء مزوّر.(2/387)
إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
هَذِهِ صِفَةُ ظَوَاهِرِهِمْ كَمَا قَالَ: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التَّوْبَةِ: 54] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ بَوَاطِنِهِمُ الفاسدة، فقال: يُراؤُنَ النَّاسَ
أَيْ لَا إِخْلَاصَ لَهُمْ وَلَا مُعَامَلَةَ مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، وَلِهَذَا يَتَخَلَّفُونَ كَثِيرًا عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء في وَقْتَ الْعَتَمَةِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِ الْغَلَسِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ ومعهم حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» «1» . وَفِي رِوَايَةٍ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مَرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ والذرية لحرقت عليهم بيوتهم» .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ إِبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو، فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» .
وَقَوْلُهُ: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
أَيْ فِي صَلَاتِهِمْ لا يخشعون وَلَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُونَ بَلْ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لَاهُونَ، وَعَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ مُعَرِضُونَ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» «2» ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مُحَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَلَا هُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا مَعَ الْكَافِرِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ ظَوَاهِرُهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَوَاطِنُهُمْ مَعَ الْكَافِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ، فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى هَؤُلَاءِ وَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى أُولَئِكَ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [البقرة: 20] ، وقال مُجَاهِدٌ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا إِلى هؤُلاءِ يَعْنِي الْيَهُودَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ
__________
(1) صحيح البخاري (مواقيت الصلاة باب 20 وأذان باب 47) وسنن أبي داود (صلاة باب 47) وسنن النسائي (إمامة باب 45) وسنن ابن ماجة (مساجد باب 18) .
(2) موطأ مالك (كتاب القرآن حديث 46) .
(3) تفسير الطبري 4/ 334.(2/388)
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَلَا تَدْرِي أَيَّتَهُمَا تَتَّبِعُ» ، تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَقَدْ رَوَاهُ «1» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى مَرَّةً أُخْرَى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَوَقَفَ بِهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ مَرَّتَيْنِ. كَذَلِكَ قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» عَنْ إسحاق بن يوسف عن عبيد الله، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ عبد الله بن مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ أَيْضًا صخر بن جويرية عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ بْنُ بِلَالٍ عَنِ ابْنِ عبيد أَنَّهُ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ بِمَكَّةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مَعَهُ، فَقَالَ أَبِي: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الْمُنَافِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالشَّاةِ بَيْنَ الرَّبِيضَيْنِ مِنَ الْغَنَمِ، إِنْ أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا، وَإِنْ أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: كَذَبْتَ، فَأَثْنَى الْقَوْمُ عَلَى أَبِي خَيْرًا أَوْ مَعْرُوفًا، فقال ابن عمر: ما أظن صاحبكم إلا كما تقولون، ولكني شاهدي اللَّهِ إِذْ قَالَ: كَالشَّاةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، فَقَالَ: هو سواء، فقال: هكذا سمعته.
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ:
بَيْنَمَا عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُصُّ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ بَيْنَ رَبِيضَيْنِ، إِذَا أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا، وإذا أتت هؤلاء نطحتها» ، فقال ابن عمير: ليس كذلك، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كشاة بين غنمين» ، قال: فاختطف الشَّيْخُ وَغَضِبَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ لَمْ أردد ذلك عليك.
طريقة أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عُثْمَانَ بن بودويه، عن يعفر بن زودي، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ وَهُوَ يَقُصُّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الرَّابِضَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ» ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيْلَكُمْ لَا تَكْذِبُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الغنمين» ، ورواه أحمد أيضا من طرق عن عبيد بن عمير، عن ابن عمر، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ مَثَلُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ انْتَهَوْا إِلَى وَادٍ،
__________
(1) أي ابن جرير الطبري.
(2) مسند أحمد 2/ 47.
(3) مسند أحمد 2/ 68.
(4) مسند أحمد 2/ 32.
(5) مسند أحمد 2/ 88.(2/389)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
فوقع أَحَدُهُمْ فَعَبَرَ، ثُمَّ وَقَعَ الْآخَرُ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى نِصْفِ الْوَادِي نَادَاهُ الَّذِي عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي:
وَيْلَكَ أَيْنَ تَذْهَبُ إِلَى الْهَلَكَةِ، ارْجِعْ عَوْدُكَ عَلَى بَدْئِكَ، وَنَادَاهُ الَّذِي عَبَرَ: هَلُمَّ إِلَى النَّجَاةِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى هَذَا مَرَّةً وَإِلَى هَذَا مَرَّةً، قَالَ: فَجَاءَهُ سَيْلٌ فأغرقه، فالذي عبر هو الْمُؤْمِنُ، وَالَّذِي غَرِقَ الْمُنَافِقُ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَالَّذِي مَكَثَ الْكَافِرُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ «2» عَنْ قَتَادَةَ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يَقُولُ: لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَلِلْمُنَافِقِ وَلِلْكَافِرِ كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ فَوَقَعَ الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ، ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ، نَادَاهُ الْكَافِرُ، أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ، وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ: أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فإن عِنْدِي وَعِنْدِي يُحْصَى لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَا زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه أَذًى «3» فَغَرَّقَهُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ، رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تَعْرِفْ، ثُمَّ رأت غنما على نشز فأتتها فشامتها فَلَمْ تَعْرِفْ» .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ وَمَنْ صَرَفَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] ، وَلَا مُنْقِذَ لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهم يسألون.
[سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
ينهى الله تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي مُصَاحَبَتَهُمْ وَمُصَادَقَتَهُمْ، وَمُنَاصَحَتَهُمْ وَإِسْرَارَ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ، وَإِفْشَاءَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاطِنَةِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 28] أَيْ يُحَذِّرُكُمْ عُقُوبَتَهُ فِي ارْتِكَابِكُمْ نَهْيَهُ، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ حُجَّةً عَلَيْكُمْ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 334.
(2) في الطبري: «حدثنا سعيد عن قتادة» .
(3) الآذيّ: الموج الشديد.(2/390)
فِي عُقُوبَتِهِ إِيَّاكُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: سُلْطاناً مُبِيناً قَالَ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ حُجَّةٌ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ والضحاك والسدي والنضر بن عربي.
ثم أخبرنا تَعَالَى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمُ الْغَلِيظِ. قَالَ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أَيْ فِي أَسْفَلِ النَّارِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّارُ دَرَكَاتٌ كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ فِي تَوَابِيتَ تُرْتَجُ عَلَيْهِمْ: كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنِ ابْنِ وَكِيعٍ، عَنْ يَحْيَى بن يمان، عن سفيان الثوري بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ بُيُوتٌ لَهَا أَبْوَابٌ تُطْبَقُ عَلَيْهِمْ، فَتُوقَدُ مِنْ تَحْتِهِمْ ومن فوقهم. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُبْهَمَةٍ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُبْهَمَةٍ، أَيْ مُغْلَقَةٍ مُقْفَلَةٍ لَا يُهْتَدَى لِمَكَانِ فتحها.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: يجعلون في توابيت من نار تطبق عَلَيْهِمْ فِي أَسْفَلِ دَرَكٍ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أَيْ يُنْقِذَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، تَابَ عَلَيْهِ وَقَبِلَ نَدَمَهُ إِذَا أَخْلَصَ فِي تَوْبَتِهِ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ، وَاعْتَصَمَ بِرَبِّهِ فِي جَمِيعِ أمره، فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أَيْ بَدَّلُوا الرِّيَاءَ بِالْإِخْلَاصِ فَيَنْفَعُهُمُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَإِنَّ قَلَّ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زُحْرٍ، عَنْ خَالِدِ بن أبي عمران، عن عِمْرَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ» . فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فِي زُمْرَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ غِنَاهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يعذب العباد بذنوبهم فقال
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 336. [.....]
(2) تفسير الطبري 4/ 337.(2/391)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ أَيْ أَصْلَحْتُمِ الْعَمَلَ وَآمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً أَيْ مَنْ شَكَرَ شَكَرَ لَهُ، وَمَنْ آمَنَ قَلْبُهُ بِهِ عَلِمَهُ وَجَازَاهُ على ذلك أوفر الجزاء.
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآية يَقُولُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا فَإِنَّهُ قَدْ أُرْخِصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُرِقَ لَهَا شَيْءٌ فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ» «1» وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يَدْعُ عَلَيْهِ، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ، وَاسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: قَدْ أُرْخِصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُكَ فَتَشْتُمُهُ، وَلَكِنْ إِنِ افْتَرَى عَلَيْكَ فَلَا تَفْتَرِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشُّورَى: 41] . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «2» : حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَالَ: ضَافَ رَجُلٌ رَجُلًا فَلَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ حَقَّ ضِيَافَتِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَخْبَرَ النَّاسَ فَقَالَ: ضِفْتُ فلانا فلم يؤد إلي حق ضيافتي، قال: فَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مِنْ ظلم حتى يؤدي الآخر إليه حق ضيافته. وقال ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يُحْسِنُ ضِيَافَتَهُ، فَيَخْرُجُ فَيَقُولُ: أَسَاءَ ضِيَافَتِي وَلَمْ يُحْسِنْ، وَفِي رِوَايَةٍ: هُوَ الضَّيْفُ الْمُحَوَّلُ رَحْلُهُ، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ لِصَاحِبِهِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُ هَذَا، وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ سِوَى النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ:
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فلا يقرونا، فما ترى في ذلك؟ فقال: «إِذَا نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ، فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم» .
__________
(1) سنن أبي داود (أدب باب 42) . لا تسبخي عنه: لا تضيعي إثم السرقة عن السارق بدعائك عليه.
(2) سنن أبي داود (أدب باب 39) .(2/392)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ أَبَا الْجُودِيِّ يُحَدِّثُ عَنْ سعيد بن مهاجر عن المقدام بن أَبِي كَرِيمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ ضَافَ قَوْمًا فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ حَقًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ «2» أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ منصور، عن الشعبي، عن المقدام بن أَبِي كَرِيمَةَ، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا كَانَ دينا له عليه، فإن شَاءَ اقْتَضَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ» . ثُمَّ رَوَاهُ أيضا عن غندر عن شعبة. وعن زيادة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ عَنْ وَكِيعٍ وَأَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «3» مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمْثَالِهَا، ذَهَبَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ إِلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنْ لِي جَارًا يُؤْذِينِي، فَقَالَ لَهُ «أَخْرِجْ مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ» ، فَأَخَذَ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ: مَالَكَ؟ قَالَ: جَارِي يُؤْذِينِي، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ أَخْزِهِ، قَالَ: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لَا أُوذِيكَ أَبَدًا، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «4» فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَيَّانَ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أَيْ إِنْ تُظْهِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ خَيْرًا أَوْ أَخْفَيْتُمُوهُ أَوْ عَفَوْتُمْ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَيُجْزِلُ ثَوَابَكُمْ لَدَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ عِبَادِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ على عقابهم، ولهذا قال:
فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ:
سُبْحَانَكَ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: سُبْحَانَكَ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَنْ تواضع لله رفعه» «5» .
__________
(1) مسند أحمد 4/ 133.
(2) مسند أحمد 4/ 130.
(3) سنن أبي داود (أطعمة باب 5) .
(4) سنن أبي داود (أدب باب 123) .
(5) مسند أحمد 2/ 235 من حديث أبي هريرة.(2/393)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
يَتَوَعَّدُ تَبَارَكَ وتعالى الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَادَةِ، وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ لَا عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ، فَالْيَهُودُ- عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ- آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ إِلَّا عِيسَى ومحمد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِخَاتَمِهِمْ وَأَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّامِرَةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ بَعْدَ يُوشَعَ خَلِيفَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَالْمَجُوسُ يُقَالُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ زَرَادِشْتُ، ثُمَّ كَفَرُوا بِشَرْعِهِ فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ بِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي، تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا شَرْعِيًّا، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَوَسْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ فِي الْإِيمَانِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أَيْ كُفْرُهُمْ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ بِمَنِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْعِيًّا إِذْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ، لَآمَنُوا بِنَظِيرِهِ وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلًا وَأَقْوَى برهانا منه، أو نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ فِي نُبُوَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أَيْ كَمَا اسْتَهَانُوا بِمَنْ كَفَرُوا بِهِ، إِمَّا لِعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى جَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَإِمَّا بِكُفْرِهِمْ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَعَادُوهُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ الدُّنْيَوِيَّ الْمَوْصُولَ بِالذُّلِّ الأخروي وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 61] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَعْنِي بِذَلِكَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 285] ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَلِيلَ وَالْعَطَاءَ الْجَمِيلَ، فَقَالَ:
أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ عَلَى مَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي(2/394)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
لذنوبهم، أي إن كان لبعضهم ذنوب.
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 154]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: سَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى مَكْتُوبَةً، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مِنَ اللَّهِ مَكْتُوبَةً إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، كَمَا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَبْلَهُمْ نَظِيرَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النِّسَاءِ: 153] أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَهَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْبَقَرَةِ: 55- 56] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ [النساء: 153] أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ مِصْرَ، وَمَا كَانَ مِنْ إهلاك عدوهم فِرْعَوْنَ وَجَمِيعِ جُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، فَمَا جَاوَزُوهُ إِلَّا يَسِيرًا، حَتَّى أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ فَقَالُوا لِمُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ طَهَ، بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى إِلَى مُنَاجَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ وَكَانَ مَا كَانَ، جَعَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الَّذِي صَنَعُوهُ وَابْتَدَعُوهُ، أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَهُ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أحياهم الله عز وجل، وقال الله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً [النساء:
153] ثم قال: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [النساء: 154] وَذَلِكَ حِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الِالْتِزَامِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَظَهَرَ مِنْهُمْ إِبَاءٌ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَفَعَ اللَّهُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ جَبَلًا، ثُمَّ أُلْزِمُوا فَالْتَزَمُوا وَسَجَدُوا، وَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى فَوْقِ رُؤُوسِهِمْ، خَشْيَةَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: 171] ، وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أَيْ فَخَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَابَ بَيْتِ الْقُدْسِ سُجَّدًا وَهُمْ يَقُولُونَ حِطَّةٌ، أَيْ اللَّهُمَّ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا فِي تَرْكِنَا الْجِهَادَ وَنُكُولِنَا عَنْهُ، حَتَّى تُهْنَا فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَدَخَلُوا يزحفون(2/395)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: حِنْطَةٌ فِي شَعْرَةٍ وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أَيْ وُصَّيْنَاهُمْ بِحِفْظِ السَّبْتِ وَالْتِزَامِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، مَا دَامَ مَشْرُوعًا لَهُمْ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أَيْ شَدِيدًا، فَخَالَفُوا وَعَصَوْا وَتَحَيَّلُوا على ارتكاب ما حرم اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي سورة الأعراف عند قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: 163] ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الْإِسْرَاءِ: 101] وَفِيهِ: وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودَ أن لا تعدوا في السبت.
[سورة النساء (4) : الآيات 155 الى 159]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
وَهَذِهِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا، مِمَّا أَوْجَبَ لَعْنَتَهُمْ وَطَرْدَهُمْ وَإِبْعَادَهَمْ عَنِ الْهُدَى، وَهُوَ نَقْضُهُمُ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ، وَكُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، أَيْ حُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي شَاهَدُوهَا على يد الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَوْلُهُ: وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ إِجْرَامِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى أَنْبِيَاءِ الله، فإنهم قتلوا جمعا غفيرا من الأنبياء عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ فِي غِطَاءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: 5] ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلُفٌ لِلْعِلْمِ، أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ قَدْ حَوَتْهُ وَحَصَّلَتْهُ، رَوَاهُ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَعِي مَا يَقُولُ، لِأَنَّهَا فِي غُلْفٍ وَفِي أَكِنَّةٍ، قَالَ اللَّهُ: بل هي مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: عَكَسَ عَلَيْهِمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ البقرة.
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 155] أي تمرنت قُلُوبُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَقِلَّةِ الْإِيمَانِ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي أنهم رموها بالزنا، وكذلك قَالَ السُّدِّيُّ وَجُوَيْبِرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْآيَةِ، أَنَّهُمْ رَمَوْهَا وَابْنَهَا بِالْعَظَائِمِ، فَجَعَلُوهَا زَانِيَةً وَقَدْ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا مِنْ ذَلِكَ، زَادَ بَعْضُهُمْ: وَهِيَ حَائِضٌ فَعَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلِهِمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ أَيْ هَذَا الَّذِي يَدَّعِي لِنَفْسِهِ هَذَا(2/396)
الْمَنْصِبَ قَتَلْنَاهُ، وَهَذَا مِنْهُمْ مَنْ بَابِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] وَكَانَ مِنْ خَبَرِ الْيَهُودِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ وعقابه، أنه لما بعث الله عيسى بن مَرْيَمَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ الله تعالى مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ الَّتِي كَانَ يُبَرِّئُ بِهَا الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ طَائِرًا، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ، فَيَكُونُ طَائِرًا يُشَاهَدُ طَيَرَانُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهَا وَأَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يُسَاكِنُهُمْ فِي بَلْدَةِ، بَلْ يُكْثِرُ السِّيَاحَةَ هُوَ وَأُمُّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِكِ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا مِنْ عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَكَانَ يُقَالُ لِأَهْلِ مِلَّتِهِ اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت الْمَقْدِسِ رَجُلًا يَفْتِنُ النَّاسَ وَيُضِلُّهُمْ، وَيُفْسِدُ عَلَى الْمَلِكِ رَعَايَاهُ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ مِنْ هَذَا وَكَتَبَ إلى نائبه بالمقدس أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى هَذَا الْمَذْكُورِ، وَأَنْ يَصْلُبَهُ ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ عِيسَى عَلَيْهِ السلام، وهو في جماعة من أصحابه اثني عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَحَصَرُوهُ هُنَالِكَ. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ وَأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ مِنْ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ أَوْ خروجه إليهم، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ شَابٌّ مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ اسْتَصْغَرَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَنْتَدِبُ إِلَّا ذَلِكَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ، وَفُتِحَتْ رَوْزَنَةٌ «1» مِنْ سَقْفِ الْبَيْتِ، وَأَخَذَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سِنَةٌ مِنَ النَّوْمِ، فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آلِ عِمْرَانَ: 55] ، فَلَمَّا رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ، فَلَمَّا رَأَى أُولَئِكَ ذَلِكَ الشَّابَ، ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى، فَأَخَذُوهُ فِي اللَّيْلِ وَصَلَبُوهُ، وَوَضَعُوا الشَّوْكَ على رأسه، وأظهر الْيَهُودُ أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي صَلْبِهِ، وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ وَسَلَّمَ لَهُمْ طَوَائِفُ مِنَ النَّصَارَى، ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، مَا عَدَا مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَعَ الْمَسِيحِ، فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا رَفْعَهُ. وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَّ الْيَهُودُ، أَنَّ المصلوب هو المسيح بن مَرْيَمَ، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَرْيَمَ جَلَسَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْمَصْلُوبِ وَبَكَتْ، وَيُقَالُ إِنَّهُ خَاطَبَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنِ امْتِحَانِ اللَّهِ عِبَادَهُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ الْأَمْرَ وَجَلَّاهُ وَبَيَّنَهُ، وَأَظْهَرَهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، الْمُؤَيِّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ، الْمُطَّلِعُ عَلَى السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السموات والأرض،
__________
(1) الروزنة: كوّة في سقف البيت.(2/397)
الْعَالِمُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أَيْ رَأَوْا شَبَهَهُ فَظَنُّوهُ إِيَّاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود، ومن سلمه إليهم مِنْ جُهَّالِ النَّصَارَى، كُلُّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ وَحَيْرَةٍ وَضَلَالٍ وَسُعُرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أَيْ وَمَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بَلْ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أَيْ مَنِيعَ الْجَنَابِ، لَا يُرَامُ جَنَابُهُ وَلَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ، حَكِيماً أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَخْلُقُهَا، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ وَالسُّلْطَانُ الْعَظِيمُ وَالْأَمْرُ الْقَدِيمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، قال: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، يَعْنِي فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، قَالَ: ثُمَّ قَالَ:
أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابُّ، فَقَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أَنَا، فقال: هو أنت ذَاكَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ ثم صلبوه، فكفر بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمن به، وافترقوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ، كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النُّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أبي معاوية بنحوه، وكذا ذكره غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، صَوَّرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَقَالُوا لَهُمْ: سَحَرْتُمُونَا لَيَبْرُزَنَّ لَنَا عِيسَى، أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا، فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَنَا عِيسَى وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وَصَلَبُوهُ، فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى، وَظَنَّتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى، وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذلك، وهذا سياق غريب جدا.
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 351.(2/398)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبٍ نحو هذا القول، وهو ما حدثني الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سمع وهبا يقول:
إن عيسى بن مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا، جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ وَشَقَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا الحواريين وصنع لَهُمْ طَعَامًا، فَقَالَ: احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ، فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ عَشَّاهُمْ، وَقَامَ يَخْدُمُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ، أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ، وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ، وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ، وَتَكَارَهُوهُ فَقَالَ: أَلَا مَنْ رد عليّ الليلة شيئا مِمَّا أَصْنَعُ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَا أَنَا مِنْهُ، فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: أَمَّا مَا صَنَعْتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، وَغَسَلْتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ، فَلَا يتعاظم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلْيَبْذُلْ بَعْضُكُمْ نَفْسَهُ لِبَعْضٍ كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ، وَأَمَّا حَاجَتِي اللَّيْلَةَ التي أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخَّرَ أَجَلِي، فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا، أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً، فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً واحدة، تعينوني فيها؟ فقالوا: والله ما ندري مالنا، لَقَدْ كُنَّا نَسْمُرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ، وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا، وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بيننا وبينه، فقال:
يذهب الراعي وَتُفَرَّقُ الْغَنَمُ، وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا يَنْعِي بِهِ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقُّ لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمَنِي.
فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ، وَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ وَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَحَدَ وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ، فَتَرَكُوهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ، فَجَحَدَ كَذَلِكَ ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إلى اليهود فقال: ما تجدون لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذُوهُ فَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَرَبَطُوهُ بالحبل، وجعلوا يقدونه وَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ كُنْتُ تُحْيِي الْمَوْتَى، وَتَنْهَرُ الشَّيْطَانَ، وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ، أَفَلَا تُنْجِي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا، فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَمَكَثَ سَبْعًا، ثُمَّ إِنْ أَمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: ما تَبْكِيَانِ؟
فَقَالَتَا: عَلَيْكَ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي الله إليه، ولم يصبني إلا خيرا، وَإِنَّ هَذَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَلَقَوْهُ إِلَى ذَلِكَ المكان أحد عشر، وفقدوا الذي باعه ودل عليه اليهود، فسأله عن أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ:
لَوْ تَابَ لَتَابَ الله عليه. ثم سألهم عن غلام تبعهم يقال له يحيى، فقال: هُوَ مَعَكُمْ، فَانْطَلَقُوا، فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمِهِ فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدَعْهُمْ، سِيَاقٌ غَرِيبٌ جدا.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.(2/399)
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ اسْمُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي بُعِثَ إِلَى عِيسَى لِيَقْتُلَهُ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ مِنْهُ، لَمْ يَفْظَعْ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ فِيمَا ذُكِرَ لِي فَظَعَهُ، وَلَمْ يَجْزَعْ مِنْهُ جَزَعَهُ، وَلَمْ يَدْعُ اللَّهُ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ دُعَاءَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ فِيمَا يَزْعُمُونَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَاصْرِفْهَا عَنِّي. وَحَتَّى إِنَّ جِلْدَهُ مِنْ كَرْبِ ذَلِكَ لَيَتَفَصَّدُ دَمًا، فَدَخَلَ الْمَدْخَلَ الَّذِي أَجْمَعُوا أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ فِيهِ لِيَقْتُلُوهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ عَلَيْهِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فُطْرُسُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ زبدي ويحنس أخو يعقوب، واندراييس، وفيلبس، وأبرثلما، ومنتا، وطوماس، وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْفِيَا، وَتدَاوسِيسُ، وَقثَانيَا، وَيُودِسُ زَكَرِيَّا يُوطَا، قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ:
قَالَ ابن إسحاق: وكان فيما ذكر لي رجل اسمه سرجس، وكانوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا سِوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَحَدَتْهُ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لليهود مكان عيسى، قال: فلا أدري هو من هؤلاء الاثني عَشَرَ، فَجَحَدُوهُ حِينَ أَقَرُّوا لِلْيَهُودِ بِصَلْبِ عِيسَى وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَدْخَلَ حِينَ دَخَلُوا، وَهُمْ بِعِيسَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانُوا اثْنَيْ عشر، فإنهم دخلوا المدخل وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، أَنَّ عِيسَى حِينَ جاءه من الله إني رافعك إِلَيَّ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، أَيُّكُمْ يُحِبُّ أن يكون رفيقي في الجنة حتى يُشَبَّهَ لِلْقَوْمِ فِي صُورَتِي فَيَقْتُلُوهُ فِي مَكَانِي؟ فَقَالَ سِرْجِسُ: أَنَا يَا رُوحَ اللَّهِ. قَالَ: فَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِي، فَجَلَسَ فِيهِ، وَرُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، فَكَانَ هُوَ الَّذِي صَلَبُوهُ، وَشُبِّهَ لَهُمْ بِهِ، وَكَانَتْ عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، وقد رأوهم فأحصوا عِدَّتَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ وَجَدُوا عِيسَى وأصحابه فيما يرون، وَفَقَدُوا رَجُلًا مِنَ الْعِدَّةِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عِيسَى، حَتَّى جَعَلُوا لِيُودِسَ زَكَرِيَّا يُوطَا ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَرِّفَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنِّي سَأُقَبِّلُهُ، وَهُوَ الَّذِي أُقَبِّلُ فَخُذُوهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا، وَقَدْ رُفِعَ عِيسَى وَرَأَى سرجس في صورة عيسى، فلم يشك أنه هو، فأكب عليه يقبله، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس زكريا يوحنا نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَاخْتَنَقَ بِحَبْلٍ حَتَّى قَتَلَ نَفْسَهُ، وَهُوَ مَلْعُونٌ فِي النَّصَارَى، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبَعْضُ النَّصَارَى يزعم أنه يودس زكريا يوحنا، وهو الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ، فَصَلَبُوهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِكُمْ، أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» عن مجاهد: صلبوا رجلا شبه بِعِيسَى وَرَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ حَيًّا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ شَبَهَ عيسى ألقي على
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 353.
(2) تفسير الطبري 4/ 354.(2/400)
جَمِيعِ أَصْحَابِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يَعْنِي قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِهِ إِذَا نَزَلَ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، فَتَصِيرُ الْمِلَلُ كُلُّهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةُ، دِينُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حدثنا عبد الرحمن عن سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، قَالَ: قبل موت عيسى ابن مريم عليه السلام. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ: ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عيسى، وقبل موت عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا آمَنَ بِهِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ: يَعْنِي الْيَهُودَ خَاصَّةً. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي النجاشي وأصحابه، رواهما ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يعقوب، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ «2» عَنِ الْحَسَنِ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى والله إنه لحي عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ اللَّاحِقِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَّةُ بن بشير، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، قَوْلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ إليه عيسى وَهُوَ بَاعِثُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَقَامًا يُؤْمِنُ بِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : وَقَالَ آخَرُونَ: يعني بذلك وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ بعيسى قبل موت صاحب الكتاب، ذَكَرَ مَنْ كَانَ يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ عَلِمَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فِي دِينِهِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس، في الآية، قَالَ: لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى. حدثني ابن المثنى، حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ كُلُّ صَاحِبِ كِتَابٍ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبِ الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا يَمُوتُ الْيَهُودِيُّ حتى يشهد أن
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 356. [.....]
(2) في الطبري: «حدثنا ابن علية عن أبي رجاء» .
(3) تفسير الطبري 4/ 358.(2/401)
عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَلَوْ عُجِّلَ عَلَيْهِ بالسلاح، حدثني إسحاق بن إبراهيم وحبيب بْنِ الشَّهِيدِ، حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، لَيْسَ يَهُودِيٌّ يَمُوتُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى، قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ به في الهويّ، قيل: أرأيت إن ضربت عنق أحدهم؟ قَالَ: يُلَجْلِجُ بِهَا لِسَانُهُ، وَكَذَا رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ:
لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّ ضُرِبَ بِالسَّيْفِ تَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَإِنَّ هَوَى تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي، وَكَذَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْغَنَوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا صَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ يقول الضحاك وجويبر. وقال السدي وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَقَلَ قِرَاءَةَ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ: قَبْلَ مَوْتِهِمْ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ: لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ الْحَسَنِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا أَرَادَهُ هَؤُلَاءِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم قبل موت صاحب الكتاب «2» .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: «3» حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَمُوتُ النَّصْرَانِيُّ وَلَا الْيَهُودِيُّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم [يعني فِي] «4» قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا آمن به قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا شَكَّ أن هذا الذي قاله ابن جرير هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْآيِ فِي تَقْرِيرِ بُطْلَانِ مَا ادَّعَتْهُ الْيَهُودُ مِنْ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ، وَتَسْلِيمِ مَنْ سَلَّمَ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى الْجَهَلَةِ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لم يكن كذلك، وإنما شبّه لهم، فقتلوا الشبه وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ بَاقٍ حَيٌّ، وَإِنَّهُ سَيَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي سَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا، فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ يَعْنِي لَا يَقْبَلُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أهل الأديان، بل
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 360.
(2) في الطبري: «قبل موت الكتابي» .
(3) العبارة للطبري.
(4) زيادة من الطبري.(2/402)
لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، فَأَخْبَرَتْ هذه الآية الكريمة أنه يُؤْمِنَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَئِذٍ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ السلام الَّذِي زَعَمَ الْيَهُودُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ النَّصَارَى أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أَيْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي شَاهَدَهَا مِنْهُمْ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ. فَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ كِتَابِيٍّ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة وَالسَّلَامُ، فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أحد عند احتضاره وينجلي لَهُ مَا كَانَ جَاهِلًا بِهِ، فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيمَانًا نَافِعًا لَهُ، إِذَا كَانَ قَدْ شَاهَدَ الْمَلَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النِّسَاءِ: 18] . وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [غَافِرٍ: 84] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هذا، لكان كل من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أَوْ بِالْمَسِيحِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِمَا يَكُونُ عَلَى دِينِهِمَا، وَحِينَئِذٍ لَا يَرِثُهُ أَقْرِبَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِذْ لا يلزم من إِيمَانُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، أَلَا تَرَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
وَلَوْ تَرَدَّى مِنْ شَاهِقٍ أو ضرب بالسيف أَوِ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يؤمن بعيسى، فالإيمان في هذه الحال لَيْسَ بِنَافِعٍ وَلَا يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ كَفْرِهِ لما قدمناه، والله أعلم.
ومن تأمل جيدا وأمعن النظر، اتضح له أنه هُوَ الْوَاقِعَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا، بَلِ الْمُرَادُ بها الذي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ وُجُودِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَقَاءِ حَيَاتِهِ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيُكَذِّبَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ تَبَايَنَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ، وتصادمت وَتَعَاكَسَتْ وَتَنَاقَضَتْ وَخَلَتْ عَنِ الْحَقِّ، فَفَرَّطَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، وَأَفْرَطَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى تَنَقَّصَهُ الْيَهُودُ بِمَا رَمَوْهُ بِهِ وَأَمَّهُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَأَطْرَاهُ النَّصَارَى بحيث ادعوا فيه ما لَيْسَ فِيهِ، فَرَفَعُوهُ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ عَنْ مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى عما يقول هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ صَحِيحِهِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن أبي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «والذي
__________
(1) صحيح البخاري (أنبياء باب 49) .(2/403)
نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أحد، وحتى تكون السجدة خيرا لهم مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «1» عَنِ الْحَسَنِ الْحُلْوَانِيِّ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ يَعْقُوبَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ «2» وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ «3» بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: «يوشك أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، يَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضُ الْمَالُ، وَتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً لِلَّهِ رب العالمين» قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ مَوْتِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ثُمَّ يُعِيدُهَا أَبُو هُرَيْرَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا روح بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ليهلنّ عيسى بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، أَوْ لَيُثَنِّيَنَّهُمَا جَمِيعًا» ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ حديث ابن عُيَيْنَةَ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَمْحُو الصَّلِيبَ، وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلَاةُ، وَيُعْطِي الْمَالَ حَتَّى لَا يُقْبَلَ، وَيَضَعُ الْخَرَاجَ، وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ أَوْ يَجْمَعُهُمَا» قَالَ: وَتَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية، فَزَعَمُ حَنْظَلَةُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، فَلَا أَدْرِي هَذَا كُلُّهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَيْءٌ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْبُخَارِيُّ «6» : حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثِ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «كيف بكم إذا نزل
__________
(1) صحيح مسلم (إيمان حديث 242 و 243) .
(2) صحيح البخاري (فظالم باب 31) .
(3) صحيح البخاري (بيوع باب 102) وصحيح مسلم (إيمان حديث 242 و 243) .
(4) مسند أحمد 2/ 513.
(5) مسند أحمد 2/ 260.
(6) صحيح البخاري (أنبياء باب 49) .(2/404)
فِيكُمُ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» تَابِعَهُ عُقَيْلٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» عَنْ عبد الرزاق، عن معمر، عن عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «2» مِنْ رواية يونس والأوزاعي وابن ذِئْبٍ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ، أَنْبَأَنَا قَتَادَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَإِنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نبي بيني وبينه، وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ: رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران «4» ، وكأن رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، ثُمَّ تَقَعُ الْأَمَنَةُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْأُسُوَدُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا تَضُرُّهُمْ، فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «5» عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يحيى ورواه ابْنُ جَرِيرٍ «6» وَلَمْ يُورِدْ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ سِوَاهُ، عَنْ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ وَهُوَ مَوْلَى أُمِّ بُرْثُنَ صَاحِبُ السِّقَايَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فذكر نحوه، وقال: يقاتل النَّاسُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقول:
«أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ» ، ثُمَّ رواه مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدنيا والآخرة، الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ بشار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُسْلِمٌ «7» فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا يعلى بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تقوم
__________
(1) مسند أحمد 2/ 272. [.....]
(2) صحيح مسلم (إيمان حديث 244- 246) .
(3) مسند أحمد 2/ 406.
(4) الثوب الممصر: الذي فيه صفرة خفيفة.
(5) سنن أبي داود (ملاحم باب 14) .
(6) تفسير الطبري 4/ 361.
(7) صحيح مسلم (فتن حديث 34) .(2/405)
الساعة حتى تنزل الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فإذا تصافوا، قالت الرُّومُ: خَلَوْا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نقاتله، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ، لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وبين إخواننا، فيقاتلونهم فيهزم ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا، فيفتحون قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ باطل، فإذا جاءوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مريم، فيؤمهم، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الملح في الماء، فلو تركه لذاب حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دمه في حربته» .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ غفارة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي، إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السَّلَامُ، فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِيسَى فَقَالَ: أَمَّا وَجْبَتُهَا فَلَا يَعْلَمُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الدجال خارج وَمَعِي قَضِيبَانِ، فَإِذَا رَآنِي ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، قَالَ: فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ إِذَا رَآنِي، حَتَّى إِنَّ الْحَجَرَ وَالشَّجَرَ يَقُولُ: يَا مُسْلِمُ إِنَّ تَحْتِي كَافِرًا فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، قَالَ: فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَطَؤُونَ بِلَادَهُمْ، فَلَا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ، قَالَ: ثم يرجع الناس يَشْكُونَهُمْ، فَأَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ وَيُمِيتُهُمْ حَتَّى تجوى «2» الأرض من نتن ريحهم، وينزل الْمَطَرَ فَيَجْتَرِفُ أَجْسَادَهُمْ حَتَّى يَقْذِفَهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، أَنَّ السَّاعَةَ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ «3» ، لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تُفَاجِئُهُمْ بِوِلَادِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: أَتَيْنَا عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ لِنَعْرِضَ عَلَيْهِ مُصْحَفًا لَنَا عَلَى مُصْحَفِهِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ، أَمَرَنَا فَاغْتَسَلْنَا، ثُمَّ أَتَيْنَا بِطِيبٍ فَتَطَيَّبْنَا، ثُمَّ جِئْنَا الْمَسْجِدَ فَجَلَسْنَا إِلَى رَجُلٍ فَحَدَّثَنَا عَنِ الدَّجَّالِ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي العاص، فقمنا إليه
__________
(1) مسند أحمد 1/ 375.
(2) تجوى: تنتن.
(3) الحامل المتمّ: التي اتمّت حملها وشارفت على الوضع.
(4) مسند أحمد 4/ 216- 217.(2/406)
فَجَلَسْنَا، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةُ أَمْصَارٍ: مِصْرٌ بِمُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ، وَمِصْرٌ بِالْحِيرَةِ، وَمِصْرٌ بِالشَّامِ، فَيَفْزَعُ النَّاسُ ثَلَاثَ فَزَعَاتٍ، فَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، فَيُهْزَمُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، فَأَوَّلُ مِصْرٍ يَرِدُهُ الْمِصْرُ الَّذِي بِمُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ، فَيَصِيرُ أهلها ثلاث فرق: فرقة تقول نقيم «1» نُشَامُّهُ نَنْظُرُ مَا هُوَ، وَفِرْقَةٌ تَلْحَقُ بِالْأَعْرَابِ، وَفِرْقَةٌ تَلْحَقُ بِالْمِصْرِ الَّذِي يَلِيهِمْ، وَمَعَ الدَّجَّالِ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ السِّيجَانُ «2» ، وَأَكْثَرُ مِنْ مَعَهُ اليهود والنساء، وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَقَبَةِ أَفِيقٍ «3» ، فَيَبْعَثُونَ سَرْحًا لهم، فيصاب سرحهم فيشتد ذلك عليهم، ويصيبهم مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ وَجَهْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَحْرِقُ وَتَرَ قَوْسِهِ فَيَأْكُلُهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّحَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَاكُمُ الْغَوْثُ «ثَلَاثًا» فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا لَصَوْتُ رَجُلٍ شَبْعَانَ، وَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فيقول له أميرهم: يا رُوحَ اللَّهِ، تَقَدَّمْ صَلِّ، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَرَاءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَتَقَدَّمُ أَمِيرُهُمْ فَيُصَلِّي، حتى إذا قَضَى صَلَاتَهُ أَخَذَ عِيسَى حَرْبَتَهُ، فَيَذْهَبُ نَحْوَ الدَّجَّالِ، فَإِذَا رَآهُ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرصاص، فيضع حربته بين ثندوته «4» فيقتله، ويهزم أصحابه، فليس يومئذ شيء يواري منهم أحدا، حتى إن الشجرة تقول: يَا مُؤْمِنُ هَذَا كَافِرٌ، وَيَقُولُ الْحَجَرُ:
يَا مُؤْمِنُ هَذَا كَافِرٌ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ «5» فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الشَّيْبَانِيِّ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ وَحَذَّرَنَاهُ، فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ قَالَ: «لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ آخَرُ الْأُمَمِ، وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، فَإِنْ يخرج وأنا بين ظهرانيكم، فأنا حجيج كل مُسْلِمٍ، وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكَلٌّ حَجِيجُ نفسه، وإن الله خليفتي في كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشام والعراق فيعيث يمينا ويعيث شمالا، ألا يَا عِبَادَ اللَّهِ: أَيُّهَا النَّاسُ فَاثْبُتُوا، وَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي: إِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ فَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، ثُمَّ يُثَنِّي فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، وَلَا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ معه جنة
__________
(1) في المسند: «فرقة تقول: نشامه» وشام الشيء: اختبره.
(2) السيجان: جمع ساج، وهو الطيلسان الأخضر.
(3) أفيق: موضع في حوران.
(4) الثندوة من الرجل كالثدي من المرأة. [.....]
(5) سنن ابن ماجة (فتن باب 33) .(2/407)
وَنَارًا، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ، وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ فَتَكُونُ عليه بردا وسلاما، كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم، وإن من فتنته أن يقول للأعرابي:
أرأيت إن بعثت أمك وأباك، أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَقُولَانِ: يَا بُنَيَّ اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أن يسلط على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين، ثم يقول: انظر إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الْآنَ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ الدَّجَّالُ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشُدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ» قال أبو حسن الطَّنَافِسِيُّ: فَحَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الجنة» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، حَتَّى مضى لسبيله.
ثم قال المحاربي: رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فتمطر، فيأمر الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ، فَلَا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلَّا هَلَكَتْ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ، وَأَعْظَمَهُ وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وَأَدَرَّهُ ضُرُوعًا، وَإِنَّهُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَطِئَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِيهِمَا مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا إِلَّا لَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الظَّرِيبِ «1» الْأَحْمَرِ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ، فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ إلا خرج إليه، فينفى الْخَبَثَ مِنْهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَلَاصِ. فَقَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ أَبِي الْعَكَرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «هُمْ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ يومئذ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إِذْ نَزَلَ عيسى ابن مريم عليه السلام، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام، فيضع عيسى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: تَقَدَّمَ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ، فَإِذَا انصرف قال عيسى: افْتَحُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُ، وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ مُحَلًّى وَسَاجٍ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الملح في الماء وينطلق هاربا، فيقول عيسى: إن لي فيك ضربة لم تسبقني بها، فيدركه عند باب اللد الشَّرْقِيِّ فَيَقْتُلُهُ، وَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَارَى بِهِ يهودي إِلَّا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا حَجَرَ وَلَا شَجَرَ وَلَا حَائِطَ وَلَا دَابَّةَ- إِلَّا الْغَرْقَدَةَ «2» ، فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ- إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ، هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإن أيامه أربعون سنة
__________
(1) الظريب: تصغير ظرب، وهو الجبل الصغير.
(2) الغرقدة: شجرة الشوك.(2/408)
السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَةِ، وَالسَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ، يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى يُمْسِيَ» فقيل له: كيف نصلي يا نبي الله في تلك الأيام القصار؟ قال: «تقدرون الصَّلَاةَ كَمَا تُقَدِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَالِ، ثُمَّ صَلُّوا» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَكُونُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي أُمَّتِي حَكَمًا عَدْلًا، وَإِمَامًا مُقْسِطًا، يَدُقُّ الصَّلِيبَ ويذبح الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَتْرُكُ الصَّدَقَةَ، فَلَا يُسْعَى عَلَى شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ، وَتَرْتَفِعُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَتُنْزَعُ حُمَةُ «1» كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ حَتَّى يُدْخِلَ الْوَلِيدُ يَدَهُ فِي الْحَيَّةِ فَلَا تَضُرَّهُ، وَتُفِرُّ «2» الوليدة الأسد فلا يضلها، وَيَكُونُ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَتُمْلَأُ الْأَرْضُ مِنَ السِّلْمِ كَمَا يُمْلَأُ الْإِنَاءُ مِنَ الْمَاءِ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللَّهُ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَتُسْلَبُ قُرَيْشٌ مُلْكَهَا، وتكون الأرض لها نور الفضة وتنبت نَبَاتَهَا كَعَهْدِ آدَمَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الْقِطْفِ مِنَ الْعِنَبِ فَيُشْبِعَهُمْ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعَهُمْ، وَيَكُونُ الثَّوْرُ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ، وَيَكُونُ الْفَرَسُ بِالدُّرَيْهِمَاتِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُرْخِصُ الْفَرَسَ؟ قَالَ: «لَا تُرْكَبُ لِحَرْبٍ أَبَدًا» قِيلَ لَهُ: فَمَا يُغْلِي الثَّوْرَ؟ قال: يحرث الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَإِنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ شِدَادٍ، يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا جُوعٌ شَدِيدٌ، ويأمر اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، ثم يأمر الله السماء في السنة الثَّانِيَةِ، فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثلثي نباتها، ثم يأمر الله عز وجل السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَهَا كُلَّهُ، فَلَا تَقْطُرُ قَطْرَةً، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ أَنْ تَحْبِسَ نَبَاتَهَا كُلَّهُ فَلَا تُنْبِتُ خَضْرَاءَ، فَلَا تَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ إِلَّا هَلَكَتْ إِلَّا مَا شَاءَ الله» قيل: فَمَا يُعِيشُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ قَالَ: «التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ، وَيَجْرِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَجْرَى الطَّعَامِ» . قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيَّ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنَّ يُدْفَعَ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَى الْمُؤَدِّبِ حَتَّى يُعَلِّمَهُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِبَعْضِهِ شواهد من أحاديث أخر، من ذلك ما رواه مسلم، وحديث نافع وسالم عن عبد الله بن عمر وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله» وله من طريق سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله- إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود» .
وَلْنَذْكُرْ حَدِيثَ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ هَاهُنَا لِشَبَهِهِ بهذا الحديث. قال مسلم بن الحجاج في
__________
(1) الحمة: إبرة العقرب.
(2) تفرّه: تحمله على الفرار.(2/409)
صَحِيحِهِ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ قَاضِي حِمْصَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ (ح) «2» وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِّيُّ «3» ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ:
ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ، وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النخل، قال: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أخْوَفُنِي «4» عَلَيْكُمْ. إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ «5» ، عَيْنُهُ طَافِيَةٌ كَأَنِّي أَشْبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، مِنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إنه خارج من خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا» قُلْنَا: يَا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِي عَلَى قَوْمٍ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ «6» أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًى، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كيعاسيب النحل، ثم يدعوا رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ «7» ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ وَيَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ «8» ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قطر، وإذا رفعه تحدر منه جُمَانِ اللُّؤْلُؤِ، وَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب اللد،
__________
(1) صحيح مسلم (فتن وأشراط الساعة حديث 110) .
(2) انتقال إلى إسناد آخر.
(3) أضاف مسلم هنا: «واللفظ له» .
(4) أضاف أفعل التفضيل: «أخوف» إلى ياء المتكلم مقرونة بنون الوقاية. وهذا الاستعمال صحيح ولكنه متروك.
(5) قطط: شديد جعودة الشعر.
(6) سارحتهم: ماشيتهم التي تسرح.
(7) جزلتين: قطعتين. ورمية الغرض: أن يجعل بين القطعتين مقدار رمية.
(8) أي لابسا مهرودتين. وهما ثوبان مصبوغان بورس ثم بزعفران.(2/410)
فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمًا قد عصمهم الله منه، فيمسح على وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ «1» عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حدب ينسلون، فيمر أولهم على بحيرة طبريا فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كان بهذه مرة ماء، ويحضر نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثور لأحدهم خير مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ «2» فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلا ملأ زَهَمُهُمْ «3» وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ، طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ «4» ، فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ «5» ، وَلَا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ «6» ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ:
أَخْرِجِي ثَمَرَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيُبَارِكُ اللَّهُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ «7» مِنَ الْإِبِلِ لتكفي الفئام «8» ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فيقبض الله رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «9» وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ بِهِ. وَسَنَذْكُرُهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء: 96] الآية.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُسْلِمٌ «10» فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ، تَقُولُ إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أو كلمة نحوهما، لقد هممت أن لا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا، إِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ سترون بعد قليل أمرا عظيما: يحرق
__________
(1) أي ضمهم إلى الطور واجعله لهم حرزا. [.....]
(2) النغف: الدود يكون في أنوف الإبل والغنم.
(3) الزهم: الدسم.
(4) البخت: الإبل الخراسانية.
(5) المدر: الطين الصلب.
(6) أي كالمرآة.
(7) اللقحة: القريبة العهد من الولادة.
(8) الفئام: الجماعة من الناس.
(9) مسند أحمد 4/ 182- 183.
(10) صحيح مسلم (فتن وأشراط الساعة حديث 116) .(2/411)
الْبَيْتُ وَيَكُونُ وَيَكُونُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ في أمتي فيمكث أربعين، لا أدري يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فيبعث الله تعالى عيسى بن مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ- أَوْ إِيمَانٍ- إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ» قَالَ:
سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم «فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا «1» ، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ «2» حَوْضَ إِبِلِهِ، قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ- أَوْ قَالَ- يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ- أَوْ قَالَ الظِّلُّ- نُعْمَانُ الشَّاكُّ- فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. ثم يقال:
أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ:
مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شَيْبًا، وذلك يوم يكشف عن ساق» ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شعبة، عن نعمان بْنِ سَالِمٍ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أحمد «3» : أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الأنصاري، عن عبد الله بن زيد الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: يقول «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ- أَوْ إِلَى جَانِبِ لُدٍّ-» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقتل ابن مريم الدجال باب لُدٍّ» وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ الليث به، وقال: هذا حديث صحيح، وقال: وَفِي الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَنَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبِي بَرْزَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَكَيْسَانَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَجَابِرٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالنَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمُرَادُهُ بِرِوَايَةِ هَؤُلَاءِ مَا فِيهِ ذِكْرُ الدَّجَّالِ وَقَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ، فَأَمَّا أَحَادِيثُ ذِكْرِ الدَّجَّالِ فَقَطْ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تحصى لانتشارها وكثرة روايتها في الصحاح والحسان والمسانيد وغير ذلك.
__________
(1) الليث: جانب العنق أو صفحته.
(2) أي يطينه ويصلحه.
(3) مسند أحمد 3/ 420.(2/412)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ فُرَاتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عرفة وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ- أَوْ تَحْشُرُ- النَّاسَ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا» وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عن أبي سريحة، عن حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ مَوْقُوفًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبِي أُمَامَةَ وَالنَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ وَأَبِي سَرِيحَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى صِفَةِ نُزُولِهِ وَمَكَانِهِ مِنْ أَنَّهُ بِالشَّامِ بَلْ بِدِمَشْقَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح، وَقَدْ بُنِيَتْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ مَنَارَةٌ لِلْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بَيْضَاءُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْحُوتَةٍ عِوَضًا عَنِ الْمَنَارَةِ الَّتِي هُدِمَتْ بِسَبَبِ الْحَرِيقِ الْمَنْسُوبِ إِلَى صَنِيعِ النَّصَارَى- عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- وَكَانَ أَكْثَرُ عِمَارَتِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَوِيَتِ الظُّنُونُ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَنْزِلُ عَلَيْهَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَتَقْرِيرٌ وَتَشْرِيعٌ وَتَسْوِيغٌ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، حَيْثُ تَنْزَاحُ عِلَلُهُمْ وَتَرْتَفِعُ شُبَهُهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِهَذَا كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مُتَابَعَةً لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى يَدَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية، وهذه الآية كقوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف: 61] وقرئ (لعلم) بالتحريك أي أمارة وَدَلِيلٌ عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَيَقْتُلُهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، وَيَبْعَثُ اللَّهُ فِي أَيَّامِهِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَيُهْلِكُهُمُ الله تعالى بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الْأَنْبِيَاءِ: 96] الآية.
صِفَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي هريرة «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ: رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ، كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وإن لم يصبه بلل» ، وفي حديث
__________
(1) مسند أحمد 4/ 7.(2/413)
النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ «فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ، لا يحل لكافر أن يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حيث انتهى طَرْفُهُ» ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فنعته فإذا رجل أحسبه، قَالَ: «مُضْطَرِبٌ رَجْلُ «1» الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ» قَالَ «وَلَقِيتُ عِيسَى» فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم فقال: «ربعة أحمر كأنه خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ» يَعْنِي الْحَمَّامَ، «وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ» الْحَدِيثَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ، فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ» ، وَلَهُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طافية» ، ولمسلم عنه مرفوعا «وأراني الله عند الكعبة في المنام، وإذا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى مَنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، تَضْرِبُ لَمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجْلُ الشَّعْرِ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قالوا: هو الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ رَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلًا جعدا قططا، أعور العين الْيُمْنَى، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ» تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعيسى أَحْمَرُ، وَلَكِنْ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعْرِ، يَتَهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً- أَوْ يُهْرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً- فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الدَّجَّالُ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، هَذِهِ كُلُّهَا أَلْفَاظُ الْبُخَارِيِّ «2» رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَفِي حَدِيثِ عبد الله بن عمر عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ فَيُحْتَمَلُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَجْمُوعَ إِقَامَتِهِ فِيهَا قَبْلَ رَفْعِهِ، وَبَعْدَ نُزُولِهِ، فَإِنَّهُ رُفِعَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَمِيلَادِ عِيسَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رُفِعَ وَلَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً فشاذ غريب بعيد.
__________
(1) رجل الرأس: شعره بين الجعودة والسبوطة. [.....]
(2) صحيح البخاري (أنبياء باب 48) .(2/414)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ تَارِيخِهِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قَالَ قَتَادَةُ: يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمُ الرسالة من الله وأقر بعبودية الله عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ- إلى قوله- الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 116] .
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْيَهُودِ بِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ، حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَ أَحَلَّهَا لَهُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، قال: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ قَدْ يَكُونُ قَدَرِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَهُمْ لِأَنْ تَأَوَّلُوا فِي كِتَابِهِمْ، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا أَشْيَاءَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَشْدِيدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَتَضْيِيقًا وَتَنَطُّعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَشْيَاءَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [آلِ عِمْرَانَ: 93] وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ على الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ مَا عَدَا مَا كَانَ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِي التَّوْرَاةِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الْأَنْعَامِ: 146] أَيْ إِنَّمَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أَيْ صَدُّوا النَّاسَ وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَهَذِهِ سَجِيَّةٌ لَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَا مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، وَلِهَذَا كَانُوا أَعْدَاءَ الرُّسُلِ وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَّبُوا عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا.
وَقَوْلُهُ: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنِ الرِّبَا فَتَنَاوَلُوهُ وَأَخَذُوهُ وَاحْتَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ وَصُنُوفٍ مِنَ الشُّبَهِ، وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَيِ(2/415)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
الثَّابِتُونَ فِي الدِّينِ لَهُمْ قَدَمٌ رَاسِخَةٌ فِي الْعِلْمِ النَّافِعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَطْفٌ عَلَى الرَّاسِخِينَ وَخَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ وَزَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ، الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَصَدَّقُوا بِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ هَكَذَا هُوَ فِي جميع مصاحف الْأَئِمَّةِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، قَالَ:
وَالصَّحِيحُ قِرَاءَةُ الْجَمِيعِ ثُمَّ رَدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَلَطِ الْكُتَّابِ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَةِ: 177] قَالُوا: وَهَذَا سَائِغٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كما قال الشاعر: [الكامل]
لَا يَبْعُدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُو ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأَزْرِ «2»
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَخْفُوضٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يَعْنِي وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَيْ يَعْتَرِفُونَ بِوُجُوبِهَا وَكِتَابَتِهَا عَلَيْهِمْ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ الْمَلَائِكَةُ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، يَعْنِي يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْمَلَائِكَةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ، وَيَحْتَمِلُ زَكَاةَ النُّفُوسِ، وَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُوَ الْخَبَرُ عَمَّا تَقَدَّمَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً يَعْنِي الجنة.
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 364.
(2) البيتان للخرنق بنت بدر بن هفاف في ديوانها ص 43، وأمالي المرتضى 1/ 25 والإنصاف 2/ 468 وأوضح المسالك 3/ 314 وخزانة الأدب 5/ 41 وشرح أبيات سيبويه 2/ 16 ولسان العرب (نضر) والكتاب 1/ 202 وأساس البلاغة (أزر) .(2/416)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «1» ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ سُكَيْنُ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قال: أنزل الله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النبأ: 153] إِلَى قَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [النساء: 156] قال:
فلما تَلَاهَا عَلَيْهِمْ يَعْنِي عَلَى الْيَهُودِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، جَحَدُوا كُلَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، ولا على موسى ولا على عِيسَى وَلَا عَلَى نَبِيٍّ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: فَحَلَّ حَبْوَتَهُ، وَقَالَ: وَلَا عَلَى أَحَدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 91] وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ نَظَرٌ، فَإِنَّ هذه الآية التي في سورة الأنعام مكية، وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاءِ: 153] ثُمَّ ذَكَرَ فَضَائِحَهُمْ وَمَعَايِبَهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَوْحَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَالَ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إلى قوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَالزَّبُورُ اسْمُ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَنَذْكُرُ تَرْجَمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، عِنْدَ قَصَصِهِمْ من سورة الأنبياء إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَوْلُهُ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَغَيْرِهَا وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَهُمْ: آدَمُ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَيُوسُفُ وَأَيُّوبُ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى وَهَارُونُ وَيُونُسُ وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى، وَكَذَا ذُو الْكِفْلِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَسَيِّدُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أَيْ خَلْقًا آخَرِينَ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانَيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قال: يا رسول الله، كم
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 562 وتفسير الطبري 4/ 366.
(2) تفسير الطبري 4/ 367.(2/417)
الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ:
«ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ» . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ: «آدَمُ» قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قال: «نعم خلقه الله بيده، ثم نفخ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ قَبْلًا» ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَنُوحٌ وَخَنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ من خط بالقلم، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يا أبا ذر، وأول نبي من بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ عِيسَى، وَأَوَّلُ النَّبِيِّينَ آدم، وآخرهم نبيك» وقد رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَنْوَاعُ وَالتَّقَاسِيمُ، وَقَدْ وَسَمَهُ بِالصِّحَّةِ، وَخَالَفَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ الْمَوْضُوعَاتِ وَاتَّهَمَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامٍ هَذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الحديث وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا والرسل مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ السَّلَامِيُّ ضَعِيفٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ضَعِيفٌ، وَالْقَاسِمُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ نَبِيٍّ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ» وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فِيهِ الرَّبَذِيُّ ضَعِيفٌ وَشَيْخُهُ الرَّقَاشِيُّ أَضْعَفُ مِنْهُ والله أعلم.
قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ فِيمَنْ خَلَا مِنْ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ نَبِيٍّ، ثُمَّ كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ كُنْتُ أَنَا» وَقَدْ رُوِّينَاهُ عَنْ أنس من وجه آخر، فأخبرنا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَسَاكِرَ، أَنْبَأَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بن الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الصَّفَارُ، أَخْبَرَتْنَا عَمَّةُ أَبِي عَائِشَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الصَّفَارِ، أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو السَّنَابِكِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ حَيْدَرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا الْإِمَامُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَارِقٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ عَلَى أثر ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلَافِ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، رجاله كلهم معرفون إِلَّا أَحْمَدَ بْنَ طَارِقٍ هَذَا، فَإِنِّي لَا أَعْرِفُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/418)
حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ الطَّوِيلُ فِي عَدَدِ الأنبياء عليهم السلام: قال محمد بن حسين الْآجُرِّيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفِرْيَابِيِّ إِمْلَاءً فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانَيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلَاةِ. قَالَ: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَاسْتَكْثِرْ أَوِ اسْتَقِلَّ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ» .
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ قَالَ: «مِنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قال: «طول القنوت» فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «فَرْضٌ مُجَزِّئٌ وَعِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ» . قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جَهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ وَسِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ آيَةٍ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ «آيَةُ الْكُرْسِيِّ» ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذر، وما السموات السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ» قَالَ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» . قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ كَثِيرٌ طَيِّبٌ» . قُلْتُ: فَمَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟
قَالَ: «آدَمُ» قُلْتُ: أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، خَلَقَهُ اللَّهُ» بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، سواه قَبِيلًا» ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَخَنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِقَلَمٍ، وَنُوحٌ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَشُعَيْبٌ وَصَالِحٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ، وَأَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ عِيسَى، وَأَوَّلُ الرُّسُلِ آدَمُ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ» قَالَ: قلت: يا رسول الله، كم كتاب أَنْزَلَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: «مِائَةُ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ، أنزل اللَّهُ عَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى خَنُوخَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ على موسى من قبل التوراة عشرة صحائف، وأنزل التوراة وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفَرْقَانَ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ «كَانَتْ كُلُّهَا: يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنِّي بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لَا أَرُدَّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ، وكان فيها أمثال، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أن لا يَكُونَ ضَاغِنًا «1» إِلَّا لِثَلَاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ
__________
(1) ضاغنا: مائلا.(2/419)
مَرَمَّةٍ «1» لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمَنْ حَسِبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ» . قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قَالَ «كَانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَرَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ هُوَ لَا يَعْمَلُ» . قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، فهل في أيدينا شيء مما كان فِي أَيْدِي إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ «نَعَمْ اقْرَأْ يَا أَبَا ذَرٍّ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى، [الْأَعْلَى: 14- 19] . قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ قال: قلت يا رسول الله زدني قال «عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَنُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ» قال: قلت: يا رسول الله زدني.
قال «إياك وكثرة الضحاك، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه» ، قال: قلت: يا رسول الله زدني، قال: «عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي» . قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ «عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ» . قُلْتُ: زِدْنِي قَالَ: «انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ تَحْتَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، فإنه أجدر لك أَنْ لَا تَزْدَرِي نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ» . قُلْتُ:
زِدْنِي. قَالَ: «أَحْبِبِ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِي نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ» . قُلْتُ:
زِدْنِي قَالَ: «صِلْ قَرَابَتَكَ وَإِنْ قُطَعُوكَ» . قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: «قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا» قُلْتُ:
زِدْنِي. قَالَ «لَا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» . قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ «يَرُدُّكَ عَنِ الناس ما تعرف من نَفْسِكَ، وَلَا تَجِدُ عَلَيْهِمْ فِيمَا تُحِبُّ، وَكَفَى بِكَ عَيْبًا أَنَّ تَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا تَجْهَلُ مِنْ نَفْسِكَ، أَوْ تَجِدَ عَلَيْهِمْ فِيمَا تُحِبُّ» ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ صَدْرِي فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُعَانِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ أَمْرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ، وَفَضْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ، وَأَفْضَلَ الرِّقَابِ، وَنُبُوَّةَ آدَمَ وَأَنَّهُ مُكَلَّمٌ، وَعَدَدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرْسَلِينَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الله ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ «3» : وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمُتَعَالِي بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُجَالِدُ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: هَلْ تَقُولُ الْخَوَارِجُ بِالدَّجَّالِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني خاتم
__________
(1) أي إصلاح لمعاش.
(2) مسند أحمد 5/ 265.
(3) مسند أحمد 3/ 79.(2/420)
أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ، وَمَا بُعِثَ نَبِيٌّ يُتَّبَعُ إِلَّا وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَإِنِّي قد بين لي فيه مَا لَمْ يُبَيَّنْ لِأَحَدٍ، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَعَيْنُهُ الْيُمْنَى عَوْرَاءُ جَاحِظَةٌ لَا تَخْفَى كَأَنَّهَا نُخَامَةٌ فِي حَائِطٍ مُجَصَّصٍ، وَعَيْنُهِ الْيُسْرَى كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، مَعَهُ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ، وَمَعَهُ صُورَةُ الْجَنَّةِ خَضْرَاءُ يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ، وَصُورَةُ النَّارِ سَوْدَاءُ تَدْخُنُ» ، وَقَدْ رُوِّيَنَاهُ فِي الْجُزْءِ الَّذِي فِيهِ رِوَايَةُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَخْتِمُ أَلْفَ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ، مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى قَوْمِهِ إِلَّا حَذَّرَهُمُ الدَّجَّالَ» ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، هَذَا لَفْظُهُ بِزِيَادَةِ أَلْفٍ وَقَدْ تَكُونُ مُقْحَمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسِيَاقُ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَثْبَتُ وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَرِجَالُ إسناد هذا الحديث لا بأس بهم، وقد روي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَخَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَإِنِّي قَدْ بُيِّنَ لِي مَا لَمْ يُبَيَّنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّهُ أعور، وإن ربكم ليس بأعور» قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ: الْكِلِيمُ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَالِكِيُّ، حَدَّثَنَا مَسِيحُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ «وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا» «1» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِرٌ، قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرحمن السلمي عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وَإِنَّمَا اشْتَدَّ غَضَبُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَرَّفَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ يُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا رُوِّينَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ «وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تكليما» فقال له: يا ابن اللخناء، كيف تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الْأَعْرَافِ: 143] ؟ يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّحْرِيفَ، وَلَا التَّأْوِيلَ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ بَهْرَامَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ يَحْيَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ يُبْصِرُ دَبِيبَ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ لَا يَصِحُّ، وَإِذَا صَحَّ مَوْقُوفًا كَانَ جَيِّدًا، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مستدركه
__________
(1) أي على نصب كلمة «الله» والفاعل هو موسى.(2/421)
وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ عَلَى مُوسَى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ جُبَّةُ صُوفٍ، وَكِسَاءُ صُوفٍ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ» «1» .
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَصَايَا كُلُّهَا، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَقَتَهُمْ مِمَّا وَقَعَ فِي مَسَامِعِهِ مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وهذا أيضا إسناد ضعيف، فإن جويبر أضعف، وَالضَّحَّاكُ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما. فَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد الله أنه قَالَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى يَوْمَ الطُّورِ، كَلَّمَهُ بِغَيْرِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهُ يَوْمَ نَادَاهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا رَبُّ هَذَا كَلَامُكَ الَّذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ، قَالَ: لَا يَا مُوسَى، إنما كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ، وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا، وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالُوا: يَا مُوسَى، صِفْ لَنَا كَلَامَ الرَّحْمَنِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُهُ. قَالُوا: فَشَّبِهْ لَنَا. قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى صوت الصواعق فإنه قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَيْسَ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فإن الفضل الرقاشي هذا ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَزْءِ بْنِ جَابِرٍ الخيثمي، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: إِنِ اللَّهَ لَمَّا كَلَّمَ موسى بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا، سِوَى كَلَامِهِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا رَبُّ، هَذَا كَلَامُكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْ كَلَّمْتُكَ بِكَلَامِي لَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ. قَالَ:
يَا رَبُّ، فَهَلْ مَنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ؟ قَالَ: لَا، وَأَشَدُّ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي أَشَدُّ مَا تَسْمَعُونَ مِنَ الصَّوَاعِقِ، فَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ يَحْكِي عَنِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِيهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ.
وَقَوْلُهُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالْخَيِّرَاتِ، وَيُنْذِرُونَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ بِالْعِقَابِ وَالْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَبَيَّنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، لِئَلَّا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طَهَ: 134] ، وكذا قوله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [الْقَصَصِ: 47] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا أحد أغير من الله، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المدح
__________
(1) أي غير مذبوح ذبحا.(2/422)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
من الله عز وجل، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» «1» ، وَفِي لَفْظٍ آخر «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ» .
[سورة النساء (4) : الآيات 166 الى 170]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
لَمَّا تَضْمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [النساء: 163] إِلَى آخَرِ السِّيَاقِ، إِثْبَاتَ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَيْ وَإِنْ كَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِمَّنْ كذبك وخالفك، فالله يشهد لك بأنك رسول الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ، ولهذا قال: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي في عِلْمُهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُطْلِعَ الْعِبَادَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْغُيُوبِ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ تَعَالَى الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ إِلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طَهَ: 110] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حدثنا الحسن بن سهيل الجعفري عبد الله بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلُمِيُّ الْقُرْآنَ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ أَحَدُنَا الْقُرْآنَ قَالَ: قَدْ أَخَذْتَ عِلْمَ اللَّهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ أَفْضَلَ مِنْكَ إِلَّا بعمل، ثم يقرأ قوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، قوله: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أَيْ بِصِدْقِ مَا جَاءَكَ وَأُوحِيَ إِلَيْكَ وَأُنْزِلَ عَلَيْكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الآية «2» .
وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً أَيْ كَفَّرُوا في
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة الأنعام باب 7) وصحيح مسلم (توبة حديث 32- 36) .
(2) تفسير الطبري 4/ 370.(2/423)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ، وَسَعَوْا فِي صَدِّ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، قَدْ خَرَجُوا عَنِ الْحَقِّ وَضَلُّوا عَنْهُ، وَبَعُدُوا مِنْهُ بُعْدًا عَظِيمًا شَاسِعًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حُكْمِهِ فِي الْكَافِرِينَ بِآيَاتِهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ وَبِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ وَارْتِكَابِ مَآثِمِهِ وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً أَيْ سَبِيلًا إِلَى الْخَيْرِ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً الآية، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَالْبَيَانِ الشَّافِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَآمِنُوا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ وَاتَّبِعُوهُ، يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ إِيمَانِكُمْ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِكُفْرَانِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إِبْرَاهِيمَ: 8] وَقَالَ هاهنا: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْكُمُ الْهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ فَيُغْوِيهِ، حَكِيماً أَيْ فِي أَقْوَالِهِ وأفعاله وشرعه وقدره.
[سورة النساء (4) : آية 171]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ، وَهَذَا كَثِيرٌ في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حَتَّى رَفَعُوهُ فَوْقَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَنَقَلُوهُ مِنْ حَيِّزِ النُّبُوَّةِ، إِلَى أَنِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْبُدُونَهُ كَمَا يَعْبُدُونَهُ. بَلْ قَدْ غَلَوْا فِي أَتْبَاعِهِ وَأَشْيَاعِهِ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ، فَادَّعَوْا فِيهِمُ الْعِصْمَةَ، وَاتَّبَعُوهُمْ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ سَوَاءٌ كَانَ حَقًا أَوْ بَاطِلًا، أَوْ ضَلَالًا أَوْ رَشَادًا، أَوْ صَحِيحًا أَوْ كَذِبًا، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 31] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: زَعَمَ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. فَإِنَّمَا أَنَا عبد فقولوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . ثُمَّ رَوَاهُ هُوَ وَعَلِيُّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزهري كذلك، ولفظه «إنما أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ سَنَدُهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «2» عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، وَلَفْظُهُ «فَإِنَّمَا أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» .
__________
(1) مسند أحمد 1/ 23. [.....]
(2) صحيح البخاري (أنبياء باب 48) .(2/424)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يا مُحَمَّدٌ يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيها الناس عليكم بقولكم «2» ولا يستهويكم الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» تفرد به من هذا الوجه.
وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أَيْ لَا تَفْتَرُوا عَلَيْهِ وَتَجْعَلُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تعالى الله عز وجل عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ وَتَوَحَّدَ فِي سُؤْدُدِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ أَيْ إِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، أَيْ خَلَقَهُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَرْيَمَ فَنَفْخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ بِإِذْنِ ربه عز وجل، فكان عيسى بإذنه عز وجل، وكانت تِلْكَ النَّفْخَةُ الَّتِي نَفَخَهَا فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتْ حَتَّى وَلَجَتْ فَرْجَهَا بِمَنْزِلَةِ لَقَاحِ الْأَبِ والأم، والجميع مخلوق الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قِيلَ لِعِيسَى: إِنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ بِهَا كُنْ فَكَانَ، وَالرُّوحِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا جِبْرِيلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [الْمَائِدَةِ: 75] . وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 59] . وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 91] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [التحريم: 12] إلى آخر السورة، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ الْمَسِيحِ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزُّخْرُفِ: 59] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ هو قوله: كن فيكون. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سنان الواسطي قال: سمعت شاذان بْنَ يَحْيَى يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ قَالَ: لَيْسَ الْكَلِمَةُ صَارَتْ عِيسَى وَلَكِنْ بِالْكَلِمَةِ صَارَ عِيسَى، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ادَّعَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» فِي قَوْلِهِ: أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أَيْ أَعْلَمَهَا بِهَا، كَمَا زَعَمَهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آلِ عِمْرَانَ: 43- 45] أَيْ يُعْلِمُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وَيَجْعَلُ ذلك كقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الْقَصَصِ: 86] بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهَا الْكَلِمَةُ الَّتِي جاء بها جبريل
__________
(1) مسند أحمد 3/ 153.
(2) في المسند: «بتقواكم» .
(3) تفسير الطبري 4/ 374.(2/425)
إِلَى مَرْيَمَ، فَنَفْخَ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ فَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عمير بن هانئ، حدثنا جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى ما كان من العمل» . وقال الْوَلِيدُ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ زاد «من أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» .
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ بِهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ، فَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ «وَرُوحٌ مِنْهُ» كَقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الْجَاثِيَةِ: 13] أَيْ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ وَلَيْسَتْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ- بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ في قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ أي ورسوله مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَمَحَبَّةٌ مِنْهُ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ وهو أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ رُوحٍ مَخْلُوقَةٍ وَأُضِيفَتِ الرُّوحُ إِلَى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيفِ، كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالْبَيْتُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: 73] وفي قوله: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج: 26] وكما روي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَأَدْخُلُ عَلَى رَبِّي فِي داره» أضافها إليه إضافة تشريف، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قَبِيلٍ وَاحِدٍ وَنَمَطٍ وَاحِدٍ.
وقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الأعراف: 158] أَيْ فَصَدِّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ، لَا ولد له ولا صاحبة، وَاعْلَمُوا وَتَيَقَّنُوا بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، ولهذا قال تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أَيْ لَا تَجْعَلُوا عِيسَى وَأُمَّهُ مَعَ اللَّهِ شَرِيكَيْنِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذلك علوا كبيرا، وهذه الآية كالتي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [الْمَائِدَةِ: 73] وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [الْمَائِدَةِ: 116] ، وَقَالَ فِي أَوَّلِهَا لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] ، - فالنصارى عليهم لعائن اللَّهِ- مِنْ جَهْلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ ضَابِطٌ، وَلَا لِكُفْرِهِمْ حَدٌّ، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَضَلَالُهُمْ مُنْتَشِرٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ إِلَهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ شَرِيكًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ وَلَدًا، وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ لَهُمْ آرَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَقْوَالٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ قَالَ: لَوِ اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنَ النَّصَارَى لَافْتَرَقُوا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قولا.
__________
(1) صحيح البخاري (أنبياء باب 1) .(2/426)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ بَطْرِيقَ بَتْرَكُ «1» الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، أَنَّهُمُ اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمامة الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ الصَّغِيرَةُ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ، فَكَانُوا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفَيْنِ أَسْقُفًا، فَكَانُوا أَحْزَابًا كَثِيرَةً، كُلُّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ، وَعِشْرُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَمِائَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ، وَسَبْعُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَأَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْقَصُ. فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر، وَقَدْ تَوَافَقُوا عَلَى مَقَالَةٍ، فَأَخَذَهَا الْمَلِكُ وَنَصَرَهَا وأيدها، وكان فيلسوفا داهية، وَمَحَقَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَانْتَظَمَ دَسْتُ أولئك الثلثمائة وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، وَبُنِيَتْ لَهُمُ الْكَنَائِسُ، وَوَضَعُوا لَهُمْ كتبا وقوانين، وأحدثوا فهيا الْأَمَانَةَ الَّتِي يُلَقِّنُونَهَا الْوِلْدَانَ مِنَ الصِّغَارِ لِيَعْتَقِدُوهَا ويعمدونهم عليها وأتباع هؤلاء هم الملكانية. ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مَجْمَعًا ثَانِيًا، فَحَدَثَ فِيهِمِ الْيَعْقُوبِيَّةُ، ثُمَّ مَجْمَعًا ثَالِثًا فَحَدَثَ فِيهِمُ النُّسْطُورِيَّةُ، وكل هذه الفرق تثبت الأقاليم الثَّلَاثَةَ فِي الْمَسِيحِ وَيَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَفِي اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ عَلَى زَعْمِهِمْ هَلِ اتَّحَدَا، أو ما اتحدا، أو امْتَزَجَا، أَوْ حَلَّ فِيهِ عَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُكَفِّرُ الْفِرْقَةَ الْأُخْرَى، وَنَحْنُ نُكَفِّرُ الثَّلَاثَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أَيْ يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَخَلْقُهُ، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا عُبَيْدُهُ وَهُمْ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ له منهم صاحبة وولد، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الْأَنْعَامِ: 101] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا- إلى قوله- فَرْداً [مريم: 89- 95] .
[سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 173]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قوله: نْ يَسْتَنْكِفَ
لن يستكبر. وقال قتادة: لن يحتشمْ مَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مِنْ ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَطَفَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْمَسِيحِ، لِأَنَّ الِاسْتِنْكَافَ هُوَ الِامْتِنَاعُ، وَالْمَلَائِكَةُ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ من المسيح،
__________
(1) البطرك والبطريرك والبترك بمعنى.(2/427)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
فلهذا قال: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ أَقْوَى وَأَقْدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذُكِرُوا لِأَنَّهُمُ اتُّخِذُوا آلِهَةً مَعَ اللَّهِ كَمَا اتُّخِذَ الْمَسِيحُ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ عُبَيْدٌ من عباده وخلق من خلقه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] ، ولهذا قال: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
أَيْ فَيَجْمَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بحكمه العدل الذي لا يجوز فِيهِ، وَلَا يَحِيفُ، وَلِهَذَا قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي فَيُعْطِيهِمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَيَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الله مرفوعا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: أُجُورُهُمْ: «أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ» وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ «الشَّفَاعَةُ فِيمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمُ الْمَعْرُوفَ فِي دُنْيَاهُمْ وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يَثْبُتُ «1» .
وَإِذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا، فَهُوَ جَيِّدٌ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا أَيِ امْتَنَعُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ ذَلِكَ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِرٍ: 60] أَيْ صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ كَمَا كانوا ممتنعين مستكبرين.
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا جَمِيعَ النَّاسِ وَمُخْبِرًا بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْهُ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِلْعُذْرِ وَالْحُجَّةُ الْمُزِيلَةُ لِلشُّبْهَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً أَيْ ضِيَاءً وَاضِحًا عَلَى الْحَقِّ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الْقُرْآنُ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أَيْ جَمَعُوا بَيْنَ مَقَامَيِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِالْقُرْآنِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ أَيْ يَرْحَمُهُمْ فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَزِيدُهُمْ ثَوَابًا وَمُضَاعَفَةً وَرَفْعًا فِي دَرَجَاتِهِمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ طَرِيقًا وَاضِحًا قَصْدًا قَوَامًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ الِاسْتِقَامَةِ وَطَرِيقِ السَّلَامَةِ فِي جَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ المستقيم المفضي إلى روضات الجنان. وفي حديث
__________
(1) قال في الدر المنثور (2/ 440) : وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والإسماعيلي بسند ضعيف عن ابن مسعود مرفوعا.
(2) تفسير الطبري 4/ 378.(2/428)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قال: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آي نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ:
سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأنا مريض لا أعقل، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: صُبُّوا عَلَيْهِ، فَعَقِلْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آيَةُ الْفَرَائِضِ.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ بِهِ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ أبو الزُّبَيْرِ قَالَ: يَعْنِي جَابِرًا نَزَلَتْ فِيَّ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يَسْتَفْتُونَكَ عَنِ الْكَلَالَةِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهَا، فَدَلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَتْرُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْكَلَالَةِ وَاشْتِقَاقِهَا، وَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِكْلِيلِ الَّذِي يُحِيطُ بِالرَّأْسِ مِنْ جَوَانِبِهِ وَلِهَذَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِمَنْ يَمُوتُ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَقَدْ أُشْكِلَ حُكْمُ الْكَلَالَةِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ والكلالة وباب مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا «4» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا إسماعيل عن سعيد بن أبي
__________
(1) سنن الترمذي (ثواب القرآن باب 14) .
(2) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب 22) .
(3) مسند أحمد 3/ 298.
(4) صحيح البخاري (أشربة باب 5) وصحيح مسلم (تفسير حديث 32 و 33) وسنن أبي داود (أشربة باب 1) .
(5) مسند أحمد 1/ 26.(2/429)
عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ «1» الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» هَكَذَا رَوَاهُ مختصرا، وأخرجه مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مالك يعني ابن مغول يقول سَمِعْتُ الْفَضْلَ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصيف» ، فقال: لَأَنْ أَكُونَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» .
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِهِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِآيَةِ الصَّيْفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمَّا أَرْشَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَفَهُّمِهَا، فَإِنَّ فِيهَا كِفَايَةً نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَاهَا، وَلِهَذَا قَالَ: فَلَأَنْ أَكُونُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ [عَنِ] «5» الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ» فنزلت يَسْتَفْتُونَكَ قال قتادة: وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نزلت فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضِهِمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِمَّا جَرَّتِ الرَّحِمُ مِنَ الْعَصَبَةِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
ذِكْرُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهَا
وَبِاللَّهِ المستعان وعليه التكلان.
__________
(1) قيل: أنزل الله في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء، والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها. [.....]
(2) مسند أحمد 1/ 38.
(3) مسند أحمد 4/ 293.
(4) تفسير الطبري 4/ 379.
(5) زيادة من الطبري.(2/430)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أَيْ مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] كُلُّ شَيْءٍ يَفْنَى وَلَا يَبْقَى إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 27] .
قوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَالِدِ، بَلْ يَكْفِي فِي وُجُودِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ، ولكن الذي يرجع إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَضَاءُ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ الذي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَبٌ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْجُبُهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَا وَالِدَ بِالنَّصِّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَالِدِ بَلْ لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ وَعَطِيَّةَ وَحَمْزَةَ وَرَاشِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَأَعْطَى الزَّوْجَ النِّصْفَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ، فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ: تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ قَالَ:
فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا فَقَدْ تَرَكَ وَلَدًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالتَّعْصِيبِ بِدَلِيلٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وهذه الآية نصت أَنْ يُفْرَضَ لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَمَّا وِرَاثَتُهَا بِالتَّعْصِيبِ فَلِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، النصف للبنت وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النبي صلّى الله عليه وسلّم النصف للبنت، ولبنت الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ «3» .
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة، وليس
__________
(1) مسند أحمد 5/ 188.
(2) تفسير الطبري 4/ 382.
(3) انظر صحيح البخاري (فرائض باب 8) وموطأ مالك (رضاع حديث 15) .(2/431)
لها ولد أي ولا والد، لأنها لَوْ كَانَ لَهَا وَالِدٌ لَمْ يَرِثِ الْأَخُ شَيْئًا، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ مَعَهُ مَنْ لَهُ فَرْضٌ صُرِفَ إِلَيْهِ فَرْضُهُ كَزَوْجٍ أَوْ أَخٍ مِنْ أُمٍّ، وَصُرِفَ الْبَاقِي إِلَى الْأَخِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» «1» . وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أَيْ فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَمُوتُ كَلَالَةً أُخْتَانِ، فُرِضَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ وَكَذَا مَا زَادَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي حُكْمِهِمَا، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَ الْجَمَاعَةُ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ كَمَا اسْتُفِيدَ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْبَنَاتِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ [النساء: 11] .
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هَذَا حُكْمُ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ إِذَا اجْتَمَعَ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، أُعْطِيَ الذَّكَرُ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَقَوْلُهُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَيْ يَفْرِضُ لَكُمْ فَرَائِضَهُ، وَيَحُدُّ لَكُمْ حُدُودَهُ، وَيُوَضِّحُ لَكُمْ شَرَائِعَهُ. وَقَوْلُهُ:
أَنْ تَضِلُّوا أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيَانِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ لِعِبَادِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرَابَاتِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنَ الْمُتَوَفَّى.
وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا فِي مَسِيرٍ، وَرَأْسُ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأْسُ رَاحِلَةِ عُمَرَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ، قَالَ وَنَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ فَلَقَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ فَلَقَّاهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا حُذَيْفَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحْمَقُ إِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقَّيْتُكَهَا كَمَا لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا، قَالَ: فكان عمر يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ بَيَّنْتَهَا لَهُ، فَإِنَّهَا لَمْ تُبَيَّنْ لِي، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَذَلِكَ بِنَحْوِهِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ ابْنِ سِيرِينَ وَحُذَيْفَةَ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو البزار في مسنده: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مرزوق قالا: حدثنا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه قال: نزلت آية الْكَلَالَةُ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا هُوَ بِحُذَيْفَةَ وَإِذَا رأس ناقة حذيفة عند ردف راحلة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقَّاهَا إِيَّاهُ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَقَّاهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ نَظَرَ عُمَرُ فِي الْكَلَالَةِ، فَدَعَا حُذَيْفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فلقيتكها كما لقاني
__________
(1) صحيح البخاري (فرائض باب 5 و 7 و 9 و 15) وصحيح مسلم (فرائض حديث 2 و 3) وسنن الترمذي (فرائض باب 8) .
(2) تفسير الطبري 4/ 380.(2/432)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ إني لصادق والله لا أزيدك شَيْئًا أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ إِلَّا حُذَيْفَةَ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ طَرِيقًا عَنْ حُذَيْفَةَ إِلَّا هَذَا الطَّرِيقَ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ إِلَّا عَبْدُ الْأَعْلَى، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف تورث الكلالة؟ قال فأنزل الله يَسْتَفْتُونَكَ الْآيَةَ، قَالَ: فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ لِحَفْصَةَ:
إِذَا رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِيبَ نَفْسٍ فَسَلِيهِ عَنْهَا، فَرَأَتْ مِنْهُ طِيبَ نَفْسٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْهَا، فَقَالَ:
«أَبُوكِ ذَكَرَ لَكِ هَذَا، مَا أَرَى أَبَاكِ يعلمها» ، قال: فكان عُمَرُ يَقُولُ مَا أَرَانِي أَعْلَمُهَا. وَقَدْ قَالَ رسول الله مَا قَالَ، رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، ثُمَّ رَوَاهُ من طريق ابن عيينة، وعن عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ حَفْصَةَ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ فَأَمْلَاهَا عَلَيْهَا فِي كَتِفٍ، فَقَالَ: «مَنْ أَمَرَكِ بِهَذَا أَعُمَرُ؟ مَا أَرَاهُ يُقِيمُهَا أوما تكفيه آية الصيف» وَآيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ فَلَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزلت الْآيَةُ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةُ النِّسَاءِ، فَأَلْقَى عُمَرُ الْكَتِفَ، كَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَثَّامٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخَذَ عمر كتفا وجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تُحَدِّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهِنَّ، فَخَرَجَتْ حِينَئِذٍ حَيَّةٌ مِنَ الْبَيْتِ فَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ لَأَتَمَّهُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَأَنْ أَكُونَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَلَاثٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: مَنِ الْخَلِيفَةُ بعده؟ وعن قوم قالوا: نقر بالزكاة في أَمْوَالِنَا وَلَا نُؤَدِّيهَا إِلَيْكَ، أَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ؟ وَعَنِ الكلالة. ثم قال: صحيح الإسناد عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. ثُمَّ رُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: ثَلَاثٌ لَأَنَّ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلَ يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْقَوْلُ مَا قُلْتُ، قُلْتُ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وسليمان الأحوال عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: اخْتَلَفْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْكَلَالَةِ وَالْقَوْلُ مَا قُلْتُ، قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ شَرَكَ بين
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 381.(2/433)
الإخوة للأم والأب وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فِي الثُّلُثِ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَخَالَفَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن حميد العمري، عَنْ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كتابا، فمكث يستخير الله يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، حَتَّى إِذَا طَعِنَ، دَعَا بِكِتَابٍ فَمُحِيَ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كنت كتبت كتابا في الجد والكلالة، وكنت أستخير اللَّهَ فِيهِ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ، وَكَأَنَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: هُوَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ قَاطِبَةً، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، كَمَا أَرْشَدَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَوَضَّحَهُ فِي قَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، والله أعلم.
تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث: وأوله سورة المائدة
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 381.(2/434)
فهرس المحتويات
سورة آل عمران
الآيات: 1- 4 3 الآيات: 5- 9 4 الآيتان: 10 و 11 12 الآيتان: 12 و 13 13 الآيتان: 14 و 15 15 الآيتان: 16 و 17 18 الآيات: 18- 20 19 الآيتان: 21 و 22 22 الآيات: 23- 25 23 الآيتان: 26 و 27 24 الآية: 28 25 الآيات: 29- 32 26 الآيتان: 33 و 34 27 الآيتان: 35 و 36 28 الآية: 37 29 الآيات: 38- 41 31 الآيات: 42- 44 33 الآيات: 45- 47 36 الآيات: 48- 51 37 الآيات: 52- 54 38 الآيات: 55- 58 39(2/435)
الآية: 64 47 الآيات: 65- 68 49 الآيات: 69- 74 50 الآيتان: 75 و 76 51 الآية: 77 53 الآيات: 78- 80 56 الآيتان: 81 و 82 58 الآيات: 83- 85 59 الآيات: 86- 89 60 الآيتان: 90 و 91 61 الآيات: 93- 95 63 الآيتان: 96 و 97 66 الآيتان: 98- 100 73 الآيات: 101- 103 74 الآيات: 104- 109 78 الآيات: 110- 112 80 الآيات: 113- 117 90 الآيات: 118- 120 92 الآيات: 121- 123 94 الآيات: 124- 129 97 الآيات: 130- 136 101 الآيات: 137- 143 110 الآيات: 144- 148 111 الآيات: 149- 153 115 الآيتان: 154 و 155 127 الآيات: 156- 158 129(2/436)
الآيات: 159- 164 130 الآيات: 165- 168 139 الآيات: 169- 175 141 الآيات: 176- 180 152 الآيات: 181- 184 155 الآيتان: 185 و 186 156 الآيات: 187- 189 159 الآيات: 190- 194 161 الآية: 195 168 الآيات: 196- 198 169 الآيتان: 199 و 200 170
سورة النساء
الآية: 1 181 الآيات: 2- 4 182 الآيتان 5 و 6 187 الآيات: 7- 10 192 الآية: 11 196 الآية: 12 201 الآيتان: 13 و 14 203 الآيتان: 15 و 16 204 الآيتان: 17 و 18 206 الآيات: 19- 22 209 الآيتان: 23 و 24 216 الآية: 25 227 الآيات: 26- 28 233(2/437)
الآيات: 29- 31 234 الآية: 32 250 الآية: 33 252 الآية: 34 256 الآية: 35 259 الآية: 36 260 الآيات: 37- 39 265 الآيات: 40- 42 267 الآية: 43 271 الآيات: 44- 46 284 الآيتان: 47 و 48 285 الآيات: 49- 52 292 الآية: 53 295 الآيات: 54- 57 296 الآية: 58 298 الآية: 59 301 الآيات: 60- 63 305 الآيتان: 64 و 65 306 الآيات: 66- 70 309 الآيات: 71- 74 313 الآيتان: 75 و 76 314 الآيات: 77- 79 315 الآيات: 80- 83 321 الآية: 84 323 الآيات: 85- 87 324 الآيات: 88- 91 327(2/438)
الآيتان: 92 و 93 330 الآية: 94 337 الآيتان: 95 و 96 340 الآيات: 97- 100 343 الآية: 101 347 الآية: 102 352 الآيتان: 103 و 104 357 الآيات: 105- 109 358 الآيات: 110- 113 361 الآيتان: 114 و 115 364 الآيات: 116- 122 366 الآيات: 123- 126 369 الآية: 127 376 الآيات: 128- 130 377 الآيات: 131- 134 382 الآية: 135 383 الآيات: 136- 140 384 الآية: 141 386 الآيتان: 142 و 143 387 الآيات: 144- 147 390 الآيتان: 148 و 149 392 الآيات: 150- 152 394 الآيتان: 153 و 154 395 الآيات: 155- 159 396 الآيات: 160- 162 415 الآيات: 163- 165 416(2/439)
الآيات: 166- 170 423 الآية: 171 424 الآيتان: 172 و 173 427 الآيتان: 174 و 175 428 الآية: 176 429(2/440)
[الجزء الثالث]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المائدة
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ الْعَضْبَاءِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وَكَادَتْ مِنْ ثِقْلِهَا تَدُقُّ عَضُدَ الناقة.
وروى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو عَنْ عَمِّهَا أَنَّهُ كَانَ فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت عَلَيْهِ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَانْدَقَّ عُنُقُ الرَّاحِلَةِ مِنْ ثِقْلِهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ «2» أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُيَيٍّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا يحيى بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ، تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا من جلال فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، وَزَادَ: وَسَأَلْتُهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: القرآن. ورواه النسائي من حديث ابن مهدي.
__________
(1) مسند أحمد 6/ 455.
(2) مسند أحمد 2/ 176.
(3) مسند أحمد 6/ 188. [.....](3/3)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنِي مَعْنٌ وَعَوْفٌ، أَوْ أَحَدِهِمَا، أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: اعْهَدْ إِلِيَّ، فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: إِذَا قَالَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا افْعَلُوا، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ. فَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغِ الْبَغْدَادِيِّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَّا أَنَّ عَلِيًّا سَيِّدُهَا وَشَرِيفُهَا وَأَمِيرُهَا، وَمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ إِلَّا قَدْ عُوتِبَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَاتَبْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، فَهُوَ أَثَرٌ غَرِيبٌ، وَلَفْظُهُ فِيهِ نَكَارَةٌ، وفي إسناده نظر.
وقال الْبُخَارِيُّ: عِيسَى بْنُ رَاشِدٍ هَذَا مَجْهُولٌ، وَخَبَرُهُ مُنْكَرٌ، قُلْتُ: وَعَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً إِلَّا أَنَّهُ شِيعِيٌّ غَالٍ، وَخَبَرُهُ فِي مِثْلِ هَذَا فِيهِ تُهْمَةٌ فَلَا يُقْبَلُ، وَقَوْلُهُ: فلم يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا عُوتِبَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلِيًّا، إِنَّمَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْآيَةِ الْآمِرَةِ بِالصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا عَلِيٌّ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] الآية، وَفِي كَوْنِ هَذَا عِتَابًا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ كَانَ نَدْبًا لَا إِيجَابًا، ثُمَّ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ، فلم يصدر مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَهُ، وَقَوْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ إِنَّهُ لَمْ يُعَاتَبْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا، فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ الَّتِي فِيهَا الْمُعَاتَبَةُ عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ، عَمَّتْ جَمِيعَ مَنْ أَشَارَ بِأَخْذِهِ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعُلِمَ بِهَذَا وَبِمَا تَقَدَّمَ ضَعْفُ هَذَا الْأَثَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حدثني يونس
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 378.(3/4)
قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ، وَكَانَ الْكِتَابُ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ فِيهِ «هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَكَتَبَ الْآيَاتِ مِنْهَا حَتَّى بَلَغَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الْمَائِدَةِ: 4] » .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سعيد، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: هَذَا كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ يُفَقِّهَ أَهْلَهَا وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا، وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عَهْدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» «1» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي بِالْعُقُودِ الْعُهُودَ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، قال: والعهود ما كانوا يتعاقدون عَلَيْهِ مِنَ الْحِلْفِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يَعْنِي العهود، يَعْنِي مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ وَمَا فَرَضَ وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا، ثُمَّ شَدَّدَ فِي ذَلِكَ فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إِلَى قَوْلِهِ سُوءُ الدَّارِ [الرَّعْدِ: 25] وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: ما أحل الله وحرم، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى مَنْ أقر بالإيمان بالنبي وَالْكِتَابِ أَنْ يُوفُوا بِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قَالَ: هِيَ سِتَّةٌ «2» : عَهْدُ اللَّهِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ وَعَقْدِ الْيَمِينِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ «3» : هِيَ خَمْسَةٌ مِنْهَا حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ «4» .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ بهذه الآية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: فهذه تدل عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ وَثُبُوتِهِ فَيَقْتَضِي نَفْيَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَخَالَفَهُمَا في ذلك الشافعي وأحمد وَالْجُمْهُورُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «5» عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَفِي لَفْظِ آخر لِلْبُخَارِيِّ «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إثبات خيار
__________
(1) ينظر النص كاملا في «الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدي» لمحمد حميد الله، ص 207- 209.
(2) هي خمسة في تفسير الطبري 4/ 387 من حديث زيد بن أسلم.
(3) تفسير الطبري 4/ 387.
(4) شركة المفاوضة: أن يجعل الشريكان جميع ما يملكانه بينهما.
(5) صحيح البخاري (بيوع باب 19) وصحيح مسلم (بيوع حديث 43) .(3/5)
الْمَجْلِسِ الْمُتَعَقِّبِ لِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ هَذَا مُنَافِيًا لِلُزُومِ الْعَقْدِ، بَلْ هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ شَرْعًا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هِيَ الإبل والبقر والغنم، قاله أبو الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَنِينِ إِذَا وُجِدَ مَيِّتًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ إِذَا ذُبِحَتْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ عَنْ أبي الوداك جبير بن نوفل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْحَرُ النَّاقَةَ وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ فِي بَطْنِهَا الْجَنِينُ، أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ «كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» «2» وقال الترمذي: حديث حسن، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَدَّاحُ الْمَكِّيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَيْتَةَ وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ «3» فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَلِهَذَا قَالَ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يَعْنِي مِنْهَا فَإِنَّهُ حَرَامٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ وَتَلَاحُقُهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ أَيْ إِلَّا مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وقوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا منصوب على الحال والمراد بالأنعام مَا يَعُمُّ الْإِنْسِيَّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا يَعُمُّ الْوَحْشِيَّ كَالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ، فَاسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْسِيِّ مَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْوَحْشِيِّ الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ أَحْلَلْنَا لكم الأنعام، إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد، وهو حرام لقوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ أَبَحْنَا تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِشَرْطِ أَنْ يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا أي كما أحللنا الأنعام فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَحَرِّمُوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِهَذَا، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ.
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 389.
(2) هذا الحديث والذي بعده أخرجهما أبو داود في سننه (أضاحي باب 17) .
(3) أي ما يأتي بيانه في الآية الثالثة من هذه السورة.(3/6)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَالْهَدْيَ وَالْبُدْنَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: شعائر الله محارمه، أَيْ لَا تُحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي حَرَّمَهَا تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَعْنِي بِذَلِكَ تَحْرِيمَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِتَعْظِيمِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْ تَعَاطِيهِ فِيهِ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ وَتَأْكِيدَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [الْبَقَرَةِ: 217] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التَّوْبَةِ: 36] ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «1» عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثلاث متواليات: ذو العقدة وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ «2» الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِهَا إِلَى آخِرِ وَقْتٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ من السَّلَفِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَعْنِي لَا تَسْتَحِلُّوا القتال فِيهِ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» أيضا، وذهب الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] والمراد أشهر التسيير الأربعة، قَالُوا: فَلَمْ يَسْتَثْنِ شَهْرًا حَرَامًا مِنْ غَيْرِهِ، وقد حكى الإمام أبو جعفر الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ قِتَالَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَوْ قَلَّدَ عُنُقَهُ أَوْ ذِرَاعَيْهِ بِلِحَاءِ جَمِيعِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ أَمَانًا مِنَ الْقَتْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُ عَقْدُ ذِمَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانٍ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحْثٌ آخَرُ لَهُ مَوْضِعٌ أَبْسَطُ من هذا.
وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ يَعْنِي لَا تَتْرُكُوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر اللَّهِ، وَلَا تَتْرُكُوا تَقْلِيدَهَا فِي أَعْنَاقِهَا لِتَتَمَيَّزَ بِهِ عَمَّا عَدَاهَا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَجْتَنِبُهَا مَنْ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ، وَتَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَإِنَّ مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَلِهَذَا لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ وَادِي الْعَقِيقِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ وَكُنَّ تِسْعًا، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أشعر هديه وقلده، وأهل للحج وَالْعُمْرَةِ، وَكَانَ هَدْيُهُ إِبِلًا كَثِيرَةً تُنِيفُ عَلَى السِّتِّينَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] وقال بعض السلف إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة براءة باب 9) .
(2) رجب مضر: شهر كانت مضر تحرم القتال فيه.
(3) تفسير الطبري 4/ 394.(3/7)
طَالِبٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، رَوَاهُ أَهْلُ السنن «1» .
وقال مقاتل بن حيان: وقوله وَلَا الْقَلائِدَ فَلَا تَسْتَحِلُّوا وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الحرم، قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر وتقلد مشركوا الحرم من لحاء شجره فَيَأْمَنُونَ بِهِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بن سليمان، قال: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نُسِخَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَانِ آيَةُ القلائد وقوله فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَحَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَّانَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنِ ابن عوف قَالَ: قُلْتُ لِلْحُسْنِ: نُسِخَ مِنَ الْمَائِدَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَيَأْمَنُونَ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ قَطْعِ شَجَرِهِ وَكَذَا قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً أَيْ وَلَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالَ الْقَاصِدِينَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَكَذَا مَنْ قَصَدَهُ طَالِبًا فَضْلَ اللَّهِ وَرَاغِبًا فِي رِضْوَانِهِ فَلَا تَصُدُّوهُ وَلَا تَمْنَعُوهُ وَلَا تُهَيِّجُوهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَقَتَادَةُ وغير واحد فِي قَوْلِهِ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ يَعْنِي بِذَلِكَ التِّجَارَةَ، وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَةِ: 198] . وَقَوْلُهُ وَرِضْواناً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يترضون الله بحبهم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير «2» أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُطَمِ بْنِ هِنْدٍ الْبَكْرِيِّ كَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَمَرَ إِلَى الْبَيْتِ فَأَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا عليه فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْبَيْتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ يَجُوزُ قَتْلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ وَإِنْ أَمَّ الْبَيْتَ الحرام أو بيت المقدس وأن هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فَأَمَّا مَنْ قَصَدَهُ بِالْإِلْحَادِ فِيهِ وَالشِّرْكِ عِنْدَهُ والكفر به فهذا يمنع، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَةِ: 28] وَلِهَذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تِسْعٍ لَمَّا أَمَّرَ الصِّدِّيقَ عَلَى الْحَجِيجِ عَلِيًّا وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببراءة، وأن لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بالبيت عريان.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ «3» : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَعْنِي مَنْ توجه قبل البيت
__________
(1) سنن أبي داود (أضاحي باب 5) ومسند أحمد 1/ 95.
(2) تفسير الطبري 4/ 397. [.....]
(3) تفسير الطبري 4/ 400.(3/8)
الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ «1» ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا الآية، وَقَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] وقال إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 18] فَنَفَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قَالَ:
مَنْسُوخٌ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ تَقَلَّدَ مِنَ الشَّجَرِ «2» فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، فإذا رَجَعَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعْرٍ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمئِذٍ لَا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يُقَاتِلُوا فِي الشَّهْرِ «3» الْحَرَامِ وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَةِ: 5] وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَلَا الْقَلائِدَ يعني إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمّنوهم، قَالَ وَلَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ تُعِيرُ مَنْ أَخَفَرَ ذلك، قال الشاعر: [الطويل]
أَلَمْ تَقْتُلَا الْحَرْجَيْنِ إِذْ أَعْوَرَا لَكُمْ ... يُمِرَّانِ بالأيدي اللحاء المضفّرا «4»
وقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أَيْ إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ وَأَحْلَلْتُمْ مِنْهُ فَقَدْ أَبَحْنَا لَكُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ مِنَ الصَّيْدِ وَهَذَا أَمُرٌ بَعْدَ الْحَظْرِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي يثبت على السير، أَنَّهُ يُرَدُّ الْحُكْمُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَدَّهُ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَمُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحًا فَمُبَاحٌ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ يَرُدُّ عليه آيات أخرى، وَالَّذِي يَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا من الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ أَنْ صَدُّوكُمْ بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ أَنْ، وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ أَيْ لَا يَحَمِّلَنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ قَدْ كَانُوا صَدُّوكُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أن تعتدوا حكم الله فيهم فَتَقْتَصُّوا مِنْهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا بَلِ احْكُمُوا بِمَا أمركم الله به من العدل في حق كُلِّ أَحَدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ قوله وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة:
__________
(1) عبارة الطبري: «فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يَحُجَّ الْبَيْتَ أَوْ يَعْرِضُوا لَهُ، مِنْ مُؤْمِنٍ أو كافر» إلخ.
(2) في الطبري: «تقلد من السمر» وهو نوع من الشجر، واحدته سمرة.
(3) في الطبري: «في الأشهر الحرم» . وحديث عبد الرزاق رواه الطبري في تفسيره 4/ 40.
(4) البيت لحذيفة بن أنس في شرح أشعار الهذليين ص 555، وللهذلي في لسان العرب (حرج) وتاج العروس (حرج) وديوان الهذليين 3/ 19. والرواية المشهورة: «ألم تقتلوا» . والحرجان: مثنى حرج (بكسر الحاء وسكون الراء) وهي الودعة البيضاء. سمى الرجلين بالحرجين لبياضهما. وأعورا لكم:
أظهرها لكم عورتيهما.(3/9)
8] أَيْ لَا يَحْمِلْنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فَإِنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا عَامَلْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ. وَالْعَدْلُ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سهل بن عفان، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَصْحَابُهُ حِينَ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ وَقَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَرَّ بِهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَصُدُّ هَؤُلَاءِ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَالشَّنَآنُ هُوَ الْبُغْضُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ شَنَأْتُهُ أَشْنَؤُهُ شَنَآنًا بِالتَّحْرِيكِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ جمزان ودرجان ورقلان من جمز ودرج ورقل، وقال ابْنُ جَرِيرٍ «1» : مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسْقِطُ التَّحْرِيكَ في شنآن فيقول شنان وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر: [الطويل]
ومَا الْعَيْشُ إِلَّا مَا تُحِبُّ وَتَشْتَهِي ... وَإِنْ لام فيه ذو الشّنان وفنّدا «2»
وقوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ الْبَرُّ، وَتَرْكِ الْمُنْكِرَاتِ وَهُوَ التَّقْوَى وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّنَاصُرِ عَلَى الْبَاطِلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : الْإِثْمُ تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ وَالْعُدْوَانُ مجاوزة ما حد الله لكم في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عَلَيْكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي غَيْرِكُمْ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ ظَالِمًا؟ قال «تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نَصْرُهُ» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ بِهِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ «تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمَ فذلك نصرك إياه» .
وقال أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أذاهم أعظم أجرا
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 404.
(2) البيت للأحوص في ديوانه ص 99، ولسان العرب (شنأ وشنن) ومجمل اللغة 3/ 150 وطبقات فحول الشعراء ص 664 والشعر والشعراء ص 526.
(3) تفسير الطبري 4/ 405.
(4) مسند أحمد 3/ 99.
(5) مسند أحمد 3/ 365.(3/10)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ «1» أَيْضًا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو شَيْبَةَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ الْمُخْتَارِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
قُلْتُ: وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زريق الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ يُونُسَ: إِنَّ أَبَا الْحَسَنِ نمران بن صخر، حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُعِينَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإسلام» .
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
يُخْبِرُ تَعَالَى عِبَادَهُ خَبَرًا مُتَضَمِّنًا النَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمِيتَةِ، وَهِيَ مَا مَاتَ مِنَ الحيوانات حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَلَا اصْطِيَادٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّمِ الْمُحْتَقِنِ فَهِيَ ضَارَّةٌ لِلدِّينِ وَلِلْبَدَنِ، فَلِهَذَا حَرَّمَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَثْنِي مِنَ الْمَيْتَةِ السَّمَكُ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ سَوَاءٌ مَاتَ بِتَذْكِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» «2» ، وَهَكَذَا الْجَرَادُ، لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ: وَالدَّمُ يَعْنِي به المسفوح، كقوله
__________
(1) مسند أحمد 2/ 32.
(2) موطأ مالك (طهارة حديث 12) وسنن أبي داود (طهارة باب 41) ومسند أحمد 2/ 237. وذلك أن رجلا جاء إلى رسول الله فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا به عطشنا، أفنتوضأ به؟ فقال رسول الله ... الحديث.(3/11)
أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الْأَنْعَامِ: 145] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ الْمَذْحِجِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الطُّحَالِ فَقَالَ: كُلُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ دَمٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمُ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الدَّمِ السَّافِحِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عمر مرفوعا، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمِيتَتَانِ. فالسمك وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «1» وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أُسَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عن ابن عمر مرفوعا، قلت: وثلاثتهم كلهم ضُعَفَاءُ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَصْلَحُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ أَحَدُ الْأَثْبَاتِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِّيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ شريح عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَهُوَ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَعْرِضُ عَلَيْهِمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فأتيتهم فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها فقالوا: هَلُمَّ يَا صُدَيُّ فَكُلْ، قَالَ: قُلْتُ: وَيَحْكَمُ إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فَتَلَوْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الْآيَةَ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابن أبي الشوارب بإسناده مِثْلِهِ، وَزَادَ بَعْدَ هَذَا السِّيَاقِ قَالَ: فَجَعَلْتُ أدعوهم إلى الإسلام ويأبون عليّ، فقلت: وَيَحْكُمُ اسْقُونِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنِّي شَدِيدُ الْعَطَشِ، قَالَ: وَعَلَيَّ عَبَاءَتِي، فَقَالُوا: لَا، وَلَكِنْ نَدَعُكَ حَتَّى تَمُوتَ عَطَشًا، قَالَ: فَاغْتَمَمْتُ وَضَرَبْتُ بِرَأْسِي فِي الْعَبَاءِ، وَنِمْتُ عَلَى الرَّمْضَاءِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، قَالَ:
فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي بِقَدَحٍ مِنْ زُجَاجٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ أَحْسَنَ منه، وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه، فأمكنني منه فشربته، فلما فَرَغْتُ مِنْ شَرَابِي اسْتَيْقَظْتُ فَلَا وَاللَّهِ مَا عَطِشْتُ، وَلَا عَرِيتُ بَعْدَ تِيكَ الشَّرْبَةِ. وَرَوَاهُ الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ عَيَّاشٍ العامري، حدثنا صدقة بن هرم عن أبي غالب، عن أبي أمامة وذكر نَحْوَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: بَعْدَ تِيكَ الشَّرْبَةِ، فَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: أَتَاكُمْ رَجُلٌ مِنْ سَرَاةِ قَوْمِكُمْ فَلَمْ تَمْجَعُوهُ بِمَذْقَةٍ «2» ، فَأْتُونِي بِمَذْقَةٍ فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، إِنِ اللَّهَ أَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَأَرَيْتُهُمْ بَطْنِي، فَأَسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَمَا أَحْسَنَ ما أنشد الأعشى في قصيدته التي
__________
(1) مسند أحمد 2/ 97.
(2) مجع مجعا: أكل التمر باللبن معا، أو أن يأكل التمر ويشرب عليه اللبن. والمذقة: الشربة من اللبن. [.....](3/12)
ذكرها ابن إسحاق: [الطويل]
وَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَقْرَبَنَّهَا ... وَلَا تَأْخُذَنَّ عَظْمًا حديدا فتفصدا «1»
أي لا تفعل فعل الْجَاهِلِيَّةُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا جَاعَ يأخذ شَيْئًا مُحَدَّدًا مَنْ عَظْمٍ وَنَحْوِهِ، فَيَفْصِدُ بِهِ بِعِيرَهَ أَوْ حَيَوَانًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، فَيَجْمَعُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِنَ الدَّمِ فَيَشْرَبُهُ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ قَالَ الْأَعْشَى:
وَذَا النُّصُبِ الْمَنْصُوبَ لَا تأتينه «2» ... ولا تعبد الأوثان وَاللَّهَ فَاعْبُدَا «3»
وَقَوْلِهِ: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يَعْنِي إِنْسِيَّهُ وَوَحْشِيَّهُ، وَاللَّحْمُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ حَتَّى الشَّحْمَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحَذْلُقِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي جُمُودِهِمْ هَاهُنَا، وَتَعَسُّفِهِمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَعَادُوا الضَّمِيرَ فِيمَا فَهِمُوهُ عَلَى الْخِنْزِيرِ حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَّا إِلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّحْمَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَجْزَاءِ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنَ الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «4» عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْخَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا التَّنْفِيرُ لِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ الْأَكِيدُ عَلَى أَكْلِهِ وَالتَّغَذِّي بِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شُمُولِ اللَّحْمِ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ مِنَ الشَّحْمِ وَغَيْرِهِ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «5» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ «لَا، هُوَ حَرَامٌ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِهِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ: نَهَانَا عَنِ الْمِيتَةِ وَالدَّمِ.
وَقَوْلِهِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أَيْ مَا ذُبِحَ فَذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غير الله فهو حرام لأن الله تعالى أَوْجَبَ أَنْ تُذْبَحَ مَخْلُوقَاتُهُ عَلَى اسْمِهِ الْعَظِيمِ، فَمَتَى عُدِلَ بِهَا عَنْ ذَلِكَ وَذُكِرَ عَلَيْهَا اسْمُ غَيْرِهِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ طَاغُوتٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي متروك التسمية إِمَّا عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ في سورة الأنعام.
__________
(1) رواها ابن هشام في السيرة 1/ 386- 388 في ثلاثة وعشرين بيتا. وفيها: «فإياك ... لتفصدا» .
(2) في السيرة: «لا تنسكنّه» .
(3) الأصل: فاعبدن، بنون خفيفة. وقد استعاض عنها بألف. وقيل إنه لم يرد النون الخفيفة وإنما خاطب الواحد بخطاب الاثنين.
(4) صحيح مسلم (شعر حديث 10) .
(5) صحيح البخاري (بيوع باب 105) وصحيح مسلم (بيوع حديث 93) .(3/13)
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسن السنجاني حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: نَزَلَ آدَمُ بِتَحْرِيمِ أَرْبَعٍ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْيَاءِ لَمْ تَحِلَّ قَطُّ، وَلَمْ تَزَلْ حَرَامًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَلَمَّا كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَتْ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بالأمر الأول الذي جاء به آدم وَأَحَلَّ لَهُمْ مَا سِوَى ذَلِكَ، فَكَذَّبُوهُ وَعَصَوْهُ، وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حدثنا ربعي عن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْجَارُودَ بْنَ أَبِي سَبْرَةَ، قَالَ:
هُوَ جَدِّي، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ من بني رباح يُقَالُ لَهُ ابْنُ وَثِيلٍ، وَكَانَ شَاعِرًا، نَافَرَ غَالِبًا أَبَا الْفَرَزْدَقِ بِمَاءٍ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَعْقِرَ هَذَا مِائَةً مِنْ إِبِلِهِ وَهَذَا مِائَةً مِنْ إِبِلِهِ إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ، فَلَمَّا وردت الماء قاما إليها بسيفيهما فَجَعَلَا يَكْسِفَانِ «1» عَرَاقِيبَهَا، قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى الْحُمُرَاتِ وَالْبِغَالِ يُرِيدُونَ اللَّحْمَ، قَالَ: وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلِيٍّ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِهَا، فإنها أُهِلَّ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «2» : حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا ابن حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي ريحانة، عن ابن عباس، قَالَ:
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُعَاقَرَةِ «3» الْأَعْرَابِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ غُنْدَرٌ:
أَوْقَفَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «4» أَيْضًا: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جرير بن حازم عن الزبير بن حريث، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: أكثر من رواه غير ابن جَرِيرٍ لَا يَذْكُرُ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، تَفَرَّدَ به أيضا.
قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَهِيَ الَّتِي تَمُوتُ بِالْخَنْقِ، إِمَّا قَصْدًا وإما اتِّفَاقًا بِأَنْ تَتَخَبَّلَ فِي وَثَاقَتِهَا، فَتَمُوتُ بِهِ فَهِيَ حَرَامٌ، وَأَمَّا الْمَوْقُوذَةُ فَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ الَّتِي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت، قال قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَهَا بِالْعَصَى حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ، قَالَ «إِذَا رميت بالمعراض فخزق
__________
(1) يكسفان عراقيبها (بالسين المهملة) : يقطعانها بالسيف.
(2) سنن أبي داود (أضاحي باب 13) .
(3) معاقرة الأعراب: هو عقرهم الإبل. كان يتبارى الرجلان في الجود والسخاء فيعقر هذا إبلا ويعقر هذا إبلا حتى يعجز أحدهما الآخر. وكانوا يفعلونه رياء وتفاخرا وسمعة ولا يقصدون به وجه الله، فشبه به ما ذبح لغير الله.
(4) سنن أبي داود (أطعمة باب 7) .(3/14)
فكله، وإن أصاب بِعَرْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ» «1» فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا أَصَابَهُ بِالسَّهْمِ أَوْ بِالْمِزْرَاقِ «2» وَنَحْوِهِ بحده، فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذا لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا صَدَمَ الْجَارِحَةُ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، وَلَمْ يَجْرَحْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا قَوْلَانِ للشافعي رحمه الله [أحدهما] لَا يَحِلُّ كَمَا فِي السَّهْمِ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَيِّتٌ بِغَيْرِ جُرْحٍ فَهُوَ وَقِيذٌ. [وَالثَّانِي] أَنَّهُ يَحِلُّ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الْعُمُومِ، وَقَدْ قَرَّرْتُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلًا فَلْيُكْتَبْ هَاهُنَا.
[فَصْلٌ]- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إِذَا أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ وَلَمْ يَجْرَحْهُ، أَوْ صَدَمَهُ: هَلْ يَحِلُّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ [أَحَدُهُمَا] أَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا عُمُومَاتُ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهَذَا قَوْلٌ حَكَاهُ الْأَصْحَابُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ كَالنَّوَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ. قُلْتُ:
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِظَاهِرٍ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ: يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، ثُمَّ وَجَّهَ كُلًّا مِنْهُمَا فَحَمَلَ ذَلِكَ الْأَصْحَابُ مِنْهُ، فَأَطْلَقُوا فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ عنه، اللهم إلا أنه في بحثه لِلْقَوْلِ بِالْحِلِّ رَشَّحَهُ قَلِيلًا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا جَزَمَ بِهِ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ- أَعْنِي الْحِلَّ- نَقْلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فَحَكَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا غَرِيبٌ جَدًّا، وَلَيْسَ يُوجَدُ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ عَنْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي- أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ تَرْجِيحُهُ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، والله أعلم، لأنه أجرى على الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ، وَأَمَسُّ بِالْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاحْتَجَّ ابْنُ الصَّبَّاغِ لَهُ بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قُلْتُ: يا رسول الله، إنا ملاقو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ قَالَ «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ»
. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَارِدًا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَ جُمْهُورٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَمَا سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْبَتْعِ، وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ فَقَالَ «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ، أَفَيَقُولُ فَقِيهٌ: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَخْصُوصٌ بِشَرَابِ الْعَسَلِ؟ وَهَكَذَا هَذَا، كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الذَّكَاةِ، فَقَالَ لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسؤول عنه وغيره لأنه عليه
__________
(1) صحيح البخاري (توحيد باب 13) وصحيح مسلم (صيد حديث 1) .
(2) المزراق: رمح قصير.
(3) صحيح البخاري (شركة باب 3 و 16 ذبائح باب 15 و 18) وصحيح مسلم (أضاحي حديث 20) .(3/15)
السلام كان قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَمَا صَدَمَهُ الْكَلْبُ أَوْ غَمَّهُ بِثِقَلِهِ لَيْسَ مِمَّا أَنْهَرَ دَمَهُ، فَلَا يَحِلُّ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ مِنْ هذا القبيل بشيء، لأنهم إنما سألوه عن الآلة التي يذكى بها، ولم يسألوه عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُذَكَّى، وَلِهَذَا اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ حَيْثُ قَالَ: «لَيْسَ السِّنُّ والظفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى «1» الْحَبَشَةِ» وَالْمُسْتَثْنَى يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا، فدل على أن المسؤول عَنْهُ هُوَ الْآلَةُ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَا ذَكَرْتُمْ، فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْكِلُ عَلَيْكُمْ أَيْضًا، حَيْثُ يَقُولُ «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ» ، وَلَمْ يَقُلْ:
فَاذْبَحُوا بِهِ، فَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمَانِ مَعًا، يُؤْخَذُ حُكْمُ الْآلَةِ الَّتِي يُذَكَّى بِهَا، وَحُكْمُ الْمُذَكَّى وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِنْهَارِ دَمِهِ بِآلَةٍ لَيْسَتْ سِنًّا وَلَا ظُفُرًا، هَذَا مَسْلَكٌ.
وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي: طَرِيقَةُ الْمُزَنِّي، وَهِيَ أَنَّ السَّهْمَ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِيهِ بِأَنَّهُ إِنْ قَتَلَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ خَزَقَ فَكُلْ، وَالْكَلْبُ جَاءَ مُطْلَقًا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا قَيَّدَ هُنَاكَ مِنَ الْخَزْقِ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْمُوجَبِ وَهُوَ الصَّيْدُ فَيَجِبُ الْحَمْلُ هُنَا وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ كَمَا وَجَبَ حَمْلُ مُطْلَقِ الْإِعْتَاقِ فِي الظِّهَارِ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْإِيمَانِ فِي الْقَتْلِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، وَهَذَا يَتَوَجَّهُ لَهُ عَلَى مَنْ يَسْلَمُ لَهُ أَصْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَلَيْسَ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ قَاطِبَةً، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ جَوَابٍ عَنْ هَذَا، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ بِثِقَلِهِ، فَلَمْ يَحِلَّ قِيَاسًا عَلَى مَا قَتَلَهُ السَّهْمُ بِعَرْضِهِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آلَةٌ لِلصَّيْدِ، وَقَدْ مَاتَ بِثِقْلِهِ فِيهِمَا، وَلَا يُعَارَضُ ذَلِكَ بِعُمُومِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ، وَهَذَا مَسْلَكٌ حَسَنٌ أَيْضًا.
مَسْلَكٌ آخَرُ- وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ عَامٌّ فِيمَا قَتَلْنَ بِجُرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَكِنَّ هَذَا الْمَقْتُولَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَطِيحًا أَوْ فِي حُكْمِهِ، أَوْ مُنْخَنِقًا أَوْ فِي حُكْمِهِ، وأيا ما كان، فيجب تقديم هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الشَّارِعَ قَدِ اعْتَبَرَ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ حَالَةَ الصَّيْدِ حَيْثُ يَقُولُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَصَلَ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنِ الْوَقِيذَ مُعْتَبَرٌ حَالَةَ الصَّيْدِ، وَالنَّطِيحَ لَيْسَ مُعْتَبِرًا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ بِحِلِّ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ لَا قَائِلَ بِهِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. الثَّانِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ مَخْصُوصَةً بِمَا صِدْنَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَخَرَجَ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهَا الْحَيَوَانُ غَيْرُ الْمَأْكُولِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْعُمُومُ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِ الْمَحْفُوظِ.
الْمَسْلَكُ الْآخَرُ- أَنَّ هَذَا الصَّيْدَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ سواء، لأنه قد احتقن فيه الدماء
__________
(1) جمع مدية، وهي الشفرة الكبيرة.(3/16)
وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ، فَلَا تَحِلُّ قِيَاسًا عَلَى الْمِيتَةِ.
الْمَسْلَكُ الْآخَرُ- أَنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَى آخِرِهَا، مَحْكَمَةٌ لَمْ يَدْخُلْهَا نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ آيَةُ التَّحْلِيلِ مُحْكَمَةٌ، أَعْنِي قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4] ، فينبغي أن لا يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ أَصْلًا، وَتَكُونُ السُّنَّةُ جَاءَتْ لِبَيَانِ ذَلِكَ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ قِصَّةُ السَّهْمِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ حُكْمَ مَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وهو ما إذا خزقه «1» المزراق فَيَكُونُ حَلَالًا، لِأَنَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَمَا دَخَلَ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ، آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَا إِذَا أَصَابَهُ بِعَرْضٍ فَلَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّهُ وَقِيذٌ، فَيَكُونُ أَحَدَ أَفْرَادِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنَّ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا سَوَاءً إِنْ كَانَ قَدْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ آيَةِ التَّحْلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ بَلْ صَدَمَهُ أَوْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، فَهُوَ نَطِيحٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ، فَلَا يَكُونُ حَلَالًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا فَصَّلَ فِي حُكْمِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ إِنْ جَرَحَهُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَهُوَ حَرَامٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَلْبِ أَنْ يَقْتُلَ بِظُفُرِهِ أَوْ نَابِهِ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَأَمَّا اصْطِدَامُهُ هُوَ وَالصَّيْدُ فَنَادِرٌ، وَكَذَا قَتْلُهُ إِيَّاهُ بِثِقْلِهِ، فَلَمْ يُحْتَجَّ إِلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ لِنُدُورِهِ أَوْ لِظُهُورِ حُكْمِهِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ.
وَأَمَّا السَّهْمُ وَالْمِعْرَاضُ فَتَارَةً يُخْطِئُ لِسُوءِ رَمْيِ رَامِيهِ، أو للهو أو لنحو ذَلِكَ، بَلْ خَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ إِصَابَتِهِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ كُلًّا مِنْ حُكْمَيْهِ مُفَصِّلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُ مِنَ الصَّيْدِ ذَكَرَ حُكْمَ مَا إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ «إِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَهَذَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ «2»
، وَهُوَ أَيْضًا مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ آيَةِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ كَثِيرِينَ، فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ جرير في تفسيره عن علي وسعيد وَسَلْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الصَّيْدَ يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وَغَيْرُهُمْ: يُؤْكَلُ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بِضْعَةٌ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَأَوْمَأَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى قَوْلَيْنِ، قال ذلك الإمام أبو نصر بن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ «3» بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في
__________
(1) في بعض النسخ: «إذا خزقه المعراض» . وقد تقدم أن المزراق هو الرمح القصير. والمعراض خشبة ثقيلة أو عصا في طرفيها حديدة. وقد تكون بغير حديدة. والمراد بقوله: «خزقه» : إذا نفذ فيه. [.....]
(2) صحيح البخاري (ذبائح باب 8) وصحيح مسلم (صيد حديث 3) .
(3) سنن أبي داود (صيد باب 22) .(3/17)
صَيْدِ الْكَلْبِ «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَكُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ» وَرَوَاهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُوسَى هُوَ اللَّاحُونِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ هُوَ الطَّاحِيُّ عَنْ أَبِي إِيَاسٍ وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، عن سعيد بن المسيب، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فيأكل مَا بَقِيَ» ثُمَّ إِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَلْمَانَ مَوْقُوفًا.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدَّمُوا حَدِيثَ عَدِيٍّ عَلَى ذَلِكَ، وَرَامُوا تَضْعِيفَ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ بَعْدَ مَا انتظر صاحبه فطال عليه الفصل ولم يجيء، فَأَكَلَ مِنْهُ لِجُوعِهِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَخْشَى أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَكَلَ مِنْهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْجَوَارِحُ من الطيور فنص الشافعي على أنها كالكلب، فَيَحْرُمُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَحْرُمُ عِنْدَ الْآخَرِينَ، وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ أَكْلُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ الطُّيُورُ وَالْجَوَارِحُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهَا كَمَا يُعَلَّمُ الْكَلْبُ بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تُعَلَّمُ إِلَّا بِأَكْلِهَا مِنَ الصَّيْدِ فَيُعْفَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالنَّصُّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْكَلْبِ لَا فِي الطَّيْرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ فِي «الْإِفْصَاحِ» : إِذَا قُلْنَا: يَحْرُمُ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، فَفِي تَحْرِيمِ مَا أَكَلَ مِنْهُ الطَّيْرُ وَجْهَانِ، وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا التَّفْرِيعَ وَالتَّرْتِيبَ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمُتَرَدِّيَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ، فَتَمُوتُ بِذَلِكَ، فَلَا تَحِلُّ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُتَرَدِّيَةُ الَّتِي تَسْقُطُ مِنْ جَبَلٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ تَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ «1» .
وَأَمَّا النَّطِيحَةُ: فَهِيَ الَّتِي مَاتَتْ بِسَبَبِ نَطْحَ غَيْرِهَا لَهَا، فَهِيَ حَرَامٌ وَإِنْ جَرَحَهَا الْقَرْنُ وَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا، وَالنَّطِيحَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ، أَيْ مَنْطُوحَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا تَرِدُ هَذِهِ الْبِنْيَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بدون تاء التأنيث، فيقولون: عين كحيل، وكف خضيب، وَلَا يَقُولُونَ: كَفُّ خَضِيبَةٍ، وَلَا عَيْنُ كَحِيلَةٍ، وَأَمَّا هَذِهِ فَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: إِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيهَا تَاءَ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: طَرِيقَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُتِيَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهَا لِتَدُلَّ عَلَى التَّأْنِيثِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ بِخِلَافِ عَيْنٍ «كَحِيلٍ وَكَفٍّ خَضِيبٍ لِأَنَّ التَّأْنِيثَ مُسْتَفَادٌ مِنْ أَوَّلِ الكلام «2» .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 4/ 409.
(2) قال بعض نحويي الكوفة: أدخلت الهاء في «النطيحة» لأنها صفة المؤنث لموصوف محذوف. فلو أسقطت منها لم يعرف أهي صفة مؤنث أو مذكر. قال أبو جعفر الطبري: وهذا القول هو أولى بالصواب. (تفسير الطبري 4/ 410) .(3/18)
وقوله تعالى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ أَيْ مَا عَدَا عَلَيْهَا أَسَدٌ أَوْ فَهْدٌ أَوْ نَمِرٌ أَوْ ذِئْبٌ أَوْ كَلْبٌ، فَأَكَلَ بَعْضَهَا فَمَاتَتْ بِذَلِكَ، فَهِيَ حرام وإن كان قد سال منها الدم وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا، فَلَا تَحِلُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ مَا أَفْضَلَ السَّبُعُ من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذَلِكَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ عَلَيْهِ مِمَّا انْعَقَدَ سَبَبُ مَوْتِهِ، فَأَمْكَنَ تَدَارَكُهُ بِذَكَاةٍ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يَقُولُ: إِلَّا مَا ذَبَحْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَفِيهِ رُوحٌ فَكُلُوهُ، فَهُوَ ذَكِيٌّ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ علي في الآية قَالَ: إِنْ مَصَعَتْ «1» بِذَنَبِهَا أَوْ رَكَضَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا، فَكُلْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا هَشِيمٌ وَعَبَّادٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا أَدْرَكْتَ ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ، وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَكُلْهَا.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ: أَنَّ الْمُذَكَّاةَ مَتَى تَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيهَا بَعْدَ الذَّبْحِ، فَهِيَ حَلَالٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل. قال ابْنُ وَهْبٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الشَّاةِ الَّتِي يَخْرِقُ جَوْفَهَا السَّبُعُ حَتَّى تَخْرُجَ أَمْعَاؤُهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ تُذَكِّي، أَيَّ شَيْءٍ يُذَكَّى مِنْهَا؟ وَقَالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الضَّبُعِ يَعْدُو عَلَى الْكَبْشِ فَيَدُقُّ ظَهْرَهُ، أَتُرَى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ فقال: إِنْ كَانَ قَدْ بَلَّغَ السُّحْرَةَ «3» فَلَا أَرَى أَنْ يُؤْكَلَ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَ أَطْرَافَهُ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، قِيلَ لَهُ: وَثَبَ عَلَيْهِ فَدَقَّ ظَهْرَهُ؟ فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي هَذَا لَا يَعِيشُ مِنْهُ. قِيلَ لَهُ: فَالذِّئْبُ يَعْدُو عَلَى الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الْأَمْعَاءَ؟ فَقَالَ: إِذَا شَقَّ بَطْنَهَا فَلَا أَرَى أَنْ تُؤْكَلَ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَامٌّ فِيمَا اسْتَثْنَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي بَلَغَ الْحَيَوَانُ فِيهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَعِيشُ بَعْدَهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُخَصَّصٍ لِلْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ، ليس السن
__________
(1) مصعت بذنبها: حركته.
(2) تفسير الطبري 4/ 411.
(3) السحرة: القلب.(3/19)
والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» «1» . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رواه الدارقطني مَرْفُوعًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَهُوَ أَصَحُّ «أَلَا إِنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ» . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْعَشْرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا مِنَ اللَّبَّةِ وَالْحَلْقِ؟ فَقَالَ «لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخْذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ» «2» ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ على ما لا يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ «3» .
وَقَوْلُهُ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ النُّصُبُ حِجَارَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ، قَالَ ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصبا، كانت الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَنْضَحُونَ مَا أَقْبَلَ مِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ بِدِمَاءِ تِلْكَ الذَّبَائِحِ، وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى النُّصُبِ «4» ، وَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ هَذِهِ الذَّبَائِحِ الَّتِي فُعِلَتْ عِنْدَ النُّصُبِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ يُذْكَرُ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ فِي الذَّبْحِ عِنْدَ النُّصُبِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أَيْ حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ، وَاحِدُهَا زُلَمٌ وَقَدْ تَفْتَحُ الزَّايُ، فَيُقَالُ: زَلَمٌ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَتَعَاطَوْنَ ذَلِكَ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ، عَلَى أَحَدِهَا مَكْتُوبٌ: أَفْعَلُ، وَعَلَى الْآخَرِ: لَا تَفْعَلْ، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَكْتُوبٌ عَلَى الْوَاحِدِ: أَمَرَنِي رَبِّي، وَعَلَى الْآخَرِ: نَهَانِي رَبِّي، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، وَالِاسْتِقْسَامُ مَأْخُوذٌ مِنْ طَلَبِ الْقِسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَزْلَامِ، هَكَذَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ: وَالْأَزْلَامُ قِدَاحٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْأُمُورِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ. وَقَالَ ابن عباس: هي قداح كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا الْأُمُورَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ صَنَمٌ كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه، وكان عِنْدَهُ سَبْعَةُ أَزْلَامٍ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَا يَتَحَاكَمُونَ فِيهِ مِمَّا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ، فَمَا خَرَجَ لَهُمْ منها رجعوا إليه ولم
__________
(1) صحيح البخاري (ذبائح باب 15 و 18) وصحيح مسلم (أضاحي حديث 20) .
(2) مسند أحمد 4/ 334 وسنن أبي داود (أضاحي باب 15) .
(3) قال أبو داود: وهذا لا يصلح إلا في المتردية والمتوحش.
(4) عند مجاهد وابن جريج انظر تفسير الطبري 4/ 415.(3/20)
يعدلوا عنه.
وثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ، وَجَدَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ مُصَوَّرَيْنِ فِيهَا، وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ فَقَالَ «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا أَبَدًا» «1» .
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، لَمَّا خَرَجَ فِي طَلَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَهُمَا ذَاهِبَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرَيْنِ، قَالَ: فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ، هَلْ أَضُرُّهُمْ أم لا؟ فخرج الذي أكره لا يضرهم. قَالَ: فَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ وَأَتْبَعْتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَقْسَمَ بِهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، كُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الَّذِي يكره لا يضرهم، وَكَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ سُرَاقَةُ لَمْ يُسلِمْ إِذْ ذَاكَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ «2» .
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رقية، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَنْ يَلِجَ الدَّرَجَاتِ مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ طَائِرًا» «3» .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ: هِيَ سِهَامُ الْعَرَبِ، وَكِعَابُ فَارِسٍ وَالرُّومِ، كَانُوا يَتَقَامَرُونَ بِهَا «4» . وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْأَزْلَامِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْقِمَارِ، فِيهِ نَظَرٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الِاسْتِخَارَةِ تَارَةً وَفِي الْقِمَارِ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّ الله سبحانه قد قرن بينها وَبَيْنَ الْقِمَارِ وَهُوَ الْمَيْسِرُ فَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ- إلى قوله- مُنْتَهُونَ. وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وَجَهَالَةٌ وَشِرْكٌ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَرَدَّدُوا فِي أُمُورِهِمْ أَنْ يَسْتَخِيرُوهُ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ ثُمَّ يَسْأَلُوهُ الْخِيَرَةَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ. كما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَقُولُ «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر- ويسميه باسمه- خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال:
__________
(1) صحيح البخاري (حج باب 54 ومغازي باب 48) .
(2) مسند أحمد 4/ 175- 176.
(3) في الدر المنثور للسيوطي 2/ 455: «لن يلج الدرجات العلى مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سفر تطيرا» . قال: وأخرجه الطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء. [.....]
(4) تفسير الطبري 4/ 416.(3/21)
«عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» لَفْظُ أَحْمَدَ «1» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أبي الموالي.
وقوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: يَعْنِي يَئِسُوا أَنْ يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ «2» ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرِدُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» «3» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تَمَيَّزَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ للشرك وأهله، ولهذا قال تعالى آمرا لعباده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصْبِرُوا وَيَثْبُتُوا فِي مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَلَا يَخَافُوا أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، فَقَالَ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أي لا تخافوهم فِي مُخَالَفَتِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَاخْشَوْنِي أَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَأُبِيدَهُمْ، وَأُظْفِرْكُمْ بِهِمْ، وَأَشِفِ صُدُورَكُمْ مِنْهُمْ، وَأَجْعَلْكُمْ فَوْقَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً هذه أكبر نعم الله تعالى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَكْمَلَ تَعَالَى لَهُمْ دِينَهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِينِ غَيْرِهِ، وَلَا إِلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه، ولهذا جعله الله تعالى خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعَثَهُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا خُلْفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَامِ: 115] أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَلَمَّا أَكْمَلَ لهم الدين، تمت عليهم النعمة، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أَيْ فَارْضَوْهُ أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ الدِّينُ الَّذِي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «4» قَوْلَهُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين أنه قد أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أبدا، وقد
__________
(1) مسند أحمد 3/ 344.
(2) في تفسير الطبري 4/ 418 من حديث عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «يعني يئسوا أن ترجعوا إلى دينهم أبدا» .
(3) صحيح مسلم (منافقين حديث 5) . وقوله: «ولكن بالتحريش بينهم» يريد أن الشيطان لم ييأس من إغوائهم وحملهم على الفتن.
(4) تفسير الطبري 4/ 419.(3/22)
أَتَمَّهُ اللَّهُ فَلَا يَنْقُصُهُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ اللَّهُ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا. وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السدي «1» : نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم يُنَزَّلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَ قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْحَجَّةَ فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ تَجَلَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَمَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرَّاحِلَةِ، فَلَمْ تُطِقِ الرَّاحِلَةُ مِنْ ثِقَلِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَبَرَكَتْ، فَأَتَيْتُهُ فَسَجَّيْتُ عَلَيْهِ بردا كان علي.
وقال ابن جرير وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَذَلِكَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا يُبْكِيكَ؟» قَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فأما إذا أُكْمِلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقُصَ، فَقَالَ «صَدَقْتَ» «2» .
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الثَّابِتُ «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المؤمنين، إنكم تقرؤون آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟
قَالَ: قَوْلُهُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ بِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أيضا مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ طَارِقٍ قال: قالت اليهود لعمر: والله إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لَاتَّخَذَنَاهَا عِيدًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حِينَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أُنْزِلَتْ: يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَنَا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ، كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الْآيَةَ «4» .
وَشَكَّ سُفْيَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ فِي الرِّوَايَةِ، فَهُوَ تَوَرُّعٌ حَيْثُ شَكَّ هَلْ أخبره شيخه بذلك أم
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر نفسه.
(3) مسند أحمد 1/ 28.
(4) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب 1) .(3/23)
لَا، وَإِنْ كَانَ شَكًّا فِي كَوْنِ الْوُقُوفِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَهَذَا مَا إِخَالُهُ يَصْدُرُ عَنِ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ، وَلَا مِنَ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يُشَكُّ فِي صِحَّتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عُمَرَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرْنَا رَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرْنَا عِبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ، أَخْبَرْنَا أَمِيرُنَا إِسْحَاقُ، قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بن جرير وهو إسحاق بن حرشة عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب، قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: لَوْ أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ، لَنَظَرُوا الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَاتَّخَذُوهُ عِيدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ آيَةٍ يَا كَعْبُ؟ فَقَالَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: قد علمت اليوم الذي أنزلت، وَالْمَكَانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ: نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الجمعة وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَكَلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ.
وقال ابن جرير «2» : حدثنا أبو بكر، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارٍ هُوَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَقَالَ يَهُودِيٌّ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا، لَاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ: يَوْمَ عِيدٍ، وَيَوْمَ جُمُعَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ إسماعيل بن سليمان، عن أبي عمر البزار، عن ابن الحنيفة، عن علي قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَنْتَزِعُ «4» بِهَذِهِ الْآيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن عمرو بن موسى بن دحية، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يَوْمَ عَرَفَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ على الموقف.
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 422.
(2) المصدر السابق.
(3) تفسير الطبري 4/ 423.
(4) انتزع بالآية: تمثّل بها.(3/24)
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشِ بْنِ عَبْدِ الله الصغاني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلِدَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى الله عليه وسلم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، ودخل المدينة يوم الاثنين، وفتح بدرا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَأُنْزِلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ- الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وَرَفْعُ الذِّكْرِ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ. فَإِنَّهُ أَثَرٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عن حنش الصغاني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَوَضَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْمَائِدَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ، كَمَا تقدم فاشتبه على الراوي، والله أعلم.
وقال ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ النَّاسِ، ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ النَّاسِ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ مردويه من طريق أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: إِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ حِينَ قَالَ لَعَلِيٍّ «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» . ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ أَنَّهُ الْيَوْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَعْنِي مَرْجِعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا وَلَا هَذَا بَلِ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَوَّلُ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وأرسله الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَمَنِ احْتَاجَ إِلَى تَنَاوُلِ شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ حَاجَةَ عَبْدِهِ الْمُضْطَرِّ وَافْتِقَارَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَيَتَجَاوَزُ عَنْهُ، وَيَغْفِرُ لَهُ، وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ ابْنِ حبان عن ابن عمر مرفوعا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصَتُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» لَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ «مَنْ لَمْ يَقْبَلْ
__________
(1) مسند أحمد 1/ 277. [.....]
(2) تفسير الطبري 4/ 423- 424.(3/25)
رُخْصَةَ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ جِبَالِ عَرَفَةَ» »
وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: قَدْ يَكُونُ تَنَاوَلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَهُوَ ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبا، وقد يَكُونُ مُبَاحًا بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، أَوْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ أَوْ يَشْبَعُ وَيَتَزَوَّدُ؟ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَفِيمَا إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ أَوْ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمَيْتَةَ أَوْ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ أَوْ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَيَضْمَنُ بَدَلَهُ، عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَيْسَ مِنْ شِرْطِ جَوَازِ تَنَاوَلِ الْمَيْتَةِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ طَعَامًا كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ مَتَى اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ، فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا بِهَا الْمَيْتَةُ؟ فَقَالَ «إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا، وَلَمْ تحتفئوا بها بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا» «3» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ وَاصِلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيِّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ، لَكِنْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانٍ، عَنْ مَرْثَدٍ أَوْ أَبِي مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ حَسَّانٍ، عَنْ رَجُلٍ قَدْ سُمِّيَ لَهُ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ هَنَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانٍ مُرْسَلًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ ابن عَوْنٍ، قَالَ: وَجَدْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ كِتَابَ سَمُرَةَ فقرأته عليه، فكان فيه: ويجزئ مِنَ الِاضْطِرَارِ غَبُوقٌ أَوْ صُبُوحٌ.
حَدَّثَنَا «5» أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْخَصِيبِ بْنِ زَيْدٍ التَّمِيمِيِّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم فقال: متى «6» يحل الْحَرَامُ؟ قَالَ: فَقَالَ «إِلَى مَتَى يَرْوَى أَهْلُكَ مِنَ اللَّبَنِ أَوْ تَجِيءُ مِيرَتُهُمْ» . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، حدثني عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ جَدِّهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَدَّتِهِ «7» : أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يستفتيه في
__________
(1) مسند أحمد 2/ 71.
(2) مسند أحمد 5/ 218.
(3) الاصطباح: أكل الصباح وهو الغداء. والاغتباق: أكل الغبوق وهو العشاء. واحتفأ البقل: اقتلعه ورمى به.
(4) تفسير الطبري 4/ 427.
(5) الرواية للطبري في تفسيره 4/ 426.
(6) في الطبري: «إلى متى يحلّ لي الحرام؟» .
(7) في الطبري: «عمن حدثه» .(3/26)
الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي أَحَلَّ لَهُ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «يحل لك الطيبات، ويحرم عَلَيْكَ الْخَبَائِثُ، إِلَّا أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى طَعَامٍ لَكَ، فَتَأْكُلَ مِنْهُ حَتَّى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ» . فَقَالَ الرَّجُلُ: وَمَا فَقْرِي الَّذِي يُحِلُّ لِي وَمَا غنائي الَّذِي يُغْنِينِي عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم «إذا كنت ترجو غناء تَطْلُبُهُ فَتَبْلُغُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَطْعِمْ أَهْلَكَ مَا بَدَا لَكَ حَتَّى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ» فَقَالَ الأعرابي: ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَرُوِيَتْ أَهْلُكَ غَبُوقًا مِنَ اللَّيْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عليك من طعام مالك، فإنه ميسور كله فليس فِيهِ حَرَامٌ» .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ «مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا» يَعْنِي بِهِ الْغَدَاءَ «وَمَا لَمْ تَغْتَبِقُوا» يَعْنِي به العشاء «أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها» فَكُلُوا مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : يُرْوَى هَذَا الحرف، يعني قوله «أو تحتفئوا» على أربعة أوجه: تحتفئوا بِالْهَمْزَةِ، وَتَحْتَفِيُوا: بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَتَحْتَفُوا بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَتَحْتَفُوا بِالْحَاءِ وَبِالتَّخْفِيفِ، وَيُحْتَمَلُ الْهَمْزُ، كَذَا رواه فِي التَّفْسِيرِ.
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ أَبُو دَاوُدَ «2» : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بن دكين، حدثنا وَهْبِ بْنِ عُقْبَةَ الْعَامِرِيُّ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عن النجيع الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
مَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الميتة؟ قال «ما طعامكم» ؟ قلنا: نصطبح ونغتبق. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ، قَدَحُ غُدْوَةٍ وَقَدَحُ عَشِيَّةٍ، قَالَ: ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ، وَأُحِلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَبِحُونَ وَيَغْتَبِقُونَ شَيْئًا لَا يَكْفِيهِمْ، فَأَحلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ لِتَمَامِ كِفَايَتِهِمْ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الشِّبَعِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِسَدِّ الرَّمَقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ أَبُو دَاوُدَ «3» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ عَنْ جَابِرِ عن سَمُرَةَ: أَنْ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وولده، فقال له رجل: إن ناقتي ضَلَّتْ، فَإِنْ وَجَدْتَهَا فَأَمْسِكْهَا، فَوَجَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ صاحبها، فمرضت، فقالت له امْرَأَتُهُ: انْحَرْهَا فَأَبَى، فَنَفَقَتْ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال: لا حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ «فَكُلُوهَا» قَالَ: فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ نَحَرْتَهَا؟ قَالَ اسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ، تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَكْلَ وَالشِّبَعَ وَالتَّزَوُّدُ مِنْهَا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهَا وَاللَّهُ أعلم.
وقوله: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي مُتَعَاطٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُ وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 427.
(2) سنن أبي داود (أطعمة باب 36) .
(3) المصدر السابق.(3/27)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
[المائدة: 173] وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَتَرَخَّصُ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، لِأَنَّ الرُّخَصَ لَا تَنَالُ بِالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ لِمُتَنَاوِلِهَا إِمَّا فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي دِينِهِ أَوْ فِيهِمَا، وَاسْتَثْنَى مَا اسْتَثْنَاهُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كما قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119] قال بعدها يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ كما فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، ويحرم عليهم الخبائث، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطَّائِيَّيْنِ، سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَنَزَلَتْ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال سعيد: يَعْنِي الذَّبَائِحَ الْحَلَالَ الطَّيِّبَةَ لَهُمْ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ: الطيبات مَا أُحِلَّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يُصِيبُوهُ وَهُوَ الْحَلَالُ مِنَ الرِّزْقِ، وَقَدْ سُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ شُرْبِ الْبَوْلِ لِلتَّدَاوِي فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ بَيْعِ الطير الَّذِي يَأْكُلُهُ النَّاسُ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الذَّبَائِحُ الَّتِي ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ، وَأُحِلَّ لكم ما صدتموه بالجوارح، وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَهُنَّ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ، وَالْبَازِي، وَكُلُّ طَيْرٍ يُعَلَّمُ لِلصَّيْدِ وَالْجَوَارِحُ، يَعْنِي الْكِلَابَ الضَّوَارِي وَالْفُهُودَ وَالصُّقُورَ وَأَشْبَاهَهَا «1» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عن خيثمة وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: الْبَازُ وَالصَّقْرُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مَثَلُهُ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أنه كره صيد الطير كله، وقرأ قوله وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ والسُّدِّيِّ، ثُمَّ قَالَ «2» : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَمَّا مَا صَادَ مِنَ الطَّيْرِ الْبُزَاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّيْرِ، فَمَا أَدْرَكْتَ فَهُوَ لَكَ وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ.
قُلْتُ: وَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ إن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنها تكلب الصيد
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 429.
(2) تفسير الطبري 4/ 430.(3/28)
بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق، وهو مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ هَنَّادٍ «1» ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مَجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن صَيْدِ الْبَازِي فَقَالَ: «مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ» وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِمَّا يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» «2» .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ، اقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدٍ بَهِيمٍ» «3» وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي يُصْطَادُ بِهِنَّ جَوَارِحَ مِنَ الْجُرْحِ، وَهُوَ الْكَسْبُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ جَرَحَ أَهْلَهُ خَيْرًا، أَيْ كَسَبَهُمْ خَيْرًا، وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ لَا جَارِحَ لَهُ أَيْ لا كاسب له، وقال الله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: 60] أَيْ مَا كَسَبْتُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي سبب نزول هذه الآية الشريفة الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ، حدثنا زيد بن حباب، حدثني يونس بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَلْمَى أَمِّ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقلت: فَجَاءَ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت، فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ الْآيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كلبه وسمى، فأمسك عليه، فيأكل مَا لَمْ يَأْكُلْ» وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: «قَدْ أَذِنَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
أَجَلْ وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ» قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا، فَتَرَكْتُهُ رَحْمَةً لَهَا، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاؤوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لَنَا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأنزل الله عز وجل يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ به، وقال:
__________
(1) المصدر السابق. [.....]
(2) صحيح مسلم (صلاة حديث 265) .
(3) سنن أبي داود (أضاحي باب 21) وصحيح مسلم (مساقاة حديث 47) ومسند أحمد 3/ 333 وسنن الترمذي (صيد باب 16 و 17) .
(4) تفسير الطبري 4/ 428.(3/29)
صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ فِي قتل الكلاب حتى بلغ العوالي، فجاء عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: مَاذَا أُحِلَّ لَنَا يَا رسول الله؟ فنزلت الْآيَةَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ عكرمة، وكذا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهُ فِي قَتْلِ الْكِلَابِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْجَوَارِحُ، أَيْ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ فِي حَالِ كَوْنِهِنَّ مُكَلَّبَاتٍ لِلصَّيْدِ، وَذَلِكَ أن تقتنصه بِمَخَالِبِهَا أَوْ أَظْفَارِهَا، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه وظفره، أنه لا يحل له، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُ اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا أَشْلَاهُ اسْتَشْلَى «2» ، وَإِذَا أَخَذَ الصَّيْدَ أُمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِيءَ إِلَيْهِ، وَلَا يُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فمتى كان الجارح مُعَلَّمًا وَأَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ اسم الله عليه وقت إِرْسَالِهِ، حَلَّ الصَّيْدُ وَإِنْ قَتَلَهُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِمِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول اللَّهِ، إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ! فَقَالَ «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» . قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ «وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ على كلبك ولم تسم على غيره فأصيب» قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ؟ فَقَالَ: إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضٍ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ» وَفِي لفظ لهما «وإذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا، فَاذْبَحْهُ وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» «3» فَهَذَا دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَحْرُمُ مُطْلَقًا.
ذِكْرُ الْآثَارِ بِذَلِكَ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب،
__________
(1) المصدر السابق.
(2) أي إذا استدعاه إليه تداعى.
(3) صحيح مسلم (صيد حديث 1 و 5) وصحيح البخاري (ذبائح باب 2 و 90) .
(4) تفسير الطبري 4/ 434.(3/30)
قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كُلْ وَإِنْ أَكَلَ ثُلْثَيْهِ- يَعْنِي الصَّيْدَ- إِذَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَلْمَانَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ حميد، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، وَالْقَاسِمِ بن سَلْمَانَ قَالَ: إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ ثُلْثَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، أخبرني مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمَيْدِ بن مالك بن خيثم الدُّؤَلِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الصَّيْدِ يَأْكُلُ مِنْهُ الْكَلْبُ، فَقَالَ: كُلْ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا حِذْيَةٌ، يَعْنِي بِضْعَةٌ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كُلْ وَإِنْ أَكَلَ ثُلْثَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: إذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَأَكَلَ مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَ ثُلْثَيْهِ وبقي ثلثه فكله. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعلى، حدثنا المعتمر قال: سمعت عبد اللَّهِ، وَحَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ، أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ، فَهَذِهِ الْآثَارُ ثَابِتَةٌ عَنْ سَلْمَانَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَرْفُوعًا، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُوسَى اللاجوني، حدثنا محمد بن دينار وهو الطاجي عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَأَدْرَكَهُ وَقَدْ أَكَلَ مِنْهُ فَلْيَأْكُلْ مَا بَقِيَ» ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَسَعِيدٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ سَلْمَانَ، وَالثِّقَاتُ يَرْوُونَهُ مِنْ كَلَامِ سَلْمَانَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ صَحِيحٌ، لَكِنْ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً، فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ كَانَ لَكَ كِلَابٌ مُكَلَّبَةٌ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 435.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر نفسه.
(4) تفسير الطبري 4/ 436.(3/31)
عليك» فقال: ذكيا وغير ذكي، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ «نَعَمْ وَإِنْ أَكَلَ منه» فقال: يا رسول الله أفتني في قوسي، قال «كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ» قَالَ: ذَكِيًّا وغير ذكي؟ «وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أَوْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ غَيْرِ سَهْمِكَ» قَالَ: أَفْتِنِي فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ إِذَا اضُّطُرِرْنَا إِلَيْهَا، قَالَ «اغْسِلْهَا وَكُلْ فِيهَا» هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «1» ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو داود من طريق يونس «2» بن سيف، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، وَكُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ» وَهَذَانَ إِسْنَادَانِ جَيِّدَانِ.
وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَدِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا كَانَ مِنْ كَلْبٍ ضَارٍّ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ» قُلْتُ: وَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ «نَعَمْ» . وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشعبي، عن عدي بمثله، فهذه آثار دالة على أنه يغتفر، وإن أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمِ الصَّيْدَ بِأَكْلِ الْكَلْبِ وَمَا أَشْبَهَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عَمَّنْ حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ تَوَسَّطَ آخَرُونَ فَقَالُوا: إِنْ أَكَلَ عَقِبَ مَا أَمْسَكَهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ لِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَلِلْعِلَّةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَأَمَّا إِنْ أُمْسَكَهُ ثُمَّ انْتَظَرَ صَاحِبَهُ فَطَالَ عَلَيْهِ وَجَاعَ فأكل منه لِجُوعِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّحْرِيمِ وَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ. وَهَذَا تَفْرِيقٌ حَسَنٌ، وَجَمْعٌ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ.
وَقَدْ تَمَنَّى الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ «النِّهَايَةِ» أَنْ لَوْ فَصَّلَ مُفَصِّلٌ هَذَا التَّفْصِيلَ وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ أُمْنِيَّتَهُ، وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَالتَّفْرِيقِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ قَوْلًا رَابِعًا فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَكْلِ الْكَلْبِ فَيَحْرُمُ لِحَدِيثِ عَدِيٍّ، وَبَيْنَ أَكْلِ الصُّقُورِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ إِلَّا بِالْأَكْلِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الطَّيْرِ: إِذَا أَرْسَلْتَهُ فَقَتَلَ فَكُلْ، فَإِنَّ الْكَلْبَ إِذَا ضَرَّبْتَهُ لَمْ يَعْدُ وَإِنْ تَعَلَّمَ الطَّيْرُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ يَضْرِبُ، فَإِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ وَنَتَفَ الرِّيشَ فَكُلْ، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
وَقَدْ يُحْتَجُّ لِهَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا مجالد عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نصيد بالكلاب والبزاة، فما
__________
(1) سنن أبي داود (صيد باب 22) .
(2) ما يأتي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخولاني. وفي نفس الباب رواية من طريق يونس بن سيف.
(3) تفسير الطبري 4/ 433. [.....](3/32)
يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ «يَحِلُّ لَكُمْ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ثُمَّ قَالَ «مَا أَرْسَلْتَ مِنْ كَلْبٍ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ «وَإِنْ قَتَلَ مَا لَمْ يَأْكُلْ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ خَالَطَتْ كِلَابُنَا كِلَابًا غَيْرَهَا؟ قَالَ «فَلَا تَأْكُلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ كَلْبَكَ هُوَ الَّذِي أَمْسَكَ» . قَالَ: قُلْتُ:
إِنَّا قَوْمٌ نَرْمِي فَمَا يَحِلُّ لَنَا؟ قَالَ «مَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَخَزَقْتَ فَكُلْ» . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ لَهُمْ أنه اشترط في الكلب أن لا يَأْكُلَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْبُزَاةِ، فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَكَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي عند إرساله له كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَإِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ» وَلِهَذَا اشترط من اشترط من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ، وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ، لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ كَمَا قال السدي وَغَيْرِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ: إِذَا أَرْسَلْتَ جَارِحَكَ فَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِنْ نَسِيتَ فَلَا حَرَجَ «1» ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ:
الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الأكل، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَبِيبَهُ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» «2» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ بلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ «سَمُّوا اللَّهَ أَنْتُمْ وَكُلُوا» «3» .
حَدِيثٌ آخَرُ- وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ بُدَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَكَرَ اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم طعاما فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسم الله في أوله، فليقل: بسم اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، عن يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَعَائِشَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ بِدَلِيلِ ما رواه الإمام
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 439.
(2) صحيح البخاري (أطعمة باب 2) وصحيح مسلم (أشربة حديث 108) .
(3) صحيح البخاري (توحيد باب 13) .
(4) مسند أحمد 6/ 143.(3/33)
أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرْنَا هِشَامٌ يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيَّ، عَنْ بُدَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُلْثُومٍ حَدَّثَتْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي ستة نفر مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ جَائِعٌ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ «أَمَا إِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ لَكَفَاكُمْ، فَإِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ بسم الله أوله وآخره» رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ- وَقَالَ أَحْمَدُ»
: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ صُبْحٍ، حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُزَاعِيُّ وَصَحِبْتُهُ إِلَى وَاسِطٍ، فَكَانَ يُسَمِّي فِي أَوَّلِ طَعَامِهِ، وَفِي آخِرِ لُقْمَةٍ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ تُسَمِّي فِي أَوَّلِ مَا تَأْكُلُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ فِي آخِرِ مَا تأكل بسم الله أوله وآخره، فقال: أخبرك إِنَّ جَدِّي أُمِّيَّةَ بْنَ مُخَشَّى وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ وَالنَّبِيُّ يَنْظُرُ فلم يسم حتى كان آخر طعامه لقمة، قال: بسم اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَاللَّهِ مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ حَتَّى سَمَّى، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فِي بَطْنِهِ حَتَّى قَاءَهُ» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «3» وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ صُبْحٍ الرَّاسِبِيِّ أَبِي بِشْرٍ الْبَصْرِيِّ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ:
لَا تَقُومُ بِهِ حجة.
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ- قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ صُهَيْبٍ- مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قال: كنا إذا حضرنا مع النبي عَلَى طَعَامٍ لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رسول الله فَيَضَعُ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّمَا تُدْفَعُ فَذَهَبَتْ تَضَعُ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا، وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَذَهَبَ يَضَعُ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكِرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، وَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بيده إن يده في يدي مع يديهما» يَعْنِي الشَّيْطَانَ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ- رَوَى مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ، إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بيته فذكر الله عند دخوله وعند
__________
(1) مسند أحمد 6/ 265.
(2) مسند أحمد 4/ 336.
(3) سنن أبي داود (أطعمة باب 15) .
(4) مسند أحمد 5/ 382- 383.(3/34)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عشاء، وإذا دخل ولم يُذْكَرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ «1» .
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ. قَالَ «فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ الوليد بن مسلم.
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الْخَبَائِثِ وَمَا أَحَلَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. قَالَ بَعْدَهُ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَالَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو أُمَامَةَ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، والسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ، وَإِنِ اعْتَقَدُوا فِيهِ تعالى ما هو منزه عنه، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ عبد الله بن مغفل، قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا، وَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبتسم «3» ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَنَاوُلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي مَنْعِهِمْ أَكْلَ مَا يَعْتَقِدُ الْيَهُودُ تَحْرِيمَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، كَالشُّحُومِ وَنَحْوِهَا مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِمْ، فَالْمَالِكِيَّةُ لَا يُجَوِّزُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَكْلَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِمُ الْجُمْهُورُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَضِيَّةُ عين، ويحتمل أن يكون شَحْمًا، يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ كَشَحْمِ الظَّهْرِ وَالْحَوَايَا وَنَحْوِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَجْوَدُ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ، مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ أَهْدَوْا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ
__________
(1) سنن أبي داود (أطعمة باب 15) .
(2) مسند أحمد 3/ 501.
(3) سنن أبي داود (جهاد باب 127) ولفظه: «أدلي بجراب ... يبتسم إليّ» .(3/35)
مَصْلِيَّةً «1» ، وَقَدْ سَمُّوا ذِرَاعَهَا وَكَانَ يُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ، فَتَنَاوَلَهُ فَنَهَشَ مِنْهُ نَهْشَةً فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ أَنَّهُ مسموم فلفظه، وأثر ذلك فِي ثَنَايَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أبْهَرِهِ، وَأَكَلَ مَعَهُ مِنْهَا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَمَاتَ فَقَتَلَ الْيَهُودِيَّةَ الَّتِي سَمَّتْهَا، وَكَانَ اسْمُهَا زَيْنَبَ، فَقُتِلَتْ بِبِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ «2» .
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى أَكْلِهَا وَمَنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ هَلْ نَزَعُوا مِنْهَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ مِنْ شَحْمِهَا أَمْ لَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ، عَلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، يَعْنِي وَدَكًا «3» زَنِخًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرِئَ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنِي النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 121] ثُمَّ نسخه الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَحِمَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فَنَسَخَهَا بِذَلِكَ، وَأَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَكْحُولٌ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَتِهِ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِبَاحَةُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ، وَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُبِحْ ذَبَائِحَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، ومن شابههم، لأنهم لا يذكرون اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، بَلْ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ فِيمَا يَأْكُلُونَهُ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى ذَكَاةٍ، بَلْ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ من السامرة والصابئة ومن يتمسك بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ وَنَصَارَى الْعَرَبِ، كَبَنِي تَغْلِبَ وتنوخ وبهرا وَجُذَامٍ وَلَخْمٍ وَعَامِلَةَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، لَا تُؤْكَلُ ذبائحهم عند الجمهور.
وقال أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ.
وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ، أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا، بِذَبِيحَةِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ تَبَعًا وَإِلْحَاقًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْكَلْبِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَاشْتَهَرَ عَنْهُ، أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَبُو ثَوْرٍ كَاسْمِهِ، يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ حَدِيثٍ رُوِيَ مرسلا
__________
(1) أي مشوبة.
(2) سنن أبي داود (ديات باب 6) وسنن الدارمي (مقدمة باب 11) وصحيح مسلم (سلام حديث 45) .
(3) الودك: دسم الدهن. والإهالة: كل شيء يؤتدم به. والسنخة: المتغيّرة الريح. [.....]
(4) تفسير الطبري 4/ 441.(3/36)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «سُنُّوًا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» «1» وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ، فَعُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عَلَى أَنَّ طَعَامَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، لَا يَحِلُّ.
وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ وَيَحِلُّ لَكُمْ أَنَّ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْحُكْمِ عِنْدَهُمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ، مِنَ الْأَكْلِ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ، ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، أَيْ وَلَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ كَمَا أَكَلْتُمْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُجَازَاةِ، كَمَا أَلْبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، حِينَ مَاتَ وَدَفَنَهُ فِيهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ كَسَا الْعَبَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثَوْبَهُ، فَجَازَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ «لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» «2» فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ أَيْ وَأَحِلُّ لَكُمْ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ الْعَفَائِفِ مِنَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَذِكْرُ هَذَا تَوْطِئَةٌ لِمَا بَعْدَهُ، وهو قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَقِيلَ أَرَادَ بِالْمُحَصَّنَاتِ الْحَرَائِرُ، دُونَ الْإِمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا حَكَاهُ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْحُرَّةِ العفيفة، كما قال فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ هَاهُنَا، وَهُوَ الْأَشْبَهُ، لِئَلَّا يَجْتَمِعَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ ذِمِّيَّةً، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ عَفِيفَةٍ، فَيُفْسِدُ حَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَيَتَحَصَّلُ زَوْجُهَا عَلَى مَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «حَشَفًا وَسُوءَ كَيْلَةٍ» «4» وَالظَّاهِرُ من الآية أن المراد من المحصنات العفيفات عن الزنا، كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النِّسَاءِ: 25] .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْعُلَمَاءُ في قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ هَلْ يَعُمُّ كُلَّ كِتَابِيَّةٍ عَفِيفَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «5» عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِمَّنْ فَسَّرَ الْمُحْصَنَةَ بِالْعَفِيفَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هَاهُنَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ، وَهُوَ
__________
(1) موطأ مالك (زكاة حديث 42) .
(2) مسند أحمد 3/ 38.
(3) تفسير الطبري 4/ 444.
(4) الحشف: التمر الرديء. والمثل يقال في من تجتمع فيه سيئتان، كمن يبيعك حشفا وينتقص الكيل.
(5) تفسير الطبري 4/ 444- 445.(3/37)
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الذِّمِّيَّاتُ دُونَ الْحَرْبِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 29] ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَرَى التَّزْوِيجَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَيَقُولُ: لَا أَعْلَمَ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ إِنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُؤَدِّبُ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ يَعْنِي الْمُزَنِيَّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ، قال نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ فَحَجَزَ النَّاسُ عَنْهُنَّ حَتَّى نَزَلَتِ الآية الَّتِي بَعْدَهَا وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فنكح الناس نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ نِسَاءِ النَّصَارَى، وَلَمْ يَرَوْا بِذَلِكَ بَأْسًا أَخْذًا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَجَعَلُوا هَذِهِ مخصصة للتي في سورة البقرة وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ إِنْ قِيلَ بِدُخُولِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قد انفصلوا فِي ذِكْرِهِمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كقوله تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ:
1] وَكَقَوْلِهِ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا [آلِ عِمْرَانَ:
20] .
وَقَوْلُهُ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ، أَيْ كَمَا هُنَّ مُحْصَنَاتٌ عَفَائِفُ فَابْذُلُوا لَهُنَّ الْمُهُورَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَدْ أَفْتَى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَكَحَ امْرَأَةً فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما، وَتَرُدُّ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ فَكَمَا شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي النِّسَاءِ، وَهِيَ الْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، كَذَلِكَ شَرَطَهَا فِي الرِّجَالِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَيْضًا مُحْصَنًا عَفِيفًا، وَلِهَذَا قَالَ: غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَهُمُ الزُّنَاةُ الَّذِينَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَرُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّنْ جَاءَهُمْ، وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ، أَيْ ذَوِي الْعَشِيقَاتِ الَّذِينَ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَعَهُنَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ سَوَاءٌ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ، وَمَا دَامَتْ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُهَا مِنْ رَجُلٍ عَفِيفٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ عَقْدُ الرَّجُلِ الْفَاجِرِ عَلَى عَفِيفَةٍ حَتَّى يَتُوبَ وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ من الزنا لهذه الآية وللحديث «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» «2» .
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 446- 447.
(2) رواه أحمد في المسند 2/ 324 من حديث أبي هريرة.(3/38)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أن لا أَدَعَ أَحَدًا أَصَابَ فَاحِشَةً فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُحْصَنَةً، فَقَالَ لَهُ أُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا تَابَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على هذه المسألة مستقصى عِنْدَ قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النُّورِ: 6] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قَالَ كَثِيرُونَ من السلف في قوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: يعني وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ آمِرَةٌ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ هُوَ في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ كَانَ وَاجِبًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ، وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. قَالَ «إِنِّي عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ» ، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، وَوَقَعَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ بَدَلَ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى، أَخْبَرْنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْبَكَّائِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْمُبَشِّرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا بَالَ أَوْ أَحْدَثَ، تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِفَضْلِ طَهُورِهِ الْخُفَّيْنِ، فَقُلْتُ: أَبَا عبد الله، أشيء تَصْنَعُهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: بَلْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ، فَأَنَا أَصْنَعُهُ كَمَا رأيت رسول الله يصنعه، وكذا رواه
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 445.
(2) مسند أحمد 5/ 358.
(3) تفسير الطبري 4/ 452.(3/39)
ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ تَوْبَةٍ، عَنْ زِيَادٍ الْبَكَّائِيِّ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ وُضُوءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، عَمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: حَدَّثَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ الْغَسِيلِ، حَدَّثَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذلك عليه أُمِرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَوُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ كَانَ يفعله حتى مات.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «2» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ الحمصي «3» عن أحمد بن خالد الذهني، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يحيى بن حبان، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ عبيد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَأَيًّا مَا كَانَ، فَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ وَالسَّمَاعِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، فَزَالَ مَحْذُورُ التَّدْلِيسِ، لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ مَسْعُودَ بْنَ عَلِيِّ الشَّيْبَانِيَّ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ:
كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَيَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الْآيَةَ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرْنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ لِلنَّاسِ فِي الرَّحَبَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ، وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّ عَلِيًّا اكْتَالَ مِنْ حُبٍّ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا فِيهِ تَجَوُّزٌ، فَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يحدث، وهذه طرق جيدة عن علي يقوي بعضها بعضا.
__________
(1) مسند أحمد 5/ 225.
(2) سنن أبي داود (طهارة باب 25) .
(3) في أبي داود: «الطائي» . [.....]
(4) تفسير الطبري 4/ 453.(3/40)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَوْءًا فِيهِ تَجَوَّزَ خَفِيفًا، فَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ اعْتِدَاءٌ، فَهُوَ غَرِيبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ وَجُوبَهَ فَهُوَ مُعْتَدٍ، وَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهُ اسْتِحْبَابًا فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حدثنا أَبُو سَعِيدٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ هُرَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، هُوَ الْإِفْرِيقِيُّ، عَنْ أَبِي غُطَيْفٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ، كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنِ الْإِفْرِيقِيِّ، عَنْ أَبِي غُطَيْفٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ قِصَّةٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الْإِفْرِيقِيِّ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وهو إسناد ضعيف.
وقال ابْنُ جَرِيرٍ «4» : وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَحْدَثَ امْتَنَعَ مِنَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا حَتَّى يَتَوَضَّأَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ علقمة بن وقاص، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَاقَ الْبَوْلَ» نُكَلِّمُهُ فَلَا يُكَلِّمُنَا، وَنُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الرُّخْصَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الْآيَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ بِهِ نَحْوَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ غريب جدا، وجابر هذا هو ابن زيد الْجُعْفِيُّ ضَعَّفُوهُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «5» : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فقالوا: ألا نأتيك
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 453.
(2) مسند أحمد 3/ 132.
(3) تفسير الطبري 4/ 455.
(4) المصدر السابق.
(5) سنن أبي داود (أطعمة باب 11) .(3/41)
بِوَضُوءٍ؟ فَقَالَ «إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ» وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَالنَّسَائِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دينار، عن سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى الْخَلَاءَ ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ «لِمَ؟ أَأُصْلِي فَأَتَوَضَّأُ» .
وَقَوْلُهُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ قَدِ استدل طائفة من العلماء بقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لَهَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: إِذَا رَأَيْتَ الْأَمِيرَ فَقُمْ، أَيْ لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» «1» ، وَيُسْتَحَبُّ قَبْلَ غَسْلِ الْوَجْهِ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُضُوئِهِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ جَيِّدَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» «2» ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ كَفَّيْهِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» «3» .
وَحَدُّ الْوَجْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا بَيْنَ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالصَّلَعِ وَلَا بِالْغَمَمِ»
إِلَى مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ وَالذَّقْنِ طُولًا، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ عَرْضًا وَفِي النَّزْعَتَيْنِ وَالتَّحْذِيفِ «5» خِلَافٌ:
هَلْ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ أَوِ الْوَجْهِ؟ وَفِي الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ قَوْلَانِ [أَحَدُهُمَا] أَنَّهُ يَجِبُ إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ.
وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا مُغَطِّيًا لِحْيَتَهُ فَقَالَ «اكْشِفْهَا فَإِنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْوَجْهِ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ فِي الْغُلَامِ إِذَا نَبَتَتْ لِحْيَتُهُ: طَلَعَ وَجْهُهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يُخَلِّلَ لِحْيَتَهُ إِذَا كانت كثيفة. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا إسرائيل عن عامر بن حمزة، عن شقيق قال: رأيت عثمان يتوضأ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وَخَلَّلَ اللِّحْيَةَ ثَلَاثًا حِينَ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل الذي
__________
(1) صحيح البخاري (بدء الوحي باب 1 وإيمان باب 41) وصحيح مسلم (إمارة حديث 155) .
(2) سنن أبي داود (طهارة باب 48) ومسند أحمد 2/ 418، جميعا عن أبي هريرة.
(3) صحيح البخاري (وضوء باب 26) وموطأ مالك (طهارة حديث 9) ومسند أحمد 2/ 465.
(4) الغمم: أن يسيل الشعر من الرأس في الوجه والقفا، فتضيق الجبهة ويصغر القفا. والأنزع: الذي انحر الشعر على جانبي ناصيتيه.
(5) التحذيف من الرأس: ما تنحّي النساء الشعر عنه، ويقع في جانب الوجه.(3/42)
رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَحَسَّنَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُلَيْحِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ زَوْرَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ، أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ يُخَلِّلُ بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ «هَكَذَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ عَنْ عَمَّارٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَرُوِّينَا فِي الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَنِ النَّخَعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، فَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ مُسْتَحَبَّانِ فِيهِمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرْقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للمسيء صِلَاتِهِ «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ» ، أَوْ يَجِبَانِ فِي الْغَسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ يَجِبُ الِاسْتِنْشَاقُ دُونَ الْمَضْمَضَةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال «من توضأ فليستنشق» ، وَفِي رِوَايَةٍ «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي مَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ» «2» وَالِانْتِثَارُ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وجهه، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، يَعْنِي أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسْلَهَا، ثُمَّ أخذ غرفة من ماء فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي يَتَوَضَّأُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مَنْصُورِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ بِهِ.
وَقَوْلُهُ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أَيْ مَعَ الْمَرَافِقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النِّسَاءِ: 2] وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو بكر البيهقي من
__________
(1) سنن أبي داود (طهارة باب 57) .
(2) صحيح البخاري (وضوء باب 26) أما الحديث الذي قبل هذا فقد وجدناه في صحيح البخاري (صوم باب 28) وصحيح مسلم (طهارة حديث 21) بلفظ: «إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء» .
(3) مسند أحمد 1/ 268. [.....](3/43)
طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ، وَلَكِنِ الْقَاسِمُ هَذَا مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَجَدُّهُ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُسْتَحَبُّ للمتوضئ أن يشرع في العضد فيغسله مَعَ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» «1» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قتادة عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» «2» .
وقوله تعالى وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبَاءِ: هَلْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ؟ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ. وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ قَالَ: هَذَا مُجْمَلٌ فَلْيُرْجَعْ فِي بَيَانِهِ إِلَى السُّنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ فَدَعَا بِوُضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ «3» . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا، وَرَوَى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معديكرب فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَهُوَ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ مَا يُطْلَقُ عليه اسم مسح ولا يقدر ذَلِكَ بِحَدٍّ، بَلْ لَوْ مَسَحَ بَعْضَ شَعْرِهِ مِنْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ، وَاحْتَجَّ الْفَرِيقَانِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: هَلْ مَعَكَ مَاءٌ؟ فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفَّيْهِ، وَذَكَرَ باقي الحديث وهو في صحيح مسلم «4»
__________
(1) صحيح البخاري (وضوء باب 3) وصحيح مسلم (طهارة حديث 34- 35) .
(2) صحيح مسلم (طهارة حديث 40) وسنن النسائي (طهارة باب 109) .
(3) موطأ مالك (طهارة حديث 1) وفيه: «أنه قال لعبد الله بن زيد» في موضع «أن رجلا قال ... » .
(4) صحيح مسلم (طهارة حديث 81) وسنن النسائي (طهارة باب 86) .(3/44)
وَغَيْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ لِأَنَّهُ كَمَّلَ مَسْحَ بَقِيَّةِ الرَّأْسِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْمَوْقِعِ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَلَيْسَ لَكُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ أَوْ بَعْضِ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ تَكْمِيلٍ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثًا، كَمَا هو المشهور من مذهب الشافعي، أو يُسْتَحَبُّ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فأفرغ على يديه ثلاثا، فغسلهما ثم تمضمض وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ «1» مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوَ هَذَا. وُفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «2» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَاحْتَجَّ مَنِ اسْتَحَبَّ تَكْرَارَ مَسْحِ الرَّأْسِ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَرْدَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي حُمْرَانُ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، قَالَ فِيهِ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ هكذا، وقال «من توضأ هكذا «4» كَفَاهُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. ثُمَّ قَالَ: وأحاديث عثمان في الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ الرَّأْسَ مَرَّةً واحدة.
قوله وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قُرِئَ وَأَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ عَطْفًا على فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا وَأَرْجُلَكُمْ، يَقُولُ: رَجَعَتْ إِلَى الْغَسْلِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُرْوَةَ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالضِّحَاكِ والسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حيان
__________
(1) صحيح البخاري (وضوء باب 24 و 28) وصحيح مسلم (طهارة حديث 3 و 4 و 8) .
(2) سنن أبي داود (طهارة باب 51) .
(3) المصدر السابق.
(4) في أبي داود: «من توضأ دون هذا كفاه» . وأضاف: ولم يذكر أمر الصلاة.(3/45)
وَالزُّهْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ، كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ، وَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الترتيب في الوضوء كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْتِيبَ، بَلْ لَوْ غَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَجْهَهُ، أَجَزْأَهُ ذَلِكَ، لَأَنَّ الْآيَةَ أَمَرَتْ بِغَسْلِ هذه الأعضاء، والواو لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَقَدْ سَلَكَ الْجُمْهُورُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْبَحْثِ طُرُقًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ ابْتِدَاءً عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّرْتِيبِ، وَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِوُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَعْدَهُ، بل القائل اثنان: أحدهما بوجوب التَّرْتِيبَ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي الْآيَةِ، وَالْآخَرُ يَقُولُ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ مُطْلَقًا، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ ابْتِدَاءً، فَوَجَبَ التَّرْتِيبُ فِيمَا بَعْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَا فَارِقَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنْ الْوَاوَ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ بَلْ هِيَ دَالَّةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ النُّحَاةِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، ثُمَّ نَقُولُ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِهَا لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ اللُّغَوِيِّ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ شَرْعًا فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُرَتَّبَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 158] ، ثُمَّ قَالَ «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» وَهَذَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْبُدَاءَةِ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ شَرْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمَّا ذَكَرَ الله تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، فَقَطَعَ النَّظِيرَ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَدْخَلَ الْمَمْسُوحَ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
لَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» قَالُوا: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَضَّأْ مُرَتِّبًا فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ، أَوْ يَكُونَ تَوَضَّأْ غَيْرَ مُرَتِّبٍ فَيَجِبُ عَدَمُ التَّرْتِيبِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ، فَوَجَبَ ما ذكرناه.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ، فَقَدِ احْتَجَّ بِهَا الشِّيعَةُ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ مَا يُوهِمُ الْقَوْلَ بِالْمَسْحِ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: قَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ لِأَنَسٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنَا بِالْأَهْوَازِ وَنَحْنُ مَعَهُ، فذكر الطهور فقال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ، وإنه ليس شيء من بني آدَمَ أَقْرَبَ مِنْ خَبَثِهِ مِنْ قَدَمَيْهِ، فَاغْسِلُوا بطونهما
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 469.(3/46)
وظهورهما وعراقيبهما، فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، قَالَ الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ بَلَّهُمَا، إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل «1» ، وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْوُضُوءُ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ «2» ، وَكَذَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْمِنْقَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عن ابن عباس وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قَالَ: هُوَ الْمَسْحُ، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَلْقَمَةَ وَأَبِي جعفر مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ، ونحوه.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: رَأَيْتُ عِكْرِمَةَ يَمْسَحُ عَلَى رِجْلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ، ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَلَّا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ أَنْ يَمْسَحَ مَا كَانَ غَسْلًا وَيُلْغِيَ مَا كَانَ مَسْحًا. وَحَدَّثَنَا ابن أبي زياد، أَخْبَرْنَا إِسْمَاعِيلُ قُلْتُ لِعَامِرٍ:
إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ؟ فَقَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ، فَهَذِهِ آثَارٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْحِ هُوَ الْغَسْلُ الْخَفِيفُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ إِمَّا عَلَى الْمُجَاوَرَةِ وَتَنَاسُبِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ [الْإِنْسَانِ: 21] وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَسْحِ الْقَدَمَيْنِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمَا الْخُفَّانِ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْغَسْلُ الْخَفِيفُ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْوَاجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَرْضًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي سَنُورِدُهَا، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَسْلِ الْخَفِيفِ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ حَيْثُ قَالَ: أَخْبَرْنَا أَبُو علي الروزبادي، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حمويه الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَأَخَذَ مِنْهُ حَفْنَةً وَاحِدَةً، فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قام فشرب فضلته وهو
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر نفسه.(3/47)
قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صنع كما صَنَعْتُ، وَقَالَ «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ» «1» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ آدَمَ بِبَعْضِ مَعْنَاهُ. وَمَنْ أَوْجَبَ مِنَ الشِّيعَةِ مَسْحَهُمَا كَمَا يَمْسَحُ الْخُفَّ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَذَا مَنْ جَوَّزَ مَسْحَهُمَا وَجَوَّزَ غَسْلَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَهُمَا لِلْأَحَادِيثِ، وَأَوْجَبَ مَسْحَهُمَا لِلْآيَةِ، فَلَمْ يُحَقِّقْ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَجِبُ دَلْكُ الرِّجْلَيْنِ مِنْ دُونِ سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ الْأَرْضَ وَالطِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ دَلْكَهُمَا لِيَذْهَبَ مَا عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ، فَاعْتَقَدَ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ أَنَّهُ أَرَادَ وُجُوبَ الْجَمْعِ بَيْنَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا، فَحَكَاهُ مَنْ حَكَاهُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا يَسْتَشْكِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَعْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ لِانْدِرَاجِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ تَأَمَّلْتُ كَلَامَهُ أَيْضًا فَإِذَا هُوَ يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ خَفْضًا عَلَى الْمَسْحِ وَهُوَ الدَّلْكُ، وَنَصْبًا عَلَى الْغَسْلِ، فَأَوْجَبَهُمَا أَخْذًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ.
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا بد منه
قد تقدم حديث أمير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوئِهِ إِمَّا مَرَّةً، وَإِمَّا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ، وَفِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ قَالَ «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ، صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» «2» وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ حَيْوةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عن عبد الله بن الحارث بن حرز أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
__________
(1) رواه أحمد في المسند (ج 1 ص 102) والنسائي في سننه (طهارة باب 99) .
(2) صحيح البخاري (أيمان باب 15 واستئذان باب 18 ووضوء باب 29) وصحيح مسلم (طهارة حديث 25 و 26 و 29) وصلاة حديث 46) وسنن أبي داود (طهارة باب 46 و 56 وصلاة باب 144) وسنن الترمذي (صوم باب 68) وسنن النسائي (طهارة باب 55 و 70) .(3/48)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ أَبِي كَرْبٍ أَوْ شُعَيْبَ بْنَ أَبِي كَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله وهو على جبل يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ» وَحَدَّثَنَا «2» أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي كَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِجْلِ رَجُلٍ مثل الدرهم لم يغسله، فقال «ويل للأعقاب مِنَ النَّارِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ سَعِيدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي كَرْبٍ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قوما يتوضؤون لَمْ يُصِبْ أَعْقَابَهُمُ الْمَاءُ، فَقَالَ «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أيوب بن عقبة عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَيْقِيبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «5» : حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ مُطَرِّحِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . قَالَ: فَمَا بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ شَرِيفٌ وَلَا وَضِيعٌ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا. وَحَدَّثَنَا أَبُو كَرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ لَيْثٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَوْ عَنْ أَخِي أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أبصر قوما يصلون، وَفِي عَقِبِ أَحَدِهِمْ أَوْ كَعْبِ أَحَدِهِمْ، مِثْلُ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ أَوْ مَوْضِعِ الظُّفُرِ لَمْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ، فَقَالَ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى فِي عَقِبِهِ شَيْئًا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، أَعَادَ وُضُوءَهُ.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ مَسْحُهُمَا، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِمَا لَمَا تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ، لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرِّجْلِ بَلْ يَجْرِي فِيهِ مَا يَجْرِي فِي مَسْحِ الْخُفِّ، وَهَكَذَا وجه هذه الدَّلَالَةِ عَلَى الشِّيعَةِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جرير
__________
(1) مسند أحمد 3/ 369. [.....]
(2) مسند أحمد 3/ 390.
(3) تفسير الطبري 4/ 474.
(4) مسند أحمد 3/ 426.
(5) تفسير الطبري 4/ 475.(3/49)
رحمه الله تعالى، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وقال «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» «1» . وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن إسحاق الصنعاني، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ قَتَادَةَ بْنَ دِعَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ عَلَى قَدَمِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، لَكِنْ قَالَ أَبُو داود: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَعْرُوفٍ، لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا ابْنُ وَهْبٍ «2» . وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرْنَا يُونُسُ وَحُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي العباس، حدثنا بقية، حدثني يحيى بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي، وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ، وَزَادَ: وَالصَّلَاةَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي حَدِيثِ حُمْرَانَ عَنْ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ وَضَوْءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَلَّلَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ. فَقَالَ «أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» «4» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بن عبسة قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ، قَالَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَقْرَبُ وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خَطَايَاهُ مِنْ فَمِهِ وَخَيَاشِيمِهِ، مَعَ الْمَاءِ حِينَ يَنْتَثِرُ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إلا
__________
(1) صحيح مسلم (طهارة حديث 31) .
(2) سنن أبي داود (طهارة باب 66) . وفيه أن هذا الحديث «ليس بمعروف عن جرير بن حازم ولم يروه إلا ابن وهب» قال: وقد روي عن معقل بن عبيد الله الجزري عن أبي الزبير عن جابر عن عمر عن النبي بنحوه.
(3) مسند أحمد 3/ 424.
(4) سنن أبي داود (طهارة باب 56) من حديث طويل.
(5) مسند أحمد 4/ 112 من حديث طويل.(3/50)
خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا قَدَمَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: يَا عَمْرُو، انْظُرْ مَا تَقُولُ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ كُلَّهُ فِي مَقَامِهِ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاقْتَرَبَ أَجَلِي، وَمَا بِي حَاجَةٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أو ثلاثا، لقد سمعته سَبْعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ: ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بِالْغَسْلِ. وَهَكَذَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أُمِرْتُمْ» ، وَمِنْ هَاهُنَا يَتَّضِحُ لَكَ الْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم رَشَّ عَلَى قَدَمَيْهِ الْمَاءَ وَهُمَا فِي النَّعْلَيْنِ، فَدَلَّكَهُمَا، إِنَّمَا أَرَادَ غَسْلًا خَفِيفًا، وَهُمَا فِي النَّعْلَيْنِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِيجَادِ الْغَسْلِ والرِّجْلُ فِي نَعْلِهَا، وَلَكِنْ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُتَعَمِّقِينَ وَالْمُتَنَطِّعِينَ مِنَ الْمُوَسْوِسِينَ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سباطة قوم، فبال [عليها] «2» قَائِمًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِأَنَّ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظَ رَوَوْهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: فَبَالَ قَائِمًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ فِي رِجْلَيْهِ خُفَّانِ وَعَلَيْهِمَا نَعْلَانِ، وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «4» عَنْ مُسَدَّدٍ وَعَبَّادِ بْنِ مُوسَى، كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةَ»
قَوْمٌ، فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَوَضَّأَ كَذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ، إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ فَرَائِضُ اللَّهِ وَسُنَنُ رَسُولِهِ متنافية ومتعارضة،
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 475.
(2) الزيادة من الطبري. والسباطة: الموضع الذي ترمى فيه الكناسة والتراب.
(3) مسند أحمد 4/ 8.
(4) سنن أبي داود (طهارة باب 62) .
(5) في سنن أبي داود: «أتى كظامة قوم- يعني الميضأة» . [.....](3/51)
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرُ بِعُمُومِ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْقَاطِعِ عُذْرَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ وَبَلَغَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ آمِرًا بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ كَمَا فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَكَمَا هُوَ الْوَاجِبُ في حمل قراءة الخفض عليه، تَوَهَّمَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ، ثُمَّ الثَّابِتُ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوهُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ بعد نزول هذه الآية الكريمة.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا زياد بن عبد الله بن علاثة عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: أَنَا أَسْلَمْتُ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ بعد ما أَسْلَمْتُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ:
تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قَالَ الْأَعْمَشُ:
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، لَفْظُ مُسْلِمٍ «2» . وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَوْلًا مِنْهُ وَفِعْلًا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كتاب الأحكام الكبير مع ما يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ هُنَاكَ مِنْ تَأْقِيتِ الْمَسْحِ أَوْ عَدَمِهِ، أَوِ التَّفْصِيلِ فِيهِ، كَمَا هُوَ مبسوط في موضعه.
وقد خالفت الروافض في ذلك بِلَا مُسْتَنَدٍ بَلْ بِجَهْلٍ وَضَلَالٍ، مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَسْتَبِيحُونَهَا، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَعَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَفْقِ مَا دلت هذه الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِذَلِكَ كُلِّهِ وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَهَكَذَا خَالَفُوا الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَفَ فِي الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقَدَمَيْنِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمَا فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ فَعِنْدَهُمْ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. قَالَ الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي الْوُضُوءِ هُمَا النَّاتِئَانِ، وَهُمَا مُجْمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، هَذَا لفظه، فعند الأئمة رحمهم الله: في كل قدم كعبان، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ حُمْرَانَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ «3» تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ وَأَبُو دَاوُدَ «4» وَابْنُ خُزَيْمَةَ في صحيحه من رواية أبي
__________
(1) مسند أحمد 1/ 363.
(2) صحيح مسلم (طهارة حديث 72) .
(3) صحيح البخاري (أذان باب 71) .
(4) سنن أبي داود (صلاة باب 93) .(3/52)
الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِيِّ بْنِ الْحَارِثِ الْجَدَلِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ- ثَلَاثًا- وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» قَالَ:
فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ، وَرُكْبَتِهِ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ، وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِهِ، لَفْظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْزَقَ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ، إِلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي السَّاقِ حَتَّى يُحَاذِيَ كَعْبَ الْآخَرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ كما هو مذهب أهل السنة، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرْنَا شَرِيكٌ عَنْ يَحْيَى بن الحارث التيمي يعني الخابر، قَالَ: نَظَرْتُ فِي قَتْلَى أَصْحَابِ زَيْدٍ، فَوَجَدْتُ الْكَعْبَ فَوْقَ ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عُوقِبَ بِهَا الشِّيعَةُ بَعْدَ قَتْلِهِمْ، تَنْكِيلًا بِهِمْ فِي مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِعَادَتِهِ لِئَلَّا يَطُولَ الْكَلَامُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ هُنَاكَ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى هَاهُنَا حَدِيثًا خَاصًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عن أبيه، عن عائشة قالت: سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل، فثنى رأسه في حجري راقدا، فأقبل أَبُو بَكْرٍ فلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: حَبَسْتِ الناس في قلادة، فتمنيت الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم مني، وَقَدْ أَوْجَعَنِي، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ، وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتَمَسَ الْمَاءَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ إلى آخر الْآيَةُ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيرِ: لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ ما أنتم إلا بركة لهم «1» .
وقوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أَيْ فَلِهَذَا سَهَّلَ عَلَيْكُمْ وَيَسَّرَ وَلَمْ يُعَسِّرْ، بَلْ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْمَرَضِ وَعِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ، وَرَحْمَةً بِكُمْ وَجَعَلَهُ فِي حق من شرع له يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كتاب الأحكام الكبير، وقوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّسْهِيلِ وَالسَّمَاحَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالْحَثِّ عَلَى الدُّعَاءِ عَقِبَ الْوُضُوءِ بِأَنْ يَجْعَلَ فَاعِلَهُ مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ الدَّاخِلِينَ فِي امْتِثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ:
كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُحَدِّثُ
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب 2) .(3/53)
النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلًا عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الجنة» قال: قلت: ما أجود هذا، فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ:
الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ مِنْهَا، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا قَالَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغَ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» لَفْظُ مُسْلِمٍ «1» .
وَقَالَ مَالِكٌ «2» عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بِطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذنوب» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ سفيان، عن مَنْصُورٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «ما مِنْ رَجُلٍ يَتَوَضَّأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ أَوْ ذِرَاعَيْهِ، إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْهُمَا، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رَأَسِهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رِجْلَيْهِ» هَذَا لَفْظُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَوْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «وَإِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ فَغَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَإِذَا غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ ذِرَاعَيْهِ، وَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رِجْلَيْهِ» قَالَ شُعْبَةُ: وَلَمْ يَذْكُرْ مَسْحَ الرَّأْسِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «5» مِنْ طَرِيقِ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ» وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ، عَنِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لله تملأ الميزان، وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنة، والصبر ضياء، والصدقة برهان، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو
__________
(1) صحيح مسلم (طهارة حديث 17) .
(2) موطأ مالك (طهارة حديث 31) .
(3) تفسير الطبري 4/ 479.
(4) مسند أحمد 4/ 234- 235.
(5) تفسير الطبري 4/ 479.(3/54)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
مُوبِقُهَا» «1» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ مُصْعِبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلَا صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» «2» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعْتُ أَبَا الْمَلِيحِ الْهُذَلِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةً مِنْ غَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شعبة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يَقُولُ تَعَالَى مُذَكِّرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِهِ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ. وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ وَمَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي مُبَايَعَتِهِ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ وَإِبْلَاغِهِ عَنْهُ، وَقَبُولِهِ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَهَذِهِ هِيَ البيعة التي كانوا يبايعون عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِسْلَامِهِمْ كَمَا قَالُوا: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في منشطنا ومكرهنا وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وقال الله تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْحَدِيدِ: 8] ، وَقِيلَ: هَذَا تِذْكَارٌ لِلْيَهُودِ بِمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ فِي مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِانْقِيَادِ لِشَرْعِهِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: هُوَ تِذْكَارٌ بِمَا أَخَذَ تَعَالَى مِنَ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِهِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [الْأَعْرَافِ: 172] قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ تَأْكِيدٌ وَتَحْرِيضٌ عَلَى مُوَاظَبَةِ التَّقْوَى فِي كُلِّ حَالٍ، ثم أعلمهم
__________
(1) صحيح مسلم (طهارة حديث 1) .
(2) المصدر السابق.
(3) تفسير الطبري 4/ 481.(3/55)
أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْخَوَاطِرِ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أَيْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْحَقِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا لِأَجْلِ النَّاسِ وَالسُّمْعَةِ، وَكُونُوا شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نَحْلًا فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنت رواحة:
لا أرضى حتى تشهد عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ «أُكَلَّ وَلَدِكَ، نحلت مثله؟» قال: لا، فقال «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ» . وَقَالَ «إِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي فرد تلك الصدقة «1» .
وقوله تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أَيْ لَا يَحْمِلْنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا، وَلِهَذَا قَالَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ عَدْلُكُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ، وَدَلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ [النُّورِ: 28] .
وَقَوْلُهُ: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَيْسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: 24] وَكَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ لِعُمَرَ: أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي عَمِلْتُمُوهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أَيْ لِذُنُوبِهِمْ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، لَا يَنَالُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ بَلْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُصُولِ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي جَعَلَهَا أَسْبَابًا إِلَى نَيْلِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ فَالْكُلُّ مِنْهُ وَلَهُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى، وَحِكْمَتِهِ وَحُكْمِهِ الَّذِي لَا يَجُورُ فِيهِ، بَلْ هُوَ الحكم العدل الحكيم القدير. وقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ مَنْزِلًا، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ «2» يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ فَسَلَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: من
__________
(1) صحيح البخاري (هبة باب 12) وصحيح مسلم (هبات حديث 9 و 10 و 17) ، وسنن الترمذي (أحكام باب 30) . [.....]
(2) العضاه: كل شجر له شوك، صغر أو كبر. واحدته: عضاهة.(3/56)
يمنعك مني؟ قال: «الله عز وجل» . قَالَ الْأَعْرَابِيُّ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «اللَّهُ» . قَالَ: فَشَامَ «1» الْأَعْرَابِيُّ السَّيْفَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِهِ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَرَادُوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلُوا هذا الأعرابي، وتأول اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الْآيَةَ «2» ، وَقِصَّةُ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ صَنَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ طَعَامًا لِيَقْتُلُوهُمْ، فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ بِشَأْنِهِمْ، فَلَمْ يَأْتِ الطَّعَامُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهَ فأتوه «3» ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ حِينَ أرادوا أن يغدروا بمحمد وَأَصْحَابِهِ فِي دَارِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّحَى، لَمَّا جَاءَهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيِّينِ، وَوَكَّلُوا عَمْرَو بْنَ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ بِذَلِكَ، وَأَمَرُوهُ إِنْ جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الْجِدَارِ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ أَنْ يُلْقِيَ تِلْكَ الرَّحَى مِنْ فَوْقِهِ، فأطلع اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تمالئوا عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ الله في ذلك هذه الآية «4» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه، ثُمَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى أَنْزَلَهُمْ فأجلاهم.
__________
(1) شام سيفه: أغمده.
(2) تفسير الطبري 4/ 487.
(3) في الدر المنثور للسيوطي: «فلم يأتوه» وهو الصواب.
(4) سيرة ابن هشام 2/ 190.(3/57)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
لما أمر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدْلِ، وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ فِيمَا هَدَاهُمْ لَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى، شَرْعٌ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ أَخَذَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَمَّا نَقَضُوا عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ لَعْنًا مِنْهُ لَهُمْ، وَطَرْدًا عَنْ بَابِهِ وَجَنَابِهِ، وَحِجَابًا لِقُلُوبِهِمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً يَعْنِي عُرَفَاءَ عَلَى قَبَائِلِهِمْ بِالْمُبَايَعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا كَانَ لَمَّا تَوَجَّهَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقِتَالِ الْجَبَابِرَةِ، فَأُمِرَ بأن يقيم نقباء مِنْ كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبٌ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مِنْ سِبْطِ رُوبَيْلَ شَامُونُ بْنُ زَكَورَ، وَمِنْ سِبْطِ شَمْعُونَ شَافَاطُ بْنُ حُرِّي، وَمِنْ سِبْطِ يَهُوذَا كَالِبُ بْنُ يُوفِنَا، وَمِنْ سبط أبين ميخائيل بْنُ يُوسُفَ، وَمِنْ سِبْطِ يُوسُفَ وَهُوَ سَبْطُ أَفْرَايْمَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَمِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ فلطمى بن رفون ومن سبط زبولون جدي بن سودى ومن سبط منشا بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان حملائيل بن حمل وَمِنْ سِبْطِ أَسِيرٍ سَاطُورُ بْنُ مُلْكِيلَ، وَمِنْ سبط نفثالي نحر بْنُ وَفْسَى، وَمِنْ سِبْطِ جَادٍ جَوْلَايِلُ بْنُ مَيْكِي.
وَقَدْ رَأَيْتُ فِي السِّفْرِ الرَّابِعِ مِنَ التَّوْرَاةِ تَعْدَادَ النُّقَبَاءِ عَلَى أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وأسماء مخالفة لم ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ فِيهَا: فعلى بني روبيل اليصور بْنُ سَادُونَ، وَعَلَى بَنِي شَمْعُونَ شَمْوَالُ بْنُ صورشكي، وعلى بني يهوذا يحشون بن عمياذاب، وَعَلَى بَنِي يسَاخرَ شَالُ بْنُ صَاعُونَ، وَعَلَى بني زبولون الياب بن حالوب، وعلى بني إِفْرَايِمُ منشا بْنُ عمنهودَ، وَعَلَى بَنِي مَنَشا حمليائيلُ بْنُ يرصونَ، وَعَلَى بَنِي بِنْيَامِينَ أبيدنُ بْنُ جَدْعُونَ، وَعَلَى بَنِي دَانٍ جَعَيْذَرُ بْنُ عميشذي، وَعَلَى بَنِي أَسِيرٍ نَحَايِلُ بْنُ عَجْرَانَ، وَعَلَى بَنِي حَازَ السَّيْفُ بْنُ دَعْوَايِيلَ، وَعَلَى بَنِي نَفْتَالِي أَجْزَعُ بْنُ عَمْينَانَ.
وَهَكَذَا لَمَّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، كَانَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا: ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ: وَهُمْ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَيُقَالُ بَدَلُهُ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ رضي الله عنه، وَتِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، وَعِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حرام، والمنذر بن عمر بن حنيش رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي شِعْرٍ لَهُ، كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَرْفَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ لَيْلَتَئِذٍ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَهُمُ الذين ولوا المعاقدة(3/58)
والمبايعة عَنْ قَوْمِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة «1» .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلْ سَأَلْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ خَلِيفَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ قَدِمْتُ الْعِرَاقَ قَبْلَكَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَلَقَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «اثْنَا عَشَرَ كَعِدَّةِ نُقَبَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا» ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بكلمة خفيت علي، فسألت أي مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ «3» . وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الْبِشَارَةُ بِوُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً صَالِحًا يُقِيمُ الْحَقَّ وَيَعْدِلُ فِيهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَوَالِيهِمْ وَتَتَابُعُ أَيَّامِهِمْ، بَلْ وقد وُجِدَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ عَلَى نَسَقٍ وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِلَا شَكٍّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَبَعْضُ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ وِلَايَتُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ في الأحاديث الواردة بذكره، فذكر أَنَّهُ يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِيهِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا وُجُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ هُوَ مِنْ هَوَسِ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ، وَتَوَهُّمِ الْخَيَالَاتِ الضَّعِيفَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُ فيهم الاثنا عشر مِنَ الرَّوَافِضِ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ.
وَفِي التَّوْرَاةِ الْبِشَارَةُ بِإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ يُقِيمُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَبَعْضِ الْجَهَلَةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِمْ بَعْضُ الشِّيعَةِ يُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الِاثْنَا عَشَرَ، فَيَتَشَيَّعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَهْلًا وَسَفَهًا لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ مَنْ لَقَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أَيْ بِحِفْظِي وَكَلَاءَتِي وَنَصْرِي لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أَيْ صَدَقْتُمُوهُمْ فِيمَا يَجِيئُونَكُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم ووازرتموهم عَلَى الْحَقِّ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أَيْ ذُنُوبَكُمْ أَمْحُوهَا وَأَسْتُرُهَا وَلَا أُؤَاخِذُكُمْ بِهَا، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أَيْ أَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَحْذُورَ وَأُحَصِّلُ لَكُمُ الْمَقْصُودَ.
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 443- 445.
(2) مسند أحمد 1/ 398.
(3) صحيح مسلم (إمارة حديث 6) .(3/59)
وَقَوْلُهُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ فَمَنْ خَالَفَ هَذَا الْمِيثَاقَ بَعْدَ عَقْدِهِ وَتَوْكِيدِهِ وَشَدِّهِ وَجَحَدَهُ، وَعَامَلَهُ مُعَامَلَةَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الواضح، وَعَدَلَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى عما حل بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِمْ مِيثَاقَهُ وَنَقْضِهِمْ عَهْدَهُ، فَقَالَ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أَيْ فسبب نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ لَعَنَّاهُمْ، أَيْ أَبْعَدْنَاهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَطَرَدْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ فَلَا يَتَّعِظُونَ بِمَوْعِظَةٍ لِغِلَظِهَا وَقَسَاوَتِهَا، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أَيْ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ وَسَاءَ تَصَرُّفُهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ، وَحَمَلُوهُ عَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ، وَقَالُوا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أَيْ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ رَغْبَةً عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى الَّتِي لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إِلَّا بِهَا «1» ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَرَكُوا الْعَمَلَ فَصَارُوا إِلَى حَالَةٍ رَدِيئَةٍ، فَلَا قُلُوبَ سَلِيمَةٌ، وَلَا فِطَرَ مُسْتَقِيمَةٌ، وَلَا أَعْمَالَ قَوِيمَةٌ، وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ يَعْنِي مَكْرُهُمْ وَغَدْرُهُمْ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَمَالُؤَهُمْ عَلَى الْفَتْكِ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا عَامَلْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَعْنِي بِهِ الصَّفْحَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ «2» : هَذِهِ الْآيَةُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] الآية.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أَيْ وَمِنَ الَّذِينَ ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ نَصَارَى متابعون الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلم، ومناصرته، ومؤازرته، واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ، خَالَفُوا الْمَوَاثِيقَ، وَنَقَضُوا العهود، ولهذا قال تعالى: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أَيْ فَأَلْقَيْنَا بينهم العداوة والبغضاء لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ لَا يَزَالُونَ مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُحَرِّمُ الْأُخْرَى، وَلَا تَدَعُهَا تَلِجُ مَعْبَدَهَا، فَالْمَلَكِيَّةُ تُكَفِّرُ الْيَعْقُوبِيَّةَ، وَكَذَلِكَ الْآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ النُّسْطُورِيَّةُ وَالْأَرْيُوسِيَّةُ، كُلُّ طَائِفَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِلنَّصَارَى عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، مِنْ جَعْلِهِمْ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى الواحد
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 497.
(2) تفسير الطبري 4/ 498.(3/60)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كفوا أحد.
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَدْ أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ: عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، أُمِّيِّهِمْ وَكَتَابِيِّهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أَيْ يُبَيِّنُ مَا بَدَّلُوهُ وَحَرَّفُوهُ وَأَوَّلُوهُ، وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ فِيهِ، وَيَسْكُتُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا غَيَّرُوهُ وَلَا فَائِدَةَ فِي بَيَانِهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنه، قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالرَّجْمِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ من حيث لا يحتسب قال تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ قال: فَكَانَ الرَّجْمُ مِمَّا أَخْفَوْهُ «1» ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ فَقَالَ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ أَيْ طُرُقَ النَّجَاةِ وَالسَّلَامَةِ وَمَنَاهِجَ الِاسْتِقَامَةِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَهَالِكِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ أَبْيَنَ الْمَسَالِكِ فَيَصْرِفُ عَنْهُمُ المحذور، ويحصل لهم أحب الْأُمُورِ، وَيَنْفِي عَنْهُمُ الضَّلَالَةَ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى أَقْوَمِ حالة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 18]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
يقول تعالى مخبرا وحاكيا بِكُفْرِ النَّصَارَى فِي ادِّعَائِهِمْ فِي الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَخَلْقٌ من خلقه أنه هو اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَكَوْنِهَا تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أَيْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ، فَمَنْ ذَا الَّذِي كان يمنعه منه أو من ذا
__________
(1) الدر المنثور 2/ 475.(3/61)
الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى صَرْفِهِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَيْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكُهُ وَخَلْقُهُ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، لَا يسأل عما يفعل بقدرته وَسُلْطَانِهِ وَعَدْلِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى رَادًّا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أَيْ نَحْنُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَهُمْ بَنُوهُ، وَلَهُ بِهِمْ عِنَايَةٌ، وَهُوَ يُحِبُّنَا، وَنَقَلُوا عَنْ كِتَابِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِعَبْدِهِ إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ ابْنِي بِكْرِي، فَحَمَلُوا هَذَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَحَرَّفُوهُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُقَلَائِهِمْ وَقَالُوا: هَذَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ، كَمَا نَقَلَ النَّصَارَى عَنْ كِتَابِهِمْ أَنْ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ، يَعْنِي رَبِّي وَرَبِّكِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا لأنفسهم من النبوة مَا ادَّعَوْهَا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا أرادوا من ذلك مَعَزَّتَهُمْ لَدَيْهِ وَحُظْوَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أَيْ لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَدَّعُونَ أَبْنَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ، فَلِمَ أَعَدَّ لَكُمْ نَارَ جَهَنَّمَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَكَذِبِكُمْ وَافْتِرَائِكُمْ؟
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَيْنَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَبِيبَ لَا يعذب حبيبه، فلم يرد عليه، فتلا عليه الصُّوفِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ «1» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَبِيٍّ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَتْ أُمُّهُ الْقَوْمَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يُوطَأَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَتَقُولُ: ابْنَيِ ابْنِي، وَسَعَتْ فَأَخَذَتْهُ فَقَالَ الْقَوْمُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَتْ هَذِهِ لتلقي ولدها في النار. قال: فحفظهم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «لَا وَاللَّهِ مَا يُلْقِي حَبِيبَهُ فِي النَّارِ» تَفَرَّدَ به أحمد.
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أَيْ لَكُمْ أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو سبحانه الْحَاكِمُ فِي جَمِيعِ عِبَادِهِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أَيْ هُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ إِلَيْهِ، فَيَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ.
وروى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «2» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمان بن آصا «3» وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَشَاسُ بْنُ عَدِيٍّ فَكَلَّمُوهُ،
__________
(1) مسند أحمد 3/ 104.
(2) أورده الطبري في تفسيره 4/ 505.
(3) في الطبري وسيرة ابن هشام 1/ 514: «أضاء» . [.....](3/62)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وَكَلَّمَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ، نَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ عَنِ السدي في قول الله وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أما قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ [آل عمران: 24] ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِسْرَائِيلَ أن ولدك بكري مِنَ الْوَلَدِ، فَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ «1» ، فَيَكُونُونَ فِيهَا أَرْبَعِينَ ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مُنَادٍ: أَنْ أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ وَلَدِ إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرَجُوهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ.
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، الَّذِي لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ هُوَ الْمُعَقِّبُ لِجَمِيعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ:
عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ مَا بَيْنَ إِرْسَالِهِ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ كَمْ هِيَ؟ فَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَقَتَادَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كَانَتْ سِتَّمِائَةِ سَنَةً.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَعَنْ قَتَادَةَ: خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ رَفْعِ الْمَسِيحِ إِلَى هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعُمِائَةٍ وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالْمَشْهُورُ هو القول الأول، وهو أنها سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ أَرَادَ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ، وَالْآخَرَ أَرَادَ قَمَرِيَّةً، وَبَيْنَ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ وَبَيْنَ الْقَمَرِيَّةِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى في قصة أهل الْكَهْفِ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف: 25] أي قمرية لتكميل ثلاثمائة الشَّمْسِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْلُومَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ آخَرِ أَنْبِيَاءِ بني إسرائيل وبين محمد خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ بَنِيَ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لأنا ليس بيني وبينه نبي» «2» وهذا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بُعِثَ بعد عيسى نَبِيٌّ، يُقَالُ لَهُ خَالِدُ «3» بْنُ سِنَانٍ، كَمَا حكاه القضاعي وغيره، والمقصود أن الله بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فترة
__________
(1) عبارة الطبري: «أن ولدا من ولدك أدخلهم النار.
(2) صحيح البخاري (أنبياء باب 48) .
(3) هو خالد بن سنان العبسي. كان في أرض بني عبس يدعو الناس إلى دين عيسى. قال ابن الأثير: من معجزاته أن نارا ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يدينون بالمجوسية، فأخذ خالد عصاه ودخلها ففرقها وهو يقول: «بدّا بدّا، كل هدي مؤدّى، لأدخلنها وهي تلظّى، ولأخرجن منها وثيابي تندّى» وطفئت وهو في وسطها. قال الزركلي: هي النفط لا ريب. وهناك روايات بأن النار كانت تخرج من بئر. فتأمّل. (الأعلام 2/ 296) .(3/63)
مِنَ الرُّسُلِ، وَطُمُوسٍ مِنَ السُّبُلِ، وَتَغَيُّرِ الْأَدْيَانِ، وَكَثْرَةِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالنِّيرَانِ وَالصُّلْبَانِ، فَكَانَتِ النِّعْمَةُ بِهِ أَتَمَّ النِّعَمَ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمْرَ عَمَمٍ، فَإِنَّ الْفَسَادَ كَانَ قَدْ عَمَّ جَمِيعَ الْبِلَادِ، وَالطُّغْيَانَ وَالْجَهْلَ قَدْ ظَهَرَ فِي سَائِرِ الْعِبَادِ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِبَقَايَا مِنْ دَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، مِنْ بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَعِبَادِ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ»
:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ مُطَرِّفٍ، عن عياض بن حماد الْمُجَاشِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ «وَإِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ:
عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلا بقايا من بني إسرائيل، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نَائِمًا وَيَقْظَانَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ: يَا رَبِّ إِذَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً «2» ، فَقَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جيشا نبعث خمسا أَمْثَالِهِ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَأَهْلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق متصدق، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال مُتَصَدِّقٌ، وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا دين له، والذين هم فيكم تبع أو تبعا- شَكَّ يَحْيَى- لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبَخِيلَ أو الكذاب، وَالشِّنْظِيرُ الْفَاحِشُ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّخِيرِ، وَفِي رواية شعبة عَنْ قَتَادَةَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مُطَرِّفٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مُطَرِّفٍ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ أَرْبَعَةٍ عَنْهُ، ثُمَّ رَوَاهُ هُوَ عَنْ رَوْحٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ حَكِيمٍ الْأَثْرَمِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٍ عَنْ عياض بن حماد فذكره. ورواه النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ بِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ «وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عجمهم وعربهم إِلَّا بَقَايَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَفِي لَفْظِ مسلم: من أهل الكتاب فكان الدِّينُ قَدِ الْتَبَسَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ حتى بعث الله
__________
(1) مسند أحمد 4/ 162.
(2) أي يشدخوا رأسي فيجعلوه مكسورا كالخبزة.
(3) مسند أحمد 4/ 266.(3/64)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَدَى الْخَلَائِقَ وَأَخْرَجَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَتَرَكَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ وَالشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أَيْ لِئَلَّا تَحْتَجُّوا وَتَقُولُوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ بَدَّلُوا دِينَهُمْ وَغَيَّرُوهُ مَا جَاءَنَا مِنْ رَسُولٍ يُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ وَيُنْذِرُ مِنَ الشَّرِّ، فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
مَعْنَاهُ إِنِّي قَادِرٌ عَلَى عِقَابِ مَنْ عَصَانِي، وَثَوَابِ مَنْ أطاعني «1» .
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا ذكر به قومه من نعم الله عليهم وآلائه لَدَيْهِمْ فِي جَمْعِهِ لَهُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ أَيْ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ قَامَ فِيكُمْ نَبِيٌّ مِنْ لدن أبيكم إبراهيم إلى مَنْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ كَانُوا لَا يَزَالُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ وَيُحَذِّرُونَ نِقْمَتَهُ حَتَّى ختموا بعيسى ابن مريم عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْسُوبِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قَالَ عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن الْحَكَمِ أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً، قَالَ: الْخَادِمُ وَالْمَرْأَةُ وَالْبَيْتُ «2» . وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَرْأَةُ وَالْخَادِمُ وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ولم يخرجاه. وروى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لَهُ الزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ وَالدَّارُ، سُمِّيَ مَلِكًا. وَقَالَ ابن
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 508.
(2) تفسير الطبري 4/ 510 وفيه «الزوجة» مكان «المرأة» .(3/65)
جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ أبا عبد الرحمن الحنبلي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَلِ الْمُلْكُ إِلَّا مَرْكَبٌ وَخَادِمٌ وَدَارٌ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» ، ثُمَّ رُوِيَ عن الحكم ومجاهد ومنصور وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ نَحْوًا مِنْ هَذَا. وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ. وَقَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لَهُ مَنْزِلٌ وَخَادِمٌ وَاسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَلِكٌ وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَوَّلَ مَنْ اتخذ الْخَدَمَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال: يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ، كُتِبَ مَلِكًا، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أنس بن عياض، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمٍ يَقُولُ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا فَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ، وَهَذَا مُرْسَلٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ مَالِكٌ:
بَيْتٌ وَخَادِمٌ وَزَوْجَةٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» .
وَقَوْلُهُ وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني عالمي زمانكم، فإنهم كَانُوا أَشْرَفَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ مِنَ الْيُونَانِ وَالْقِبْطِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْجَاثِيَةِ: 16] وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى لَمَّا قَالُوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الأعراف: 140] والمقصود أنهم كانوا أفضل زَمَانِهِمْ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْرَفُ مِنْهُمْ، وَأَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَكْمَلُ شَرِيعَةً، وَأَقْوَمُ مِنْهَاجًا، وَأَكْرَمُ نَبِيًّا، وَأَعْظَمُ مُلْكًا، وَأَغْزَرُ أَرْزَاقًا، وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَأَوْسَعُ مَمْلَكَةً، وَأَدُومُ عِزًّا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 143] ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا وَكَرَمِهَا عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] من سورة آل عمران.
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 510.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.(3/66)
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ: يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكأنهم أَرَادُوا أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مَعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مَنَّ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ:
يَعْنِي بِذَلِكَ مَا كَانَ تَعَالَى نَزَّلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ والسلوى، ويظللهم به مِنَ الْغَمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ تَعَالَى يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَحْرِيضِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْجِهَادِ وَالدُّخُولِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ فِي زَمَانِ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ، لَمَّا ارْتَحَلَ هُوَ وَبَنُوهُ وَأَهْلُهُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ أَيَّامَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى خَرَجُوا مع موسى، فَوَجَدُوا فِيهَا قَوْمًا مِنَ الْعَمَالِقَةِ الْجَبَّارِينَ قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا وَتَمَلَّكُوهَا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا وَبِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ وَبَشَّرَهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالظَّفْرِ عَلَيْهِمْ، فَنَكَلُوا وَعَصَوْا وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، فَعُوقِبُوا بِالذَّهَابِ فِي التِّيهِ وَالتَّمَادِي فِي سَيْرِهِمْ حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ فِيهِ إِلَى مَقْصِدٍ، مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ تَعَالَى مخبرا عن موسى أنه قال: يا قومي ادخلوا الأرض المقدسة أي المطهرة. وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، قَالَ: هِيَ الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ، وَكَذَا قَالَ مجاهد وغير واحد. وروى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عباس، قال: هي أريحاء، وكذا ذكر عن غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لأن أريحاء ليست هي المقصودة بِالْفَتْحِ، وَلَا كَانَتْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ قَدِمُوا مِنْ بِلَادِ مِصْرَ حِينَ أهلك الله عدوهم فرعون، إلا أن يكون المراد بأريحاء أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا قَالَهُ السَّدِّيُّ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» عَنْهُ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بها هذه البلدة المعروفة في طرف الطور شَرْقِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أَيِ الَّتِي وَعَدَكُمُوهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَبِيكُمْ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ وِرَاثَةُ مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أَيْ وَلَا تَنْكِلُوا عَنِ الْجِهَادِ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ أَيِ اعْتَذَرُوا بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّتِي أَمَرْتَنَا بِدُخُولِهَا وَقِتَالِ أَهْلِهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ أَيْ ذَوِي خَلْقٍ هَائِلَةٍ وَقُوًى شَدِيدَةٍ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ وَلَا مُصَاوَلَتِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُنَا الدُّخُولُ إِلَيْهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا دَخَلْنَاهَا، وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 511.
(2) تفسير الطبري 4/ 513 وبذلك رواه عن ابن زيد وابن عباس.
(3) تفسير الطبري 4/ 515. [.....](3/67)
عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ عِكْرَمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ مُوسَى أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ، قَالَ: فَسَارَ مُوسَى بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ المدينة، وهي أريحاء، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ عَيْنًا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ، لِيَأْتُوهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، قَالَ: فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ هَيْئَتِهِمْ وجسمهم وَعَظْمِهِمْ، فَدَخَلُوا حَائِطًا «1» لِبَعْضِهِمْ، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِيَجْتَنِيَ الثِّمَارَ مَنْ حَائِطِهِ، فَجَعَلَ يَجْتَنِي الثِّمَارَ وينظر إلى آثارهم، فتبعهم فَكُلَّمَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ، حَتَّى الْتَقَطَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كُلَّهُمْ، فَجَعَلَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ، وَذَهَبَ بهم إِلَى مَلِكِهِمْ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: قَدْ رَأَيْتُمْ شَأْنَنَا وَأَمْرَنَا، فَاذْهَبُوا فَأَخْبِرُوا صَاحِبَكُمْ، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرُوهُ بِمَا عَايَنُوا مِنْ أَمْرِهِمْ.
وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ نَظَرٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَا نَزَلْ مُوسَى وَقَوْمُهُ، بَعَثَ مِنْهُمُ اثني عشر رجلا، وهم النقباء الذين ذكرهم اللَّهُ، فَبَعَثَهُمْ لِيَأْتُوهُ بِخَبَرِهِمْ، فَسَارُوا فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ، فَجَعَلَهُمْ فِي كِسَائِهِ، فَحَمَلَهُمْ حَتَّى أَتَى بِهِمُ الْمَدِينَةَ، وَنَادَى فِي قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمُ مُوسَى، بَعَثَنَا نَأْتِيهِ بِخَبَرِكُمْ، فَأَعْطَوْهُمْ حَبَّةً مِنْ عِنَبٍ تَكْفِي الرَّجُلَ، فَقَالُوا لَهُمُ اذْهَبُوا إِلَى موسى وقومه، فقولوا لهم هذا قدر فاكهتهم، فرجعوا إلى موسى فأخبروه، بما رأوا، فلما أمرهم موسى عليه السلام، بالدخول عليهم وقتالهم، قالوا: يا موسى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيوب، عن يزيد بن الهادي، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: رَأَيْتُ أنس بن مالك، أخذ عصاه فَذَرَعَ فِيهَا بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي كَمْ ذَرَعَ، ثُمَّ قَاسَ بِهَا فِي الْأَرْضِ خَمْسِينَ أَوْ خَمْسًا وَخَمْسِينَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا طُولُ الْعَمَالِيقِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا أَخْبَارًا مِنْ وَضْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَظَمَةِ خَلْقِ هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق، ابن بِنْتِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَثُلْثُ ذِرَاعٍ، تَحْرِيرُ الْحِسَابِ، وَهَذَا شَيْءٌ يُسْتَحَى مِنْ ذِكْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يزل الخلق ينقص حتى الآن» «2» ثم ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ كَافِرًا، وَأَنَّهُ كَانَ وَلَدَ زِنْيَةٍ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رُكُوبِ سفينة نوح، وَأَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَصِلْ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَهَذَا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذَكَرَ أَنَّ نُوحًا دَعَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ [الشعراء: 119] وقال تعالى: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: 43]
__________
(1) الحائط: البستان المسوّر.
(2) صحيح البخاري (أنبياء باب 1) .(3/68)
وَإِذَا كَانَ ابْنُ نُوحٍ الْكَافِرُ، غَرِقَ فَكَيْفَ يَبْقَى عَوْجُ بْنُ عُنُقٍ وَهُوَ كَافِرٌ وَوَلَدُ زِنْيَةٍ؟ هَذَا لَا يُسَوَّغُ فِي عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ. ثُمَّ فِي وُجُودِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عَوْجُ بْنُ عُنُقٍ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَيْ فَلَمَّا نَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى صلّى الله عليه وسلم، حَرَّضَهُمْ رَجُلَانِ لِلَّهِ عَلَيْهِمَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُمَا مِمَّنْ يَخَافُ أَمْرَ اللَّهِ وَيَخْشَى عِقَابَهُ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ «1» أَيْ مِمَّنْ لَهُمْ مَهَابَةٌ وَمَوْضِعٌ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَالُ إنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَقَالَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرَهُ، وَوَافَقْتُمْ رَسُولَهُ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَأَيَّدَكُمْ وَظَفَّرَكُمْ بِهِمْ، ودخلتم البلد الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ لَكُمْ، فَلَمْ يَنْفَعْ ذَاكَ فِيهِمْ شَيْئًا قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وَهَذَا نُكُولٌ مِنْهُمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَمُخَالَفَةٌ لِرَسُولِهِمْ، وَتَخَلُّفٌ عَنْ مقاتلة الأعداء، ويقال: إنهم لما نكلوا عن الجهاد، وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر، سَجَدَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قُدَّامَ مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِعْظَامًا لِمَا هَمُّوا بِهِ، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوقنا ثيابهما، ولا ما قَوْمَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ رَجَمُوهُمَا، وَجَرَى أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَخَطَرٌ جَلِيلٌ، وَمَا أَحْسَنَ مَا أَجَابَ بِهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَشَارَهُمْ فِي قِتَالِ النَّفِيرِ، الَّذِينَ جَاءُوا لِمَنْعِ الْعِيرِ، الَّذِي كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا فَاتَ اقْتِنَاصُ الْعِيرِ، وَاقْتَرَبَ مِنْهُمُ النَّفِيرُ، وَهَمَّ فِي جَمْعٍ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ فِي الْعُدَّةِ، وَالْبَيْضِ وَالْيَلَبِ «2» ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ» وَمَا يَقُولُ ذَلِكَ، إِلَّا لِيَسْتَعْلِمَ مَا عِنْدَ الْأَنْصَارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا جُمْهُورَ الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله، فو الذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ، فخضته لخضناه معك ما تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الحرب صدق في اللقاء لعل اللَّهَ أَنْ يُرِيَكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويَهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إلى بدر استشار المسلمين، فأشار عليه عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إذًا لَا نَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ
__________
(1) أي بضم أوله.
(2) البيض: الخوذ. واليلب: الدروع.(3/69)
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي يَعْلَى عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عن حميد به.
وقال ابن مردويه: أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنِ الحكم بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَاسِخٍ، عن عتبة بن عبيد السُّلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ «أَلَا تُقَاتِلُونَ» ؟ قَالُوا نَعَمْ، وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتَلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَجَابَ يَوْمَئِذٍ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أحمد: حدثنا وكيع، حدثني سُفْيَانُ عَنْ مُخَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَحْمَسِيِّ، عَنْ طَارِقٍ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بِدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وَلَكِنْ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مُقَاتِلُونَ، هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرق لذلك وسر بِذَلِكَ «1» .
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُغَازِي وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُخَارِقٍ بِهِ، وَلَفْظُهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بِدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وَلَكِنْ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ. فَكَأَنَّهُ سَرَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ البخاري: رواه وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ، أن المقداد قال ذلك لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ الْهَدْيَ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنَاسِكِهِمْ «إِنِّي ذَاهِبٌ بِالْهَدْي فَنَاحِرُهُ عِنْدَ الْبَيْتِ» فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أما والله لا نكون
__________
(1) مسند أحمد 1/ 389- 390 و 4/ 314.
(2) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب 3) .
(3) تفسير الطبري 4/ 521.(3/70)
كَالْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وَلَكِنْ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مُقَاتِلُونَ، فَلَمَّا سَمِعَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَابَعُوا عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرَّرَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَوْمَئِذٍ كَمَا قَالَهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَوْلُهُ: قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يَعْنِي لَمَّا نَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْقِتَالِ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ دَاعِيًا عَلَيْهِمْ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ فَيَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ وَيُجِيبُ إِلَى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَا وَأَخِي هَارُونُ فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: افْرُقِ افْصِلْ بَيْنَنَا وبينهم، كما قال الشاعر:
[الرجز]
يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا فرقت بين اثنين «1»
وقوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ الآية، لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَوَقَعُوا فِي التِّيهِ يَسِيرُونَ دَائِمًا لَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْهُ وَفِيهِ كَانَتْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَخَوَارِقُ كَثِيرَةٌ مِنْ تَظْلِيلِهِمْ بِالْغَمَامِ وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ إِخْرَاجِ الْمَاءِ الْجَارِي مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ تُحْمَلُ مَعَهُمْ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا ضَرَبَهَا مُوسَى بِعَصَاهُ انْفَجَرَتْ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا تَجْرِي لِكُلِّ شِعْبٍ عَيْنٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَهُنَاكَ نزلت التَّوْرَاةُ وَشُرِعَتْ لَهُمُ الْأَحْكَامُ، وَعُمِلَتْ قُبَّةُ الْعَهْدِ وَيُقَالُ لَهَا: قُبَّةُ الزَّمَانِ، قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بن جبير: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ قَالَ: فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام، وأقام لله فِيهِمْ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَبِيًّا خَلِيفَةً عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَاتَ أَكْثَرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَاكَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَى يُوشِعَ وكالب، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ هَذَا وَقْفٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَمَّا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، خَرَجَ بِهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَبِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِيلِ الثَّانِي، فَقَصَدَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا، فَكَانَ فَتْحُهَا يوم الجمعة
__________
(1) البيت بلا نسبة في تفسير الطبري 4/ 522 ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 160.(3/71)
بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمَّا تَضَيَّفَتِ «1» الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ وَخَشِيَ دُخُولَ السَّبْتِ عَلَيْهِمْ، قَالَ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ، وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ. فَحَبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى فَتَحَهَا، وَأَمَرَ اللَّهُ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَنْ يَدْخُلُوا بَابَهَا سُجَّدًا، وَهُمْ يَقُولُونَ:
حِطَّةٌ أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا، فَبَدَّلُوا مَا أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهو يَقُولُونَ: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عمر العبدي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، قوله فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فَهَلَكَ مُوسَى وَهَارُونُ فِي التِّيهِ، وَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً، نَاهَضَهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَ مُوسَى، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا، وَهُوَ الَّذِي قِيلَ لَهُ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَهَمُّوا بِافْتِتَاحِهَا وَدَنَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ، فَخَشِيَ إِنْ دَخَلَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ أَنْ يَسْبُتُوا، فَنَادَى الشَّمْسَ: إِنِّي مَأْمُورٌ، وَإِنَّكِ مَأْمُورَةٌ، فَوَقَفَتْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قط، فقربوه إلى النار فلم تأته، فقال: فيكم الغلول، فدعا رؤوس الْأَسْبَاطِ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَبَايَعَهُمْ وَالْتَصَقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ فَقَالَ: الْغُلُولُ عِنْدَكَ فَأَخْرَجَهُ، فَأَخْرَجَ رَأْسَ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ لَهَا عَيْنَانِ مِنْ يَاقُوتٍ وَأَسْنَانٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ فَوَضَعَهُ مع القربان، فأتت النار فأكلته «2» ، وَهَذَا السِّيَاقُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ هُوَ الْعَامِلُ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَنَّهُمْ مَكَثُوا لَا يُدْخِلُونَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُمْ تَائِهُونَ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا يَهْتَدُونَ لِمَقْصِدٍ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفَتَحَ بِهِمْ بيت المقدس، ثم احتج على ذلك من قَالَ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، أَنَّ عَوْجَ بْنَ عُنُقٍ قَتَلَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ التِّيهِ، لِمَا رَهِبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَمَالِيقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التِّيهِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بِلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا أَعَانَ الْجَبَّارِينَ بِالدُّعَاءِ عَلَى مُوسَى، قَالَ: وَمَا ذَاكَ إِلَّا بَعْدَ التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ التِّيهِ لَا يَخَافُونَ مِنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، هَذَا اسْتِدْلَالُهُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا قيس عن ابن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ عَصَا مُوسَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَوَثْبَتُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَطُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَوَثَبَ فَأَصَابَ كَعْبَ عَوْجٍ فَقَتْلَهُ، فَكَانَ جِسْرًا لِأَهْلِ النِّيلِ سَنَةً «4» ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أبي إسحاق، عن نوف هو الْبِكَالِيِّ قَالَ: كَانَ سَرِيرُ عَوْجٍ ثَمَانِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وكان طول موسى عشرة
__________
(1) تضيّفت للغروب: مالت إليه ودنت منه.
(2) رواه السيوطي في الدر المنثور 2/ 481.
(3) تفسير الطبري 4/ 525.
(4) تفسير الطبري 4/ 526.(3/72)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
أَذْرُعٍ، وَعَصَاهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَوَثَبَ فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَضَرَبَ عَوْجًا فَأَصَابَ كَعْبَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا وَكَانَ جِسْرًا لِلنَّاسِ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ «1» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ تَسْلِيَةً لموسى عليه السلام عنهم، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به، فإنهم مستحقون ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ تَقْرِيعَ الْيَهُودِ، وَبَيَانَ فَضَائِحِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَنُكُولِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِمَا فيما أمراهم بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، فَضَعُفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنْ مُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ، مَعَ أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلِيمَهُ وَصَفِيَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهُوَ يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شاهدوا من فعل اللَّهُ بِعَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْغَرَقِ لَهُ وَلِجُنُودِهِ فِي الْيَمِّ وَهُمْ يَنْظُرُونَ لِتَقَرَّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ، وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قَدَمٍ، ثُمَّ يَنْكِلُونَ عَنْ مُقَاتَلَةِ أَهْلِ بَلَدٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لَا تُوَازِي عُشْرَ الْمِعْشَارِ فِي عِدَّةِ أَهْلِهَا وعُدَدِهِمْ، فَظَهَرَتْ قَبَائِحُ صَنِيعِهِمْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَافْتَضَحُوا فَضِيحَةً لَا يُغَطِّيهَا اللَّيْلُ، وَلَا يَسْتُرُهَا الذَّيْلُ، هَذَا وَهُمْ فِي جَهْلِهِمْ يَعْمَهُونَ وَفِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَهُمُ الْبُغَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وأحباؤه، فَقَبَّحَ اللَّهُ وُجُوهَهُمُ الَّتِي مَسَخَ مِنْهَا الْخَنَازِيرَ وَالْقُرُودَ وَأَلْزَمَهُمْ لَعْنَةً تَصْحَبُهُمْ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الوقود، ويقضي لهم فيها بتأييد الخلود، وقد فعل وله الحمد في جميع الوجود.
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 31]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَخِيمَ عَاقِبَةِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالظُّلْمِ فِي خَبَرِ ابْنَيْ آدَمَ لِصُلْبِهِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهُمَا قابيل وهابيل كَيْفَ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَقَتَلَهُ، بَغْيًا عَلَيْهِ وَحَسَدًا لَهُ، فِيمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَتَقَبُّلِ الْقُرْبَانِ الَّذِي أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفَازَ الْمَقْتُولُ بِوَضْعِ الْآثَامِ وَالدُّخُولِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَخَابَ الْقَاتِلُ وَرَجَعَ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ في الدارين، فَقَالَ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، أي اقصص عَلَى هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْحَسَدَةِ إِخْوَانِ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ خَبَرَ ابْنَيْ آدَمَ، وَهُمَا هَابِيلُ وَقَابِيلُ، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ.
وَقَوْلُهُ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَمْرِ الَّذِي لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا كذب، ولا وهم ولا تبديل،
__________
(1) المصدر السابق.(3/73)
ولا زيادة ولا نقصان، كقوله تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آلِ عمران: 62] . وقوله تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الْكَهْفِ: 13] وقال ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مَرْيَمَ: 34] ، وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِمَا فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: شَرَعَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ لِضَرُورَةِ الْحَالِ، وَلَكِنْ قَالُوا: كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَكَانَ يُزَوِّجُ أُنْثَى هَذَا الْبَطْنِ لِذِكْرِ الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَكَانَتْ أُخْتُ هَابِيلَ دَمِيمَةً وَأُخْتُ قَابِيلَ وَضِيئَةً، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ، فَأَبَى آدَمُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، فمن تقبل منه فهي له، فَتُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ، فكان من أمرهما ما قصه اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا
قَالَ السُّدِّيُّ فِيمَا ذَكَرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يُولَدُ لِآدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا وَلِدَ مَعَهُ جَارِيَةٌ، فَكَانَ يُزَوِّجُ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ جَارِيَةَ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَيُزَوِّجُ جَارِيَةَ هَذَا الْبَطْنِ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، حَتَّى وُلِدَ له ابنان يقال لهما: هابيل وقابيل وَكَانَ قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَكَانَ هَابِيلُ صَاحِبَ ضَرْعٍ، وَكَانَ قَابِيلُ أَكْبَرَهُمَا، وَكَانَ لَهُ أُخْتٌ أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ، وَإِنَّ هَابِيلَ طَلَبَ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَ قَابِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ هِيَ أُخْتِي وُلِدَتْ مَعِي، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ أُخْتِكَ وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِهَا، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا هَابِيلَ فَأَبَى، وَأَنَّهُمَا قَرَّبَا قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ، وَكَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ غَابَ عَنْهُمَا، أَتَى مَكَّةَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا. قَالَ: إِنَّ لِي بَيْتًا فِي مَكَّةَ، فَأْتِهِ، فَقَالَ آدَمُ لِلسَّمَاءِ: احْفَظِي وَلَدِي بِالْأَمَانَةِ فَأَبَتْ، وَقَالَ لِلْأَرْضِ فَأَبَتْ، وَقَالَ لِلْجِبَالِ فَأَبَتْ، فَقَالَ لِقَابِيلَ، فَقَالَ: نَعَمْ، تَذْهَبُ وَتَرْجِعُ وَتَجِدُ أَهْلَكَ كَمَا يَسُرُّكَ، فَلَمَّا انْطَلَقَ آدَمُ قَرَّبَا قُرْبَانًا، وَكَانَ قَابِيلُ يَفْخَرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ هِيَ أُخْتِي وَأَنَا أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَنَا وَصِيُّ والدي، فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وَقَرَّبَ قَابِيلُ حِزْمَةَ سُنْبُلٍ فَوَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً عظيمة، ففركها وأكلها فَنَزَلَتِ النَّارُ، فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لِأَقْتُلُنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي، فَقَالَ هَابِيلُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ خيثم قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَحَدَّثَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نُهِيَ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ أَخَاهَا تَوْأَمَهَا وَأُمِرَ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ مِنْ إِخْوَتِهَا، وَكَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بطن رجل وامرأة،
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 529. [.....](3/74)
فبينما هم كذلك إذ وُلِدَ لَهُ امْرَأَةٌ وَضِيئَةٌ وَوُلِدَ لَهُ أُخْرَى قَبِيحَةٌ دَمِيمَةٌ، فَقَالَ أَخُو الدَّمِيمَةِ:
أَنْكِحْنِي أُخْتَكَ وأنكحك أختي، فقال لَا، أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مَنْ صَاحِبِ الْكَبْشِ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ، فَقَتَلَهُ، إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عبد الله بن عثمان بن خيثم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَقَرَّبَا قُرْبَانَهُمَا، فَجَاءَ صَاحِبُ الْغَنَمِ بِكَبْشٍ أَعْيَنَ أَقْرَنَ أَبْيَضَ، وَصَاحِبُ الحرث بصبرة من طعامه، فَقَبِلَ اللَّهُ الْكَبْشَ فَخَزَنَهُ فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خريفا، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام، إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الْآخَرِ، كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ حَرْثٍ وَالْآخِرُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَإِنَّهُمَا أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَرْثِ قَرَّبَ أَشَرَّ حَرْثِهِ الْكَوْدَنِ وَالزَّوَانِ، غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، تَقَبَّلَ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْحَرْثِ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ إِلَى أَخِيهِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْمَدَنِيُّ الْقَاصُّ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَيْ آدَمَ لَمَّا أُمِرَا بِالْقُرْبَانِ، كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ غَنَمٍ وَكَانَ أَنْتَجَ لَهُ حَمْلٌ فِي غَنَمِهِ، فَأَحَبَّهُ حَتَّى كَانَ يُؤْثِرُهُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ حُبِّهِ، حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَلَمَّا أُمِرَ بِالْقُرْبَانِ قَرَّبَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ، فَمَا زَالَ يَرْتَعُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى فَدَى بِهِ ابْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِهَابِيلَ وَقَابِيلَ: إِنَّ رَبِّي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ، فَقَرِّبَا قُرْبَانًا حَتَّى تَقَرَّ عَيْنِي، إِذَا تُقُبِّلَ قُرْبَانُكُمَا فَقَرَّبَا وَكَانَ هَابِيلُ صَاحِبَ غنم فقرب أكولة غنم خَيْرَ مَالِهِ، وَكَانَ قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، فَقَرَّبَ مَشَاقَّةً مِنْ زَرْعِهِ، فَانْطَلَقَ آدَمُ مَعَهُمَا، وَمَعَهُمَا قُرْبَانُهُمَا، فَصَعِدَا الْجَبَلَ، فَوَضَعَا قُرْبَانَهُمَا ثُمَّ جَلَسُوا ثَلَاثَتُهُمْ آدَمُ وَهُمَا يَنْظُرَانِ إِلَى الْقُرْبَانِ، فَبَعَثَ اللَّهُ نَارًا حَتَّى إِذَا كَانَتْ فَوْقَهُمَا دَنَا مِنْهَا عُنُقٌ، فَاحْتَمَلَ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَانْصَرَفُوا، وَعَلِمَ آدَمُ أَنَّ قَابِيلَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ يَا قَابِيلُ رُدَّ عَلَيْكَ قُرْبَانُكَ، فَقَالَ قَابِيلُ أَحْبَبْتَهُ فَصَلَّيْتَ عَلَى قُرْبَانِهِ وَدَعَوْتَ لَهُ فَتُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ وَرُدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي، فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح مِنْكَ، دَعَا لَكَ أَبُوكَ فَصَلَّى عَلَى قُرْبَانِكَ فتقبل
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 527.
(2) المصدر السابق.(3/75)
مِنْكَ، وَكَانَ يَتَوَاعَدُهُ بِالْقَتْلِ إِلَى أَنِ احْتَبَسَ هَابِيلَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ فِي غَنَمِهِ، فَقَالَ آدَمُ: يا قابيل، أين أخوك؟ قَالَ: وَبَعَثَتْنِي لَهُ رَاعِيًا لَا أَدْرِي، فَقَالَ آدَمُ: وَيْلَكَ يَا قَابِيلُ، انْطَلِقْ فَاطْلُبْ أَخَاكَ، فَقَالَ قَابِيلُ فِي نَفْسِهِ: اللَّيْلَةَ أَقْتُلُهُ، وَأَخَذَ مَعَهُ حَدِيدَةً فَاسْتَقْبَلَهُ وَهُوَ مُنْقَلِبٌ، فَقَالَ: يَا هَابِيلُ تُقُبِّلَ قُرْبَانُكَ وَرُدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي لَأَقْتُلَنَّكَ، فَقَالَ هَابِيلُ: قَرَّبْتُ أَطْيَبَ مَالِي، وَقَرَّبْتَ أَنْتَ أَخْبَثَ مَالِكَ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَلَمَّا قَالَهَا غَضِبَ قَابِيلُ، فَرَفَعَ الْحَدِيدَةَ وَضَرَبَهُ بِهَا، فَقَالَ: وَيْلَكَ يَا قَابِيلُ، أَيْنَ أَنْتَ مِنَ اللَّهِ كَيْفَ يَجْزِيكَ بِعَمَلِكَ؟ فَقَتَلَهُ، فَطَرَحَهُ فِي حوبة مِنَ الْأَرْضِ، وَحَثَى عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ التُّرَابِ.
وروى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهُ تَوْأَمَةَ هَابِيلَ، وَأَمَرَ هَابِيلَ أن ينكح توأمة قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وَكَرِهَ تَكَرُّمًا عَنْ أُخْتِ هَابِيلَ، وَرَغِبَ بِأُخْتِهِ عن هابيل وقال: نحن من وِلَادَةُ الْجَنَّةِ، وَهُمَا مِنْ وِلَادَةِ الْأَرْضِ، وَأَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكَ فَأَبَى قَابِيلُ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَبِيهِ، قال لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ قَرِّبْ قُرْبَانًا وَيُقَرِّبْ أَخُوكَ هَابِيلُ قُرْبَانًا فَأَيُّكُمَا تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ فَهُوَ أحق بها، وكان قابيل عَلَى بِذْرِ الْأَرْضِ، وَكَانَ هَابِيلُ عَلَى رِعَايَةِ الماشية، فقرب قابيل قَمْحًا وَقَرَّبَ هَابِيلُ أَبْكَارًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَرَّبَ بَقَرَةً، فَأَرْسَلَ اللَّهُ نَارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وَبِذَلِكَ كَانَ يُقْبَلُ الْقُرْبَانُ إِذَا قَبِلَهُ، رَوَاهُ ابن جرير «1» .
وروى العوفي عن ابن عباس قال: مِنْ شَأْنِهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِسْكِينٌ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ الْقُرْبَانُ يُقَرِّبُهُ الرَّجُلُ فَبَيْنَا ابْنَا آدَمَ قَاعِدَانِ، إِذْ قَالَا لَوْ قَرَّبْنَا قُرْبَانًا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَّبَ قُرْبَانًا فَرَضِيَهُ اللَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ نَارًا فَتَأْكُلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَضِيَهُ اللَّهُ خَبَتِ النَّارُ، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَاعِيًا وَكَانَ الْآخَرُ حَرَّاثًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ خَيْرَ غَنِمِهِ وَأَسْمَنَهَا، وَقَرَّبَ الْآخَرُ بَعْضَ زَرْعِهِ، فَجَاءَتِ النَّارُ فَنَزَلَتْ بَيْنَهُمَا فَأَكَلَتِ الشَّاةَ وَتَرَكَتِ الزَّرْعَ، وَإِنَّ ابْنَ آدَمَ قَالَ لِأَخِيهِ أَتَمْشِي فِي النَّاسِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّكَ قَرَّبْتَ قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْكَ وَرُدَّ عَلَيَّ، فلا والله لا ينظر الناس إليّ وَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي فَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: مَا ذَنْبِي؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» .
فَهَذَا الْأَثَرُ يَقْتَضِي أَنَّ تَقْرِيبَ الْقُرْبَانِ كَانَ لَا عَنْ سَبَبٍ ولا عن تدارؤ «3» في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 529.
(2) تفسير الطبري 4/ 528.
(3) التدارؤ: التدافع في الخصومة.(3/76)
إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ فَالسِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنما غضب عليه وحسده بقبول قُرْبَانِهِ دُونَهُ، ثُمَّ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الشَّاةَ هُوَ هَابِيلُ وَأَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الطَّعَامَ هُوَ قَابِيلُ وَأَنَّهُ تُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ شَاتُهُ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ إنها الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ، كَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الَّذِي قَرَّبَ الزَّرْعَ قَابِيلُ وَهُوَ الْمُتَقَبَّلُ مِنْهُ، وَهَذَا خِلَافَ الْمَشْهُورِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ جَيِّدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَيْ مِمَّنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زِبْرِيقٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ تَمِيمٍ يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ الْمَقْرِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: لِأَنْ أَسْتَيْقِنَ أَنَّ الله قد تقبل لي صَلَاةً وَاحِدَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ يَعْنِي الرَّازِيَّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَفِيفٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: يَا أَبَا عَفِيفٍ أَلَا تُحَدِّثُنَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؟ قَالَ: بَلَى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُحْبَسُ النَّاسُ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ فَيُنَادِي مُنَادٍ: أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ. قُلْتُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟
قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ فَيَمُرُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُهُ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ يَقُولُ لَهُ أَخُوهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الَّذِي تَقَبَّلَ اللَّهُ قُرْبَانَهُ لِتَقْوَاهُ، حين توعده أَخُوهُ بِالْقَتْلِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَنْبٍ مِنْهُ إِلَيْهِ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أَيْ لَا أُقَابِلُكَ عَلَى صَنِيعِكَ الْفَاسِدِ بِمِثْلِهِ فَأَكُونُ أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي الْخَطِيئَةِ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أَيْ مِنْ أَنْ أَصْنَعَ كَمَا تُرِيدُ أَنَّ تَصْنَعَ بَلْ أَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو:
وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ «1» لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ يَعْنِي الْوَرَعُ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» «2» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ»
: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ الله، عن بشر بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قال عند فتنة عثمان: أشهد أن
__________
(1) أي المقتول، كما في تفسير الطبري 4/ 532.
(2) صحيح البخاري (فتن باب 10) وصحيح مسلم (فتن حديث 14 و 15) وسنن النسائي (تحريم باب 29) .
(3) مسند أحمد 1/ 185.(3/77)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي» قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني فقال «كُنْ كَابْنِ آدَمَ» .
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قتيبة بن سعيد وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي وَاقِدٍ وَأَبِي مُوسَى وَخَرَشَةَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: الرَّجُلُ هُوَ حُسَيْنٌ الْأَشْجَعِيُّ، قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «1» مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بن خالد الرملي، حدثنا الفضل عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بشر بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْجَعِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيت إن دخل بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ لِيَقْتُلَنِي؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُنْ كَابْنِ «2» آدَم» وَتَلَا يَزِيدُ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.
قَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ لَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حدثنا ابن حزم، حَدَّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ وَقَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَدِيدٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ كَيْفَ تَصْنَعُ؟» قَالَ: قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ «تَعَفَّفْ» قَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ الناس موت شديد يكون الْبَيْتُ فِيهِ بِالْعَبْدِ يَعْنِي الْقَبْرَ كَيْفَ تَصْنَعُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «اصْبِرْ» قَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَعْنِي حَتَّى تَغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ «4» مِنَ الدِّمَاءِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ «اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بابك» قال: فإن لم أترك، قال «فائت من أنت منهم فكن منهم» قال: فآخذ سلاحي، قال «فإذا تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ طَرْفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ كي يبوء بإثمه وإثمك» ، ورواه مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ سِوَى النَّسَائِيِّ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنِ الْمُشَعَّثِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِنَحْوِهِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُشَعَّثُ في هذا الحديث غير
__________
(1) سنن أبي داود (فتن باب 2) .
(2) في أبي داود: «كابني آدم» .
(3) مسند أحمد 5/ 149.
(4) حجارة الزيت: موضع كان بالمدينة.(3/78)
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةِ حُذَيْفَةَ فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ:
سَمِعْتُ هَذَا يَقُولُ فِي نَاسٍ، مِمَّا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَئِنِ اقْتَتَلْتُمْ لَأَنْظُرَنَّ إِلَى أَقْصَى بَيْتٍ فِي دَارِي فَلَأَلِجَنَّهُ فَلَئِنْ دَخَلَ عَلَيَّ فُلَانٌ لَأَقُولُنَّ هَا، بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَأَكُونُ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» .
وَقَوْلُهُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أَيْ بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي عَلَيْكَ قبل ذلك، قاله ابن جرير «1» . وقال آخرون: يعني بذلك أَنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِخَطِيئَتِي فَتَتَحَمَّلَ وِزْرَهَا وَإِثْمَكَ فِي قَتْلِكَ إِيَّايَ، وَهَذَا قَوْلٌ وَجَدْتُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ غَلَطًا لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ خِلَافُهُ، يَعْنِي مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي قَالَ: بِقَتْلِكَ إِيَّايَ وَإِثْمِكَ قَالَ: بِمَا كَانَ مِنْكَ قَبْلَ ذلك، وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله، وَرَوَى شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يَقُولُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيئَتِي وَدَمِي فَتَبُوءَ بِهِمَا جَمِيعًا.
(قُلْتُ) وَقَدْ يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ «مَا تَرَكَ الْقَاتِلُ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ» وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدِيثًا يُشْبِهُ هَذَا وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثْنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَتْلُ الصَّبْرِ لَا يَمُرُّ بِذَنْبٍ إِلَّا مَحَاهُ» وَهَذَا بِهَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ عَنِ الْمَقْتُولِ بِأَلَمِ الْقَتْلِ ذُنُوبَهُ فَأَمَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْقَاتِلِ فَلَا، وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقُ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ الْغَالِبُ، فَإِنَّ الْمَقْتُولَ يُطَالِبُ الْقَاتِلَ فِي الْعَرَصَاتِ، فَيُؤْخَذُ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ فَإِنْ نَفِدَتْ وَلَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ، أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَقْتُولِ، فَطُرِحَتْ عَلَى الْقَاتِلِ، فَرُبَّمَا لَا يَبْقَى عَلَى الْمَقْتُولِ خَطِيئَةٌ إِلَّا وُضِعَتْ عَلَى الْقَاتِلِ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَظَالِمِ كُلِّهَا، وَالْقَتْلُ مِنْ أَعْظَمِهَا وَأَشَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تَأْوِيلَهُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَنْصَرِفَ بِخَطِيئَتِكَ فِي قَتْلِكَ إِيَّايَ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَأَمَّا مَعْنَى وَإِثْمِكَ فهو إثمه يعني قَتْلِهِ «2» وَذَلِكَ مَعْصِيَتُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 534.
(2) في تفسير الطبري: «فهو إثمه بغير قتله» . [.....](3/79)
لِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَنَا أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ فَجَزَاءُ عَمَلِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمُهُ فِي خَلْقِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ آثَامُ المقتول مأخوذا بها الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْقَاتِلُ بِإِثْمِهِ بِالْقَتْلِ الْمُحَرَّمِ وَسَائِرِ آثَامِ مَعَاصِيهِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا بِنَفْسِهِ دُونَ مَا رَكِبَهُ قَتِيلُهُ، هَذَا لَفْظُهُ، ثُمَّ أَوْرَدَ على هذا سُؤَالًا حَاصِلُهُ كَيْفَ أَرَادَ هَابِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَخِيهِ قَابِيلَ إِثْمُ قَتْلِهِ وَإِثْمُ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ لَهُ مُحَرَّمٌ؟ وَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَابِيلَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ أَخَاهُ إِنْ قَاتَلَهُ، بَلْ يَكُفُّ عنه يده طَالِبًا إِنْ وَقَعَ قَتْلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَخِيهِ لَا مِنْهُ «1» .
قُلْتُ: وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَضَمِّنٌ مَوْعِظَةً لَهُ لَوِ اتَّعَظَ، وَزَجْرًا لَهُ لَوِ انْزَجَرَ، وَلِهَذَا قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أَيْ تَتَحَمَّلُ إِثْمِي وَإِثْمَكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ وَقَالَ ابن عباس: خوفه بالنار فَلَمْ يَنْتَهِ وَلَمْ يَنْزَجِرْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أَيْ فَحَسُنَتْ وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ وَشَجَّعَتْهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَهَذَا الزَّجْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ بن عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ، فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَرَاغَ الْغُلَامُ مِنْهُ في رؤوس الْجِبَالِ، فَأَتَاهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ وَهُوَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَرَفَعَ صَخْرَةً فَشَدَخَ بِهَا رَأْسَهُ فَمَاتَ فَتَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» . وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَنْقًا وَعَضًّا كَمَا تَقْتُلُ السِّبَاعُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ جَعَلَ يَلْوِي عُنُقَهُ، فَأَخَذَ إِبْلِيسُ دَابَّةً وَوَضَعَ رَأْسَهَا عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ أَخَذَ حَجَرًا آخَرَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهَا حَتَّى قَتَلَهَا وَابْنُ آدَمَ يَنْظُرُ، فَفَعَلَ بِأَخِيهِ مِثْلَ ذَلِكَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عن أبيه، قَالَ: أَخَذَ بِرَأْسِهِ لِيَقْتُلَهُ فَاضْطَجَعَ لَهُ وَجَعَلَ يَغْمِزُ رَأْسَهُ وَعِظَامَهُ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَقْتُلُهُ، فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَخُذْ هَذِهِ الصَّخْرَةَ فَاطْرَحْهَا عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: فَأَخَذَهَا فَأَلْقَاهَا عَلَيْهِ فَشَدَخَ رَأْسَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى حَوَّاءَ مُسْرِعًا فَقَالَ: يَا حَوَّاءُ إِنَّ قَابِيلَ قَتَلَ هَابِيلَ، فَقَالَتْ له: ويحك وأي شَيْءٍ يَكُونُ الْقَتْلُ؟ قَالَ: لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَتَحَرَّكُ، قَالَتْ: ذَلِكَ الْمَوْتُ. قَالَ: فَهُوَ الْمَوْتُ، فَجَعَلَتْ تَصِيحُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا آدَمُ وَهِيَ تَصِيحُ، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ فَلَمْ تكلمه، فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله، فَقَالَ: عَلَيْكِ الصَّيْحَةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ، وَأَنَا وَبَنِيَّ مِنْهَا بُرَآءُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وأي خسارة أعظم من هذه؟ وقد
__________
(1) لمزيد من الإيضاح راجع تفسير الطبري 4/ 534- 535.
(2) تفسير الطبري 4/ 536.(3/80)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ:
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ بِسَاقِهَا إِلَى فَخِذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ فِي الشَّمْسِ حَيْثُمَا دَارَتْ دَارَ، عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ نَارٍ، وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّا لِنَجِدُ ابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ يُقَاسِمُ أَهْلَ النَّارِ قِسْمَةً صَحِيحَةَ الْعَذَابِ عَلَيْهِ شَطْرُ عَذَابِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلا لابن آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ، مَا سُفِكَ دَمٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ قَتَلَ أَخَاهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا لَحِقَ بِهِ مِنْهُ شَرٌّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَا مِنْ مَقْتُولٍ يُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ وَالشَّيْطَانِ كِفْلٌ منه، ورواه ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ قَالَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ إلى الصحابة رضي الله عنهم: لَمَّا مَاتَ الْغُلَامُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ، وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَحَفَرَ لَهُ ثُمَّ حَثَى عليه، فلما رآه قَالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي «2» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فحثى عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ حَتَّى وَارَاهُ، فَقَالَ الَّذِي قتل أخاه يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي «3» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَكَثَ يَحْمِلُ أَخَاهُ فِي جِرَابٍ عَلَى عَاتِقِهِ سَنَةً حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ، فَرَآهُمَا يَبْحَثَانِ، فَقَالَ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَدَفَنَ أَخَاهُ «4» ، وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: كان يَحْمِلُهُ عَلَى عَاتِقِهِ مِائَةَ سَنَةٍ مَيِّتًا لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ، يَحْمِلُهُ وَيَضَعُهُ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى رَأَى الْغُرَابَ يَدْفِنُ الْغُرَابَ، فَقَالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «5» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ:
لَمَّا قَتَلَهُ نَدِمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ حَتَّى أَرْوَحَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطُّيُورُ وَالسِّبَاعُ تَنْتَظِرُ متى يرمي به فتأكله،
__________
(1) مسند أحمد 1/ 383.
(2) تفسير الطبري 4/ 538.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر السابق ص 539.(3/81)
رواه ابن جرير.
وروى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده، أي وَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُوَارِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فِي بَنِي آدَمَ، وَأَوَّلَ مَيِّتٍ فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ، قَالَ لَهُ اللَّهُ عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا كُنْتُ عَلَيْهِ رَقِيبًا، فَقَالَ اللَّهُ: إِنَّ صَوْتَ دَمِ أَخِيكَ لَيُنَادِيَنِي من الأرض الآن، أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ، فَإِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ حَرْثَهَا حَتَّى تَكُونَ فَزِعًا تَائِهًا فِي الْأَرْضِ «1»
. وَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَاهُ اللَّهُ بِنَدَامَةٍ بَعْدَ خُسْرَانٍ.
فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَيْنَ ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَكَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ «إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» وَهَذَا ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ هُوَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ فِي الْقُرْآنِ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُونَا ابْنِي آدَمَ لصلبه، وإنما كان القربان من بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ آدَمُ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرَبَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلًا، فَخُذُوا بِالْخَيْرِ مِنْهُمَا» وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مثلا، فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم» ، وكذا أرسل هذا الحديث بكير بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» . وَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: لَمَّا قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ مَكَثَ آدَمُ مِائَةَ سَنَةٍ حَزِينًا لَا يَضْحَكُ، ثُمَّ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: حَيَّاكَ اللَّهُ وَبَيَّاكَ، أَيْ أَضْحَكَكَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أخاه بكاه آدم فقال: [الوافر]
تَغيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَلَوْنُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ ... وَقَلَّ بشاشة الوجه المليح
__________
(1) رواه الطبري 4/ 539 من طريق محمد بن إسحاق بأطول مما هنا.
(2) تفسير الطبري 4/ 530.
(3) تفسير الطبري 4/ 540.
(4) تفسير الطبري 4/ 530.(3/82)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:
أبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلَا جَمِيعًا ... وَصَارَ الْحَيُّ كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ
وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْها ... عَلَى خَوْفٍ فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قابيل عوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة، وَجَعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ عُقُوبَةً لَهُ وَتَنْكِيلًا بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي فِعْلِ قَابِيلَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّا لله وإنا إليه راجعون.
[سورة المائدة (5) : الآيات 32 الى 34]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
يَقُولُ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ شَرَعْنَا لَهُمْ وَأَعْلَمْنَاهُمْ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أَيْ من قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَاسْتَحَلَّ قَتْلَهَا بِلَا سَبَبٍ وَلَا جِنَايَةَ، فَكَأَنَّمَا قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ وَنَفْسٍ، وَمَنْ أَحْيَاهَا، أَيْ حَرَّمَ قَتَلَهَا وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلِهَذَا قَالَ فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَقَالَ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ فَقُلْتُ: جِئْتُ لِأَنْصُرَكَ، وَقَدْ طَابَ الضَّرْبُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَيَسُرُّكَ أَنْ تَقْتُلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَإِيَّايَ مَعَهُمْ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَ رَجُلًا وَاحِدًا فَكَأَنَّمَا قَتَلْتَ النَّاسَ جَمِيعًا فَانْصَرِفْ مَأْذُونًا لَكَ مَأْجُورًا غَيْرَ مَأْزُورٍ، قَالَ: فَانْصَرَفْتُ وَلَمْ أُقَاتِلْ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: هُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَإِحْيَاؤُهَا أَلَّا يَقْتُلَ نَفْسًا حَرَّمَهَا اللَّهُ، فَذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا يَعْنِي أَنَّهُ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِحَقٍّ حيي الناس منه، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ أَحْيَاهَا، أَيْ كَفَّ عن قتلها «1» .
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 543.(3/83)
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً حَرَّمَهَا اللَّهُ، فَهُوَ مِثْلُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، هَذَا قَوْلٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامَ عَدْلٍ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ شَدَّ عَلَى عَضُدِ نَبِيٍّ أَوْ إِمَامِ عَدْلٍ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نفس فكأنما قتل الناس جميعا، وذلك لأن مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ فَلَهُ النَّارُ فَهُوَ كَمَا لو قتل الناس كلهم، قال ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ الْمُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا، جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، وغضب عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، يَقُولُ: لَوْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قَالَ: مَنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا فَقَدْ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس، يَعْنِي فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَصَّاصُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ عَفَا عَنْ قَاتِلِ وَلِيِّهِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ أَحْيَاهَا، أَيْ أَنْجَاهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَلَكَةٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، هَذَا تَعْظِيمٌ لتعاطي القتل، قال قتادة: عظيم والله وزرها، وعظيم وَاللَّهِ أَجْرُهَا: وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَلَامِ بن مسكي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الرِّبْعِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: هَذِهِ الْآيَةُ لَنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: إِي وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا جُعِلَ دِمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ دِمَائِنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، قَالَ: وِزْرًا، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، قَالَ: أَجْرًا «2» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: جَاءَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْنِي عَلَى شَيْءٍ أَعِيشُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا حَمْزَةُ نَفْسٌ تُحْيِيهَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ نَفْسٌ تُمِيتُهَا؟» قَالَ: بَلْ نَفْسٌ أحييها. قال «عليك بنفسك» .
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أَيْ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ والدلائل الواضحة،
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 543.
(2) الآثار السابقة رواها الطبري في تفسيره 4/ 543. [.....]
(3) مسند أحمد 2/ 175.(3/84)
ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ وَهَذَا تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى ارْتِكَابِهِمُ الْمَحَارِمَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهَا، كَمَا كَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِمَّنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الْحُرُوبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ إِذَا وَضَعَتِ الْحُرُوبُ أَوْزَارَهَا. فَدَوْا مَنْ أَسَرُوهُ وَوَدَوْا مَنْ قَتَلُوهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حَيْثُ يَقُولُ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:
84- 85] .
وقوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ الْآيَةَ، الْمُحَارِبَةُ هِيَ الْمُضَادَّةُ وَالْمُخَالِفَةُ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ، وَكَذَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الشَّرِّ، حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إن قبض الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ قال تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَةِ: 205] ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ يَزِيدَ عن عكرمة والحسن البصري، قالا إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ- إِلَى- أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مَنْ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ، أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «2» وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً، نَزَلَتْ فِي المشركين من تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً الآية، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 547.
(2) سنن أبي داود (حدود باب 3) .(3/85)
وَمِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ رَسُولَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتُلَ وَإِنْ شاء أن يقطع أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ «2» إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ ارْتَكَبَ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ الْبَصْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعُوهُ عَلَى الإسلام، فاستوخموا «3» المدينة، وسقمت أجسامهم فَشَكَوَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ذلك، فَقَالَ «أَلَّا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ، فَتُصِيبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَقَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَطَرَدُوا الْإِبِلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ، ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا، لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، وَفِي لَفْظٍ: وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ فَجَعَلُوا يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيبٍ، وَحُمَيْدٍ عن أنس، فذكر نحوه وعنده فارتدوا، وَقَدْ أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: مِنْ عُكْلٍ وعرينة، وراه مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ، لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُرَيْنةَ فَأَسْلَمُوا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الدم وَهُوَ الْبِرْسَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ وَزَادَ: عنده شَبَابٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا فأرسلهم وبعث معهم قائفا يقفو أَثَرَهُمْ وَهَذِهِ كُلُّهَا أَلْفَاظُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ «4» .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا، فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَسَاقُوا الْإِبِلَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسَمَرَ أعينهم
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 547.
(2) هم الخوارج.
(3) أي لم يوافق مناخها أبدانهم وأمزجتهم.
(4) انظر صحيح البخاري (ديات باب 22) وصحيح مسلم (قسامة حديث 10) .(3/86)
وَأَلْقَاهُمْ فِي الْحَرَّةِ قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ يَكْدُمُ الْأَرْضَ بِفِيهِ عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا، وَنَزَلَتْ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ «1» .
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ سَلَامِ بْنِ أَبِي الصَّهْبَاءِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ، مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ سَأَلَنِي عَنْهُ الْحَجَّاجُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ:
قُلْتُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَوْمٌ مِنْ عُرَيْنَةَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَشَكَوَا إِلَى رسول الله مَا لَقُوا مِنْ بُطُونِهِمْ، وَقَدِ اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ، وضمرت بُطُونُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، حَتَّى إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ أَلْوَانُهُمْ وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ أَلْقَاهُمْ فِي الرَّمْضَاءِ حَتَّى مَاتُوا. فَكَانَ الْحَجَّاجُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَطَعَ أَيْدِيَ قَوْمٍ وَأَرْجُلَهُمْ، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ كَانُوا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ عُرَيْنَةَ، وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ عُكْلٍ، فَلَمَّا أُتِيَ بهم قطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون الْحِجَارَةَ بِالْحَرَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن الحسن الزجاج، حدثنا أبو سعيد يَعْنِي الْبَقَّالَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَهْطٌ مِنْ عُرَيْنَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِمْ جَهْدٌ، مُصْفَرَّةٌ أَلْوَانُهُمْ، عَظِيمَةٌ بُطُونُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِالْإِبِلِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَفَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَخَمَصَتْ بُطُونُهُمْ، وَسَمِنُوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَسَمَرَ أَعْيُنَ بَعْضِهِمْ، وَقَطَعَ أَيْدِي بَعْضِهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَنَزَلَتْ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى آخر الْآيَةِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فكتب إليه
__________
(1) سنن أبي داود (حدود باب 2) وسنن الترمذي (طهارة باب 55) .
(2) تفسير الطبري 4/ 549.
(3) المصدر السابق.(3/87)
أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة، قال أَنَسٌ: فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَصَابُوا الْفَرْجَ الْحَرَامَ.
وَقَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرْنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بن الحارث عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَوْ عَمْرٍو- شَكَّ يُونُسُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، يَعْنِي بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ آيَةُ الْمُحَارِبَةِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ «1» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ»
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ عُرَيْنَةَ حُفَاةٌ مَضْرُورِينَ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَحُّوا وَاشْتَدُّوا، قَتَلُوا رِعَاءَ اللِّقَاحِ، ثُمَّ خَرَجُوا بِاللِّقَاحِ عَامِدِينَ بِهَا إِلَى أَرْضِ قَوْمِهِمْ، قَالَ جَرِيرٌ فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أَشْرَفُوا عَلَى بِلَادِ قَوْمِهِمْ، فَقَدِمْنَا بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: الْمَاءَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: النَّارُ حَتَّى هَلَكُوا، قَالَ: وَكَرِهَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمْلَ الْأَعْيُنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وفي إسناده الربذي وهو ضعيف، وفي إسناده فَائِدَةٌ، وَهُوَ ذِكْرُ أَمِيرِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ، وَهُوَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي صحيح مسلم أن هذه السَّرِيَّةَ كَانُوا عِشْرِينَ فَارِسًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكَرِهَ اللَّهُ سَمْلَ الْأَعْيُنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ، فَكَانَ مَا فَعَلَ بِهِمْ قَصَاصًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ قَدْ مَاتُوا هَزْلًا، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى لِقَاحِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهَا حَتَّى صَحُّوا، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى لَقَاحِهِ فَسَرَقُوهَا، فَطُلِبُوا فَأْتِي بِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَرَ «3» أَعْيُنَهُمْ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْرَ الْأَعْيُنِ بَعْدُ، وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ
__________
(1) سنن أبي داود (حدود باب 3) .
(2) تفسير الطبري 4/ 548.
(3) قال في اللسان (سمر) : سمر عينه: كسملها. ومن روى الحديث باللام فمعناه فقأها بشوك أو غيره، وقوله سمر أعينهم أي أحمى لا مسامير الحديث ثم كحلها بها.(3/88)
مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ يَسَارٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ فَأَعْتَقَهُ، وَبَعَثَهُ فِي لِقَاحٍ لَهُ بِالْحَرَّةِ فَكَانَ بِهَا، قَالَ: فَأَظْهَرَ قَوْمٌ الْإِسْلَامَ مَنْ عُرَيْنَةَ، وَجَاءُوا وَهُمْ مَرْضَى مَوْعُوكُونَ قَدْ عَظُمَتْ بُطُونُهُمْ قَالَ: فَبَعَثَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَسَارٍ، فَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ حَتَّى انْطَوَتْ بُطُونُهُمْ، ثُمَّ عَدَوْا عَلَى يَسَارٍ فَذَبَحُوهُ، وجعلوا الشوك في عينيه، ثم طردوا الْإِبِلَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آثارهم خيلا من المسلمين، كبيرهم كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ، فَلَحِقَهُمْ فَجَاءَ بِهِمْ إِلَيْهِ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ رَوَى قِصَّةَ الْعُرَنِيِّينَ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ جَابِرٌ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ بِتَطْرِيقِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ وَسُئِلَ عَنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ الْمُحَارِبِينَ فَقَالَ: كَانَ أُنَاسٌ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَبَايَعُوهُ وَهُمْ كَذَبَةٌ، وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ يُرِيدُونَ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا نَجْتَوِي الْمَدِينَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم هذه اللقاح تغدوا عَلَيْكُمْ وَتَرُوحُ، فَاشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، قَالَ: فبينما هم كذلك إذ جاء الصَّرِيخُ، فَصَرَخَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ «أَنْ يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي» قَالَ: فَرَكِبُوا لَا يَنْتَظِرُ فَارِسٌ فَارِسًا، قَالَ: وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ، فَرَجَعَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسَرُوا مِنْهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ، قَالَ فَكَانَ نَفْيُهُمْ أَنْ نَفَوْهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ وَأَرْضَهُمْ، وَنَفَوْهُمْ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَصَلَبَ، وَقَطَعَ وَسَمَرَ الْأَعْيُنَ، قَالَ: فَمَا مَثَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، وقال «وَلَا تُمَثِّلُوا بِشَيْءٍ» قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ يَقُولُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ بَعْدَ مَا قَتَلَهُمْ، قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُمْ نَاسٌ من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس مِنْ بُجَيْلَةَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ الْعُرَنِيِّينَ: هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ، أَوْ مُحْكَمٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
هُوَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ فِيهَا عِتَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كما في قوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَهَذَا القول فيه نظر، ثم قائله مُطَالِبٌ بِبَيَانِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ الَّذِي ادَّعَاهُ عَنِ الْمَنْسُوخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين، وفيه نظر، فإن قصته مُتَأَخِّرَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِقِصَّتِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهَا، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ يسمل
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 548. [.....](3/89)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَهُمْ، وَإِنَّمَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُحَارِبِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَمَلَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَمَرَ أَعْيُنَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: ذَاكَرْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ مَا كَانَ مِنْ سَمْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرْكِهِ حَسْمَهُمْ حَتَّى ماتوا، فقال: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاتَبَةً فِي ذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ عُقُوبَةَ مِثْلِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ، وَلَمْ يُسْمِلْ بِعْدَهُمْ غَيْرَهُمْ قَالَ: وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ ذُكِرَ لِأَبِي عَمْرٍو يَعْنِي الْأَوْزَاعِيَّ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ نَزَلَتْ مُعَاتَبَةً، وَقَالَ: بَلْ كَانَتْ عُقُوبَةَ أُولَئِكَ النَّفَرِ بِأَعْيَانِهِمْ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُقُوبَةِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ حَارَبَ بَعْدَهُمْ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ السَّمْلَ.
ثُمَّ قَدِ احْتَجَّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ جُمْهُورُ من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم الْمُحَارَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ وَفِي السُّبْلَانِ عَلَى السَّوَاءِ لِقَوْلِهِ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَهَذَا مَذْهَبُ مالك والأوزاعي وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَغْتَالُ الرَّجُلَ فَيَخْدَعُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بَيْتًا فَيَقْتُلُهُ، وَيَأْخُذُ مَا معه: إن هذه مُحَارِبَةٌ، وَدَمُهُ إِلَى السُّلْطَانِ لَا إِلَى وَلِيِّ المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط الْقَتْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ إِلَّا فِي الطُّرُقَاتِ، فَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَلَا، لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إِذَا اسْتَغَاثَ، بِخِلَافِ الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه.
وقوله تعالى أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآية: من شهر السلاح في فئة الْإِسْلَامِ، وَأَخَافُ السَّبِيلَ ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ وَقُدِرَ عَلَيْهِ فَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ صُلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَرَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ ظَاهِرَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [المائدة: 95] وكقوله في كفارة الفدية فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الْبَقَرَةِ: 196] وَكَقَوْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: 89] هَذِهِ كُلُّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ، كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ: أنبأنا
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 550.
(2) تفسير الطبري 4/ 552- 553.(3/90)
إبراهيم بن أَبِي يَحْيَى عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نُفُوا مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وعن أبي مخلد وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يُصْلَبُ حَيًّا وَيُتْرَكُ حَتَّى يَمُوتَ بِمَنْعِهِ مِنَ الطعام والشراب، أو بقتله برمح أو نحوه، أَوْ يُقْتَلُ أَوَّلًا ثُمَّ يُصْلَبُ تَنْكِيلًا وَتَشْدِيدًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَهَلْ يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَنْزِلُ أَوْ يُتْرَكُ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ؟ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ خِلَافٌ مُحَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَبِاللَّهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْصِيلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» فِي تَفْسِيرِهِ إِنْ صَحَّ سَنَدُهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بَجِيلَةَ، قَالَ أَنَسٌ: فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَصَابُوا الْفَرْجَ الْحَرَامَ، قَالَ أَنَسٌ: فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ فَقَالَ: من سرق مالا وَأَخَافَ السَّبِيلَ، فَاقْطَعْ يَدَهُ بِسَرِقَتِهِ وَرِجْلَهُ بِإِخَافَتِهِ، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ فَاصْلُبْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِ فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ يَهْرُبُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَوْ يُخْرِجُهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَنْفِيهِ- كَمَا قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ- مِنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ يُنْفَى مِنْ جُنْدٍ إلى جند سنين، ولا يخرج من دار الْإِسْلَامِ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ إِنَّهُ يُنْفَى وَلَا يُخْرَجُ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ هَاهُنَا السِّجْنُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ هَاهُنَا أَنْ يُخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فَيُسْجَنَ فِيهِ «2» .
وَقَوْلُهُ تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ قَتْلِهِمْ وَمِنْ صَلْبِهِمْ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ وَنَفْيِهِمْ، خِزْيٌ لَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 549.
(2) تفسير الطبري 4/ 557- 558.(3/91)
فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَعَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ أَلَّا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِي، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا يَعْضَهُ «1» بَعْضُنَا بَعْضًا، فمن وفي منكم فأجره على الله تعالى، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عنه «2» ، وعن عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَعُوقِبَ بِهِ، فَاللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عُقُوبَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَفَا عَنْهُ، فَاللَّهُ أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه» . ورواه الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ سُئِلَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، قَالَ وَرَفْعُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا يَعْنِي شَرٌّ وَعَارٌ وَنَكَالٌ وَذِلَّةٌ وَعُقُوبَةٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أَيْ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ حتى هلكوا لهم فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْجَزَاءِ الَّذِي جَازَيْتُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعُقُوبَةِ الَّتِي عَاقَبَتْهُمْ بِهَا فِيهَا عَذابٌ عَظِيمٌ، يعني عذاب جهنم، وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أُمَّا على قول من قال: إنها فِي أَهْلِ الشِّرْكِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ الْمُسْلِمُونَ فَإِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُمُ انْحِتَامُ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَقَطْعِ الرِّجْلِ، وَهَلْ يَسْقُطُ قَطْعُ الْيَدِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْجَمِيعِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن مجالد، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَحَارَبَ، فَكَلَّمَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ الله بن جعفر، فكلموا عليا فيه فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ، فَأَتَى سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ فَخَلْفَهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ أَتَى عَلِيًّا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قَالَ: فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ: فَإِنَّهُ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ مجالد عَنِ الشَّعْبِيِّ بِهِ، وَزَادَ فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ بدر: [الطويل]
ألا بلغن هَمْدَانَ إمَّا لَقِيتَهَا ... عَلى النَّأْيِ لَا يَسْلَمْ عدو يعيبها
__________
(1) أي لا يقذفه بالباطل.
(2) صحيح مسلم (حدود حديث 43) .
(3) مسند أحمد 1/ 99.
(4) تفسير الطبري 4/ 560.(3/92)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
لعمر أبيها إن همدان تتقي الإله ... ويَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا «1»
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «2» مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ السُّدِّيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ إِلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه بعد ما صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى هَذَا مقام العائذ بك، أنا فلان ابن فُلَانٍ الْمُرَادِيُّ، وَإِنِّي كُنْتُ حَارَبْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَيْتُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَإِنِّي تُبْتُ مِنْ قبل أن تقدروا عَلَيَّ، فَقَامَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ هَذَا فلان ابن فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كَانَ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَإِنَّهُ تَابَ مِنْ قَبْلِ أن نقدر عَلَيْهِ فَمَنْ لَقِيَهُ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنْ يَكُ صَادِقًا فَسَبِيلُ مِنْ صِدْقٍ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا تُدْرِكْهُ ذُنُوبُهُ، فَأَقَامَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ:
قَالَ اللَّيْثُ: وَكَذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عِنْدَنَا، أَنَّ عَلِيًّا الْأَسَدِيَّ حَارَبَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَأَصَابَ الدَّمَ وَالْمَالَ فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يقدروا عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ تَائِبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ رجلا يقرأ هذه الْآيَةِ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزُّمَرِ: 53] فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعِدْ قِرَاءَتَهَا فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَغَمَدَ سَيْفَهُ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ السَّحَرِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ قَعَدَ إِلَى أبي هريرة في أغمار أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَسَفَرُوا عَرَفَهُ النَّاسُ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيَّ جِئْتُ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ أَبُو هريرة: صدق، وأخذ بيده حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: هَذَا عَلِيٌّ جَاءَ تَائِبًا وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ ولا قتل، فَتُرِكَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ وَخَرَجَ عَلِيٌّ تَائِبًا مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَقُوا الرُّومَ فَقَرَّبُوا سَفِينَتَهُ إِلَى سَفِينَةٍ مِنْ سُفُنِهِمْ فَاقْتَحَمَ عَلَى الرُّومِ فِي سَفِينَتِهِمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَى شِقِّهَا الْآخَرِ «4» ، فَمَالَتْ بِهِ وَبِهِمْ فغرقوا جميعا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
__________
(1) البيتان في تفسير الطبري 4/ 562 وفيه «أبلغن» مكان «بلغن» .
(2) تفسير الطبري 4/ 563.
(3) تفسير الطبري 4/ 564.
(4) عبارة الطبري: «فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى» .(3/93)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَهِيَ إذا قرنت بطاعته كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الِانْكِفَافَ عَنِ الْمَحَارِمِ وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَهَا وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ قال سفيان الثوري، عَنْ طَلْحَةَ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أي القربة، وكذا قال مجاهد وَأَبُو وَائِلٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَالسُّدِّيُّ وابن زيد وغير واحد. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الْإِسْرَاءِ: 57] وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ لَا خِلَافَ بَيْنِ المفسرين فيه. وأنشد عليه ابن جرير قول الشاعر:
[الطويل]
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ «1»
وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَالْوَسِيلَةُ أَيْضًا عَلَمٌ عَلَى أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ مَنْزِلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَارُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ أَمْكِنَةِ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، إلا حلت له الشفاعة يوم الْقِيَامَةِ» «2» .
حَدِيثٌ آخَرُ- فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» «3» .
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَسَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ» . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ «أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ، عن أبي عاصم، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ كعب قال: حدثني أبو هريرة، ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، وَكَعْبٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْرَ لَيْثِ بْنِ أبي سليم.
__________
(1) البيت بلا نسبة أيضا في تفسير الطبري 4/ 567 وتفسير القرطبي 6/ 159.
(2) صحيح البخاري (أذان باب 8) . [.....]
(3) صحيح مسلم (صلاة حديث 11) .
(4) مسند أحمد 2/ 265.(3/94)
حديث آخَرَ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ التِّرْمِذِيُّ، حدثنا عبد الحميد بن صالح، حدثنا ابن شِهَابٍ عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ، قَالَ «صَلُّوا عَلَيَّ صَلَاتَكُمْ وَسَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ» فسألوه، أو أخبرهم أَنَّ الْوَسِيلَةَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَيْسَ يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا.
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: أَخْبَرْنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يَسْأَلْهَا لِي عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، ثُمَّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ إِلَّا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، كَذَا قَالَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ- رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْوَسِيلَةَ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ فَوْقَهَا دَرَجَةٌ، فَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْوَسِيلَةَ عَلَى خَلْقِهِ» .
حَدِيثٌ آخَرُ- رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «فِي الْجَنَّةِ دَرَجَةٌ تُدْعَى الْوَسِيلَةَ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ يُسْكَنُ مَعَكَ؟ قَالَ: «عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، حدثنا سعيد بْنُ طَرِيفٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيِّ مَوْلَى سَالِمِ بْنِ ثَوْبَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يُنَادِي عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لُؤْلُؤَتَيْنِ: إحداهما بيضاء، والأخرى صفراء، أما البيضاء فَإِنَّهَا إِلَى بُطْنَانِ الْعَرْشِ، وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ مِنَ اللُّؤْلُؤَةِ الْبَيْضَاءِ سَبْعُونَ أَلْفَ غُرْفَةٍ، كُلُّ بَيْتٍ منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها مِنْ عِرْقٍ وَاحِدٍ، وَاسْمُهَا الْوَسِيلَةُ، هِيَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَالصَّفْرَاءُ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ هِيَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ، أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، والتاركين لِلدِّينِ الْقَوِيمِ، وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْفَلَاحِ، والسعادة(3/95)
الْعَظِيمَةِ الْخَالِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي لَا تَبِيدُ وَلَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ فِي الْغُرَفِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ، الْآمِنَةِ الْحَسَنَةِ مَنَاظِرُهَا، الطَّيِّبَةُ مَسَاكِنُهَا، الَّتِي مَنْ سكنها ينعم لا يبأس، ويحيى لَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِمَا أَعَدَّ لِأَعْدَائِهِ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَبِمَثَلِهِ لِيَفْتَدِيَ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الَّذِي قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَتَيَقَّنَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ مَا تُقُبِّلَ ذَلِكَ مِنْهُ، بَلْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ وَلَا مَحِيصَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ، وَلِهَذَا قَالَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ مُوجِعٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22] الآية، فَلَا يَزَالُونَ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ شَدَّتِهِ وَأَلِيمِ مَسِّهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلى ذلك، وكلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إِلَى أَسْفَلِهَا وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النار فيقال له: يَا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَضْجَعَكَ؟
فَيَقُولُ: شر مضجع، فيقال: هَلْ تَفْتَدِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ ذَهَبًا؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نعم يا رب، فيقول الله: كَذَبْتَ، قَدْ سَأَلَتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِنَحْوِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ بِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِهِ، وَرَوَاهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ ابن مردويه من طريقه عنه.
ثم روى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ صُهَيبٍ الْفَقِيرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» قَالَ: فَقُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:
يَقُولُ اللَّهُ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها قَالَ: اتْلُ أَوَّلَ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ الْآيَةَ، أَلَّا إِنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ: مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَهَذَا أَبْسَطُ سِيَاقًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ محمد بن أبي شيبة الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرْنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فحدث أن ناسا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، قَالَ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أُنْكِرُ ذَلِكَ، فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ:
مَا أَعْجَبُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ نَاسًا مِنَ(3/96)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
النَّارِ، وَاللَّهُ يَقُولُ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها الآية، فَانْتَهَرَنِي أَصْحَابُهُ، وَكَانَ أَحْلَمَهُمْ، فَقَالَ: دَعَوُا الرَّجُلَ إنما ذلك للكفار، فقرأ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ حَتَّى بَلَغَ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَدْ جَمَعْتُهُ، قَالَ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] فَهُوَ ذَلِكَ الْمَقَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَبِسُ أَقْوَامًا بِخَطَايَاهُمْ فِي النَّارِ مَا شَاءَ، لَا يُكَلِّمُهُمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ أَخْرَجَهُمْ، قَالَ: فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ أُكَذِبَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بن عليّ، أخبرنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، حَدَّثَنِي طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَكْذِيبًا بِالشَّفَاعَةِ حَتَّى لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كُلَّ آيَةٍ أقدر عليها، يذكر الله فِيهَا خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ: يَا طَلْقُ، أتُرَاكَ أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ الله مِنِّي؟ إِنَّ الَّذِينَ قَرَأْتَ هُمْ أَهْلُهَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَصَابُوا ذُنُوبًا فَعُذِّبُوا، ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْهَا، ثُمَّ أَهْوَى بِيَدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول «يخرجون من النار بعد ما دخلوا» ونحن نقرأ كما قرأت.
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
يَقُولُ تَعَالَى حَاكِمًا وَآمِرًا بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَؤُهَا «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا» وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مُوَافِقًا لَهَا لَا بِهَا، بَلْ هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَقَدْ كَانَ الْقَطْعُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُرِّرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَزِيدَتْ شُرُوطٌ أُخَرُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا كَانَتِ الْقِسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَالْقِرَاضُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَزِيَادَاتٌ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْمَصَالِحِ وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قُرَيْشٌ، قَطَعُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: دُوَيْكٌ مَوْلًى لِبَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ، كَانَ قَدْ سَرَقَ كَنْزَ الْكَعْبَةِ، وَيُقَالُ: سَرَقَهُ قَوْمٌ فَوَضَعُوهُ عِنْدَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ مَتَّى سَرَقَ السَّارِقُ شَيْئًا قُطِعَتْ يَدُهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما فَلَمْ يَعْتَبِرُوا نِصَابًا وَلَا حِرْزًا، بَلْ أَخَذُوا بِمُجَرَّدِ السَّرِقَةِ.(3/97)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَنْ نَجْدَةَ الْحَنَفِيِّ، قَالَ:
سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أَخَاصٌّ أَمْ عَامٌّ؟ فَقَالَ: بَلْ عَامٌّ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافَقَةً مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَمَسَّكُوا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» «2» وَأَمَّا الْجُمْهُورُ، فَاعْتَبَرُوا النِّصَابَ فِي السَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ فِي قَدْرِهِ، فَذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى قَوْلٍ عَلَى حِدَةٍ، فَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ النِّصَابُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ خَالِصَةٍ، فَمَتَى سَرَقَهَا أَوْ ما يبلغ ثمنها فما فوقه، وَجَبَ الْقَطْعُ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «3» ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَطَعَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَهُوَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْأَثَرُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زمن عُثْمَانَ أُتْرُجَّةً، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُقَوَّمَ فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ درهما، فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ. قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ:
وَمِثْلُ هَذَا الصَّنِيعِ يُشْتَهَرُ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَمِنْ مِثْلِهِ يُحْكَى الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقَطْعِ فِي الثِّمَارِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ خِلَافًا لَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ رُبْعِ دِينَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِرُبْعِ دِينَارٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْأَثْمَانِ أَوِ الْعُرُوضِ فَصَاعِدًا، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» «4» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهَذَا الْحَدِيثُ فَاصِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنَصٌّ فِي اعْتِبَارِ رُبْعِ الدِّينَارِ لَا مَا سَاوَاهُ. قَالُوا:
وَحَدِيثُ ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَا يُنَافِي هَذَا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ الدِّينَارُ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطَّرِيقِ، وَيُرْوَى هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ يَقُولُ عُمَرُ بن عبد العزيز
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 570.
(2) صحيح مسلم (حدود حديث 7) وسنن ابن ماجة (حدود باب 22) وسنن النسائي (سارق باب 1) .
(3) صحيح مسلم (حدود حديث 6) وسنن أبي داود (حدود باب 12) وسنن الترمذي (حدود باب 16) وسنن النسائي (سارق باب 8) وموطأ مالك (حدود حديث 21) .
(4) صحيح البخاري (حدود باب 13) وصحيح مسلم (حدود حديث 2) وسنن النسائي (سارق باب 8) .(3/98)
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ بن رَاهْوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ أحمد بن حنبل وإسحاق بن رَاهْوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رُبْعِ الدِّينَارِ وَالثَّلَاثَةِ دَرَاهِمَ مَرَدٌّ شَرْعِيٌّ، فَمَنْ سَرَقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ مَا يُسَاوِيهِ، قُطِعَ عَمَلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَبِحَدِيثِ عائشة رضي الله عنها، وَوَقَعَ فِي لَفْظٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ» «1» وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ يَوْمئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَالدِّينَارُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» . قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبْعُ دِينَارٍ، فَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَكَذَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النِّصَابَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ غَيْرِ مَغْشُوشَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ الَّذِي قُطِعَ فِيهِ السَّارِقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نمير وعبد الأعلى، حدثنا مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي دُونِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، قَالُوا: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ خَالَفَا ابْنَ عُمَرَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، فَالِاحْتِيَاطُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٍ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمُتُهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، يُحْكَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ، أَيْ فِي خَمْسَةِ دَنَانِيرَ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَيُنْقُلُ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» بِأَجْوِبَةٍ [أَحَدُهَا] أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ التَّارِيخِ. [وَالثَّانِي] أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِبَيْضَةِ الْحَدِيدِ وَحَبْلِ السُّفُنِ، قَالَهُ الْأَعْمَشُ فِيمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عنه. [والثالث] أن هذه وَسِيلَةٌ إِلَى التَّدَرُّجِ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْقَلِيلِ إِلَى الْكَثِيرِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ يَدُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ كَانُوا يَقْطَعُونَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَلَعَنَ السَّارِقَ الَّذِي يَبْذُلُ يَدَهُ الثَّمِينَةَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَهِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيَّ لَمَّا قَدِمَ
__________
(1) مسند أحمد 6/ 80.(3/99)
بَغْدَادَ، اشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْرَدَ إِشْكَالًا عَلَى الْفُقَهَاءِ فِي جَعْلِهِمْ نِصَابَ السَّرِقَةِ رُبْعَ دِينَارٍ، وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ وقلة عقله، فقال: [البسيط]
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بِالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ
تَنَاقُضٌ مَا لَنَا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ ... وَأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا مِنَ النارِ
وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَاشْتُهِرَ عَنْهُ تَطَلَّبَهُ الْفُقَهَاءُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَابَهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ جَوَابُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيِّ رحمه الله أن قال: لما كانت أمينة، كانت ثمينة، ولما خَانَتْ هَانَتْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا مِنْ تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ نَاسِبٌ أَنْ تَعْظُمَ قِيمَةُ الْيَدِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ لِئَلَّا يُجْنَى عَلَيْهَا. وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع النَّاسُ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ، فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الحكمة عند ذوي الألباب ولهذا قال: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ مُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمَا السَّيِّئِ فِي أَخْذِهِمَا أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يَقْطَعَ مَا اسْتَعَانَا بِهِ فِي ذَلِكَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، أَيْ تَنْكِيلًا مِنَ اللَّهِ بِهِمَا عَلَى ارْتِكَابِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ أَيْ فِي انْتِقَامِهِ، حَكِيمٌ أَيْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ مَنْ تَابَ بَعْدَ سَرِقَتِهِ وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يتوب عليه فما بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَأَمَّا أَمْوَالُ النَّاسِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَيْهِمْ أَوْ بَدَلِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى قُطِعَ وَقَدْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ بَدَلَهَا، وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ قَدْ سَرَقَ شَمْلَةً، فَقَالَ: مَا إِخَالُهُ سَرَقَ، فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ، ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ» فَقُطِعَ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ «تُبْ إِلَى اللَّهِ» فَقَالَ: تُبْتُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ «تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا، وَرَجَّحَ إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله.
وروى ابْنُ مَاجَهْ «1» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه أن عمر بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَرَقْتُ جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ، فَطَهِّرْنِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا افْتَقَدْنَا جَمَلًا لنا، فأمر به فقطعت يَدُهُ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي طَهَّرَنِي مِنْكِ، أَرَدْتِ أَنْ تُدْخِلِي جَسَدِي النَّارَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عن يحيى بن
__________
(1) سنن ابن ماجة (حدود باب 24) .
(2) تفسير الطبري 4/ 571.(3/100)
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَرَقَتِ امْرَأَةٌ حُلِيًّا فَجَاءَ الَّذِينَ سَرَقَتْهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَرَقَتْنَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْطَعُوا يَدَهَا الْيُمْنَى» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ» ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا فَقَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حدثنا ابن لهيعة، حدثني يحيى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فجاء بها إلى الَّذِينَ سَرَقَتْهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ سَرَقَتْنَا. قَالَ قَوْمُهَا: فَنَحْنُ نَفْدِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْطَعُوا يَدَهَا» ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَفْدِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، فقال «اقطعوا يدها» فَقُطِعَتْ يَدُهَا الْيُمْنَى، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ «نَعَمْ أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، وَحَدِيثُهَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟» فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَطَبَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا» ، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يدها. قالت عائشة: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ، وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ «2» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ مَتَاعًا عَلَى أَلْسِنَةِ جَارَاتِهَا وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ «3» ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ لِلنَّاسِ ثُمَّ تُمْسِكُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِتَتُبْ هَذِهِ المرأة إلى الله وإلى رسوله، وَتَرُدَّ مَا تَأْخُذُ عَلَى الْقَوْمِ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قُمْ يا بلال فخذ بيدها
__________
(1) مسند أحمد 2/ 177- 178.
(2) صحيح مسلم (حدود حديث 9) وصحيح البخاري (حدود باب 12) .
(3) سنن النسائي (سارق باب 5) وسنن أبي داود (حدود باب 4 و 16) وصحيح مسلم (حدود حديث 10) .(3/101)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
فَاقْطَعْهَا» . وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحْكَامِ السَّرِقَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، الْحَاكِمُ فِيهِ، الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وهو الفعال لما يريد يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 44]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ فِي الْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ، الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُقَدِّمِينَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ عَلَى شَرَائِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أَيْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَقُلُوبِهِمْ خَرَابٌ خَاوِيَةٌ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي مستجيبون لَهُ، مُنْفَعِلُونَ عَنْهُ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أَيْ يَسْتَجِيبُونَ لِأَقْوَامٍ آخَرِينَ لَا يَأْتُونَ مَجْلِسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتَسَمَّعُونَ الكلام وينهونه إلى قوم آخَرِينَ مِمَّنْ لَا يَحْضُرُ عِنْدَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُبَدِّلُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ، يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا قِيلَ: نَزَلَتْ في قوم مِنَ الْيَهُودِ قَتَلُوا قَتِيلًا، وَقَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وَإِنْ حَكَمَ بِالْقِصَاصِ فَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا وَكَانُوا قَدْ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْجَلْدِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، والتحميم «1» والإركاب على حمارين مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: تَعَالَوْا حَتَّى نَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه
__________
(1) التحميم: تسويد الوجه بالحمم وهو الفحم.(3/102)
وَاجْعَلُوهُ حُجَّةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ قَدْ حَكَمَ بَيْنَكُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلَا تَتَّبِعُوهُ فِي ذَلِكَ.
وقد وردت الأحاديث في ذلك فَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: إِنَّ الْيَهُودَ جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ ويُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي على المرأة يقيها الحجارة «1» ، أخرجاه، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَفِي لَفْظٍ لَهُ: فَقَالَ لِلْيَهُودِ «مَا تَصْنَعُونَ بِهِمَا؟» قَالُوا: نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَنُخْزِيهِمَا، قَالَ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] فجاؤوا فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ أَعْوَرَ: اقْرَأْ فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا، فَوَضَعَ يده عليه فقال: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ وَلَكِنَّا نَتَكَاتَمَهُ بَيْنَنَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جَاءَ يَهُودَ فَقَالَ «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ على من زنى؟» قالوا: نسود وجوههما ونحممهما، وَنَحْمِلُهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا وَيُطَافُ بِهِمَا. قَالَ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آلِ عمران: 93] قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بِآيَةِ الرَّجْمِ، وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ «2» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَى نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَدَعَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْقُفِّ، فَأَتَاهُمْ فِي بَيْتِ الْمُدَارِسِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ رَجُلًا مِنَّا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَاحْكُمْ. قَالَ:
وَوَضَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ «ائْتُونِي بِالتَّوْرَاةِ» فَأُتِيَ بِهَا، فَنَزَعَ الْوِسَادَةَ مِنْ تَحْتِهِ وَوَضَعَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهَا، وَقَالَ «آمَنْتُ بِكِ وَبِمَنْ أَنْزَلَكِ» ثُمَّ قَالَ «ائْتُونِي بِأَعْلَمِكُمْ» فَأُتِيَ بِفَتًى شَابٍّ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجْمِ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ» .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا مَنَّ مُزَيْنَةَ مِمَّنْ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَيَعِيهِ، ونحن عند ابن المسيب، عن
__________
(1) صحيح البخاري (توحيد باب 51 وتفسير سورة آل عمران باب 3 و 6) وموطأ مالك (حدود حديث 1) . [.....]
(2) صحيح مسلم (حدود حديث 26) .
(3) سنن أبي داود (حدود باب 25) .(3/103)
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ بِامْرَأَةٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ فَإِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْنَا: فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ. قَالَ: فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حَتَّى أَتَى بَيْتَ مُدَارِسِهِمْ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ؟» قَالُوا: يُحَمَّمُ وَيُجَبَّهُ وَيُجْلَدُ، وَالتَّجْبِيَةُ أَنْ يُحْمَلَ الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَارٍ وَتُقَابِلَ أَقْفِيَتُهُمَا وَيُطَافُ بِهِمَا، قَالَ: وَسَكَتَ شَابٌّ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ، أَلَظَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّشْدَةَ «1» ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَمَا أَوَّلَ مَا ارْتَخَصْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ» قَالَ: زَنَى ذُو قَرَابَةٍ مِنْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِنَا فَأُخِّرَ عَنْهُ الرَّجْمَ، ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ فِي أَثَرِهِ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ رَجْمَهُ، فَحَالَ قَوْمُهُ دُونَهُ وَقَالُوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هَذِهِ الْعُقُوبَةَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ» فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ «2» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مَرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يَهُودِيٌّ مُحَمَّمٌ مَجْلُودٌ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ «أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟» فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا حَتَّى نَجْعَلَ شَيْئًا نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلَدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ» قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ أي يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قَالَ فِي الْيَهُودِ، إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] قَالَ فِي الْيَهُودِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: 47] قَالَ: فِي الْكُفَّارِ كُلِّهَا، انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ «4» دون البخاري وأبو
__________
(1) ألظ به النشدة: ألحّ في سؤاله.
(2) تفسير الطبري 4/ 589 وسنن أبي داود (حدود باب 25) .
(3) مسند أحمد 4/ 286.
(4) صحيح مسلم (حدود حديث 28) .(3/104)
دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، فَكَتَبَ أَهْلُ فَدَكَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، أَنْ سَلُوا مُحَمَّدًا عن ذلك، فإذا أَمَرَكُمْ بِالْجِلْدِ فَخُذُوهُ عَنْهُ، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال «أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم» فجاؤوا بِرَجُلٍ أَعْوَرَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُورِيَا، وَآخَرَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْتُمَا أَعْلَمُ مَنْ قَبَلَكُمَا» فَقَالَا: قَدْ دَعَانَا قَوْمُنَا لِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا «أَلَيْسَ عِنْدَكُمَا التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ» قَالَا: بَلَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «أنشدكم بِالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ، وَأَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْزَلَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: ما نشدت بمثله قط، ثم قَالَا: نَجْدُ تَرْدَادَ النَّظَرِ زَنْيَةً، وَالِاعْتِنَاقَ زَنْيَةً، والتقبيل زَنْيَةً، فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، كَمَا يَدْخُلُ الْمَيْلَ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَقَدْ وَجَبَ الرَّجْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُوَ ذَاكَ» فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَنَزَلَتْ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ بِهِ نَحْوَهُ «1» . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:
جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا، فقال «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتوه بِابْنَيْ صُورِيَا، فَنَشَدَهُمَا «كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ في التوراة؟» قالا: نجد إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، رُجِمَا، قَالَ «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟» قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهود، فجاء أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا، ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مُرْسَلًا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: فَدَعَا بِالشُّهُودِ فَشَهِدُوا.
فَهَذِهِ الأحاديث دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَمَ بِمُوَافَقَةِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَيْسَ هذا من باب الإكرام لَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ الْمُحَمَّدِيِّ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا بِوَحْيٍ خَاصٍّ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَسُؤَالُهُ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، لِيُقْرِرَهُمْ عَلَى مَا بأيديهم مما تواطؤوا عَلَى كِتْمَانِهِ وَجَحْدِهِ وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ تِلْكَ الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع علمهم عَلَى خِلَافِهِ بِأَنَّ زَيْغَهُمْ وَعِنَادَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ لِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، وَعُدُولِهِمْ إلى تحكيم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ هَوًى مِنْهُمْ، وَشَهْوَةٍ لِمُوَافَقَةِ آرَائِهِمْ لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا إِنْ أُوتِيتُمْ هذا أي: الجلد والتحميم، فخذوه،
__________
(1) سنن أبي داود (حدود باب 25) وسنن ابن ماجة (حدود باب 10) .(3/105)
أَيِ اقْبَلُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أَيْ من قبوله واتباعه.
وقال اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَيِ الْبَاطِلُ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أَيِ الْحَرَامِ، وَهُوَ الرِّشْوَةُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، أَيْ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَيْفَ يُطَهِّرُ اللَّهُ قَلْبَهُ وَأَنَّى يَسْتَجِيبُ له، ثم قال لنبيه فَإِنْ جاؤُكَ أَيْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي فلا عليك أن لا تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِتَحَاكُمِهِمْ إِلَيْكَ اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هِيَ مَنْسُوخَةٌ «1» بِقَوْلِهِ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: 49] ، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِنْ كَانُوا ظَلَمَةً خَارِجِينَ عَنْ طَرِيقِ الْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَمَقَاصِدِهِمُ الزَّائِغَةِ فِي تَرْكِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الْكُتَّابِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِهِ، وَعَدَلُوا إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بُطْلَانَهُ وَعَدَمِ لُزُومِهِ لَهُمْ، فَقَالَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ مَدَحَ التَّوْرَاةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، فَقَالَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا أَيْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ حُكْمِهَا وَلَا يُبَدِّلُونَهَا وَلَا يُحَرِّفُونَهَا، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أَيْ وَكَذَلِكَ الرَّبَّانِيُّونَ منهم، وهم العلماء العباد، وَالْأَحْبَارُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ أَيْ بِمَا اسْتُودِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يُظْهِرُوهُ وَيَعْمَلُوا بِهِ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ أَيْ لا تخافوا منهم وخافوا مني، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فيه قولان سيأتي بيانهما.
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أبيه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 585- 586.
(2) مسند أحمد 1/ 246.(3/106)
حتى ارتضوا واصطلحوا عَلَى أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الْعَزِيزَةُ مِنَ الذَّلِيلَةِ فَدِيَتُهُ خَمْسُونَ وَسَقَا، وَكُلُّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ فَدِيَتُهُ مِائَةُ وَسْقٍ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فَقَتَلَتِ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ قَتِيلًا، فَأَرْسَلَتِ الْعَزِيزَةُ إِلَى الذَّلِيلَةِ أَنِ ابْعَثُوا لَنَا بِمِائَةٍ وَسْقٍ، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دِينُهُمَا وَاحِدٌ، وَنَسَبُهُمَا وَاحِدٌ، وَبَلَدُهُمَا وَاحِدٌ، دِيَةُ بَعْضِهِمْ نِصْفُ دِيَةِ بَعْضٍ، إِنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا ضَيْمًا مِنْكُمْ لَنَا وَفَرْقًا مِنْكُمْ فَأَمَّا إِذْ قدم محمد فلا نعطيكم فَكَادَتِ الْحَرْبُ تَهِيجُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ارْتَضَوْا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعَزِيزَةُ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ بِمُعْطِيكُمْ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُعْطِيهِمْ مِنْكُمْ، وَلَقَدْ صَدَقُوا، مَا أَعْطَوْنَا هَذَا إِلَّا ضَيْمًا مِنَّا وَقَهْرًا لَهُمْ فَدَسُّوا إِلَى مُحَمَّدٍ مَنْ يُخْبِرُ لَكُمْ رَأْيَهُ إِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ حَكَّمْتُمُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ حُذِّرْتُمْ فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ، فَدَسُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِيُخْبِرُوا لَهُمْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِمْ كُلِّهِ وَمَا أَرَادُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ الْفاسِقُونَ فَفِيهِمْ وَاللَّهِ أُنْزِلَ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ «1» بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَاتِ التي فِي الْمَائِدَةِ قَوْلُهُ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ- إِلَى الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي الدِّيَةِ فِي بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى بَنِي النَّضِيرِ كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ، تُؤْدَى لهم الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نِصْفَ الدِّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الدِّيَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ من حديث ابن إسحاق بنحوه.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَتِ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ إِذَا قَتَلَ القرظي رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ قُتِلَ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ النضيري رجلا من قريظة، ودي بمائة وسق من تَمْرٍ، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوا إليه، فَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرِكِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِنَحْوِهِ، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بن حبان وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَدْ رَوَى الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ في
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 583.
(2) المصدر السابق.(3/107)
الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ اجْتَمَعَ هَذَانِ السَّبَبَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة: 45] إِلَى آخِرِهَا، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ قَضِيَّةُ الْقِصَاصِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَعَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، زَادَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَضِيَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» أَيْضًا: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم أخبر عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ أَنَّهُمَا سَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الرِّشْوَةِ. فَقَالَ: مِنَ السُّحْتِ، قَالَ فَقَالَا: وَفِي الْحُكْمِ، قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ، ثُمَّ تَلَا، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ يَقُولُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلْتُ فَتَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ جَارَ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَهُوَ من الكافرين، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قَالَ: مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ به ولم يحكم به فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوْ مَنْ جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَ فِي الْكِتَابِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قَالَ: هَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قَالَ: هَذَا فِي الْيَهُودِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَالَ: هَذَا فِي النَّصَارَى، وَكَذَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ وَالثَّوْرِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «4» أَيْضًا: أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ الآية، قَالَ: هِيَ بِهِ كُفرٌ، قَالَ ابْنُ طَاوُسٍ: وليس كمن يكفر بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كُفْرٌ دون
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 596- 597.
(2) تفسير الطبري 4/ 497.
(3) تفسير الطبري 4/ 595. [.....]
(4) تفسير الطبري 4/ 596.(3/108)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ، رواه ابن جرير «1» ، وقال وكيع، عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُسٍ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قَالَ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ «2» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، ورواه الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا وُبِّخَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقُرِّعُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ فِي نَصِّ التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَهُمْ يُخَالِفُونَ حكم ذَلِكَ عَمْدًا وَعِنَادًا، وَيُقَيِّدُونَ النَّضْرِيَّ مِنَ الْقُرَظِيِّ، وَلَا يُقَيِّدُونَ الْقُرَظِيَّ مِنَ النَّضْرِيِّ، بَلْ يَعْدِلُونَ إِلَى الدِّيَةِ كَمَا خَالَفُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ الْمَنْصُوصَ عِنْدَهُمْ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَعَدَلُوا إِلَى مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ وَالْإِشْهَارِ وَلِهَذَا قَالَ هُنَاكَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا حُكْمَ اللَّهِ قَصْدًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا وَعَمْدًا، وَقَالَ هَاهُنَا فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنْصِفُوا الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِيهِ، فَخَالَفُوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عن عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ أَخِي يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ نَصَبَ النَّفْسَ وَرَفَعَ الْعَيْنَ.
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ تَفَرَّدَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ ذَهَبَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا حُكِيَ مُقَرَّرًا وَلَمْ يُنْسَخْ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَكَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِينِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَنَا عَلَى وَفْقِهَا فِي الْجِنَايَاتِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ عَامَّةٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وقد حكى الشيخ أبو زكريا
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 595.
(2) رواه ابن جرير، المصدر السابق.
(3) مسند أحمد 3/ 215.(3/109)
النَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا أَنَّ شَرْعَ إِبْرَاهِيمَ حُجَّةٌ دُونَ غَيْرِهِ: وَصَحَّحَ مِنْهَا عَدَمَ الْحُجِّيَّةِ، وَنَقَلَهَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الإسفراييني أقوالا عن الشافعي، وأكثر الأصحاب وَرَجَّحَ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ «الشَّامِلِ» ، إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ، عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ» «1» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» «2» ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ لَا يُقْتَلُ بِهَا إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ وَلِيُّهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ دِيَتَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ في رواية، وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي، ورواية عن أحمد أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ لَا يُقْتَلُ بِهَا بَلْ تَجِبُ دِيَتُهَا.
وَهَكَذَا احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ، وَعَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِيهِمَا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» «3» وأما العبد ففيه عن السلف آثَارٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقِيدُونَ الْعَبْدَ مِنَ الْحَرِّ، وَلَا يَقْتُلُونَ حَرًّا بِعَبْدٍ، وَجَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَحَكَى الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُخَصِّصٍ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّبِيعَ عَمَّةَ أَنَسٍ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَى الْقَوْمِ الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «الْقِصَاصُ» ، فَقَالَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ فُلَانَةَ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» قَالَ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ فُلَانَةَ، قَالَ: فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَّرَهُ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ فِي الْجُزْءِ الْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِهِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّبِيعَ بِنْتَ النَّضِرِ عَمَّتَهُ لَطَمَتْ جارية فكسرت ثنيتها، فعرضوا عليهم
__________
(1) سنن النسائي (قسامة باب 46) .
(2) سنن النسائي (قسامة باب 10 و 13) وسنن أبي داود (جهاد باب 147 وديات باب 11) .
(3) صحيح البخاري (علم باب 39 وديات باب 24 و 31) وسنن أبي داود (ديات باب 11 و 147) .
(4) مسند أحمد 3/ 128.(3/110)
الْأَرْشَ «1» فَأَبَوْا، فَطَلَبُوا الْأَرْشَ وَالْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ، فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أَتَكْسِرُ ثَنِيَّةَ الرَّبِيعِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرْ ثَنِيَّتَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» فَعَفَا الْقَوْمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لِأَبَرَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الأنصاري بنحوه.
وروى أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ غُلَامًا لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ، قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَى أَهْلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءُ، فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَكَذَا رواه النسائي عن إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ، رجاله كلهم ثقات، وهو حَدِيثٌ مُشْكِلٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنِ الْجَانِيَ كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ تَحَمَّلَ أَرْشَ مَا نَقَصَ مِنْ غُلَامِ الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الْفُقَرَاءِ أَوِ اسْتَعْفَاهُمْ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُقْتَلُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَتُفْقَأُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ، وَيُقْطَعُ الْأَنْفُ بِالْأَنْفِ، وَتُنْزَعُ السِّنُّ بِالسِّنِّ، وَتُقْتَصُّ الْجِرَاحُ بِالْجِرَاحِ، فَهَذَا يستوي فيه أحرار المسلمين فِيمَا بَيْنَهُمْ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، إِذَا كَانَ عَمْدًا فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ:
الْجِرَاحُ تَارَةً تَكُونُ فِي مَفْصِلٍ، فَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ بِالْإِجْمَاعِ، كَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْجِرَاحُ فِي مَفْصِلٍ بَلْ فِي عَظْمٍ، فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي الْفَخِذِ وَشَبَهِهَا، لِأَنَّهُ مُخَوِّفٌ خَطِرٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لا يجب القصاص في شيء من العظام إِلَّا فِي السِّنِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُبِ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ الرَّبِيعِ بِنْتِ النَّضْرِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إِلَّا فِي السِّنِّ، وَحَدِيثُ الرَّبِيعِ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِلَفْظِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ سَقَطَتْ مِنْ غَيْرِ كسر، فيجب القصاص والحالة
__________
(1) الأرش: دية الجراحة.
(2) تفسير الطبري 4/ 599.(3/111)
هذه بالإجماع، وتمموا الدلالة مما رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بن عياش، عن دهشم بْنِ قُرَّانٍ، عَنْ نِمْرَانَ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ الْحَنَفِيِّ: أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ فَقَطَعَهَا، فَاسْتَعْدَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرِيدُ الْقِصَاصَ، فَقَالَ: خُذِ الدِّيَةَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ «1» .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، ودهشم بْنُ قُرَّانَ الْعُكْلِيُّ ضَعِيفٌ، أَعْرَابِيٌّ لَيْسَ حَدِيثُهُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ، وَنَمِرَانُ بْنُ جَارِيَةَ ضَعِيفٌ، أَعْرَابِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُوهُ جَارِيَةُ بْنُ ظُفَرَ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ الْجِرَاحَةِ حَتَّى تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ثُمَّ زَادَ جُرْحُهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أقدني، فقال «حتى تبرأ» ، ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده فقال: يا رسول الله عرجت، فَقَالَ «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ» ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
[مَسْأَلَةٌ] فَلَوِ اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي فَمَاتَ مِنَ الْقِصَاصِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ. وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ بن عيينة وعثمان البستي: يَسْقُطُ عَنِ الْمُقْتَصِّ لَهُ قَدْرُ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، ويجب الباقي في ماله.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس:
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يقول: فمن عفا وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمَطْلُوبِ وَأَجْرٌ لِلطَّالِبِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فمن تصدق به فهو كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ وَأَجْرٌ الْمَجْرُوحِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
[الْوَجْهِ الثَّانِي] ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَاذَانَ، حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ يَعْنِي ابْنَ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَارَةَ يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في
__________
(1) سنن ابن ماجة (ديات حديث 2636) .
(2) مسند أحمد 2/ 217.(3/112)
قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قَالَ: لِلْمَجْرُوحِ، وَرَوَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قيس يعني ابن مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ عن الهيثم بن الْعُرْيَانِ النَّخَعِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عِنْدَ مُعَاوِيَةَ أَحْمَرَ شَبِيهًا بِالْمَوَالِي، فَسَأَلْتُهُ عن قول الله فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قَالَ: يَهْدِمُ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُجَاشِعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى يَعْنِي ابْنَ هِلَالٍ أَنَّهُ سَمِعَ أبان بن ثعلب عن العريان بن الْهَيْثَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو، عن أبان بن ثعلب، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قَالَ: «هُوَ الَّذِي تُكْسَرُ سِنَّهُ، أَوْ تُقْطَعُ يَدُهُ أَوْ يُقْطَعُ الشَّيْءُ مِنْهُ أَوْ يُجْرَحُ فِي بدنه فيعفو عن ذلك» - قال- فَيُحَطُّ عَنْهُ قَدْرُ خَطَايَاهُ، فَإِنْ كَانَ رُبْعُ الدِّيَةِ فَرُبْعُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلْثُ فَثُلْثُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ حَطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَذَلِكَ» .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: دَفَعَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْدَقَّتْ ثَنِيَّتُهُ، فَرَفَعَهُ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، قَالَ: شَأْنُكَ وَصَاحِبُكَ، قَالَ: وَأَبُو الدَّرْدَاءِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ، إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، فَخَلَّى سَبِيلَ الْقُرَشِيِّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مُرُوا لَهُ بِمَالٍ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السفر قَالَ: كَسَرَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ سِنَّ رَجُلٍ من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال مُعَاوِيَةُ: إِنَّا سَنُرْضِيهِ، فَأَلَحَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: شَأْنُكَ بِصَاحِبِكَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ جَالِسٌ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ من جسده فيتصدق به، إلا
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 600.
(2) تفسير الطبري 4/ 600. [.....]
(3) مسند أحمد 6/ 448.(3/113)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة» فقال الأنصاري: فإني قَدْ عَفَوْتُ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا أَعْرِفُ لِأَبِي السَّفَرِ سَمَاعًا مَنْ أَبِي الدرداء.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَجُلًا أهتم «1» فَمَهُ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ دِيَةً، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ، فَأُعْطِي دِيَتَيْنِ فَأَبَى، فَأُعْطِي ثَلَاثًا فَأَبَى، فَحَدَّثَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دَوُنَهُ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا شريح بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول «مَا مِنْ رَجُلٍ يُجْرَحُ مِنْ جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَيَتَصَدَّقُ بِهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ خِدَاشٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ مَجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْمُحَرَّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ أُصِيبَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ» .
وَقَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قَدْ تَقَدَّمَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمَا قَالَا: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
يَقُولُ تَعَالَى: وَقَفَّيْنا أَيْ أَتْبَعْنَا عَلى آثارِهِمْ، يعني أنبياء بني إسرائيل بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ أَيْ مُؤْمِنًا بِهَا حَاكِمًا بِمَا فِيهَا، وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ أَيْ هُدًى إِلَى الْحَقِّ وَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي إِزَالَةِ الشُّبَهَاتِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ أَيْ مُتَّبِعًا لَهَا غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا فِيهَا إِلَّا فِي الْقَلِيلِ مِمَّا بَيَّنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 50] وَلِهَذَا كَانَ المشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ
__________
(1) أهتم وهتم فمه: نزع مقدم أسنانه.
(2) مسند أحمد 5/ 316.
(3) مسند أحمد 5/ 412.(3/114)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
بعض أحكام التوراة. وقوله تعالى: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أَيْ وَجَعَلْنَا الْإِنْجِيلَ هُدًى يهتدى به، وموعظة أي زاجرا عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، لِلْمُتَّقِينَ، أَيْ لِمَنِ اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قرئ وليحكم أهل الإنجيل بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ، أَيْ وآتيناه الإنجيل لِيَحْكُمْ أَهْلُ مِلَّتِهِ بِهِ فِي زَمَانِهِمْ، وَقُرِئَ وليحكم بالجزم على أن اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ، أَيْ لِيُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا فِيهِ، وَلِيُقِيمُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فِيهِ، وَمِمَّا فيه البشارة ببعثة محمد وَالْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ إِذَا وُجِدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة: 68] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ إلى قوله الْمُفْلِحُونَ [الْأَعْرَافِ: 157] . وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، الْمَائِلُونَ إِلَى الْبَاطِلِ، التَّارِكُونَ لِلْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر من السياق.
[سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى التَّوْرَاةَ التي أنزلها على موسى كليمه، وَمَدَحَهَا وَأَثْنَى عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا حَيْثُ كَانَتْ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ وَذَكَرَ الْإِنْجِيلَ وَمَدَحَهَ وَأَمَرَ أَهْلَهَ بِإِقَامَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، شرع فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالصِّدْقِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ ذِكْرَهُ وَمَدْحَهُ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ نُزُولُهُ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ، مِمَّا زَادَهَا صِدْقًا عِنْدَ حَامِلَيْهَا مِنْ ذَوِي الْبَصَائِرِ الَّذِينَ انْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَاتَّبَعُوا شَرَائِعَ اللَّهِ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الْإِسْرَاءِ: 107] أَيْ إِنْ كَانَ مَا وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة مِنْ مَجِيءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَفْعُولًا، أَيْ لكائنا لا محالة ولا بد.
قوله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ،(3/115)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: الْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ، قَالَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كتاب قبله. ورواه عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعَطِيَّةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جرير «1» : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعَنِ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُهَيْمِناً أَيْ شَهِيدًا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُهَيْمِناً أَيْ حَاكِمًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ اسْمَ الْمُهَيْمِنِ يَتَضَمَّنُ هَذَا كُلَّهُ، فَهُوَ أَمِينٌ وَشَاهِدٌ وَحَاكِمٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ، جَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ آخِرَ الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها حَيْثُ جَمَعَ فِيهِ مَحَاسِنَ مَا قَبْلَهُ، وَزَادَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ، مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، فَلِهَذَا جَعَلَهُ شَاهِدًا وَأَمِينًا وَحَاكِمًا عَلَيْهَا كُلِّهَا وَتَكَفَّلَ تَعَالَى بِحِفْظِهِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرَ: 9] .
فَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِينٌ عَلَى الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ فِي تَفْسِيرِ هَذَا بِهَذَا نَظَرٌ، وَفِي تَنْزِيلِهِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ أيضا نظر، وبالجملة فالصحيح الأول.
وقال أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ»
بَعْدَ حِكَايَتِهِ لَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ مِنَ الْمَفْهُومِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بَلْ هُوَ خَطَأٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَطْفٌ عَلَى الْمُصَدِّقِ، فَلَا يَكُونُ إلا صفة لما كَانَ الْمُصَدِّقُ صِفَةً لَهُ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ الأمر كما قال مجاهد لقيل: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، يعني من غير عطف «3» .
وقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ فَاحْكُمْ يَا مُحَمَّدُ بَيْنَ النَّاسِ، عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، أُمِّيِّهِمْ وَكِتَابَيِّهِمْ، بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، وَبِمَا قَرَّرَهُ لَكَ مِنْ حُكْمِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فِي شَرْعِكَ، هَكَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَرَدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِهِمْ، فَنَزَلَتْ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 606.
(2) تفسير الطبري 4/ 608.
(3) أضاف ابن جرير موضحا: لأنه لم يتقدم من صفة (الكاف) التي في (إليك) بعدها شيء يكون (مهيمنا عليه) عطفا عليه، وإنما عطف به على (المصدق) لأنه من صفة (الكتاب) الذي من صفته (المصدق) .
(4) تفسير الطبري 4/ 609.(3/116)
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي كِتَابِنَا.
وَقَوْلُهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أَيْ آرَاءَهُمُ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، وَتَرَكُوا بِسَبَبِهَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رسله، ولهذا قال تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أَيْ لَا تَنْصَرِفْ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَمَرَكَ الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء. وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً قَالَ: سَبِيلًا. وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابن عباس وَمِنْهاجاً قال: وسنة، كذا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً سَبِيلًا وَسُنَّةً، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أي سبيلا وسنة، وعن ابن عباس أيضا ومجاهد، أي وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَكْسُهُ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أَيْ سُنَّةً وَسَبِيلًا، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ، فَإِنَّ الشِّرْعَةَ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ أَيْضًا هِيَ مَا يُبْتَدَأُ فِيهِ إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: شَرَعَ فِي كَذَا، أَيِ ابْتَدَأَ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إِلَى الْمَاءِ. أَمَّا الْمِنْهَاجُ فَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ السَّهْلُ، وَالسُّنَنُ الطَّرَائِقُ.
فَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ مِنَ الْعَكْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَدْيَانِ، بِاعْتِبَارِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ الْكِرَامَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَّفِقَةِ فِي التَّوْحِيدِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ» «1» يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ وَضَمَّنَهُ كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] الآية، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَمُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ حَرَامًا، ثُمَّ يَحِلُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْأُخْرَى، وَبِالْعَكْسِ، وَخَفِيفًا فَيُزَادُ فِي الشِّدَّةِ فِي هَذِهِ دُونَ هَذِهِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلَهُ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً يَقُولُ: سَبِيلًا وَسُنَّةً، وَالسُّنَنُ مُخْتَلِفَةٌ، هِيَ فِي التَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْفُرْقَانِ شَرِيعَةٌ، يُحِلُّ اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَالدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ، التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
__________
(1) صحيح البخاري (أنبياء باب 48) .(3/117)
وقيل: المخاطب بهذه الآية هَذِهِ الْأُمَّةُ وَمَعْنَاهُ لِكُلٍّ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ مِنْكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، أَيْ هُوَ لَكُمْ كُلِّكُمْ تَقْتَدُونَ بِهِ، وَحُذِفَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أَيْ جَعَلْنَاهُ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، أَيْ سَبِيلًا إِلَى الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ، وَسُنَّةً أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا وَاضِحًا بَيِّنًا، هَذَا مَضْمُونُ مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ على ذلك قوله تعالى بعده وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فَلَوْ كَانَ هَذَا خِطَابًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، لَمَا صَحَّ أَنْ يَقُولَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَهْمُ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ وَإِخْبَارٌ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةِ، الَّتِي لَوْ شَاءَ لَجَمَعَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا يُنْسَخُ شَيْءٌ منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ نَسَخَهَا أَوْ بَعْضَهَا بِرِسَالَةِ الْآخَرِ الَّذِي بَعْدَهُ، حَتَّى نَسَخَ الْجَمِيعَ بِمَا بَعَثَ بِهِ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي ابْتَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الشَّرَائِعَ مُخْتَلِفَةً لِيَخْتَبِرَ عِبَادَهُ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ وَيُثِيبَهُمْ أَوْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ بِمَا فَعَلُوهُ أَوْ عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ فِي مَا آتاكُمْ
يَعْنِي مِنَ الْكِتَابِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَدَبَهُمْ إِلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمُبَادِرَةِ إِلَيْهَا، فَقَالَ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَاتِّبَاعُ شَرْعِهِ الَّذِي جَعَلَهُ نَاسِخًا لِمَا قَبِلَهُ، وَالتَّصْدِيقُ بِكِتَابِهِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ آخِرُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أَيْ مَعَادُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَمَصِيرُكُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بِمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيَجْزِي الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَقِّ الْعَادِلِينَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، بَلْ هُمْ مُعَانِدُونَ لِلْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَالْحُجَجِ الْبَالِغَةِ وَالْأَدِلَّةِ الدَّامِغَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأول أظهر. وَقَوْلُهُ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الأمر بذلك النهي عن خلافه.
ثم قال وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي واحذر أَعْدَاءَكَ الْيَهُودَ أَنْ يُدَلِّسُوا عَلَيْكَ الْحَقَّ فِيمَا ينهونه إليك من أمور، فَلَا تَغْتَرَّ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَذَبَةٌ كَفَرَةٌ خَوَنَةٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ عَمَّا تَحْكُمُ بِهِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَخَالَفُوا شَرْعَ اللَّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِيهِمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ عَنِ الْهُدَى لِمَا لهم مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إِضْلَالَهُمْ وَنَكَالَهُمْ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أي إن أَكْثَرُ النَّاسِ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ مُخَالِفُونَ للحق ناكبون عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُفَ: 103] . وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 610.(3/118)
[الأنعام: 116] الآية.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «1» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَابْنُ صَلُوبَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا «2» وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ، وَأَشْرَافُهُمْ، وَسَادَاتُهُمْ، وَإِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا يَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ، فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَى مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ الْمُحْكَمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، النَّاهِي عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَعَدْلٍ إِلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي وَضَعَهَا الرِّجَالُ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَحْكُمُونَ بِهِ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْجَهَالَاتِ مِمَّا يَضَعُونَهَا بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ التَّتَارُ مِنَ السِّيَاسَاتِ الْمَلَكِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ الَّذِي وَضَعَ لَهُمُ الياسق «3» ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابٍ مَجْمُوعٍ مِنْ أَحْكَامٍ قد اقتبسها من شَرَائِعَ شَتَّى: مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وغيرها، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ أَخَذَهَا مِنْ مُجَرَّدِ نظره وهواه، فصارت في بينه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قِتَالُهُ حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فَلَا يَحْكُمُ سِوَاهُ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، قال تَعَالَى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أَيْ يَبْتَغُونَ وَيُرِيدُونَ، وَعَنْ حُكْمِ اللَّهِ يَعْدِلُونَ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ وَمَنْ أَعْدَلُ مِنَ اللَّهِ فِي حُكْمِهِ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ الله شرعه، وآمن به، وأيقن وعلم أن الله أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ بِخُلُقِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَادِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 567 وتفسير الطبري 4/ 614.
(2) سقط من في رواية الطبري.
(3) وتسمى أيضا «الياسة» . وهي كلمة مفعولية تعني السياسة. قال القلقشندي: وهي قوانين خمنها جنكرخان من عقله وقررها من ذهنه، رتب فيها أحكاما وحدد فيها حدودا بما وافق القليل منها الشريعة المحمدية وأكثرها فحالف لذلك سماها الياسة الكبرى. وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزانته تتوارت عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته (صبح الأعشى 4/ 314) . وذكر القلقشندي شيئا في أحكام الياسة. ويشار إلى أن هولاكو وخلفاءه كانوا يميلون في بداية الأمر إلى البوذية، ولكن هؤلاء الخلفاء بعد ولاية غازان سنة 690 هـ دخلوا في الإسلام وتراوح المذهب الذي يجاهرون به بين السنية والشيعية (انظر دائرة المعارف الإسلامية 12/ 398) .(3/119)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ فَيَّاضٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ حكم الله فحكم الجاهلية. وَأَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: كَانَ طَاوُسٌ إِذَا سَأَلَهُ رَجُلٌ: أُفَضِّلُ بَيْنَ وَلَدِي فِي النَّحْلِ؟ قَرَأَ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الآية، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أبغض الناس إلى الله عز وجل، من يبتغي فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَطَالَبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُرِيقَ دَمَهُ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة «1» .
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
ينهى تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ- قَاتَلَهُمُ اللَّهُ- ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، فَقَالَ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ الآية.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِيَاضٍ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فعجب عمر وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لِحَفِيظٌ، هَلْ أَنْتَ قَارِئٌ لَنَا كِتَابًا فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ مَنِ الشَّامِ؟ فقال: إنه لا يستطيع، فَقَالَ عُمَرُ: أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا بَلْ نَصْرَانِيٌّ. قَالَ: فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي، ثُمَّ قَالَ: أَخْرِجُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية، ثم قال:
حدثنا محمد بن الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. قَالَ: فَظَنَنَّاهُ يُرِيدُ هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الْآيَةَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ نحو ذلك.
وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ شَكٌّ وريب ونفاق، يسارعون فيهم، أي
__________
(1) صحيح البخاري (ديات باب 9) . [.....](3/120)
يُبَادِرُونَ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أَيْ يَتَأَوَّلُونَ فِي مَوَدَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَقَعَ أمر من ظفر الكافرين بِالْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ لَهُمْ أَيَادٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَيَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ. عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي الْقَضَاءَ وَالْفَصْلَ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي ضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَيُصْبِحُوا يَعْنِي الَّذِينَ وَالَوُا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمُوَالَاةِ، نادِمِينَ أَيْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِمَّا لَمَّ يُجْدِ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلَا دَفَعَ عَنْهُمْ مَحْذُورًا، بَلْ كَانَ عَيْنَ الْمُفْسِدَةِ، فَإِنَّهُمْ فُضِحُوا وَأَظْهَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَسْتُورِينَ، لَا يُدْرَى كَيْفَ حَالُهُمْ، فَلَمَّا انْعَقَدَتِ الْأَسْبَابُ الْفَاضِحَةُ لَهُمْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُونَ فَبَانَ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَذَا الْحَرْفِ فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ في قوله وَيَقُولُ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ وَيَقُولُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَبَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فتقديره أَنْ يَأْتِيَ وَأَنْ يَقُولَ وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» . قال ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ تقديره حينئذ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبٍ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، فَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ فَآوِي إِلَيْهِ وَأَتَهَوَّدُ مَعَهُ، لَعَلَّهُ يَنْفَعُنِي إِذَا وَقَعَ أمر أو حدث حادث. وقال الآخر أما أنا فإني ذاهب إِلَى فُلَانٍ النَّصْرَانِيُّ بِالشَّامِ فَآوِي إِلَيْهِ وَأَتَنَصَّرُ معه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الْآيَاتِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَسَأَلُوهُ: مَاذَا هُوَ صَانِعٌ بِنَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَيْ إِنَّهُ الذَّبْحُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» .
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصامت من بني
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 621.
(2) تفسير الطبري 4/ 616.
(3) تفسير الطبري 4/ 615.(3/121)
الحارث بن الْخَزْرَجِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَوَالِي مَنْ يَهُودٍ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودٍ، وَأَتَوَلَّى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي:
إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ مَوَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ «يَا أَبَا الْحُبَابِ، مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ» قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآيتين.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِيَوْمٍ مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ: أَغَرَّكُمْ أَنْ أَصَبْتُمْ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، أَمَا لَوْ أَمْرَرْنَا «2» الْعَزِيمَةَ أَنْ نَسْتَجْمِعَ عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا، فقال عبادة بن الصامت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنَ الْيَهُودِ كَانَتْ شَدِيدَةً أَنْفُسُهُمْ كَثِيرًا سِلَاحُهُمْ شَدِيدَةً شَوْكَتُهُمْ، وإني أبرأ إلى الله وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ، وَلَا مَوْلَى لِي إِلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رَجُلٌ لَا بُدَّ لِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا أَبَا الحباب، أرأيت الذي نفست بِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ» فَقَالَ: إِذًا أَقْبَلُ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ- إلى قوله تعالى- وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «3» : فَكَانَتْ أَوَّلَ قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَهُودِ نَقَضَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُو قَيْنُقَاعَ، فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ حِينَ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَحْسِنْ فِي مَوَالِي وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، قَالَ: فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يَا مُحَمَّدُ أَحْسِنْ فِي مَوَالِي، قَالَ: فَأَعْرَضَ عنه. قال: فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَرْسِلْنِي» ، وَغَضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لِوَجْهِهِ ظُلَلًا، ثُمَّ قَالَ «وَيْحَكَ أَرْسِلْنِي» قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مَوَالِي أَرْبَعِمِائَةِ حَاسِرٍ «4» ، وَثَلَاثِمِائَةِ دَارِعٍ، قَدْ مَنَعُونِي من الأحمر والأسود، تحصدني «5» فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ إِنِّي امْرُؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُمْ لَكَ» .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ يَسَارٍ عَنْ عُبَادَةَ بن الوليد بن عبادة بن
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) أي أجمعنا العزيمة.
(3) سيرة ابن هشام 2/ 47.
(4) الحاسر: الذي لا درع له، بعكس الدارع.
(5) في سيرة ابن هشام: «تحصدهم» وهي أوضح.(3/122)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
الصَّامِتِ، قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَقَامَ دُونَهُمْ وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ لَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلَ الَّذِي لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَجَعَلَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبَرَّأَ إِلَى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أبرأ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفَ الْكُفَّارِ، وَوَلَايَتِهِمْ، فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي الْمَائِدَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقَدْ أَبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَمَاتَ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «3» مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بن إسحاق.
[سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّى عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتَبْدِلُ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ، وَأَشَدُّ مَنْعَةً، وَأَقْوَمُ سَبِيلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 38] . وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إِبْرَاهِيمَ: 19- 20] . أَيْ بِمُمْتَنَعٍ وَلَا صَعْبٍ. وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ أَيْ يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي الْوُلَاةِ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ وَاللَّهِ أبو بكر وأصحابه، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ يَقُولُ: فِي قَوْلِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ هُمْ أَهْلُ الْقَادِسِيَّةِ. وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ سَبَأٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/ 49- 50 وتفسير الطبري 4/ 616.
(2) مسند أحمد 5/ 201.
(3) سنن أبي داود (جنائز باب 1 في العيادة) .(3/123)
قَالَ: نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثُمَّ مِنْ كِنْدَةَ، ثُمَّ مِنَ السَّكُونِ «1» .
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي زِيَادٍ الْحِلْفَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. قَالَ «هَؤُلَاءِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثُمَّ مِنْ كِنْدَةَ، ثُمَّ مِنَ السَّكُونِ، ثُمَّ مِنْ تُجِيبَ» ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ، سَمِعْتُ عِيَاضًا يحدث عن أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُمْ قَوْمُ هَذَا» . وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِنَحْوِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ هَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مُتَوَاضِعًا لِأَخِيهِ وَوَلِيِّهِ، مُتَعَزِّزًا عَلَى خَصْمِهِ وَعَدُوِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ وفي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ، فَهُوَ ضَحُوكٌ لِأَوْلِيَائِهِ قَتَّالٌ لأعدائه.
وقوله عز وجل يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أَيْ لَا يَرَدُّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا يَرُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَحِيكُ فِيهِمْ لَوْمُ لَائِمٍ، وَلَا عَذَلُ عَاذِلٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا سَلَامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَمَرَنِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الحق وإن كان مرا، وأمرني أن لا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنَّ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى، أَنَّ أَبَا ذر رضي الله عنه، قَالَ: بَايَعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا، وَوَاثَقَنِي سَبْعًا، وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَيَّ سبعا- أني
__________
(1) هو بنو السّكون بن أشرس بن ثور. بطن من كندة من القحطانية. (معجم قبائل العرب القديمة والحديثة 2/ 528) .
(2) تفسير الطبري 4/ 624.
(3) مسند أحمد 5/ 159. [.....]
(4) مسند أحمد 5/ 172.(3/124)
لَا أَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «هَلْ لَكَ إِلَى بَيْعَةٍ، ولك الجنة؟» قلت: نعم، وَبَسَطْتُ يَدَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وهو يشترط علي «أن لا تَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا» قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ «وَلَا سَوْطَكَ وَإِنْ سَقَطَ مِنْكَ» . يَعْنِي تَنْزِلُ إِلَيْهِ فتأخذه.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحسن، حدثنا جعفر عن المعلى الفردوسي، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَّا لَا يَمْنَعْنَ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجْلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مَنْ رزق أن يقول بحق أو أن يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ فِيهِ مَقَالٌ فَلَا يَقُولُ فِيهِ فَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكُونَ قُلْتَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟
فَيَقُولُ: مَخَافَةَ النَّاسِ، فَيَقُولُ: إِيَّايَ أَحَقُّ أَنْ تَخَافَ» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «3» مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ «4» وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الرحمن أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ نَهَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدِيِّ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال «إن اللَّهَ لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى إِنَّهُ ليسأله يقول له: أي عبدي أرأيت مُنْكَرًا فَلَمْ تُنْكِرْهُ؟ فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ وَثِقْتُ بِكَ، وَخِفْتُ الناس» .
وثبت في الصحيح «ما ينبغي للمؤمن أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ «يَتَحَمَّلُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ» .
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ وَاسْعُ الْفَضْلِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِمَّنْ يَحْرِمُهُ إِيَّاهُ.
وقوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيْ لَيْسَ الْيَهُودُ بِأَوْلِيَائِكُمْ، بَلْ وِلَايَتُكُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الَّتِي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين وَالْمَسَاكِينِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُمْ راكِعُونَ فَقَدْ تَوَهَّمَ بعض الناس أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قوله
__________
(1) مسند أحمد 3/ 50.
(2) مسند أحمد 3/ 73.
(3) سنن ابن ماجة (فتن باب 20) .
(4) مسند أحمد 3/ 77.(3/125)
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ فِي حَالِ رُكُوعِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَذَلِكَ، لَكَانَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مَمْدُوحٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ نَعْلَمُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي هَذَا أَثَرًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فيه، وذلك أَنَّهُ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ فِي حَالِ رُكُوعِهِ فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَحْوَلُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ قَيْسٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَنَزَلَتْ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، تَصَّدَقَ وَهُوَ رَاكِعٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
وروى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَائِمًا يُصَلِّي، فَمَرَّ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، فَنَزَلَتْ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْآيَةَ، الضَّحَّاكُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أيضا من طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بَيْنَ رَاكِعٍ وَسَاجِدٍ وَقَائِمٍ وَقَاعِدٍ، وَإِذَا مِسْكِينٌ يَسْأَلُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ «مَنْ؟» قَالَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ الْقَائِمُ. قَالَ «عَلَى أَيِّ حَالٍ أَعْطَاكَهُ؟» قَالَ: وَهُوَ رَاكِعٌ، قَالَ «وَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» . قَالَ:
فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ وَهُوَ يَقُولُ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ.
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَردُويَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسِهِ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبِي رَافِعٍ، وَلَيْسَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِضَعْفِ أسانيدها وجهالة رجالها، ثم روى بإسناده عَنْ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوَّلُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عن عبد الملك، عن
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 629.
(2) تفسير الطبري 4/ 628.(3/126)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ قُلْنَا: مَنِ الَّذِينَ آمَنُوا؟ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا. قُلْنَا بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: عَلِيٌّ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ «1» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ تَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، رَوَاهُ ابْنُ جرير.
وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَبَرَّأَ من حلف اليهود، وَرَضِيَ بِوَلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْمُجَادَلَةِ: 21- 22] فَكُلُّ مَنْ رَضِيَ بِوِلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
هذا تَنْفِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْكِتَابِيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَفْضَلَ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُونَ: وَهِيَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحْكَمَةُ، الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ، يَتَّخِذُونَهَا هُزُوًا يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، وَلَعِبًا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّعِبِ فِي نَظَرِهِمُ الْفَاسِدِ، وَفِكْرِهِمُ الْبَارِدِ، كَمَا قال القائل: [الوافر]
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الفهم السقيم «2»
وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ من هاهنا لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَالْكُفَّارِ بِالْخَفْضِ عَطْفًا، وَقَرَأَ آخَرُونَ بالنصب على أنه معمول، لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَقْدِيرُهُ وَلَا الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ أَيْ لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ ولا هؤلاء أولياء، والمراد بالكفار
__________
(1) رواه أيضا ابن جرير 4/ 628.
(2) البيت بلا نسبة في تاج العروس (كفر) .(3/127)
هاهنا المشركون، وكذلك وقع في قراءة ابن مسعود فيما رواه ابن جرير «لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا» » .
وَقَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءَ لَكُمْ وَلِدِينِكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِشَرْعِ اللَّهِ الَّذِي اتَّخَذَهُ هَؤُلَاءِ هُزُوًا وَلَعِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] .
وقوله: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً أَيْ وَكَذَلِكَ إِذَا أَذَّنْتُمْ دَاعِينَ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ اتَّخَذُوها أَيْضًا هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ مَعَانِيَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، وَهَذِهِ صِفَاتُ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ الَّذِي «إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَدْبَرَ وَلَهُ حُصَاصٌ، أَيْ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التأذين، أقبل فإذا ثوب للصلاة أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، فَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرجل لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ» «2» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزهري: قد ذكر الله التَّأْذِينَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي يُنَادِي: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: حُرِّقَ الْكَاذِبُ، فَدَخَلَتْ خَادِمَةٌ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي بِنَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَهْلُهُ نِيَامٌ، فَسَقَطَتْ شَرَارَةٌ فَأَحْرَقَتِ الْبَيْتَ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي السِّيرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أُسَيْدًا أن لا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أعلم أنه محق لا تبعته، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَقُولُ شَيْئًا لَوْ تَكَلَّمْتُ لَأَخْبَرَتْ عَنِّي هَذِهِ الْحَصَى، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ» ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فنقول:
أخبرك «4» .
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 630.
(2) رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة: صحيح مسلم (صلاة حديث 20) وسنن أبي داود (صلاة باب 31) . وفيهما «إن يدري كم صلى» . إن هنا بمعنى ما.
(3) تفسير الطبري 4/ 631.
(4) سيرة ابن هشام 2/ 413.(3/128)