الجزء الأول
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ترجمة ابن كثير
هو الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن درع القرشي من بني حصلة. ولد سنة إحدى وسبعمائة كما ذكر هو نفسه في البداية والنهاية «1» ، في قرية «مجدل» من أعمال «بصرى» ، وقد ورد اسمها في البداية والنهاية «2» :
«مجيدل» ولعل ذلك وقع تصحيفا. وتوفي والده الخطيب شهاب الدين في قرية المجدل سنة 703 هـ- كما ذكر المؤلف في البداية والنهاية ضمن ترجمة مستفيضة لوالده «3» . وقد نشأ الإمام بعد وفاة والده في رعاية شقيقه الأكبر الذي قال عنه: «كان لنا شقيقا، وبنا رفيقا شفوقا» «4» . وقد شهد القرن الثامن الهجري أحداثا عظيمة في ظل دولة المماليك تمثلت بهجوم التتار والمجاعات الكثيرة المتواترة والأوبئة التي حصدت الملايين من الناس، كما شهد الحروب مع الصليبيين وكثرة المؤامرات والفتن بين الأمراء والوزراء.
ومع ذلك كان يسود هذا العصر نشاط علمي بارز تمثل في كثرة المدارس وكثرة التآليف وخاصة التآليف الموسوعية منها.
شيوخه:
درس الإمام ابن كثير على أيدي المئات من الشيوخ، نذكر منهم: القاسم بن محمد البرزالي مؤرخ الشام (ت 739 هـ) ، والشيخ يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت 744 هـ) ، والحافظ ابن القلانسي (ت 729 هـ) ، وإبراهيم بن عبد الرحمن الفزاري (ت 729 هـ) ، ونجم الدين ابن العسقلاني، وابن الشحنة شهاب الدين الحجار (ت 730 هـ) ، وكمال الدين ابن قاضي شهبة، والشيخ نجم الدين موسى بن علي بن محمد الجيلي ثم الدمشقي المعروف بابن البصيص (ت 716 هـ) ، والحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ) كما أخذ عن القاسم ابن عساكر وابن الشيرازي وإسحاق الآمدي وغيرهم كثير.
وفاته:
توفي ابن كثير في يوم الخميس 26 شعبان من سنة 774 هـ، وخرجت بدمشق
__________
(1) البداية والنهاية (14/ 22) .
(2) البداية والنهاية (14/ 32) .
(3) البداية والنهاية (14/ 33) .
(4) البداية والنهاية (14/ 48) .(1/3)
جموع غفيرة لتشييع جنازته ودفن بمقرّ الصوفية خارج باب النصر من دمشق حسب وصيّته رحمه الله.
مصنّفاته
ترك الحافظ ابن كثير عشرات المؤلفات في شتّى الميادين العلمية، وبشكل خاص في التاريخ والتفسير والحديث. وإليك أهم مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة والمفقودة:
أ- المؤلفات المطبوعة:
1- تفسير القرآن الكريم
، وهو الكتاب الذي بين أيدينا: طبع أولا ببولاق على هامش فتح البيان للقنوجي في عشرة أجزاء، ثم طبع سنة 1300 هـ في حواشي كتاب «مجمع البيان في مقاصد القرآن» للسيد أبي الطيب صديق بن حسن خان، وطبع بمطبعة المنار بمصر سنة 1343 هـ بأمر من السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إمام نجد، وبهامشه تفسير البغوي. وأعيد طبعه مختصرا باسم «عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير» سنة 1375 هـ، في خمسة أجزاء، عن مخطوطة نفيسة في المكتبة الأزهرية.
وقد اعتمد الحافظ في تفسيره العظيم هذا أسلوب تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالحديث، وابتعد عن الإسرائيليات وانتقد الاعتماد عليها إلا فيما سمح به الشرع. وفي هذا يقول: «وهذا عندي وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يكبسون به على الناس أمر دينهم» «1» . وفي موضع آخر يقول: «وَالَّذِي نَسْلُكُهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ الْإِعْرَاضُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تضييع الزمان ولما اشتمل عليه من الكذب المروّج عليهم» «2» .
2- البداية والنهاية:
مؤلف كبير في التاريخ طبع عدة طبعات، ولعل أقدم طبعة منه كانت سنة 1348 هـ بمساعدة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، بمطبعة كردستان العلمية عن مخطوطة مصورة في مكتبة ولي الدين بالآستانة.
3- جامع المسانيد والسنن:
كتاب ضخم، طبع لأول مرة في دار الكتب العلمية في بيروت في 38 مجلدا.
4- الاجتهاد في طلب الجهاد:
طبع أولا بمطبعة أبي الهول سنة 1347 هـ طبعة غير محققة، ثم طبع سنة 1401 هـ ببيروت بتحقيق عبد الله عبد الرحيم عسيلان.
5- اختصار علوم الحديث:
طبع بمكة سنة 1353 هـ، بتصحيح الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. وطبع بمصر سنة 1355 بتحقيق أحمد شاكر، ثم أعاد شاكر طبعه سنة
__________
(1) ابن كثير، عمدة التفسير (ص 17) .
(2) ابن كثير، عمدة التفسير (ص 17) .(1/4)
1370 مع زيادات في الشرح.
6- أحاديث التوحيد والردّ على الشرك:
ذكره بروكلمان في ملحق تاريخ الأدب العربي (2/ 48) وأشار إلى أنه طبع في دلهي سنة 1297 هـ.
ب- المؤلفات المخطوطة:
7- طبقات الشافعية:
منه نسخة خطية مصورة بمعهد المخطوطات بالقاهرة تحت رقم (789) صورت عن نسخة الكتاني بالرباط، وهناك مخطوطة أخرى في شستربتي رقمها (3390) .
ج- المؤلفات المفقودة:
8- التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل:
ورد ذكره في كشف الظنون (1/ 471) وطبقات المفسرين للداودي (1/ 110) وذيل تذكرة الحافظ للسيوطي (ص 85) .
9- الكواكب الدراري في التاريخ:
ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (2/ 1521) .
10- سيرة الشيخين:
ورد ذكره في البداية والنهاية (7/ 18) وذيل تذكرة الحفاظ للسيوطي (ص 361) .
11- الواضح النفيس في مناقب الإمام محمد بن إدريس:
ذكر في كشف الظنون (2/ 1840) وطبقات المفسرين (1/ 111) .
12- كتاب الأحكام:
وهو كتاب كبير لم يكمله وصل فيه إلى الحجّ وقد ورد ذكره باسم «الأحكام الصغرى في الحديث» في كشف الظنون (1/ 550) .
13- الأحكام الكبيرة:
ذكر في البداية والنهاية (3/ 253) وطبقات المفسرين (1/ 110) .
14- تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فروع الشافعية:
ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 125) والبغدادي في هدية العارفين (1/ 215) .
15- اختصار كتاب المدخل إلى كتاب السنن للبيهقي:
ورد ذكره في اختصار علوم الحديث لابن كثير (ص 4) .
16- شرح صحيح البخاري:
لم يتمه ذكر في البداية والنهاية (3/ 3، 11/ 36) ، وكشف الظنون (1/ 550) وطبقات المفسرين (1/ 110) .
17- السماع:
ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (2/ 1002) .(1/5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[مقدمة المؤلف]
(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَوْحَدُ، الْبَارِعُ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ، عماد الدين أبو الفداء: إسماعيل ابن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير، الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ) .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي افْتَتَحَ كِتَابَهُ بِالْحَمْدِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 2- 4] وَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً
[الْكَهْفِ: 1- 5] وَافْتَتَحَ خَلْقَهُ بِالْحَمْدِ فَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَاخْتَتَمَهُ بالحمد فقال بعد ما ذِكْرِ مَآلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: 75] ولهذا قال تَعَالَى: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70] كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ: 1] فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ أَيْ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا هُوَ خَالِقٌ، هُوَ الْمَحْمُودُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا يَقُولُ الْمُصَلِّي «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحمد، ملء السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» وَلِهَذَا يُلْهَمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ تَسْبِيحَهُ وَتَحْمِيدَهُ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ أَيْ يُسَبِّحُونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ عَدَدَ أَنْفَاسِهِمْ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ عَظِيمِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَتَوَالِي مِنَنِهِ وَدَوَامِ إحسانه إليهم كَمَا قَالَ تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 9، 10] .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رُسُلَهُ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَخَتَمَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ الْمَكِّيِّ الْهَادِي لِأَوْضَحِ السُّبُلِ، أَرْسَلَهُ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ لَدُنْ بَعْثَتِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ(1/7)
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
[الأعراف: 158] وَقَالَ تَعَالَى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الْأَنْعَامِ: 19] فَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ وَأَسْوَدَ وَأَحْمَرَ وَإِنْسٍ وَجَانٍّ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: 17] فَمَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَالنَّارُ موعده بنص الله تعالى كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ [الْقَلَمِ: 44] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي الْإِنْسَ وَالْجِنَّ. فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسُ والجن مبلغا لهم عن الله تعالى مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فُصِّلَتْ: 42] وَقَدْ أَعْلَمَهُمْ فِيهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ نَدَبَهُمْ إِلَى تَفَهُّمِهِ فَقَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] وَقَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] وَقَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [مُحَمَّدٍ: 24] .
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْكَشْفُ عَنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ وَطَلَبُهُ مِنْ مَظَانِّهِ وَتَعَلُّمُ ذَلِكَ وَتَعْلِيمُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 187] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [آلِ عِمْرَانَ: 77] فَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَنَا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل إِلَيْهِمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَاشْتِغَالِهِمْ بِغَيْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ.
فَعَلَيْنَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ نَنْتَهِيَ عَمَّا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنْ نَأْتَمِرَ بِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْنَا وتعليمه، وتفهمه، وتفهيمه، قال تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ. اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الْحَدِيدِ: 16- 17] فَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ يلين القلوب بالإيمان والهدى بَعْدَ قَسْوَتِهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ الْمُؤَمَّلُ المسؤول أن يفعل بنا هذا إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟ فَالْجَوَابُ إِنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ فَمَا أجمل في مكان فإنه قد بسط فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَعْيَاكَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ، بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ(1/8)
الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
[النِّسَاءِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النَّحْلِ: 44] وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يَعْنِي السُّنَّةَ. وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ إِلَّا أَنَّهَا لَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى الْقُرْآنُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشافعي رحمه الله تعالى وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ.
وَالْغَرَضُ أَنَّكَ تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «فبم تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدري وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ» «1» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَحِينَئِذٍ إِذَا لَمْ نَجِدِ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا، وَلِمَا لَهُمْ مِنَ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الرَّاشِدِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ، وَأَيْنَ نَزَلَتْ. وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا لَأَتَيْتُهُ «2» .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْرِئُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَخْلُفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.
وَمِنْهُمُ الْحَبْرُ الْبَحْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترجمان القرآن ببركة دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وحدثنا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُدَ عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ «3» ابْنُ عَبَّاسٍ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بن عون عن الأعمش به
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (ج 5 ص 230، 236، 242) من حديث معاذ بن جبل.
(2) تفسير الطبري 1/ 60. وفيه «فيم نزلت» في موضع «فيمن نزلت» .
(3) في الطبري 1/ 65: «نعم ترجمان القرآن» أي بنص الحديث الذي قبله.(1/9)
كَذَلِكَ «1» . فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةَ. وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ وَعُمِّرَ بعده عبد الله بن عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِنَ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ:
اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ سُورَةَ النُّورِ فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا «2» .
وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يَرْوِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ فِي تفسيره عن هذين الرجلين ابن مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «3» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لهذا كان عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قد أصاب يوم اليرموك زَامِلَتَيْنِ «4» مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِضَادِ فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ وَالثَّانِي مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ وَالثَّالِثُ مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نؤمن به ولا نكذبه ويجوز حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إِلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ. وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا كَثِيرًا. وَيَأْتِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، ولون كلبهم، وعددهم، وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ، وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ على المكلفين في دينهم ولا دنياهم. وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الْكَهْفِ: 22] فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا ثُمَّ أَرْشَدَ على أن الاطلاع
__________
(1) في الطبري 1/ 65: «وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، بنحوه» .
(2) قارن بالطبري: 1/ 60.
(3) صحيح البخاري (علم باب 38 جنائز باب 22 مناقب باب 5 أنبياء باب 50 أدب باب 109) .
(4) الزاملة: ما يحمل عليه من الإبل وغيرها.(1/10)
عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فَإِنَّهُ ما يعلم ذلك إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا قَالَ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أَيْ لَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ. فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تَسْتَوْعِبَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ تُنَبِّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَتُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَتَذْكُرَ فَائِدَةَ الْخِلَافِ وَثَمَرَتَهُ لِئَلَّا يَطُولَ الْنِزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ، فَتَشْتَغِلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ إِذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ، أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا، فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَهُوَ كَلَابِسِ ثوبي زور، والله الموفق للصواب.
[فَصْلٌ] إِذَا لَمْ تَجِدِ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْتَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْتُ مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اكْتُبْ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنِ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ. وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ، وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، والكل بمعنى واحد في أكثر الْأَمَاكِنِ فَلْيَتَفَطَّنِ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاللَّهُ الْهَادِي.
وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ؟ يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بَعْضٍ وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ.
فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ لِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى حيث قال:
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 65. [.....](1/11)
حدثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد ثنا سفيان حدثني عبد الأعلى وهو ابْنُ عَامِرٍ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ أَوْ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» »
وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ «2» وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عبد الأعلى به مرفوعا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيِّ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بِهِ مرفوعا «3» ولكن رواه عن مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَقَفَهُ «4» ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ بَكْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ «5» فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «6» : حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ العظيم العنبري ثنا حبان بن هلال ثنا سهيل أخو حزم ثنا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ» «7» وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ الْقُطَعِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي سُهَيْلٍ «8» . وَفِي لَفْظٍ لَهُمْ «مَنْ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ:
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النُّورِ: 13] فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَلَوْ كَانَ أَخْبَرَ بِمَا يَعْلَمُ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القاسم بن سلام: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ سئل عن قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عَبَسَ: 31] فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ. مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ أبو عبيد أيضا: ثنا يَزِيدُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَفاكِهَةً وَأَبًّا فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثم رجع إلى
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 58.
(2) سنن الترمذي، كتاب التفسير، باب 1.
(3) تفسير الطبري 1/ 58.
(4) تفسير الطبري 1/ 58.
(5) أي من قول ابن عباس موقوفا.
(6) تفسير الطبري 1/ 59.
(7) في الطبري: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» . وكذا في الترمذي، كتاب التفسير، باب 1.
(8) عبارة الترمذي: «وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم» هذا ولم نقع على حكمه بأن هذا الحديث غريب.(1/12)
نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عمر. وقال عبد بن حميد: ثنا سليمان بن حرب ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فقرأ وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال فما الأب ثم قال: هو التكلف فما عليك أن لا تَدْرِيَهُ؟ وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنَ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لا يجهل كقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً [عَبَسَ: 28] وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا «1» ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ (يَوْمٍ كَانَ مقداره ألف سنة) فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَنِي، فَقَالَ ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا، فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ.
وقال ابن جرير أيضا: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إِلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ؟
فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا إِلَّا مَا قُمْتَ عَنِّي- أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي «2» - وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: إِنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا «3» . وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ «4» وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ «5» .
وَقَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَسْأَلُ سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ «6» . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونِ «7» الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَنَافِعٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ:
مَا سَمِعْتُ أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ. وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهِشَامٌ الدَّسْتُوائِيُّ عَنْ محمد بن سيرين: سألت عبيدة يعني السَّلْمَانِيَّ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذَهَبَ الذين كانوا يعلمون فيم أنزل
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 62.
(2) تفسير الطبري 1/ 63.
(3) في الطبري: «أنا لا أقول في القرآن شيئا» .
(4) تفسير الطبري 1/ 62.
(5) تفسير الطبري 1/ 62.
(6) تفسير الطبري 1/ 62. [.....]
(7) في الطبري: «وإنهم ليغلظون القول في التفسير ... إلخ» .(1/13)
الْقُرْآنُ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْكَ بِالسَّدَادِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أبيه قال: إذا حدثت عن الله حديثا فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَاللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حدثنا عمرو بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ.
فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنِ الْكَلَامِ في التفسير بما لا علم لهم فيه. فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 187] وَلِمَا جَاءَ فِي الحديث الذي روي مِنْ طُرُقٍ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ ألجم يوم القيام بلجام من نار» . وأما الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن خالد بن عثمة حدثنا أبو جعفر بن محمد الزُّبَيْرِيِّ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا آيًا تُعَدُّ «1» ، عَلَّمَهُنَّ إِيَّاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْطَرَسُوسِيِّ عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ هِشَامٍ بِهِ، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ غَرِيبٌ، وَجَعْفَرٌ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ فِي حَدِيثِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا وقفه عليها جبرائيل، وَهَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ، فَإِنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَمِنْهُ مَا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَاتِهَا، وَمِنْهُ مَا لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي جَهْلِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أبي الزناد قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وتفسير لا يعلمه أحد إِلَّا اللَّهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ فِي حَدِيثٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ «2» ! حَدَّثَنِي يونس عن عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ حَلَالٌ وَحَرَامٌ- لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهَالَةِ به،
__________
(1) في الطبري: «إلا آيا بعدد» .
(2) عبارة ابن جرير (تفسير الطبري 1/ 57) : «وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر في إسناده نظر» وهو حديث يونس الصدفي.(1/14)
وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعَرَبُ وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعُلَمَاءُ، وَمُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ» وَالنَّظَرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ فَإِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ إِنَّمَا وَهِمَ فِي رَفْعِهِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تقدم والله أعلم بالصواب.
مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَبَرَاءَةُ وَالرَّعْدُ وَالنَّحْلُ وَالْحَجُّ وَالنُّورُ وَالْأَحْزَابُ وَمُحَمَّدٌ والفتح والحجرات والرحمن والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة وَالْمُنَافِقُونَ وَالتَّغَابُنُ وَالطَّلَاقُ وَيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [سورة التحريم] إلى رَأْسِ الْعَشْرِ وَإِذَا زُلْزِلَتْ وإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ هؤلاء السور نزلت بالمدينة وسائر السور بمكة.
فأما عدد آيات القرآن العظيم فَسِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ ثُمَّ اخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يزد على ذلك، ومنهم من قال ومائتي آيَةٍ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ، وَقِيلَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً. وقيل:
ومائتان وتسع عشرة آية وقيل: ومائتان وخمس وعشرون آية، أو ست وعشرون آية، وقيل:
ومائتان وست وثلاثون، حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه «الْبَيَانِ» . وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً.
وَأَمَّا حُرُوفُهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: هذا ما أحصيناه من القرآن وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَرْفٍ وَمِائَةٌ وَثَمَانُونَ حَرْفًا، وَقَالَ الفضل بن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ حَرْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا. وَقَالَ سَلَّامٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَمَعَ الْقُرَّاءَ وَالْحُفَّاظَ وَالْكُتَّابَ فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كم من حرف هو؟ قال: فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا وَسَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ حَرْفًا، قَالَ: فَأَخْبِرُونِي عَنْ نِصْفِهِ فَإِذَا هُوَ إِلَى الْفَاءِ مِنْ قوله في الكهف وَلْيَتَلَطَّفْ وَثُلُثُهُ الْأَوَّلُ عِنْدَ رَأْسِ مِائَةِ آيَةٍ مِنْ بَرَاءَةٌ وَالثَّانِي عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ أَوْ إِحْدَى وَمِائَةٍ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَالثَّالِثُ إِلَى آخِرِهِ، وَسُبُعُهُ الأول إلى الدال من قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ [النساء: 55] والسبع الثاني إلى التاء من قوله تعالى في سورة الأعراف: حَبِطَتْ «1» والثالث إلى الألف الثاني من قوله تعالى في الرعد:
أُكُلُها [الرعد: 35] والرابع إلى الألف في الحج من قوله:
__________
(1) لم يرد في سورة الأعراف لفظ «أولئك حبطت» وإنما السياق التالي من دون «أولئك: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ [الأعراف: 147] . أما «أولئك حبطت» فقد وردت في سورة التوبة، الآية: 17 و 69.(1/15)
جَعَلْنا مَنْسَكاً «1» وَالْخَامِسُ إِلَى الْهَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأَحْزَابِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الْأَحْزَابِ: 36] وَالسَّادِسُ إلى الواو من قوله تعالى فِي الْفَتْحِ: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْحِ: 6] وَالسَّابِعُ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ سَلَّامٌ أَبُو محمد: علمنا ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، قَالُوا وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُبُعَ الْقُرْآنِ، فَالْأَوَّلُ إلى آخر الأنعام والثاني إلى وَلْيَتَلَطَّفْ من سورة الْكَهْفِ، وَالثَّالِثُ إِلَى آخِرِ الزُّمَرِ، وَالرَّابِعُ إِلَى آخر القرآن وقد حكى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْبَيَانُ) خلافا في هذا كله فالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (التَّحْزِيبُ وَالتَّجْزِئَةُ) فَقَدِ اشْتُهِرَتِ الْأَجْزَاءُ من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وَغَيْرِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي تَحْزِيبِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثُ فِي مُسْنَدِ الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة وغيرهم عَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سَأَلَ أَصْحَابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كيف تحزبون القرآن؟ قالوا ثلث وخمس وسبع وتسع وأحد عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل حتى تختم.
[فصل] واختلف في معنى السورة مما هِيَ مُشْتَقَّةٌ فَقِيلَ مِنَ الْإِبَانَةِ وَالِارْتِفَاعِ قَالَ النابغة:
[الطويل]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كل ملك دونها يتذبذب «2»
فكأن القارئ ينتقل بِهَا مِنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ. وَقِيلَ لِشَرَفِهَا وارتفاعها كسور البلدان، وَقِيلَ:
سُمِّيَتْ سُورَةً لِكَوْنِهَا قِطْعَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَجُزْءًا مِنْهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَسْآرِ الْإِنَاءِ وَهُوَ الْبَقِيَّةُ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ أَصْلُهَا مَهْمُوزًا. وَإِنَّمَا خففت الهمزة فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ وَاوًا لِانْضِمَامٍ مَا قَبْلَهَا، وَقِيلَ لِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا لِأَنَّ الْعَرَبَ يُسَمُّونَ النَّاقَةَ التَّامَّةَ سُورَةً (قُلْتُ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَمْعِ والإحاطة لآياتها كما يسمى سور البلد لإحاطته بمنازله ودوره. وجمع السورة سور بفتح الواو، وقد يجمع عَلَى سُورَاتٍ وَسَوْرَاتٍ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَمِنَ الْعَلَامَةِ عَلَى انْقِطَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا عَنِ الَّذِي بعدها وانفصالها أي هي بائنة عن أختها ومنفردة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [الْبَقَرَةِ: 248] وقال النابغة: [الطويل]
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ «3»
وَقِيلَ لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ الْقَوْمُ بآياتهم أي بجماعاتهم. قال الشاعر: [الطويل]
__________
(1) اللفظ «جعلنا منسكا» ورد مرتين في سورة الحج، في الآية 34 والآية 67.
(2) البيت للنابغة في ديوانه ص 73 ولسان العرب (سور) وتهذيب اللغة 13/ 49 وجمهرة اللغة ص 174، وديوان المعاني 1/ 15 وتاج العروس (سور) .
(3) البيت للنابغة في ديوانه ص 31 وخزانة الأدب 2/ 453 وشرح أبيات سيبويه 1/ 447 والصاحبي في فقه اللغة ص 113 والكتاب 2/ 86 ولسان العرب (عشر) والمقاصد النحوية 3/ 406.(1/16)
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا ... بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا «1»
وَقِيلَ سُمِّيَتْ آيَةً لِأَنَّهَا عَجَبٌ يَعْجَزُ الْبَشَرُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِمِثْلِهَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَصْلُهَا أَيَيَةٌ مِثْلُ أَكَمَةٍ وَشَجَرَةٍ، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا فَصَارَتْ آية بهمزة بعدها مدة وقال الكسائي أصلها آيِيَةٌ عَلَى وَزْنِ آمِنَةٍ فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ حذفت لالتباسها وقال الفراء: أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت أَلِفًا كَرَاهِيَةَ التَّشْدِيدِ فَصَارَتْ آيَةً وَجَمْعُهَا آيٌ وآيات وآياي. وأما الكلمة فهي اللفظة الواحدة وَقَدْ تَكُونُ عَلَى حَرْفَيْنِ مِثْلُ مَا وَلَا ونحو ذلك. وقد تكون أكثر، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ وأَ نُلْزِمُكُمُوها فَأَسْقَيْناكُمُوهُ. وقد تكون الكلمة الواحدة آيَةً مِثْلُ وَالْفَجْرِ وَالضُّحَى وَالْعَصْرِ وَكَذَلِكَ الم وطه ويس وحم في قول الكوفيين وحم عسق عِنْدَهُمْ كَلِمَتَانِ وَغَيْرُهُمْ لَا يُسَمِّي هَذِهِ آيات بل يقول هذه فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ لَا أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ وَحْدَهَا آيَةٌ إِلَّا قَوْلُهُ تعالى: مُدْهامَّتانِ بسورة الرحمن.
[فصل] قال القرطبي: أجمعوا على أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مِنَ التَّرَاكِيبِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ فِيهِ أَعْلَامًا مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ كَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَلُوطٍ وَاخْتَلَفُوا هَلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْبَاقِلَّانِيُّ والطبري وقالا: ما وقع فيه مما يُوَافِقُ الْأَعْجَمِيَّةَ فَهُوَ مِنْ بَابِ مَا تَوَافَقَتْ فيه اللغات.
__________
(1) البيت لبرج بن مسهر الطائي في لسان العرب (أيا) ومقاييس اللغة 1/ 169 وتاج العروس (أيي) وللبرجمي في لسان العرب (قفف) وتاجر العروس (قفف) .(1/17)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفاتحة
يُقَالُ لَهَا الْفَاتِحَةُ أَيْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ خَطًّا وبها تفتتح القراءة في الصلوات، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا أُمُّ الْكِتَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، ذكره أَنَسٌ، وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ كَرِهَا تَسْمِيَتَهَا بِذَلِكَ، قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: إِنَّمَا ذَلِكَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَلِذَا كَرِهَا أَيْضًا أَنْ يُقَالَ لَهَا أم القرآن وقد ثبت في الصَّحِيحِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «الحمد لله رب العالمين أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» وَيُقَالُ لَهَا (الْحَمْدُ) وَيُقَالُ لَهَا (الصَّلَاةُ) لقوله صلّى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي» الْحَدِيثَ. فَسُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ صَلَاةً لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا وَيُقَالُ لَهَا (الشِّفَاءُ) لِمَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُمٍّ» وَيُقَالُ لَهَا (الرُّقْيَةُ) لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الصَّحِيحِ حِينَ رَقَى بِهَا الرَّجُلَ السَّلِيمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ» ؟ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال: وأساسها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسَمَّاهَا سُفْيَانُ بْنُ عيينة (بالواقية) وَسَمَّاهَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ (الْكَافِيَةُ) لِأَنَّهَا تَكْفِي عَمَّا عَدَاهَا وَلَا يَكْفِي مَا سِوَاهَا عَنْهَا كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُرْسَلَةِ «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها» وَيُقَالُ لَهَا سُورَةُ الصَّلَاةِ وَالْكَنْزِ، ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَيُقَالُ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] والله تعالى أَعْلَمُ. وَحَكَى أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ نِصْفَهَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَنِصْفَهَا الْآخَرَ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، نَقْلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُ، وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ بِلَا خِلَافٍ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: ثمان، وقال حسين الجعفي: ستة، وهذان القولان شَاذَّانِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْبَسْمَلَةِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ أَوَّلِهَا كَمَا هُوَ عِنْدَ جمهور قراء الكوفة وقول جماعة مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَخَلْقٌ مِنَ الْخَلَفِ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ أَوْ لَا تُعَدُّ مِنْ أَوَّلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالُوا: وَكَلِمَاتُهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ كَلِمَةً، وَحُرُوفُهَا مِائَةٌ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ حَرْفًا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا في الصلاة،(1/18)
وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِرُجُوعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والعرب تسمي كل جامع أمرا أَوْ مُقَدَّمٍ لِأَمْرٍ إِذَا كَانَتْ لَهُ تَوَابِعُ تَتْبَعُهُ هُوَ لَهَا إِمَامٌ جَامِعٌ: أُمًّا، فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ أُمُّ الرَّأْسِ وَيُسَمُّونَ لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تَحْتَهَا أُمًّا، واستشهد بقول ذي الرمة [الطويل] .
عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا نَقْتَدِي بِهَا ... جِمَاعُ أمور لا نعاصي لَهَا أَمْرَا «1»
- يَعْنِي الرُّمْحُ- قَالَ: وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِتَقَدُّمِهَا أَمَامَ جَمِيعِهَا وَجَمْعِهَا مَا سواها، وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها. وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْفَاتِحَةُ لِأَنَّهَا تُفْتَتَحُ بِهَا الْقِرَاءَةُ وَافْتَتَحَتِ الصَّحَابَةُ بِهَا كِتَابَةَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ «2» وَصَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي، قَالُوا: لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ فَتُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَإِنْ كان للمثاني معنى آخر كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الله تعالى.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَهَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ «4» عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال في أم الْقُرْآنِ: «هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَهِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ «5» : حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي» وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا محمد بن غالب بن حارث، حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي، حدثنا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعُ آيَاتٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِحْدَاهُنَّ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وهي أم الكتاب، وفاتحة الْكِتَابِ» وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ، أَوْ مِثْلِهِ، وَقَالَ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي بِالْفَاتِحَةِ وَأَنَّ الْبَسْمَلَةَ هِيَ الْآيَةُ السَّابِعَةُ مِنْهَا وَسَيَأْتِي تَمَامُ هَذَا عِنْدَ الْبَسْمَلَةِ. وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها
__________
(1) الطبري 1/ 74. وقد روى ثلاثة أبيات هي:
وأسمر قوّام إذا نام صحبتي ... خفيف الثياب لا تواري له أزرا
عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا نَقْتَدِي بِهَا ... جِمَاعُ أمور لا نعاصي لها أمرا
إذا نزلت قيل أنزلوا وإذا غدت ... غدت ذات بزريق ننال بها فخرا
(2) المصحف الإمام هو مصحف عثمان رضي الله عنه.
(3) المسند ج 3 ص 459.
(4) في المسند: «هاشم بن القاسم» .
(5) تفسير الطبري 1/ 74.(1/19)
فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: يَعْنِي حَيْثُ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: وَاكْتَفَيْتُ بِحِفْظِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا عَنْ كِتَابَتِهَا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْفَاتِحَةَ أَوَّلُ شَيْءٍ أنزل مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَنَقْلَهُ الْبَاقِلَّانِيُّ أَحَدَ أقوال ثلاثة وَقِيلَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ وَقِيلَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وهذ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الفاتحة
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فِي مُسْنَدِهِ «1» حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أجبه حتى صليت، قال: فأتيته فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي» ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي قَالَ: ألم يقل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الْأَنْفَالِ: 24] ثُمَّ قَالَ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ «2» أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قيل أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ» قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: «نَعَمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ، وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ من التفسير، وأبو داوود وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ «3» لِلْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أنس رحمه الله مَا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحُرَقِيِّ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كَرِيزٍ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَحِقَهُ قَالَ فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى يَدِي وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يخرج من باب المسجد ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لا تَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي القرآن مثلها» قال أبي رضي الله عنه: فَجَعَلْتُ أُبْطِئُ فِي الْمَشْيِ رَجَاءَ ذَلِكَ ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّورَةُ الَّتِي وَعَدْتَنِي؟ قَالَ: «كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ» فَأَبُو سَعِيدٍ هَذَا لَيْسَ بِأَبِي سَعِيدِ بْنِ المعلى كما اعتقده ابن الأثير في
__________
(1) المسند ج 5 ص 334. [.....]
(2) المراد: لأعلمنك من أمرها ما لم تكن تعلمه قبل ذلك، وإلا فقد كان عالما بالسورة وحافظا لها.
(3) الموطأ، كتاب الصلاة، حديث 37 (باب ما جاء في أم القرآن) .(1/20)
جَامِعِ الْأُصُولِ وَمَنْ تَبِعَهُ فَإِنَّ ابْنَ الْمُعَلَّى صَحَابِيٌّ أَنْصَارِيٌّ وَهَذَا تَابِعِيٌّ مِنْ مَوَالِي خُزَاعَةَ، وذاك الحديث متصل صحيح، وهذا ظاهره مُنْقَطِعٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ أَبُو سَعِيدٍ هَذَا مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: يَا أُبَيُّ، فَالْتَفَتَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْهُ، ثم قال: أبيّ، فخفف «2» أبيّ ثُمَّ انْصَرَفْ إِلَى رَسُولٍ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيْ رَسُولَ الله قال: وعليك السلام مَا مَنَعَكَ أَيْ أُبَيُّ إِذْ دَعَوْتُكَ أَنْ تجيبني، قال: أي رسول الله إني كُنْتُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: أَوَلَسْتَ تَجِدُ فِيمَا أوحى الله تعالى إلي [أن] «3» اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَعُودُ قال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل لَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأرجو أن لا أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا، قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي يُحَدِّثُنِي وَأَنَا أَتَبَطَّأُ مَخَافَةَ أَنْ يَبْلُغَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْحَدِيثَ، فَلِمَا دَنَوْنَا مِنَ الْبَابِ قُلْتُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّورَةُ الَّتِي وَعَدْتَنِي؟ قَالَ:
مَا تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ «4» ؟ قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ أُمَّ الْقُرْآنِ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلَهَا إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي «5» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه فَذَكَرَهُ وَعِنْدَهُ: إِنَّهَا مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أُعْطِيتُهُ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك، ورواه عبد الله ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَذَكَرَهُ مُطَوَّلًا بِنَحْوِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَمَّارٍ حُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي. هَذَا لفظ النسائي، وقال الترمذي: حديث حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هَاشِمٌ يَعْنِي ابْنَ الْبَرِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَهَرَاقَ «6» الماء فقلت: السلام
__________
(1) المسند ج 3 ص 387.
(2) عبارة المسند: «ثم صلّى أبيّ فخفّف» في موضع «ثم قال: أبيّ، فخفّف» .
(3) زيادة من المسند.
(4) عبارة المسند: «فكيف تقرأ في الصلاة» ؟.
(5) عبارة المسند: «وإنها للسّبع من المثاني» .
(6) أهراق يهريق إهراقة الماء: أراقه.(1/21)
عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ:
فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَأَنَا خَلْفَهُ حَتَّى دَخَلَ رَحْلَهُ «1» وَدَخَلْتُ أَنَا الْمَسْجِدَ فَجَلَسْتُ كَئِيبًا حَزِينًا فَخَرَجَ عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تَطَهَّرَ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ:
«أَلَا أُخْبِرُكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَابِرٍ بِأَخْيَرِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ «اقْرَأِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَخْتِمَهَا «2» » هَذَا إِسْنَادٌ جيد، وابن عقيل هذا يحتج بِهِ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ هذا الصَّحَابِيُّ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ هُوَ الْعَبْدِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْبَيَاضِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ عَلَى تَفَاضُلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا هُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الحفار مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ، وَلِئَلَّا يُوهِمَ التَّفْضِيلُ نَقْصَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ فَاضِلًا، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حيان الْبَسْتِيِّ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مالك.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: حدثنا محمد بن المثنى، وحدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد عن مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا، فَنَزَلْنَا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ «3» وَإِنَّ نَفَرَنَا غُيَّبٌ فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كنا نأبنه «4» برقية فرقاه فبرأ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ شَاةً وَسَقَانَا لَبَنًا. فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كنت ترقي؟ فقال: لَا مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ قُلْنَا: لَا تُحَدِّثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ أَوْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ» وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِهَذَا، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِهِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخدري هُوَ الَّذِي رَقَى ذَلِكَ السَّلِيمَ يَعْنِي اللَّدِيغَ يسمونه بذلك تفاؤلا.
__________
(1) الرّحل: مركب للبعير والناقة، وهو من مراكب الرجال دون النساء. ويعبّر به عما يستصحبه الراكب وعما جلس عليه في المنزل، وعن المنزل نفسه، وعن مسكن الرجل.
(2) المسند ج 6 ص 187.
(3) السليم: الملدوغ (على التفاؤل) . وهو أيضا الجريح المشفي على الهلكة. والنّفر: رهط الإنسان وعشيرته، والجماعة الذين ينفرون في الأمر.
(4) أبنه: عابه، واتّهمه. والمراد: ما كنا نعلم أنه يرقي فنعيبه بذلك، باعتبار أن توسّل الرّمى مما يعاب عليه الإنسان المسلم.(1/22)
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى مُسْلِمٌ «1» فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ «2» فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده جبرائيل، إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا «3» فَوْقَهُ فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ: فَنَزَلَ منه ملك فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتُهُ، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ.
وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ حَدِيثٌ آخَرُ، قَالَ مُسْلِمٌ «4» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ (هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ) حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْعَلَاءِ، (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يعقوب الخرقي) عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا أُمَّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ «5» » ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عبدي، وإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الله: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَقَدْ رَوَيَاهُ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ «فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَكَذَا.
رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْعَلَاءِ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ هَكَذَا. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي السَّائِبِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ عَنْهُ فَقَالَ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ، مَنْ قَالَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ وَعَنِ العلاء عن أبي السائب. روى هذا الحديث عبد الله بن الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مطولا. وقال ابْنُ جَرِيرٍ «6» :
حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سعيد عن مطرف بن طريف عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) كتاب صلاة المسافرين، حديث 254.
(2) كتاب الافتتاح، باب 25. [.....]
(3) النقيض: الصوت كصوت الباب إذا فتح.
(4) كتاب الصلاة، حديث 38. وما وضعناه بين هلالين ليس من حديث مسلم.
(5) الخداج: النقصان. وقوله عليه الصلاة والسلام: «خداج» أي ذات خداج.
(6) تفسير الطبري 1/ 117.(1/23)
«قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلَهُ مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، ثُمَّ قَالَ: هَذَا لِي وَلَهُ مَا بَقِيَ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ «1» .
الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ مِنْ وُجُوهٍ
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ فِيهِ لَفْظَ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ الْقِرَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 110] أَيْ بِقِرَاءَتِكَ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَكَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» ثُمَّ بين تفضيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فَدَلَّ عَلَى عِظَمِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا من أكبر أركانها إذا أُطْلِقَتِ الْعِبَادَةُ وَأُرِيدَ بِهَا جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْهَا هو الْقِرَاءَةُ، كَمَا أَطْلَقَ لَفْظَ الْقِرَاءَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ يَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ اتِّفَاقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ نَذْكُرُهَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ هَلْ يَتَعَيَّنُ لِلْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَمْ تُجْزِئُ هِيَ أَوْ غَيْرُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بَلْ مَهْمَا قَرَأَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْزَأَهُ فِي الصَّلَاةِ وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» قَالُوا فَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْفَاتِحَةَ وَلَا غَيْرَهَا فدل على ما قلنا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا، وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابُهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» وَالْخِدَاجُ هُوَ النَّاقِصُ كَمَا فَسَّرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ «غَيْرُ تَمَامٍ» وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خزيمة وابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها فيها بأم القرآن»
__________
(1) العبارة الأخيرة هي من قول الحافظ ابن كثير لا من قول الطبري، فتنبّه.(1/24)
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَوَجْهُ الْمُنَاظَرَةِ هَاهُنَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى مَأْخَذِهِمْ فِي ذَلِكَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
ثُمَّ إِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ:
إِنَّمَا تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي مُعْظَمِ الرَّكَعَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّمَا تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ أَخْذًا بِمُطْلَقِ الْحَدِيثِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَتَعَيَّنُ قِرَاءَتُهَا بَلْ لَوْ قَرَأَ بِغَيْرِهَا أَجْزَأَهُ لِقَوْلِهِ تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ السَّعْدِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدِ وَسُورَةٍ فِي فَرِيضَةٍ أَوْ غَيْرِهَا» وَفِي صِحَّةِ هَذَا نظر وموضع تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير والله أعلم.
والوجه الثَّالِثُ: هَلْ تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ [أَحَدُهَا] أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا كَمَا تَجِبُ عَلَى إِمَامِهِ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ [وَالثَّانِي] لَا تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها ولا فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَلَا السِّرِّيَّةِ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ «1» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ «2» . وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ وَهَبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ مِنْ كَلَامِهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ [وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ] أَنَّهُ تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي السِّرِّيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ، ولا يجب ذلك فِي الْجَهْرِيَّةِ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» وَقَدْ صَحَّحَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَيْضًا، فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هَاهُنَا بَيَانُ اخْتِصَاصِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ بِأَحْكَامٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا وَضَعْتَ جَنْبَكَ على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَمِنْتَ مِنْ كُلِّ شيء إلا الموت» .
__________
(1) ج 5 ص 100.
(2) إسناد الإمام أحمد جاء على النحو التالي: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا أسود بن عامر، أنبأنا حسن بن صالح عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.(1/25)
الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الِاسْتِعَاذَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَافِ: 199- 200] وَقَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 96- 97] وَقَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فُصِّلَتْ: 34- 36] فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَيْسَ لَهُنَّ رابعة في معناها وهو أن الله تعالى يَأْمُرُ بِمُصَانَعَةِ الْعَدُوِّ الْإِنْسِيِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ لِيَرُدَّهُ عَنْهُ طَبْعُهُ الطَّيِّبُ الْأَصْلِ إِلَى الْمُوَادَّةِ وَالْمُصَافَاةِ، وَيَأْمُرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنَ الْعَدُوِّ الشَّيْطَانِيِّ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَا يَقْبَلُ مُصَانَعَةً وَلَا إِحْسَانًا وَلَا يَبْتَغِي غَيْرَ هَلَاكِ ابْنِ آدَمَ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ آدَمَ مِنْ قَبْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
[الأعراف: 27] وقال تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فَاطِرٍ: 6] وَقَالَ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الْكَهْفِ: 50] وَقَدْ أَقْسَمَ للوالد آدم عليه السلام أنه له لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَكَذَبَ فَكَيْفَ مُعَامَلَتُهُ لَنَا وَقَدْ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82- 83] وَقَالَ تَعَالَى:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النَّحْلِ: 98- 100] .
قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ: نَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى ظَاهِرِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَلِدَفْعِ الْإِعْجَابِ بَعْدَ فَرَاغِ الْعِبَادَةِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلى ذلك حمزة فيما نقله عنه ابن قلوقا «1» وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ الْهُذَلِيُّ الْمَغْرِبِيُّ في كتابه «الْكَامِلِ» «2» وَرُوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَهُوَ غريب. ونقله مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ الظَّاهِرِيِّ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ عَنِ الْمَجْمُوعَةِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْقَارِئَ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَاسْتَغْرَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَحَكَى قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ أَوَّلًا وآخرا جمعا بين الدليلين، نقله الرازي. والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس فيها وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَهُمْ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْلِ: 98] أَيْ إِذَا أردت القراءة كقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
__________
(1) هو عبد الرحمن بن قلوقا، أو أقلوقا، الكوفي. من الرواة. انظر طبقات القراء لابن الجزري 1/ 376.
(2) هو «الكامل في القراآت الخمسين» لأبي القاسم يوسف بن علي بن جبارة المتوفى سنة 465 هـ (كشف الظنون 2/ 1381) .(1/26)
[الْمَائِدَةِ: 6] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بن أنس حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الرِّفَاعِيِّ الْيَشْكُرِيِّ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْتَفْتَحَ صَلَاتَهُ وَكَبَّرَ قَالَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ «2» ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» وَيَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَلَاثًا- ثُمَّ يَقُولُ- «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ رِوَايَةِ جعفر بن سليمان عن علي بن علي وهو الرفاعي، وقال الترمذي: هو أشهر شيء فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ فَسَّرَ الْهَمْزَ بِالْمَوْتَةِ وَهِيَ الْخَنْقُ، وَالنَّفْخَ بِالْكِبْرِ وَالنَّفْثَ بِالشِّعْرِ. كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَاصِمٍ العنزي عن نافع بن جبير بن المطعم عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلَاثًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ثَلَاثًا، سُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» قال عمرو: همزه الْمَوْتَةُ وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَهَمْزِهِ ونفخه ونفثه» قال: همزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه الشعر. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، «وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» «3» . وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانِ الكوفي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَلَاحَى رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَمَزَّعَ «4» أَنْفُ أَحَدِهِمَا غَضَبًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لأعلم شيئا لو قاله لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عِيسَى الْمَرْوَزِيِّ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، بِهِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ زَائِدَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ في اليوم الليلة عَنْ بُنْدَارٍ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير
__________
(1) المسند ج 4 ص 101.
(2) الجدّ: المكانة والمنزلة.
(3) مسند الإمام أحمد ج 8 ص 278.
(4) تمزّع الشيء: تشقّف وتقطّع.(1/27)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا غضبا شديدا حتى يخيل إِلَيَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَتَمَزَّعُ أَنْفُهُ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لِأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ ما يجد من الغضب» فقال: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» قال: فجعل معاذ يأمره فأبى وَجَعَلَ يَزْدَادُ غَضَبًا وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مُرْسَلٌ، يَعْنِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى لَمْ يَلْقَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ سَنَةِ عِشْرِينَ. قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى سَمِعَهُ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَبَلَّغَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ شَهِدَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صرد رضي الله عنه: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ فَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لِأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» فَقَالُوا لِلرَّجُلِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مَعَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا هَاهُنَا وَمَوْطِنُهَا كِتَابُ الْأَذْكَارِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ اسْتَعِذْ» قَالَ: «أَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» ثُمَّ قَالَ: «قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ. وَهَذَا الْأَثَرُ غَرِيبٌ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِيُعْرَفَ فَإِنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا وَانْقِطَاعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ]
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ بِمُتَحَتِّمَةٍ يَأْثَمُ تَارِكُهَا وحكى الرازي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وُجُوبَهَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا كُلَّمَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا تَعَوَّذَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ فَقَدْ كَفَى فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ وَاحْتَجَّ الرازي لِعَطَاءٍ بِظَاهِرِ الْآيَةِ (فَاسْتَعِذْ) وَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ وَبِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَلِأَنَّهَا تَدْرَأُ شَرَّ الشَّيْطَانِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَلِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ أَحْوَطُ وَهُوَ أَحَدُ مَسَالِكِ الْوُجُوبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
كَانَتْ وَاجِبَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أُمَّتِهِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَيَتَعَوَّذُ لِقِيَامِ رمضان في أول ليلة منه.
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 77. [.....](1/28)
[مَسْأَلَةٌ]
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْإِمْلَاءِ يَجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ وَإِنْ أَسَرَّ فَلَا يَضُرُّ، وَقَالَ فِي «الْأُمِّ» بِالتَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ أَسَرَّ ابْنُ عُمَرَ وَجَهَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا عَدَا الرَّكْعَةِ الْأُولَى هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَرَجَّحَ عَدَمَ الِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِذَا قَالَ الْمُسْتَعِيذُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ كَفَى ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَزَادَ بَعْضُهُمْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّ الله هو السميع العليم، قال الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ: أَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِمُطَابَقَةِ أَمْرِ الْآيَةِ وَلِحَدِيثِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ] ثُمَّ الِاسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلَاةِ إِنَّمَا هِيَ لِلتِّلَاوَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: بَلْ لِلصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَوَّذُ الْمَأْمُومُ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ وَيَتَعَوَّذُ فِي الْعِيدِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَالْجُمْهُورُ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْ لَطَائِفِ الِاسْتِعَاذَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ لِلْفَمِ مِمَّا كَانَ يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له وهو لِتِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ وَهِيَ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ وَاعْتِرَافٌ لَهُ بِالْقُدْرَةِ وَلِلْعَبْدِ بِالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَنْ مُقَاوَمَةِ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُبِينِ الْبَاطِنِيِّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ وَدَفْعِهِ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُ وَلَا يَقْبَلُ مُصَانَعَةً وَلَا يُدَارَى بِالْإِحْسَانِ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذلك آيات من الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْمَثَانِي وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 65] وَقَدْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ لِمُقَاتَلَةِ العدو البشري فمن قتله العدو الظاهر الْبَشَرِيُّ كَانَ شَهِيدًا، وَمِنْ قَتَلَهُ الْعَدُوُّ الْبَاطِنِيُّ كان طريدا، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجورا، ومن قهره العدو الباطني كَانَ مَفْتُونًا أَوْ مَوْزُورًا، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ يَرَى الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ اسْتَعَاذَ مِنْهُ بِالَّذِي يَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ الشَّيْطَانُ.
[فَصْلٌ]
والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى وَالِالْتِصَاقُ بِجَنَابِهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ وَالْعِيَاذَةُ تَكُونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ وَاللِّيَاذُ يَكُونُ لِطَلَبِ جلب الخير كما قال المتنبي: [البسيط]
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جابره
وَمَعْنَى أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَيْ أَسْتَجِيرُ بِجَنَابِ اللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي أَوْ دُنْيَايَ أَوْ يَصُدَّنِي عَنْ فِعْلِ مَا أُمِرْتُ بِهِ، أَوْ يَحُثَّنِي عَلَى فِعْلِ مَا نُهِيتُ عَنْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُفُّهُ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَّا اللَّهُ، وَلِهَذَا أمر تَعَالَى بِمُصَانَعَةِ شَيْطَانِ الْإِنْسِ وَمُدَارَاتِهِ بِإِسْدَاءِ الْجَمِيلِ إِلَيْهِ لِيَرُدَّهُ طَبْعُهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى وَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ شَيْطَانِ الْجِنِّ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ رَشْوَةً وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ جَمِيلٌ لِأَنَّهُ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ وَلَا يَكُفُّهُ عَنْكَ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا أَعْلَمُ لَهُنَّ رَابِعَةً قَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 199] فَهَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَةِ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْبَشَرِ ثُمَّ قَالَ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ(1/29)
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
[الْأَعْرَافِ: 200] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 96- 98] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ:
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فُصِّلَتْ: 34- 36] .
والشيطان فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُشْتَقٌّ مِنْ شَطَنَ إِذَا بَعُدَ، فَهُوَ بَعِيدٌ بِطَبْعِهِ عَنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَبَعِيدٌ بِفِسْقِهِ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ شَاطَ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْعَرَبِ قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي ذِكْرِ مَا أوتي سليمان عليه السلام: [الخفيف]
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ... ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالْأَغْلَالِ «1»
فَقَالَ أَيُّمَا شَاطِنٍ وَلَمْ يَقُلْ أَيُّمَا شَائِطٍ. وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ وَهُوَ زِيَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَابِرِ بْنِ ضَبَابِ بْنِ يَرْبُوعَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ سَعْدِ بن ذبيان: [الوافر]
نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فباتت والفؤاد به رَهِينُ «2»
يَقُولُ: بَعُدَتْ بِهَا طَرِيقٌ بَعِيدَةٌ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ تَشَيْطَنَ فُلَانٌ إِذَا فَعَلَ فعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا تشيط فالشيطان مُشْتَقٌّ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَ كل من تَمَرَّدَ مِنْ جِنِّيٍّ وَإِنْسِيٍّ وَحَيَوَانٍ شَيْطَانًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الْأَنْعَامِ: 112] وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ «تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شياطين الإنس والجن» فقلت أو للإنس شَيَاطِينُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ؟ فَقَالَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ركب برذونا «3» فجعل
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 51 وجمهرة اللغة ص 947 وكتاب الجيم 2/ 292 وتاج العروس (عكا) والطبري 1/ 76 ولسان العرب (شطن، عكا) وتهذيب اللغة 3/ 40 ومقاييس اللغة 3/ 185، ويروى أيضا: «ثم يلقى في الغلّ والإكبال» . وعكاه: شدّه في الحديد.
(2) البيت للنابغة في ديوانه ص 218 ولسان العرب (شطن) ومقاييس اللغة 3/ 184 والطبري 1/ 76 ولزياد بن معاوية في تاج العروس (نبغ) وبلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 156.
(3) البرذون: يطلق على غير العربي من الخيل والبغال. وهو عظيم الخلقة غليظ الأعضاء قوي الأرجل عظيم الحوافر.(1/30)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
يَتَبَخْتَرُ بِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا تَبَخْتُرًا فَنَزَلَ عَنْهُ وَقَالَ مَا حَمَلْتُمُونِي إِلَّا عَلَى شَيْطَانٍ مَا نَزَلْتُ عَنْهُ حَتَّى أَنْكَرْتُ نفسي. إسناده صحيح. والرجيم فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ أَنَّهُ مَرْجُومٌ مَطْرُودٌ عَنِ الْخَيْرِ كُلِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصَّافَّاتِ: 6- 10] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الْحِجْرِ: 16- 18] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَقِيلَ رَجِيمٌ بِمَعْنَى رَاجِمٍ لِأَنَّهُ يَرْجُمُ النَّاسَ بِالْوَسَاوِسِ والربائث والأول أشهر وأصح.
[سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
[بسم الله الرحمن الرحيم] افْتَتَحَ بِهَا الصَّحَابَةُ كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، ثم اختلفوا هل هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ أَوْ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ فِي أولها أو أنها بعض آية من كُلِّ سُورَةٍ أَوْ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا أَوْ أَنَّهَا إِنَّمَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ لَا أَنَّهَا آيَةٌ عَلَى أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَيْضًا، وَرُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خزيمة عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَّهَا آيَةً، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ البلخي، وفيه ضعف، عن ابن جريح عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا. وَرَوَى لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُتَابِعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَرَوَى مِثْلَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا. وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ إِلَّا بَرَاءَةٌ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَلِيٌّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ وَبِهِ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا: لَيْسَتْ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ مَذْهَبِهِ هِيَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ غَيْرِهَا وَعَنْهُ أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَهُمَا غَرِيبَانِ. وَقَالَ دَاوُدُ: هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لا منها، وهذا رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَهُمَا مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ الله. هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم لا.
فأما الجهر بها فَمُفَرَّعٌ عَلَى هَذَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَلَا يَجْهَرُ بِهَا وَكَذَا مَنْ قَالَ إِنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ فَاخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ(1/31)
يَجْهَرُ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَوَائِفٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا، فَجَهَرَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَالِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَبِي وَائِلٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الله ابن عَبَّاسٍ وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعُمَرَ بْنِ عَبَدِ الْعَزِيزِ وَالْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَمَكْحُولٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ زَادَ الْبَيْهَقِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صفوان ومحمد بن الْحَنَفِيَّةِ. زَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا بَعْضُ الْفَاتِحَةِ فَيُجْهَرُ بِهَا كَسَائِرِ أَبْعَاضِهَا وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحهما وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ فِي قِرَاءَتِهِ بِالْبَسْمَلَةِ وَقَالَ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ، والرحيم ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَتْ قراءته مدّا، ثم قرأ ببسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَمُسْتَدْرَكِ الحاكم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقطع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إسناده صحيح. وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ فَتَرَكَ الْبَسْمَلَةَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ذَلِكَ فَلَمَّا صَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ بَسْمَلَ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ فِي الِاحْتِجَاجِ لِهَذَا الْقَوْلِ عَمَّا عَدَاهَا. فَأَمَّا الْمُعَارَضَاتُ وَالرِّوَايَاتُ الْغَرِيبَةُ وَتَطْرِيقُهَا وَتَعْلِيلُهَا وَتَضْعِيفُهَا وَتَقْرِيرُهَا فَلَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَطَوَائِفٍ مِنْ سَلَفِ التَّابِعِينَ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ بِالْكُلِّيَّةِ لَا جَهْرًا وَلَا سِرًّا وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بالتكبير والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعثمان فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين.
ولمسلم: ولا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا، وَنَحْوَهُ فِي السُّنَنِ(1/32)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَهَذِهِ مَآخِذُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ قَرِيبَةٌ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ جَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ وَمَنْ أَسَرَّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَصْلٌ فِي فَضْلِها
قَالَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَبْرُ الْعَابِدُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ:
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصَّنْعَانِيُّ حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ وَهْبٍ الْجَنَدِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ فَقَالَ: «هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ إِلَّا كَمَا بَيْنَ سَوَادِ الْعَيْنَيْنِ وَبَيَاضِهِمَا مِنَ الْقُرْبِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ زَيْدِ بْنِ المبارك به. وقد روى الحافظ بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِيسَى ابن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب فقال: ما أكتب؟ قال:
بسم الله، قال له عيسى: وما بسم اللَّهِ؟ قَالَ الْمُعَلِّمُ: مَا أَدْرِي، قَالَ لَهُ عِيسَى: الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ، وَالسِّينُ سَنَاؤُهُ، وَالْمِيمُ مَمْلَكَتُهُ، وَاللَّهُ إِلَهُ الْآلِهَةِ، وَالرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ» وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الْمُلَقَّبِ زِبْرِيقٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِسْعَرٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا غَرِيبٌ جَدًّا، وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا إِلَى مَنْ دُونَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يكون مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَا مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ «3» . وقد روى جويبر
__________
(1) هو عبد الرحمن بن محمد الرازي الحافظ المتوفى سنة 327 هـ. وتفسيره انتقاه الشيخ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ في مجلّد. (كشف الظنون 1/ 436) .
(2) تفسير الطبري 1/ 81.
(3) قال الأستاذ محمود محمد شاكر تعليقا على هذا الحديث (تفسير الطبري 1/ 121، حاشية) : هذا حديث موضوع لا أصل له. رواه ابن حبان في كتاب المجروحين، في ترجمة إسماعيل بن يحيى بن عبد الله التميمي وقال في إسماعيل هذا: «كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات وما لا أصل له عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه ولا الاحتجاج به بحال» . ثم ضرب مثلا من أكاذيبه هذا الحديث. ويتابع الأستاذ شاكر: وما أدري كيف فات الحافظ ابن كثير أن في إسناده هذا الكذاب، فتسقط روايته بمرة ولا يحتاج إلى هذا التردّد. وأما السيوطي فقد ذكره في الدر المنثور ولم يغفل عن علته، فذكر أنه بسند ضعيف جدا. وترجم الذهبي في الميزان لإسماعيل بن يحيى هذا، وتبعه ابن حجر في لسان الميزان، وفي ترجمته: «قال صالح بن محمد جزرة: كان يضع الحديث. وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب لا تحل الرواية عنه. وقال النيسابوري والدارقطني والحاكم: كذاب» . ثم إن إسناده فيه أيضا راو مجهول وهو «من حدثه عن ابن مسعود» وفيه أيضا عطية بن سعد بن جنادة العوفي وهو ضعيف، ضعفه أحمد وأبو حاتم وغيرهما.(1/33)
عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ مِنْ قِبَلِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَغَيْرِي وَهِيَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَرَوَى بإسناده عن عبد الكريم بْنِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَرَبَ الْغَيْمُ إِلَى الْمَشْرِقِ وَسَكَنَتِ الرِّيَاحُ، وَهَاجَ الْبَحْرُ وأضغت الْبَهَائِمُ بِآذَانِهَا، وَرُجِمَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ السَّمَاءِ، وَحَلَفَ الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يُسَمَّى اسْمُهُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بَارَكَ فِيهِ. وَقَالَ وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيجعل اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا جُنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ ووجه ابن عطية ونصره بحديث «لقد رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا» لِقَوْلِ الرَّجُلِ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَدِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «2» : عَثَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [حِمَارُهُ] «3» . فَقُلْتُ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ تَعِسَ الشَّيْطَانُ تَعَاظَمَ وَقَالَ بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَإِذَا قُلْتَ بِاسْمِ اللَّهِ تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ» هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فِي «الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ خالد الحذاء عن أبي تميمة وهو الْهُجَيْمِيُّ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: «لَا تَقُلْ هَكَذَا فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ كَالْبَيْتِ، وَلَكِنْ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَصْغُرُ حَتَّى يَكُونَ كَالذُّبَابَةِ» فَهَذَا مِنْ تَأْثِيرِ بَرَكَةِ بِسْمِ اللَّهِ، وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ فِي أَوَّلِ كُلِّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ، فَتُسْتَحَبُّ فِي أَوَّلِ الْخُطْبَةِ لِمَا جَاءَ «كُلُّ أَمْرٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَجْذَمُ «4» » وَتُسْتَحَبُّ الْبَسْمَلَةُ عِنْدَ دخول الخلاء لما وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ وَتُسْتَحَبُّ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ لِمَا جَاءَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «5» وَالسُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَهَا عِنْدَ الذِّكْرِ هَاهُنَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا مُطْلَقًا وَكَذَا تُسْتَحَبُّ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَأَوْجَبَهَا آخَرُونَ عِنْدَ الذِّكْرِ وَمُطْلَقًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الله. وقد ذكره الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي فَضْلِ الْبَسْمَلَةِ أَحَادِيثَ
__________
(1) المسند ج 7 ص 349.
(2) في المسند: «عن رديف النبي. قال شعبة: قال عاصم، عن أبي تميمة، عن رجل، عن رديف النبي قال: عنر بالنبي ... إلخ» .
(3) الزيادة من مسند أحمد.
(4) الأجذم: المقطوع.
(5) المسند ج 4 ص 83.(1/34)
مِنْهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَتَيْتَ أهلك فسم الله فإنه إن وجد لك ولد كتب بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ وَأَنْفَاسِ ذُرِّيَّتِهِ حَسَنَاتٌ» وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا رَأَيْتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا وَلَا غَيْرِهَا، وَهَكَذَا تُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْأَكْلِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: «قل بسم اللَّهِ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَكَذَلِكَ تُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجِمَاعِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقَتْنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا» .
وَمِنْ هَاهُنَا يَنْكَشِفُ لَكَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ النُّحَاةِ فِي تَقْدِيرِ الْمُتَعَلِّقِ بالباء في قولك بسم اللَّهِ هَلْ هُوَ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ مُتَقَارِبَانِ، وَكُلٌّ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، أَمَّا مَنْ قدره بسم تقديره بسم اللَّهِ ابْتِدَائِي فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هُودٍ: 41] وَمَنْ قدره بالفعل أمرا أو خبرا نحو أبدأ بسم الله او ابتدأت باسم الله فلقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [الْعَلَقِ: 1] وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَصْدَرٍ فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْفِعْلَ وَمَصْدَرَهُ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْفِعْلِ الَّذِي سَمَّيْتَ قَبْلَهُ إِنْ كَانَ قياما أو قعودا أو أكلا أو شرابا أَوْ قِرَاءَةً أَوْ وُضُوءًا أَوْ صَلَاةً فَالْمَشْرُوعُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِي الشُّرُوعِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَاسْتِعَانَةً عَلَى الْإِتْمَامِ وَالتَّقَبُّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«يَا مُحَمَّدُ قُلْ: أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ قَالَ: قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَالَ: قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ [قل] بسم اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، يَقُولُ: اقْرَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ ربك وقم واقعد بذكر الله تعالى» لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الِاسْمِ هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ فَفِيهَا لِلنَّاسِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسِيبَوَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ فورك، وقال الرَّازِيُّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ فِي مُقَدِّمَاتِ تَفْسِيرِهِ: قَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير نفس التَّسْمِيَةِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَنَفْسُ التَّسْمِيَةِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ التَّسْمِيَةِ. ثُمَّ نَقُولُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة وَحُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، فَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ أَنَّهُ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ ذَاتُ الْمُسَمَّى، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ وَهُوَ عَبَثٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَوْضَ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ، ثُمَّ شَرَعَ «2» يَسْتَدِلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الِاسْمِ لِلْمُسَمَّى، بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ مَوْجُودًا وَالْمُسَمَّى مَفْقُودًا كَلَفْظَةِ المعدوم وبأنه
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 78.
(2) أي الرازي.(1/35)
قَدْ يَكُونُ لِلشَّيْءِ أَسْمَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالْمُتَرَادِفَةِ وَقَدْ يكون الاسم واحدا والمسميات متعددة المشترك وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى تَغَايُرِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى وَأَيْضًا فَالِاسْمُ لَفْظٌ وَهُوَ عَرَضٌ وَالْمُسَمَّى قَدْ يَكُونُ ذَاتًا مُمْكِنَةً أَوْ وَاجِبَةً بِذَاتِهَا وَأَيْضًا فَلَفْظُ النَّارِ وَالثَّلْجِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُسَمَّى لَوَجَدَ اللَّافِظُ بِذَلِكَ حَرَّ النَّارِ أَوْ بَرْدَ الثَّلْجِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا» فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ أَضَافَهَا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ونحو ذلك فالإضافة تقتضي المغايرة وقوله تعالى: فَادْعُوهُ بِها أَيْ فَادْعُوا اللَّهَ بِأَسْمَائِهِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُهُ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ والمتبارك هو الله تعالى وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْمَ مُعَظَّمٌ لِتَعْظِيمِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَيْضًا فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ زَيْنَبُ طَالِقٌ يَعْنِي امرأته طُلِّقَتْ وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى لَمَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الذَّاتَ الْمُسَمَّاةَ بِهَذَا الِاسْمِ طَالِقٌ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَأَمَّا التسمية فإنه جَعْلُ الِاسْمِ مُعَيَّنًا لِهَذِهِ الذَّاتِ فَهِيَ غَيْرُ الاسم أيضا والله أعلم.
[القول في تأويل اللَّهِ]
عَلَمٌ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يُقَالُ إِنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ لِأَنَّهُ يُوصَفُ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْحَشْرِ: 22- 24] فَأَجْرَى الْأَسْمَاءَ الْبَاقِيَةَ كلها صفات لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 18] وَقَالَ تَعَالَى:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَجَاءَ تَعْدَادُهَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَبَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اختلاف زيادة ونقصان وقد ذكر الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ خَمْسَةَ آلَافِ اسْمٍ: أَلْفٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَأَلْفٌ فِي التَّوْرَاةِ وَأَلْفٌ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَلْفٌ فِي الزَّبُورِ وَأَلْفٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَهُوَ اسْمٌ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ له اشتقاق من فعل يفعل، فَذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ النُّحَاةِ إِلَى أَنَّهُ اسم جامد لا اشتقاق له، وقد نقله الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيره وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لَازِمَةٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ يَا اللَّهُ وَلَا تَقُولُ يَا الرَّحْمَنُ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ لَمَا جَازَ إِدْخَالُ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ العجاج: [الرجز](1/36)
لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ الْمُدَّهِ ... سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي «1»
فَقَدْ صَرَّحَ الشَّاعِرُ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ التَّأَلُّهُ، مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ إِلَاهَةً وَتَأَلُّهًا، كَمَا روي أن ابن عباس قرأ: (ويذرك وآلهتك) قَالَ: عِبَادَتَكَ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بعضهم على كونه مشتقا بقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 3] كما قال تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزُّخْرُفِ: 84] وَنَقْلَ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ أَصْلَهُ إِلَاهٌ مِثْلُ فِعَالٍ فَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مِثْلُ النَّاسِ، أصله أناس، وقيل أصله الْكَلِمَةِ لَاهَ فَدَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْظِيمِ، وَهَذَا اختيار سيبويه. قال الشاعر: [البسيط]
لَاهِ ابْنِ عَمِّكَ لَا أَفْضَلْتَ فِي حَسَبٍ ... عَنِّي وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُونِي «2»
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «3» : بالخاء أَيْ فَتَسُوسُنِي. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ الْإِلَهُ «4» حَذَفُوا الْهَمْزَةَ وَأَدْغَمُوا اللَّامَ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ [فصارتا لاما مشدّدة] «5» كما قال تعالى: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الْكَهْفِ: 38] أَيْ لَكِنَّ أَنَا وَقَدْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ الْحَسَنُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ثُمَّ قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ وَلِهَ إِذَا تَحَيَّرَ، وَالْوَلَهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ يُقَالُ: رَجُلٌ وَالِهٌ وامرأة والهة ووالة، وماء مولّه إذا أرسل في الصحراء، فالله تعالى تتحيّر الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته «6» فعلى هذا يكون أصل إلاه وَلَّاهُ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً كَمَا قَالُوا فِي وشاح إشاح ووسادة إسادة. وقال الرَّازِيُّ وَقِيلَ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلِهْتُ إِلَى فُلَانٍ أَيْ سَكَنْتُ إِلَيْهِ فَالْعُقُولُ لَا تَسْكُنُ إلا إلى ذكره، والأرواح
__________
(1) يقال: مدهه يمدهه مدها: مدحه، وهو مادة. والرجز لرؤبة في ديوانه ص 166 ولسان العرب (سبح، جله، وهده، مده) وخزانة الأدب 6/ 391 وشرح المفصل 4/ 81 وتهذيب اللغة 6/ 430 وجمهرة اللغة ص 43 ومقاييس اللغة 1/ 127 وديوان الأدب 2/ 464 وكتاب العين 4/ 32 وتاج العروس (أله، مده) والطبري 1/ 82. [.....]
(2) البيت لذي الإصبع العدواني في أدب الكاتب ص 513 والأزهية ص 279 وإصلاح المنطق ص 373 والأغاني 3/ 108 وأمالي المرتضى 1/ 252 وجمهرة اللغة ص 596 وخزانة الأدب 7/ 173 والدرر 4/ 143 وسمط اللآلي ص 289 وشرح التصريح 2/ 15 ولسان العرب (فضل، دين، عنن، لوه، خزا) والمؤتلف والمختلف ص 118 ومغني اللبيب 1/ 147 والمقاصد النحوية 3/ 286 ولكعب الغنوي في الأزهية ص 97.
(3) تفسير القرطبي 1/ 12. وابن كثير ينقل هنا عن القرطبي ابتداء من قوله «ونقل سيبويه عن الخليل» إلى قوله: «كَمَا قَالُوا فِي وِشَاحٍ: أَشَاحُ، وَوِسَادَةٍ: أَسَادَةٌ» .
(4) عبارة القرطبي: «قال الكسائي والفراء: معنى (بسم الله) بسم الإله» .
(5) الزيادة من القرطبي.
(6) عبارة الأصل: «فالله تعالى يحيّر أولئك والفكر في حقائق صفاته» . وما أثبتناه هو عبارة القرطبي (1/ 102) . والعبارتان لا تخلوان من اضطراب.(1/37)
لَا تَفْرَحُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] قَالَ: وَقِيلَ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ إِذَا احْتَجَبَ، وَقِيلَ اشْتِقَاقُهُ من أله الفصيل أولع بِأُمِّهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَ مَأْلُوهُونَ مُولَعُونَ بِالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، قَالَ: وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلِهَ الرَّجُلُ يَأْلُهُ إِذَا فَزِعَ مِنْ أَمْرٍ نَزَلَ بِهِ فَأَلَّهَهُ أَيْ أَجَارَهُ فَالْمُجِيرُ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ مِنْ كُلِّ الْمَضَارِّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] وهو المنعم لقوله تَعَالَى وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: 53] وهو المطعم لقوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] وَهُوَ الْمُوجِدُ لقوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 78] وَقَدِ اختار الرازي أنه اسم غَيْرُ مُشْتَقٍّ الْبَتَّةَ، قَالَ وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ ثُمَّ أَخَذَ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَقًّا لَاشْتَرَكَ فِي مَعْنَاهُ كَثِيرُونَ، وَمِنْهَا أَنَّ بقية الأسماء تذكر صفات لَهُ فَتَقُولُ اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ. قَالَ: فَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ «1» عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْبَيَانِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: 65] وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ عَلَى كَوْنِ هَذَا الِاسْمَ جَامِدًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ نَظَرٌ والله أعلم.
وحكى الرازي عن بعضهم أَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِبْرَانِيٌّ لَا عَرَبِيٌّ، ضَعَّفَهُ وَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّضْعِيفِ كَمَا قَالَ، وَقَدْ حكى الرازي هذا القول ثم قال: وأعلم أن الخلائق قِسْمَانِ: وَاصِلُونَ إِلَى سَاحِلِ بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ، وَمَحْرُومُونَ قَدْ بَقُوا فِي ظُلُمَاتِ الْحَيْرَةِ وَتِيهِ الْجَهَالَةِ، فَكَأَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا عُقُولَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ وَأَمَّا الْوَاجِدُونَ فَقَدْ وَصَلُوا إِلَى عَرْصَةِ النُّورِ وَفُسْحَةِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ فَتَاهُوا فِي مَيَادِينِ الصَّمَدِيَّةِ وَبَادُوا فِي عرصة الفردانية، فثبت أن الخلائق كُلَّهَمْ وَالِهُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ الْخَلْقَ يَأْلَهُونَ إليه، بفتح اللام وكسرها لُغَتَانِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الِارْتِفَاعِ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ: لَاهَا، وَكَانُوا يقولون إذا طلعت الشمس لاهت، وقيل إنه مشتق من أله الرجل إذا تعبد وتأله إذ تنسك، وقرأ ابن عباس (ويذرك وإلاهتك) وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِلَهُ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فَالْتَقَتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُهَا مَعَ اللَّامِ الزَّائِدَةِ فِي أَوَّلِهَا لِلتَّعْرِيفِ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى فَصَارَتَا فِي اللَّفْظِ لَامًا واحدة مشددة وفخمت تعظيما فقيل الله.
القول في تأويل الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَرَحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ رَحِيمٍ، وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا، وَفِي تَفْسِيرِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَثَرِ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَالرَّحْمَنُ:
رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّحِيمُ: رَحِيمُ الآخرة، وزعم بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ إِذْ لَوْ كَانَ
__________
(1) المراد ما جاء في آخر الآية الأولى وأول الآية الثانية من سورة إبراهيم: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ....(1/38)
كذلك «1» لا تصل بِذِكْرِ الْمَرْحُومِ وَقَدْ قَالَ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الْأَحْزَابِ: 43] وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الزَّاهِرِ عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّ الرَّحْمَنَ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الرَّحِيمُ عَرَبِيٌّ وَالرَّحْمَنُ عِبْرَانِيٌّ، فَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ «2» مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ» قَالَ: وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاشْتِقَاقِ فَلَا مَعْنَى لِلْمُخَالَفَةِ وَالشِّقَاقِ، قَالَ: وَإِنْكَارُ الْعَرَبِ لِاسْمِ الرَّحْمَنِ لِجَهْلِهِمْ بالله وبما وجب له، قال القرطبي: ثم قيل هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَنَدْمَانَ وَنَدِيمٍ قَالَهُ أَبُو عبيدة، وَقِيلَ: لَيْسَ بِنَاءُ فَعْلَانَ كَفَعِيلٍ، فَإِنَّ فَعْلَانَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى مُبَالَغَةِ الْفِعْلِ نَحْوَ قولك: رجل غضبان للرجل الممتلئ غضبا، وَفَعِيلٌ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ «3» ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ يَخْتَصُّ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين [كما] قال الله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ أَيْ أَكْثَرُ رَحْمَةً، ثُمَّ حُكِيَ «4» عَنِ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمُ اسْتَشْكَلُوا هَذِهِ الصفة وقالوا لعله أرفق «5» كما فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ويعطي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: الرَّحْمَنُ إِذَا سُئِلَ أَعْطَى والرحيم إذا لم يسأل غضب. وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ الْفَارِسِيِّ الْخُوزِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عليه» وقال بعض الشعراء: [الكامل]
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيُّ آدَمَ حين يسأل يغضب «6»
وقال ابْنُ جَرِيرٍ «7» : حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ حدثنا عثمان بن زفر قال: سمعت
__________
(1) أي: «لو كان مشتقا من الرحمة» كما هي عبارة القرطبي.
(2) هو قول ابن الحصار يشير إلى ما خرّجه الترمذي، نقله القرطبي (1/ 104) .
(3) وأورد القرطبي شاهدا على هذا قول عملّس بن عقيل:
فأما إذا عضّت بك الحرب عضّة ... فإنك معطوف عليك رحيم
وأضاف: فالرحمن خاصّ الاسم عام الفعل، الرحيم عام الاسم خاصّ الفعل هذا قول الجمهور.
(4) أي القرطبي (1/ 106) .
(5) أي: لعل قول ابن عباس هو: «هما اسمان رفيقان (بالفاء الموحدة) أحدهما أرفق من الآخر» على نحو ما جاء في القرطبي نقلا عن الحسين بن الفضل البجلي. قال: لأن الرقّة ليست من صفات الله تعالى في شيء، والرفق من صفاته عز وجل. وبهذا المعنى نقل عن الخطابي.
(6) البيت بلا نسبة أيضا في القرطبي 1/ 106.
(7) تفسير الطبري 1/ 84.(1/39)
العزرمي يقول: الرحمن الرحيم قال: الرحمن بجميع الْخَلْقِ، الرَّحِيمُ قَالَ: بِالْمُؤْمِنِينَ: قَالُوا وَلِهَذَا قَالَ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ [الْفُرْقَانِ: 59] وَقَالَ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] فَذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ لِيَعُمَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ بِرَحْمَتِهِ وَقَالَ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فَخَصَّهُمْ بِاسْمِهِ الرَّحِيمِ. قَالُوا: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الرَّحْمَةِ لِعُمُومِهَا فِي الدَّارَيْنِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ وَالرَّحِيمُ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، لَكِنْ جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ:
رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا. وَاسْمُهُ تَعَالَى الرَّحْمَنُ خَاصٌّ بِهِ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] وقال تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:
45] وَلَمَّا تَجَهْرَمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابِ وَتَسَمَّى بِرَحْمَنِ الْيَمَامَةِ كَسَاهُ اللَّهُ جِلْبَابَ الْكَذِبِ وَشُهِرَ بِهِ فَلَا يُقَالُ إِلَّا مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ فَصَارَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْكَذِبِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَضَرِ مِنْ أَهْلِ الْمَدَرِ وَأَهْلِ الْوَبَرِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْأَعْرَابِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرَّحِيمَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الرَّحْمَنِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ بِهِ وَالتَّأْكِيدُ لَا يَكُونُ إِلَّا أَقْوَى مِنَ الْمُؤَكَّدِ، وَالْجَوَابُ أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النَّعْتِ وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ، وَعَلَى هذا فيكون تقديم اسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَوَصْفَهُ أَوَّلًا بِالرَّحْمَنِ الَّذِي مَنَعَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] وَإِنَّمَا تَجَهْرَمَ «1» مُسَيْلِمَةُ الْيَمَامَةِ فِي التَّسَمِّي بِهِ وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الضَّلَالَةِ وَأَمَّا الرَّحِيمُ فَإِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ بِهِ غَيْرَهُ حَيْثُ قَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: 128] كَمَا وَصَفَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ مِنْ أسمائه كما قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ: 2] وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ كَاسْمِ اللَّهِ والرحمن والخالق والرازق وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلِهَذَا بَدَأَ بِاسْمِ اللَّهِ وَوَصَفَهُ بِالرَّحْمَنِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَأَعْرَفُ مِنَ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ أَوَّلًا إِنَّمَا تَكُونُ بِأَشْرَفِ الْأَسْمَاءِ فَلِهَذَا ابْتَدَأَ بِالْأَخَصِّ فَالْأَخَصِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الرَّحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فَهَلَّا اكْتُفِيَ بِهِ عَنِ الرَّحِيمِ؟ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا تَسَمَّى غَيْرُهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَنِ جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» عَنْ عطاء. ووجهه
__________
(1) كذا ولعله «تجاسر» كما ورد في القرطبي. [.....]
(2) حديث عطاء: «كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم» . قال القرطبي:
والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين، إبانة لهما من خلقه، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما من دون سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.(1/40)
بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الرَّحْمَنَ حَتَّى رَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَلِهَذَا قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ وَلَا الرَّحِيمَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ. وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الْفُرْقَانِ:
60] وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ هَذَا إِنَّمَا هُوَ جُحُودٌ وَعِنَادٌ وَتَعَنُّتٌ فِي كُفْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي أَشْعَارِهِمْ فِي الجاهلية تسمية الله بِالرَّحْمَنِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ أُنْشِدَ لِبَعْضِ الجاهلية الجهال: [الطويل]
أَلَا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا ... أَلَا قَضَبَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا «1»
وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ الطهوي «2» : [الطويل]
عجلتم علينا إذ عجلنا عَلَيْكُمُ ... وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدُ وَيُطْلِقِ «3»
وَقَالَ ابن جرير «4» : حدثنا أبو كريب عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الرَّحْمَنُ الْفِعْلَانِ مِنَ الرحمة هو من كلام العرب وقال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرفيق الرقيق لمن «5» أَحَبَّ أَنْ يَرْحَمَهُ وَالْبَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعَنِّفَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «6» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ مَمْنُوعٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ الرَّحْمَنُ اسْمٌ لَا يَسْتَطِيعُ النَّاسُ أَنْ يَنْتَحِلُوهُ تَسَمَّى بِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يقطّع قراءته حَرْفًا حَرْفًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَهَا بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَكُسِرَتِ الْمِيمُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ، وحكى الكسائي من الكوفيين عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُقْرَأُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَصِلَةِ الْهَمْزَةِ فَيَقُولُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَنَقَلُوا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قول الله تَعَالَى: الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال ابن عطية: ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.
__________
(1) البيت بلا نسبة في الطبري 1/ 86 والمخصص لابن سيده 17/ 152.
(2) كذا أيضا في أصول تفسير الطبري، كما أشار محقق طبعة دار المعارف بمصر 1/ 131، حاشية (3) .
قال: وهو خطأ، إذ ليس سلامة طهويا. وصححها بالسعدي. قلت: ولعل الحافظ ابن كثير تابع الطبري في هذا الخطأ، إذ ينقل عنه في هذا المقام.
(3) البيت لسلامة بن جندل في ديوانه ص 19 وتفسير الطبري 1/ 86.
(4) تفسير الطبري 1/ 85.
(5) في الطبري: «الرقيق الرفيق بمن أحب» .
(6) الطبري 1/ 88.(1/41)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
[سورة الفاتحة (1) : آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ عَلَى ضم الدال في قوله (الحمد لله) هو مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَرُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ أَنَّهُمَا قَالَا (الْحَمْدَ لِلَّهِ) بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (الْحَمْدُ لُلَّهِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَاللَّامِ إِتْبَاعًا لِلثَّانِي الْأَوَّلَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ (الْحَمْدِ لِلَّهِ) بِكَسْرِ الدَّالِّ إِتْبَاعًا لِلْأَوَّلِ الثَّانِيَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : مَعْنَى الْحَمْدُ لِلَّهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ خَالِصًا دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، وَدُونَ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ، بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَدَدُ وَلَا يُحِيطُ بِعَدَدِهَا غَيْرُهُ أَحَدٌ، فِي تَصْحِيحِ الْآلَاتِ لِطَاعَتِهِ، وَتَمْكِينِ جَوَارِحِ أَجْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، مَعَ مَا بَسَطَ لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم مِنْ نَعِيمِ الْعَيْشِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَمَعَ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دَوَامِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَلِرَبِّنَا الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا. وَقَالَ ابن جرير رحمه الله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي ضِمْنِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَنَاءٌ عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وَقَوْلُهُ (الشُّكْرُ لِلَّهِ) ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَأَيَادِيهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي رَدِّ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ يُوقِعُونَ كُلًّا مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مَكَانَ الْآخَرِ. وَقَدْ نَقَلَ السُّلَمِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَابْنِ عَطَاءٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كَلِمَةُ كُلِّ شَاكِرٍ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ لِابْنِ جَرِيرٍ بِصِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا «2» . وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّيَةِ وَيَكُونُ بِالْجَنَانِ وَاللِّسَانِ وَالْأَرْكَانِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [الطويل]
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً: ... يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرُ الْمُحَجَّبَا
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَعَمُّ الْحَمْدُ أَوِ الشُّكْرُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ مِنْ حَيْثُ مَا يَقَعَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الصِّفَاتِ اللازمة
__________
(1) الطبري 1/ 89.
(2) هذا وهم من ابن كثير، إذ إن القرطبي عارض رأي الطبري بقوله: «ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليست بمرضى» ثم قال: «الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعمّ من الشكر» (تفسير القرطبي 1/ 133- 134) . وعقّب محمود محمد شاكر على من ناقضوا رأي الطبري بقوله: والذي قاله الطبري أقوى حجّة وأعرق عربية من الذين ناقضوه. (تفسير الطبري، 1/ 138، حاشية (2) ، طبعة دار المعارف بمصر) .(1/42)
وَالْمُتَعَدِّيَةِ، تَقُولُ: حَمِدْتُهُ لِفُرُوسِيَّتِهِ وَحَمِدْتُهُ لِكَرَمِهِ وَهُوَ أَخَصُّ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ حَيْثُ مَا يَقَعَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يكون بالقول والفعل وَالنِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَخَصُّ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ لَا يُقَالُ: شَكَرْتُهُ لِفُرُوسِيَّتِهِ وَتَقُولُ شَكَرْتُهُ عَلَى كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيَّ. هَذَا حَاصِلُ مَا حَرَّرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَمْدُ نَقِيضُ الذَّمِّ، تَقُولُ حَمِدْتُ الرَّجُلَ أَحْمَدُهُ حَمْدًا وَمَحْمَدَةً فَهُوَ حَمِيدٌ وَمَحْمُودٌ وَالتَّحْمِيدُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، وَقَالَ فِي الشُّكْرِ: هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى المحسن بما أولاه مِنَ الْمَعْرُوفِ، يُقَالُ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، وَبِاللَّامِ أَفْصَحُ. وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْجَمَادِ أَيْضًا كَمَا يمدح الطعام والمكان وَنَحْوُ ذَلِكَ وَيَكُونُ قَبْلَ الْإِحْسَانِ وَبَعْدَهُ، وَعَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَاللَّازِمَةِ أَيْضًا فَهُوَ أَعَمُّ.
ذِكْرُ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي الْحَمْدِ
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْقَطِيعِيُّ حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قَدْ عَلِمْنَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَرَوَاهُ غَيْرُ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ حَفْصٍ فَقَالَ: قَالَ عُمَرُ لِعَلِيِّ- وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ-: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ؟ قال علي: كلمة أحبها الله تعالى لِنَفْسِهِ وَرَضِيَهَا لِنَفْسِهِ وَأَحَبَّ أَنْ تُقَالَ «1» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ يُوسُفَ بن مهران: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ وإذا قال العبد الحمد لله قال الله: شَكَرَنِي عَبْدِي. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرَوَى أَيْضًا هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ «2» مِنْ حَدِيثِ بِشْرِ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ الشُّكْرُ لِلَّهِ وَالِاسْتِخْذَاءُ لَهُ وَالْإِقْرَارُ لَهُ بنعمته وَهِدَايَتِهِ وَابْتِدَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: الحمد لله ثناء على اللَّهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رِدَاءُ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِنَحْوِ ذَلِكَ «3» .
قَالَ ابْنُ جرير: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عمير وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ فَزَادَكَ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «4» : حَدَّثَنَا رُوحٌ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أنشدك محامد حمدت
__________
(1) الدر المنثور 1/ 34.
(2) تفسير الطبري 1/ 89 والدر المنثور 1/ 34.
(3) حديثا كعب والضحاك أخرجهما ابن جرير وابن أبي حاتم (الدر المنثور 1/ 34) .
(4) المسند ج 5 ص 303.(1/43)
بِهَا رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الحسن الأسود بن سريع به. وروى أبو عيسى الحافظ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ خِرَاشٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فقال: الحمد الله إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ» وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لله كان الْحَمْدُ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وغيره: أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نِعْمَةً عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا لِأَنَّ ثَوَابَ الحمد لله لَا يَفْنَى وَنَعِيمُ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الْكَهْفِ: 46] وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَالَ يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ. فَعَضَلَتْ «1» بِالْمَلَكَيْنِ فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إِنَّ عَبْدًا قَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا، قَالَ اللَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ عَبْدُهُ، مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ قَالَا يَا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا «اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي حَتَّى يَلْقَانِي فَأَجْزِيَهُ بِهَا» وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَوْلُ الْعَبْدِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين) أفضل من قوله (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لِاشْتِمَالِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى التَّوْحِيدِ مَعَ الْحَمْدِ، وَقَالَ آخَرُونَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَفْضَلُ لِأَنَّهَا تفصل بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَعَلَيْهَا يُقَاتَلُ النَّاسُ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحَمْدِ لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْحَمْدِ وَصُنُوفِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كله وإليك يرجع الأمر كله» الحديث.
[القول في تأويل رَبِّ الْعالَمِينَ]
وَالرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى السَّيِّدِ وَعَلَى الْمُتَصَرِّفِ لِلْإِصْلَاحِ وكل ذلك صحيح في حق الله، وَلَا يُسْتَعْمَلُ الرَّبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ بَلْ بِالْإِضَافَةِ تَقُولُ: رَبُّ الدَّارِ، رَبُّ كَذَا، وَأَمَّا الرَّبُّ «2» فَلَا يُقَالُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. وَالْعَالَمِينَ جَمْعُ عَالَمٍ، وهو
__________
(1) عضل به الأمر: اشتدّ واستغلق. [.....]
(2) أي الرب مطلقا.(1/44)
كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعَالَمُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْعَوَالِمُ أصناف المخلوقات في السموات وفي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهَا وَجِيلٍ يُسَمَّى عالما أيضا. قال بشر بن عمار عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عباس الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الحمد لله الذي له الخلق كله السموات والأرضون وما فيهنّ وما بينهن مما نعلم ومما لَا نَعْلَمُ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَبُّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جَبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جريج وروي عن علي نحوه، قال ابن أبي حاتم: بإسناده لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: 1] وَهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. قال الفراء وأبو عبيد:
الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَعْقِلُ وَهُمُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ وَلَا يُقَالُ لِلْبَهَائِمِ عَالَمٌ. وَعَنْ زيد بن أسلم وأبي محيصن: العالم كل ما له روح ترفرف. وَقَالَ قَتَادَةُ: رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلُّ صِنْفٍ عَالَمٌ، وقال الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مَرْوَانَ بْنِ محمد وهو أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بِالْجَعْدِ وَيُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ سبعة عشر ألف عالم، أهل السموات وأهل الأرض عالم واحد، وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: الْإِنْسُ عَالَمٌ [وَالْجِنُّ عَالَمٌ] «1» وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ- هُوَ يَشُكُّ- مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَلِلْأَرْضِ أَرْبَعُ زَوَايَا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافِ عَالَمٍ وَخَمْسِمِائَةِ عَالَمٍ خَلْقَهُمُ اللَّهُ لِعِبَادَتِهِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ «2» . وَهَذَا كَلَامٌ غَرِيبٌ يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْفُرَاتُ، يَعْنِي ابْنَ الْوَلِيدِ، عَنْ مُعَتِّبِ بْنِ سُمَيٍّ عَنْ تبيع يعني الحميري في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: الْعَالَمِينَ أَلْفُ أُمَّةٍ فَسِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ «3» ، وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ الْقَيْسِيُّ أَبُو عَبَّادٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ كَيْسَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَلَّ الْجَرَادُ فِي سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ الَّتِي وَلِيَ فِيهَا، فَسَأَلَ عَنْهُ فَلَمْ يُخْبَرْ بِشَيْءٍ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ رَاكِبًا يَضْرِبُ إِلَى الْيَمَنِ وَآخَرَ إِلَى الشَّامِ وَآخَرَ إِلَى الْعِرَاقِ يَسْأَلُ هَلْ رُؤِيَ مِنَ الْجَرَادِ شَيْءٌ، أَمْ لَا؟ قَالَ: فَأَتَاهُ الرَّاكِبُ الَّذِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ بِقَبْضَةٍ مِنْ جَرَادٍ، فَأَلْقَاهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمَّا رَآهَا كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «خَلَقَ اللَّهُ أَلْفَ أُمَّةٍ: سِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَهْلِكُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْجَرَادُ فَإِذَا هَلَكَ تَتَابَعَتْ مِثْلَ النِّظَامِ إِذَا قُطِعَ سِلْكُهُ» محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي
__________
(1) زيادة من الطبري.
(2) تفسير الطبري 1/ 93 والدر المنثور 1/ 37.
(3) الدر المنثور 1/ 37.(1/45)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
ضَعِيفٌ «1» . وَحَكَى الْبَغَوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ أَلْفُ عَالَمٍ سِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لِلَّهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ عَالَمٍ الدُّنْيَا عَالَمٌ مِنْهَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
الْعَوَالِمُ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَا يَعْلَمُ عَدَدَ الْعَوَالِمِ إلا الله عز وجل نقله الْبَغَوِيُّ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ عَالَمٍ الدُّنْيَا مِنْ شَرْقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَالَمُ كُلُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ شَامِلٌ لِكُلِّ الْعَالَمِينَ كَقَوْلِهِ: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء: 23] وَالْعَالَمُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَلَامَةِ (قُلْتُ) لِأَنَّهُ عِلْمٌ دَالٌّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ وَصَانِعِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ:
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
[سورة الفاتحة (1) : آية 3]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)
وقوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَسْمَلَةِ بما أغنى عن الإعادة. قال القرطبي «2» : إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تَعَالَى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الْحِجْرِ: 49- 50] وَقَوْلُهُ تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 165] قال: فالرب فيه ترهيب والرحمن الرحيم ترغيب. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العقوبة ما طمع في جنته أَحَدٌ وَلَوْ يُعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من الرحمة ما قنط من رحمته «3» أحد» .
[سورة الفاتحة (1) : آية 4]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ (مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ) وَقَرَأَ آخَرُونَ (مَالِكِ) وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ متواتر في السبع «4» ، ويقال ملك بكسر اللام وبإسكانها، وَيُقَالُ مَلِيكٌ أَيْضًا وَأَشْبَعَ نَافِعٌ كَسْرَةَ الْكَافِ فَقَرَأَ (مَلَكِي يَوْمِ الدِّينِ) وَقَدْ رَجَّحَ كُلًّا من القراءتين مرجّحون من حيث المعنى وكلتاهما صَحِيحَةٌ حَسَنَةٌ، وَرَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَلِكِ لِأَنَّهَا قِرَاءَةُ أهل الحرمين ولقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] وقوله:
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ [الأنعام: 73] وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: مَلَكَ يوم الدين على
__________
(1) الحديث رواه السيوطي في الدر المنثور (1/ 37) وقال: بسند ضعيف.
(2) تفسير القرطبي 1/ 139، وابن كثير ينقل هنا عن القرطبي بتصرّف.
(3) في القرطبي 1/ 139 وصحيح مسلم (توبة حديث 23) : «جنته» .
(4) أي القراءات السبع المشهورة.(1/46)
أَنَّهُ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ وَهَذَا شَاذٌّ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا غَرِيبًا حَيْثُ قَالَ: حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا عبد الوهاب بن عَدِيِّ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي الْمُطَرِّفِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَابْنَهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانُوا يقرءون (مالك يوم الدين) قال ابن شهاب: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ «مَلِكِ» مَرْوَانُ (قُلْتُ) مَرْوَانُ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِصِحَّةِ مَا قَرَأَهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ابْنُ شِهَابٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْرَدَهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَؤُهَا (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وَمَالِكُ مَأْخُوذٌ مِنَ الملك كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [مَرْيَمَ: 40] وَقَالَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ [النَّاسِ: 1- 2] وَمَلِكٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُلْكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقال قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ وَقَالَ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفُرْقَانِ: 26] وَتَخْصِيصُ الْمُلْكِ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] وَقَالَ تَعَالَى:
وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طَهَ: 108] وقال تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هُودٍ: 105] وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ: لَا يملك أحد معه في ذلك اليوم حُكْمًا كَمِلْكِهِمْ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْحِسَابِ لِلْخَلَائِقِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ «1» . وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ «2» عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أن تَفْسِيرِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِقَامَتِهِ، ثُمَّ شَرَعَ يُضْعِفُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ كلا من القائلين هذا القول وَبِمَا قَبْلَهُ يَعْتَرِفُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ الْآخَرِ وَلَا يُنْكِرُهُ، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ من هذا، كما قال تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً والقول الثاني يشبه قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَلِكُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر: 23] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا «أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ وَلَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ «3» » وَفِيهِمَا عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ ملوك
__________
(1) أخرجه ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس (الدر المنثور 1/ 9) .
(2) تفسير الطبري 1/ 96.
(3) أخرجه البخاري (أدب، باب 114) وأبو داود (أدب، باب 63) . والترمذي (أدب، باب 66) وأحمد في المسند ج 3 ص 40. قال عبد الله ابن الإمام أحمد: قال أبي: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم عند الله؟ قال: أوضع اسم عند الله.(1/47)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
الْأَرْضِ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ «1» » وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] فَأَمَّا تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَلِكٍ فَعَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً [البقرة: 247] وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: 79] إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: 20] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» .
وَالدِّينُ الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور: 25] وقال أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات: 53] أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ، وَفِي الْحَدِيثِ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ» أَيْ حاسب نفسه كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَأَهَّبُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ عَلَى مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمْ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. [الْحَاقَّةِ: 18] .
[سورة الفاتحة (1) : آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قَرَأَ السَّبْعَةُ وَالْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ إِيَّاكَ وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ فائد بتخفيفها مع كسر الهمزة وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ إِيَّا: ضَوْءُ الشَّمْسِ «2» ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ أَيَّاكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ هَيَّاكَ بِالْهَاءِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ كما قال الشاعر: [الطويل]
فهياكو الأمر الذي إن توسّعت ... موارده ضاقت عليك مصادره «3»
ونستعين بِفَتْحِ النُّونِ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ فِي قِرَاءَةِ الْجَمِيعِ سِوَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ فَإِنَّهُمَا كَسَرَاهَا وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ وَرَبِيعَةَ وَبَنِي تَمِيمٍ، والعبادة فِي اللُّغَةِ مِنَ الذِّلَّةِ يُقَالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ وَبَعِيرٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ، وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ. وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ وَهُوَ إِيَّاكَ وَكُرِّرَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ أَيْ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ وَلَا نَتَوَكَّلُ إِلَّا عليك وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْفَاتِحَةُ سِرُّ الْقُرْآنِ، وَسِرُّهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَالْأَوَّلُ تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَالثَّانِي تَبَرُّؤٌ مِنَ الحول
__________
(1) أخرجه مسلم (منافقين، حديث 24) وأبو داود (سنة، باب 19) وابن ماجة (مقدمة، باب 13 وزهد، باب 33) وأحمد في المسند (ج 3 ص 309) .
(2) في لسان العرب (أيا) : إيا الشمس وأياؤها: نورها وضوؤها وحسنها. وكذلك إياتها وأياتها، وجمعها آياء وإياء كأكمة وإكام. وأنشد الكسائي:
سقته إياة الشمس إلا لثاته ... أسفّ ولم تكدم عليه بإثمد
والشاهد في القرطبي 1/ 146.
(3) البيت لمضرس بن ربعي في شرح شواهد الشافية ص 476 ولطفيل الغنوي أو لمضرس في ديوان طفيل ص 102 وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 215 وسر صناعة الإعراب 2/ 552 وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1152 وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 223 وشرح المفصل 8/ 118 ولسان العرب (هيا، أيا) والمحتسب (1/ 40) . [.....](1/48)
وَالْقُوَّةِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هُودٍ: 123] ، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الْمُلْكِ: 29] ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 9] وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَتَحَوُّلُ الْكَلَامِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُوَاجَهَةِ بِكَافِ الْخِطَابِ وَهُوَ مُنَاسَبَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْنَى عَلَى اللَّهِ فَكَأَنَّهُ اقْتَرَبَ وَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ الْحُسْنَى وَإِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ بِأَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» «1» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يقول اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ إِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» «2» وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِيَّاكَ نَعْبُدُ يَعْنِي إِيَّاكَ نُوَحِّدُ وَنَخَافُ وَنَرْجُو يَا رَبَّنَا لَا غَيْرَكَ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا «3» . وَقَالَ قَتَادَةُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُخْلِصُوا لَهُ العبادة وأن تستعينوه على أموركم. وَإِنَّمَا قَدَّمَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلَى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَهُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إليها والاهتمام والحزم تقديم مَا هُوَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قيل: فما معنى النون في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَإِنْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ فالداعي واحد وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هَذَا الْمَقَامَ؟ وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ جِنْسِ الْعِبَادِ وَالْمُصَلِّي فَرْدٌ مِنْهُمْ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ إِمَامَهُمْ فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا وَتَوَسَّطَ لَهُمْ بِخَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ للتعظيم. قيل: إذا كنت داخل الْعِبَادَةِ فَأَنْتَ شَرِيفٌ وَجَاهُكَ عَرِيضٌ فَقُلْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وإن كُنْتَ خَارِجَ الْعِبَادَةِ فَلَا تَقُلْ نَحْنُ وَلَا فَعَلْنَا وَلَوْ كُنْتَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ ألف ألف لاحتياج الجميع إلى الله عز وجل وفقرهم إليه. ومنهم من قال: إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلا
__________
(1) البخاري (توحيد، باب 48) ومسلم (صلاة، حديث 34) .
(2) صحيح مسلم، صلاة، حديث 38 و 40.
(3) أخرجه ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس (الدر المنثور 1/ 39) .(1/49)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْبُدَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْعِبَادَةُ مَقَامٌ عَظِيمٌ يَشْرُفُ بِهِ الْعَبْدُ لِانْتِسَابِهِ إِلَى جَنَابِ اللَّهِ تَعَالَى كما قال بعضهم: [السريع]
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أسمائي
وقد سمى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بِعَبْدِهِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: 1] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الْجِنِّ: 19] ، سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] فَسَمَّاهُ عَبْدًا عند إنزاله عليه وعند قيامه فِي الدَّعْوَةِ وَإِسْرَائِهِ بِهِ وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتٍ يَضِيقُ صَدْرُهُ مِنْ تَكْذِيبِ المخالفين حَيْثُ يَقُولُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 97- 99] وقد حكى الرازي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ أَشْرَفُ مِنْ مَقَامِ الرِّسَالَةِ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ تَصْدُرُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ وَالرِّسَالَةُ مِنَ الْحَقِّ إلى الخلق، قال:
ولأن الله يتولى مصالح عبده والرسول يتولى مَصَالِحِ أُمَّتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَالتَّوْجِيهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ لَا حَاصِلَ لَهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الرازي بتضعيف ولا رد، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: الْعِبَادَةُ إِمَّا لِتَحْصِيلِ ثَوَابٍ أو درء عِقَابٍ، قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِطَائِلٍ إِذْ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ، وَإِمَّا لِلتَّشْرِيفِ بِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَهُمْ ضَعِيفٌ، بَلِ الْعَالِي أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكَمَالِ، قَالُوا: وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُصَلِّي: أُصَلِّي لِلَّهِ، وَلَوْ كَانَ لتحصيل الثواب ودرء العقاب لبطلت الصلاة وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ وَقَالُوا: كَوْنُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُنَافِي أَنْ يَطْلُبَ مَعَهَا ثَوَابًا وَلَا أَنْ يَدْفَعَ عَذَابًا كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ: أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ إِنَّمَا أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» «1» .
[سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالصَّادِّ وَقُرِئَ السِّرَاطَ وَقُرِئَ بِالزَّايِ، قَالَ الْفَرَّاءَ: وَهِيَ لُغَةُ بني عذرة وبني كلب. لما تقدم الثناء على المسؤول تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِالسُّؤَالِ كَمَا قَالَ: «فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ السَّائِلِ أَنْ يَمْدَحَ مسؤوله ثُمَّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ وَأَنْجَعُ لِلْإِجَابَةِ، وَلِهَذَا أَرْشَدَ الله إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ، وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ السَّائِلِ وَاحْتِيَاجِهِ كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: 24] وَقَدْ يَتَقَدَّمُهُ مَعَ ذلك وصف المسؤول كَقَوْلِ ذِي النُّونِ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر: [الوافر]
__________
(1) الحديث أخرجه أحمد في المسند (ج 5 ص 386) عن بعض أصحاب النبي وأخرجه أبو داود (صلاة، باب 124) وابن ماجة (إقامة، باب 46 ودعاء، باب 4) .(1/50)
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
وَالْهِدَايَةُ هَاهُنَا الْإِرْشَادُ وَالتَّوْفِيقُ، وَقَدْ تَعَدَّى الْهِدَايَةُ بِنَفْسِهَا كَمَا هُنَا اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَتَضَمَّنُ مَعْنَى أَلْهِمْنَا أَوْ وَفِّقْنَا أَوِ ارْزُقْنَا أَوِ اعْطِنَا وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] أَيْ بَيَّنَّا لَهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَقَدْ تَعَدَّى بِإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النَّحْلِ:
121] فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 23] وَذَلِكَ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى: 52] وَقَدْ تَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَافِ: 43] أَيْ وَفَّقَنَا لِهَذَا وَجَعَلَنَا لَهُ أَهْلًا.
وَأَمَّا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فيه وكذلك فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جرير بن عطية الخطفي: [الوافر]
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ «2»
قَالَ: وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. قَالَ: ثُمَّ تَسْتَعِيرُ الْعَرَبُ الصِّرَاطَ فَتَسْتَعْمِلُهُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وُصِفَ بِاسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ فَتَصِفُ الْمُسْتَقِيمَ بِاسْتِقَامَتِهِ وَالْمُعْوَجَّ بِاعْوِجَاجِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي تَفْسِيرِ الصِّرَاطِ، وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ عَنْ سَعْدٍ وَهُوَ أَبُو الْمُخْتَارِ الطَّائِيُّ عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ الزَّيَّاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ «4» مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ» وَقَدْ رُوِيَ هذا موقوفا عن علي رضي الله عنه وَهُوَ أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ، وَقِيلَ هُوَ الإسلام. قال الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ «قُلْ يَا مُحَمَّدُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ» يَقُولُ: اهْدِنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ وَهُوَ
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 103.
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 218 وتهذيب اللغة 12/ 330 وتاج العروس (ورد) وجمهرة اللغة ص 714 ومقاييس اللغة 6/ 105 وأساس البلاغة (ورد) ولسان العرب (ورد، سرط) ومجمل اللغة 4/ 522.
(3) تفسير الطبري 1/ 104.
(4) الترمذي، ثواب القرآن، باب 14.(1/51)
دين الله الذي لا اعوجاج فِيهِ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قَالَ: ذَاكَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ قَالُوا: هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ اهْدِنَا الصراط المستقيم قال: هو الْإِسْلَامُ قَالَ: هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قَالَ: هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادِ غَيْرَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: اهْدِنَا الصراط المستقيم قال: هو الإسلام. وفي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ «1» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ أَبُو الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تُعَوِّجُوا «2» ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ- فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ- فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ بُجَيْرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ به، وهو إسناد حسن صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ قَالَ: الْحَقُّ. وَهَذَا أَشْمَلُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قَالَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ عَاصِمٌ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ صَدَقَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصَحَ «3» . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ وَهِيَ مُتَلَازِمَةٌ فإن من اتبع الإسلام فقد اتَّبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتَدَى بِاللَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَدِ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَمَنِ اتَّبَعَ الْحَقَّ فَقَدِ اتَّبَعَ الْإِسْلَامَ وَمَنِ اتَّبَعَ الْإِسْلَامَ فَقَدِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَحَبْلُهُ الْمَتِينُ وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ، فَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السَّقَطِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي تَرَكَنَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالَّذِي
__________
(1) المسند ج 6 ص 199.
(2) في المسند «ولا تتفرّجوا» ،
(3) تفسير الطبري 1/ 105.(1/52)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدِي أَعْنِي- اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ- أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ: وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ مِنْ قَوْلٍ وعمل ذلك هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ لِأَنَّ مَنْ وُفِّقَ لِمَا وُفِّقَ لَهُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَقَدْ وُفِّقَ لِلْإِسْلَامِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَالِانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ وَاتِّبَاعِ مِنْهَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَاجِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَكُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ وَكُلُّ ذَلِكَ من الصراط المستقيم «1» .
فإن قيل فكيف يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُ الْهِدَايَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ؟ فَهَلْ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ أَمْ لَا؟
فَالْجَوَابُ أَنْ لَا، وَلَوْلَا احْتِيَاجُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مُفْتَقِرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَحَالَةٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَثْبِيتِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ وَرُسُوخِهِ فِيهَا وَتَبَصُّرِهِ وَازْدِيَادِهِ مِنْهَا وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَرْشَدَهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يَمُدَّهُ بِالْمَعُونَةِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّوْفِيقِ، فَالسَّعِيدُ من وفقه الله تعالى لسؤاله فإنه قَدْ تَكَفَّلَ بِإِجَابَةِ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ وَلَا سِيَّمَا الْمُضْطَرُّ الْمُحْتَاجُ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النِّسَاءِ: 136] فَقَدْ أَمَرَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْإِيمَانِ وَلَيْسَ ذلك من باب تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ لِأَنَّ الْمُرَادَ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِمْرَارُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سِرًّا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ اسْتَمِرَّ بِنَا عَلَيْهِ وَلَا تعدل بنا إلى غيره.
[سورة الفاتحة (1) : آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
قَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِيمَا إِذَا قَالَ الْعَبْدُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إِلَى آخِرِهَا أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ «هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سأل» وقوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مُفَسِّرٌ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ عِنْدَ النُّحَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون عطف بيان والله أعلم. والذين أنعم الله عَلَيْهِمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً [النِّسَاءِ: 69- 70] وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ مِنْ مَلَائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَالصِّدِّيقِينَ والشهداء والصالحين. وذلك نظير
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 104.(1/53)
مَا قَالَ رَبُّنَا تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قَالَ: هُمُ النَّبِيُّونَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَالَ وَكِيعٌ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالتَّفْسِيرُ الْمُتَقَدِّمُ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ (غَيْرِ) بِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ «1» وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ وَالْعَامِلُ أَنْعَمْتَ وَالْمَعْنَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ وَنَعْتُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْهِدَايَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ نَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرِهِ غَيْرِ صراط المغضوب عليهم الَّذِينَ فَسَدَتْ إِرَادَتُهُمْ فَعَلِمُوا الْحَقَّ وَعَدَلُوا عَنْهُ وَلَا صِرَاطِ الضَّالِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا الْعِلْمَ فَهُمْ هَائِمُونَ فِي الضَّلَالَةِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الحق. وأكد الكلام بلا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَسْلَكَيْنِ فَاسِدَيْنِ وَهُمَا طَرِيقَتَا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّ غَيْرَ هَاهُنَا اسْتِثْنَائِيَّةٌ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مُنْقَطِعًا لِاسْتِثْنَائِهِمْ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، وما أوردناه أولى لقول الشاعر: [الوافر]
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقِعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ «2»
أَيْ كَأَنَّكَ جَمَلٌ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَاكْتَفَى بِالصِّفَةِ، وَهَكَذَا. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، أَيْ غَيْرِ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عليهم. واكتفى بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنْ ذِكْرِ الْمُضَافِ، وَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أن لا في قوله تعالى وَلَا الضَّالِّينَ زَائِدَةٌ وَأَنْ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عِنْدَهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ وَاسْتَشْهَدَ بِبَيْتِ الْعَجَّاجِ: [الرجز]
فِي بِئْرٍ لَا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرَ»
__________
(1) هو عبد الله بن كثير، القارئ المتوفى سنة 120 هـ.
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 126 وخزانة الأدب 5/ 67 وشرح أبيات سيبويه 2/ 58 وشرح المفصل 3/ 59 والكتاب 2/ 345 ولسان العرب (وقش، قعع، شنن) والمقاصد النحوية 4/ 67.
والبيت قاله النابغة في هجاء عيينة بن حصن الفزاري يصفه بالجبن والخور كأنه جمل من جمال بني أقيش المعروفة بشدة النفار إذا سمعت صوت شنّ (قربة بالية) يقعقع به. [.....]
(3) تتمة الرجز: «بإفكه حتى رأى الصّبح جشر» . وهو للعجاج في ديوانه 20 والأزهية ص 154 والأشباه النظائر 2/ 164 وخزانة الأدب 4/ 51 وشرح المفصل 8/ 136 وتاج العروس (حور، لا) وتهذيب اللغة 5/ 228 ولسان العرب (حور) . قال في اللسان: أراد: في بئر لا حؤور، فأسكن الواو الأولى وحذفها لسكونها وسكون الثانية بعدها. قاله الفراء: أراد في بئر ماء لا يحير عليه شيئا. وحار يحور حورا وحؤورا: رجع. وفي الحديث: «من دعا رجلا بالكفر وليس كذلك حار عليه» أي رجع إليه ما نسب إليه.(1/54)
أَيْ فِي بِئْرِ حُورٍ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ، ولهذا روى أبو الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم وغير الضالين) وهذا الإسناد صحيح، وكذلك حُكِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ كذلك، وهو محمول على أنه صدر منهما عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، فَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم، وللفرق بين الطريقتين ليتجنب كُلٌّ مِنْهُمَا فَإِنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْيَهُودُ فَقَدُوا الْعَمَلَ، وَالنَّصَارَى فَقَدُوا الْعِلْمَ، وَلِهَذَا كَانَ الْغَضَبُ لِلْيَهُودِ وَالضَّلَالُ لِلنَّصَارَى، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ وَتَرَكَ استحق الغضب خلاف مَنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَالنَّصَارَى لَمَّا كَانُوا قَاصِدِينَ شَيْئًا لَكِنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى طَرِيقِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ الْحَقِّ، ضَلُّوا، وَكُلٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ضَالٌّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ أَخَصَّ أَوْصَافِ الْيَهُودِ الغضب كما قال تعالى عنهم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: 60] وَأَخَصُّ أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [الْمَائِدَةِ: 77] وَبِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ والآثار وذلك واضح بين فيما قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ:
جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا عَمَّتِي وَنَاسًا فَلَمَّا أَتَوْا بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُفُّوا لَهُ فَقَالَتْ:
يا رسول الله، نأى الْوَافِدُ وَانْقَطَعَ الْوَلَدُ وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، قَالَ «مَنْ وَافِدُكِ؟» قَالَتْ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ «الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» قَالَتْ فَمَنَّ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَجَعَ وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ تَرَى أَنَّهُ عَلِيٌّ، قَالَ: سَلِيهِ حُمْلَانًا فَسَأَلَتْهُ فَأَمَرَ لَهَا، قَالَ فَأَتَتْنِي فَقَالَتْ: لَقَدْ فعلت فَعْلَةً مَا كَانَ أَبُوكَ يَفْعَلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ منه فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان، وَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكِ كِسْرَى وَلَا قَيْصَرَ، فَقَالَ «يَا عَدِيُّ مَا أَفَرَّكَ؟ أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ من إله إلا الله؟ مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَهَلْ شَيْءٌ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟» قَالَ: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر وقال: «إن الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ وَإِنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى» «2» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ «3» ، وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ: قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سلمة عن
__________
(1) المسند ج 7 ص 98- 99،
(2) ولهذا الحديث بقية تنظر في مظنتها المشار إليها. وعدي هذا هو ابن حاتم الطائي الجواد المشهور. كان نصرانيا وقد فرّ لما بعث النبي، ثم رجع وأسلم سنة 9 هـ وحسن إسلامه وصحبته. وقد قام في حرب الردة بأعمال كبيرة حتى قال ابن الأثير خير مولود في أرض طيء وأعظمه بركة عليهم (الأعلام 4/ 220) .
(3) الترمذي، كتاب التفسير، سورة 101.(1/55)
مُرِّيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تعالى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: النَّصَارَى هُمُ الضَّالُّونَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَدِيٍّ هَذَا مِنْ طُرُقٍ وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَقَالَ عبد الرزاق: وأخبرنا مَعْمَرٌ عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن شقيق أنه أخبره مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَشَارَ إِلَى الْيَهُودِ وَالضَّالُّونَ هُمُ النَّصَارَى. وَقَدْ رَوَاهُ الْجُرَيْرِيُّ وَعُرْوَةُ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ فَأَرْسَلُوهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا مَنْ سَمِعَ من النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ تَسْمِيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قَالَ: اليهود، قُلْتُ: الضَّالِّينَ قَالَ: النَّصَارَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ وَلَا الضَّالِّينَ هُمُ النَّصَارَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم اليهود ولا الضالين النَّصَارَى، وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا اخْتِلَافًا.
وَشَاهِدُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ، الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [الْبَقَرَةِ: 90] وَقَالَ فِي الْمَائِدَةِ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [الْمَائِدَةِ: 60] وَقَالَ تَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ [الْمَائِدَةِ: 78- 79] وَفِي السِّيرَةِ «1» عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ يَطْلُبُونَ الدِّينَ الْحَنِيفَ قَالَتْ لَهُ الْيَهُودُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الدُّخُولَ مَعَنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَنَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ أَفِرُّ، وَقَالَتْ لَهُ النَّصَارَى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الدُّخُولَ مَعَنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُهُ. فَاسْتَمَرَّ عَلَى فِطْرَتِهِ وَجَانَبَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَدِينَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَ أَحَدٍ مِنَ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى، وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَتَنَصَّرُوا وَدَخَلُوا فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ أَقْرَبَ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ إذ ذك، وَكَانَ مِنْهُمْ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ حَتَّى هَدَاهُ اللَّهُ بِنَبِيِّهِ لَمَّا بَعَثَهُ آمَنَ بِمَا وَجَدَ من الوحي رضي الله عنه.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام، ج 1 ص 224- 232.(1/56)
[مَسْأَلَةٌ] وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الْإِخْلَالُ بِتَحْرِيرِ مَا بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ لِقُرْبِ مخرجيهما، وذلك أن الضاد نخرجها مِنْ أَوَّلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأَضْرَاسِ، وَمَخْرَجُ الظَّاءِ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَرْفَيْنِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَجْهُورَةِ وَمِنَ الْحُرُوفِ الرِّخْوَةِ وَمِنَ الْحُرُوفِ الْمُطْبَقَةِ فَلِهَذَا كُلِّهِ اغْتُفِرَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا مَكَانَ الْآخَرِ لِمَنْ لَا يُمَيِّزُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ فلا أصل له والله أعلم.
[فصل في معاني هذه السورة]
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْمُسْتَلْزِمَةِ لِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَعَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ وَعَلَى إِرْشَادِهِ عَبِيدَهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ حَوْلِهِمْ وقوتهم إلى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَتَوْحِيدِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ مُمَاثِلٌ، وَإِلَى سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ الدِّينُ الْقَوِيمُ وَتَثْبِيتَهُمْ عَلَيْهِ حتى يفضي بهم بذلك إِلَى جَوَازِ الصِّرَاطِ الْحِسِّيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي جِوَارِ النَّبِيِّينَ والصديقين والشهداء الصالحين، وَاشْتَمَلَتْ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَكُونُوا مَعَ أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مَسَالِكَ الْبَاطِلِ لِئَلَّا يُحْشَرُوا مَعَ سَالِكِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ إِسْنَادُ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وَحَذْفُ الْفَاعِلِ فِي الْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الْمُجَادَلَةِ: 14] . وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ بِقَدَرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الْكَهْفِ: 17] وَقَالَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْأَعْرَافِ: 186] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ لَا كَمَا تقول الْفِرْقَةُ الْقَدَرِيَّةُ «1» وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنْ أَنَّ العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون وَيَحْتَجُّونَ عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِمُتَشَابِهٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَتْرُكُونَ ما يكون فيه صريحا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تعالى
__________
(1) القدرية: جماعة من التابعين قالوا بحرية الإرادة وقدرة الإنسان على أعماله. رددوا هذا في الشام والعراق، وكان على رأسهم معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وهم ضد الجبرية. مهدوا للمعتزلة وتلاشوا فيهم. ويسمى المعتزلة أحيانا القدرية. أما الجبرية منهم طائفة ظهرت في القرن الأول الهجري وكان على رأسهم جهم بن صفوان، ويسمون أيضا الجهمية يقولون إن الإنسان مجبر لا اختيار له ولا قدرة وأن الله قدر الأعمال أزلا وخلقها. عارضهم المعتزلة لأنهم يعطلون الجزاء ويلغون المسئولية. (انظر الموسوعة العربية الميسرة ص 612 و 1371) .(1/57)
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] فَلَيْسَ، بِحَمْدِ اللَّهِ، لِمُبْتَدِعٍ فِي الْقُرْآنِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ لِيَفْصِلَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَلَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
[فَصْلٌ في التأمين]
يستحب لمن يقرأ الْفَاتِحَةَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهَا آمِينَ، مِثْلَ يس، ويقال أمين بالقصر أيضا، ومعناه:
اللهم استجب. والدليل على استحباب التأمين مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالَ آمِينَ مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ «1» ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَلَا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ «آمِينَ» حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وزاد فيه: فيرتج بِهَا الْمَسْجِدُ. وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ. وَعَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَنَقَلَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُمَا شَدَّدَا الْمِيمَ مِنْ آمِينَ مِثْلَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَةِ: 2] قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ خَارِجُ الصَّلَاةِ، وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْمُصَلِّي، وَسَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «2» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «3» قِيلَ بِمَعْنَى مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ فِي الزَّمَانِ، وَقِيلَ فِي الْإِجَابَةِ، وَقِيلَ فِي صِفَةِ الْإِخْلَاصِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «إِذَا قَالَ- يَعْنِي الْإِمَامَ- وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ يُجِبْكُمُ اللَّهُ» «4» وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَعْنَى آمِينَ؟ قَالَ «رَبِّ افْعَلْ» وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَعْنَى آمِينَ كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ: لَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لَنَا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وجعفر الصادق وهلال بن يساف أَنَّ آمِينَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ، قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ:
لَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ وَيُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «وَإِذَا قَالَ- يَعْنِي الْإِمَامَ- وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ» الْحَدِيثَ. واستأنسوا أيضا
__________
(1) مسند أحمد، ج 6 ص 473. ك
(2) صحيح البخاري (أذان باب 111، ودعوات باب 4) ومسلم (صلاة حديث 73) .
(3) صحيح مسلم (صلاة حديث 74- 76) .
(4) صحيح مسلم (صلاة حديث 26، 87) .(1/58)
بحديث أبي موسى عند مسلم: كَانَ يُؤَمِّنُ إِذَا قَرَأَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا» وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُؤَمِّنُ إِذَا قَرَأَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَهْرِ بِالتَّأْمِينِ للمأموم في الجهرية، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ نَسِيَ التَّأْمِينَ جَهَرَ الْمَأْمُومُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَمَّنَ الإمام جهرا فالجديد أن لَا يَجْهَرُ الْمَأْمُومُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ: لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ الْأَذْكَارِ فَلَا يَجْهَرُ بِهِ كَسَائِرِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بن حنبل والرواية الأخرى عن مالك لما تَقَدَّمَ «حَتَّى يَرْتَجَّ الْمَسْجِدُ» وَلَنَا قَوْلٌ آخَرُ ثَالِثٌ إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا لَمْ يَجْهَرِ الْمَأْمُومُ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جَهَرَ لِيُبَلِّغَ التَّأْمِينَ مَنْ فِي أَرْجَاءِ الْمَسْجِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْيَهُودُ فَقَالَ «إِنَّهُمْ لَنْ يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى الْجُمُعَةِ التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ» «1» وَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى قَوْلِ آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينَ» وَفِي إِسْنَادِهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو «2» وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «آمِينَ خَاتَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ على لسان عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» «3» وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيتُ آمِينَ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الدُّعَاءِ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُوسَى، كَانَ مُوسَى يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤَمِّنُ فَاخْتِمُوا الدُّعَاءَ بِآمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتَجِيبُهُ لَكُمْ» (قُلْتُ) وَمِنْ هُنَا نَزَعَ بَعْضُهُمْ فِي الدَّلَالَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
[يُونُسَ:
88- 89] فَذَكَرَ الدُّعَاءَ عَنْ مُوسَى وَحْدَهُ وَمِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَارُونَ أَمَّنَ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ مَنْ دَعَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمَّنَ عَلَى دُعَاءٍ فَكَأَنَّمَا قَالَهُ، فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَقْرَأُ لِأَنَّ تَأْمِينَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَتِهَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ له قراءة» رواه أحمد في مسنده «4» . وكان بلال يقول:
__________
(1) ابن ماجة (إقامة باب 14) .
(2) هو طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي المتوفى سنة 152. من الطبقة السابعة. متروك.
(موسوعة رجال الكتب التسعة 2/ 206) .
(3) الدر المنثور (1/ 44) . قال السيوطي: بسند ضعيف.
(4) المسند ج 5 ص 100. رواه من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا. [.....](1/59)
لا تسبقني بآمين يا رسول الله. فَدَلَّ هَذَا الْمَنْزَعُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ ليث عن ابن أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضالين، فقال آمين، فوافق آمِينَ أَهْلِ الْأَرْضِ آمِينَ أَهْلِ السَّمَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَثَلُ مَنْ لَا يَقُولُ آمِينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ غَزَا مَعَ قَوْمٍ فَاقْتَرَعُوا فَخَرَجَتْ سِهَامُهُمْ وَلَمْ يَخْرُجْ سَهْمُهُ فَقَالَ لِمَ لَمْ يَخْرُجْ سَهْمِي؟ فَقِيلَ إنك لم تقل آمين» «1» .
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (1/ 44) قال: وأخرجه أبو يعلى في مسنده وابن مردويه بسند جيد عن أبي هريرة.(1/60)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
[ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْبَقَرَةُ سَنَامُ الْقُرْآنِ وَذُرْوَتُهُ. نَزَلَ مَعَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ثَمَانُونَ مَلَكًا وَاسْتُخْرِجَتْ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَوُصِلَتْ بِهَا أَوْ فَوُصِلَتْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيس قَلْبُ الْقُرْآنِ لَا يَقْرَؤُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ وَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» «1» انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَارِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ- وَلَيْسَ بِالنَّهْدِيِّ- عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» يَعْنِي يس- فقد تبين بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَعْرِفَةَ الْمُبْهَمِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ وإن سنام الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَفِيهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ» «2» وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَجْعَلُوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذي تقرأ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ» «3» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ إِذَا سَمِعَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ» «4» سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ وَيُقَالُ بِالْعَكْسِ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَاسْتَنْكَرَ حَدِيثَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الشيطان يفرّ من البيت يُسْمَعُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي «الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ حدثنا أبو
__________
(1) المسند ج 7 ص 286.
(2) الترمذي، ثواب القرآن باب 2.
(3) هذا لفظ الترمذي. ولفظ أحمد في المسند (ج 3 ص 128) : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفرّ من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» .
(4) الدر المنثور 1/ 49.(1/61)
إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «لا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى يَتَغَنَّى «1» وَيَدَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ يَقْرَؤُهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَإِنَّ أَصْفَرَ «2» الْبُيُوتِ الْجَوْفُ الصِّفْرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ» «3» وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي «الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا مِنْ بَيْتٍ تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ «4» . وَقَالَ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلُ. وَرَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ الْبَيْتَ شَيْطَانٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، أَرْبَعٌ مِنْ أَوَّلِهَا وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَآيَتَانِ بَعْدَهَا، وَثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: لَمْ يَقْرَبْهُ وَلَا أَهْلَهُ يَوْمَئِذٍ شَيْطَانٌ، وَلَا شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَلَا يُقْرَآنِ عَلَى مَجْنُونٍ إِلَّا أَفَاقَ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا وإن سنام القرآن البقرة وإن مَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلَةً لَمْ يَدْخُلْهُ الشَّيْطَانُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَمَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ نَهَارًا لَمْ يَدْخُلْهُ الشَّيْطَانُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحه وابن مردويه من حديث الْأَزْرَقُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَطَاءٍ مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَهُمْ ذَوُو عَدَدٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كل واحد منهم مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: مَا مَعَكَ يَا فلان؟ فقال: مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ. فَقَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ: وَاللَّهِ مَا منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أَقُومَ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تعلموا القرآن فاقرأوه وأقرئوه فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَثَلَ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وهو في جوفه كمثل جراب وكىء عَلَى مِسْكٍ» هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ «5» ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ
__________
(1) في الدر المنثور «يتعنّى» بالعين المهملة وهو الصواب.
(2) أصفر البيوت: أخلاها. وبيت صفر: خال. وصفر اليدين: خالي اليدين.
(3) وفي الدر المنثور: أخرجه ابن الضريس والنسائي وابن الأنباري في المصاحف والطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف عن ابن مسعود.
(4) ورواه السيوطي بأطول من هذا وباختلاف يسير، قال: وأخرجه الدارمي ومحمد بن نصر وابن الضريس والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.
(5) الترمذي (ثواب القرآن، باب 2) . وقوله: وكىء أي ربط. وأصل الوكاء: خيط يربط به في القربة بعد ملئها.(1/62)
حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ مُرْسَلًا «1» فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ- وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ- إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا- فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا أَخَذَهُ رَفْعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ» قال: قد أشفقت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجْتُ حَتَّى لَا أَرَاهَا قَالَ «وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟» قَالَ لَا قَالَ «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن صالح، ويحيى بن بكير عن الليث بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَقَعَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَلِكَ فيما رواه أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَدَّثُوهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: أَلَمْ تَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ لَمْ تَزَلْ دَارُهُ الْبَارِحَةَ تُزْهِرُ مَصَابِيحَ قال «فلعله قرأ سورة البقرة» قال: فسألت ثابتا فَقَالَ: قَرَأْتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِبْهَامًا ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَعَ آلِ عِمْرَانَ)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا بشر بْنُ مُهَاجِرٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ولا يستطيعها الْبَطَلَةُ» «2» قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ «3» سَاعَةً ثُمَّ قَالَ «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ «4» يُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ «5» أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ «6» وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ:
هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بيمينه
__________
(1) وزاد الترمذي هنا أن الليث «لم يذكر فيه عن أبي هريرة» .
(2) لا يستطيعها البطلة: لا يقدر على تحصيلها المبطلون أو أهل الباطل. وفي صحيح مسلم: قال معاوية ابن سلام: بلغني أن البطلة السحرة.
(3) مسند أحمد «مكث» وهو الصواب.
(4) سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتها وعظيم أجرهما. [.....]
(5) الغمامة والغياية بمعنى. وهما كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبره وغيرهما.
(6) الفرقان: الجماعتان أو القطيعان، واحدهما فرق. وقوله: من طير صوّاف، جمع صافة وهي من الطيور ما يبسط أجنحته في الهواء.(1/63)
وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ «1» أَوْ تَرْتِيلًا» «2» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بشر بْنِ الْمُهَاجِرِ بَعْضَهُ «3» ، وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ عَلَى شرط مسلم فإن بشرا هذا خرج لَهُ مُسْلِمٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ما بِهِ بَأْسٌ، إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ فِيهِ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ قَدِ اعْتُبِرَتْ أَحَادِيثُهُ فإذا هي تأتي بِالْعَجَبِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: يُخَالِفُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: رَوَى مَا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:
لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. (قُلْتُ) وَلَكِنْ لِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ شَافِعٌ لِأَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يُحَاجَّانِ عَنْ أَهْلِهِمَا» يوم القيامة ثُمَّ قَالَ «اقْرَءُوا الْبَقَرَةَ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وتركها حسرة ولا يستطيعها الْبَطَلَةُ» «4» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ مَمْطُورٍ الْحَبَشِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ الْبَاهِلِيِّ به الزهراوان: المنيرتان، وَالْغَيَايَةُ: مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقِكَ، وَالْفِرْقُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَالصَّوَافُّ الْمُصْطَفَّةُ الْمُتَضَامَّةُ، وَالْبَطَلَةُ السَّحَرَةُ، وَمَعْنَى لَا تَسْتَطِيعُهَا أَيْ لَا يُمْكِنُهُمْ حِفْظُهَا وَقِيلَ لَا تَسْتَطِيعُ النُّفُوذَ فِي قَارِئِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «5» :
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُمْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ» وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ «كَأَنَّهُمَا غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق «6» كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما» ورواه مسلم «7» عن
__________
(1) هذّ القرآن: أسرع في قراءته، وهو غير محمود.
(2) الحديث رواه أحمد في المسند (ج 9 ص 9) .
(3) وروى مسلم بعضه من حديث أبي أمامة الباهلي مرفوعا (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين حديث 252) .
(4) مسند أحمد (ج 8 ص 270) .
(5) المسند (ج 6 ص 200) .
(6) شرق، بفتح الراء وإسكانها: ضياء ونور.
(7) صحيح مسلم (صلاة المسافرين حديث 253) .(1/64)
إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ بِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ «1» مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ بِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ حَمَّادٌ أَحْسِبُهُ عَنْ أَبِي مُنِيبٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ لَهُ كَعْبٌ: أَقَرَأْتَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ فِيهِمَا اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ اسْتَجَابَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي بِهِ قال: لا والله لا أخبرك به ولو أخبرتك به لَأَوْشَكْتَ أَنْ تَدْعُوَهُ بِدَعْوَةٍ أَهْلَكُ فِيهَا أَنَا وأنت، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَلِيمِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: إِنَّ أَخًا لَكُمْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ النَّاسَ يَسْلُكُونَ فِي صَدْعِ جَبَلٍ وَعْرٍ طَوِيلٍ وَعَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ شجرتان خضراوان يهتفان هل فيكم قارئ يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم قارئ يَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؟ قَالَ: فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ نَعَمْ دَنَتَا مِنْهُ بِأَعْذَاقِهِمَا «2» حَتَّى يَتَعَلَّقَ بهما فيخطران به الجبل، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَغَارَ عَلَى جَارٍ لَهُ فَقَتَلَهُ وَإِنَّهُ أُقِيدَ بِهِ فَقُتِلَ فَمَا زَالَ الْقُرْآنُ يَنْسَلُّ مِنْهُ سُورَةً سُورَةً حَتَّى بَقِيَتِ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ جُمُعَةً ثُمَّ إِنَّ آلَ عِمْرَانَ انْسَلَّتْ مِنْهُ وَأَقَامَتِ الْبَقَرَةُ جُمُعَةً فَقِيلَ لَهَا مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:
29] قَالَ فَخَرَجَتْ كَأَنَّهَا السَّحَابَةُ الْعَظِيمَةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أُرَاهُ يَعْنِي أَنَّهُمَا كَانَتَا مَعَهُ في قبره يدفعان عنه ويؤنسانه فَكَانَتَا مِنْ آخَرِ مَا بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ الْغَسَّانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيِّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيَّ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فِي يَوْمٍ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَرَأَهُمَا في لَيْلَةٍ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يُصْبِحَ قَالَ:
فكان يقرأهما كل يوم وليلة سوى جزئه. وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ وَرْقَاءَ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ كَانَ- أَوْ كُتِبَ- مِنَ الْقَانِتِينَ. فِيهِ انْقِطَاعٌ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
ذِكْرُ ما ورد في فضل السبع الطوال
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ وَأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ وَأُعْطِيتُ الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ» «3» هَذَا حَدِيثٌ غريب وسعيد بن أبي بَشِيرٍ فِيهِ لِينٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ فَذَكَرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن
__________
(1) الترمذي (ثواب القرآن، باب 5) .
(2) العذق: عرجون النخل بما فيه من الشماريخ.
(3) وأخرجه أحمد في المسند (ج/ 6 ص 44) .(1/65)
جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ هِنْدٍ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ فَهُوَ حَبْرٌ» وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ وَحَبِيبُ بْنُ هِنْدِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ هِنْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَسْلَمِيُّ وروى عنه عمرو بن عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَحُسَيْنٍ كِلَاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ بِهِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ حَبِيبِ بن هند عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ الْأُوَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ حَبْرٌ» قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد: وهذا أرى أن فِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْأَعْرَجِ وَلَكِنْ كَذَا كان في الكتاب فلا أدري أغفله أبي أو كذا هو مرسل. وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بعث بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة وقال له: «اذهب فأنت أميرهم» وصححه الترمذي ثم قال أبو عبيد: حدّثنا هشيم أنبأ أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال هي السبع الطوال الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ ويونس، قال: وقال مجاهد: هي السبع الطوال، وَهَكَذَا قَالَ مَكْحُولٌ وَعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو محمد الفارسي وشداد بن أوس وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِذَلِكَ وَفِي تَعْدَادِهَا وَأَنَّ يُونُسَ هِيَ السَّابِعَةُ.
فصل-[البقرة نزلت بالمدينة]
والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بها، لكن قوله تعالى فيه وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ويحتمل أن تكون منها، وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل. وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَلْفِ خَبَرٍ وَأَلْفِ أَمْرٍ وَأَلْفِ نَهْيٍ. وَقَالَ الْعَادُّونَ آيَاتُهَا مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ وَسَبْعُ آيَاتِ وَكَلِمَاتُهَا سِتَّةُ آلاف كلمة ومائتان وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ كَلِمَةً وَحُرُوفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَخَمْسُمِائَةِ حَرْفٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نزلت بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ خَصِيفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَتِ الْبَقَرَةُ بِالْمَدِينَةِ. وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ الْفَارِسِيُّ حَدَّثَنَا خَلَفُ بن هشام وحدّثنا عيسى بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «لا تقولوا
__________
(1) المسند (ج 9 ص 347) .(1/66)
الم (1)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَلَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ وَلَا سُورَةُ النِّسَاءِ وَكَذَا الْقُرْآنُ كُلُّهُ وَلَكِنْ قُولُوا السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ وَالَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ وَكَذَا الْقُرْآنُ كُلُّهُ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ وَعِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ هَذَا هُوَ أَبُو سَلَمَةَ الْخَوَاصُّ وَهُوَ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَمَى الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنَى عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ هَذَا المقام الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. أَخْرَجَاهُ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَقِيلِ بن طلحة عن عتبة بن مرثد قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ «يَا أَصْحَابَ سُورَةِ البقرة» وأظن هذا كان يوم حنين يوم وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أَمَرَ الْعَبَّاسَ فَنَادَاهُمْ «يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ» يَعْنِي أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَفِي رِوَايَةٍ «يا أصحاب سورة الْبَقَرَةِ» لِيُنَشِّطَهُمْ بِذَلِكَ فَجَعَلُوا يُقْبِلُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ مَعَ أَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ جَعْلَ الصَّحَابَةُ يَفِرُّونَ لِكَثَافَةِ حَشْرِ بَنِي حَنِيفَةَ فَجَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَتَنَادَوْنَ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَرَدُّوا عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يُفَسِّرُوهَا، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ «1» فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنهم أجمعين، وَقَالَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ خيثم وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهَا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَعَلَيْهِ إِطْبَاقُ الأكثر، ونقل عن سيبويه أنه نص عليه، ويعتضد لهذا بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قال: الم، وحم، والمص، وص. فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَلَعَلَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ بن أسلم أنه اسم من أسماء السورة فَإِنَّ كُلَّ سُورَةٍ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ المص اسْمًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى فَهْمِ سَامِعِ مَنْ يَقُولُ: قَرَأْتُ المص إِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ لَا لِمَجْمُوعِ الْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) تفسير القرطبي 1/ 154. [.....](1/67)
وَقِيلَ هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنِ السُّدِّيُّ:
بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عن حم وطس والم فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الم قَسَمٌ «2» . وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الم قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ «3» ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الم قَالَ: أَمَّا الم فَهِيَ حُرُوفٌ اسْتُفْتِحَتْ «4» مِنْ حُرُوفِ هِجَاءِ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الم قَالَ: هَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ مِنَ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُنُ كُلُّهَا لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ، وَبَلَائِهِ: وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ أَقْوَامٍ وَآجَالِهِمْ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مريم عليه السلام وعجب فقال: أعجب أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِأَسْمَائِهِ وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقِهِ فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ بِهِ، فَالْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِ اللَّهِ وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ لَطِيفٍ وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ مَجِيدٍ فَالْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُ اللَّهِ وَالْمِيمُ مجد الله، الألف سَنَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
هَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ. وَنَحْوُهُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ شَرَعَ يُوَجِّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَيُوَفِّقُ بَيْنَهَا وَأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْآخَرِ وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يُفْتَتَحُ بِهَا السُّوَرُ فَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَلَّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَمَا افْتَتَحَ سُوَرًا كَثِيرَةً بِتَحْمِيدِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَعْظِيمِهِ، قَالَ: وَلَا مَانِعَ مِنْ دَلَالَةِ الْحَرْفِ مِنْهَا عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَعَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَعَلَى مُدَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد بها الدِّينُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزُّخْرُفِ: 22] وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الرَّجُلُ الْمُطِيعُ لله كقوله تَعَالَى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 120] وَتُطْلَقُ ويراد بها الجماعة كقوله تعالى وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [الْقَصَصِ: 23] وقوله تَعَالَى وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 119.
(2) تفسير الطبري 1/ 119.
(3) تفسير الطبري 1/ 119.
(4) في الدر المنثور «اشتقّت» .(1/68)
تطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُفَ: 45] أَيْ بَعْدَ حِينٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ قَالَ فَكَذَلِكَ هَذَا.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ «1» مُوَجَّهًا وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ فَإِنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ زَعَمَ أَنَّ الْحَرْفَ دَلَّ على هَذَا وَعَلَى هَذَا مَعًا، وَلَفْظَةُ الْأُمَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي الِاصْطِلَاحِ إِنَّمَا دَلَّ فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مَجْمُوعِ مَحَامِلِهِ إِذَا أَمْكَنَ فَمَسْأَلَةٌ مختلف فيها بين علماء الأوصل لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ الْبَحْثِ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ بِدَلَالَةِ الْوَضْعِ فَأَمَّا دَلَالَةُ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ عَلَى اسْمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى اسْمٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فِي التَّقْدِيرِ أَوِ الْإِضْمَارِ بِوَضْعٍ وَلَا بِغَيْرِهِ فَهَذَا مِمَّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا إِجْمَاعٌ حَتَّى يُحْكُمَ بِهِ. وَمَا أَنْشَدُوهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ عَلَى بَقِيَّةِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا حُذِفَ بِخِلَافِ هَذَا كَمَا قال الشاعر: [الرجز]
قلنا لها قفي لنا فقالت قاف ... لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف «2»
تعني وقفت. وقال الآخر: [الرجز]
مَا لِلظَّلِيمِ عَالَ «3» كَيْفَ لَا يَا ... يَنْقَدُّ عنه جلده إذا يا «4»
فقال ابْنُ جَرِيرٍ كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ إِذَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مِنْ يَفْعَلُ. وقال الآخر:
[الرجز]
بالخير خيرات وإن شرافا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا «5»
يَقُولُ: وإن شرا فشرا وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ، فَاكْتَفَى بالفاء والتاء من الكلمتين عن
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 120- 129.
(2) الرجز للوليد بن عتبة في الأغاني 5/ 131 وشرح شواهد الشافية في 271 ومشكل القرآن ص 238 وبلا نسبة في لسان العرب (وقف) والطبري 1/ 122 وتهذيب اللغة 15/ 679 وتاج العروس (سين) . والإيجاف: حث الدابة على سرعة السير، وهو الوجيف.
(3) كذا أيضا برواية الطبري. وقوله عال: دعاء عليه، من قولهم: عال عوله أي ثكلته أمه، فاختصر. و «يا» في البيت الأول كأنه أراد أن يقول «ينقد عنه ... » فوقف، ثم عاد يقول «ينقد» . و «يا» في الآخر: أي إذا يعدو هذا العدو. وفي رواية اللسان: «عاك» في موضع «عال» . قال ابن سيده: عاك عيكانا: مشى وحرّك منكبيه. (اللسان: عيك) .
(4) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (يا) وتهذيب اللغة 15/ 670 وتاج العروس (يا) وشرح شواهد الشافية ص 267 والطبري 1/ 123.
(5) البيت بلا نسبة في الطبري 1/ 123 والكتاب 2/ 62 والكامل للمبرد 1/ 240 والموشح للمرزباني ص 120 وشرح شواهد الشافية ص 262. ونسب في شرح شواهد الشافية ص 264 للقيم بن أوس.
وهو منسوب إلى زهير بن أبي سلمى في القرطبي 1/ 155.(1/69)
بَقِيَّتِهِمَا، وَلَكِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ» الْحَدِيثَ قَالَ شَقِيقٌ «1» هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي اقْتُلْ «اق» ، [كما قال عليه السلام: «كفى بالسيف شا» معناه: شافيا] «2» . وَقَالَ خَصِيفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: فَوَاتِحُ السور كلها (ق وص وحم وطسم والر) وَغَيْرُ ذَلِكَ هِجَاءٌ مَوْضُوعٌ «3» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَنْ ذِكْرِ بِوَاقِيهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةُ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: ابْنِي يَكْتُبُ في- اب ت ث- أَيْ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ فَيُسْتَغْنَى بِذِكْرِ بَعْضِهَا عَنْ مَجْمُوعِهَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» .
قُلْتُ مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِحَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حرفا وهي- ال م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن- يجمها قَوْلُكَ: نَصٌّ حَكِيمٌ قَاطِعٌ لَهُ سِرٌّ. وَهِيَ نِصْفُ الْحُرُوفِ عَدَدًا وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا أَشْرَفُ مِنَ الْمَتْرُوكِ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَةِ التَّصْرِيفِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الْأَرْبَعَةُ عَشَرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أصناف أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ يَعْنِي مِنَ الْمَهْمُوسَةِ وَالْمَجْهُورَةِ، وَمِنَ الرِّخْوَةِ وَالشَّدِيدَةِ، وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ وَالْمَفْتُوحَةِ وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ وَالْمُنْخَفِضَةِ، وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ. وَقَدْ سَرَدَهَا مُفَصَّلَةً ثُمَّ قَالَ: فَسُبْحَانَ الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلِّ شيء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بِالْمَذْكُورَةِ مِنْهَا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ وَجُلَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ وَمِنْ هَاهُنَا لَحَظَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلَامًا فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَمْ يُنْزِلْهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَمَنْ قَالَ مِنَ الجهلة إن فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ تَعَبُّدٌ لَا مَعْنًى لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً كَبِيرًا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَهَا مَعْنًى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنْ صَحَّ لَنَا فِيهَا عَنِ الْمَعْصُومِ شَيْءٌ قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا وَقَفْنَا حَيْثُ وَقَفْنَا وَقُلْنَا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَلَمْ يُجْمِعِ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ الْأَقْوَالِ بِدَلِيلٍ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَإِلَّا فَالْوَقْفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ.
هَذَا مَقَامٌ.
الْمَقَامُ الْآخَرُ فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إِيرَادَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَا هِيَ؟ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَعَانِيهَا في أنفسها، فقال بعضهم: إنما ذكرت ليعرف بِهَا أَوَائِلَ السُّوَرِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْفَصْلَ حَاصِلٌ بِدُونِهَا فِيمَا لَمْ تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تِلَاوَةً وَكِتَابَةً.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ ابْتُدِئَ بِهَا لِتُفْتَحَ لِاسْتِمَاعِهَا أَسْمَاعُ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ حَتَّى إِذَا اسْتَمَعُوا لَهُ تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْمُؤَلَّفُ مِنْهُ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا وهو ضعيف لأنه لو كان
__________
(1) في الأصل: «سفيان» . وما أثبتناه عن القرطبي 1/ 156.
(2) الزيادة من القرطبي.
(3) الطبري 1/ 120.
(4) روى ابن جرير أربعة أحاديث بهذا المعنى عن مجاهد (تفسير الطبري 1/ 118- 119) .(1/70)
كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ السُّوَرِ لَا يكون في بعضها بل غالبها وليس كذلك، ولو كان كذلك أيضا لا نبغى الِابْتِدَاءُ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ افْتِتَاحَ سُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَالَّتِي تَلِيهَا أَعْنِي الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ مُدْنِيَّتَانِ لَيْسَتَا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ فَانْتَقَضَ مَا ذَكَرُوهُ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا بَيَانًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ هَذَا مَعَ أنه مركب مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو العجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.
قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن، قال: وجاء منها على حرف واحد كقوله- ص ن ق- وحرفين مثل حم وثلاثة مثل الم وأربعة مثل المر والمص وخمسة مثل كهيعص- وحم عسق لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك (قلت) وَلِهَذَا كُلُّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ وَبَيَانُ إِعْجَازِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى الم. ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 1- 2] الم. اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [آلِ عِمْرَانَ: 1- 3] المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الْأَعْرَافِ: 1- 2] الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إِبْرَاهِيمَ: 1] الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السَّجْدَةِ: 1- 2] حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [فُصِّلَتْ: 1- 2] حم. عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشُّورَى: 1- 3] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَدَدِ وَأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ أَوْقَاتُ الْحَوَادِثِ وَالْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ فَقَدِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَطَارَ فِي غَيْرِ مَطَارِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْمَسْلَكِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى صِحَّتِهِ «1» وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبُ الْمُغَازِي: حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن جابر بن
__________
(1) وقال الطبري أيضا: «قال بعضهم: هي حروف من حساب الجمّل- كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله» . يقصد محمد بن السائب الكلبي. وقد روي الطبري حديثين نظير ذلك عن الربيع بن أنس. (تفسير الطبري 1/ 120) . [.....](1/71)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ قَالَ: مَرَّ أَبُو ياسر بن أخطب من رجال من يهود برسول الله وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عَلَيْهِ الم. ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَمَشَى حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الم. ذلِكَ الْكِتابُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَلَى» فَقَالُوا جَاءَكَ بِهَذَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ «نَعَمْ» قَالُوا لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءَ مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ مَا مُدَّةَ مُلْكِهِ وَمَا أَجَلُ أُمَّتِهِ غَيْرَكَ. فَقَامَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَجَلُ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟ ثُمَّ أَقْبَلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا ذَاكَ؟ قَالَ: «المص» قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحد وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالصَّادُ سَبْعُونَ فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ. فَهَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ مَا ذَاكَ؟ قَالَ: الر. قَالَ: هَذَا أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالرَّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ. فَهَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ «نَعَمْ» قَالَ: مَاذَا؟ قال «المر» قال: هذه أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالرَّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلَا أُعْطِيتَ أَمْ كَثِيرًا. ثُمَّ قَالَ قُومُوا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْبَارِ: مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا لِمُحَمَّدٍ كُلُّهُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَةٌ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعُ سِنِينَ؟ فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] فهذا الحديث مَدَارُهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِمَا انْفَرَدَ بِهِ، ثُمَّ كَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْمَسْلَكِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا أَنْ يُحْسَبَ مَا لِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَلِكَ يَبْلُغُ مِنْهُ جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطمّ «1» وأعظم والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ الكتاب، أي هَذَا الْكِتَابُ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى هذا، والعرب تقارض «2» بين اسمي الإشارة [هذين] فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلًّا مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ
__________
(1) الطامّ: الشيء العظيم. وأطمّ وأعظم بمعنى واحد.
(2) تقارضا الشيء أو الأمر: تبادلاه.(1/72)
في كلامهم. وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة وقال الزمخشري: ذلك إشارة إلى الم كما قال تعالى لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] وقال تعالى ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 10] وقال ذلِكُمُ اللَّهُ [غافر: 62] وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي «1» وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلّى الله عليه وسلم بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.
والكتاب: الْقُرْآنُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَغَيْرُهُ فَقَدْ أَبْعَدَ النَّجْعَةَ وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَالرَّيْبُ:
الشَّكُّ. قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رَيْبَ فِيهِ: لَا شَكَّ فِيهِ، وقال أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
لَا أَعْلَمُ في هذه خِلَافًا. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي التُّهْمَةِ قَالَ جميل: [الطويل]
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَبْتَنِي ... فَقُلْتُ كِلَانَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ «3»
وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا فِي الْحَاجَةِ كما قال بعضهم: [الوافر]
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أجمعنا السيوفا «4»
ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو الْقُرْآنُ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّجْدَةِ الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الآية: 2] وقال بعضهم: هدى خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ. ومن القراء من يقف على قوله تعالى لا رَيْبَ ويبتدئ بقوله تعالى فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى لا رَيْبَ فِيهِ أولى للآية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى هُدىً صِفَةً لِلْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ كَوْنِ فيه هدى. وهدى يَحْتَمِلُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى النَّعْتِ وَمَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَخُصَّتِ الْهِدَايَةُ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فُصِّلَتْ: 44] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاءِ: 82] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اختصاص المؤمنين بالنفع
__________
(1) تفسير القرطبي 1/ 157- 158.
(2) تفسير الطبري 1/ 129.
(3) رواه أيضا القرطبي (1/ 159) شاهدا على هذا المعنى.
(4) البيت لكعب بن مالك الأنصاري في ديوانه ص 234 ولسان العرب (ريب) وتاج العروس (ريب) وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 164 ومجمل اللغة 2/ 440 والقرطبي 1/ 1159.(1/73)
بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ هُدًى وَلَكِنْ لا يناله إلا الأبرار كما قال تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 57] وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يَعْنِي نُورًا لِلْمُتَّقِينَ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عباس قال: هدى للمتقين قال: هم المؤمنون الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِي وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس لِلْمُتَّقِينَ قال: الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التصديق بما جاء به. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَسَنِ البصري: قوله تعالى لِلْمُتَّقِينَ قَالَ: اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: سَأَلَنِي الْأَعْمَشُ عَنِ الْمُتَّقِينَ قَالَ: فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ لِي: سَلْ عَنْهَا الْكَلْبِيَّ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ قَالَ: فَرَجَعْتُ إلى الأعمش فقال: يرى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الآية والتي بعدها «1» ، واختيار ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُوَ كَمَا قَالَ «2» . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ ماجة من رواية أبي عَقِيلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ وَعَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمران عن إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ يَعْنِي الرَّازِيَّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَفِيفٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: يَا أَبَا عَفِيفٍ أَلَا تُحَدِّثُنَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؟ قَالَ: بَلَى، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُحْبَسُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ فَيُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ.
قُلْتُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ فَيَمُرُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ. ويطلق الهدى ويراد به ما يقرّ في القلب من الإيمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال الله تعالى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [الْقَصَصِ: 56] وَقَالَ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ [البقرة: 272] وَقَالَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الْأَعْرَافِ: 186] وقال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الإسراء: 97] إلى غير ذلك من الآيات ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد قال الله تَعَالَى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى: 52] وقال إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرَّعْدِ: 7] وقال
__________
(1) أي الآية التي بعد ذلِكَ الْكِتابُ ... هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فهي تفسر ما قبلها، وهو تفسير القرآن بالقرآن، وهو الأكثر اعتبارا في مذاهب التأويل.
(2) تفسير الطبري 1/ 132.(1/74)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
تَعَالَى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] وقال وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم، وَأَصْلُ التَّقْوَى التَّوَقِّي مِمَّا يَكْرَهُ لِأَنَّ أَصْلَهَا وقوى من الوقاية قال النابغة: [الكامل]
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا باليد «1»
وقال الآخر: [الطويل]
فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ ... بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٌّ وَمِعْصَمُ «2»
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ التَّقْوَى فَقَالَ لَهُ: أَمَا سَلَكْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ بَلَى، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ «3» ، قَالَ: فَذَلِكَ التَّقْوَى.
وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ: [مجزوء الكامل]
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كماش فوق أرض ... الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى «4»
وَأَنْشَدَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يوما: [الوافر]
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا «5»
وَفِي سُنَنِ ابن ماجة عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا اسْتَفَادَ الْمَرْءُ بعد تقوى الله خيرا له مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» «6» .
[سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 93 والشعر والشعراء 1/ 176 والمقاصد النحوية 3/ 102 ولسان العرب (نصف) والقرطبي 1/ 161 وبلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 259. والنصيف: هو كل ما غطى الرأس من خمار أو عمامة. والنابغة هنا يصف المتجردة زوجة النعمان بن المنذر.
(2) البيت بلا نسبة أيضا في القرطبي 1/ 161.
(3) في رواية القرطبي: «تشمّرت وحذرت» وهو أوضح في المقام.
(4) الأبيات الثلاثة في القرطبي 1/ 162.
(5) البيتان في القرطبي 1/ 162. وقد أوردهما القرطبي شاهدا على أن «التقوى فيها جماع الخير كله وهي وصية الله في الأولين والآخرين» . قال: كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما أحفظ عنك شيء، فقال ...
(6) ابن ماجة (نكاح، باب 5) . [.....](1/75)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يُؤْمِنُونَ: يُصَدِّقُونَ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: الْإِيمَانُ الْعَمَلُ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ يُؤْمِنُونَ: يَخْشَوْنَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ قَوْلًا وعملا واعتقادا قَالَ: وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ، وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَصْدِيقُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ (قُلْتُ) أَمَّا الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ فَيُطْلَقُ عَلَى التَّصْدِيقِ الْمَحْضِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَةِ: 61] وَكَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يُوسُفَ:
17] وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتُعْمِلَ مقرونا مع الأعمال كقوله تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشعراء: 227] فَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ مُطْلَقًا فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمَطْلُوبُ لَا يَكُونُ إِلَّا اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا. هَكَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ بَلْ قَدْ حَكَاهُ الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ وأحاديث أفردنا الْكَلَامَ فِيهَا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ومنهم من فسره بالخشية كقوله تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الْمُلْكِ: 12] وَقَوْلِهِ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33] وَالْخَشْيَةُ خُلَاصَةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وقال بعضهم: يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] وقال: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: 1] فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالا أي في حال كونهم غيبا عن الناس.
وَأَمَّا الْغَيْبُ الْمُرَادُ هَاهُنَا فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِيهِ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: ويؤمنون بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَلِقَائِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْبَعْثِ، فَهَذَا غَيْبٌ كُلُّهُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النَّارِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِالْغَيْبِ) قَالَ: بِمَا جَاءَ مِنْهُ- يَعْنِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى- وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. عَنْ عَاصِمٍ عَنْ(1/76)
زِرٍّ «1» قَالَ: الْغَيْبُ الْقُرْآنُ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِالْغَيْبِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قَالَ: بِغَيْبِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قَالَ: بِالْقَدَرِ. فَكُلُّ هَذِهِ مُتَقَارِبَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النبي صلّى الله عليه وسلم وما سبقونا به فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ ثُمَّ قَرَأَ الم، ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ- إِلَى قَوْلِهِ- الْمُفْلِحُونَ وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رواه أحمد «2» : حدثنا أبو المغيرة حدثنا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي أُسَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: قلت لأبي جمعة [رجل من الصحابة] :
حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَعَمْ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا جيّدا: تغذينا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ أَسْلَمْنَا معك وجاهدنا معك.
قال «نعم قوم يكونون مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي» : طَرِيقٌ أُخْرَى. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو جُمُعَةَ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيُصَلِّيَ فيه ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة رضي الله عنه فَلَمَّا انْصَرَفَ خَرَجْنَا نُشَيِّعُهُ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ جَائِزَةً وَحَقًّا، أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: هَاتِ رَحِمَكَ اللَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَاشِرُ عَشَرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ قَوْمٍ أَعْظَمُ منّا أجرا؟ آمنا بالله وَاتَّبَعْنَاكَ، قَالَ: «مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَأْتِيكُمْ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ بَلْ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِكُمْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ بَيْنَ لَوْحَيْنِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ أُولَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُمْ أَجْرًا مَرَّتَيْنِ» ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ مَرْزُوقِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي جُمُعَةَ بِنَحْوِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْوِجَادَةِ «3» الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ مدحهم على
__________
(1) بالزاي المكسورة وراء مشدّدة. وهو زرّ بن جيش بن حباشة بن أوس الأسدي الكوفي الغاضري، أبو مريم، المتوفى نحو 81 هـ. ثقة جليل، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
(موسوعة رجال الكتب التسعة 1/ 518) .
(2) مسند أحمد (ج 6 ص 43) .
(3) الوجادة (في اصطلاح المحدّثين) : اسم لما أخذ من العلم من صحيفة، من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.(1/77)
ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مُطْلَقًا، وَكَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ التَّمِيمِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ قَالَ «وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ؟ قَالُوا فَالنَّبِيُّونَ قَالَ «وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ قَالَ: «وَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِلَيَّ إِيمَانًا لَقَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا» قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: الْمُغِيرَةُ بْنُ قَيْسٍ الْبَصْرِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ (قُلْتُ) وَلَكِنْ قَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ- وَفِيهِ ضَعْفٌ- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ أخبرني جعفر بن محمود عن جدته نويلة بِنْتِ أَسْلَمَ قَالَتْ:
صَلَّيْتُ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ «1» فَصَلَّيْنَا سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَحَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ: «أُولَئِكَ قَوْمٌ آمَنُوا بِالْغَيْبِ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ من هذا الوجه.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ أَيْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْخُشُوعِ والإقبال عليها فيها. وَقَالَ قَتَادَةُ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ:
إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور بها وَتَمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا وَالتَّشَهُّدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا إِقَامَتُهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ: زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قال: نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الزَّكَاةُ. وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسَرَتِهِمْ وَجُهْدِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ مِمَّا يُذْكَرُ فيهنّ الصدقات هن
__________
(1) هو المسجد الأقصى في بيت المقدس، وهو أولى القبيلتين.(1/78)
النَّاسِخَاتُ الْمُثْبَتَاتُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فَأَنْفِقُوا مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، هذه الأموال عوار «1» وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ يُوشِكُ أَنْ تُفَارِقَهَا.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ «2» : وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ أَنْ يَكُونُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مُؤَدِّينَ- زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلٍ أو عيال وغيرهم ممن يجب عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ وَصَفَهُمْ وَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَالزَّكَاةِ مَمْدُوحٌ بِهِ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ (قُلْتُ) كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالِابْتِهَالِ إِلَيْهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْفَاقُ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِمْ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْقَرَابَاتُ وَالْأَهْلُونَ وَالْمُمَالِيكُ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ، فَكُلٌّ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «3» عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَأَصْلُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ. قَالَ الْأَعْشَى: [الطويل]
لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وَإِنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما «4»
وقال أيضا: [المتقارب]
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمَ «5»
أَنْشَدَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَشْهِدًا عَلَى ذَلِكَ. وقال الآخر، وهو الأعشى أيضا: [البسيط]
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا «6»
__________
(1) العواري: جمع عارية، وهي ما تعيره إلى غيرك ثم تستردّه.
(2) تفسير الطبري 1/ 137. وابن كثير ينقل ما يأتي باختصار وبعض تصرّف.
(3) البخاري (إيمان باب 1 و 2 وتفسير سورة 2 باب 3) ومسلم (إيمان حديث 19- 22) .
(4) البيت من شواهد الطبري (1/ 137) . والكلام يدور على دنّ الخمر. ذبحت الدنّ: أزيل ختمها. وزمزم المجوسيّ عند الأكل أو الشرب: رطن وهو مطبق فاه وصوت بصوت مبهم يديره في خيشومه وحلقه لا يحرك فيه لسانا ولا شفة.
(5) البيت للأعشى في ديوانه ص 85 ولسان العرب (رسم، صلا) والمخصص 13/ 85 ومقاييس اللغة 3/ 300 وتهذيب اللغة 9/ 166 وجمهرة اللغة ص 115 وتاج العروس (رسم) . وارتسم الرجل:
كبّر ودعا (الصحاح) . ورواية الديوان: «وارتشم» .
(6) البيت للأعشى في ديوانه ص 151 ومقاييس اللغة 3/ 300 وتاج العروس (شفع) والقرطبي 1/ 168.(1/79)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
يَقُولُ: عَلَيْكِ مِنَ الدُّعَاءِ مِثْلَ الَّذِي دَعَيْتِهِ لِي، وَهَذَا ظَاهِرٌ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَخْصُوصَةِ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ وَصِفَاتِهَا وَأَنْوَاعِهَا المشهورة. قال ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ [الْمَفْرُوضَةَ] «1» سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَعَرَّضُ لِاسْتِنْجَاحِ طَلِبَتِهِ مِنْ ثواب الله بعلمه مع ما يسأل ربه من حاجاته [تعرّض الداعي بدعائه ربّه استنجاح حاجاته وسؤله] «2» وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصَّلَوَيْنِ إِذَا تَحَرَّكَا في الصلاة عند الركوع والسجود، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب ومنه سمي المصلي وهو التالي لِلسَّابِقِ فِي حَلْبَةِ الْخَيْلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقِيلَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصَّلَى وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ لِلشَّيْءِ من قوله تعالى: لا يَصْلاها أي لا يَلْزَمُهَا وَيَدُومُ فِيهَا إِلَّا الْأَشْقَى [اللَّيْلِ: 15] وَقِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَصْلِيَةِ الْخَشَبَةِ فِي النَّارِ لِتُقَوَّمَ كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَوِّمُ عِوَجَهُ بِالصَّلَاةِ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الدُّعَاءِ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا في موضعه إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 4]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أَيْ يُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ: أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْآخِرَةُ لِأَنَّهَا بَعْدَ الدنيا. وقد اختلفت المفسرون في الموصوفين هنا، هَلْ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَمَنْ هُمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ حَكَاهَا ابْنُ جرير «3» ، أحدها: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا هُمُ الْمَوْصُوفُونَ ثَانِيًا وَهُمْ كُلُّ مُؤْمِنٍ، مُؤْمِنُو الْعَرَبِ وَمُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ. وَالثَّانِي: هُمَا وَاحِدٌ وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى هَذَيْنِ تَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةُ عَلَى صِفَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: 1- 5] وكما قال الشاعر: [المتقارب]
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ «4»
فَعَطَفَ الصِّفَاتِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا مُؤْمِنُو الْعَرَبِ وَالْمَوْصُوفُونَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
__________
(1) الزيادة من الطبري 1/ 137.
(2) الزيادة من الطبري 1/ 137.
(3) تفسير الطبري 1/ 139.
(4) البيت بلا نسبة في الإنصاف 2/ 469 وخزانة الأدب 1/ 451، وشرح قطر الندى ص 295. [.....](1/80)
لمؤمني أَهْلِ الْكِتَابِ، نَقَلَهُ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ واختاره ابن جرير رحمه الله وَيُسْتَشْهَدُ لِمَا قَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 199] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52- 54] وبما ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِي وَرَجُلٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا» «1» وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَمَا اسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ إِلَّا بِمُنَاسَبَةٍ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ صَنَّفَ الْكَافِرِينَ إِلَى صنفين كافر ومنافق فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ صَنَّفَهُمْ إِلَى عَرَبِيٍّ وَكِتَابِيٍّ.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِيمَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين فهذه الآيات الأربع عامات فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ اتَّصَفَ بِهَا مِنْ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ وَكِتَابِيٍّ مِنْ إِنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ وَلَيْسَ تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِدُونِ الْأُخْرَى بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْأُخْرَى وَشَرْطٌ مَعَهَا، فَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إلا بذاك وقد أمر الله الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] وقال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [النِّسَاءِ: 47] وَقَالَ تَعَالَى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْمَائِدَةِ: 68] وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:
185] وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء: 152] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى جميع أمر الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، لَكِنْ لِمُؤْمِنِي أهل الكتاب خصوصية وذلك أنهم يؤمنون بِمَا بِأَيْدِيهِمْ مُفَصَّلًا فَإِذَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَآمَنُوا بِهِ مُفَصَّلًا كَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْإِيمَانُ بِمَا تَقَدَّمَ مُجْمَلًا كَمَا جَاءَ فِي
__________
(1) البخاري (علم باب 31) ومسلم (إيمان حديث 241) .(1/81)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الصحيح «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدّقوهم وَلَكِنْ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ مِنْ إِيمَانِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَهُمْ وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ أَجْرَانِ مِنْ تِلْكَ الحيثية فغيرهم يَحْصُلُ لَهُ مِنَ التَّصْدِيقِ مَا يَنِيفُ ثَوَابُهُ عَلَى الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ حُصِّلَا لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة البقرة (2) : آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أُولئِكَ أَيْ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الَّذِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَالْإِيمَانِ بِمَا أنزل إِلَى الرَّسُولِ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْإِيقَانِ بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات عَلى هُدىً أي على نُورٍ وَبَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَاسْتِقَامَةٍ على ما جاءهم به وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا. وقال ابن جرير: وأما معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فإن معنى ذلك فإنهم عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ الْمُنْجَحُونَ الْمُدْرِكُونَ مَا طَلَبُوا عِنْدَ اللَّهِ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَالْخُلُودِ فِي الْجَنَّاتِ وَالنَّجَاةِ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْعِقَابِ «1» . وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلًا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَعَادَ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِلَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ، على ما تقدم من الخلاف، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَاخْتَارَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مُؤْمِنِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ التَّرْجِيحِ أَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً وَالْإِشَارَةُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وقال ابن أبي حاتم:
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 140.
(2) تفسير الطبري 1/ 139.(1/82)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حدثني عبيد الله ابن الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عمرو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ لَهُ: يَا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجوا وَنَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَكَادُ أَنْ نَيْأَسَ أَوْ كما قَالَ، فَقَالَ:
«أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَمْ ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ- إلى قوله- الْمُفْلِحُونَ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، قَالُوا: إِنَّا نَرْجُو أَنْ نَكُونَ هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ- إِلَى قَوْلِهِ- عَظِيمٌ هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا: لَسْنَا هُمْ يَا رَسُولَ الله، قال: «أجل» .
[سورة البقرة (2) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ غَطَّوُا الْحَقَّ وَسَتَرُوهُ وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ: 96] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الْبَقَرَةِ:
145] ، أَيْ إِنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ فَلَا مُسْعِدَ لَهُ وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ وَبَلِّغْهُمُ الرِّسَالَةَ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَكَ فَلَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ وَمَنْ تَوَلَّى فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا يهمنك ذَلِكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: 40] إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هُودٍ: 12] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ «1» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَإِنْ قَالُوا إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَكَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ إِنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِكَ وَجَحَدُوا مَا أخذ عليهم من الميثاق وقد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكَ وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُكَ فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْكَ إِنْذَارًا وَتَحْذِيرًا وقد كفروا بما عندهم من علمك. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها [إِبْرَاهِيمَ: 28- 29] وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَظْهَرُ، وَيُفَسَّرُ بِبَقِيَّةِ الْآيَاتِ التي في
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (1/ 65) . قال: وأخرجه ابن جريج وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير في السنة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/83)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
مَعْنَاهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو وقال: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَرْجُو وَنَقْرَأُ فَنَكَادُ أَنْ نَيْأَسَ فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ» ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ «هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ» قَالُوا: لَسْنَا مِنْهُمْ يا رسول الله، قال «أجل» . وقوله تعالى: لَا يُؤْمِنُونَ مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أَيْ هُمْ كُفَّارٌ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ فَلِهَذَا أكد ذلك بقوله تعالى: لَا يُؤْمِنُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرًا لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يؤمنون ويكون قوله تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ جُمْلَةٌ معترضة، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
قَالَ السُّدِّيُّ: خَتَمَ اللَّهُ أَيْ طَبَعَ اللَّهُ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ إِذْ أَطَاعُوهُ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قلوبهم قال:
الطبع، ثبتت الذنوب على القلب فحفت بِهِ مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْعُ وَالطَّبْعُ الْخَتْمُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: الرَّانُ أَيْسَرُ مِنَ الطَّبْعِ، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَرَانَا مُجَاهِدٌ بِيَدِهِ فَقَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي مِثْلِ هَذِهِ- يَعْنِي الْكَفَّ- فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا ضُمَّ مِنْهُ- وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الْخِنْصَرِ «1» هَكَذَا- فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ- وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى- فَإِذَا أَذْنَبَ ضم- وقال بإصبع أخرى هكذا- حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا ثُمَّ قَالَ: يُطْبَعُ عَلَيْهِ بِطَابَعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّيْنُ «2» . وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ «3» ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا معنى قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الِاسْتِمَاعِ لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا أصم عَنْ هَذَا الْكَلَامِ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعِهِ وَرَفَعَ نَفْسَهُ عَنْ تَفَهُّمِهِ تَكَبُّرًا. قَالَ: وَهَذَا لا يصح لأن الله تعالى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ (قُلْتُ) وَقَدْ أَطْنَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا رَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ جَدًّا، وَمَا جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اعْتِزَالُهُ، لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَمَنْعَهَا مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ إليها قبيح عنده
__________
(1) قال بلسانه: تكلم. وقال بيده وإصبعه: أشار. وكذا بعينه وقدمه إلخ.
(2) الرّين والران: الغطاء والحجاب الكثيف. وهو أيضا الصدأ يعلو الشيء الجليّ. والدنس. وما غطّى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب.
(3) تفسير الطبري 1/ 145.(1/84)
يتعالى اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَلَوْ فُهِمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّفِّ: 5] وَقَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْأَنْعَامِ: 110] وما أشبه مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى جَزَاءً وِفَاقًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ، وَهَذَا عَدْلٌ مِنْهُ تَعَالَى حَسَنٌ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ، فَلَوْ أَحَاطَ عِلْمًا بِهَذَا لَمَا قَالَ مَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «1» : وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] وذكر حديث تقليب القلوب «اللهمّ يا مثبّت الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ» وَذِكْرُ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ على قلبين على أبيض مثل الصفا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ «2» كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا «3» لَا يَعْرِفُ معروفا ولا ينكر منكرا» الحديث «4» ، قال ابن جرير: وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ»
صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ «6» قَلْبَهُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ «7» . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَدْ رَوَاهُ الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا وَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّبْعُ فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ، وَلَا لِلْكُفْرِ عَنْهَا مُخَلِّصٌ فَذَلِكَ هُوَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ نظير الختم والطبع عَلَى مَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى مَا فِيهَا إِلَّا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك
__________
(1) تفسير القرطبي 1/ 187.
(2) أي اختلط سواده بكدرة.
(3) مجخّيا: مائلا.
(4) تفسير القرطبي 1/ 189، وصحيح مسلم (إيمان حديث 231) .
(5) في الأصل «واستعتب» . وما أثبتناه عن الطبري.
(6) في الطبري «تغلق» .
(7) سورة المطففين، الآية: 14. والحديث في تفسير الطبري 1/ 145. ورواه أحمد في المسند (ج 3 ص 154) عن صفوان بن عيسى بهذا الإسناد. [.....](1/85)
لَا يَصِلُ الْإِيمَانُ إِلَى قُلُوبِ مَنْ وَصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ إلا بعد فض خاتمه وحل رِبَاطَهُ عَنْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَقَوْلُهُ:
وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ فَإِنَّ الطَّبْعَ يَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ وَعَلَى السَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةَ وَهِيَ الْغِطَاءُ تَكُونُ عَلَى الْبَصَرِ كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ يَقُولُ: فَلَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ يقول: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً يَقُولُ: عَلَى أَعْيُنِهِمْ فلا يبصرون، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَالْغِشَاوَةُ على أبصارهم. قال: وحدثنا الْقَاسِمُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، يَعْنِي ابْنَ دَاوُدَ وَهُوَ سنيد «2» ، حدثني حجاج، وهو ابن مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْبَصَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشُّورَى: 24] وَقَالَ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الْجَاثِيَةِ: 23] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَنْ نَصَبَ غِشَاوَةً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَهَا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ:
وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهَا عَلَى الْإِتْبَاعِ عَلَى مَحَلِّ وَعَلى سَمْعِهِمْ كقوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ [سورة الواقعة: 22] وقول الشاعر: [الرجز]
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عيناها «3»
وقال الآخر: [مجزوء الكامل]
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا «4»
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 147.
(2) هو سنيد بن داود، أبو علي المحتسب المصيصي المدائني المتوفى سنة 126 هـ. من الطبقة العاشرة.
أخرج له ابن ماجة. ضعيف. (موسوعة رجال الكتب التسعة 2/ 113) .
(3) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (زجج، قلد، علف) والأشباه والنظائر 2/ 108 وأمالي المرتضى 2/ 259 والإنصاف 2/ 612 وأوضح المسالك 2/ 245 والخصائص 2/ 431 والدرر 6/ 79 وشرح الأشموني 1/ 226 وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1147 وشرح شذور الذهب ص 312 وشرح شواهد المغني 1/ 58 وهمع الهوامع 2/ 130 وتاج العروس (علف) والطبري 1/ 147.
(4) ويروي أيضا: «يا ليت زوجك قد غدا» . والبيت بلا نسبة في الطبري 1/ 147 والأشباه والنظائر 2/ 108 وأمالي المرتضى 1/ 54 والإنصاف 1/ 54 وخزانة الأدب 2/ 231 والخصائص 2/ 431 وشرح شواهد الإيضاح ص 182 وشرح المفصل 2/ 50 ولسان العرب (رغب، زجج) ، مسح، قلد، جدع، جمع، هدى) والمقتضب 2/ 51.(1/86)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
تَقْدِيرُهُ وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا. لَمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ ثُمَّ عَرَّفَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، شَرَعَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ يَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِمْ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلٌّ مِنْهَا نِفَاقٌ، كَمَا أَنْزَلَ سُورَةَ بَرَاءَةٌ فِيهِمْ، وَسُورَةَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ، وَذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ تَعْرِيفًا لِأَحْوَالِهِمْ لِتُجْتَنَبَ وَيُجْتَنَبُ مَنْ تَلَبَّسَ بِهَا أيضا فقال تعالى:
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 9]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
النِّفَاقُ هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: اعْتِقَادِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ. وَعَمَلِيٌّ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ، وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ بَلْ كَانَ خِلَافُهُ، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرَ الْكُفْرَ مُسْتَكْرَهًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَكَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ عَلَى طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبِهَا الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْلَافِهِمْ وَكَانُوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الخزرج، بنو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدُ شَوْكَةٌ تُخَافُ، بَلْ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ الْيَهُودَ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوَالَيِ المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ سَيِّدَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَأَسْلَمُوا وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بدر قال: هذا أمر الله قَدْ تَوَجَّهَ «1» . فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ نافق لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مُكْرَهًا بَلْ يهاجر فيترك مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَرْضَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ. وَكَذَا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن
__________
(1) أي أن ملكه قد تولى وانقضى.(1/87)
وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَلِهَذَا نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ أَمْرِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ فَيَقَعُ بِذَلِكَ فَسَادٌ عَرِيضٌ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ وَمِنَ اعْتِقَادِ إِيمَانِهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْكِبَارِ أَنْ يُظَنَّ بِأَهْلِ الْفُجُورِ خَيْرٌ فَقَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ آخَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [الْمُنَافِقُونَ: 1] أَيْ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا جَاءُوكَ فَقَطْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِهَذَا يُؤَكِّدُونَ فِي الشَّهَادَةِ بِإِنْ وَلَامِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرِهَا. كما أكدوا أمرهم قالوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كما كذبهم اللَّهُ فِي شَهَادَتِهِمْ وَفِي خَبَرِهِمْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلى اعتقادهم بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] وَبِقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِإِظْهَارِهِمْ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ مَعَ إِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، يَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ، وأنه يروج عليه كما قد يَرُوجُ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [الْمُجَادَلَةِ: 18] وَلِهَذَا قَابَلَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ يَقُولُ: وَمَا يَغُرُّونَ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا وَلَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: 142] وَمِنَ الْقُرَّاءِ من قرأ وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى واحد «1» . وقال ابْنُ جَرِيرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا وَهُوَ لَا يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِدٌ إِلَّا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب من أَنْ تُسَمِّيَ مَنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْرَ الَّذِي هو فِي ضَمِيرِهِ تَقِيَّةً لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِفٌ مُخَادِعًا، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ تَقِيَّةً مِمَّا تخلّص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مُسْتَبْطِنٌ وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ خِدَاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ خَادِعٌ، لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا أَنَّهُ يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتَهَا وَيَسْقِيهَا كَأْسَ سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومجرعها به كَأْسَ عَذَابِهَا، وَمُزِيرُهَا «2» مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ، فَذَلِكَ خَدِيعَتُهُ نَفْسَهُ ظَنًّا مِنْهُ مَعَ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَمْرِ مَعَادِهَا أَنَّهُ إِلَيْهَا مُحْسِنٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ إِعْلَامًا مِنْهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي إِسْخَاطِهِمْ عَلَيْهَا رَبَّهُمْ بكفرهم وشكهم وتكذيبهم
__________
(1) اختار الطبري قراءة (وما يخدعون) . قال: ومن الدلالة أيضا على أن هذه القراءة أولى بالصحة أن الله جلّ ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضاد في المعنى، وذلك غير جائز من الله عزّ وجلّ. (تفسير الطبري 1/ 153) .
(2) جعلها زيارة، وهي هلاك، سخرية بهم واستهزاء.(1/88)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
غَيْرَ شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاءَ مَنْ أَمْرِهِمْ مُقِيمُونَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ قَالَ: يُظْهِرُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْرِزُوا بِذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَفِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ
نَعْتُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ كَثِيرٍ: خَنِعُ الْأَخْلَاقِ يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ويصبح عَلَى حَالٍ وَيُمْسِي عَلَى غَيْرِهِ، وَيُمْسِي عَلَى حَالٍ وَيُصْبِحُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَتَكَفَّأُ «1» تَكْفُّؤَ السَّفِينَةِ كلما هبت ريح هبت معها.
[سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَالَ: شَكٌّ (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مرضا) قال: شكا. وقال ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (فِي قلوبهم مرض) قال: شكا. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يَعْنِي الرِّيَاءَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قَالَ: نِفَاقٌ. (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) قَالَ: نِفَاقًا وَهَذَا كَالْأَوَّلِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قَالَ: هَذَا مَرَضٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَادِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمَرَضُ الشَّكُّ الَّذِي دَخْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) قَالَ: زَادَهُمْ رِجْسًا، وَقَرَأَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 124- 125] . قَالَ: شَرًّا إِلَى شَرِّهِمْ وَضَلَالَةً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنٌ وَهُوَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكَذَلِكَ قَالَهُ الْأَوَّلُونَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [مُحَمَّدٍ: 17] وَقَوْلُهُ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ وَقُرِئَ يُكَذِّبُونَ، وَقَدْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا وهذا، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَقَدْ سُئِلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ حِكْمَةِ كَفِّهِ عَلَيْهِ الصلاة والسلام عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَعْيَانِ بَعْضِهِمْ «2» وَذَكَرُوا أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه «أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» «3» وَمَعْنَى هَذَا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِ لَهُمْ وَأَنَّ قَتْلَهُ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكُفْرِ فإنهم إنما
__________
(1) تكفّأ: تمايل وتبختر.
(2) المراد: مع علمه بنفاقهم، كما في القرطبي 1/ 198.
(3) في القرطبي: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» قال: أخرجه البخاري ومسلم.(1/89)
يَأْخُذُونَهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ كَمَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مع علمه بسوء اعْتِقَادِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «1» : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مالك، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون. ومنها ما قال مالك: إِنَّمَا كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، قَالَ: وَمِنْهَا مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّمَا مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِنِفَاقِهِمْ لِأَنَّ مَا يُظْهِرُونَهُ يَجُبُّ «2» مَا قَبْلَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» «3» وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَهَا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُهَا وَجَدَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهَا لَمْ ينفعه جَرَيَانُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَكَوْنُهُ كَانَ خَلِيطَ أَهْلِ الْإِيمَانِ يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ، وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ [الْحَدِيدِ: 14] فَهُمْ يُخَالِطُونَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَحْشَرِ فَإِذَا حَقَّتِ الْمَحْقُوقِيَّةُ تَمَيَّزُوا مِنْهُمْ وَتَخَلَّفُوا بَعْدَهُمْ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سَبَأٍ: 54] وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا مَعَهُمْ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَمِنْهَا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يقتلهم لأنه لا يخاف من شرهم مع وجوده صلّى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات مُبَيِّنَاتٍ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُقْتَلُونَ إِذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ وَعَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ مَالِكٌ: الْمُنَافِقُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الزِّنْدِيقُ الْيَوْمَ «4» (قُلْتُ) وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا، أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً أَمْ لَا، أَوْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ارْتِدَادُهُ أَمْ لَا، أَوْ يَكُونُ إِسْلَامُهُ وَرُجُوعُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ؟ على أقوال متعددة مَوْضِعُ بَسْطِهَا وَتَقْرِيرِهَا وَعَزْوِهَا كِتَابُ الْأَحْكَامِ.
[تَنْبِيهٌ] قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْلَمُ أَعْيَانَ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، إِنَّمَا مُسْتَنَدُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فِي تَسْمِيَةِ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُنَافِقًا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظَلْمَاءِ اللَّيْلِ عِنْدَ عَقَبَةٍ هُنَاكَ، عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُنْفِرُوا بِهِ النَّاقَةَ لِيَسْقُطَ عَنْهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ، فَأَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ حُذَيْفَةَ وَلَعَلَّ الْكَفَّ عَنْ قَتْلِهِمْ كَانَ لمدرك من هذه
__________
(1) ما يأتي من قول ابن عطية ومالك والشافعي هو أيضا نقل عن القرطبي في تفسيره 1/ 199.
(2) جبّ الشيء: قطعه. ومنه الحديث: «إن الإسلام يجبّ ما قبله» .
(3) أخرجه البخاري (إيمان باب 17؟ وزكاة باب 1 وصلاة باب 28 واستتابة باب 3) ومسلم (إيمان حديث 32 وزكاة حديث 1 وجهاد حديث 1) والترمذي (إيمان باب 1 و 2 وتفسير سورة 88) والنسائي (زكاة باب 3 وإيمان باب 15) وابن ماجة (مقدمة باب 9 وفتن باب 1) .
(4) عبارة القرطبي: قال مالك: النفاق في عهد رسول الله هو الزندقة فينا اليوم فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة وهو أحد قولي الشافعي. [.....](1/90)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
الْمَدَارِكِ أَوْ لِغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا غَيْرُ هؤلاء فقد قال الله تَعَالَى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] ، وَقَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا. مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 60- 61] ففيها دليل على أنه لم يغربهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تُذْكَرُ لَهُ صِفَاتُهُمْ فَيَتَوَسَّمُهَا فِي بَعْضِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30] وَقَدْ كَانَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ بِالنِّفَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ، وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الَّذِي سَبَقَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَمَعَ هَذَا لَمَّا مَاتَ صلّى عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ دَفْنَهُ كَمَا يَفْعَلُ بِبَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ عَاتَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ فَقَالَ: «إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ «إِنِّي خُيِّرْتُ فاخترت» وفي رواية «لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ الْهَمْدَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ قال: هم المنافقون. أَمَّا (لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) قَالَ: الْفَسَادُ هُوَ الْكُفْرُ وَالْعَمَلُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالَ: يَعْنِي لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ فَسَادُهُمْ ذَلِكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أَوْ أمر بمعصيته فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ «1» . وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالَ: إِذَا رَكِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَفْعَلُوا كَذَا وَكَذَا قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ عَلَى الهدى مصلحون «2» ، وقال وكيع وعيسى بن يونس وعثمان بْنُ عَلِيٍّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عباد بن عبد الله الأزدي عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ قَالَ سَلْمَانُ: لَمْ يَجِئْ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بن وهب وغيره عن سلمان الفارسي فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بعد؟ قال ابن جرير:
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 159.
(2) تفسير الطبري 1/ 160.
(3) تفسير الطبري 1/ 160.(1/91)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أَرَادَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أعظم فسادا من الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ تِلْكَ صِفَتُهُ أَحَدٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَهْلُ النِّفَاقِ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِمَعْصِيَتِهِمْ فِيهَا رَبَّهُمْ وَرُكُوبِهِمْ فِيهَا مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ وَتَضْيِيعِهِمْ فَرَائِضَهُ وَشَكِّهِمْ فِي دِينِهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ عَمَلٌ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِيقَانِ بِحَقِيقَتِهِ وَكَذِبِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَاهُمْ غَيْرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ وَمُظَاهَرَتُهُمْ أَهْلَ التَّكْذِيبِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إِذَا وَجَدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا فَذَلِكَ إِفْسَادُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ فِيهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، فَإِنَّ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ اتِّخَاذَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الْأَنْفَالِ: 73] فَقَطَعَ اللَّهُ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ المؤمنين والكافرين كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النِّسَاءِ: 144- 145] فَالْمُنَافِقُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِيمَانُ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّ الْفَسَادَ مِنْ جِهَةِ الْمُنَافِقِ حَاصِلٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَرَّ الْمُؤْمِنِينَ، بِقَوْلِهِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَوَالَى الْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لَكَانَ شَرُّهُ أَخَفَّ، وَلَوْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَيْ نُرِيدُ أَنْ نُدَارِيَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَنَصْطَلِحَ مَعَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَيْ إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ «1» . يَقُولُ اللَّهُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ يَقُولُ: أَلَا إِنَّ هَذَا الَّذِي يَعْتَمِدُونَهُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ هُوَ عَيْنُ الْفَسَادِ وَلَكِنْ مِنْ جَهْلِهِمْ لَا يشعرون بكونه فسادا.
[سورة البقرة (2) : آية 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
يقول تَعَالَى وَإِذَا قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ أَيْ كَإِيمَانِ النَّاسِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَعَنْهُ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الزَّوَاجِرِ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يَعْنُونَ- لَعَنَهُمُ اللَّهُ- أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ يَقُولُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بن
__________
(1) بهذا الإسناد أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 160.(1/92)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أَسْلَمَ «1» ، وَغَيْرُهُمْ يَقُولُونَ: أَنَصِيرُ نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمْ سُفَهَاءُ؟
وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ كَمَا أَنَّ الْحُكَمَاءَ جَمْعُ حَكِيمٍ وَالْحُلَمَاءَ جَمْعُ حَلِيمٍ، وَالسَّفِيهُ هُوَ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ الرَّأْيِ الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاءِ: 5] قَالَ عَامَّةُ عُلَمَاءِ التفسير: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَابَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَقَالَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فَأَكَّدَ وَحَصَرَ السَّفَاهَةَ فِيهِمْ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي: وَمِنْ تَمَامِ جَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحَالِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهْلِ وَذَلِكَ أَرْدَى لَهُمْ وَأَبْلَغُ فِي الْعَمَى وَالْبُعْدِ عن الهدى.
[سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 15]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
يقول تَعَالَى وَإِذَا لَقِيَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آمنا، وأظهروا لَهُمُ الْإِيمَانَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمُصَافَاةَ غُرُورًا مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنِفَاقًا وَمُصَانَعَةً وَتَقِيَّةً، وَلِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ خَيْرٍ وَمَغْنَمٍ وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ يَعْنِي إذا انْصَرَفُوا وَذَهَبُوا وَخَلَصُوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، فَضُمِّنَ (خَلَوْا) معنى انصرفوا لتعديته بإلى لِيَدُلَّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ وَالْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ «إِلَى» هُنَا بِمَعْنَى «مَعَ» وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَعَلَيْهِ يَدُورُ كَلَامُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» . وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ:
خَلَوْا يَعْنِي مضوا، وشياطينهم: سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود ورؤوس الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ: يَعْنِي هم رؤساؤهم في الْكُفْرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ مِنْ يَهُودَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قال: إلى رؤوسهم وَقَادَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ وَالشَّرِّ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ فَسَّرَهُ أبو
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 162 والدر المنثور 1/ 68- 69.
(2) قال ابن جرير: وأما بعض نحويي أهل الكوفة فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَإِذَا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم ... إلخ. فيزعم أن الجالب «إلى» المعنى الذي دل عليه الكلام: من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم، لا قوله «خلوا» . وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع «إلى» غيرها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها. قال: وهذا القول عندي أولى بالصواب، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره. (تفسير الطبري 1/ 165) .(1/93)
مَالِكٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَشَيَاطِينُ كُلِّ شَيْءٍ مَرَدَتُهُ، ويكون الشيطان مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الْأَنْعَامِ: 112] وَفِي الْمُسْنَدِ «1» عَنْ أَبِي ذَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « [يَا أَبَا ذَرٍّ] «2» تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الإنس والجن» فقلت يا رسول أو للإنس شياطين؟ قال «نعم» وقوله قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابن عباس: أَيْ إِنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أَيْ إِنَّمَا نَحْنُ نَسْتَهْزِئُ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَبُ بِهِمْ «3» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ وَمُقَابَلَةً عَلَى صَنِيعِهِمْ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال ابن جرير: أخبر تَعَالَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في قوله تَعَالَى يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الْحَدِيدِ: 13] وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] قَالَ: فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَسُخْرِيَّتِهِ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ عِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ وَمُتَأَوِّلِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ تَوْبِيخُهُ إِيَّاهُمْ وَلَوْمُهُ لَهُمْ عَلَى مَا رَكِبُوا مِنْ مَعَاصِيهِ وَالْكُفْرِ بِهِ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَابِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يَخْدَعُهُ إِذَا ظَفِرَ به: أنا الذي خدعتك، ولم يكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذا صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله تَعَالَى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 54] واللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ عَلَى الْجَوَابِ، وَاللَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُ الْمَكْرُ وَلَا الْهُزْءُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَكْرَ والهزء حاق بهم، وقال آخرون: قوله تعالى إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَقَوْلُهُ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: 142] وَقَوْلُهُ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] ونَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَةِ: 67] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إِخْبَارٌ من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عُقُوبَةَ الْخِدَاعِ، فَأَخْرَجَ خَبَرَهُ عَنْ جَزَائِهِ إِيَّاهُمْ وَعِقَابِهِ لَهُمْ مَخْرَجَ خَبَرَهُ عَنْ فِعْلِهِمُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ فِي اللَّفْظِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
[الشُّورَى:
40] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ ظُلْمٌ وَالثَّانِي عَدْلٌ، فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَ لفظهما فَقَدِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا. قَالَ: وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَظَائِرِ ذلك.
__________
(1) مسند أحمد، ج 5 ص 178 و 179 و 265.
(2) الزيادة من المسند.
(3) الدر المنثور 1/ 69 والطبري 1/ 165.(1/94)
قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى مَرَدَتِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فِي تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لَهُمْ مِنْ قَوْلِنَا لَهُمْ [صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السلام وما جاء به] «1» مستهزئون، فأخبر تَعَالَى أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فَيَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا يَعْنِي مِنْ عِصْمَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ خِلَافَ الَّذِي لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ جَرِيرٍ يُوَجِّهُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَنْصُرُهُ لِأَنَّ الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ وَالسُّخْرِيَةَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالْعَبَثِ مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الِانْتِقَامِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْعَدْلِ وَالْمُجَازَاةِ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ. قَالَ: وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا بِشْرٌ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ قَالَ: يَسْخَرُ بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يمدهم يملي لهم. وقال مجاهد: يزيدهم. وقال تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] وقال:
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182 والقلم: 44] قال بعضهم: كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة وقال تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 44- 45] قال ابن جرير: والصواب نزيدهم عَلَى وَجْهِ الْإِمْلَاءِ وَالتَّرْكِ لَهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ وتمردهم كَمَا قَالَ تَعَالَى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْأَنْعَامِ: 110] وَالطُّغْيَانُ: هُوَ الْمُجَاوَزَةُ فِي الشَّيْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 11] وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَكَذَا فَسَّرَهُ السُّدِّيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْعَمَهُ: الضَّلَالُ. يُقَالُ: عَمِهَ فُلَانٌ يَعْمَهُ عَمَهًا وَعُمُوهًا إِذَا ضَلَّ، قَالَ: وَقَوْلُهُ (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الَّذِي غَمَرَهُمْ دَنَسُهُ وَعَلَاهُمْ رِجْسُهُ يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ سبيلا لأن الله قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا «2» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَمَى فِي الْعَيْنِ وَالْعَمَهُ فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْعَمَى في القلب أيضا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:
46] وتقول عَمِهَ الرَّجُلُ يَعْمَهُ عُمُوهًا فَهُوَ عَمِهٌ وَعَامِهٌ وَجَمْعُهُ عُمَّهٌ، وَذَهَبَتْ إِبِلُهُ الْعَمْهَاءُ إِذَا لَمْ يدر
__________
(1) الزيادة من الطبري 1/ 166.
(2) الطبري 1/ 170.(1/95)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
أين ذهبت.
[سورة البقرة (2) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى قَالَ: أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الهدى، وقال ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أَيِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ «1» ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى «2» ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ يُشْبِهُهُ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ثَمُودَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فُصِّلَتْ: 17] وَحَاصِلُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ عَدَلُوا عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أَيْ بَذَلُوا الْهُدَى ثَمَنًا لِلضَّلَالَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْإِيمَانُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْمُنَافِقُونَ: 3] أَوْ أَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى كَمَا يَكُونُ حَالُ فَرِيقٍ آخَرَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَنْوَاعٌ وَأَقْسَامٌ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أَيْ مَا رَبِحَتْ صَفْقَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ أَيْ راشدين في صنيعهم ذلك. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفُرْقَةِ وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ «3»
، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ عن قتادة بمثله سواء «4» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
يُقَالُ: مَثَلٌ وَمِثْلٌ وَمَثِيلٌ أَيْضًا وَالْجَمْعُ أَمْثَالٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 43] وَتَقْدِيرُ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَبَّهَهُمْ في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلَى الْعَمَى، بِمَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ وَانْتَفَعَ بِهَا وَأَبْصَرَ بِهَا مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَتَأَنَّسَ بِهَا فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طُفِئَتْ نَارُهُ وَصَارَ فِي ظَلَامٍ شَدِيدٍ لَا يُبْصِرُ وَلَا يَهْتَدِي، وَهُوَ مَعَ هذا أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ أَبْكَمُ لَا يَنْطِقُ أَعْمَى لو كان ضياء لما
__________
(1) الطبري 1/ 171 والدر المنثور 1/ 70.
(2) الدر المنثور 1/ 71.
(3) الطبري 1/ 172. [.....]
(4) الدر المنثور 1/ 71.(1/96)
أَبْصَرَ، فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي اسْتِبْدَالِهِمُ الضَّلَالَةَ عِوَضًا عَنِ الْهُدَى وَاسْتِحْبَابِهِمُ الْغَيَّ عَلَى الرُّشْدِ. وَفِي هَذَا الْمَثَلِ دَلَالَةٌ عَلَى أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حكى هذا الذي قلناه الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ السُّدِّيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَالتَّشْبِيهُ هَاهُنَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمُ اكْتَسَبُوا أَوَّلًا نُورًا ثُمَّ بِنِفَاقِهِمْ ثَانِيًا أَبْطَلُوا ذلك فَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَإِنَّهُ لَا حَيْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ حَيْرَةِ الدِّينِ.
وَزَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَضْرُوبَ لَهُمُ الْمَثَلُ هَاهُنَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: 8] ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي حَالِ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُ كَانَ حَصَلَ لَهُمْ إِيمَانٌ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سُلِبُوهُ وَطُبِعَ عَلَى قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هَذِهِ الْآيَةَ هَاهُنَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3] فلهذا وجه هَذَا الْمَثَلَ بِأَنَّهُمُ اسْتَضَاءُوا بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَيْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَعْقَبَهُمْ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ «1» :
وَصَحَّ ضَرْبُ مَثَلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب: 19] أي كدوران الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَقَالَ تَعَالَى:
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لُقْمَانَ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَةِ: 5] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَثَلُ قِصَّتِهِمْ كقصة الذين استوقدوا نَارًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُسْتَوْقِدُ وَاحِدٌ لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ:
الَّذِي هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِينَ كَمَا قال الشاعر: [الطويل]
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ «2»
قُلْتُ: وَقَدِ الْتَفَتَ فِي أَثْنَاءِ الْمَثَلِ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَهَذَا أَفْصَحُ فِي الْكَلَامِ وَأَبْلَغُ فِي الظلام، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أَيْ ذَهَبَ عنهم بما يَنْفَعُهُمْ وَهُوَ النُّورُ وَأَبْقَى لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ وَالدُّخَانُ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّكِّ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ لا يُبْصِرُونَ لا يهتدون إلى سبيل خَيْرٍ وَلَا يَعْرِفُونَهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ خَيْرًا بُكْمٌ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا ينفعهم عُمْيٌ في ضلالة وعماية
__________
(1) الطبري 1/ 175.
(2) البيت للأشهب بن رميلة في خزانة الأدب 6/ 7 وشرح شواهد المغني 2/ 517 والكتاب 1/ 187 ولسان العرب (فلج، لذا) والمؤتلف والمختلف ص 33 والمحتسب 1/ 185 ومعجم ما استعجم ص 1028 والمقاصد النحوية 1/ 482 والمقتضب 4/ 146 والمنصف 1/ 67. وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر 1/ 148، وبلا نسبة في الأزهية ص 99 ورصف المباني ص 342.(1/97)
الْبَصِيرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ الَّتِي بَاعُوهَا بِالضَّلَالَةِ.
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ
قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ زَعَمَ أَنَّ نَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَقْدِمَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ثم إنهم نافقوا وكان مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَأَوْقَدَ نارا فلما أضاءت مَا حَوْلَهُ مِنْ قَذَى أَوْ أَذَى فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي مِنْهُ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طَفِئَتْ نَارُهُ فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذَى، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كَانَ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسْلَمَ فَعَرَفَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ والخير وَالشَّرَّ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ فَصَارَ لَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَلَا الْخَيْرَ من الشر «1» . وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: أَمَّا النُّورُ فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَأَمَّا الظُّلْمَةُ فَهِيَ ضَلَالَتُهُمْ وَكُفْرُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى هُدًى ثُمَّ نُزِعَ مِنْهُمْ فَعَتَوْا بعد ذلك «2» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ أَمَّا إِضَاءَةُ النَّارِ فَإِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى. وَقَالَ عطاء الخراساني فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قَالَ: هَذَا مَثَلُ الْمُنَافِقِ يُبْصِرُ أَحْيَانًا وَيَعْرِفُ أَحْيَانًا ثُمَّ يُدْرِكُهُ عَمَى الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوَ قَوْلِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أَضَاءَتِ النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الذين استوقدوا نارا ثُمَّ كَفَرُوا فَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فَانْتَزَعَهُ كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يبصرون «3» .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ فَيُشْبِهُ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ فَيُنَاكِحُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعِزَّ كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوْءَهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَإِنَّمَا ضَوْءُ النَّارِ مَا أَوْقَدْتَهَا، فَإِذَا خَمَدَتْ ذَهَبَ نُورُهَا، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَضَاءَ لَهُ، فَإِذَا شَكَّ وَقَعَ فِي الظُّلْمَةِ. وَقَالَ الضحاك:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أَمَّا نُورُهُمْ فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي تَكَلَّمُوا بِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ معمر عن
__________
(1) الدر المنثور 1/ 71 والطبري 1/ 176.
(2) الطبري 1/ 176.
(3) الطبري 1/ 177.(1/98)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قَتَادَةَ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ فَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا بِهَا وَشَرِبُوا وَأَمِنُوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا دمائهم حَتَّى إِذَا مَاتُوا ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِقَ تَكَلَّمَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَضَاءَتْ له في الدُّنْيَا فَنَاكَحَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَغَازَاهُمْ بِهَا وَوَارَثَهُمْ بِهَا وَحُقِنَ بِهَا دَمُهُ وَمَالُهُ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ سُلِبَهَا الْمُنَافِقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي قَلْبِهِ وَلَا حَقِيقَةٌ فِي عمله وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ يَقُولُ: فِي عَذَابٍ إِذَا مَاتُوا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابْنِ عَبَّاسٍ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ أَيْ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ وَيَقُولُونَ بِهِ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى، وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقٍّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ فَكَانَتِ الظُّلْمَةُ نِفَاقُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، فَذَلِكَ حِينَ يَمُوتُ الْمُنَافِقُ فَيُظْلِمُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ عَمَلُ السُّوءِ فَلَا يَجِدُ لَهُ عَمَلًا مِنْ خَيْرِ عَمَلٍ بِهِ يُصَدِّقُ بِهِ قوله لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ قَالَ السُّدِّيُّ بِسَنَدِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ خُرْسٌ عُمْيٌ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ يَقُولُ لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَلَا يَعْقِلُونَهُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لا يرجعون إلى هدى، وكذا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ بِسَنَدِهِ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ لا يتوبون ولا هم يذكرون،
[سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
هذا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ قَوْمٌ يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ تَارَةً وَيَشُكُّونَ تَارَةً أُخْرَى فَقُلُوبُهُمْ فِي حَالِ شَكِّهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَرَدُّدِهِمْ كَصَيِّبٍ، وَالصَّيِّبُ الْمَطَرُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ السَّحَابُ. وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْمَطَرُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي حَالِ ظُلُمَاتٍ، وَهِيَ الشُّكُوكُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ (وَرَعْدٌ) وَهُوَ مَا يُزْعِجُ الْقُلُوبَ مِنَ الْخَوْفِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ وَالْفَزَعَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [الْمُنَافِقُونَ: 4] وَقَالَ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التَّوْبَةِ: 56- 57] والْبَرْقُ هُوَ مَا يَلْمَعُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الضَّرْبِ مِنَ(1/99)
الْمُنَافِقِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قَالَ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أَيْ وَلَا يُجْدِي عَنْهُمْ حَذَرُهُمْ شَيْئًا لِأَنَّ اللَّهَ محيط بِقُدْرَتِهِ وَهُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ كَمَا قَالَ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: 17- 20] بهم ثُمَّ قَالَ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أَيْ لِشِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَضَعْفِ بَصَائِرِهِمْ وَعَدَمِ ثَبَاتِهَا لِلْإِيمَانِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ يَقُولُ: يَكَادُ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْءِ الْحَقِّ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ (وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) أَيْ كُلَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ اسْتَأْنَسُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَتَارَةً تَعْرِضُ لَهُمُ الشُّكُوكُ أَظْلَمَتْ قُلُوبَهُمْ فَوَقَفُوا حَائِرِينَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يَقُولُ: كُلَّمَا أَصَابَ الْمُنَافِقِينَ من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أَصَابَ الْإِسْلَامَ نَكْبَةٌ قَامُوا لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الْحَجِّ: 11] وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم في قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ (قَامُوا) أَيْ مُتَحَيِّرِينَ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عند ما يُعْطَى النَّاسُ النُّورَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى مِنَ النُّورِ مَا يُضِيءُ لَهُ مَسِيرَةَ فَرَاسِخَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْفَأُ نُورُهُ تَارَةً وَيُضِيءُ لَهُ أُخْرَى، فَيَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ تَارَةً وَيَقِفُ أُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْفَأُ نُورُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُمُ الْخُلَّصُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الْحَدِيدِ: 13] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْحَدِيدِ: 12] ، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التَّحْرِيمِ: 8] .
ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى عَدَنِ، أبين(1/100)
إلى «1» صنعاء فَدُونَ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يضيء له نوره إلا موضع قدميه [والناس منازل بأعمالهم] » «2» ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ دَاوَرَ الْقَطَّانِ عَنْ قَتَادَةَ بِنَحْوِهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نُورَهُ كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ وَأَدْنَاهُمْ نُورًا عَلَى إِبْهَامِهِ يطفأ مرة ويتقد مَرَّةً، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مُثَنَّى عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمِنْهَالِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا محمد بن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَالَ: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ فِي إِبْهَامِهِ يَتَّقِدُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ أُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ الْيَقْظَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ إِلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ فَالْمُؤْمِنُ مُشْفِقٌ مِمَّا يَرَى مِنْ إِطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِينَ، فَهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: يُعْطَى كُلُّ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ أَشْفَقُوا فَقَالُوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ النَّاسُ أَقْسَامًا، مُؤْمِنُونَ خُلَّصٌ وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَكُفَّارٌ خُلَّصٌ وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا. وَمُنَافِقُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ: خُلَّصٌ وَهُمُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ الْمَثَلُ النَّارِيُّ «3» ، وَمُنَافِقُونَ يَتَرَدَّدُونَ تَارَةً يَظْهَرُ لَهُمْ لُمَعٌ الْإِيمَانِ وَتَارَةً يَخْبُو، وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَثَلِ الْمَائِيِّ «4» وَهُمْ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. وَهَذَا الْمَقَامُ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ النُّورِ «5» مِنْ ضَرْبِ مَثَلِ الْمُؤْمِنِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ بِالْمِصْبَاحِ فِي الزُّجَاجَةِ الَّتِي كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَهِيَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الْمَفْطُورِ عَلَى الْإِيمَانِ وَاسْتِمْدَادُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْخَالِصَةِ الصَّافِيَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ كَدَرٍ وَلَا تَخْلِيطٍ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلَ الْعِبَادِ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ أصحاب الجهل المركب فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّورِ: 39] ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلَ الْكُفَّارِ الْجُهَّالِ الْجَهْلَ
__________
(1) في الأصل «إِلَى عَدَنَ أَوْ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَدُونَ ذَلِكَ» وما أثبتنا عن الدر المنثور 6/ 250.
(2) الزيادة عن الدر المنثور. قال السيوطي: وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.
(3) أي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً الآية.
(4) أي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ الآية.
(5) سورة النور، الآية 35.(1/101)
البسيط وهم الذين قال تعالى فِيهِمْ أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النُّورِ: 40] فَقَسَّمَ الْكُفَّارَ هَاهُنَا إِلَى قِسْمَيْنِ: دَاعِيَةٌ وَمُقَلِّدٌ، كَمَا ذَكَرَهُمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] وقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ [الْحَجِّ: 8] وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْوَاقِعَةِ وفي آخرها، وَفِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: سَابِقُونَ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ وَهُمُ الْأَبْرَارُ.
فَتُلُخِّصَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَانِ: مُقَرَّبُونَ وَأَبْرَارٌ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ صِنْفَانِ: دُعَاةٌ وَمُقَلِّدُونَ، وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا صِنْفَانِ: مُنَافِقٌ خَالِصٌ، وَمُنَافِقٌ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ» «1» اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ تَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ إِيمَانٍ وَشُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ. إِمَّا عَمَلِيٌّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَوِ اعْتِقَادِيٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ يَعْنِي شَيْبَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ، فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فقلب المؤمن فسراجه فِيهِ نُورُهُ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ الْخَالِصِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصَفَّحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جيد حسن.
وقوله تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ قَالَ: لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ «3» إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَ بعباده من نقمة أو عفو
__________
(1) أخرجه البخاري (إيمان باب 24 جزية باب 17 مظالم باب 17) ومسلم (إيمان حديث 102) وأبو داود (سنة باب 15) والترمذي (إيمان باب 14) والنسائي (إيمان باب 20) وأحمد في المسند (ج 2 ص 189) .
(2) المسند ج 3 ص 17.
(3) الطبري 1/ 194. [.....](1/102)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
قَدِيرٌ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : إِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إِذْهَابِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَدِيرٌ.
وَمَعْنَى قَدِيرٍ: قَادِرٌ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى عَلِيمٍ: عَالَمٌ. وَذَهَبَ ابْنُ جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أَنَّ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَانِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَكُونُ «أَوْ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 24] أَوْ تَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ أَيْ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا بِهَذَا وَإِنْ شِئْتَ بِهَذَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ «2» . أَوْ لِلتَّسَاوِي مِثْلَ:
جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ، عَلَى مَا وَجَّهَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي إِبَاحَةِ الْجُلُوسِ إِلَيْهِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ: سَوَاءٌ ضَرَبْتُ لَهُمْ مَثَلًا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَالِهِمْ (قُلْتُ) وَهَذَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَصْنَافٌ وَلَهُمْ أَحْوَالٌ وَصِفَاتٌ كَمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ- وَمِنْهُمْ- وَمِنْهُمْ- وَمِنْهُمْ «3» - يَذْكُرُ أَحْوَالَهُمْ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَجَعَلَ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِصِنْفَيْنِ مِنْهُمْ أَشَدُّ مُطَابَقَةً لِأَحْوَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَيْنِ فِي سُورَةِ النُّورِ لِصِنْفَيِ الْكُفَّارِ الدُّعَاةِ وَالْمُقَلِّدِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ إِلَى أَنْ قَالَ أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ الآية: فَالْأَوَّلُ لِلدُّعَاةِ الَّذِينَ هُمْ فِي جَهْلٍ مُرَكَّبٍ، وَالثَّانِي لِذَوِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ مِنَ الْأَتْبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ، والله أعلم بالصواب.
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي بَيَانِ وَحْدَانِيَّةِ أُلُوهِيَّتِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى عَبِيدِهِ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَإِسْبَاغِهِ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا، أَيْ مَهْدًا كَالْفِرَاشِ مُقَرَّرَةً «4» مُوَطَّأَةً مُثَبَّتَةً بِالرَّوَاسِي الشَّامِخَاتِ، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً، وَهُوَ السَّقْفُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 32] وَأَنْزَلَ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وَالْمُرَادُ بِهِ السَّحَابُ هَاهُنَا فِي وَقْتِهِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ رِزْقًا لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ كَمَا قَرَّرَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَمِنْ أَشْبَهِ آية بهذه الآية قوله تعالى:
__________
(1) الطبري 1/ 195.
(2) تفسير القرطبي 1/ 215.
(3) سورة التوبة (براءة) ، الآيات: 49، 58، 61، 75، 76، 97.
(4) مقرّرة: مسوّاة مدحوّة. ومنه قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً.(1/103)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [غَافِرٍ: 64] وَمَضْمُونُهُ:
أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ مَالِكُ الدَّارِ وَسَاكِنِيهَا وَرَازِقُهُمْ، فَبِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ وَلِهَذَا قَالَ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» الْحَدِيثَ «1» ، وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» الْحَدِيثَ «2» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ «3» أَخِي عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لِأُمِّهَا قَالَ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فقلت من أنتم؟ قالوا: نَحْنُ الْيَهُودُ، قُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أنكم تقولون عزيز ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِنَفَرٍ مِنَ النَّصَارَى فَقُلْتُ مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا نَحْنُ النَّصَارَى، قُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِهَا مَنْ أَخْبَرْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فقال:
«هل أخبرت بها أحدا؟» قلت: نَعَمْ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ وَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا «4» أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا فَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَجْلَحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ فَقَالَ: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنِ الْأَجْلَحِ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ صِيَانَةٌ وَحِمَايَةٌ لِجَنَابِ التَّوْحِيدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن
__________
(1) أخرجه البخاري (تفسير سورة 2 باب 3 وأدب باب 20 وحدود باب 20 وديات باب 1، وتوحيد باب 40) ومسلم (إيمان حديث 141، 142) وأبو داود (طلاق باب 5) والترمذي (تفسير سورة 25 باب 1 و 2) والنسائي (أيمان باب 6 وتحريم باب 4) وأحمد في المسند (ج 1 ص 280) .
(2) أخرجه البخاري (لباس باب 101 جهاد باب 46 استئذان باب 30 رقاق باب 27 توحيد باب 1) ومسلم (إيمان حديث 48- 51) .
(3) وهو الطفيل بن عبد الله بن الحارث بن سخبرة. وقد ينسب إلى جده فيقال: الطفيل بن سخبرة. (أسد الغابة 3/ 53 وموسوعة رجال الكتب التسعة 2/ 203) .
(4) في مسند أحمد (ج 5 ص 72) والدر المنثور (ج 1 ص 76) : «وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم منها» .(1/104)
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ وَحِّدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «1» . وَبِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزَقُكُمْ غَيْرُهُ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من التوحيد هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أبو عمرو حدثنا أبو الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً قَالَ: الْأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءٍ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ وَحَيَاتِي، وَيَقُولُ: لَوْلَا كَلْبَةُ هَذَا لَأَتَانَا اللُّصُوصُ البارحة، وَلَوْلَا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لَأَتَى اللُّصُوصُ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلَا اللَّهُ وَفُلَانٌ لَا تَجْعَلُ فِيهَا فُلَانَ، هَذَا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شاء وشئت، قال: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ: تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ» قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أَيْ عُدَلَاءَ شُرَكَاءَ، وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو مَالِكٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
ذِكْرُ حَدِيثٍ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْبُدَلَاءِ «3» ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يُبْطِئُ بِهَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ فَإِمَّا أَنْ تُبْلِغَهُنَّ وَإِمَّا أَنْ أُبْلِغَهُنَّ، فَقَالَ: يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقَعَدَ عَلَى الشَّرَفِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أن تعملوا بهن، أولهن: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فإن مثل ذلك كمثل رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أو
__________
(1) الطبري 1/ 196.
(2) المسند ج 4 ص 130.
(3) البدلاء أو الأبدال: قوم من الصالحين بهم يقيم الله الأرض، لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخره، فلذلك سموا أبدالا. (لسان العرب: بدل) .(1/105)
ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صليتم فلا تلتفوا، وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةً مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أطيب عند الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ، وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إذا كان في ذكر الله» قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: الْجَمَاعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إلا أن يرجع، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ فَهُوَ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ فَقَالَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ عَلَى مَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَالشَّاهِدُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: «وَإِنَّ اللَّهَ خَلْقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ السُّفْلِيَّةِ وَالْعُلْوِيَّةِ وَاخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطِبَاعِهَا وَمَنَافِعِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِ النَّفْعِ بِهَا مُحْكَمَةٌ، عَلِمَ قُدْرَةَ خَالِقِهَا وَحِكْمَتَهُ وَعِلْمَهُ وَإِتْقَانَهُ وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ، وَقَدْ سُئِلَ مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى؟
فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ البعر ليدل عَلَى الْبَعِيرِ، وَإِنَّ أَثَرَ الْأَقْدَامِ لَتَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ أَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وجود اللطيف الخبير؟.
وحكى الرازي عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ عَنْ ذلك فاستدل له بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلُوهُ عَنْ وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى، فَقَالَ لَهُمْ: دَعُونِي فَإِنِّي مُفَكِّرٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أُخْبِرْتُ عَنْهُ، ذَكَرُوا لِي أَنَّ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ مُوقَرَةٌ «1» فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَتَاجِرِ وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ يَحْرُسُهَا وَلَا يَسُوقُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاجَ الْعِظَامَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنْهَا، وَتَسِيرَ حَيْثُ شَاءَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسُوقَهَا أَحَدٌ، فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ لَيْسَ لَهَا صَانِعٌ؟ فَبُهِتَ الْقَوْمُ وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ وُجُودِ الصَّانِعِ، فَقَالَ: هذا ورق التوت طعمه
__________
(1) موقرة: محملة.(1/106)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
وَاحِدٌ تَأْكُلُهُ الدُّودُ «1» فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْإِبْرَيْسِمُ، وَتَأْكُلُهُ النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر وَالْأَنْعَامُ فَتُلْقِيهِ بَعْرًا وَرَوَثًا، وَتَأْكُلْهُ الظِّبَاءُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْمِسْكُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هَاهُنَا حِصْنٌ حَصِينٌ أَمْلَسُ لَيْسَ لَهُ بَابٌ وَلَا مَنْفَذٌ، ظَاهِرُهُ كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَبَاطِنُهُ كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذا انْصَدَعَ جِدَارُهُ فَخَرَجَ مِنْهُ حَيَوَانٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذُو شَكْلٍ حَسَنٍ وَصَوْتٍ مَلِيحٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْبَيْضَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الدَّجَاجَةُ. وَسُئِلَ أَبُو نواس عن ذلك فأنشد: [الوافر]
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ ... بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَقَالَ ابن المعتز: [المتقارب]
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ تأمل هذه السموات فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الكبار والصغار النيرة مِنَ السَّيَّارَةِ وَمِنَ الثَّوَابِتِ، وَشَاهَدَهَا كَيْفَ تَدُورُ مَعَ الْفَلَكِ الْعَظِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دُوَيْرَةٌ وَلَهَا فِي أَنْفُسِهَا سَيْرٌ يَخُصُّهَا، وَنَظَرَ إلى البحار المكتنفة لِلْأَرْضِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْجِبَالِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْأَرْضِ لِتَقَرَّ وَيَسْكُنَ سَاكِنُوهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وألوانها كما قال تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 27- 28] وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ مِنْ قطر إلى قطر للمنافع وَمَا ذَرَأَ «2» فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ والنبات المختلف الطعوم والأرايج «3» وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ مَعَ اتِّحَادِ طَبِيعَةِ التُّرْبَةِ وَالْمَاءِ استدل على وُجُودَ الصَّانِعِ وَقُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ بِخَلْقِهِ وَلُطْفَهُ بِهِمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ وَبِرَّهُ بِهِمْ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَالْآيَاتُ فِي الْقُرْآنِ الدَّالَّةُ عَلَى هذا المقام كثيرة جدا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ مُخَاطِبًا للكافرين:
__________
(1) المراد دود الحرير. والإبريسم: الحرير.
(2) ذرأ: خلق. [.....]
(3) الأرايج والأرائج: جمع، أريجة، وهي الريح الطيبة.(1/107)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) مِنْ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ فَعَارِضُوهُ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ شِئْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُهَدَاءُكُمْ أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك:
شركاءكم، أي قوما آخرين يساعدونكم على ذلك، أَيِ اسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمْ فِي ذَلِكَ يَمُدُّونَكُمْ وَيَنْصُرُونَكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ قَالَ: نَاسٌ يَشْهَدُونَ بِهِ يَعْنِي حُكَّامَ الْفُصَحَاءِ. وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْقَصَصِ: 49] وَقَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: 88] وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هُودٍ: 13] وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُسَ: 37- 38] وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَكِّيَّةٌ، ثم تحداهم بِذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ فِي هَذِهِ الآية وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ- أي شَكٍّ- مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا- يَعْنِي مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وسلم- فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ يعني من مثل الْقُرْآنِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل من التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هُودٍ: 13] وَقَوْلُهُ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الْإِسْرَاءِ: 88] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ مِثْلِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ التَّحَدِّيَ عَامٌّ لَهُمْ كُلُّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ أَفْصَحُ الْأُمَمِ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ بِهَذَا فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَبُغْضِهِمْ لِدِينِهِ، وَمَعَ هَذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا وَلَنْ لنفي التأبيد في المستقبل أَيْ: وَلَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا وَهَذِهِ أَيْضًا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْأَمْرُ لَمْ يُعَارَضْ مِنْ لَدُنْهُ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا وَلَا يُمْكِنُ، وَأَنَّى يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْخَالِقِ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فُنُونًا ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هُودٍ: 1] فَأُحْكِمَتْ أَلْفَاظُهُ وَفُصِّلَتْ مَعَانِيهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى الْخِلَافِ فَكُلٌّ مِنْ لَفْظِهِ ومعناه فصيح(1/108)
لا يحاذى وَلَا يُدَانَى، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ مَغِيبَاتٍ مَاضِيَةٍ كَانَتْ وَوَقَعَتْ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَامِ: 115] أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، فَكُلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَعَدْلٌ وَهُدًى لَيْسَ فِيهِ مُجَازَفَةٌ وَلَا كَذِبٌ وَلَا افْتِرَاءٌ كَمَا يُوجَدُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْمُجَازَفَاتِ الَّتِي لَا يَحْسُنُ شِعْرُهُمْ إِلَّا بِهَا، كَمَا قِيلَ فِي الشِّعْرِ إِنَّ أَعْذَبَهُ أَكْذَبُهُ، وَتَجِدُ الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ الْمَدِيدَةَ قَدِ اسْتُعْمِلَ غَالِبُهَا فِي وَصْفِ النِّسَاءِ أَوِ الْخَيْلِ أَوِ الْخَمْرِ أَوْ فِي مَدْحِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ نَاقَةٍ أَوْ حَرْبٍ أَوْ كَائِنَةٍ أَوْ مَخَافَةٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ الَّتِي لَا تُفِيدُ شَيْئًا إِلَّا قدرة المتكلم المعين عَلَى الشَّيْءِ الْخَفِيِّ أَوِ الدَّقِيقِ أَوْ إِبْرَازُهُ إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيت أَوْ بَيْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ هِيَ بُيُوتُ الْقَصِيدِ وَسَائِرُهَا هَذَرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا مِمَّنْ فَهِمَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ التَّعْبِيرِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَهُ وَجَدْتَهَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أَوْ وَجِيزَةً وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا، وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ حَلَا وَعَلَا، لَا يَخْلَقُ «1» عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَمَلُّ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِبَالُ الصُّمُّ الرَّاسِيَاتُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَاتِ، وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يَفْتَحُ الْقُلُوبَ وَالْآذَانَ، وَيُشَوِّقُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَمُجَاوَرَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السَّجْدَةِ: 17] وَقَالَ: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزُّخْرُفِ: 71] وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ [الْإِسْرَاءِ: 68] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الْمُلْكِ: 16- 17] وَقَالَ فِي الزَّجْرِ: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 40] وَقَالَ فِي الْوَعْظِ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ [الشُّعَرَاءِ: 205] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَلَاوَةِ. وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ رَذِيلٍ دَنِيءٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ في القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك فإنها خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَافِ: 157] وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ الْمَعَادِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَفِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِمَا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ وَالْمَلَاذِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، بَشَّرَتْ بِهِ وَحَذَّرَتْ وَأَنْذَرَتْ، وَدَعَتْ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرَاتِ، وَزَهَّدَتْ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَتْ فِي الآخرة، وثبتت على الطريقة
__________
(1) لا يخلق: لا يبلى.(1/109)
الْمُثْلَى، وَهَدَتْ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَشَرْعِهِ الْقَوِيمِ، وَنَفَتْ عَنِ الْقُلُوبِ رِجْسَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «1» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة» - لفظ مسلم «2» - وقوله صلّى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا» أَيِ الَّذِي اخْتَصَصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ أَنْ يُعَارِضُوهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الإلهية فإنها ليس مُعْجِزَةً عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَرَّرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِعْجَازَ بِطَرِيقٍ يَشْمَلُ قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة، فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مُعْجِزًا فِي نفسه لا يستطع الْبَشَرُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ وَلَا فِي قُوَاهُمْ مُعَارَضَتُهُ فَقَدْ حَصَلَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ فِي إِمْكَانِهِمْ مُعَارَضَتُهُ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِصَرْفِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْضِيَّةً لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ مُعْجِزٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ مُعَارَضَتَهُ كَمَا قَرَّرْنَا إِلَّا أَنَّهَا تَصْلُحُ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَافَحَةِ عَنِ الْحَقِّ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ أجاب الرازي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سُؤَالِهِ فِي السُّوَرِ الْقِصَارِ كالعصر وإنا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أَمَّا الْوَقُودُ، بِفَتْحِ الْوَاوِ، فَهُوَ مَا يُلْقَى فِي النَّارِ لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنِّ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98- 99] وَالْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ هَاهُنَا هِيَ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ الْعَظِيمَةُ السَّوْدَاءُ الصَّلْبَةُ الْمُنْتِنَةُ، وَهِيَ أَشَدُّ الْأَحْجَارِ حرا إذا حميت، أجارنا الله منها. وقال عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قَالَ: هِيَ حِجَارَةٌ من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا يُعِدُّهَا لِلْكَافِرِينَ.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» وَهَذَا لَفْظُهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصحابة: اتقوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، أَمَّا الْحِجَارَةُ فهي مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ يُعَذَّبُونَ بِهِ مَعَ النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حِجَارَةٌ من كبريت أسود في النار، قال:
__________
(1) أخرجه البخاري (فضائل القرآن باب 1 اعتصام باب 1) ومسلم (إيمان حديث 239) .
(2) بالمقارنة مع لفظ مسلم لاحظنا اختلافا في ترتيب عدد من الألفاظ.
(3) تفسير الطبري 1/ 204.(1/110)
وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَصْلَبُ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ وَأَعْظَمُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا حِجَارَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ الله كما قال تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية، حكاه القرطبي والرازي وَرَجَّحَهُ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ: لِأَنَّ أَخْذَ النَّارِ في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فَجَعْلُهَا هَذِهِ الْحِجَارَةُ أَوْلَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ إِذَا أُضْرِمَتْ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيتِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدُّ لِحَرِّهَا وَأَقْوَى لِسَعِيرِهَا وَلَا سِيَّمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ مِنْ أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ مُعَدَّةٌ لِذَلِكَ، ثم أخذ النار بهذه الْحِجَارَةِ أَيْضًا مُشَاهَدٌ، وَهَذَا الْجِصُّ يَكُونُ أَحْجَارًا فيعمل فِيهِ بِالنَّارِ حَتَّى يَصِيرَ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْجَارِ تَفْخُرُهَا النَّارُ وَتَحْرِقُهَا وَإِنَّمَا سِيقَ هَذَا فِي حَرِّ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي وُعِدُوا بِهَا، وشدة ضرامها وقوة لهبها كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الْإِسْرَاءِ: 97] وَهَكَذَا رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْحِجَارَةَ الَّتِي تُسَعَّرُ بها النار لتحمر وَيَشْتَدَّ لَهَبُهَا قَالَ: لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَذَابًا لِأَهْلِهَا، قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ فُسِّرَ بِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ آذَى الناس دخل النار، والآخر أن كل ما يؤذي فِي النَّارِ يَتَأَذَّى بِهِ أَهْلُهَا مِنَ السِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ «1» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أُعِدَّتْ عَائِدٌ إِلَى النَّارِ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، وَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إلى الْحِجَارَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان، وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عن ابن عباس أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ: أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أن النار موجودة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ أَيْ أَرُصِدَتْ وَهُيِّئَتْ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ مِنْهَا «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ» وَمِنْهَا «اسْتَأْذَنَتِ النَّارُ رَبَّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ» وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْنَا وَجْبَةً «2» فَقُلْنَا مَا هَذِهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا حَجَرٌ أُلْقِيَ بِهِ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً الْآنَ وَصَلَ إِلَى قَعْرِهَا» وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ خَالَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِجَهْلِهِمْ فِي هَذَا وَوَافَقَهُمُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ «3» قَاضِي الْأَنْدَلُسِ.
__________
(1) تفسير القرطبي 1/ 236. وعبارة القرطبي: «والثاني أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار، معدّ لعقوبة أهل النار» .
(2) الوجبة: صوت الساقط. ووجب القلب وجيبا: خفق واضطرب.
(3) هو منذر بن سعيد بن عبد الله القرطبي البلوطي المتوفى سنة 355 هـ. نسبته إلى «فحص البلوط» بقرب قرطبة. قال ابن الفرضي في «تاريخ علماء الأندلس» : كان بصيرا بالجدل منحرفا إلى مذاهب أصحاب الكلام.(1/111)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
(تنبيه ينبغي الوقوف عليه)
قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يونس: بِسُورَةٍ مِثْلِهِ يَعُمُّ كُلَّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ طَوِيلَةً كَانَتْ أم قَصِيرَةً لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ كَمَا هِيَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَالْإِعْجَازُ حَاصِلٌ فِي طِوَالِ السُّوَرِ وَقِصَارِهَا، وَهَذَا ما لا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ النَّاسِ سَلَفًا وَخَلَفًا. وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَتَنَاوَلُ سُورَةَ الْكَوْثَرِ وسورة العصر، وقل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مُمْكِنٌ فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ السُّوَرِ خارج عن مقدار الْبَشَرِ كَانَ مُكَابَرَةً وَالْإِقْدَامُ عَلَى هَذِهِ الْمُكَابَرَاتِ مِمَّا يَطْرُقُ بِالتُّهْمَةِ إِلَى الدِّينِ (قُلْنَا) «1» فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَرْنَا الطَّرِيقَ الثَّانِيَ وَقُلْنَا إِنْ بَلَغَتْ هذه السور فِي الْفَصَاحَةِ حَدَّ الْإِعْجَازِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، كَانَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أَمْرِهِ مُعْجِزًا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُلُ الْمُعْجِزُ. هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ مُعَارَضَتَهَا طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْرِ: 1- 2] وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى صَاحِبِكُمْ بِمَكَّةَ فِي هَذَا الْحِينِ؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ سُورَةٌ وَجِيزَةٌ بَلِيغَةٌ فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ فَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ مِثْلُهَا، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: يَا وَبْرُ يَا وَبْرُ إِنَّمَا أَنْتَ أُذُنَانِ وَصَدْرٌ، وَسَائِرُكَ حَقْرٌ فَقْرٌ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا عَمْرُو؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ تكذب.
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّهُ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، عَطَفَ يذكر حَالِ أَوْلِيَائِهِ مِنَ السُّعَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ عَلَى أَصَحِّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنَبْسُطُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الإيمان ويتبع بِذِكْرِ الْكُفْرِ أَوْ عَكْسِهِ أَوْ حَالَ السُّعَدَاءِ ثُمَّ الْأَشْقِيَاءِ أَوْ عَكْسِهِ، وَحَاصِلُهُ ذِكْرُ الشَّيْءِ ومقابله. وأما ذِكْرُ الشَّيْءِ وَمُقَابِلُهُ. وَأَمَّا ذِكْرُ الشَّيْءِ وَنَظِيرُهُ فَذَاكَ التَّشَابُهُ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فلهذا قال تعالى:
__________
(1) القائل هنا هو الرازي.(1/112)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أَيْ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا وَغُرَفِهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أنهارها تجري في غَيْرِ أُخْدُودٍ، وَجَاءَ فِي الْكَوْثَرِ أَنَّ حَافَّتَيْهِ قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة بينها فطينها الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْجَوْهَرُ، نَسْأَلُ اللَّهَ من فضله إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرِئَ عَلَى الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْبَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تفجر تَحْتِ تِلَالِ أَوْ مِنْ تَحْتِ جِبَالِ الْمِسْكِ» وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنْهَارُ الجنة تفجر من جبل المسك.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) ، قَالَ: إِنَّهُمْ أَتَوْا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّةِ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قبل في الدُّنْيَا، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسلم نصره ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ قَالَ: مَعْنَاهُ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ، وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ مَا أَشْبَهَهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا، لِشَدَّةٍ مُشَابَهَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا «2» لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. قَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصِّيصَةِ «3» عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: يؤتى أحدهم بالصفحة مِنَ الشَّيْءِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا ثُمَّ يُؤْتَى بِأُخْرَى فيقول:
هذا الذي أتينا بِهِ مِنْ قَبْلُ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كُلْ فَاللَّوْنُ وَاحِدٌ وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ «4» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ يَسَافٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ:
عُشْبُ الْجَنَّةِ الزَّعْفَرَانُ وَكُثْبَانُهَا الْمِسْكُ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْوِلَدَانُ بِالْفَوَاكِهِ فَيَأْكُلُونَهَا، ثُمَّ يُؤْتَوْنَ بِمِثْلِهَا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَذَا الَّذِي أتيتمونا آنفا به، فتقول لهم الوالدان: كلوا فاللون وَاحِدٌ وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قَالَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويختلف في الطعم. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً يَعْنِي فِي اللَّوْنِ وَالْمَرْأَى وليس يشتبه في
__________
(1) الطبري 1/ 206.
(2) أضاف الطبري: «ومن علة قائلي هذا القول أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله» .
(3) المصيصة: مدينة من ثغور بلاد الشام بين انطاكية وبلاد الروم.
(4) الطبري 1/ 207.(1/113)
الطَّعْمِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قَالَ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ أَطْيَبُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ، وفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الجنة إلا الأسماء، ورواه ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ في قوله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قَالَ: يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَهُ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا التُّفَّاحُ بِالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانُ بِالرُّمَّانِ، قَالُوا فِي الْجَنَّةِ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا يَعْرِفُونَهُ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ فِي الطَّعْمِ «1» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنُّخَامِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَذَى وَالْمَأْثَمِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا حَيْضَ وَلَا كَلَفَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ وَعَطِيَّةَ وَالسُّدِّيِّ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى. أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: الْمُطَهَّرَةُ الَّتِي لَا تَحِيضُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ خُلِقَتْ حَوَّاءُ عَلَيْهَا السلام، فَلَمَّا عَصَتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُكِ مُطَهَّرَةً وَسَأُدْمِيكِ كَمَا أَدْمَيْتِ هَذِهِ الشَّجَرَةَ- وَهَذَا غَرِيبٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُورِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عُمَرَ الْبَزِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ قَالَ مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالنُّخَاعَةِ «3» وَالْبُزَاقِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ- وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ بِهِ، وَقَالَ:
صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ بْنَ عُمَرَ الْبَزِيعِيَّ هَذَا قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبَسْتِيُّ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ (قُلْتُ) وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ هَذَا هُوَ تَمَامُ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُمْ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ مِنَ الْمَوْتِ وَالِانْقِطَاعِ فَلَا آخِرَ لَهُ وَلَا انْقِضَاءَ بَلْ فِي نَعِيمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ عَلَى الدَّوَامِ، وَاللَّهُ المسؤول أَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ بر رحيم.
__________
(1) الطبري 1/ 210 والدر المنثور 1/ 82- 83. [.....]
(2) تفسير الطبري 1/ 212.
(3) في الدر المنثور: «والنخامة» .(1/114)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هذين المثلين للمنافقين يعني قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية إلى قوله تعالى: هُمُ الْخاسِرُونَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: لما ذكر الله تعالى الْعَنْكَبُوتَ وَالذُّبَابَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ والذباب يذكران؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا مما قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَإِنَّ اللَّهَ حِينَ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ قَالَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ: مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها (قُلْتُ) الْعِبَارَةُ الْأُولَى عَنْ قَتَادَةَ فِيهَا إِشْعَارٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَعِبَارَةُ رِوَايَةِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَقْرَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَ هَذَا الثَّانِي عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ نَحْوَ قَوْلِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هذا مثل ضربه الله للدنيا إن الْبَعُوضَةُ تَحْيَا مَا جَاعَتْ فَإِذَا سَمِنَتْ مَاتَتْ وَكَذَلِكَ مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ضُرِبَ لَهُمْ هذا المثل في القرآن إذا امتلاءوا من الدنيا ريا أخذهم الله عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ تَلَا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 44] هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ بِنَحْوِهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِالسُّورَةِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَيْ لَا يَسْتَنْكِفُ وَقِيلَ لَا يَخْشَى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا، أَيْ: أَيَّ مَثَلٍ كَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ صَغِيرًا كان أو كبيرا، وما هَاهُنَا لِلتَّقْلِيلِ، وَتَكُونُ بَعُوضَةً مَنْصُوبَةً عَلَى الْبَدَلِ كَمَا تَقُولُ: لَأَضْرِبَنَّ ضَرْبًا مَا، فَيَصْدُقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، أَوْ تَكُونُ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِبَعُوضَةٍ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ وَبَعُوضَةً مُعْرَبَةٌ بِإِعْرَابِهَا، قَالَ: وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي كَلَامِ العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بِإِعْرَابِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مَعْرِفَةً تَارَةً وَنَكِرَةً أُخْرَى كما قال حسان بن ثابت: [الكامل]
وَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا ... حُبُّ النبي محمد إيانا «2»
__________
(1) الطبري 1/ 213.
(2) البيت منسوب لحسان بن ثابت في الطبري 1/ 216 والأزهية ص 101 ولكعب بن مالك في ديوانه ص 289 وخزانة الأدب 6/ 120 والدرر 3/ 7 وشرح أبيات سيبويه 1/ 535 ولبشير بن عبد الرحمن في لسان العرب (منن) ولكعب أو لحسان أو لعبد الله بن رواحة في الدرر 1/ 302 وللأنصاري في الكتاب 2/ 105 ولسان العرب (كفى) وبلا نسبة في رصف المباني ص 149 ومجالس ثعلب 1/ 330 وهمع الهوامع 1/ 92.(1/115)
قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةً مَنْصُوبَةً بِحَذْفِ الْجَارِّ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن [أبي] «1» عبلة: بَعُوضَةٌ بِالرَّفْعِ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ وَتَكُونُ صِلَةً لما وَحُذِفَ الْعَائِدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على الذي هُوَ أَحْسَنُ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَا أَنَا بِالَّذِي قائل لك شيئا، أي بالذي هو قائل لك شيئا وقوله تعالى: فَما فَوْقَها فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا فَمَا دُونَهَا فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ كَمَا إِذَا وُصِفَ رَجُلٌ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحِّ فَيَقُولُ السَّامِعُ: نَعَمْ وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ- يَعْنِي فِيمَا وَصَفْتَ- وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وأبي عبيدة قاله الرَّازِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بعوضة لما سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» وَالثَّانِي: فَمَا فوقها لما هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحْقَرُ وَلَا أَصْغَرُ مِنَ الْبَعُوضَةِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ بن دعامة واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فما فوقها إلا كتب لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» «2» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَصْغِرُ شَيْئًا يَضْرِبُ بِهِ مَثَلًا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَقَارَةِ وَالصِّغَرِ كَالْبَعُوضَةِ، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها كما ضَرْبِ الْمَثَلِ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الْحَجِّ: 73] وَقَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 41] وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ [إِبْرَاهِيمَ: 24- 27] وَقَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: 75] ، ثُمَّ قَالَ:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النَّحْلِ: 76] كَمَا قَالَ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ [الرُّومِ: 28] . وَقَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الزمر: 29] . وَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
__________
(1) الزيادة من القرطبي. وزاد بأنها قراءة رؤبة بن العجاج أيضا. قال: وهي لغة تميم. ووجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة «الذي» ، «وبعوضة» رفع على إضمار المبتدأ، والتقدير: لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ.
(2) أخرجه مسلم (برّ حديث 46، 47، 48) .(1/116)
[الْعَنْكَبُوتِ: 43] وَفِي الْقُرْآنِ أَمْثَالٌ كَثِيرَةٌ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتُ الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بَكَيْتُ عَلَى نَفْسِي لِأَنَّ الله قال:
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ وقال مجاهد في قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها الْأَمْثَالُ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَلَامُ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ يَعْنِي هَذَا الْمَثَلُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا
كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً. وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَكَذَلِكَ قَالَ هَاهُنَا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا) يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا مِنَ المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب لَهُ مُوَافِقٌ، فَذَلِكَ إِضْلَالُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهِ، (وَيَهْدِي بِهِ) يَعْنِي بِالْمَثَلِ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فَيَزِيدُهُمْ هُدًى إِلَى هُدَاهُمْ وَإِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِمْ لِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يقينا أنه موافق لما ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا وَإِقْرَارِهِمْ بِهِ وَذَلِكَ هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ، وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ قال: يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الْكَافِرُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فَسَقُوا فَأَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَلَى فِسْقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حدثنا أبي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً يَعْنِي الْخَوَارِجَ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبِي فَقُلْتُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: فَقَالَ: هم الحرورية «1» ، وهذا الإسناد وإن صَحَّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ تَفْسِيرٌ عَلَى الْمَعْنَى لَا أَنَّ الْآيَةَ أُرِيدَ مِنْهَا التَّنْصِيصُ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ بِالنَّهْرَوَانِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا حَالَ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا هُمْ دَاخِلُونَ بِوَصْفِهِمْ فِيهَا مَعَ مَنْ دَخَلَ لِأَنَّهُمْ سموا خوارج لخروجهم عن طاعة
__________
(1) الحرورية: لقب أطلق على الخوارج، نسبة إلى حروراء، قرية قريبة من الكوفة لجئوا إليها أول ما انفضوا عن علي بن أبي طالب. ويسمون أيضا المحكمة، من أسماء الأضداد، لأنهم رفضوا التحكيم.(1/117)
الْإِمَامِ وَالْقِيَامِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَالْفَاسِقُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ أَيْضًا، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرَتِهَا، وَلِهَذَا يقال للفأرة: فويسقة لخروجها عن حجرها لِلْفَسَادِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَمْسُ فَوَاسَقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» «1» فَالْفَاسِقُ يَشْمَلُ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ، وَلَكِنَّ فِسْقَ الْكَافِرِ أَشَدُّ وَأَفْحَشُ، والمراد به مِنَ الْآيَةِ الْفَاسِقُ الْكَافِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بِدَلِيلِ أنه وصفهم بقوله تَعَالَى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتُ الْكُفَّارِ الْمُبَايِنَةُ لِصِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ [الرعد: 19- 21] إِلَى أَنْ قَالَ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرَّعْدِ: 25] وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ الَّذِي وُصِفَ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ بِنَقْضِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ هُوَ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ، وَعَهْدُ اللَّهِ الَّذِي نقضوه هو ما أخذ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُعِثَ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ هُوَ جُحُودُهُمْ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَتِهِ وَإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ وَكِتْمَانِهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْمِيثَاقَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ «2» رحمه الله وهو قول مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَعَهْدُهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ مَا وَضَعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهد إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ لِرُسُلِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا، الشَّاهِدَةِ لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ، قَالُوا: وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ: تَرْكُهُمُ الإقرار بما قد تبينت لَهُمْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ، وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ حَقٌّ. وَرُوِيَ عن مقاتل بن حيان أيضا نَحْوَ هَذَا وَهُوَ حَسَنٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْمُرَادُ بِعَهْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: مَا رَكَّزَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الحجة على
__________
(1) أخرجه البخاري (صيد باب 7 بدء الخلق باب 1) ومسلم (حجّ حديث 71، 73) والترمذي (حج باب 21) والنسائي (مناسك باب 116، 117) وأحمد في المسند (ج 6 ص 164) .
(2) تفسير الطبري 1/ 219.(1/118)
التَّوْحِيدِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ وَصَّاهُمْ بِهِ وَوَثَّقَهُ عَلَيْهِمْ، وهو معنى قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَقَالَ آخَرُونَ: العهد الذي ذكره تَعَالَى هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ الَّذِي وَصَفَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا
[الْأَعْرَافِ: 172- 173] ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ تَرْكُهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَيْضًا، حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ- إِلَى قوله- أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَالَ: هِيَ سِتُّ خِصَالٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِذَا كَانَتْ فِيهِمُ الظَّهْرَةُ «1» عَلَى النَّاسِ أَظْهَرُوا هَذِهِ الْخِصَالَ، إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا اؤْتُمِنُوا خَانُوا، وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا كَانَتِ الظَّهْرَةُ عَلَيْهِمْ أَظْهَرُوا الْخِصَالَ الثَّلَاثَ: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا اؤْتُمِنُوا خَانُوا. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَيْضًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ قَالَ: هُوَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَأَقَرُّوا بِهِ ثُمَّ كَفَرُوا فَنَقَضُوهُ.
وَقَوْلُهُ: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ صِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْقَرَابَاتُ، كَمَا فَسَّرَهُ قَتَادَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 22] وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ وَفِعْلِهِ فقطعوه وَتَرَكُوهُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَالَ: فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرَّعْدِ: 25] وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ شَيْءٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنَ اسْمٍ مِثْلِ خَاسِرٍ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ، وَمَا نَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الذَّنْبَ. وَقَالَ ابْنُ جرير «2» في قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الْخَاسِرُونَ: جَمْعُ خَاسِرٍ، وَهُمُ الناقصون أنفسهم حُظُوظَهُمْ بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ مِنْ رَحْمَتِهِ كَمَا يَخْسَرُ الرَّجُلُ فِي تِجَارَتِهِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ رَأْسِ ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خَسِرَ بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ رَحْمَتَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لِعِبَادِهِ فِي الْقِيَامَةِ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَى رَحْمَتِهِ، يُقَالُ مِنْهُ: خَسِرَ الرَّجُلُ يَخْسَرُ خَسْرًا وَخُسْرَانًا وَخَسَارًا كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ: [الرجز]
إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهْ ... أَوْلَادُ قَوْمٍ خلقوا أقنّه «3»
__________
(1) أي إذا كانت لهم الغلبة على الناس.
(2) تفسير الطبري 1/ 222.
(3) الرجز لجرير في ديوانه ص 1017 ولسان العرب (قنن) وأساس البلاغة (قنن) ؟ وديوان الأدب 3/ 35 وتاج العروس (قنن) .(1/119)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
[سورة البقرة (2) : آية 28]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي عِبَادِهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ أَيْ كَيْفَ تَجْحَدُونَ وُجُودَهُ أَوْ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ أي وقد كُنْتُمْ عَدَمًا فَأَخْرَجَكُمْ إِلَى الْوُجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور: 35- 36] وقال تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: 1] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا [غَافِرٍ: 11] قَالَ هِيَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ وَقَالَ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) : أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا حَتَّى خَلَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ مَوْتَةَ الْحَقِّ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ حِينَ يَبْعَثُكُمْ، قَالَ:
وهي مثل قوله تعالى: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قَالَ: كُنْتُمْ تُرَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكُمْ، فَهَذِهِ مَيْتَةٌ، ثُمَّ أَحْيَاكُمْ فَخَلَقَكُمْ فَهَذِهِ حَيَاةٌ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فَتَرْجِعُونَ إِلَى الْقُبُورِ فَهَذِهِ مَيْتَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهَذِهِ حَيَاةٌ أُخْرَى، فَهَذِهِ مَيْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصحابة وعن أبي العالية والحسن وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قَالَ: يُحْيِيكُمْ فِي الْقَبْرِ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قال:
خَلْقَهُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ «1» ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَامِ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ كقوله تَعَالَى قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ. وَهَذَا غَرِيبٌ وَالَّذِي قَبْلَهُ. وَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُولَئِكَ الْجَمَاعَةِ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْجَاثِيَةِ:
26] ، كما قال تعالى في الأصنام أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ [النَّحْلِ: 21] وَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] .
__________
(1) عبارة حديث ابن جرير (الطبري 1/ 224) : «خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق» .(1/120)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
[سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى دَلَالَةً مِنْ خَلْقِهِمْ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ خلق السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي قصد إلى السماء. والاستواء هاهنا مضمن مَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِقْبَالِ، لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإِلَى فَسَوَّاهُنَّ أَيْ فَخَلَقَ السَّمَاءَ سَبْعًا، وَالسَّمَاءُ هَاهُنَا اسْمُ جنس فلهذا قال فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيْ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، كَمَا قَالَ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْمُلْكِ: 14] وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ وَهُوَ قوله تعالى قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فُصِّلَتْ: 9- 12] فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بخلق الأرض أولا ثم خلق السموات سَبْعًا، وَهَذَا شَأْنُ الْبِنَاءِ أَنْ يَبْدَأَ بِعِمَارَةِ أَسَافِلِهِ ثُمَّ أَعَالِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النَّازِعَاتِ: 27- 33] فَقَدْ قِيلَ إِنَّ (ثُمَّ) هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ لَا لِعَطْفِ الفعل على الفعل «1» ، كما قال الشاعر: [الخفيف]
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ «2»
وَقِيلَ إِنَّ الدحى كان بعد خلق السموات، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ سَمَاءً ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً ثُمَّ فَتَقَهَا فجعلها سبع أرضين في يومين في
__________
(1) عبارة القرطبي: «ثم» لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. (تفسير القرطبي 1/ 254) . [.....]
(2) البيت لأبي نواس في ديوانه 1/ 355 وخزانة الأدب 11/ 37 والدرر 6/ 93 وبلا نسبة في الجنى الداني ص 428 وجواهر الأدب ص 364 ورصف المباني ص 174 ومغني اللبيب 1/ 117.
والرواية المشهورة: «إن من ساد ... » .(1/121)
الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ فَخَلَقَ الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ، وَالْحُوتُ هُوَ [النُّونُ] «1» الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ ن وَالْقَلَمِ وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ فِي الرِّيحِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ، لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَ فَقَرَّتْ فَالْجِبَالُ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْلِ: 15] وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا وَأَقْوَاتَ أَهْلِهَا وَشَجَرَهَا وَمَا يَنْبَغِي لَهَا فِي يَوْمَيْنِ فِي الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَذَلِكَ حِينَ يقول قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها [فُصِّلَتْ: 9- 10] يَقُولُ أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها لِأَهْلِهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: 10] يقول: لمن يسألك: هكذا الْأَمْرُ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فُصِّلَتْ: 11] وَذَلِكَ الدُّخَانُ مِنْ تَنَفُّسِ الْمَاءِ حِينَ تَنَفَّسَ فَجَعَلَهَا سَمَاءً وَاحِدَةً ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة، إنما سُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ جُمِعَ فِيهِ خَلْقُ السموات والأرض، وأوحى في كل سماء أمرها قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ والجبال والبرد ومما لا يعلم، ثُمَّ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِالْكَوَاكِبِ فَجَعَلَهَا زِينَةً حفظا تُحْفَظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ ما أحب استوى على العرش فذلك حيث يَقُولُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الْأَعْرَافِ: 54] وَيَقُولُ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ فَخَلَقَ الْأَرَضِينَ فِي الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْأَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِيَ فِي الثُّلَاثَاءِ والأربعاء، وخلق السموات فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَى عَجَلٍ، فَتِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ «2» .
وقال مجاهد في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً قَالَ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ فَلَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ ثَارَ مِنْهَا دُخَانٌ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ... فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ قَالَ: بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بعض وسبع أرضين يعني بعضها تَحْتَ بَعْضٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ فِي سورة السجدة: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. ...
__________
(1) الزيادة من الطبري 1/ 231.
(2) تفسير الطبري 1/ 232.(1/122)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَهَذِهِ وَهَذِهِ دَالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها قَالُوا: فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذَا بِعَيْنِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ وَأَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَجَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التفسير قديما وحديثا، وقد حررنا ذلك في سُورَةِ النَّازِعَاتِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّحْيَ مُفَسَّرٌ بقوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها ففسر الدحي بأخرج مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ لما أكملت صُورَةُ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ ثُمَّ السَّمَاوِيَّةِ دَحَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَرْضَ فَأَخْرَجَتْ مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا مِنَ الْمِيَاهِ فَنَبَتَتِ النَّبَاتَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَكَذَلِكَ جَرَتْ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ فَدَارَتْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سملة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلْقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلْقَ الشَّجَرَ فِيهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَرَائِبِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ «1» ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَجَعَلُوهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبٍ، وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَجَعَلُوهُ مَرْفُوعًا، وَقَدْ حَرَّرَ ذَلِكَ البيهقي.
[سورة البقرة (2) : آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
يُخْبِرُ تَعَالَى بِامْتِنَانِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِتَنْوِيهِهِ بِذِكْرِهِمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى قَبْلَ إِيجَادِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ وَاقْصُصْ عَلَى قَوْمِكَ ذَلِكَ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ «إِذْ» هَاهُنَا زَائِدَةٌ وَأَنَّ تَقْدِيرَ
__________
(1) صحيح مسلم (منافقين حديث 27) .(1/123)
الْكَلَامِ: وَقَالَ رَبُّكَ، وَرَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَذَا رَدَّهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ هَذَا اجْتِرَاءٌ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ «2» .
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أَيْ قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جيل كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: 165] قال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النَّمْلِ: 62] وَقَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزُّخْرُفِ:
60] وَقَالَ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مَرْيَمَ: 59] وَقُرِئَ في الشاذ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً حكاها الزمخشري وغيره. ونقل الْقُرْطُبِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ «3» وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِالْخَلِيفَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى ابن عباس وابن مسعود وَجَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ بَلِ الخلاف في ذلك كثير، حكاه الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يرد آدم عينا إذ لو كان ذلك لَمَا حَسُنَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فإنهم أَرَادُوا أَنَّ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِعِلْمٍ خَاصٍّ أَوْ بِمَا فَهِمُوهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، أَوْ فَهِمُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ الذي يفصل بين الناس في ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن الْمَحَارِمَ وَالْمَآثِمَ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَوْ أَنَّهُمْ قَاسُوهُمْ عَلَى مَنْ سَبَقَ كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ هَذَا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْحَسَدِ لِبَنِي آدَمَ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ- وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ «4» أَيْ لَا يَسْأَلُونَهُ شَيْئًا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ، وَهَاهُنَا لَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا، قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِيهَا، فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ الْآيَةَ- وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَاسْتِكْشَافٍ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا مَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عِبَادَتُكَ فَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ أَيْ نُصَلِّي لَكَ كَمَا سَيَأْتِي. أَيْ وَلَا يَصْدُرُ مِنَّا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَلَّا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْنَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى الْمَفَاسِدِ التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم فإني سأجعل فيهم الأنبياء
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 232- 233.
(2) في القرطبي (1/ 262) : «هذا اجترام» . وقال: فالتقدير: وابتدأ خلقكم إذ قال. فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام، كما قال الشاعر:
فإن المنيّة من يخشها ... فسوف تصادفه أينما
قال: يريد أينما ذهب. ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره: واذكر إذ قال.
(3) العبارة غير واضحة. والحال أن القرطبي يذكر هنا أن زيد بن علي قرأ «خليقة» بالقاف.
(4) كما جاء في سورة الأنبياء، الآية 27: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.(1/124)
وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَبْرَارُ والمقربون والعلماء والعاملون وَالْخَاشِعُونَ وَالْمُحِبُّونَ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمُتَّبِعُونَ رُسُلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «1» أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا صَعِدَتْ إِلَى الرَّبِّ تعالى بأعمال عباده يسألهم وهم أَعْلَمُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَعَاقَبُونَ فينا وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَمْكُثُ هَؤُلَاءِ وَيَصْعَدُ أُولَئِكَ بِالْأَعْمَالِ كَمَا قال عليه الصلاة والسلام: «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ» فَقَوْلُهُمْ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وتركناهم هم يصلون من تفسير قوله لهم:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَقِيلَ مَعْنَى قوله تعالى جَوَابًا لَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ إني لِي حِكْمَةً مُفَصَّلَةً فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ وَالْحَالَةُ ما ذكرتم لا تعلمونها، قيل إنه جواب وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ مِنْ وُجُودِ إِبْلِيسَ بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ هُوَ كَمَا وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهِ. وَقِيلَ بَلْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ طَلَبًا مِنْهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا الْأَرْضَ بَدَلَ بَنِي آدَمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ أَنَّ بَقَاءَكُمْ فِي السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ بِبَسْطِ مَا ذَكَرْنَاهُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَمُبَارَكٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي بَكْرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالَ لَهُمْ إِنِّي فَاعِلٌ وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ «2» . وَقَالَ السُّدِّيُّ:
اسْتَشَارَ الْمَلَائِكَةَ فِي خَلْقِ آدَمَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ «3» نَحْوُهُ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ فَفِيهَا تَسَاهُلٌ «4» ، وَعِبَارَةُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَحْسَنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ وَأَوَّلُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ الْمَلَائِكَةُ. فَقَالَ اللَّهُ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، يَعْنِي مَكَّةَ» وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ وَفِيهِ مُدْرَجٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ مَكَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) البخاري (بدء الخلق باب 6) والنسائي (صلاة باب 21) وموطأ مالك (سفر حديث 82) .
(2) تفسير الطبري 1/ 235.
(3) تفسير الطبري 1/ 246.
(4) التساهل لجهة الاستشارة.(1/125)
خَلِيفَةً قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
قَالُوا: رَبَّنَا وما يكون ذاك الْخَلِيفَةُ؟ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مِنِّي يَخْلُفُنِي فِي الحكم بالعدل بَيْنَ خَلْقِي وَإِنَّ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ هُوَ آدَمُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَأَمَّا الْإِفْسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا فَمِنْ غَيْرِ خُلَفَائِهِ. قَالَ ابْنُ جرير: وإنما مَعْنَى الْخِلَافَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ، إِنَّمَا هِيَ خلافة قرن منهم قرنا، قال: والخليفة الفعلية مِنْ قَوْلِكَ: خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يُونُسَ: 14] ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلسُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ خَلِيفَةٌ لِأَنَّهُ خَلَفَ الذي كان قبله فقام بالأمر مكانه فَكَانَ مِنْهُ خَلَفًا، قَالَ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، يقول ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها خَلَفًا لَيْسَ مِنْكُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ، فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ [فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ] «1» فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه إِيَّاهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ ابْنِ سَابِطٍ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ قَالَ: يَعْنُونَ بِهِ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَأَجْعَلَ فِيهَا خَلِيفَةً، وليس لله عز وجل [يومئذ] «2» خَلْقٌ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَرْضُ لَيْسَ فِيهَا خَلْقٌ، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها «3» . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ الله أعلم الملائكة بما تفعله ذُرِّيَّةُ آدَمَ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَّ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ بَنِي آدَمَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ فَقَاسُوا هَؤُلَاءِ بِأُولَئِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ الْجِنُّ بَنُو الْجَانِّ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ آدَمُ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، فَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ فَبَعَثَ اللَّهُ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَضَرَبُوهُمْ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟ قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تعلمون. وقال
__________
(1) الزيادة من الطبري.
(2) الزيادة من الطبري. [.....]
(3) تفسير الطبري 1/ 236- 237.(1/126)
أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عن أبي العالية فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَخَلْقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهْبِطُ إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم فَكَانَتِ الدِّمَاءُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا كَمَا أَفْسَدَتِ الْجِنُّ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كَمَا سَفَكُوا. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ:
قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، قَالَ لَهُمْ: إِنِّي فَاعِلٌ، فَآمَنُوا بربهم فعلمهم علما وطوى عِلْمًا عَلِمَهُ وَلَمْ يَعْلَمُوهُ، فَقَالُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟ قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْجِنَّ كَانُوا فِي الْأَرْضِ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، فَقَالُوا بِالْقَوْلِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا هِشَامٌ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْرُوفٍ يَعْنِي ابْنَ خَرَّبُوذَ الْمَكِّيَّ عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: السِّجِلُّ مَلَكٌ «1» ، وَكَانَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَكَانَ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُ لَمَحَاتٍ يَنْظُرُهُنَّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَنَظَرَ نَظْرَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ فَأَبْصَرَ فِيهَا خَلْقَ آدَمَ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ فَأَسَرَّ ذَلِكَ إِلَى هَارُوتَ وماروت وكانا في أَعْوَانِهِ فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. قَالَا ذَلِكَ اسْتِطَالَةً عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَاقِرِ فَهُوَ نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ تُوجِبُ رَدَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ إِنَّمَا كَانُوا اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَهُوَ خِلَافُ السِّيَاقِ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ كَانُوا عَشْرَةَ آلَافٍ فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَأَحْرَقَتْهُمْ، وَهَذَا أَيْضًا إِسْرَائِيلِيٌّ مُنْكَرٌ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وإنما تَكَلَّمُوا بِمَا أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ خَلْقِ آدَمَ فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَالَتْ (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُمْ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَسَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالَتْ عَلَى التَّعَجُّبِ منها: وكيف
__________
(1) هو المذكور في سورة الأنبياء، الآية 104 يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ. قَالَ الزمخشري في الكشاف 1/ 108: وقيل: السجل ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه.
(2) تفسير الطبري 1/ 245.(1/127)
يَعْصُونَكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ خَالِقُهُمْ؟ فَأَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ، وَمَنْ بَعْضُ مَنْ تَرَوْنَهُ لِي طَائِعًا. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الاسترشاد عما لم يعلموه مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَبِّ خَبِّرْنَا- مسألة اسْتِخْبَارٌ مِنْهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ «1» - وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قال: استشار الْمَلَائِكَةَ فِي خَلْقِ آدَمَ، فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ- وَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أكره عند اللَّهِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ- (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَكَانَ فِي عِلْمِ الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الْجَنَّةِ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخَذَ في خلق آدم عليه السلام قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا اللَّهُ خَالِقٌ خَلْقًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنَّا وَلَا أَعْلَمَ مِنَّا فَابْتُلُوا بِخَلْقِ آدم، وكل خلق مبتلى، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] «2» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، قال: التَّسْبِيحُ التَّسْبِيحُ «3» وَالتَّقْدِيسُ الصَّلَاةُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ ناس من الصحابة (ونحن نسبح بحمد وَنُقَدِّسُ لَكَ) قَالَ:
يَقُولُونَ: نُصَلِّي لَكَ. وَقَالَ: مُجَاهِدٌ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ، قَالَ: نُعَظِّمُكَ وَنُكَبِّرُكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: التَّقْدِيسُ التَّطْهِيرُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ، قَالَ: لَا نَعْصِي وَلَا نَأْتِي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: التَّقْدِيسُ هُوَ التَّعْظِيمُ وَالتَّطْهِيرُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ. يَعْنِي بِقَوْلِهِمْ سبوح: تنزيه لله، وبقولهم قدوس: طهارة وتعظيم له، وكذلك قِيلَ لِلْأَرْضِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُطَهَّرَةَ، فَمَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ إِذًا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ نُنَزِّهُكَ وَنُبَرِّئُكَ مِمَّا يُضِيفُهُ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ نَنْسِبُكَ إِلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِكَ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَمَا أَضَافَ إِلَيْكَ أَهْلُ الْكُفْرِ بِكَ «4» . وَفِي صَحِيحِ
__________
(1) عبارة الطبري: «لا على وجه مسألة التوبيخ» .
(2) الطبري 1/ 242. قال أبو جعفر الطبري: وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظن. ثم قال الطبري: وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل وهو ما حدثنا به الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كان الله أعلمهم إذ كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدماء.
(3) أي أن التسبيح المذكور في الآية هو عينه التسبيح المعروف.
(4) الطبري 1/ 248. وكان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده: «سبّوح قدّوس، ربّ الملائكة والروح» روته عائشة وأخرجه مسلم (القرطبي 1/ 277) .(1/128)
مسلم عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» «1» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ تَسْبِيحًا فِي السموات الْعُلَا «سُبْحَانَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» .
قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي تلك الخليفة أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ وَقَوْمٌ صَالِحُونَ وَسَاكِنُو الْجَنَّةِ. وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَقْوَالٌ فِي حِكْمَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الْخَلِيفَةِ لِيَفْصِلَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَيَقْطَعَ تَنَازُعَهُمْ وَيَنْتَصِرَ لِمَظْلُومِهِمْ مِنْ ظَالِمِهِمْ وَيُقِيمَ الْحُدُودَ وَيَزْجُرَ عَنْ تَعَاطِي الْفَوَاحِشِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي لَا تمكن إِقَامَتُهَا إِلَّا بِالْإِمَامِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَالْإِمَامَةُ تُنَالُ بِالنَّصِّ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَبِي بَكْرٍ، أَوْ بِالْإِيمَاءِ إِلَيْهِ كَمَا يَقُولُ آخَرُونَ مِنْهُمْ، أَوْ بِاسْتِخْلَافِ الْخَلِيفَةِ آخَرَ بَعْدَهُ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِتَرْكِهِ شُورَى فِي جَمَاعَةٍ صَالِحِينَ كَذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ، أَوْ بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى مُبَايَعَتِهِ أَوْ بِمُبَايَعَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَهُ فَيَجِبُ الْتِزَامُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى عَلَى ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَوْ بِقَهْرِ وَاحِدٍ النَّاسَ عَلَى طَاعَتِهِ فَتَجِبُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى الشِّقَاقِ وَالِاخْتِلَافِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشافعي. وهل يجب الإشهاد على عقد الإمام؟ فِيهِ خِلَافٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُشْتَرَطُ وَقِيلَ بَلَى وَيَكْفِي شَاهِدَانِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَجِبُ أَرْبَعَةٌ وَعَاقِدٌ وَمَعْقُودٌ لَهُ، كَمَا تَرَكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ فَوَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى عَاقِدٍ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَعْقُودٌ لَهُ وَهُوَ عُثْمَانُ، وَاسْتَنْبَطَ وُجُوبَ الْأَرْبَعَةِ الشُّهُودِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا عَدْلًا مُجْتَهِدًا بَصِيرًا سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ خَبِيرًا بِالْحُرُوبِ وَالْآرَاءِ، قُرَشِيًّا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْهَاشِمِيُّ وَلَا الْمَعْصُومُ مِنَ الْخَطَأِ خِلَافًا لِلْغُلَاةِ الرَّوَافِضِ. وَلَوْ فَسَقَ الْإِمَامُ هَلْ يَنْعَزِلُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا «2» عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» وَهَلْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ؟
فِيهِ خِلَافٌ. وَقَدْ عَزَلَ الْحَسَنُ بن علي رضي الله عنه نَفْسَهُ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، لَكِنْ هَذَا لِعُذْرٍ، وَقَدْ مُدِحَ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يَجُوزُ لقوله عليه الصلاة
__________
(1) صحيح مسلم (كتاب الذكر والدعاء، حديث 84) .
(2) أي جهارا. من قولهم: باح بالشيء، إذا أعلنه. وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (إمارة حديث 42) . قال النووي: معنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام. فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم.
وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين.(1/129)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
وَالسَّلَامُ «مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ» وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ «1» يجوز اثنان فَأَكْثَرَ، كَمَا كَانَ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ إِمَامَيْنِ «2» وَاجِبَيِ الطَّاعَةِ، قَالُوا: وَإِذَا جَازَ بَعْثُ نَبِيَّيْنِ فِي وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام لِأَنَّ النُّبُوَّةَ أَعْلَى رُتْبَةً بِلَا خِلَافٍ. وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ جَوَّزَ نَصْبَ إِمَامَيْنِ فَأَكْثَرَ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْأَقْطَارُ وَاتَّسَعَتِ الْأَقَالِيمُ بَيْنَهُمَا، وَتَرَدَّدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذلك. قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْعِرَاقِ وَالْفَاطِمِيِّينَ بِمِصْرَ وَالْأُمَوِيِّينَ بِالْمَغْرِبِ ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى «3» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
هَذَا مَقَامٌ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ شرف آدم على الملائكة بما اختصه مِنْ عِلْمِ أَسْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ دُونَهُمْ، وَهَذَا كَانَ بَعْدَ سُجُودِهِمْ لَهُ وَإِنَّمَا قَدَّمَ هَذَا الفصل على ذلك لمناسبة ما بين الْمَقَامِ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحِكْمَةِ خَلْقِ الْخَلِيفَةِ حِينَ سألوا عن ذلك، فأخبرهم تَعَالَى بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلِهَذَا ذكر الله هَذَا الْمَقَامَ عَقِيبَ هَذَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ فقال تعالى:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.
قال السُّدِّيُّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها قال: علمه أَسْمَاءَ وَلَدِهِ إِنْسَانًا إِنْسَانًا وَالدَّوَابِّ فَقِيلَ: هَذَا الْحِمَارُ، هَذَا الْجَمَلُ، هَذَا الْفَرَسُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها قَالَ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ وَسَمَاءٌ وَأَرْضٌ وَسَهْلٌ وَبَحْرٌ وخيل وَحِمَارٌ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
__________
(1) الكرامية: فرقة من أهل السنة تنسب إلى محمد بن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي ببيت المقدس سنة 869 م. والكرامية مجسمون يذهبون إلى أن الله محدود من جهة العرش، وأن شيئا لا يحدث في العالم قبل حدوث أعراض في ذاته. تعددت فروعهم دون اختلاف في الأصول، وعرفوا بالزهد والتقوى، وكثر أتباعهم في خراسان وما وراء النهر وبيت القدس حتى أوائل القرن الثالث عشر.
(2) الحال أن معاوية لم يدّع الإمامة لنفسه وإنما ادّعى ولاية الشام.
(3) بسط القرطبي هذه الأمور المتعلقة بالإمام في تفسيره 1/ 261- 272.(1/130)
قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّحْفَةِ وَالْقِدْرِ، قَالَ نَعَمْ حَتَّى الْفَسْوَةَ وَالْفُسَيَّةَ «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ دَابَّةٍ وكل طير وكل شيء. كذلك رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. وقال الربيع في رواية عنه «2» قال: أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ حُمَيْدٌ الشَّامِيُّ: أَسْمَاءُ النُّجُومِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ كُلِّهِمْ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أسماء الملائكة وأسماء الذرية [دون أسماء سائر أجناس الخلق] «3» لِأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ عَرَضَهُمْ. وَهَذَا عِبَارَةٌ عَمَّا يَعْقِلُ «4» . وَهَذَا الَّذِي رَجَّحَ بِهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَيُعَبَّرَ عَنِ الْجَمِيعِ بِصِيغَةِ مَنْ يَعْقِلُ لِلتَّغْلِيبِ كما قال تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النُّورِ: 45] وَقَدْ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ثُمَّ عَرَضَهُنَّ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بن كعب: ثم عرضها أي المسميات. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ذَوَاتَهَا وصفاتها وَأَفْعَالَهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَتَّى الْفَسْوَةَ وَالْفُسَيَّةَ، يَعْنِي أَسْمَاءَ الذَّوَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُكَبَّرُ وَالْمُصَغَّرُ. وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ في كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبراهيم حدثنا هشام عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حدثنا سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هناكم «5» ، ويذكر ذنبه فيستحي. ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فيستحي.
فَيَقُولُ ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَقُولُ: ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نفس فيستحي مِنْ رَبِّهِ. فَيَقُولُ: ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيأذن لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ فإذا رأيت ربي
__________
(1) أخرج الطبري أربعة أحاديث بنحو هذا عن ابن عباس من طريق عاصم بن كليب. (الطبري 1/ 252- 253) .
(2) الإسناد في الطبري: حدّثت عن عمار، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أبيه عن الربيع. [.....]
(3) الزيادة من الطبري 1/ 253.
(4) قال الطبري موضحا رأيه ومدعما هذا الاختيار: ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بين آدم والملائكة.
(5) لست هناكم: لست أهلا لذلك.(1/131)
مِثْلَهُ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثم أعود الثالثة ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ» هَكَذَا سَاقَ الْبُخَارِيُّ «1» هَذَا الْحَدِيثَ هَاهُنَا، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «2» وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، وَوَجْهُ إِيرَادِهِ هَاهُنَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ» . فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ يَعْنِي الْمُسَمَّيَاتُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ: عَرَضَ أَصْحَابَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي بَكْرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ قَالَا: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ أُمَّةً أُمَّةً «3» . وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنِّي لَمْ أَخْلُقْ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أني لَمْ أَجْعَلْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ مَنْ عَرَضْتُهُ عليكم أيها الملائكة القائلون أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ مِنْ غَيْرِنَا أَمْ مِنَّا فَنَحْنُ نَسْبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قِيلِكُمْ إِنِّي إِنْ جَعَلْتُ خَلِيفَتِي فِي الْأَرْضِ مِنْ غيركم عصاني ذريته وأفسدوا فيها وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَإِنْ جَعَلَتُكُمْ فِيهَا أَطَعْتُمُونِي وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرِي بِالتَّعْظِيمِ لِي وَالتَّقْدِيسِ، فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَضْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ [من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعلمه غيركم بتعليمي إياه] «4» فَأَنْتُمْ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مِنَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ أَحْرَى أَنْ تَكُونُوا غير عالمين.
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة 2 باب 1) .
(2) صحيح مسلم (إيمان حديث 322- 324) . وأحاديث مسلم الثلاثة المذكورة هي عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعة.
(3) الطبري 1/ 255.
(4) بين معقوفين من الطبري. ومكانه في الأصل: «وأنتم تشاهدونهم» .(1/132)
قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ هَذَا تَقْدِيسٌ وَتَنْزِيهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَأَنْ يَعْلَمُوا شَيْئًا إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أَيِ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ الْحَكِيمُ فِي خَلْقِكَ وَأَمْرِكَ وَفِي تَعْلِيمِكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْعِكَ مَنْ تَشَاءُ لَكَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَالْعَدْلُ التَّامُّ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ تَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنِ السوء، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لَعَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا سُبْحَانَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: كَلِمَةٌ أَحَبَّهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَهَا وَأَحَبَّ أَنْ تُقَالَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ عن سبحان الله، قال: اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ، وَيُحَاشَى بِهِ مِنَ السوء.
قوله تَعَالَى: قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: قال: أنت جبرائيل أَنْتَ مِيكَائِيلُ أَنْتَ إِسْرَافِيلُ حَتَّى عَدَّدَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا حَتَّى بَلَغَ الْغُرَابَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قول الله قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قَالَ اسْمُ الْحَمَامَةِ وَالْغُرَابِ وَاسْمُ كُلِّ شَيْءٍ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَمَّا ظهر آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي سَرْدِهِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَيْ أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكُمْ أَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ الظَّاهِرَ والخفي كما قال تَعَالَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: 7] وكما قال إِخْبَارًا عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 25- 26] وقيل في قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالَ يَقُولُ: أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ يَعْنِي مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: قَوْلُهُمْ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ الآية، فَهَذَا الَّذِي أَبْدَوْا وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يَعْنِي مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالثَّوْرِيُّ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُهُمْ: لَمْ يَخْلُقْ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فكان الذي أبدوا هو قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء، وكان الذي كتموا بينهم هو قَوْلَهُمْ:
لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا نحن أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ، فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي(1/133)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ، فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: كَمَا لَمْ تَعْلَمُوا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَلَيْسَ لَكُمْ عِلْمٌ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَهُمْ لِيُفْسِدُوا فِيهَا، هَذَا عِنْدِي قَدْ عَلِمْتُهُ وَلِذَلِكَ أَخْفَيْتُ عَنْكُمْ أَنِّي أَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يَعْصِينِي وَمَنْ يُطِيعُنِي، قَالَ: وقد سبق مِنَ اللَّهِ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هُودٍ: 119] قَالَ: وَلَمْ تَعْلَمِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوهُ، فقال: فلما رَأَوْا مَا أَعْطَى اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْعِلْمِ أَقَرُّوا لَهُ بِالْفَضْلِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَعْلَمُ، مَا تُبْدُونَ وأعلم مع علمي غيب السموات وَالْأَرْضِ، مَا تُظْهِرُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ في أنفسكم، فلا يخفى علي أي شَيْءٌ سَوَاءٌ عِنْدِي سَرَائِرُكُمْ وَعَلَانِيَتُكُمْ. وَالَّذِي أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا، وَالَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُنْطَوِيًا إِبْلِيسُ مِنَ الْخِلَافِ عَلَى اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ وَالتَّكَبُّرِ عَنْ طَاعَتِهِ، قَالَ: وَصَحَّ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قُتِلَ الْجَيْشُ وَهُزِمُوا، وَإِنَّمَا قُتِلَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ وَهُزِمَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ، فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ عَنِ الْمَهْزُومِ مِنْهُ وَالْمَقْتُولِ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ جَمِيعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ [الْحُجُرَاتِ: 4] ذُكِرَ أَنَّ الَّذِي نَادَى إِنَّمَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «1» .
[سورة البقرة (2) : آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
وَهَذِهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ امْتَنَّ بِهَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ الْمُتَقَدِّمِ، وَحَدِيثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ «رَبِّ أَرِنِي آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ قَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ له ملائكته» وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ اسْمُهُ الْحَارِثُ، وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَخُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الْحَيِّ، قَالَ: وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فيه طرفها إذا ألهبت. قَالَ: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ، فَأَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ فَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ:
فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ «2» فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ
__________
(1) الطبري 1/ 260- 261.
(2) كذا أيضا في الطبري: «الجن» بالجيم. وقد خطأه الأستاذ محمود شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري (طبقة دار المعارف بمصر) وقال إن الصواب «الحن» بالحاء المهملة، مستشهدا بسياق الأثر الذي ميز بين إبليس وبين الجن. فإبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وقد قال الجاحظ في الحيوان 7/ 177: وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جنّ (بالجيم) وحنّ (بالحاء) ، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في موضع آخر من كتاب الحيوان (1/ 291- 292) : وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان. وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك:
إن تكتبوا الزّمنى فإني لزمن ... من ظاهر الداء وراء مستكنّ
أبيت أهوي في شياطين ترنّ ... مختلف نجارهم جنّ وحنّ(1/134)
وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ فَلَمَّا فَعَلَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ اغْتَرَّ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَاطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قلبه ولم تطلع عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فَقَالَ اللَّهُ للملائكة الذين كانوا مَعَهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةِ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كَمَا أَفْسَدَتِ الْجِنُّ وَسَفَكَتِ الدِّمَاءَ، وَإِنَّمَا بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال الله تعالى. إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَقُولُ: إِنِّي اطَّلَعْتُ مِنْ قَلْبِ إِبْلِيسَ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ، مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ من طين لازب، واللازب اللازج الصَّلْبُ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ مُنْتِنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ، فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَسَدًا مُلْقًى، وكان إِبْلِيسُ يَأْتِيهِ فَيَضْرِبُهُ بِرِجْلِهِ فَيُصَلْصِلُ [أَيْ] فَيُصَوِّتُ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ يَقُولُ كَالشَّيْءِ الْمُنْفَرِجِ الَّذِي لَيْسَ بِمُصْمَتٍ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ فِي فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتَ شَيْئًا لِلصَّلْصَلَةِ وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْتَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكَ لَأُهْلِكَنَّكَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلَيَّ لِأَعْصِيَنَّكَ، قَالَ: فَلَمَّا نفخ الله فيه رُوحِهِ أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَجَعْلَ لَا يَجْرِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، فَلَمَّا انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ جَسَدِهِ فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قول الله تعالى (وخلق الإنسان عجولا) قال: ضجرا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ قَالَ: فَلَمَّا تَمَّتِ النَّفْخَةُ فِي جَسَدِهِ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بِإِلْهَامِ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ «يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمَ» قال: ثم قال تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ لِمَا كَانَ حَدَّثَ نَفْسَهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ، فَقَالَ: لَا أَسْجُدُ لَهُ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْبَرُ سِنًّا وَأَقْوَى خَلْقًا، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، يَقُولُ: إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ، قَالَ: فَلَمَّا أَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ أَبْلَسَهُ اللَّهُ، أَيْ آيَسَهُ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا عُقُوبَةً لِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ وَأَرْضٌ وَسَهْلٌ وَبَحْرٌ وَجَبَلٌ وَحِمَارٌ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ عَرَضَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ الَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَقَالَ لَهُمْ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ أي يقول(1/135)
أَخْبِرُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنْ كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة، قَالَ:
فَلَمَّا عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مَوْجِدَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ قالُوا سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرَهُ وَتُبْنَا إِلَيْكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا تَبَرِّيًا مِنْهُمْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا كَمَا عَلَّمْتَ آدَمَ فَقَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ يقول: أخبرهم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَا يَعْلَمُ غَيْرِي وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ يَقُولُ مَا تُظْهِرُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يَقُولُ: أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ، يَعْنِي مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ. هَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ أَشْيَاءُ فِيهَا نَظَرٌ يَطُولُ مُنَاقَشَتُهَا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يُرْوَى بِهِ تَفْسِيرٌ مَشْهُورٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
فَجَعَلَ إِبْلِيسَ عَلَى مُلْكِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ الكبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لميزة لِي عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ الْكِبْرُ فِي نَفْسِهِ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فقالوا: رَبَّنَا وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ؟ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالُوا: رَبَّنَا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي مِنْ شَأْنِ إِبْلِيسَ. فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص «1» مِنِّي أَوْ تَشِينَنِي، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: يا رب إنها عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا، فَبَعَثَ مِيكَائِيلُ فَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بالله أو أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَخَلَطَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا، وَاللَّازِبُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ «2» ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: 71- 72] فخلفه اللَّهُ بِيَدِهِ لِئَلَّا يَتَكَبَّرَ إِبْلِيسُ عَنْهُ لِيَقُولَ لَهُ: تَتَكَبَّرُ عَمَّا عَمِلْتُ بِيَدِي وَلَمْ أَتَكَبَّرْ أَنَا عَنْهُ؟ فَخَلَقَهُ بَشَرًا، فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ، فكان أَشَدُّهُمْ فَزَعًا مِنْهُ إِبْلِيسُ فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ فَيَضْرِبُهُ فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ وَتَكُونُ له
__________
(1) في الأصل «تقبض» . وما أتيناه من الطبري.
(2) بعد هذا في رواية الطبري: «ثم ترك حتى أنتن وتغيّر. وذلك حين يقول مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:
28]- قال: منتن» .(1/136)
صَلْصَلَةٌ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن: 14] يقول: لأمر ما خلقت، ودخل من فيه وخرج مِنْ دُبُرِهِ وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا أَجْوَفُ، لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الروح، قال الملائكة: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ «رَحِمَكَ رَبُّكَ» فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح إلى جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ فَذَلِكَ حين يقول الله تَعَالَى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 37] فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يكون مع الساجدين، أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي؟ قَالَ:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين. قال الله له: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ يَعْنِي مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 13] وَالصَّغَارُ هُوَ الذُّلُّ، قَالَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، فَقَالُوا: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالَ:
قَوْلُهُمْ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فَهَذَا الَّذِي أَبْدَوْا وَأَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ يَعْنِي مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ «1» ، فَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ مَشْهُورٌ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ وَيَقَعُ فِيهِ إِسْرَائِيلِيَّاتُ كَثِيرَةٌ، فَلَعَلَّ بَعْضَهَا مُدْرَجٌ «2» لَيْسَ مِنْ كلام الصحابة، أو أنهم أخذوا مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ «3» . وَالْحَاكِمُ يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه ويقول أشياء ويقول عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، دَخَلَ إِبْلِيسُ فِي خِطَابِهِمْ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُنْصُرِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَتَوَسَّمَ بِأَفْعَالِهِمْ، فَلِهَذَا دَخَلَ فِي الْخِطَابِ لَهُمْ وَذُمَّ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَسَنَبْسُطُ الْمَسْأَلَةَ إِنَّ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
__________
(1) خبر السدّي بالإسناد المذكور نقله الطبري في تفسيره 1/ 240- 241.
(2) حديث مدرج: هو الحديث الذي يرويه الراوي فيذكر في آخره كلاما لنفسه أو لغيره من غير فصل أو تمييز، فيأتي بعده من يرويه متصلا متوهما أنه من أصل الحديث.
(3) الإسناد المذكور الذي أورده السدي في تفسيره «عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ الصحابة» هو من أكثر الأسانيد دورانا في تفسير الطبري، علما أن الطبري نفسه قد ارتاب به ولكنه لم يبيّن علّة ارتيابه. وللاستاذ محمود شاكر بحث وتدقيق ورأي حول هذا الأمر، فانظر تفسير الطبري (طبعة دار المعارف) 1/ 156- 160 (حاشية طويلة استغرقت نحو 4 صفحات) . [.....](1/137)
[الكهف: 50] ولذا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ خَلَّادٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُهُ عَزَازِيلُ وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يسمونه جِنًّا «1» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ خَلَّادٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ طَاوُسٍ أَوْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ يَعْنِي ابْنَ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشرف الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَوِي الْأَجْنِحَةِ الْأَرْبَعَةِ، ثُمَّ أَبْلَسَ بَعْدُ. وَقَالَ سُنَيْدٌ، عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمُهُمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الْأَرْضِ «2» . وَهَكَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَوَاءً. وَقَالَ صَالِحٌ مولى التوأمة «3» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ: وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ، وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعَصَى، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» . وَقَالَ قتادة عن سعد بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ مَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا «5» . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ. وَهَذَا الإسناد صَحِيحٌ عَنِ الْحَسَنِ. وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ سَوَاءً. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُوسَى بْنِ نُمَيْرٍ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَامِلٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ الْجِنَّ فَسُبِيَ إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد مَعَهَا فَلَمَّا أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ سَجَدُوا، فَأَبَى إِبْلِيسُ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الْقَزَّازُ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا فَقَالَ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ خَلْقًا آخَرَ فَقَالَ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ اسْجُدُوا لِآدَمَ قَالَ: فأبوا فبعث الله عليهم نارا
__________
(1) كذا أيضا في الطبري 1/ 162: «جنا» - بالجيم. وصوابه بالحاء المهملة. راجع ص 130 حاشية 2.
(2) هذا الخبر في الطبري 1/ 503. وفيه زيادة عما هنا: «قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَوْلُهُ: كانَ مِنَ الْجِنِّ إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها، كما يقال للرجل مكي ومدني وكوفي وبصري» .
(3) هو صالح بن نبهان (أبي صالح) المتوفى نحو 125 هـ. من الطبقة الرابعة. أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة. صدوق، اختلط بآخره، فقال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج. وقد أخطأ من زعم أن البخاري أخرج له. (موسوعة رجال الكتب التسعة 2/ 168) .
(4) تفسير الطبري 1/ 264.
(5) أخرجه الطبري 1/ 262.(1/138)
فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، قَالُوا: نَعَمْ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ «1» - وَهَذَا غَرِيبٌ وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ إِسْنَادُهُ فَإِنَّ فِيهِ رَجُلًا مُبْهَمًا «2» وَمِثْلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مِنَ الَّذِينَ أَبَوْا فَأَحْرَقَتْهُمُ النار. وقال أبو جعفر رضي الله عنه عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ يَعْنِي مِنَ الْعَاصِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْلُقْهُمُ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ يكونون بعد. وقال محمد بن كعب القرضي: ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ إِبْلِيسَ عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الْكُفْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ. وقال قتادة في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَكَانَتِ الطَّاعَةُ لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كَانَ هَذَا سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَإِكْرَامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً، وَقالَ يَا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يُوسُفَ: 100] وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَلَكِنَّهُ نُسِخَ فِي مِلَّتِنَا. قَالَ مُعَاذٌ: قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ، فَقَالَ: «لَا لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» «3» وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَتِ السَّجْدَةُ لِلَّهِ وَآدَمُ قِبْلَةٌ فِيهَا، كما قال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: 78] وَفِي هَذَا التَّنْظِيرِ نَظَرٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَالسَّجْدَةَ لِآدَمَ إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَسَلَامًا، وَهِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهَا امْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَوَّاهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَضَعَّفَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَهُمَا كَوْنُهُ جُعِلَ قِبْلَةً إِذْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَرَفٌ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّجُودِ الْخُضُوعُ لَا الِانْحِنَاءُ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قال. وقال قتادة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ حَسَدَ عَدُوُّ اللَّهِ إبليس آدم عليه السلام ما أعطاه مِنَ الْكَرَامَةِ، وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، وَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، اسْتَكْبَرَ عَدُوُّ اللَّهِ أن يسجد لآدم عليه السلام. قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ مِنْ خردل من كبر» «4» وقد كان في إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ مَا اقْتَضَى طَرْدَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ جَنَابِ الرَّحْمَةِ وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، قال بعض
__________
(1) الطبري 1/ 264.
(2) قوله: «عن رجل عن عكرمة» .
(3) أخرجه أبو داود (نكاح باب 40) والترمذي (رضاع باب 10) وابن ماجة (نكاح باب 4) وأحمد في المسند (ج 5 ص 248) .
(4) أخرجه مسلم (إيمان حديث 148، 149) .(1/139)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
الْمُعْرِبِينَ «1» : وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أَيْ وَصَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ امْتِنَاعِهِ كَمَا قَالَ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هُودٍ: 43] وَقَالَ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 35] وقال الشاعر: [الطويل] بِتَيْهَاءَ قَفْرٌ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا. قَطَا الْحُزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا «2» أَيْ قَدْ صَارَتْ. وَقَالَ ابن فورك: [ «كان» هنا بمعنى «صار» خطأ تردّه الأحول. وقال جمهور المتأوّلين «3» ] تَقْدِيرُهُ وَقَدْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَذَكَرَ هَاهُنَا مَسْأَلَةً فَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا مَنْ أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَرَامَاتٍ وَخَوَارِقَ لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وِلَايَتِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ، هَذَا لَفْظُهُ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قال بقوله: ولما اتفقنا على أننا بِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِهَذَا الَّذِي جَرَى الْخَارِقُ على يديه أن يُوَافِي اللَّهَ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ لَا يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ، علم أن ذلك ليس يدلّ على ولايته لله «4» قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِ الْوَلِيِّ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدِ الْفَاجِرِ وَالْكَافِرِ أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ صَيَّادٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الدُّخُّ حِينَ خَبَّأَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ وَبِمَا كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْلَأُ الطَّرِيقَ إِذَا غَضِبَ حَتَّى ضَرَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر، وبما ثبت بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنِ الدَّجَّالِ بِمَا يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أَنَّهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتُ، وَتَتْبَعُهُ كُنُوزُ الْأَرْضِ مِثْلَ الْيَعَاسِيبِ، وَأَنَّهُ يَقْتُلُ ذَلِكَ الشَّابَّ ثُمَّ يُحْيِيهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَهُولَةِ. وَقَدْ قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَصَرَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ «5» . وَقَدْ حَكَى الرازي وَغَيْرُهُ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ: هَلِ الْمَأْمُورُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض، وَقَدْ رَجَّحَ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ طَائِفَةٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْعُمُومُ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مُقَوِّيَةٌ لِلْعُمُومِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 36]
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
__________
(1) أي بعض المفسرين أو المتأولين.
(2) البيت لعمرو بن أحمر في ديوانه ص 119 والحيوان 5/ 575 وخزانة الأدب 9/ 201 ولسان العرب (عرض، كون) . وله أو لابن كنزة في شرح شواهد الإيضاح ص 525 وبلا نسبه في أسرار العربية ص 137 وشرح الأشموني 1/ 111؟ والمعاني الكبير 1/ 313 والقرطبي 1/ 296.
(3) الزيادة من القرطبي 1/ 297. وهي ضرورية لصحة العبارة.
(4) عبارة الأصل: «لذلك يَعْنِي وَالْوَلِيُّ الَّذِي يُقْطَعُ لَهُ بِذَلِكَ فِي نفس الأمرة، وهي غير واضحة. وما أثبتناه عن القرطبي، وكذا الزيادة قبل هذا بين معقوفين.
(5) كذا بالأصل. ولا فرق بين عبارتي الليث والشافعي، فتأمل. [.....](1/140)
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَ بِهِ آدم: أنه أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وأنه أباح له الْجَنَّةَ يَسْكُنُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ وَيَأْكُلُ مِنْهَا مَا شَاءَ رَغَدًا أَيْ هَنِيئًا وَاسِعًا طَيِّبًا. وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الدَّامَغَانِيِّ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مِيكَائِيلَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَيْتَ آدَمَ، أَنَبِيًّا كَانَ؟
قَالَ: «نَعَمْ نَبِيًّا رَسُولًا كَلَّمَهُ الله قبيلا» - يعني عيانا- فَقَالَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ أَهِيَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَيْثُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ مُعَاتَبَةِ إِبْلِيسَ أَقْبَلَ عَلَى آدَمَ وَقَدْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا فَقَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ: ثُمَّ أُلْقِيَتِ السِّنَةُ «1» عَلَى آدَمَ فِيمَا بَلَغَنَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ مِنْ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَلَأَمَ مَكَانَهُ لَحْمًا، وَآدَمُ نَائِمٌ لَمْ يَهُبَّ مِنْ نَوْمِهِ حَتَّى خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ تِلْكَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءُ فَسَوَّاهَا امْرَأَةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كُشِفَ عَنْهُ السِّنَةُ وَهَبَّ مِنْ نَوْمِهِ رَآهَا إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ، فِيمَا يَزْعُمُونَ وَاللَّهُ أعلم: «لحمي ودمي وزوجتي» فَسَكَنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا زَوَّجَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ سكنا من نفسه قال له قبيلا: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «2» .
وَيُقَالُ إِنَّ خَلْقَ حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السُّدِّيُّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ وعن ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أُخْرِجُ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشًا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهِ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ، فَسَأَلَهَا: مَا أَنْتِ؟ قَالَتِ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟
قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ. قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ، قَالَ: حَوَّاءُ، قَالُوا: وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لأنها خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ. قَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَهُوَ اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٌ لِآدَمَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ مَا هِيَ، فَقَالَ السُّدِّيُّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ عليه
__________
(1) السّنة: النعاس.
(2) الأثر في الطبري 1/ 267.(1/141)
السَّلَامُ هِيَ الْكَرْمُ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَجَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ هِيَ الْكَرْمُ «1» . وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَبُو عُمَرَ الْخَرَّازُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ السُّنْبُلَةُ «2» . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عن المنهال بن عمر عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ السُّنْبُلَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ الْبُرُّ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا آدَمُ وَالشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ عِنْدَهَا آدَمُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْجَلْدِ: سَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ وَهِيَ السُّنْبُلَةُ، وَسَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ عِنْدَهَا آدَمُ وَهِيَ الزَّيْتُونَةُ «3» . وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوفِيُّ وَأَبُو مَالِكٍ وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هِيَ الْبُرُّ، وَلَكِنَّ الْحَبَّةَ منها في الجنة ككلى البقر وألين مِنَ الزُّبْدِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ «4» . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَصِينٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ قَالَ النَّخْلَةُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ قال التينة «5» .
وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أبي العالية: كانت شجرة مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ «6» . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: لَمَّا أَسْكَنَ اللَّهُ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ الْجَنَّةَ وَنَهَاهُ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَكَانَتْ شَجَرَةً غُصُونُهَا مُتَشَعِّبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ لَهَا ثَمَرٌ تَأْكُلُهُ الْمَلَائِكَةُ لخلدهم وهي الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ.
فَهَذِهِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل ثَنَاؤُهُ: نَهَى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ دُونَ سَائِرِ أَشْجَارِهَا فَأَكَلًا مِنْهَا وَلَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِأَيِّ شَجَرَةٍ كَانَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ
__________
(1) الطبري 1/ 269- 270 والدر المنثور 1/ 107.
(2) الطبري 1/ 268.
(3) الطبري 1/ 269.
(4) رواه السيوطي في الدر المنثور 1/ 107. قال: وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
(5) الذي أخرجه ابن جرير بهذا المعنى هو عن ابن جريج عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الطبري 1/ 270) .
وعن مجاهد أخرجه أبو الشيخ، وعن قتادة أخرجه ابن أبي حاتم (الدر المنثور 1/ 107) .
(6) الرازي 3/ 6.(1/142)
لِعِبَادِهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْبُرِّ وَقِيلَ كَانَتْ شَجَرَةَ الْعِنَبِ وَقِيلَ كَانَتْ شَجَرَةَ التِّينِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْهَا، وذلك علم إذا علم لم يَنْفَعُ الْعَالِمَ بِهِ عِلْمُهُ، وَإِنْ جَهِلَهُ جَاهِلٌ لَمْ يَضُرَّهُ جَهْلُهُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ رجح الإبهام الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عَنْهَا عَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ فيكون معنى الكلام كما قرأ عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي النَّجُودِ: فأزالهما أي فنحاهما وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ الشَّجَرَةُ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا قَالَ الحسن وقتادة:
فأزلهما أي من قبل الزَّلَلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أَيْ بِسَبَبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذَّارِيَاتِ: 9] أَيْ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ أَيْ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَنْزِلِ الرَّحْبِ وَالرِّزْقِ الْهَنِيءِ وَالرَّاحَةِ.
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أَيْ قَرَارٌ وَأَرْزَاقٌ وَآجَالٌ- إلى حين- أي إلى وقت وَمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ تَقُومُ الْقِيَامَةُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ كَالسُّدِّيِّ بِأَسَانِيدِهِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمْ هَاهُنَا أَخْبَارًا إِسْرَائِيلِيَّةً عَنْ قِصَّةِ الْحَيَّةِ وَإِبْلِيسَ، وَكَيْفَ جَرَى مِنْ دُخُولِ إِبْلِيسَ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَسَنَبْسُطُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهُنَاكَ الْقِصَّةُ أَبْسَطُ مِنْهَا هَاهُنَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ «1» فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ فَأَخَذَتْ شَعْرَهُ شَجَرَةٌ فَنَازَعَهَا فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ» فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ لَا، وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً. قَالَ: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا ذَاقَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ فَرَّ هَارِبًا فَتَعَلَّقَتْ شَجَرَةٌ بِشَعْرِهِ فَنُودِيَ: يَا آدَمُ أَفِرَارًا مِنِّي؟ قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ، قَالَ: يَا آدَمُ اخْرُجْ مِنْ جِوَارِي فَبِعِزَّتِي لَا يُسَاكِنُنِي فِيهَا مَنْ عَصَانِي، وَلَوْ خَلَقْتُ مِثْلَكَ مِلْءَ الْأَرْضِ خَلْقًا ثُمَّ عَصَوْنِي لَأَسْكَنْتُهُمْ دَارَ الْعَاصِينَ» «2» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَلْ إِعْضَالٌ «3» بَيْنَ قَتَادَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كعب رضي الله
__________
(1) السحوق: الطويل.
(2) رواه السيوطي في الدر المنثور 1/ 109 قال: وأخرجه ابن إسحاق في المبتدأ، وابن سعد، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في التوبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث والنشور، عن أبيّ بن كعب عن النبي.
(3) الإعضال في الحديث: أن يسقط من إسناده اثنان أو أكثر على التوالي.(1/143)
عَنْهُمَا. وَقَالَ الْحَاكِمُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالُوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عمار بن أَبِي «1» مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ عَنْ هِشَامٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَبِثَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ تِلْكَ السَّاعَةُ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ لِلسَّاعَةِ التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ فَأَخْرَجَ آدَمُ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْإِكْلِيلُ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً [البقرة: 38] فهبطوا ونزل آدَمُ بِالْهِنْدِ وَنَزَلَ مَعَهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَقَبْضَةٌ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَبَثَّهُ بِالْهِنْدِ فَنَبَتَتْ شَجَرَةُ الطِّيبِ فَإِنَّمَا أَصْلُ مَا يُجَاءُ بِهِ مِنَ الطيب من الهند مِنْ قَبْضَةِ الْوَرَقِ الَّتِي هَبَطَ بِهَا آدَمُ، وَإِنَّمَا قَبَضَهَا آدَمُ أَسَفًا عَلَى الْجَنَّةِ حِينَ أُخْرِجَ مِنْهَا.
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الجنة بدحنا أرض بالهند. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا دَحْنَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ، وَإِبْلِيسُ بِدَسْتُمِيسَانَ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ، وَأُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ بِأَصْبَهَانَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ الحارث حدثنا محمد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالصَّفَا وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةِ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ سَلَمَةَ: أُهْبِطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدَاهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ، وَأُهْبِطَ إِبْلِيسُ مُشَبِّكًا بَيْنَ أَصَابِعِهِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي عَوْفٌ عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حِينَ أَهْبَطَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ وَزَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَتَغَيَّرُ وَتِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا» رَوَاهُ مسلم والنسائي «2» .
وقال الرازي «3» : أعلم أن في هذه الآية تَهْدِيدًا عَظِيمًا عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي مِنْ وُجُوهٍ [أحدها] «4» أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ مَا جَرَى عَلَى آدَمَ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى هَذِهِ الزَّلَّةِ الصَّغِيرَةِ كَانَ عَلَى وَجَلٍ شَدِيدٍ مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَ الشَّاعِرُ: [الكامل]
__________
(1) الصواب «عمار بن معاوية» (موسوعة رجال الكتب التسعة 3/ 92) .
(2) مسلم (جمعة حديث 17، 18) والنسائي (جمعة باب 4، 5، 45) .
(3) تفسير الرازي 3/ 18. [.....]
(4) في الأصل: «الأول» . وما أثبتناه عن الرازي.(1/144)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدٍ ... وَمُشَاهِدًا لِلْأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... دَرَجَ» الْجِنَانِ وَنَيْلَ فَوْزِ الْعَابِدِ
أَنَسِيتَ رَبَّكَ حِينَ أَخْرَجَ آدَمًا «2» ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ واحد
وقال ابن القاسم:
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
قال الرازي عَنْ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسَبَانَا إِبْلِيسُ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُخْرِجْنَا مِنْهَا «3» . فَإِنْ قِيلَ: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها فِي السَّمَاءِ كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فكيف تمكن إِبْلِيسُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ طُرِدَ مِنْ هُنَالِكَ طَرْدًا قَدَرِيًّا، وَالْقَدَرِيُّ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدم في الأرض لا في السماء، كما قد بَسَطْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ دخول الجنة مكرما، فأما على وجه السرقة وَالْإِهَانَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ دَخَلَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ خَارِجُ بَابِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ، وَهُمَا فِي السَّمَاءِ، ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقُرْطُبِيُّ هَاهُنَا أَحَادِيثَ فِي الْحَيَّاتِ وَقَتْلِهِنَّ وَبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ، فَأَجَادَ وَأَفَادَ «4» .
[سورة البقرة (2) : آية 37]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُفَسَّرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23] وروي هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «5» . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ مَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ؟ قال: علم شَأْنَ الْحَجِّ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ خَطِيئَتِيَ الَّتِي أَخْطَأْتُ شَيْءٌ كتبته علي قبل أن تخلقني أو
__________
(1) في الرازي: «درك» .
(2) في الرازي «أنسيت أن الله أخرجه آدما» .
(3) انتهى نقل ابن كثير عن الرازي.
(4) انظر تفسير القرطبي 1/ 313- 319.
(5) وفي الدر المنثور (1/ 117- 118) آثار بهذا المعنى عن ابن عباس، علاوة عما ورد عن الحسن والضحاك ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد وقتادة.(1/145)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
شَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي؟ قَالَ «بَلْ شَيْءٌ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ» قَالَ: فَكَمَا كَتَبْتَهُ عَلَيَّ فَاغْفِرْ لِي، قَالَ: فَذَلِكَ قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ، قَالَ: قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى، وَنَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، وَعَطَسْتُ فَقُلْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى، وَكَتَبْتَ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: بلى، قال: أرأيت إِنْ تُبْتُ هَلْ أَنْتَ رَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ السُّدِّيُّ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا شَبِيهًا بِهَذَا فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «قال آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟» قَالَ: نَعَمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. قَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ قَالَ: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله «إذا أدخلك الجنة» فهي الْكَلِمَاتِ وَمِنَ الْكَلِمَاتِ أَيْضًا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلَمَّاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ، قال: كلمات: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أَيْ إِنَّهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ كَقَوْلِهِ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَةِ: 104] وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: 110] ، وقوله: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْفُرْقَانِ: 71] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ يَتُوبُ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعَبِيدِهِ، لا إله إلا هو التواب الرحيم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 38 الى 39]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا أَنْذَرَ بِهِ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ وإبليس حين أَهْبَطَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْمُرَادُ الذُّرِّيَّةُ، أَنَّهُ سَيُنْزِلُ الْكُتُبَ وَيَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كَمَا قَالَ أَبُو العالية: الهدى: الأنبياء والرسل والبينات(1/146)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
وَالْبَيَانُ «1» . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْهُدَى: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْهُدَى: الْقُرْآنُ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ. وَقَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ أَعَمُّ. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ أَيْ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى مَا أَنْزَلْتُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلْتُ بِهِ الرُّسُلَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى [طه: 123] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 124] كَمَا قَالَ هَاهُنَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أَيْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ وَقَدْ أَوْرَدَ ابن جرير هَاهُنَا حَدِيثًا سَاقَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قِطْعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ «2» ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أما أهل النار الذي هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم «3» فَأَمَاتَتْهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شعبة عن أبي مسلمة بِهِ «4» . وَذِكْرُ هَذَا الْإِهْبَاطَ الثَّانِي لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْنَى الْمُغَايِرِ لِلْأَوَّلِ، وزعم بعضهم: أنه تأكيد وتكرير، كما يقال: قُمْ قُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْإِهْبَاطُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 41]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَمُهَيِّجًا لَهُمْ بِذِكْرِ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيلَ وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بني
__________
(1) الطبري 1/ 284 والدر المنثور (1/ 123، عن أبي العالية- وليس فيهما لفظ «البينات» .
(2) أخطأ ابن كثير هنا إذ قال إن الطبري ساق الحديث من طريقين. والصواب أنه ساقه بثلاثة أسانيد على النحو التالي: «حدثنا عقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غسان بن مضر، قال: حدثنا سعيد بن يزيد [إسناد أول]- وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد [إسناد ثان]- وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا: حدثنا إسماعيل بن عليّة، عن سعيد بن يزيد [إسناد ثالث]- عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن الرسول. (الطبري 1/ 286) .
(3) في الطبري: «ولكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم أو بذنوبهم» إلخ.
(4) مسلم (إيمان حديث 306) وابن ماجة (زهد باب 36) . ولم يروه من أصحاب الكتب الستة غيرهما من حديث مسلمة.(1/147)
الْعَبْدِ الصَّالِحِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ، كُونُوا مِثْلَ أَبِيكُمْ فِي مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، كَمَا تَقُولُ: يَا ابْنَ الْكَرِيمِ افْعَلْ كَذَا، يَا ابْنَ الشُّجَاعِ بَارِزِ الْأَبْطَالَ، يَا ابْنَ الْعَالِمِ اطْلُبِ الْعِلْمَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء: 3] فإسرائيل هو يعقوب بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ «هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبُ؟» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِكَ عَبْدُ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ: نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَمَّى، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ أن فَجَّرَ لَهُمُ الْحَجَرَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ونجاهم مِنْ عُبُودِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نِعْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، قُلْتُ:
وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام لهم يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَةِ: 20] يَعْنِي فِي زَمَانِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أَيْ بَلَائِي «1» عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قَالَ: بِعَهْدِي الَّذِي أَخَذْتُ فِي أَعْنَاقِكُمْ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمُ الَّتِي كَانَتْ مِنْ إِحْدَاثِكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ قوله تَعَالَى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [المائدة: 12] وقال آخرون: هو الذي أخذ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَيَبْعَثُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا عَظِيمًا يُطِيعُهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلّى الله عليه وسلم.
قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي قَالَ عَهْدُهُ إِلَى عباده دين الإسلام وأن يَتَّبِعُوهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) ؟ قَالَ: أَرْضَ عَنْكُمْ وَأُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أنس. وقوله تعالى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أَيْ فَاخْشَوْنِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أَيْ إن نزل بكم ما أنزلت بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التَّرْغِيبِ إِلَى التَّرْهِيبِ فَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ
__________
(1) في الطبري 1/ 287: «آلائي» .(1/148)
الرسول صلّى الله عليه وسلم وَالِاتِّعَاظِ بِالْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يعني به الْقُرْآنُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَسِرَاجًا مُنِيرًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَقِّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، يَقُولُ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَعِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا ليس عند غيركم، قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي مِنْ جِنْسِكُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ بَعْدَ سماعكم بمبعثه، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ «بِهِ» عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ بِما أَنْزَلْتُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، لِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فَيَعْنِي بِهِ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَاشَرَةً، فَإِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ أَوَّلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ فَكُفْرُهُمْ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا يَقُولُ: لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِآيَاتِي وَتَصْدِيقِ رَسُولِي بِالدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ فَانِيَةٌ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ، يَعْنِي الْبَصْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى، ثَمَناً قَلِيلًا قَالَ: الثَّمَنُ الْقَلِيلُ الدُّنْيَا بحذافيرها. قال ابْنُ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بن جبير فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا إن آيَاتِهِ كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا طَمَعًا قليلا، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثَّمَنُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ: وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مجانا عُلِّمْتَ مَجَّانًا «2» . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَعْتَاضُوا عَنِ البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رئاستكم فِي الدُّنْيَا الْقَلِيلَةِ الْحَقِيرَةِ الزَّائِلَةِ عَنْ قَرِيبٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يرح «3» رائحة الجنة يوم القيامة» «4» فأما
__________
(1) الطبري 1/ 291.
(2) الطبري 1/ 291.
(3) راح الشيء روحا: وجد ريحه. [.....]
(4) أبو داود (ترجّل باب 20) .(1/149)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
تَعْلِيمُ الْعِلْمِ بِأُجْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يقوم به حاله وعياله بأجرة، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَطَعَهُ التَّعْلِيمُ عَنِ التَّكَسُّبِ، فَهُوَ كَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ اللَّدِيغِ «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» «1» وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْمَخْطُوبَةِ «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» «2» فَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ «3» شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَهْدَى لَهُ قَوْسًا فَسَأَلَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال «إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُطَوَّقَ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهُ» فَتَرَكَهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عن أبي ابن كَعْبٍ مَرْفُوعًا، فَإِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ: أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا عَلَّمَهُ لله لَمْ يَجُزْ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِذَلِكَ الْقَوْسِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى التَّعْلِيمِ بِالْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا فِي حَدِيثِ اللَّدِيغِ وَحَدِيثِ سَهْلٍ في المخطوبة، والله أعلم. وقوله وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ من اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ من الله تخاف عقاب الله، ومعنى قول وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ فِيمَا يَتَعَمَّدُونَهُ مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ صلوات الله وسلامه عليه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 42 الى 43]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا لِلْيَهُودِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَمَّدُونَهُ مِنْ تَلْبِيسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَتَمْوِيهِهِ بِهِ، وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ، وَإِظْهَارِهِمُ الْبَاطِلَ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّيْئَيْنِ مَعًا، وَأَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ: لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَالصِّدْقَ بِالْكَذِبِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ- وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ- يَقُولُ: وَلَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَأَدُّوا النَّصِيحَةَ لِعِبَادِ اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُهُ وَقَالَ قتادة وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِدْعَةٌ لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق:
__________
(1) البخاري (إجارة باب 16) .
(2) أخرجه البخاري (فضائل القرآن باب 21 ونكاح باب 27، 40) . وأبو داود (نكاح باب 17) والترمذي (نكاح باب 23) والدارمي (نكاح باب 19) .
(3) أهل الصفّة: هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلّل في مسجد المدينة يسكنونه.(1/150)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلْتُ) وَتَكْتُمُوا يُحْتَمَلُ أن يكون مجزوما، ويحتمل أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا، أَيْ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ» أَيْ فِي حَالِ كِتْمَانِكُمُ الْحَقَّ (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حَالٌ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ عَلَى النَّاسِ مِنْ إِضْلَالِهِمْ عَنِ الْهُدَى الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ إِلَى أَنْ سَلَكُوا مَا تُبْدُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْبَاطِلِ الْمَشُوبِ بِنَوْعٍ مِنَ الْحَقِّ لِتُرَوِّجُوهُ عَلَيْهِمْ، وَالْبَيَانُ الْإِيضَاحُ وَعَكْسُهُ الْكِتْمَانُ وَخَلْطُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآتُوا الزَّكاةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ أَيْ يَدْفَعُونَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: كونوا معهم ومنهم. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالزَّكَاةِ طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ، وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا الزَّكاةَ، قَالَ: مَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ قَالَ: مِائَتَانِ فَصَاعِدًا. وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكاةَ قَالَ: فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ لَا تَنْفَعُ الْأَعْمَالُ إِلَّا بِهَا وَبِالصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى وَآتُوا الزَّكاةَ قَالَ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَيْ وَكُونُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، وَمِنْ أَخَصِّ ذَلِكَ وَأَكْمَلِهِ الصَّلَاةُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ على وجوب الجماعة، وأبسط ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى مَسَائِلِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامَةِ فأجاد.
[سورة البقرة (2) : آية 44]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
يَقُولُ تَعَالَى: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ، أَنْ تَنْسَوْا أنفسكم فلا تأتمرون بِمَا تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَتْلُونَ الْكِتَابَ وَتَعْلَمُونَ مَا فِيهِ عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِأَنْفُسِكُمْ، فَتَنْتَبِهُوا مِنْ رَقْدَتِكُمْ، وَتَتَبَصَّرُوا مِنْ عَمَايَتِكُمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ قَالَ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِتَقْوَاهُ(1/151)
وَبِالْبِرِّ، وَيُخَالِفُونَ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «1» . وَكَذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَيَدَعُونَ الْعَمَلَ بِمَا يَأْمُرُونَ بِهِ النَّاسَ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ أَمَرَ بِخَيْرٍ فَلْيَكُنْ أَشَدَّ النَّاسِ فِيهِ مُسَارَعَةً «2» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ [بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ] «3» عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابْنِ عَبَّاسٍ:
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أَيْ تَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ تَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعَهْدِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَقُولُ: أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالدُّخُولِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا «4» . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَلَا رِشْوَةٌ أَمَرُوهُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَالْغَرَضُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَمُّهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْبِرِّ مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أَمْرِهِمْ بِهِ وَلَا يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ شعيب عليه السلام: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هُودٍ: 88] فَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِعْلِهِ وَاجِبٌ لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِتَرْكِ الْآخَرِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي لَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ تَمَسُّكُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْعَالِمَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنِ ارْتَكَبَهُ، قَالَ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ: سَمِعْتُ سعيد بن جبير يقول: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مَا أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عن منكر. قال مَالِكٌ:
وَصَدَقَ مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شيء؟ (قلت) لكنه وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَذْمُومٌ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِهِ الْمَعْصِيَةَ لِعِلْمِهِ بِهَا وَمُخَالَفَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَلِهَذَا جاءت
__________
(1) الطبري 1/ 296) .
(2) الطبري 1/ 296) .
(3) الزيادة من الطبري.
(4) الطبري 1/ 297) .(1/152)
الْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى الدِّمَشْقِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ علي العمري، قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْكَلْبِيُّ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ «1» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ (هُوَ ابْنُ جُدْعَانَ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَرَرْتُ ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قالوا:
خطباء أمتك «2» مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ وَتَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ وَالْحَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ بِبَلْخٍ حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى أُنَاسٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ يَعْنِي ابْنَ حَبِيبٍ خَتَنِ «3» مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ، فَقَالَ:
يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَفَلَا يَعْقِلُونَ.
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ وَأَنَا رَدِيفُهُ: أَلَا تُكَلِّمُ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لا أكلمه، ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دُونُ أَنْ أَفْتَتِحَ «5» أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنِ افْتَتَحَهُ، وَاللَّهِ لَا أَقُولُ لِرَجُلٍ إِنَّكَ خَيْرُ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ عَلَيَّ أميرا بعد إذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قالوا: وما سمعته
__________
(1) مسند الإمام أحمد (ج 3 ص 120) .
(2) لفظ «أمتك» غير موجود في النسخة التي بين أيدينا من المسند.
(3) الختن: زوج البنت أو زوج الأخت.
(4) المسند (ج 5 ص 205) .
(5) عبارة المسند: «إنكم ترون أن لا أكلمه إلا سمعكم، إني لا أكلمه فيما بين وبينه ما دون أن أفتتح» إلخ.(1/153)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
يَقُولُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ «1» ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» رواه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ.
حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ اللَّهَ يُعَافِي الْأُمِّيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَا يُعَافِي الْعُلَمَاءَ» وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّهُ يَغْفِرُ للجاهل سبعين مرة حتى يعفر لِلْعَالِمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. [الزُّمَرِ: 9] وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطَّلِعُونَ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فيقولون بم دخلتم النار؟ فو الله مَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ إِلَّا بِمَا تَعَلَّمْنَا مِنْكُمْ، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل» ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَبَّادٍ الرَّوَاسِيِّ عَنْ أَبِي بكر الزهري عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إن أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، قال: أبلغت ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْجُو، قَالَ: إِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تُفْتَضَحَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّانِي؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 3] أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟
قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّالِثُ؟ قَالَ: قَوْلُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ [هُودٍ: 88] أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ، رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا زيد بن الحارث حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ عَنِ الْعَوَّامِ بن حوشب عن الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَلَمْ يَعْمَلْ هُوَ بِهِ لَمْ يَزَلْ فِي ظِلِّ سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَكُفَّ أَوْ يَعْمَلَ مَا قَالَ أَوْ دَعَا إِلَيْهِ» إِسْنَادُهُ فِيهِ ضعف وقال إبراهيم النخعي: إن لِأَكْرَهُ الْقَصَصَ لِثَلَاثِ آيَاتٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَقَوْلُهُ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ وَقَوْلُهُ إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 45 الى 46]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
__________
(1) أقتابه: أمعاؤه. [.....](1/154)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عَبِيدَهُ فِيمَا يُؤَمِّلُونَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَعِينُوا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالصَّلَاةِ، فَأَمَّا الصَّبْرُ فَقِيلَ: إِنَّهُ الصِّيَامُ، نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلِهَذَا يسمى رَمَضَانُ شَهْرَ الصَّبْرِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ جُرَيِّ «1» بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِيمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّبْرِ الْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَأَعْلَاهَا فِعْلُ الصَّلَاةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عبيد اللَّهِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: الصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ الصَّبْرُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُ قَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الصَّبْرُ اعتراف العبد لله بما أصيب فِيهِ وَاحْتِسَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَرَجَاءُ ثَوَابِهِ، وَقَدْ يَجْزَعُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَتَجَلَّدُ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا الصَّبْرُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قال: على مرضاة الله، واعلموا أنهما مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ «2» . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْأَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخُو حُذَيْفَةَ: قَالَ حُذَيْفَةُ، يَعْنِي ابْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْيَمَانِ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ «4» . وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ، وَيُقَالُ: أَخِي حُذَيْفَةَ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عثمان الْعَسْكَرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: قَالَ حُذَيْفَةُ: رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي، وَكَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صلى. حدثنا عبد اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عن أبي
__________
(1) جريّ بن كليب الدوسي البصري. من الطبقة الثالثة. مقبول. أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. (موسوعة رجال الكتب التسعة 1/ 238) .
(2) الطبري 1/ 299) .
(3) المسند ج 5 ص 388.
(4) الطبري 1/ 298.(1/155)
إِسْحَاقَ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ مُضَرِّبٍ سَمِعَ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتَنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بطنه فقال له: «أشكم درد» ومعناه أيوجعك بطنك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ شفاء» «1» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الفضل وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قسم وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ فَأَنَاخَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَامَ يَمْشِي إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. وَقَالَ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قَالَ إِنَّهُمَا مَعُونَتَانِ عَلَى رحمة الله. والضمير في قوله: «إنها لكبيرة» عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ [الْقَصَصِ: 80] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فُصِّلَتْ: 34- 35] أَيْ وَمَا يُلَقَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَمَا يُلَقَّاهَا أَيْ يُؤْتَاهَا وَيُلْهَمُهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أَيْ مَشَقَّةٌ ثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: (إلا الْخَاشِعِينَ) يَعْنِي بِهِ الْمُتَوَاضِعِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) ، قَالَ:
إِنَّهَا لَثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاضِعِينَ لطاعته الخائفين سطوته الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَهَذَا يُشْبِهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ»
:
مَعْنَى الْآيَةِ: وَاسْتَعِينُوا أَيُّهَا الْأَحْبَارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ الْمُقَرِّبَةِ مِنْ رِضَا «3» اللَّهِ، الْعَظِيمَةِ إِقَامَتُهَا إِلَّا على الخاشعين أي المتواضعين المستكنّين لِطَاعَتِهِ الْمُتَذَلِّلِينَ مِنْ مَخَافَتِهِ. هَكَذَا قَالَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ خِطَابًا فِي سِيَاقِ إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لَهُمْ ولغيرهم، والله أعلم.
__________
(1) الحديث ذكره الطبري معلقا، دون إسناد. وفيه «اشكنب درد» . وهو لفظ فارسي بمعنى: تشتكي بطنك؟ وثبت هذا اللفظ في رواية البخاري في التاريخ الصغير، ص 214: «شكم درد» وفي رواية ابن ماجة «اشكمت درد» .
(2) الطبري 1/ 300.
(3) في الطبري: «مراضي الله» .(1/156)
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ وَإِنَّ الصَّلَاةَ أَوِ الْوَصَاةَ لِثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَلَاقُو رَبِّهِمْ، أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْرُوضُونَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أَيْ أُمُورُهُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ يَحْكُمُ فِيهَا مَا يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، فَلِهَذَا لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ سَهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ المنكرات. فأما قوله يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْعَرَبُ قَدْ تُسَمِّي الْيَقِينَ ظَنًّا، وَالشَّكَّ ظَنًّا، نَظِيرُ تَسْمِيَتِهِمُ الظُّلْمَةَ سُدْفَةً، وَالضِّيَاءَ سُدْفَةً، وَالْمُغِيثَ صَارِخًا، وَالْمُسْتَغِيثَ صَارِخًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الشَّيْءُ وَضِدُّهُ، كَمَا قَالَ دريد بن الصمة: [الطويل]
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ «2»
يَعْنِي بِذَلِكَ: تَيَقَّنُوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ يأتيكم، وقول عميرة بن طارق: [الطويل]
فإن يعبروا قَوْمِي وَأَقْعُدَ فِيكُمُ ... وَأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مرجما «3»
يعني ويجعل الْيَقِينَ غَيْبًا مُرَجَّمًا، قَالَ: وَالشَّوَاهِدُ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا عَلَى أَنَّ الظَّنَّ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ كِفَايَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الْكَهْفِ: 53] ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جابر عن مجاهد: كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ يَقِينٌ أَيْ «4» ظَنَنْتُ وَظَنُّوا.
وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عِلْمٌ. وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ «5» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ قَالَ: الظَّنُّ هَاهُنَا يَقِينٌ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ نَحْوُ قَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَقَالَ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ علموا أنهم ملاقوا رَبِّهِمْ كَقَوْلِهِ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ يَقُولُ: عَلِمْتُ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. (قُلْتُ) وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «أَلَمْ أُزَوِّجْكَ أَلَمْ أُكْرِمْكَ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ الله تعالى «أَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟» فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ «الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إن
__________
(1) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه ص 47 والأصمعيات ص 23 والطبري 1/ 300 ولسان العرب (ظنن) . وبلا نسبة في أسرار العربية ص 156. والفارسي المسرّد: الدروع الفارسية الجيدة النسج.
(2) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه ص 47 والأصمعيات ص 23 والطبري 1/ 300 ولسان العرب (ظنن) . وبلا نسبة في أسرار العربية ص 156. والفارسي المسرّد: الدروع الفارسية الجيدة النسج.
(3) البيت في الطبري 1/ 300 ونقائض جرير والفرزدق ص 53 والأضداد لابن الأنباري ص 12.
والرواية: «بأن تغتزوا قومي» .
(4) في الطبري: «إني» .
(5) تفسير الرازي 3/ 48.(1/157)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 47]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)
يُذَكِّرُهُمْ تَعَالَى بسالف نعمه إلى آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَمَا كَانَ فَضَّلَهُمْ بِهِ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنْهُمْ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدُّخَانِ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [المائدة: 20] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ «1» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ قَالَ: بِمَا أُعْطُوا مِنَ الْمُلْكِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ عَلَى عَالَمِ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ عَالَمًا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى، خِطَابًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَفِي الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ تُذْكَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَفْضِيلٌ بِنَوْعٍ مَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلَا يلزم تفضيلهم مطلقا، حكاه الرَّازِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فُضِّلُوا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ لِاشْتِمَالِ أُمَّتِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ «2» فِي تَفْسِيرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعَالَمِينَ عَامٌّ يَشْمَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَبْلَهُمْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَمُحَمَّدٌ بَعْدَهُمْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه عليه.
[سورة البقرة (2) : آية 48]
وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
لَمَّا ذَكَّرَهُمُ تَعَالَى بِنِعَمِهِ أَوَّلًا، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ التَّحْذِيرِ من طول نِقَمِهِ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ:
وَاتَّقُوا يَوْماً يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أَيْ لَا يُغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، كَمَا قَالَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] : وَقَالَ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: 37] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان: 33] فهذا أَبْلَغُ الْمَقَامَاتِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ لَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ شَيْئًا. وَقَوْلُهُ تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ يعني من الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ:
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 48] وَكَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ
__________
(1) تفسير الرازي 3/ 49.
(2) تفسير القرطبي 1/ 376. [.....](1/158)
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100] وقوله تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا فِدَاءٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 91] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْمَائِدَةِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَامِ: 70] وَقَالَ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ [الْحَدِيدِ: 15] . فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِهِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ وَوَافَوُا اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ قَرَابَةُ قَرِيبٍ وَلَا شَفَاعَةُ ذِي جَاهٍ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ وَلَوْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 254] وَقَالَ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إبراهيم: 31] قال سُنَيْدٌ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ قَالَ: بَدَلٌ، وَالْبَدَلُ: الْفِدْيَةُ، وَقَالَ السدي: أما عدل فيعدلها، من العدل. يَقُولُ: لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبَا تَفْتَدِي بِهِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا «1» ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ «2» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أبي العالية في قوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ يَعْنِي فِدَاءٌ «3» . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، قَالَ: وَالصَّرْفُ وَالْعَدْلُ: التَّطَوُّعُ وَالْفَرِيضَةُ، وَكَذَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاتِكَةِ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ وَهَذَا الْقَوْلُ غريب هاهنا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ يُقَوِّيهِ وَهُوَ مَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنِي نَجِيحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْعَدْلُ؟ قَالَ: «الْعَدْلُ الْفِدْيَةُ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أَيْ وَلَا أَحَدَ يَغْضَبُ لَهُمْ فَيَنْصُرُهُمْ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ ذُو قَرَابَةٍ وَلَا ذُو جَاهٍ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ، هَذَا كُلُّهُ مِنْ جَانِبِ التَّلَطُّفِ، وَلَا لَهُمْ نَاصِرٌ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [الطَّارِقِ: 10] أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ فِيمَنْ كَفَرَ بِهِ فِدْيَةً وَلَا شَفَاعَةً وَلَا يُنْقِذُ أَحَدًا مِنْ عَذَابِهِ منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجير مِنْهُ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] وَقَالَ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ [الْفَجْرِ:
26] وَقَالَ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 25] وقال:
__________
(1) الطبري 1/ 307.
(2) تفسير الرازي 3/ 51.
(3) تفسير الرازي 3/ 51.
(4) الطبري 1/ 307.(1/159)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الْأَحْقَافِ: 28] ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ [الصافات: 25] مالكم الْيَوْمَ لَا تُمَانَعُونَ مِنَّا، هَيْهَاتَ لَيْسَ ذَلِكَ لَكُمُ الْيَوْمَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَعْنِي إِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَنْصُرُهُمْ نَاصِرٌ كَمَا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ شَافِعٌ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَدْلٌ وَلَا فِدْيَةٌ، بَطَلَتْ هُنَالِكَ الْمُحَابَاةُ، وَاضْمَحَلَّتِ الرِّشَا وَالشَّفَاعَاتُ، وَارْتَفَعَ مِنَ القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الَّذِي لَا يَنْفَعُ لَدَيْهِ الشُّفَعَاءُ وَالنُّصَرَاءُ، فَيَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، وَبِالْحَسَنَةِ أَضْعَافَهَا، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 24- 26]
[سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 50]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
يقول تعالى: اذكروا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أَيْ خَلَّصْتُكُمْ مِنْهُمْ، وَأَنْقَذْتُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ صُحْبَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَانُوا يَسُومُونَكُمْ أَيْ يُورِدُونَكُمْ وَيُذِيقُونَكُمْ وَيُوَلُّونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ قَدْ رَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ، رَأَى نَارًا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فدخلت بيوت الْقِبْطِ بِبِلَادِ مِصْرَ إِلَّا بُيُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَضْمُونُهَا أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ يَكُونُ عَلَى يَدَيْ رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تَحْدَّثَ سُمَّارُهُ عِنْدَهُ بِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَوَقَّعُونَ خُرُوجَ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَكُونُ لَهُمْ بِهِ دَوْلَةٌ وَرِفْعَةٌ، وَهَكَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ فِي سُورَةِ طه إِنْ شاء الله تعالى، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمْرَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِقَتْلِ كل ذَكَرٍ يُولَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ تُتْرَكَ الْبَنَاتُ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ في مشاق الأعمال وأرذلها، وَهَاهُنَا فُسِّرَ الْعَذَابُ بِذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَطْفٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْقَصَصِ إن شاء الله تعالى، به الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم:
يُوَلُّونَكُمْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، كَمَا يُقَالُ: سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ إِذَا أَوْلَاهُ إِيَّاهَا، قَالَ عَمْرُو بن كلثوم: [الوافر]
إِذَا مَا الْمُلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا «2»
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُدِيمُونَ عذابكم، [والسّوم: الدوام] «3» كَمَا يُقَالُ: سَائِمَةُ الْغَنَمِ مِنْ إِدَامَتِهَا الرَّعْيَ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَإِنَّمَا قَالَ هَاهُنَا: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ليكون ذلك
__________
(1) الطبري 1/ 308.
(2) البيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 91 والقرطبي 1/ 384 وتفسير الرازي 3/ 63.
(3) الزيادة من القرطبي.(1/160)
تَفْسِيرًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِهَذَا لِقَوْلِهِ هَاهُنَا: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَمَّا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا قَالَ: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيمَ: 5] أَيْ بِأَيَادِيهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ هُنَاكَ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ [إبراهيم: 6] فَعَطَفَ عَلَيْهِ الذَّبْحَ لِيَدُلَّ عَلَى تَعَدُّدِ النِّعَمِ والأيادي على بني إسرائيل. وَفِرْعَوْنُ عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا مِنَ الْعَمَالِيقِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ قَيْصَرَ عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ مَعَ الشام كافرا، وكسرى لمن مَلَكَ الْفُرْسَ، وَتُبَّعٌ لِمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ كَافِرًا، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَبَطْلَيْمُوسَ لِمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ، وَقِيلَ مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، فكان من سلالة عمليق بن الأود بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكُنْيَتُهُ أبو مرة، وأصله فارسي من إصطخر، وأيّا ما كان فعليه لعنة الله.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَفِي الَّذِي فَعَلْنَا بكم من إنجائناكم «2» مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ بَلَاءٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، أَيْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: قوله تعالى: بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَالَ:
نِعْمَةٌ «3» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَالَ: نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمَةٌ «4» . وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَأَصْلُ الْبَلَاءِ الِاخْتِبَارُ وَقَدْ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 35] وَقَالَ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الْأَعْرَافِ: 168] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ: بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً، وَفِي الْخَيْرِ أَبْلِيهِ إِبْلَاءً وَبَلَاءً، قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سلمى: [الطويل]
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو «5»
قَالَ «6»
: فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَرَادَ: فَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا خَيْرَ النِّعَمِ الَّتِي يَخْتَبِرُ بِهَا عِبَادَهُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «7»
: وَهَذَا قَوْلُ الجمهور، ولفظه بعد ما حَكَى الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الذَّبْحِ وَنَحْوِهِ، وَالْبَلَاءُ هَاهُنَا فِي الشر، والمعنى: وفي الذبح
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 313.
(2) في الأصل «إنجائنا آباءكم» والتصحيح من الطبري.
(3) تفسير الطبري 1/ 313.
(4) تفسير الطبري 1/ 313.
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 109 ولسان العرب (بلا) وتهذيب اللغة 15/ 390 ومقاييس اللغة 1/ 294 وديوان الأدب 4/ 106 وتاج العروس (باس) وتفسير الرازي 3/ 66 والطبري 1/ 314.
(6) أي ابن جرير الطبري.
(7) تفسير القرطبي 1/ 387. [.....](1/161)
مَكْرُوهٌ وَامْتِحَانٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، مَعْنَاهُ:
وَبَعْدَ أَنْ أَنْقَذْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَخَرَجْتُمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِكُمْ فَفَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا كَمَا سَيَأْتِي فِي مواضعه، ومن أبسطها ما فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَنْجَيْناكُمْ أَيْ خَلَّصْنَاكُمْ مِنْهُمْ وَحَجَزْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَفَى لِصُدُورِكُمْ وَأَبْلَغَ فِي إِهَانَةِ عَدُوِّكُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، بَلَغَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ:
لَا تَتَّبِعُوهُمْ حَتَّى تَصِيحَ الديكة، قال: فو الله مَا صَاحَ لَيْلَتَئِذٍ دِيكٌ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَدَعَا بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَفْرَغُ مِنْ كَبِدِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ [فَلَمْ يَفْرَغْ مِنْ كَبِدِهَا حَتَّى اجْتَمَعَ إليه ستمائة ألف من القبط] «1»
، فَلَمَّا أَتَى مُوسَى الْبَحْرَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ: أين أمرك رَبُّكَ؟ قَالَ: أَمَامَكَ، يُشِيرُ إِلَى الْبَحْرِ، فَأَقْحَمَ يُوشَعُ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ حَتَّى بَلَغَ الْغَمْرَ، فَذَهَبَ بِهِ الْغَمْرُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَيْنَ أمر ربك يا موسى؟ فو الله مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِّبْتَ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فضربه فانقلق، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ يَقُولُ: مِثْلَ الْجَبَلِ- ثُمَّ سَارَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي طَرِيقِهِمْ حَتَّى إِذَا تَتَامُّوا فِيهِ أَطْبَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ في موضعه. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَ؟» قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصَوْمِهِ «2»
. وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ بِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ «3» .
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا سَلَّامٌ يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمٍ عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَلَقَ اللَّهُ الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَ عاشوراء» وهذا ضعيف من
__________
(1) الزيادة من الطبري 1/ 315.
(2) مسند أحمد (ج 1 ص 291) .
(3) وأخرجه البخاري (صوم باب 69، وتفسير سورة 10 باب 1) . ومسلم (صيام حديث 126) وابن ماجة (صيام باب 41) .(1/162)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّ زَيْدًا الْعَمِّيَّ «1»
فِيهِ ضَعْفٌ، وشيخه يزيد الرقاشي «2»
أضعف منه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 53]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي عَفْوِي عَنْكُمْ، لَمَّا عَبَدْتُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْمُوَاعَدَةِ، وَكَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الْأَعْرَافِ: 142] قِيلَ إِنَّهَا: ذُو الْقِعْدَةِ بِكَمَالِهِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ خَلَاصِهِمْ من فرعون وإنجائهم من البحر، وقوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْفُرْقانَ وَهُوَ مَا يَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى والضلالة لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الْقَصَصِ: 43] وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب الفرقان وَهَذَا غَرِيبٌ، وَقِيلَ: عُطِفَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ المعنى واحدا، كما في قول الشاعر: [الوافر]
وقدمت الأديم لراقشيه ... فألغى قولها كذبا ومينا «3»
وقال الآخر: [الطويل]
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ «4»
فَالْكَذِبُ هُوَ المين، والنأي: هو البعد. وقال عنترة: [الكمال]
حيّيت من طل تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ «5»
__________
(1) هو زيد العمي البصري، أبو الحواري، قاضي هراة. أخرج له أبو داود والترمذي وا لنسائي وابن ماجة.
ضعيف. (موسوعة رجال الكتب التسعة 1/ 556) .
(2) هو يزيد بن أبان الرقاشي البصري، القاصّ. وفاته ما بين 110 و 120 هـ. أخرج له البخاري في الأدب والترمذي وابن ماجة. ضعيف (موسوعة 4/ 242) ..
(3) الرواية المشهورة للبيت:
وقدّدت الأديم لراهشيه ... وألغى قولها كذبا ومينا
وهو لعدي بن زيد في ذيل ديوانه ص 183 والأشباه والنظائر 3/ 213 وجمهرة اللغة ص 993 والدرر 6/ 73 وشرح شواهد المغني 2/ 776 والشعر والشعراء 1/ 233، ولسان العرب (مين) ومعاهد التنصيص 1/ 310.
(4) البيت للحطيئة في ديوانه ص 39 والدرر 5/ 221 ولسان العرب (سند، نأي) وبلا نسبة في شرح المفصل 1/ 10 والصحابي في فقه اللغة ص 97 وهمع الهوامع 2/ 88 والقرطبي 1/ 399.
(5) البيت لعنترة في ديوانه ص 189 ولسان العرب (شرع) وتهذيب اللغة 1/ 424 وتاج العروس 21/ 260 (شرع) .(1/163)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.
[سورة البقرة (2) : آية 54]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
هَذِهِ صِفَةُ تَوْبَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَقَالَ: ذَلِكَ حِينَ وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا [الْأَعْرَافِ: 149] . قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ أَيْ إِلَى خَالِقِكُمْ، قُلْتُ: وَفِي قَوْلِهِ هَاهُنَا إِلى بارِئِكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ جُرْمِهِمْ، أَيْ فَتُوبُوا إِلَى الَّذِي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ زَيْدٍ الْوَرَّاقِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: فقال اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ واحد مِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ فَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ وَلَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، فَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا خَفِيَ على موسى وهارون ما اطلع الله على ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فغفر الله لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ. وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ وسيأتي في سُورَةِ طه بِكَمَالِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قال: أمر موسى قومه عن أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، قال: فاحتبى «1»
الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَجَلَسُوا وَقَامَ الَّذِينَ لَمْ يَعْكُفُوا عَلَى الْعِجْلِ فَأَخَذُوا الْخَنَاجِرَ بِأَيْدِيهِمْ وَأَصَابَتْهُمْ ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عَنْهُمْ وَقَدْ أَجْلَوْا عَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ، كُلُّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ. وَقَالَ ابن جرير: أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدًا يَقُولَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قَالَا: قَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بعض بالخناجر يقتل بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَحْنُو رَجُلٌ عَلَى قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ حَتَّى أَلْوَى «2»
مُوسَى بِثَوْبِهِ فَطَرَحُوا
__________
(1) في الأصل: «فأخبر» وما أثبتناه عن الطبري 1/ 325. واحتبى: جلس على أليتيه وضمّ فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستند.
(2) أي أشار.(1/164)
ما بأيديهم، فتكشّف عَنْ سَبْعِينَ أَلْفِ قَتِيلٍ، وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنْ حَسْبِي فَقَدِ اكْتَفَيْتُ فَذَلِكَ حِينَ أَلْوَى مُوسَى بِثَوْبِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ الْقَوْمَ بِشَدِيدٍ مِنَ الْأَمْرِ فَقَامُوا يَتَنَاحَرُونَ بِالشِّفَارِ، يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى بَلَغَ اللَّهُ فِيهِمْ نِقْمَتَهُ، فَسَقَطَتِ الشِّفَارُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْقَتْلَ فَجَعَلَ لِحَيِّهِمْ تَوْبَةً، وَلِلْمَقْتُولِ شَهَادَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَصَابَتْهُمْ ظُلْمَةُ حِنْدِسٍ «1»
، فَقَتَلَ بعضهم بعضا ثُمَّ انْكَشَفَ عَنْهُمْ فَجَعَلَ تَوْبَتَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قَالَ: فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا حَتَّى قتل منهم سَبْعُونَ أَلْفًا وَحَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ: رَبَّنَا أَهْلَكْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَبَّنَا الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ، فَأَمَرَهُمْ أن يلقوا السِّلَاحَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ مُكَفَّرًا عَنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا أُمِرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهَا بَرَزُوا وَمَعَهُمْ مُوسَى فَاضْطَرَبُوا بِالسُّيُوفِ وَتَطَاعَنُوا بِالْخَنَاجِرِ، وَمُوسَى رَافِعٌ يَدَيْهِ حَتَّى إِذَا فتر بَعْضَهُمْ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لَنَا، وَأَخَذُوا بِعَضُدَيْهِ يَسْنُدُونَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ قَبَضَ أَيْدِيَهُمْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ وَحَزِنَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ لِلَّذِي كَانَ مِنَ الْقَتْلِ فِيهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى مُوسَى: مَا يُحْزِنُكَ، أَمَّا مَنْ قُتِلَ منهم فَحَيٌّ عِنْدِي يُرْزَقُونَ، وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ فَقَدْ قَبِلْتُ تَوْبَتَهُ، فَسُرَّ بِذَلِكَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهُ «2»
. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، خَرَجَ إِلَى رَبِّهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ بُعِثُوا، فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبَدَ الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَهُ، فَجَلَسُوا بِالْأَفْنِيَةِ، وَأَصْلَتَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ السُّيُوفَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ، وَبَكَى مُوسَى، وَبَهَشَ «3»
إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ تُرْفَعَ عَنْهُمُ السُّيُوفُ «4»
. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رَجُلًا قَدِ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ الْعِجْلَ لَمْ يَعْبُدُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: انْطَلِقُوا إِلَى مَوْعِدِ ربكم، فقالوا: يا موسى. أما مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بَلَى، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ- الْآيَةَ: فاخترطوا
__________
(1) ظلمة حندس: شديدة السواد.
(2) إسناده في الطبري: حدثنا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عقيل، عن ابن شهاب.
(3) بهش إليه: خفّ إليه.
(4) الطبري 1/ 327. [.....](1/165)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
السُّيُوفَ وَالْجُرَزَةَ «1»
وَالْخَنَاجِرَ وَالسَّكَاكِينَ. قَالَ: وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ ضَبَابَةً، قَالَ: فَجَعَلُوا يَتَلَامَسُونَ بِالْأَيْدِي وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: وَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ فَيَقْتُلُهُ وهو لا يَدْرِي. قَالَ: وَيَتَنَادَوْنَ فِيهَا: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَبَّرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّهَ رِضَاهُ، قَالَ: فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ، وَتِيبَ عَلَى أَحْيَائِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي بعثي لكم بعد الصعق إذا سَأَلْتُمْ رُؤْيَتِي جَهْرَةً عِيَانًا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ لَكُمْ وَلَا لِأَمْثَالِكُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ قَالَ: عَلَانِيَةً، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أَيْ عَلَانِيَةً، أَيْ حَتَّى نَرَى اللَّهَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أَيْ عِيَانًا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى فَسَارُوا مَعَهُ، قَالَ:
فَسَمِعُوا كَلَامًا، فَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً قَالَ: فَسَمِعُوا صَوْتًا فَصُعِقُوا يَقُولُ:
مَاتُوا. وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فِيمَا خَطَبَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ: الصَّاعِقَةُ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ الصَّاعِقَةُ: نَارٌ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ فِي قوله وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال: صعق بَعْضُهُمْ وَبَعْضٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ بُعِثَ هَؤُلَاءِ وَصُعِقَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ، وَيَقُولُ: رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَافِ: 155] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ فَقَامُوا وَعَاشُوا رَجُلٌ رَجُلٌ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ؟ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ كَانَ مَوْتُهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ فَبُعِثُوا مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لِيَسْتَوْفُوا آجَالَهُمْ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَالَ لِأَخِيهِ وَلِلسَّامِرِيِّ مَا قَالَ، وَحَرَّقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، اخْتَارَ مُوسَى مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ، واسألوه التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ. فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- حِينَ صَنَعُوا ما أمروا به، وخرجوا للقاء ربّه، قَالُوا: يَا مُوسَى، اطْلُبْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ نسمع
__________
(1) الجرز: عمود من حديد، وهو سلاح يقاتل به.(1/166)
كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى من الجبل وقع عليه عمود من «1»
الْغَمَامُ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ، فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قَدْ سَفِهُوا، أَفَتُهْلِكُ مَنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إسرائيل بما فعل السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ أَيْ إِنَّ هَذَا لَهُمْ هَلَاكٌ واخترت مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يُصَدِّقُونِي بِهِ وَيَأْمَنُونِي عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا؟ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ حَتَّى رَدَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ- هَذَا سِيَاقُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ «2»
. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ «3»
: لَمَّا تَابَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله بِهِ، أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي كُلِّ أُنَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ العجل وواعدهم موسى، فاختار موسى سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا. وَسَاقَ الْبَقِيَّةَ، وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وَالْمُرَادُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَحْكِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ سِوَاهُ. وقد أغرب الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حِينَ حَكَى فِي قِصَّةِ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ: أَنَّهُمْ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ قَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّكَ لَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ، فَادْعُهُ أَنْ يَجْعَلَنَا أَنْبِيَاءَ، فَدَعَا بِذَلِكَ فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ «4»
. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي زَمَانِ مُوسَى نَبِيٌّ سِوَى هَارُونَ ثُمَّ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَدْ غَلِطَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَيْضًا فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ مُوسَى الْكَلِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَأَلَ ذَلِكَ فَمُنِعَ مِنْهُ فَكَيْفَ يَنَالُهُ هَؤُلَاءِ السَّبْعُونَ؟
الْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالْأَلْوَاحِ قَدْ كَتَبَ فِيهَا التَّوْرَاةَ فَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ، فَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَفَعَلُوا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ الله فيه أمركم الذي أمركم به
__________
(1) الطبري 1/ 331.
(2) الزيادة من الطبري والرازي.
(3) أخرجه الطبري عن موسى بن هارون، عن عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عن السدّي.
(4) تفسير الرازي 3/ 79. والأثر يرويه الرازي من قول السدّي، بلا إسناد. ورواه الطبري عن موسى بن هارون عن عمرو بن حماد بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ السدّي.(1/167)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
وَنَهْيُكُمُ الَّذِي نَهَاكُمْ عَنْهُ. فَقَالُوا: وَمَنْ يَأْخُذُهُ بِقَوْلِكَ أَنْتَ؟ لَا وَاللَّهِ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى يَطَّلِعَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَيَقُولَ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ، فَمَا لَهُ لَا يُكَلِّمُنَا كَمَا يُكَلِّمُكَ أَنْتَ يَا مُوسَى، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً قَالَ: فَجَاءَتْ غَضْبَةٌ مِنَ اللَّهِ فَجَاءَتْهُمْ صَاعِقَةٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَصَعَقَتْهُمْ فَمَاتُوا أَجْمَعُونَ، قَالَ: ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمْ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ؟ فَقَالُوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قَالَ: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ، قَالُوا: لَا، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَائِكَةً فَنَتَقَتِ «1»
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ. وَهَذَا السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلِّفُوا بَعْدَ مَا أُحْيُوا. وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ لِمُعَايَنَتِهِمُ الْأَمْرَ جَهْرَةً حَتَّى صَارُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ لِئَلَّا يَخْلُوَ عَاقِلٌ مِنْ تَكْلِيفٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «2»
: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مُعَايَنَتَهُمْ لِلْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ لَا تَمْنَعُ تَكْلِيفَهُمْ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ شَاهَدُوا أُمُورًا عِظَامًا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُكَلَّفُونَ وَهَذَا وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا دَفَعَهُ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ، شَرَعَ يُذَكِّرُهُمْ أَيْضًا بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، فَقَالَ:
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَهُوَ جَمْعُ غَمَامَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَغُمُّ السَّمَاءَ أَيْ يُوَارِيهَا وَيَسْتُرُهَا، وَهُوَ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ ظُلِّلُوا بِهِ فِي التِّيهِ لِيَقِيَهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ، قَالَ: ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ بِالْغَمَامِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَالضَّحَاكِ وَالسُّدِّيِّ نَحْوُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ كَانَ هَذَا فِي الْبَرِّيَّةِ، ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ مِنَ الشَّمْسِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ آخَرُونَ: وَهُوَ غَمَامٌ أَبْرَدُ مِنْ هَذَا وَأَطْيَبُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ قَالَ، لَيْسَ بِالسَّحَابِ هُوَ الْغَمَامُ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا لَهُمْ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ «3»
، وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَكَأَنَّهُ يريد، والله أعلم، أن لَيْسَ مِنْ زِيِّ هَذَا السَّحَابِ بَلْ أَحْسَنُ مِنْهُ وَأَطْيَبُ وَأَبْهَى مَنْظَرًا، كَمَا قَالَ سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ قَالَ:
غَمَامٌ أَبْرَدُ مِنْ هَذَا وَأَطْيَبُ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ
__________
(1) نتقت الجبل: رفعته من مكانه لترمي به. أو: هزّته ونفضته.
(2) تفسير القرطبي 1/ 405. وما حكاه الماوردي نقله القرطبي.
(3) الطبري 1/ 233.(1/168)
[الْبَقَرَةِ: 210] وَهُوَ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ مَعَهُمْ فِي التيه «1» .
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَنِّ مَا هُوَ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْأَشْجَارِ، فَيَغْدُونَ إِلَيْهِ، فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ ما شاؤوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنُّ: صَمْغَةٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَنُّ: شَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الطَّلِّ شِبْهُ الرُّبِّ الْغَلِيظِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ، قَالُوا: يَا مُوسَى، كيف لنا بما هاهنا، أي الطعام؟
فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزَّنْجَبِيلِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ في محلهم سُقُوطَ الثَّلْجِ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْرَ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا تَعَدَّى ذَلِكَ فسد ولم يبق، حتى كان يوم سادسه يوم جُمُعَتِهِ أَخَذَ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِ سَادِسِهِ وَيَوْمِ سَابِعِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِيدٍ لَا يَشْخَصُ فِيهِ لِأَمْرِ مَعِيشَتِهِ وَلَا يَطْلُبُهُ لِشَيْءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْبَرِّيَّةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمَنُّ شَرَابٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الْعَسَلِ فَيَمْزُجُونَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَشْرَبُونَهُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ منبه، وسئل عن المن، فقال:
خبز رقاق مِثْلَ الذُّرَةِ أَوْ مِثْلُ النَّقِيِّ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ، وَهُوَ الشَّعْبِيُّ، قَالَ: عَسَلُكُمْ هَذَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ الْمَنِّ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّهُ الْعَسَلُ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ أمية بن أبي الصلت حيث قال: [الخفيف]
فَرَأَى اللَّهُ أَنَّهُمْ بِمَضِيعٍ ... لَا بِذِي مَزْرَعٍ وَلَا مَثْمُورَا
فَسَنَاهَا عَلَيْهِمُ غَادِيَاتٍ ... وَتَرَى مُزْنَهُمْ خَلَايَا وَخُورَا
عَسَلًا نَاطِفًا وَمَاءً فُرَاتًا ... وَحَلِيبًا ذا بهجة مزمورا «2»
فالناطف هو السائل والحليب المزمور الصَّافِي مِنْهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ عِبَارَاتِ الْمُفَسِّرِينَ مُتَقَارِبَةٌ فِي شَرْحِ الْمَنِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالطَّعَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالشَّرَابِ، وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ كُلُّ مَا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ عَمَلٌ وَلَا كَدٌّ، فَالْمَنُّ الْمَشْهُورُ إِنْ أُكِلَ وَحْدَهُ كَانَ طَعَامًا وَحَلَاوَةً، وَإِنْ مُزِجَ مَعَ الْمَاءِ صَارَ شَرَابًا طَيِّبًا، وَإِنْ ركب مع
__________
(1) الطبري 1/ 133.
(2) كذا أيضا رواية الأبيات الثلاثة في مخطوط تفسير الطبري وفي ديوان أمية بن أبي الصلت ص 34- 35. وقد اختار محقق طبعة دار المعارف في تفسير الطبري الأستاذ محمود محمد شاكر أن يثبت النصّ التالي، استنادا إلى اجتهاد وتعليل من عنده:
رأى اللَّهُ أَنَّهُمْ بِمَضِيعٍ ... لَا بِذِي مَزْرَعٍ وَلَا معمورا
نساها عليهم غاويات ... ومرى مزنهم خلايا وخورا
لا ناطفا وماء فراتا ... وحليبا ذا بهجة مثمورا
انظر تفسير الطبري 2/ 94- 95، الحواشي.(1/169)
غَيْرِهِ صَارَ نَوْعًا آخَرَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَحْدَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» «1»
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ بِهِ «2»
، وَأَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ «3»
، وَرَوَاهُ البخاري ومسلم مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ، وَالْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيُّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَإِلَّا مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ. وَفِي الْبَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ- كَذَا قَالَ- وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الرحمن هذا السلمي الواسطي يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ وَقِيلَ: أَبُو سُلَيْمَانَ الْمُؤَدِّبُ، قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ: رَوَى عَنْ قَتَادَةَ أَشْيَاءَ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: الْكَمْأَةُ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ وَالْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهِيَ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ» وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بِهِ، وَعَنْهُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ بِقِصَّةِ الْكَمْأَةِ فَقَطْ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الصَّمَدِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ شَهْرٍ: بِقِصَّةِ الْعَجْوَةِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَبِالْقِصَّتَيْنِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وأبي هريرة، فإنه لم يسمع مِنْهُ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْوَلِيمَةِ من سننه عن علي بن الحسين
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة 2 ب 4، وسورة 7 باب 2 وطب باب 20) .
(2) وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة (المسند ج 2 ص 301) ومن حديث سعيد بن زيد (ج 1 ص 187) ومن حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (ج 2 ص 48) .
(3) الترمذي (طب باب 22) .(1/170)
الدِّرْهَمِيِّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَذْكُرُونَ الْكَمْأَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: جُدَرِيُّ الْأَرْضِ، فَقَالَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ شَهْرِ بن حوشب عن جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنَ الجنة، وهي شفاء من السم» وقال النَّسَائِيُّ فِي الْوَلِيمَةِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا وَابْنُ ماجة من طرق الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ شَهْرٍ عَنْهُمَا به، وقد رويا- أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجة من حديث سعيد ابن أبي سلمة- كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عن أبي سعيد رواه النَّسَائِيُّ وَحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْ لَاحِقِ بن صواب عن عمار بن زريق عَنِ الْأَعْمَشِ كَابْنِ مَاجَهْ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كَمَآتٌ، فَقَالَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَنْصُورٍ عن الحسن بن الربيع به ثم ابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الْأَعْمَشِ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن موسى، وَقَدْ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا حَمْدُونُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ بْنُ أَشْرَسَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم تدارأوا فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْسَبُهُ الْكَمْأَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ أَصْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طريقه شيئا من هذا، والله أعلم. وروي عَنْ شَهْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا فِي الْوَلِيمَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ الْخَرَّازِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ عَنْ عَبْدِ الْجَلِيلِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ شَهْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْكَمْأَةُ من المن، وماؤها شفاء للعين» وقد اخْتَلَفَ كَمَا تَرَى فِيهِ عَلَى شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ حَفِظَهُ وَرَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ كُلِّهَا، وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبَلَّغَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ،(1/171)
فَإِنَّ الْأَسَانِيدَ إِلَيْهِ جَيِّدَةٌ، وَهُوَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَحْفُوظٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وَأَمَّا السَّلْوَى، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السلوى طائر شبه بِالسُّمَانَى، كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرٍ، ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: السَّلْوَى طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا عبد الصمد بن الْوَارِثِ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ جَهْضَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: السَّلْوَى هُوَ السُّمَانَى، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: أَمَّا السَّلْوَى فَطَيْرٌ كَطَيْرٍ يَكُونُ بِالْجَنَّةِ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إِلَى الْحُمْرَةِ تَحْشُرُهَا عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الْجَنُوبُ وَكَانَ الرَّجُلُ يَذْبَحُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ ذَلِكَ فَإِذَا تَعَدَّى فَسَدَ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ سَادِسِهِ لِيَوْمِ جُمُعَتِهِ أَخَذَ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِ سَادِسِهِ وَيَوْمِ سَابِعِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِبَادَةٍ لَا يَشْخَصُ فِيهِ لِشَيْءٍ وَلَا يَطْلُبُهُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: السلوى طير سمين مثل الحمامة كَانَ يَأْتِيهِمْ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ مِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلَتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحما فَقَالَ اللَّهُ لَأُطْعِمَنَّهُمْ مِنْ أَقَلِّ لَحْمٍ يُعْلَمُ فِي الْأَرْضِ فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَذْرَتْ عِنْدَ مَسَاكِنِهِمُ السَّلْوَى وَهُوَ السُّمَانَى مِثْلَ مِيلٍ فِي ميل قيد رمح إلى السماء فخبأوا لِلْغَدِ فَنَتِنَ اللَّحْمُ وَخَنِزَ «1»
الْخُبْزُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ التِّيهَ قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ لَنَا بِمَا هَاهُنَا؟
أَيْنَ الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر ليشبه السُّمَانَى أَكْبَرُ مِنْهُ فَكَانَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فَإِنْ كَانَ سَمِينًا ذَبَحَهُ وَإِلَّا أَرْسَلَهُ فَإِذَا سَمِنَ أَتَاهُ، فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ. فَأَيْنَ الشَّرَابُ؟ فَأُمِرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فَشَرِبَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ عَيْنٍ، فَقَالُوا: هَذَا الشَّرَابُ فَأَيْنَ الظِّلُّ؟ فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، فَقَالُوا: هَذَا الظِّلُّ فَأَيْنَ اللِّبَاسُ؟ فَكَانَتْ ثِيَابُهُمْ تَطُولُ مَعَهُمْ كَمَا تطول الصِّبْيَانُ وَلَا يَنْخَرِقُ لَهُمْ ثَوْبٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الأعراف: 16] وَقَوْلُهُ: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الْبَقَرَةِ: 60] وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوُ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَقَالَ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِقَ لَهُمْ فِي التِّيهِ ثِيَابٌ لَا تَخْرِقُ وَلَا تَدْرَنُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَخَذَ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى فَوْقَ طَعَامِ يَوْمٍ فَسَدَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ طَعَامَ يَوْمِ السَّبْتِ فَلَا يُصْبِحُ فَاسِدًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ السَّلْوَى طَيْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ غَلِطَ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ الْعَسَلُ وأنشد في ذلك مستشهدا: [الطويل]
__________
(1) خنز الخبز: أنتن. [.....](1/172)
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا أَشُورُهَا «1»
قَالَ: فَظَنَّ أَنَّ السَّلْوَى عَسَلًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: دَعْوَى الْإِجْمَاعِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمُؤَرِّجَ «2» أَحَدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالَ إِنَّهُ الْعَسَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِبَيْتِ الْهُذَلِيِّ هَذَا، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ كِنَانَةَ لِأَنَّهُ يُسَلَّى بِهِ وَمِنْهُ عَيْنُ سُلْوَانَ «3» ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّلْوَى: الْعَسَلُ، وَاسْتَشْهَدَ بِبَيْتِ الْهُذَلِيِّ أَيْضًا، وَالسُّلْوَانَةُ بِالضَّمِّ خَرَزَةٌ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا صُبَّ عَلَيْهَا مَاءُ المطر فشربها العاشق سلا، قال الشاعر: [الطويل]
شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءَ مُزْنَةٍ ... فَلَا وَجَدِيدِ الْعَيْشِ يَا ميُّ مَا أَسْلُو «4»
وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ السُّلْوَانُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السُّلْوَانُ دَوَاءٌ يَشْفِي «5» الحزين فيسلوا وَالْأَطِبَّاءُ يُسَمُّونَهُ (مُفَرِّجٌ) . قَالُوا: وَالسَّلْوَى جَمْعٌ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ: سُمَانَى لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ وَوَيْلَى كَذَلِكَ «6» ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُهُ سَلْوَاةٌ، وَأَنْشَدَ: [الطويل]
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ «7»
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوِي، نَقَلَهُ كُلَّهُ الْقُرْطُبِيُّ «8» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى: وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ وَأَنْ يَعْبُدُوا كَمَا قَالَ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ فَخَالَفُوا وَكَفَرُوا فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ هَذَا مَعَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْقَاطِعَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَمِنْ هَاهُنَا تَتَبَيَّنُ فَضِيلَةُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ فِي صَبْرِهِمْ وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كَانُوا مَعَهُ فِي أَسْفَارِهِ وَغَزَوَاتِهِ مِنْهَا عَامُ تَبُوكَ فِي ذَلِكَ الْقَيْظِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْجَهْدِ لَمْ يَسْأَلُوا خَرْقَ عَادَةٍ وَلَا إِيجَادَ أَمْرٍ مع أن ذلك
__________
(1) المشهور «نشورها» في موضع «أشورها» . والبيت لخالد بن زهير في شرح أشعار الهذليين ص 315 ولسان العرب (سلا) وتاج العروس (شور، سلا) وتهذيب اللغة 13/ 69 والمخصص 5/ 15 وبلا نسبة في كتاب العين 7/ 298.
(2) هو مؤرج بن عمر الدوسي المتوفى سنة 195 هـ. كان من أصحاب الخليل بن أحمد.
(3) عين سلوان: عين نضاحة يتبرك بها ويستشفى منها بالبيت المقدس.
(4) البيت بلا نسبة في لسان العرب (سلا) وتهذيب اللغة 13/ 68 ومجمل اللغة 3/ 82، وتاج العروس (سلا) والقرطبي (1/ 408) .
(5) في القرطبي «يسقاه» .
(6) عبارة «وويلي كذلك» غير موجودة في القرطبي.
(7) البيت منسوب لأبي صخر الهذلي برواية: «كما انتفض العصفور بلّله القطر» ، في الأغاني 5/ 169 والإنصاف 1/ 253 وخزانة الأدب 3/ 254 والدر 3/ 79 وشرح أشعار الهذليين 2/ 957 ولسان العرب (رمث) والمقاصد النحوية 3/ 67.
(8) تفسير القرطبي 1/ 407- 408.(1/173)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
كان سهلا على النبي صلّى الله عليه وسلم لكن لَمَّا أَجْهَدَهُمُ الْجُوعُ سَأَلُوهُ فِي تَكْثِيرِ طَعَامِهِمْ فَجَمَعُوا مَا مَعَهُمْ فَجَاءَ قَدْرَ مَبْرَكِ الشَّاةِ فدعا الله فيه وأمرهم فملؤوا كُلَّ وِعَاءٍ مَعَهُمْ وَكَذَا لَمَّا احْتَاجُوا إِلَى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أَسْقِيَتَهُمْ ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَمْ تُجَاوِزِ العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مَعَ قَدَرِ اللَّهِ مَعَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
يَقُولُ تَعَالَى لَائِمًا لَهُمْ على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ لَمَّا قَدِمُوا مِنْ بِلَادِ مِصْرَ صُحْبَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُمِرُوا بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي هِيَ مِيرَاثٌ لَهُمْ عَنْ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيلَ وَقِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْعَمَالِيقِ الْكَفَرَةِ فَنَكَلُوا عَنْ قِتَالِهِمْ وَضَعُفُوا وَاسْتَحْسَرُوا فَرَمَاهُمُ اللَّهُ فِي التِّيهِ عُقُوبَةً لَهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ السُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَقَدْ قال الله تعالى حاكيا عن موسى يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا [المائدة: 21] . وقال آخرون هي أريحاء، وَيُحْكَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقِهِمْ وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحاء، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا كَانَ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَشِيَّةَ جُمُعَةٍ وَقَدْ حُبِسَتْ لَهُمُ الشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلًا حتى أمكن الفتح، وَلَمَّا فَتَحُوهَا أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ بَابَ الْبَلَدِ سُجَّداً أَيْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ ورد بلدهم عليهم وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ التِّيهِ وَالضَّلَالِ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ في قوله تعالى وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أَيْ رُكَّعًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ «1» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ بِهِ وَزَادَ: «فَدَخَلُوا مِنْ قِبَلِ اسْتَاهِهِمْ» ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:
أُمِرُوا أَنْ يَسْجُدُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ حال دخلوهم، وَاسْتَبْعَدَهُ الرَّازِيُّ. وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ هاهنا بالسجود الْخُضُوعُ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَقَالَ خُصَيْفٌ: قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كَانَ الْبَابُ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وقتادة والضحاك: هو باب الحطة من
__________
(1) الطبري 1/ 339.(1/174)
باب إيلياء بيت المقدس. وحكى الرازي عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القبلة، وَقَالَ خُصَيْفٌ قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَدَخَلُوا عَلَى شِقٍّ «1» ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ أَبِي الْكَنُودِ عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود: قيل لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فَدَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ أَيْ رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ خِلَافَ مَا أُمِرُوا.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُولُوا حِطَّةٌ قَالَ: مَغْفِرَةٌ اسْتَغْفِرُوا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُولُوا حِطَّةٌ قَالَ: قُولُوا: هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ، كَمَا قِيلَ لَكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قُولُوا: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلى رجل قد سماه فسأله عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقُولُوا حِطَّةٌ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ أَقِرُّوا بِالذَّنْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيِ احْطُطْ عَنَّا خَطَايَانَا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وقال: هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ أَيْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْنَاكُمْ غَفَرْنَا لَكُمُ الْخَطِيئَاتِ وَضَاعَفْنَا لَكُمُ الْحَسَنَاتِ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَخْضَعُوا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفَتْحِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَيَسْتَغْفِرُوا مِنْهَا وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ عِنْدَهَا والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فَسَّرَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ نُعِيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ ذَلِكَ وَنَعَى إِلَيْهِ رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ أَيْضًا، وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْخُضُوعُ جِدًّا عِنْدَ النَّصْرِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ داخلا إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لِرَبِّهِ حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ لَيَمَسُّ مَوْرِكَ رَحْلِهِ «2» شكرا لله عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ الْبَلَدَ اغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَذَلِكَ ضُحًى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هِيَ صَلَاةُ الْفَتْحِ فَاسْتَحَبُّوا لِلْإِمَامِ وَلِلْأَمِيرِ إِذَا فَتَحَ بَلَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ عِنْدَ أَوَّلِ دُخُولِهِ كَمَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا دَخَلَ إِيوَانَ كِسْرَى صَلَّى فِيهِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمٍ، وَقِيلَ يُصَلِّيهَا كُلَّهَا بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قَالَ الْبُخَارِيُّ «3» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هريرة رضي الله
__________
(1) أي على جهد ومشقّة.
(2) العثنون: اللحية. ومورك الرحل: المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل، يضع الراكب رجله عليها ليستريح من وضع رجله في الركاب.
(3) صحيح البخاري (تفسير سورة 7 باب 3) .(1/175)
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ- فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا وقالوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِهِ مَوْقُوفًا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِبَعْضِهِ مُسْنَدًا فِي قوله تعالى: حِطَّةٌ قال: فبدلوا وقالوا حَبَّةٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ فَبَدَّلُوا وَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ فَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ وَمُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
كَانَ تَبْدِيلُهُمْ كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمَّنْ لَا أَتَّهِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلُوا الْبَابَ- الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا- يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شُعَيْرَةٍ» وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُسَافِرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ هشام بمثله، هَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ فِي كِتَابِ الْحُرُوفِ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا أحمد بْنِ الْمُنْذِرِ الْقَزَّازُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَجَزْنَا فِي ثَنِيَّةٍ «2» يُقَالُ لَهَا ذَاتُ الْحَنْظَلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما مَثَلُ هَذِهِ الثَّنِيَّةِ اللَّيْلَةَ إِلَّا كَمَثَلِ الْبَابِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ» . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 142] قَالَ: الْيَهُودُ: قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قَالَ: رُكَّعًا، وَقُولُوا حِطَّةٌ أَيْ مَغْفِرَةٌ، فَدَخَلُوا عَلَى اسَتَاهِهِمْ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شُعَيْرَةٌ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ أَبِي الْكَنُودِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَقُولُوا حِطَّةٌ، فَقَالُوا:
حِنْطَةٌ، حَبَّةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شُعَيْرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: هطا سمعاتا أزبة مزبا «3» ، فَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَمْرَاءُ مَثْقُوبَةُ فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139.
(2) في الدر المنثور: «اجتزنا في برية» . [.....]
(3) رواه الطبري 1/ 344، وفيه أنهم قالوا: «هطى سمقايا ازبة هزبا» .(1/176)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَيَحْيَى بْنِ رَافِعٍ.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ المفسرون وما دل عليه السياق أَنَّهُمْ بَدَّلُوا أَمْرَ اللَّهِ لَهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَأُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا سُجَّدًا فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ مِنْ قِبَلِ اسْتَاهِهِمْ رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ وَأُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ أَيِ احْطُطْ عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزأوا فقالوا حنطة في شعيرة، وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ وَعَذَابَهُ بِفِسْقِهِمْ وَهُوَ خُرُوجُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الرِّجْزِ يَعْنِي بِهِ الْعَذَابَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ الْعَذَابُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الرِّجْزُ الْغَضَبُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الرِّجْزُ إِمَّا الطَّاعُونُ وَإِمَّا الْبَرْدُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الطَّاعُونُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ «إذا سمعتم الطاعون بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا» الْحَدِيثَ «1» ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ أو السقم رِجْزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ» «2» وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أَبِي النَّضْرِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ بِنَحْوِهِ.
[سورة البقرة (2) : آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي إِجَابَتِي لِنَبِيِّكُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ اسْتَسْقَانِي لَكُمْ وَتَيْسِيرِي لَكُمُ الْمَاءَ وَإِخْرَاجَهُ لَكُمْ مِنْ حَجَرٍ معكم وتفجيري الماء لكم منه من اثنتي عَشْرَةَ عَيْنًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ أَسْبَاطِكُمُ عَيْنٌ قَدْ عَرَفُوهَا فَكُلُوا مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا مِنْ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي أَنْبَعْتُهُ لَكُمْ بِلَا سَعْيٍ مِنْكُمْ وَلَا كَدٍّ وَاعْبُدُوا الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ ذَلِكَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
__________
(1) البخاري (طب باب 30) ومسلم (سلام حديث 92، 93، 94) .
(2) الطبري 1/ 345.(1/177)
وَلَا تُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالْعِصْيَانِ فَتُسْلَبُوهَا.
وَقَدْ بَسَطَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَلَامِهِمْ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: وَجُعِلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرٌ مُرَبَّعٌ وَأُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْهُ ثَلَاثُ عُيُونٍ وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْهَا لَا يَرْتَحِلُونَ مِنْ مَنْقَلَةٍ «1» إِلَّا وَجَدُوا ذَلِكَ مَعَهُمْ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ بِالْمَنْزِلِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهُوَ حَدِيثُ الْفُتُونِ الطَّوِيلُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: وَجُعِلَ لَهُمْ حجرا مِثْلُ رَأْسِ الثَّوْرِ يُحْمَلُ عَلَى ثَوْرٍ فَإِذَا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى عليه السلام بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فَإِذَا سَارُوا حَمَلُوهُ عَلَى ثَوْرٍ فَاسْتَمْسَكَ الْمَاءُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ: كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حَجَرٌ فَكَانَ يَضَعُهُ هَارُونُ وَيَضْرِبُهُ مُوسَى بِالْعَصَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ حَجَرًا طُورِيًّا مِنَ الطُّورِ يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا نَزَلُوا ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ كَانَ من الرخام وَكَانَ ذِرَاعًا فِي ذِرَاعٍ وَقِيلَ مِثْلَ رَأْسِ الإنسان وقيل كان من الْجَنَّةِ طُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى وَلَهُ شُعْبَتَانِ تَتَّقِدَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَكَانَ يُحْمَلُ عَلَى حِمَارٍ، قَالَ: وَقِيلَ أَهْبَطَهُ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَوَارَثُوهُ حَتَّى وَقَعَ إِلَى شُعَيْبٍ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ مَعَ الْعَصَا، وَقِيلَ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَإِنَّ فِيهِ قُدْرَةً وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةً فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ أَيِ اضْرِبِ الشَّيْءَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَجَرُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ، قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمُعْجِزَةِ وَأَبْيَنُ فِي الْقُدْرَةِ فَكَانَ يَضْرِبُ الْحَجَرَ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرُ ثُمَّ يَضْرِبُهُ فَيَيْبَسُ، فَقَالُوا: إِنْ فَقَدَ مُوسَى هَذَا الْحَجَرَ عَطِشْنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يُكَلِّمَ الْحِجَارَةَ فَتَنْفَجِرَ وَلَا يَمَسَّهَا بِالْعَصَا لعلهم يقرون، والله أعلم.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ النَّضْرِ: قُلْتُ لِجُوَيْبِرٍ: كَيْفَ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ؟ قَالَ: كَانَ مُوسَى يَضَعُ الْحَجَرَ وَيَقُومُ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلٌ وَيَضْرِبُ مُوسَى الْحَجَرَ فَيَنْفَجِرُ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فَيَنْضَحُ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ عَلَى رَجُلٍ فَيَدْعُو ذَلِكَ الرَّجُلُ سِبْطَهُ إِلَى تِلْكَ الْعَيْنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ شَقَّ لَهُمْ مِنَ الحجر أنهارا، وقال الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذَلِكَ فِي التِّيهِ ضَرَبَ لهم موسى الحجر فصار منه اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةٌ بِالْقِصَّةِ التي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَكِنَّ تِلْكَ مَكِّيَّةٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقص على رسوله صلّى الله عليه وسلم ما فعل لهم. وَأَمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ- وَهِيَ الْبَقَرَةُ- فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، فَلِهَذَا كَانَ الْخِطَابُ فِيهَا مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِمْ،. وَأَخْبَرَ هُنَاكَ بُقُولِهِ: فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [الْأَعْرَافِ:
160] وَهُوَ أَوَّلُ الِانْفِجَارِ، وَأَخْبَرَ هَاهُنَا بما آل إليه الحال آخرا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار
__________
(1) الصواب «لا يرتحلون منقلة» كما في الطبري 1/ 347. والمنقلة: المرحلة من مراحل السفر، والجمع مناقل.(1/178)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
هَاهُنَا وَذَاكَ هُنَاكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَبَيْنَ السِّيَاقَيْنِ تَبَايُنٌ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ لَفْظِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ قَدْ سأل عنها الزمخشري فِي تَفْسِيرِهِ وَأَجَابَ عَنْهَا بِمَا عِنْدَهُ، وَالْأَمْرُ في ذلك قريب. والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِي عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا طَيِّبًا نَافِعًا هَنِيئًا سهلا واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم. قال الحسن البصري: فَبَطَرُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَذَكَرُوا عَيْشَهُمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَكَانُوا قَوْمًا أَهْلَ أَعْدَاسٍ وبصل وبقول وَفُومٍ فَقَالُوا: يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها وإنما قالوا على طعام واحد وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لِأَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل وَاحِدٍ: فَالْبُقُولُ وَالْقِثَّاءُ وَالْعَدَسُ وَالْبَصَلُ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ، وَأَمَّا الْفُومُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَاهُ، فَوَقَعَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَثُومِهَا بِالثَّاءِ، وكذا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْهُ، بِالثُّومِ. وَكَذَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَارَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ:
وَفُومِها قَالَ: قال ابن عباس: الثوم. قال: وَفِي اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ: فَوِّمُوا لَنَا بِمَعْنَى اخْتَبِزُوا. قال ابْنُ جَرِيرٍ «1» : فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَإِنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُبْدَلَةِ كَقَوْلِهِمْ: وَقَعُوا فِي عَاثُورِ شَرٍّ وَعَافُورِ شَرٍّ، وَأَثَافِيُّ وَأَثَاثِيُّ، وَمَغَافِيرُ وَمَغَاثِيرُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا تُقْلَبُ الْفَاءُ ثَاءً وَالثَّاءُ فَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ، وَهُوَ الْبُرُّ الَّذِي يُعْمَلُ مِنْهُ الْخُبْزُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قِرَاءَةً حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ: سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: وَفُومِها
مَا فُومُهَا؟ قَالَ: الْحِنْطَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ، وَهُوَ يقول: [الكامل]
قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ «2»
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشيدين بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تعالى: وَفُومِها قال: الفوم الحنطة
__________
(1) الطبري 1/ 352.
(2) البيت لأبي محجن الثقفي في اللسان (فوم) أنشده الأخفش له وروايته: «قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... نزل المدينة» . وكذا رواية القرطبي 1/ 425. وهو في الروض الأنف 2/ 45 لأبي أميمة أو لأبي محجن، ورواه «سكن المدينة» .(1/179)
بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ «1» ، وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْفُومَ الْحِنْطَةُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَفُومِها قَالَا: وخبزها، وقال هشيم عن يونس عن الحسين وَحُصَيْنٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَفُومِها قَالَ: الْحِنْطَةُ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وعبد الرحمن بن يزيد بن أسلم وغيرهم، فالله أَعْلَمُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفُومُ: الْحِنْطَةُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْفُومُ: السُّنْبُلَةُ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ:
أَنَّ الْفُومَ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ «2» . قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْحِمَّصُ، لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، وَمِنْهُ يقال لبائعه:
فامي، مغير عن فومي، قال الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا فُومٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِيهِ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى مَا سَأَلُوا مِنْ هَذِهِ الْأَطْعِمَةِ الدنيئة مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ والطعام الهنيء الطيب النافع، وقوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً هَكَذَا هُوَ مُنَوَّنٌ مَصْرُوفٌ، مَكْتُوبٌ بِالْأَلْفِ فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَهُوَ قِرَاءَةُ الجمهور بالصرف. وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْمَصَاحِفِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اهْبِطُوا مِصْراً قال: مصر مِنَ الْأَمْصَارِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَقَّالِ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَعَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كعب وابن مسعود اهْبِطُوا مِصْراً مِنْ غَيْرِ إِجْرَاءٍ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُمَا فَسَّرَا ذَلِكَ بِمِصْرِ فِرْعَوْنَ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ والربيع وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مِصْرَ فِرْعَوْنَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِجْرَاءِ أَيْضًا. وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاتِّبَاعِ لِكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَوارِيرَا قَوارِيرَا [الْإِنْسَانِ: 15- 16] ثُمَّ تَوَقَّفَ فِي الْمُرَادِ مَا هُوَ أَمِصْرُ فِرْعَوْنَ أَمْ مِصْرٌ مِنَ الْأَمْصَارِ؟ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ: مِصْرٌ مِنَ الْأَمْصَارِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمْ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَزِيزٍ بَلْ هُوَ كَثِيرٌ في أي بلد دخلتموها وَجَدْتُمُوهُ، فَلَيْسَ يُسَاوِي مَعَ دَنَاءَتِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي الْأَمْصَارِ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ فِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ أَيْ مَا طَلَبْتُمْ، وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ لَمْ يجابوا إليه والله أعلم.
يَقُولُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أَيْ وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا
__________
(1) الطبري 1/ 352.
(2) القرطبي 1/ 426.(1/180)
أَيْ لَا يَزَالُونَ مُسْتَذَلِّينَ، مَنْ وَجَدَهُمُ اسْتَذَلَّهُمْ وَأَهَانَهُمْ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الصَّغَارَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ في أنفسهم أذلاء متمسكون. قال الضحاك، عن ابن عباس: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ النيالات يعني الْجِزْيَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَالَ: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وقال الضحاك: وضربت عليه الذِّلَّةُ، قَالَ: الذُّلُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فلا منعة لهم، وجعلهم تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَإِنَّ الْمَجُوسَ لَتَجْبِيهِمُ الْجِزْيَةَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمَسْكَنَةُ الْفَاقَةُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: الْخَرَاجُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الْجِزْيَةُ، وَقَوْلُهُ تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فَحَدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: اسْتَوْجَبُوا سُخْطًا، وَقَالَ ابن جرير: يعني بقوله: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا، وَلَا يُقَالُ: باء إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ يُقَالُ مِنْهُ: بَاءَ فُلَانٌ بِذَنْبِهِ يَبُوءُ بِهِ بَوْءًا وَبَوَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الْمَائِدَةِ: 29] يَعْنِي تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا قَدْ صَارَا عَلَيْكَ دُونِي. فَمَعْنَى الكلام: إذا رجعوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي جَازَيْنَاهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وإحلال الغضب بهم من الذلة، بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَإِهَانَتِهِمْ حَمَلَةَ الشَّرْعِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَانْتَقَصُوهُمْ إِلَى أَنْ أَفْضَى بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أن قتلوهم، فلا كفر أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» «1» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنْتُ لَا أَحْجُبُ عَنِ النَّجْوَى، وَلَا عَنْ كَذَا وَلَا عَنْ كذا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَالِكُ بْنُ مُرَارَةَ الرَّهَاوِيُّ، فَأَدْرَكْتُهُ مِنْ آخِرِ حَدِيثِهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قُسِمَ لِي مِنَ الْجَمَالِ مَا تَرَى، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَضَلَنِي بِشِرَاكَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، أَفَلَيَسَ ذَلِكَ هُوَ الْبَغْيُ؟ فَقَالَ: «لَا لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْبَغْيِ وَلَكِنَّ الْبَغْيَ مَنْ بَطَرَ» ، أَوْ قَالَ: «سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمِطَ النَّاسَ» «2» يَعْنِي رَدَّ الْحَقِّ، وَانْتِقَاصَ النَّاسِ، وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ، وَالتَّعَاظُمَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا ارْتَكَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِ الله، وقتلهم أنبياءه، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ،
__________
(1) أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا. (إيمان حديث 147) . وبطر الحق: هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا. وغمط الناس احتقارهم.
(2) مسند أحمد (ج 1 ص 385) .(1/181)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
وَكَسَاهُمْ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْيَوْمِ تَقْتُلُ ثَلَاثَمِائَةِ نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخِرِ النَّهَارِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وَهَذِهِ عِلَّةٌ أُخْرَى فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا جُوزُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْصُونَ وَيَعْتَدُونَ فَالْعِصْيَانُ فِعْلُ الْمَنَاهِي، وَالِاعْتِدَاءُ الْمُجَاوَزَةُ في حد المأذون فيه والمأمور به، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
لما بيّن تَعَالَى حَالَ مَنْ خَالَفَ أَوَامِرَهُ وَارْتَكَبَ زَوَاجِرَهُ وَتَعَدَّى فِي فِعْلِ مَا لَا إِذْنَ فِيهِ وَانْتَهَكَ الْمَحَارِمَ وَمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَأَطَاعَ فَإِنَّ لَهُ جَزَاءَ الْحُسْنَى، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ فَلَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ وَيُخَلِّفُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: 62] وَكَمَا تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فُصِّلَتْ: 30] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عمر بْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ رضي الله عنه: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْتُ مَعَهُمْ، فَذَكَرْتُ مِنْ صَلَاتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ بَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ ذَكَرَ أصحابه فأخبره خبرهم، فقال كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك وَيَشْهَدُونَ أَنَّكَ سَتُبْعَثُ نَبِيًّا، فَلَّمَا فَرَغَ سَلْمَانُ مِنْ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا سَلْمَانُ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَكَانَ إِيمَانُ الْيَهُودِ أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَسُنَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام حتى جاء عيسى فلما جاء كَانَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخَذَ بِسُنَّةِ مُوسَى فَلَمْ يَدَعْهَا وَلَمْ يَتْبَعْ عِيسَى كَانَ هَالِكًا، وَإِيمَانُ النَّصَارَى أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِنْجِيلِ مِنْهُمْ وَشَرَائِعِ عِيسَى كَانَ مُؤْمِنًا مَقْبُولًا مِنْهُ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَيَدَعْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّةِ عيسى والإنجيل كان هالكا.
__________
(1) المسند (ج 1 حديث ص 407) .(1/182)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوُ هَذَا. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية- قال- فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ طَرِيقَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ بعثه بِمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فِي زَمَانِهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَسَبِيلٍ وَنَجَاةٍ، فَالْيَهُودُ أَتْبَاعُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى التَّوْرَاةِ فِي زَمَانِهِمْ. وَالْيَهُودُ مِنَ الْهَوَادَةِ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ، أَوِ التَّهَوُّدُ وَهِيَ التَّوْبَةُ، كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 156] أَيْ تُبْنَا، فَكَأَنَّهُمْ سُمُّوا بِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لِتَوْبَتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ فِي بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لِأَنَّهُمْ يَتَهَوَّدُونَ أَيْ يَتَحَرَّكُونَ عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ، فَلَمَّا بُعِثَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ اتِّبَاعُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ، فَأَصْحَابُهُ وَأَهْلُ دينه هم النصارى، سموا بِذَلِكَ لِتَنَاصُرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ لَهُمْ أَنْصَارٌ أَيْضًا، كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالنَّصَارَى جَمْعُ نَصْرَانَ، كَنَشَاوَى جَمْعُ نَشْوَانَ، وَسُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نصرانة وقال الشاعر:
[الطويل]
[فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها ... كما سجدت] نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ «1»
فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَالِانْكِفَافُ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وَسُمِّيَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنِينَ لِكَثْرَةِ إِيمَانِهِمْ، وَشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِيَةِ وَالْغُيُوبِ الْآتِيَةِ، وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ، فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى وليس لَهُمْ دِينٌ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالضَّحَّاكُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: الصَّابِئُونَ فِرْقَةٌ مِنْ أهل الكتاب يقرءون الزَّبُورَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: لَا بَأْسَ بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ، وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ: كنا عند الحكم بن عتبة، فَحَدَّثَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّابِئِينَ: إِنَّهُمْ كَالْمَجُوسِ فَقَالَ الْحَكَمُ: أَلَمْ أُخْبِرْكُمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ فَقَالَ: هُمْ قوم يعبدون
__________
(1) البيت لأبي الأخرز الحماني في الإنصاف 2/ 445، والكتاب 3/ 411 ولسان العرب (نصر) وبلا نسبة في الكتاب 3/ 256 والطبري 1/ 359.(1/183)
الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَ زِيَادٌ أَنَّ الصَّابِئِينَ يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَ عَنْهُمُ الْجِزْيَةَ، قَالَ: فَخُبِّرَ بَعْدُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ «1» . وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، ويقرءون الزبور ويصلون للقبلة «2» ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ وَهُمْ بِكُوثَى، وَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّينَ كُلِّهِمْ وَيَصُومُونَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْيَمَنِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَسُئِلَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنِ الصَّابِئِينَ فَقَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَيْسَتْ لَهُ شَرِيعَةٌ يَعْمَلُ بِهَا وَلَمْ يُحْدِثْ كُفْرًا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: الصَّابِئُونَ أَهْلُ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، كَانُوا بِجَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ، يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كِتَابٌ وَلَا نَبِيٌّ إِلَّا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولٍ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ يُشَبِّهُونَهُمْ بِهِمْ، يَعْنِي فِي قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ الْجَنُوبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وحكى القرطبي «3» عن مجاهد والحسن وابن نَجِيحٍ، أَنَّهُمْ قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ والمجوس «4» ، ولا تؤكل ذبائحهم وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَيَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وَأَنَّهَا فَاعِلَةٌ «5» ، وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ بِكُفْرِهِمْ لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ حين سأله عنهم. واختار الرَّازِيُّ أَنَّ الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا قِبْلَةً لِلْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَوَّضَ تَدْبِيرَ أَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ إِلَيْهَا، قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْسُوبُ إلى الكلدانيين «6» الذين جاءهم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادًّا عَلَيْهِمْ وَمُبْطِلًا لِقَوْلِهِمْ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُتَابِعِيهِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَيْسُوا عَلَى دِينِ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى وَلَا الْمَجُوسِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، وإنما هم بَاقُونَ عَلَى فِطْرَتِهِمْ وَلَا دِينٌ مُقَرَّرٌ لَهُمْ يتبعونه ويقتنونه، ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ، أَيْ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ سَائِرِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الصَّابِئُونَ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1) الطبري 1/ 361.
(2) تفسير الرازي 3/ 98. وقد نقله من قول قتادة. [.....]
(3) القرطبي 1/ 434.
(4) عبارة القرطبي: «بين اليهودية والمجوسية» .
(5) في القرطبي: «فعّالة» .
(6) في الأصل «الكشرانيين» . والتصحيح عن الرازي.(1/184)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
يقول تعالى مذكرا بني إسرائيل ما أخد عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، رَفَعَ الْجَبَلَ فوق رُؤُوسِهِمْ لِيُقِرُّوا بِمَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ وجزم وَامْتِثَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:
171] فالطور هو الجبل كما فسره به في الْأَعْرَافِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الطُّورُ مَا أَنْبَتَ مِنَ الْجِبَالِ، وَمَا لَمْ يُنْبِتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ. وَفِي حَدِيثِ الْفُتُونِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا أَمَرَ اللَّهُ الْجَبَلَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَقَدْ غَشِيَهُمْ فَسَقَطُوا سُجَّدًا فَسَجَدُوا عَلَى شِقٍّ وَنَظَرُوا بِالشِّقِّ الْآخَرِ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ فَكَشَفَهُ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا سَجْدَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَجْدَةٍ كَشَفَ بِهَا الْعَذَابَ عَنْهُمْ فَهُمْ يسجدون كذلك، وذلك قول الله تَعَالَى وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يَعْنِي التَّوْرَاةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِقُوَّةٍ أي بطاعة، وقال مجاهد: بقوة بعمل ما فِيهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ الْقُوَّةُ: الْجِدُّ وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَأَقَرُّوا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا به بِقُوَّةٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيْ أَسْقَطْتُهُ عَلَيْكُمْ، يَعْنِي الْجَبَلَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ والربيع وَاذْكُرُوا ما فِيهِ يقول: اقرءوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَاعْمَلُوا بِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْمِيثَاقِ الْمُؤَكَّدِ الْعَظِيمِ تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ وَانْثَنَيْتُمْ وَنَقَضْتُمُوهُ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي بتوبته عَلَيْكُمْ وَإِرْسَالُهُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ بِنَقْضِكُمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ما أحل مِنَ الْبَأْسِ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي عَصَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَخَالَفُوا عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ فِيمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ السَّبْتِ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ إِذْ كَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ، فَتَحَيَّلُوا عَلَى اصْطِيَادِ الْحِيتَانِ فِي يوم السبت بما وضعوا لَهَا مِنَ الشُّصُوصِ «1» وَالْحَبَائِلِ وَالْبِرَكِ قَبْلَ يَوْمِ السَّبْتِ فَلَمَّا جَاءَتْ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَى عَادَتِهَا في الكثرة نشبت بتلك الحبائل
__________
(1) الشصوص: جمع شصّ، وهو حديدة معقوفة يصاد بها السمك.(1/185)
وَالْحِيَلِ، فَلَمْ تَخْلُصْ مِنْهَا يَوْمَهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّبْتِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، مَسَخَهُمُ اللَّهُ إِلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَهِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْأَنَاسِيِّ فِي الشَّكْلِ الظَّاهِرِ وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لَمَّا كَانَتْ مُشَابِهَةً لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ وَمُخَالِفَةً لَهُ فِي الْبَاطِنِ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حيث يقول تعالى:
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْأَعْرَافِ: 163] الْقِصَّةُ بِكَمَالِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ هُمْ أَهْلُ أَيْلَةَ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَسَنُورِدُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ هُنَاكَ مَبْسُوطَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثقة.
وقوله تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قَالَ:
مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً. وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَةِ: 5] وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أَبِي عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ «1» ، وَهَذَا سَنَدٌ جَيِّدٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَوْلٌ غَرِيبٌ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنَ السِّيَاقِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَفِي غَيْرِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [الْمَائِدَةِ:
60] ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ فَزَعَمَ أَنَّ شَبَابَ القوم صاروا قردة وأن المشيخة صَارُوا خَنَازِيرَ. وَقَالَ شَيْبَانُ النَّحْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَصَارَ الْقَوْمُ قردة تَعَاوَى، لَهَا أَذْنَابٌ بَعْدَ مَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: نُودُوا يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فيقولون برءوسهم: أَيْ بَلَى، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن ربيعة بالمصيصية «2» ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، يَعْنِي الطَّائِفِيَّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ فَجُعِلُوا قِرَدَةً فُوَاقًا «3» ، ثُمَّ هَلَكُوا مَا كَانَ لِلْمَسْخِ نَسْلٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً بِمَعْصِيَتِهِمْ، يَقُولُ: إِذْ لَا يَحْيَوْنَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: وَلَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسَلْ وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَسَائِرَ الْخَلْقِ فِي السِّتَّةِ الْأَيَّامِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة
__________
(1) الطبري 1/ 373.
(2) كذا. ولعلها المصيصة: مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس (معجم البلدان) .
(3) الفواق: ما بين الحلبتين من الراحة.(1/186)
الْقِرَدَةِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِمَنْ يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ، ويحوله كما يشاء، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ «1» ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قَالَ: يَعْنِي أَذِلَّةً صَاغِرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي مَالِكٍ نَحْوُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أبي الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا افْتَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْيَوْمَ الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فِي عِيدِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَخَالَفُوا إِلَى السَّبْتِ فَعَظَّمُوهُ وَتَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا لُزُومَ السَّبْتِ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَكَانُوا فِي قَرْيَةٍ بَيْنَ أَيْلَةَ وَالطُّورِ، يُقَالُ لَهَا: مَدْيَنُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي السَّبْتِ الْحِيتَانَ صَيْدَهَا وَأَكْلَهَا، وَكَانُوا إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ شُرَّعًا إِلَى سَاحِلِ بَحْرِهِمْ، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبْنَ فَلَمْ يَرَوْا حُوتًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَتَيْنَ شُرَّعًا، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبْنَ، فَكَانُوا كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَرِمُوا «2» إِلَى الْحِيتَانِ، عَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخَذَ حُوتًا سِرًّا يوم السبت فحزمه بِخَيْطٍ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْمَاءِ وَأَوْتَدَ لَهُ وتدا في الساحل فأوثقه تم تَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ جَاءَ فَأَخَذَهُ أَيْ إِنِّي لَمْ آخُذْهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ «3» ، فانطلق بِهِ فَأَكَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرِ عَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، وَوَجَدَ النَّاسُ رِيحَ الْحِيتَانِ، فَقَالَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْنَا رِيحَ الْحِيتَانِ، ثُمَّ عَثَرُوا عَلَى صَنِيعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، قَالَ: فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ، وَصَنَعُوا سِرًّا زَمَانًا طَوِيلًا لَمْ يُعَجِّلِ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَقِيَّةِ: وَيَحْكَمُ اتقوا الله، ونهوهم عما كانوا يَصْنَعُونَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ تَأْكُلِ الْحِيتَانَ، وَلَمْ تَنْهَ الْقَوْمَ عَمَّا صَنَعُوا، لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؟ قالُوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ [الأعراف: 164] لسخطنا أعمالهم وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ وَفَقَدُوا الناس فلم يروهم، قال: فقال بعضهم لبعض: إن للناس شأنا، فَانْظُرُوا مَا هُوَ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فِي دُورِهِمْ، فَوَجَدُوهَا مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ، قَدْ دَخَلُوهَا لَيْلًا فَغَلَّقُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا يُغْلِقُ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَأَصْبَحُوا فِيهَا قِرَدَةً، وَإِنَّهُمْ لَيَعْرِفُونَ الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ وإنه لقرد، والمرأة وَإِنَّهَا لَقِرْدَةٌ، وَالصَّبِيَّ بِعَيْنِهِ وَإِنَّهُ لَقِرْدٌ، قَالَ: قال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ نجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الله الْجَمِيعَ مِنْهُمْ، قَالَ: وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الْأَعْرَافِ: 163] ، وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوًا من هذا. وقال السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال: هم أَهْلُ أَيْلَةَ، وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر،
__________
(1) الطبري 1/ 374.
(2) أي اشتدت شهوتهم إلى لحم الحيتان.
(3) أي مدعيا، على سبيل الاحتيال والمخادعة، أنه لم يأخذه في يوم السبت.(1/187)
فَكَانَتِ الْحِيتَانُ إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ يَعْمَلُوا فِي السبت شيئا، فلم يَبْقَ فِي الْبَحْرِ حُوتٌ إِلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمَهُنَّ مِنَ الْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الأحد لزمن سفل الْبَحْرِ فَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ يوم السبت، فذلك قوله تعالى وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ فَاشْتَهَى بَعْضُهُمُ السَّمَكَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ فُتِحَ النَّهْرُ فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يُطِيقُ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ ماء النهر، فيمكث فيها، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ، جَاءَ فَأَخَذَهُ، فَجَعَلَ الرجل يشوي السمك، فيجد جاره روائحه، فَيَسْأَلُهُ فَيُخْبِرُهُ، فَيَصْنَعُ مِثْلَ مَا صَنَعَ جَارُهُ حَتَّى فَشَا فِيهِمْ أَكْلُ السَّمَكِ، فَقَالَ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ: وَيَحْكَمُ، إِنَّمَا تَصْطَادُونَ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا صِدْنَاهُ يَوْمَ الأحد حين أخذناه، قال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الْمَاءَ فَدَخَلَ، قَالَ: وَغَلَبُوا أَنْ يَنْتَهُوا. فَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ لِبَعْضٍ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً يَقُولُ: لم تعظونهم وَقَدْ وَعَظْتُمُوهُمْ فَلَمْ يُطِيعُوكُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا أَبَوْا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نُسَاكِنُكُمْ في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار وفتح الْمُسْلِمُونَ بَابًا وَالْمُعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ بَابًا وَلَعَنَهُمْ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَخْرُجُونَ مِنْ بَابِهِمْ، وَالْكُفَّارُ مِنْ بَابِهِمْ، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ ذَاتَ يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطئوا عَلَيْهِمْ، تَسَوَّرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ يَثِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَفَتَحُوا عَنْهُمْ فَذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الْمَائِدَةِ: 78] : فَهُمُ الْقِرَدَةُ.
(قُلْتُ) وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، بَيَانُ خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنْ أَنَّ مَسْخَهُمْ إِنَّمَا كَانَ مَعْنَوِيًّا لَا صُورِيًّا، بل الصحيح أنه معنوي وصوري، والله أعلم.
وقوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا قَالَ بَعْضُهُمْ: الضَّمِيرُ فِي فَجَعَلْنَاهَا عَائِدٌ عَلَى الْقِرَدَةِ وَقِيلَ عَلَى الْحِيتَانِ وَقِيلَ عَلَى الْعُقُوبَةِ وَقِيلَ عَلَى الْقَرْيَةِ، حَكَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ «1» . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ، أَيْ فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِمْ فِي سَبْتِهِمْ نَكالًا أَيْ عَاقَبْنَاهُمْ عُقُوبَةً فَجَعَلْنَاهَا عِبْرَةً كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى [النَّازِعَاتِ: 25] وَقَوْلُهُ تعالى لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أَيْ مِنَ الْقُرَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي جَعَلْنَاهَا بِمَا أَحْلَلْنَا بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ عِبْرَةً لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الْأَحْقَافِ: 27] ومنه قوله تعالى
__________
(1) الطبري 1/ 374- 375.(1/188)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد: 41] ، على أحد الأقوال فِي الْمَكَانِ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الْقُرَى وما خلفها من القرى، فالمراد لما بين يديها وَمَا خَلْفَهَا مِنَ الْقُرَى، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا، قَالَ: مَنْ بِحَضْرَتِهَا مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ. وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَطِيَّةَ العوفي فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها قال: ما قَبْلَهَا مِنَ الْمَاضِينَ فِي شَأْنِ السَّبْتِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَعَطِيَّةُ: وَما خَلْفَها لِمَا بَقِيَ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّاسِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: المراد لما بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِي الزَّمَانِ.
وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ عِبْرَةً لَهُمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ سَلَفَ قَبْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِبْرَةً لمن سبقهم؟ وهذا لَعَلَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَا يَقُولُهُ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِي الْمَكَانِ، وَهُوَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ «1» ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي العالية فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أَيْ عُقُوبَةً لِمَا خَلَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْفَرَّاءِ وَابْنِ عَطِيَّةَ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا من ذُنُوبِ الْقَوْمِ وَمَا خَلْفَهَا، لِمَنْ يَعْمَلُ بَعْدَهَا مثل تلك الذنوب. وحكى الرازي ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا، مَنْ تَقَدَّمَهَا مِنَ الْقُرَى «2» بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهَا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ومن بعدها. والثاني: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ بِحَضْرَتِهَا مِنَ الْقُرَى «3» وَالْأُمَمِ. والثالث: أنه تعالى، جعلها عُقُوبَةً لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الفعل وما بعده، وهو قول الحسن. (قلت) وأرجح الأقوال الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا، مَنْ بحضرتها من القرى، يَبْلُغُهُمْ خَبَرُهَا وَمَا حَلَّ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الْأَحْقَافِ: 27] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرعد: 31] ، وقال تعالى أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد: 41] فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم، وموعظة لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ بَعْدَهُمْ فَيَتَّقُونَ نِقْمَةَ اللَّهِ وَيَحْذَرُونَهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ
__________
(1) تفسير الرازي 3/ 104.
(2) في الرازي: «من الأمم والقرون» . [.....]
(3) في الرازي: «القرون» .(1/189)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ قَالَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلْتُ) الْمُرَادُ بِالْمَوْعِظَةِ هَاهُنَا الزَّاجِرُ أَيْ جَعَلْنَا مَا أَحْلَلْنَا بِهَؤُلَاءِ مِنَ الْبَأْسِ وَالنَّكَالِ فِي مُقَابَلَةِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَمَا تَحَيَّلُوا بِهِ مِنَ الْحِيَلِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُتَّقُونَ صَنِيعَهُمْ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمر، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ هذا، وثقه الحافظ أبو بكر الْبَغْدَادِيُّ وَبَاقِي رِجَالِهِ مَشْهُورُونَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 67]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ لَكُمْ فِي شَأْنِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَانِ الْقَاتِلِ مَنْ هُوَ بِسَبَبِهَا، وَإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَنَصِّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ، فَقَتَلَهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ لَيْلًا، فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ عَلَيْهِمْ حتى تسلحوا وركب بعضهم على بَعْضٍ. فَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ وَالنُّهَى: عَلَامَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ فَأَتَوْا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قَالَ: فَلَوْ لَمْ يَعْتَرِضُوا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ أَدْنَى بَقَرَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا، فَشُدِّدْ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا، فَوَجَدُوهَا عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ بَقَرَةٌ غَيْرُهَا، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَنْقُصُهَا مِنْ مِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَأَخَذُوهَا بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَذَبَحُوهَا، فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَقَامَ فَقَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ: هَذَا- لِابْنِ أَخِيهِ، ثُمَّ مَالَ مَيِّتًا، فَلَمْ يُعْطَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، فَلَمْ يُوَرَّثْ قَاتِلٌ بَعْدُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ «1» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ بِهِ، وَرَوَاهُ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ الرَّازِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ بِهِ، وَقَالَ آدَمُ بْنُ أبي إياس في تفسره: أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ غَنِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، وَكَانَ لَهُ قَرِيبٌ، وَكَانَ وراثه، فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى مَجْمَعِ الطَّرِيقِ، وَأَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ قَرِيبِي قُتِلَ وَإِنِّي إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنِّي لَا أَجِدُ أَحَدًا يُبَيِّنُ لِي مَنْ قَتَلَهُ غيرك يا نبي الله، قال: فنادى
__________
(1) الطبري 1/ 379.(1/190)
مُوسَى فِي النَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ، فَأَقْبَلَ الْقَاتِلُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ نَبِيُّ الله، فسل لَنَا رَبَّكَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا، فَسَأَلَ رَبَّهُ، فأوحى الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَعَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ يَعْنِي لَا هَرِمَةٌ وَلا بِكْرٌ يَعْنِي وَلَا صَغِيرَةٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ نِصْفٌ بَيْنِ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها أَيْ صَافٍ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أَيْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ أي لم يذللها العمل تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ يَعْنِي وَلَيْسَتْ بِذَلُولٍ، تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الحرث يعني وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ مُسَلَّمَةٌ يَعْنِي مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ لَا شِيَةَ فِيها يَقُولُ: لَا بَيَاضَ فِيهَا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْقَوْمَ حين أمروا بذبح بَقَرَةً، اسْتَعْرَضُوا بَقَرَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا لَكَانَتْ إياها، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: إنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، لَمَا هُدُوا إِلَيْهَا أَبَدًا، فَبَلَغَنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا الْبَقَرَةَ الَّتِي نعتت لهم إلا عند عجوز وعندها يَتَامَى وَهِيَ الْقَيِّمَةُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ لَا يَزْكُو لَهُمْ غَيْرُهَا، أَضْعَفَتْ عَلَيْهِمُ الثَّمَنَ، فَأَتَوْا مُوسَى فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا هَذَا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى: إن الله قد خَفَّفَ عَلَيْكُمْ، فَشَدَّدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَأَعْطُوهَا رِضَاهَا وَحُكْمَهَا. فَفَعَلُوا وَاشْتَرَوْهَا فَذَبَحُوهَا، فَأَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السلام أن يأخذوا عظما منها فيضربوا الْقَتِيلَ، فَفَعَلُوا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ رُوحُهُ، فَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ، ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ، فَأَخَذَ قاتله، وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام، فشكا إليه، فَقَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَسْوَأِ عَمَلِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بن جرير: حدثني محمد بن سعيد، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي عَمِّي، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ فِي شَأْنِ الْبَقَرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ شَيْخًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْمَالِ، وَكَانَ بَنُو أَخِيهِ فُقَرَاءَ لَا مَالَ لَهُمْ، وَكَانَ الشَّيْخُ لَا وَلَدَ لَهُ، وكان بنو أَخِيهِ وَرَثَتُهُ فَقَالُوا لَيْتَ عَمَّنَا قَدْ مَاتَ فَوَرِثْنَا مَالَهُ، وَإِنَّهُ لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَمُوتَ عَمُّهُمْ، أَتَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ تَقْتُلُوا عَمَّكُمْ فَتَرِثُوا مَالَهُ، وَتُغْرِمُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّتِي لَسْتُمْ بِهَا دِيَتَهُ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَتَا مَدِينَتَيْنِ كَانُوا فِي إِحْدَاهُمَا، وكان القتيل إذا قتل وطرح بَيْنَ الْمَدِينَتَيْنِ، قِيسَ مَا بَيْنَ الْقَتِيلِ وَالْقَرْيَتَيْنِ، فأيتهما كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ، غَرِمَتِ الدِّيَةَ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يَمُوتَ عَمُّهُمْ، عَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ عَمَدُوا فَطَرَحُوهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ الَّتِي لَيْسُوا فِيهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، جَاءَ بَنُو أَخِي الشَّيْخِ فَقَالُوا:
عَمُّنَا قُتِلَ عَلَى بَابِ مَدِينَتِكُمْ، فو الله لَتَغْرَمُنَّ لَنَا دِيَةَ عَمِّنَا، قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا وَلَا فَتَحْنَا بَابَ مَدِينَتِنَا مُنْذُ أُغْلِقَ حَتَّى أَصْبَحْنَا، وَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ(1/191)
السَّلَامُ، فَلَمَّا أَتَوْهُ، قَالَ بَنُو أَخِي الشَّيْخِ: عَمُّنَا وَجَدْنَاهُ مَقْتُولًا عَلَى بَابِ مَدِينَتِهِمْ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا فَتَحْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ مِنْ حِينِ أَغْلَقْنَاهُ حَتَّى أصبحنا، وإن جبرائيل جَاءَ بِأَمْرِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَتَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ «1» : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بني إسرائيل مكثرا من المال، فكانت لَهُ ابْنَةٌ، وَكَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ مُحْتَاجٌ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ ابْنُ أَخِيهِ ابْنَتَهُ، فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَغَضِبَ الْفَتَى وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ عَمِّي وَلَآخُذَنَّ مَالَهُ، وَلَأَنْكِحَنَّ ابْنَتَهُ، وَلَآكُلَنَّ دِيَتَهُ، فَأَتَاهُ الْفَتَى وَقَدْ قَدِمَ تُجَّارٌ فِي بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ يَا عَمُّ، انْطَلِقْ مَعِي فَخُذْ لِي مِنْ تِجَارَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَعَلِّي أَنْ أُصِيبَ مِنْهَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكَ مَعِي أَعْطَوْنِي فَخَرَجَ الْعَمُّ مَعَ الْفَتَى لَيْلًا فَلَمَّا بَلَغَ الشَّيْخُ ذَلِكَ السِّبْطَ قَتَلَهُ الْفَتَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ عَمَّهُ، كَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ، فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا بِذَلِكَ السِّبْطِ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُمْ وَقَالَ: قَتَلْتُمْ عَمِّي، فَأَدُّوا إِلَيَّ دِيَتَهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيُنَادِي وَاعَمَاهُ، فَرَفَعَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، فَقَالُوا لَهُ:
يَا رسول الله ادع لنا ربك حَتَّى يُبَيِّنَ لَنَا مَنْ صَاحِبُهُ فَيُؤْخَذُ صَاحِبُ القضية «2» ، فو الله إن ديته علينا لهينة، ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 72] فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا: نَسْأَلُكَ عَنِ الْقَتِيلِ وَعَمَّنْ قَتَلَهُ، وَتَقُولُ اذْبَحُوا بَقَرَةً أَتَهْزَأُ بِنَا قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عنهم، ولكن شَدَّدُوا وَتَعَنَّتُوا عَلَى مُوسَى، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ وَالْفَارِضُ: الهرمة التي لا تولد، وَالْبِكْرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ إِلَّا وَلَدًا وَاحِدًا، وَالْعَوَانُ النَّصَفُ الَّتِي بَيْنَ ذَلِكَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ وَوَلَدَ وَلَدُهَا فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها قَالَ: نَقِيٌّ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالَ: تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها مِنْ بَيَاضٍ وَلَا سَوَادٍ وَلَا حُمْرَةٍ قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَطَلَبُوهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وكان رجل من بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِأَبِيهِ، وَإِنَّ رَجُلًا مَرَّ بِهِ مَعَهُ لُؤْلُؤٌ يَبِيعُهُ، وَكَانَ أَبُوهُ نَائِمًا تَحْتَ رَأْسِهِ الْمِفْتَاحُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: تَشْتَرِي مِنِّي هَذَا اللُّؤْلُؤَ بِسَبْعِينَ أَلْفًا؟ فَقَالَ لَهُ الْفَتَى: كَمَا أَنْتَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا، قال الْآخَرُ: أَيْقِظْ أَبَاكَ وَهُوَ لَكَ بِسِتِّينَ أَلْفًا، فَجَعَلَ التَّاجِرُ يَحُطُّ لَهُ حَتَّى بَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَزَادَ الْآخَرُ عَلَى أَنْ يَنْتَظِرَ أَبَاهُ حتى يستيقظ حتى بلغ مائة
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 380.
(2) في الطبري: «صاحب الجريمة» .(1/192)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
أَلْفٍ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهِ مِنْكَ بِشَيْءٍ أَبَدًا، وَأَبَى أَنْ يُوقِظَ أَبَاهُ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤِ أَنْ جَعَلَ لَهُ تِلْكَ الْبَقَرَةَ، فَمَرَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَطْلُبُونَ الْبَقَرَةَ، وَأَبْصَرُوا الْبَقَرَةَ عِنْدَهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ إِيَّاهَا بَقَرَةً بِبَقَرَةٍ، فَأَبَى، فَأَعْطَوْهُ اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فَقَالُوا:
وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ حَتَّى نَأْخُذَهَا مِنْكَ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا وَجَدْنَاهَا عِنْدَ هَذَا وأبى أَنْ يُعْطِيَنَاهَا وَقَدْ أَعْطَيْنَاهُ ثَمَنًا، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَعْطِهِمْ بَقَرَتَكَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَحَقُّ بِمَالِي، فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا، فأبى فأضعفوه له حَتَّى أَعْطَوْهُ وَزْنَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ ذَهَبًا، فَبَاعَهُمْ إياها وأخذ ثمنها، فقال:
اذبحوها فَذَبَحُوهَا، قَالَ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَضَرَبُوهُ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، فَعَاشَ، فَسَأَلُوهُ:
مَنْ قَتْلَكَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: ابْنُ أَخِي، قَالَ: أَقْتُلُهُ فَآخُذُ مَالَهُ وَأَنْكِحُ ابْنَتَهُ. فَأَخَذُوا الْغُلَامَ فَقَتَلُوهُ.
وَقَالَ سُنَيْدٌ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَحَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ- دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ-، قَالُوا: إِنَّ سِبْطًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ شُرُورِ النَّاسِ، بَنَوْا مَدِينَةً فَاعْتَزَلُوا شُرُورَ النَّاسِ، فَكَانُوا إِذَا أَمْسَوْا لَمْ يَتْرُكُوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه، وإذا أصبحوا قَامَ رَئِيسُهُمْ فَنَظَرَ وَأَشْرَفَ، فَإِذَا لَمْ يَرَ شَيْئًا فَتَحَ الْمَدِينَةَ، فَكَانُوا مَعَ النَّاسِ حَتَّى يُمْسُوا، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ أَخِيهِ، فَطَالَ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ، فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، ثُمَّ حَمَلَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ كَمَنَ فِي مَكَانٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: فَأَشْرَفَ رئيس الْمَدِينَةِ فَنَظَرَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَفَتَحَ الْبَابَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَتِيلَ رَدَّ الْبَابَ، فَنَادَاهُ أَخُو الْمَقْتُولِ وَأَصْحَابُهُ: هَيْهَاتَ قَتَلْتُمُوهُ ثُمَّ تَرُدُّونَ الْبَابَ، وَكَانَ مُوسَى لَمَّا رَأَى الْقَتْلَ كَثِيرًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا رَأَى الْقَتِيلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْقَوْمِ أَخَذَهُمْ فَكَادَ يَكُونُ بَيْنِ أَخِي الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قِتَالٌ حَتَّى لَبِسَ الْفَرِيقَانِ السِّلَاحَ ثُمَّ كَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَأَتَوْا مُوسَى، فَذَكَرُوا لَهُ شَأْنَهُمْ، قَالُوا: يَا موسى إِنَّ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا قَتِيلًا ثُمَّ رَدُّوا الْبَابَ، قال أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ اعْتِزَالَنَا الشُّرُورَ، وَبَنَيْنَا مَدِينَةً كَمَا رَأَيْتَ نَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ، وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً وهذه السياقات عَنْ عُبَيْدَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، فِيهَا اخْتِلَافٌ مَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ مِمَّا يَجُوزُ نَقْلُهَا، وَلَكِنْ لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عَلَيْهَا إِلَّا مَا وَافَقَ الْحَقَّ عِنْدَنَا، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 68 الى 71]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)(1/193)
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثْرَةِ سؤالهم لرسولهم، لهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَوَقَعَتِ الْمَوْقِعَ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ أي مَا هَذِهِ الْبَقَرَةُ وَأَيُّ شَيْءٍ صِفَتُهَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا تمّام بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عَلَيْهِمْ- إِسْنَادٌ صَحِيحٌ- وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا قَالَ عُبَيْدَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: لَوْ أَخَذُوا أدنى بقرة لكفتهم، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أُمِرُوا بِأَدْنَى بَقَرَةٍ ولكنهم لما شددوا شَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّهُمْ لم يستثنوا لما بُيِّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الْأَبَدِ» قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ أَيْ لَا كَبِيرَةً هَرِمَةً وَلَا صَغِيرَةً لَمْ يَلْحَقْهَا الْفَحْلُ، كَمَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَوَانٌ بين ذلك، يقول نصف بين الكبير وَالصَّغِيرَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَقَرِ، وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالضَّحَّاكِ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ:
الْعَوَانُ: النَّصَفُ الَّتِي بَيْنَ ذَلِكَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ وَوَلَدَ وَلَدُهَا، وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي الْبَقَرَةِ: كَانَتْ بَقَرَةً وَحْشِيَّةً، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ لَبِسَ نَعْلًا صَفْرَاءَ لَمْ يَزَلْ فِي سُرُورٍ مَا دَامَ لا لابسها، وذلك قوله تعالى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَوَهْبُ بْنُ منبه: كَانَتْ صَفْرَاءَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَتْ صَفْرَاءَ الظِّلْفِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَتْ صَفْرَاءَ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنِ الْحَسَنِ في قوله تعالى: بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها قَالَ سَوْدَاءُ شَدِيدَةُ السَّوَادِ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا أَكَّدَ صُفْرَتَهَا بِأَنَّهُ فاقِعٌ لَوْنُها وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ فاقِعٌ لَوْنُها تَكَادُ تَسْوَدُّ مِنْ صُفْرَتِهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فاقِعٌ لَوْنُها قَالَ: صَافِيَةُ اللَّوْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ شَرِيكٌ عن معمر عَنْ ابْنِ عُمَرَ فاقِعٌ لَوْنُها قَالَ: صَافٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فاقِعٌ لَوْنُها تَكَادُ تَسْوَدُّ مِنْ صُفْرَتِهَا، وَقَالَ سعيد بن جبير فاقِعٌ لَوْنُها صَافِيَةُ اللَّوْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ شريك عن معمر عن ابن عمر فاقِعٌ لَوْنُها شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ، تَكَادُ مِنْ صُفْرَتِهَا تَبْيَضُّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أَيْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَى جلدها تخيلت أن شاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوراة:(1/194)
أنها كانت حمراء وسواد، فَلَعَلَّ هَذَا خَطَأٌ فِي التَّعْرِيبِ، أَوْ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا كَانَتْ شَدِيدَةَ الصُّفْرَةِ تَضْرِبُ إلى حمرة وسواد، والله أعلم.
وقوله تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أَيْ لِكَثْرَتِهَا، فَمَيِّزْ لَنَا هَذِهِ الْبَقَرَةَ وَصِفْهَا وَحِلَّهَا لَنَا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ إِذَا بَيَّنْتَهَا لَنَا لَمُهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْأَوْدِيُّ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا سُرُورُ بْنُ المغيرة الواسطي بن أَخِي مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ مَا أُعْطُوا أَبَدًا، وَلَوْ أَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً مِنَ البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شَدَّدُوا، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ على السُّدِّيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أَيْ إِنَّهَا لَيْسَتْ مُذَلَّلَةً بِالْحِرَاثَةِ وَلَا معدة للسقي في الساقية، بل هي مكرمة، حسنة، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ:
مُسَلَّمَةٌ يَقُولُ: لَا عَيْبَ فِيهَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: مُسَلَّمَةٌ الْقَوَائِمِ وَالْخَلْقِ لَا شِيَةَ فِيهَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا بَيَاضَ وَلَا سَوَادَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ فِيهَا بَيَاضٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: لَا شِيَةَ فِيهَا، قَالَ:
لَوْنُهَا وَاحِدٌ بَهِيمٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَإِسْمَاعِيلِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا شِيَةَ فِيهَا مِنْ بَيَاضٍ وَلَا سَوَادٍ وَلَا حُمْرَةٍ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ لَيْسَتْ بِمُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: تُثِيرُ الْأَرْضَ أَيْ يُعْمَلُ عَلَيْهَا بِالْحِرَاثَةِ، لَكِنَّهَا لَا تَسْقِي الْحَرْثَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الذَّلُولَ الَّتِي لَمْ تُذَلَّلْ بِالْعَمَلِ بِأَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ، كَذَا قَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ «1» وَغَيْرُهُ.
قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ قَالَ قَتَادَةُ: الْآنَ بَيَّنْتَ لَنَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ:
وَقَبْلَ ذَلِكَ وَاللَّهِ قَدْ جَاءَهُمُ الْحَقُّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال الضحاك، عن ابن عباس:
كادوا أن لا يَفْعَلُوا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الذِي أَرَادُوا، لِأَنَّهُمْ أرادوا أن لا يَذْبَحُوهَا، يَعْنِي أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَالْإِيضَاحِ مَا ذَبَحُوهَا إِلَّا بَعْدَ الْجُهْدِ، وَفِي هَذَا ذَمٌّ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ إِلَّا التَّعَنُّتَ، فَلِهَذَا مَا كَادُوا يَذْبَحُونَهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ:
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ لِكَثْرَةِ ثمنها. وفي هذا نظر، لأن كثرة الثمن لَمْ يُثْبِتْ إِلَّا مِنْ نَقْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيِّ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عُبَيْدَةُ
__________
(1) تفسير القرطبي 1/ 453.(1/195)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
وَمُجَاهِدٌ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّهُمُ اشْتَرَوْهَا بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي ثَمَنِهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: مَا كَانَ ثَمَنُهَا إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ إِنِ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى قَاتِلِ الْقَتِيلِ الذِي اخْتَصَمُوا فِيهِ [إلى موسى] «2» وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ أَحَدٍ، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكَادُوا يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا وَلِلْفَضِيحَةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، بَلِ الصَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا وَجَّهْنَاهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[مَسْأَلَةٌ] اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي حَصْرِ صِفَاتِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ حَتَّى تَعَيَّنَتْ أَوْ تَمَّ تَقْيِيدُهَا بَعْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى صِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور من الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَنْعَتُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» وَكَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِبِلَ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِالْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ لَا تَنْضَبِطُ أَحْوَالُهُ، وَحَكَى مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن سمرة وغيرهم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 72 الى 73]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قَالَ البخاري: فَادَّارَأْتُمْ فِيها اختلفتم، وهكذا قال مجاهد، قال فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها اخْتَلَفْتُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِي وَالضَّحَّاكُ: اخْتَصَمْتُمْ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها قال بعضهم: أنت قَتَلْتُمُوهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسم وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تُغَيِّبُونَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ رُسْتُمَ، سَمِعْتُ الْمُسَيَّبَ بْنَ رَافِعٍ يَقُولُ: مَا عَمِلَ رَجُلٌ حَسَنَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ، وَمَا عَمِلَ رِجْلٌ سَيِّئَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها هَذَا الْبَعْضُ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ أَعْضَاءِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَالْمُعْجِزَةُ حَاصِلَةٌ بِهِ، وَخَرْقُ الْعَادَةِ بِهِ كَائِنٌ، وَقَدْ كَانَ مُعَيَّنًا في نفس
__________
(1) الطبري 1/ 397.
(2) الزيادة من الطبري.(1/196)
الْأَمْرِ، فَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِهِ لَنَا فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا لبينه الله تعالى لنا، ولكنه أَبْهَمَهُ وَلَمْ يَجِئْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْصُومٍ بَيَانَهُ، فَنَحْنُ نُبْهِمُهُ كَمَا أَبْهَمَهُ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ أَصْحَابَ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ طَلَبُوهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى وَجَدُوهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي بَقْرٍ لَهُ وَكَانَتْ بَقَرَةً تُعْجِبُهُ، قَالَ: فَجَعَلُوا يُعْطُونَهُ بِهَا فَيَأْبَى حَتَّى أَعْطَوْهُ مَلْءَ مَسْكِهَا «1» دَنَانِيرَ، فَذَبَحُوهَا، فَضَرَبُوهُ- يَعْنِي الْقَتِيلَ- بِعُضْوٍ مِنْهَا، فَقَامَ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، فَقَالُوا لَهُ مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّهُ ضُرِبَ بِبَعْضِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عن ابن عباس أنه ضرب بِالْعَظْمِ الذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ: ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِ لَحْمِهَا، قال معمر: قال قتادة: ضربوه بِلَحْمِ فَخِذِهَا فَعَاشَ، فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَقَالَ وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
فَضُرِبَ بِفَخِذِهَا، فَقَامَ فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وعكرمة نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَضَرَبُوهُ بِالْبَضْعَةِ التِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، فَعَاشَ، فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَأْخُذُوا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهَا فَيَضْرِبُوا بِهِ الْقَتِيلَ، فَفَعَلُوا فَرَجَعَ إِلَيْهِ رُوحُهُ، فَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ، ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِ آرَابِهَا «2» وَقِيلَ: بِلِسَانِهَا وَقِيلَ بِعَجَبِ «3» ذنبها.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
أَيْ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ، وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حُجَّةً لَهُمْ عَلَى الْمَعَادِ، وَفَاصِلًا مَا كَانَ بينهم من الخصومة والعناد، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مما خلقه من إِحْيَاءِ الْمَوْتَى فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ، وَقِصَّةُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَقِصَّةُ الذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَقِصَّةُ إبراهيم عليه السلام وَالطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ. وَنَبَّهَ تَعَالَى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا رَمِيمًا، كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ وَكِيعَ بْنَ عُدُسٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: «أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحِلٍ، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ خَضِرًا» ؟ قَالَ بَلَى. قَالَ: «كَذَلِكَ النُّشُورُ» أَوْ قَالَ: «كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى» وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ تعالى:
__________
(1) أي ملء جلدها.
(2) الآراب: جمع إرب، وهو العضو. أي ضربوه ببعض أعضائها.
(3) عجب الذنب: الجزيء في أصل الذنب عند رأس العصعص.(1/197)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: 33- 35] .
[مسألة] استدل لمذهب الإمام مَالِكٍ فِي كَوْنِ قَوْلِ الْجَرِيحِ: فُلَانٌ قَتَلَنِي، لَوْثًا «1» بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، لِأَنَّ الْقَتِيلَ لَمَّا حَيِيَ سئل عمن قتله، فقال فلان قتلني، فَكَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ حِينَئِذٍ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يُتَّهَمُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. ورجحوا ذلك لحديث أَنَسٍ أَنْ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوَضَاحٍ «2» لَهَا، فَرَضَخَ رَأْسَهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ: مَنْ فعل بك هذا، أفلان؟
أفلان؟ حتى ذكروا الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يرض رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ إِذَا كَانَ لَوْثًا، حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ قَسَامَةً، وَخَالَفَ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا قَوْلَ الْقَتِيلِ فِي ذلك لوثا.
[سورة البقرة (2) : آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
يَقُولُ تَعَالَى تَوْبِيخًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ عَلَى مَا شَاهَدُوهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ كُلِّهِ، فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ التِي لَا تَلِينُ أَبَدًا، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ حَالِهِمْ، فَقَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 16] قَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا ضُرِبَ الْمَقْتُولُ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ جَلَسَ أَحْيَا مَا كَانَ قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ قَتَلَكَ؟ قال: بَنُو أَخِي قَتَلُونِي ثُمَّ قُبِضَ، فَقَالَ بَنُو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فَقَالَ اللَّهُ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، يعني أبناء أَخِي الشَّيْخِ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، فَصَارَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْأَمَدِ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنِ الْمَوْعِظَةِ بَعْدَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَهِيَ فِي قَسْوَتِهَا كَالْحِجَارَةِ التِي لَا عِلَاجَ لِلِينِهَا أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، وَمِنْهَا مَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَفِيهِ إِدْرَاكٌ لِذَلِكَ بِحَسْبِهِ، كَمَا قَالَ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الْإِسْرَاءِ: 44] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كُلُّ حَجَرٍ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ: أَوْ يَتَشَقَّقُ عَنْ مَاءٍ أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ لَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ محمد بن إسحاق حدثني
__________
(1) اللّوث عند الإمام الشافعي: شبه الدلالة، ولا يكون بنية تامة. وفي حديث القسامة ذكر اللوث، وهو أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول، قبل أن يموت، بأن فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما، أو تهديد منه له، أو نحو ذلك. وهو من التلوّث: التلطّخ (لسان العرب) .
(2) الأوضاح: الحليّ من الدراهم الصحاح، والخلاخل.(1/198)
محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنَ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمَّا تُدْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
وقال أبو علي الجياني فِي تَفْسِيرِهِ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ سُقُوطُ الْبَرَدِ مِنَ السَّحَابِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَتَبِعَهُ في استبعاده الرازي، وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللَّفْظِ بِلَا دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَعْنِي يَحْيَى بْنَ يَعْقُوبَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ قال: كَثْرَةُ الْبُكَاءِ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ قَالَ: قَلِيلُ الْبُكَاءِ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ قَالَ: بُكَاءُ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ دُمُوعِ الْعَيْنِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْحِجَارَةِ كَمَا أُسْنِدَتِ الْإِرَادَةُ إِلَى الْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] قَالَ الرَّازِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا هَذِهِ الصِّفَةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها [الأحزاب: 72] وقال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء: 17] ، وقال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ [النحل:
48] ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر: 21] :
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ [فصلت: 21] ، وَفِي الصَّحِيحِ «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ الْمُتَوَاتِرِ خَبَرُهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلِيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» وَفِي صِفَةِ الحجر الأسود: إنه يشهد لمن استلم بِحَقٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ قَوْلًا أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ أَيْ مَثَلًا لِهَذَا وَهَذَا وَهَذَا مِثْلُ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ. وَكَذَا حَكَاهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَزَادَ قَوْلًا آخَرَ: إِنَّهَا لِلْإِبْهَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَكَلْتُ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَكَلَ، وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهَا بِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: كُلْ حُلْوًا أَوْ حَامِضًا، أَيْ لَا يَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَيْ وَقُلُوبُكُمْ صَارَتْ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنْهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[تَنْبِيهٌ] اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا لِلشَّكِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، تَقْدِيرُهُ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ وَأَشَدُّ قَسْوَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 24] عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات: 6] وكما قال النابغة الذبياني: [البسيط](1/199)
قَالَتْ أَلَا
لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفُهُ فَقَدِ «1»
تُرِيدُ وَنِصْفُهُ، قَالَهُ ابن جرير «2» ، وقال جرير بن عطية: [البسيط]
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ «3»
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي نَالَ الْخِلَافَةَ وَكَانَتْ لَهُ قَدْرًا وقال آخرون: أو هاهنا بمعنى بل فتقديره:
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ بَلْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَكَقَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النِّسَاءِ: 77] ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 147] ، فَكَانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النَّجْمِ: 9] وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً عِنْدَكُمْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِبْهَامُ عَلَى المخاطب، كما قال أبو الأسود: [الوافر]
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا ... وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ وَالْوَصِيَّا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيّا «4»
وقال ابْنُ جَرِيرٍ: قَالُوا: وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي أَنَّ حُبَّ مَنْ سَمَّى رَشَدٌ، وَلَكِنَّهُ أَبْهَمَ عَلَى مَنْ خاطبه [به] «5» ، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ، قِيلَ لَهُ: شَكَكْتَ؟ فقال: كلا والله، ثم انتزع. يقول اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] فقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ فَقُلُوبُكُمْ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أشد منها في القسوة. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، فَبَعْضُهَا كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ وَقَدْ رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَعَ تَوْجِيهِ غَيْرِهِ.
(قُلْتُ) وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ يَبْقَى شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [الْبَقَرَةِ: 17] مَعَ قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَةِ: 19] وَكَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النُّورِ: 39] مَعَ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور: 40] ، أي
__________
(1) البيت للنابغة في ديوانه ص 24: والأزهية ص 89 والأغاني 11/ 31 والإنصاف 2/ 479 وتذكرة النحاة ص 353 وخزانة الأدب 10/ 251 والخصائص 2/ 460.
(2) تفسير الطبري 2/ 236. [.....]
(3) ويروى «جاء الخلافة» . والبيت لجرير في ديوانه ص 416 والأزهية ص 114 وخزانة الأدب 11/ 69 والدرر 6/ 118 وشرح شواهد المغني 1/ 196 والمقاصد النحوية 2/ 485.
(4) البيتان لأبي الأسود في القرطبي 1/ 463. وفيه: «وحمزة أو عليا» مكان «وحمزة والوصيّا» . وتفسير الطبري 1/ 405.
(5) الزيادة من الطبري.(1/200)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ هو هكذا، والله أعلم.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ: الْقَلْبُ الْقَاسِي» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ صَاحِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ بِهِ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «أَرْبَعٌ مِنَ الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 77]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)
يَقُولُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أَيْ يَنْقَادُ لَكُمْ بِالطَّاعَةِ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ شَاهَدَ آبَاؤُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا شَاهَدُوهُ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ أَيْ فَهِمُوهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَمَعَ هَذَا يُخَالَفُونَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ تَحْرِيفِهِ وَتَأْوِيلِهِ، وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [النِّسَاءِ: 46] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَيِّسُهُمْ مِنْهُمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ: يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ: يَسْمَعُونَ التَّوْرَاةَ كُلُّهُمْ قَدْ سمعها، ولكن هم الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى رُؤْيَةَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فيها. وقال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فِيمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: يَا مُوسَى، قَدْ حيل بيننا وبين رؤية ربنا تَعَالَى فَأَسْمِعْنَا كَلَامَهُ حِينَ يُكَلِّمُكَ، فَطَلَبَ ذَلِكَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: نَعَمْ، مُرْهُمْ فَلْيَتَطَهَّرُوا وَلْيُطَهِّرُوا ثِيَابَهُمْ وَيَصُومُوا، فَفَعَلُوا ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ حَتَّى أَتَوُا الطَّوْرَ، فَلَمَّا غَشِيَهُمُ الْغَمَامُ، أَمَرَهُمْ مُوسَى أَنْ يَسْجُدُوا، فَوَقَعُوا سُجُودًا، وَكَلَّمَهُ ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه مَا سَمِعُوا، ثُمَّ انْصَرَفَ بِهِمْ إِلَى بَنِي إسرائيل، فلما جاءهم، حَرَّفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَقَالُوا: حِينَ قَالَ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ ذَلِكَ الْفَرِيقُ الذين(1/201)
ذَكَرَهُمُ اللَّهُ: إِنَّمَا قَالَ كَذَا وَكَذَا خِلَافًا لِمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قَالَ: هِيَ التَّوْرَاةُ حَرَّفُوهَا، وَهَذَا الذِي ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِظَاهِرِ السِّيَاقِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ الْكَلِيمُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 6] أَيْ مُبَلِّغًا إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَوَعَوْهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِينَ يُحَرِّفُونَهُ وَالَّذِينَ يَكْتُمُونَهُ هُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
عَمَدُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَرَّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قَالَ: التَّوْرَاةُ التِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ يُحَرِّفُونَهَا، يَجْعَلُونَ الْحَلَالَ فِيهَا حَرَامًا وَالْحَرَامَ فِيهَا حَلَالًا، وَالْحَقَّ فِيهَا بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ فِيهَا حَقًا، إِذَا جَاءَهُمُ الْمُحِقُّ بِرِشْوَةٍ أَخْرَجُوا لَهُ كِتَابَ اللَّهِ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الْمُبْطِلُ بِرِشْوَةٍ أَخْرَجُوا لَهُ ذلك الكتاب فهو فيه محق، وإذا جَاءَهُمْ أَحَدٌ يَسْأَلُهُمْ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال اللَّهُ لَهُمْ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 44] .
وَقَوْلُهُ تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْآيَةَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا أي بصاحبكم محمد رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا: لَا تُحَدِّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا فَإِنَّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَيْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا، اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرُّوا بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ، كَانُوا إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: آمَنَّا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ «لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» فَقَالَ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ: اذْهَبُوا فَقُولُوا: آمَنَّا وَاكْفُرُوا إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا، فَكَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ بِالْبُكَرِ وَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 72] وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا(1/202)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
دَخَلُوا الْمَدِينَةَ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ لِيَعْلَمُوا خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرَهُ، فَإِذَا رَجَعُوا رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَكُونُوا يَدْخُلُونَ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ لكم كذا وكذا، فيقولون: بلى، فإذا وجه إلى قومهم، يعني الرؤساء، فقالوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: سَيَكُونُ نَبِيٌّ، فَخَلَا بَعْضُهُمْ ببعض، قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْمُرَادِ بِالْفَتْحِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي القاسم بن أبي برزة عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ تَحْتَ حُصُونِهِمْ، فَقَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَيَا عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ، فَقَالُوا: مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا الْأَمْرِ مُحَمَّدًا؟ مَا خَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا مِنْكُمْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِمَا حَكَمَ اللَّهُ للفتح يكون لَهُمْ حُجَّةً عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: هَذَا حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيَّا فَآذَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ هَؤُلَاءِ نَاسٌ مَنَ اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبُوا بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ لِيَقُولُوا: نَحْنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ، وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِي أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني بما قضى لَكُمْ وَعَلَيْكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَانُوا إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: آمَنَّا، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُحَدِّثُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم.
وقوله تَعَالَى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَعْنِي مَا أَسَرُّوا مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وتكذيبهم به، وهم يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ قَالَ: كَانَ مَا أَسَرُّوا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَوَلَّوْا عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، تَنَاهَوْا أَنْ يُخْبِرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا فِي كِتَابِهِمْ خَشْيَةَ أَنْ يُحَاجَّهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَما يُعْلِنُونَ يَعْنِي حِينَ قَالُوا لِأَصْحَابِ محمد صلّى الله عليه وسلّم: وآمنا. كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أَيْ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالْأُمِّيُّونَ جَمْعُ أُمِّيٍّ، وَهُوَ(1/203)
الرجل الذي لا يحسن الكتابة. قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَقَتَادَةُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ أَيْ لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ. وَلِهَذَا فِي صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ الأمي لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، كَمَا قَالَ تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 48] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السلام «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» الْحَدِيثَ، أَيْ لَا نَفْتَقِرُ فِي عِبَادَاتِنَا وَمَوَاقِيتِهَا إِلَى كِتَابٍ وَلَا حساب، وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمْعَةِ: 2] وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : نَسَبَتِ الْعَرَبُ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَخُطُّ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى أمه من جَهْلِهِ بِالْكِتَابِ دُونَ أَبِيهِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَوْلٌ خِلَافَ هَذَا، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ قَالَ: الْأُمِّيُّونَ قَوْمٌ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَلَا كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لِقَوْمٍ سَفَلَةٍ جُهَّالٍ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ سَمَّاهُمْ أُمِّيِّينَ لِجُحُودِهِمْ كُتُبَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جرير: وهذا التأويل تأويل عَلَى خِلَافِ مَا يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبَ الْمُسْتَفِيضِ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ عِنْدَ الْعَرَبِ الذِي لَا يَكْتُبُ. قُلْتُ: ثُمَّ فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَظَرٌ، والله أعلم.
وقوله تَعَالَى: إِلَّا أَمانِيَّ قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إلا أماني الأحاديث. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى إِلَّا أَمانِيَّ يقول: إلا قولا يقولون بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِلَّا كَذِبًا: وَقَالَ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ قال: أناس من اليهود، لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، أَمَانِيُّ يَتَمَنَّوْنَهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوَهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَقَتَادَةُ: إِلَّا أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِلَّا أَمَانِي، قَالَ: تَمَنَّوْا فَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ قَوْلُ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ «2» مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى عَلَى مُوسَى شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ يَتَخَرَّصُونَ الْكَذِبَ وَيَتَخَرَّصُونَ الْأَبَاطِيلَ كَذِبًا وَزُورًا، وَالتَّمَنِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ تَخَلُّقُ الْكَذِبِ وَتَخَرُّصُهُ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَغَنَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ، يَعْنِي مَا تَخَرَّصْتُ الباطل ولا اختلقت الكذب. وقيل المراد بقوله إلا أماني بالتشديد والتخفيف أيضا: أي إلا تلاوة، فعلى هذا يكون استثناء منقطعا، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى- أي تلا- أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] ، وقال كعب بن مالك الشاعر:
__________
(1) الطبري 1/ 417.
(2) في الطبري: «وقول مجاهد» . والكلام ما زال للطبري بصدد اختياره.(1/204)
[الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر «1»
وقال آخر: [الطويل]
تمنى كتاب الله آخر ليلة ... تمنّى داود الكتاب على رسل «2»
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة: 78] أي ولا يدرون ما فيه، وهم يجدون نُبُوَّتَكَ بِالظَّنِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ يَكْذِبُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: يظنون بالله الظنون بغير الحق.
وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الْيَهُودِ. وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى الضَّلَالِ بِالزُّورِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْوَيْلُ: الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ: سَمِعْتُ أَبَا عِيَاضٍ يَقُولُ: وَيْلٌ: صَدِيدٌ فِي أَصْلِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: الْوَيْلُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ لَوْ سُيِّرَتْ فِيهِ الْجِبَالُ لَمَاعَتْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عبد الرحمن بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا الحديث غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
(قُلْتُ) لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ كَمَا تَرَى، وَلَكِنَّ الْآفَةَ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَهَذَا الحديث بهذا الإسناد مرفوع مُنْكَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام، حدثنا صَالِحٍ الْقُشَيْرِيُّ «3» ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ كنانة العدوي، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ قَالَ «الْوَيْلُ جَبَلٌ فِي النَّارِ» . وَهُوَ الذِي أُنْزِلَ فِي الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ، زَادُوا فِيهَا مَا أَحَبُّوا، وَمَحَوْا مِنْهَا مَا يَكْرَهُونَ، وَمَحَوُا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِذَلِكَ غَضِبَ اللَّهُ عليهم، فرفع بعض التوراة فقال تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (مني) ومقاييس اللغة 5/ 277 وكتاب العين 8/ 39 وتاج العروس (مني) . ولحسان بن ثابت في تفسير ابن حيان 6/ 382.
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (مني) وتاج العروس (منا) .
(3) في الطبري: «حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ التستري..» .(1/205)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
وَهَذَا غَرِيبٌ أَيْضًا جَدًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الويل المشقة مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ:
الْوَيْلُ شِدَّةُ الشَّرِّ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيْلٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ، وَوَيْحٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَيْهَا، وَقَالَ الأصمعي: الويل تفجع، والويح تَرَحُّمٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَيْلُ: الْحُزْنُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَفِي مَعْنَى وَيْلٍ: وَيْحٌ وَوَيْشٌ وَوَيْهٌ وَوَيْكٌ وَوَيْبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهَا، وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: إِنَّمَا جَازَ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَهِيَ نَكِرَةٌ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ نَصْبَهَا بِمَعْنَى: أَلْزَمَهُمْ وَيْلًا (قُلْتُ) لَكِنْ لَمْ يَقْرَأْ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ قَالَ: هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس رضي الله عنه، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ كَتَبُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِهِمْ يَبِيعُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيُحَدِّثُونَهُمْ أنه من عند الله فيأخذوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أهل الكتاب عن شيء، وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرأونه غضا لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَحَدًا قَطُّ سَأَلَكُمْ عن الذي أنزل عليكم، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصَرِيُّ: الثَّمَنُ الْقَلِيلُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ أَيْ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَالِافْتِرَاءِ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا أَكَلُوا بِهِ مِنَ السُّحْتِ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَوَيْلٌ لَهُمْ يَقُولُ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِي كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ يَقُولُ مِمَّا يَأْكُلُونَ بِهِ النَّاسَ السفلة وغيرهم.
[سورة البقرة (2) : آية 80]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْيَهُودِ فِيمَا نَقَلُوهُ وَادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، ثُمَّ يَنْجُونَ منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أَيْ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَهْدٌ فَهُوَ لَا يُخْلِفُ عَهْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَا جَرَى وَلَا كان، ولهذا أتى بأم التِي بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ بَلْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أن اليهود كانوا يقولون أن هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا فِي النَّارِ وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً إلى قوله خالِدُونَ ثم(1/206)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً الْيَهُودُ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلا أربعين ليلة، زاد غيره وهي مُدَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعَجَلَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ «1» عَنِ ابْنِ عباس وقتادة، وقال الضحاك وعن ابْنُ عَبَّاسٍ:
زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا أَنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ التِي هِيَ نَابِتَةٌ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، وَقَالَ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِنَّمَا نُعَذَّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَتَذْهَبُ جَهَنَّمُ وَتَهْلَكُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً يَعْنِي الْأَيَّامَ التِي عَبَدْنَا فِيهَا الْعِجْلَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لَنْ ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قَوْمٌ آخَرُونَ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده على رؤوسهم «بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد» فأنزل الله عز وجل وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَخْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ مِنَ الْيَهُودِ هَاهُنَا» فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَبُوكُمْ» ؟ قَالُوا فُلَانٌ، قَالَ «كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ» فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ» ؟ قَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَهْلُ النَّارِ» ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اخْسَئُوا وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا» ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قال: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ «فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟» فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وإن كنت نبيا لم يضر، ورواه الإمام أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سعد بنحوه «2» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 81 الى 82]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَا كَمَا تَشْتَهُونَ، بَلِ الْأَمْرُ أَنَّهُ من عمل سيئة وأحاطت به
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 10.
(2) رواه البخاري (هبة باب 28 وجزية باب 7 وطب باب 55) والدارمي (مقدمة باب 11) . وأحمد في المسند (ج 2 ص 451) .(1/207)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سَيِّئَاتٌ فَهَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُوَافِقِ لِلشَّرِيعَةِ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النِّسَاءِ: 123- 124] .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أَيْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِكُمْ وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ حتى يحيط به كفره، فماله مِنْ حَسَنَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الشِّرْكُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه. وقال الْحَسَنُ أَيْضًا وَالسُّدِّيُّ:
السَّيِّئَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قَالَ: بِقَلْبِهِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو وائل وعطاء والحسن وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: أَحَاطَ بِهِ شِرْكُهُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي رزين عن الربيع بن خيثم وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قَالَ الذِي يَمُوتُ عَلَى خطاياه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتُوبَ، وَعَنِ السُّدِّيِّ وَأَبِي رَزِينٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا، وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ والموجبة الكبيرة، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُذْكَرُ هَاهُنَا الْحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لهم مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، وَأَجَّجُوا نَارًا فَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي من آمن بما كفرتم وَعَمَلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ، فَلَهُمُ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا، يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له.
[سورة البقرة (2) : آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
__________
(1) مسند الإمام أحمد (ج 1 ص 402) .(1/208)
يُذَكِّرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَمَرَهُمْ به من الأوامر وأخذه مِيثَاقَهَمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَعْرَضُوا قَصْدًا وَعَمْدًا وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ، وَيَذْكُرُونَهُ، فأمرهم تعالى أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِهَذَا أَمَرَ جَمِيعَ خَلْقِهِ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النَّحْلِ: 36] وَهَذَا هُوَ أَعْلَى الْحُقُوقِ وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ حَقُّ الْمَخْلُوقِينَ وَآكَدُهُمْ وَأَوْلَاهُمْ بِذَلِكَ حَقُّ الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ الْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لُقْمَانَ: 14] وقال تبارك وتعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: 23] إِلَى أَنْ قَالَ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الْإِسْرَاءِ: 26] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِرُّ؟ قَالَ «أُمَّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ «أُمَّكَ» قَالَ: ثُمَّ من؟ قال: «أباك» ؟ ثم أدناك ثم أدناك» .
وقوله تعالى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ خَبَرٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَهُوَ آكَدُ، وَقِيلَ كَانَ أَصْلُهُ «أن لا تعبدوا إلا الله» ونقل من قرأها من السَّلَفِ، فَحُذِفَتْ أَنْ فَارْتَفَعَ، وَحُكِيَ عَنْ أُبَيٍّ وابن مسعود أنهما قرءاها «لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ» وَنَقَلَ هَذَا التَّوْجِيهَ الْقُرْطُبِيُّ «1» فِي تفسيره عن سيبويه. قال:
واختاره الكسائي وَالْفَرَّاءُ، قَالَ وَالْيَتامى وَهُمُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَا كاسب لهم من الآباء، وَالْمَسَاكِينَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ عِنْدَ آيَةِ النِّسَاءِ التِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [النساء: 36] ، وقوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] أَيْ كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فَالْحُسْنُ مِنَ الْقَوْلِ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْخَزَّازُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَالْقَ أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْطَلِقٍ» «3» وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي،
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 13.
(2) مسند الإمام أحمد (ج 5 ص 173) .
(3) في المسند: «طلق» . [.....](1/209)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ الْخَزَّازِ وَاسْمُهُ صَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ بِهِ، وَنَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا بَعْدَ مَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ، فَجَمَعَ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِحْسَانِ الْفِعْلِيِّ وَالْقَوْلِيِّ، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إلى الناس بالمتعين مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَقَالَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ عَلَى عَمْدٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا القليل منهم، وقد أمر الله هَذِهِ الْأُمَّةَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النِّسَاءِ: 36] فَقَامَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَمْ تَقُمْ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِنَ النُّقُولِ الْغَرِيبَةِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ يَعْنِي التِّنِّيسِيَّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ صُبَيْحٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَسَدِ بْنِ وَدَاعَةَ: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلَا يَلْقَى يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُسَلِّمُ على اليهودي والنصراني؟ فقال: إن الله تعالى يَقُولُ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَهُوَ السَّلَامُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِي نَحْوَهُ (قُلْتُ) وَقَدْ ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانُوا يُعَانُونَهُ مِنَ الْقِتَالِ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ وَهُمُ الْأَنْصَارُ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُبَّادَ أَصْنَامٍ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ قَبَائِلَ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ: حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ: حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، فَكَانَتِ الْحَرْبُ إِذَا نَشِبَتْ بَيْنَهُمْ، قَاتَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ حُلَفَائِهِ، فَيَقْتُلُ الْيَهُودِيُّ أَعْدَاءَهُ، وَقَدْ يَقْتُلُ الْيَهُودِيُّ الْآخَرُ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون مَا فِيهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ، ثُمَّ إِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا اسْتَفَكُّوا الْأَسَارَى مِنَ الْفَرِيقِ الْمَغْلُوبِ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85](1/210)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَلَا يُظَاهِرُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالحمى والسهر» .
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أَيْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بِمَعْرِفَةِ هَذَا الْمِيثَاقِ وَصِحَّتِهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِهِ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ الآية، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ الآية، قال: أنبأهم الله بذلك مِنْ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير، وقريظة وهم حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، فَكَانُوا إِذَا كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَرَجَتِ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ، يُظَاهِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُلَفَاءَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ حَتَّى تسافكوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبِأَيْدِيهِمُ التَّوْرَاةُ يَعْرِفُونَ فِيهَا مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَا يَعْرِفُونَ جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً وَلَا كِتَابًا وَلَا حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، افْتَدَوْا أَسْرَاهُمْ تَصْدِيقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَأَخْذًا بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَفْتَدِي بَنُو قَيْنُقَاعَ مَا كَانَ مِنْ أَسْرَاهُمْ فِي أَيْدِي الْأَوْسِ، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيد الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ، وَيَطْلُبُونَ مَا أَصَابُوا مِنْ دِمَائِهِمْ، وقتلوا مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ حَيْثُ أنبأهم بذلك أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:
85] أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل وَلَا يُخْرَجَ مِنْ دَارِهِ وَلَا يُظَاهَرُ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مَنْ دُونِهِ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الدُّنْيَا؟ فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِيمَا بَلَغَنِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَكَانَتِ النَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ فَكَانُوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم، وَكَانَتِ النَّضِيرُ تَقَاتُلُ قُرَيْظَةَ وَحُلَفَاءَهَا وَيَغْلِبُونَهُمْ، فَيُخَرِّبُونَ دِيَارَهُمْ وَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا، فَإِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الفريقين كلاهما، جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَتُعَيِّرُهُمُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ يقولون: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ وَتَفْدُونَهُمْ، قَالُوا: إِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا فلم تقتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أَنْ تُسْتَذَلَّ حُلَفَاؤُنَا، فَذَلِكَ حِينَ عَيَّرَهُمُ اللَّهُ تبارك وتعالى فقال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ الآية.
وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ(1/211)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ
الآية.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، قال: غزونا مع سليمان «1» بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ بَلَنْجَرَ «2» فَحَاصَرْنَا أَهْلَهَا، فَفَتَحْنَا الْمَدِينَةَ وَأَصَبْنَا سَبَايَا، وَاشْتَرَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ يَهُودِيَّةً بِسَبْعِمِائَةٍ، فَلَمَّا مَرَّ بِرَأْسِ الْجَالُوتِ نَزَلَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، يَا رَأْسَ الْجَالُوتِ، هَلْ لَكَ فِي عَجُوزٍ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ دِينِكَ تَشْتَرِيهَا مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخَذْتُهَا بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، قَالَ: فَإِنِّي أُرْبِحُكَ سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت أن لا أَنْقُصَهَا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لي فيها، قال: والله لتشرينها مِنِّي أَوْ لَتَكْفُرَنَّ بِدِينِكَ الذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، فَقَرَأَ فِي أذنه مما فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّكَ لَا تَجِدُ مَمْلُوكًا مِنْ بني إسرائيل إلا اشتريته، فأعتقه وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ قَالَ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ قَالَ: نعم: فَجَاءَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ أَلْفَيْنِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ.
وَقَالَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ يَعْنِي الرَّازِيَّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَرَّ عَلَى رَأْسِ الْجَالُوتِ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ يُفَادِي مِنَ النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال عبد الله: أَمَا إِنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ فِي كِتَابِكَ أَنْ تَفَادِيَهُنَّ كُلَّهُنَّ وَالذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهَذَا السِّيَاقُ ذَمَّ الْيَهُودِ فِي قِيَامِهِمْ بِأَمْرِ التَّوْرَاة التِي يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا وَمُخَالَفَةِ شَرْعِهَا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُ بِالصِّحَّةِ، فَلِهَذَا لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى مَا فِيهَا وَلَا عَلَى نَقْلَهَا، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَمَبْعَثِهِ ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، وَالْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ يَتَكَاتَمُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ شَرْعَ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ جزاء على مخالفتهم كِتَابِ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أَيِ اسْتَحَبُّوهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاخْتَارُوهَا فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أَيْ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أَيْ وَلَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.
[سورة البقرة (2) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
يَنْعَتُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعُتُوِّ وَالْعِنَادِ والمخالفة والاستكبار على الأنبياء، وأنهم
__________
(1) في معجم البلدان: فتحها عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي. وفي فتوح البلدان للبلاذري: سلمان بن ربيعة الباهلي.
(2) بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب. (معجم البلدان: 1/ 489) .(1/212)
إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، فَحَرَّفُوهَا وَبَدَّلُوهَا وَخَالَفُوا أَوَامِرَهَا وَأَوَّلُوهَا، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [المائدة: 44] : ولهذا قال تعالى: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: أَتْبَعْنَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْدَفْنَا وَالْكُلُّ قَرِيبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الْمُؤْمِنُونَ: 44] حَتَّى خَتَمَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَجَاءَ بِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فيها فتكون طيرا بإذن الله، وإبراء الْأَسْقَامَ، وَإِخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ، وَتَأْيِيدِهِ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَاشْتَدَّ تَكْذِيبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ، وَحَسَدُهُمْ وَعِنَادُهُمْ لِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي الْبَعْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِيسَى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 50] ، فَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تُعَامِلُ الْأَنْبِيَاءَ أَسْوَأَ الْمُعَامَلَةِ، فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَهُ، وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَهُ، وَمَا ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ التِي قَدْ تَصَرَّفُوا فِي مُخَالَفَتِهَا، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم، وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَابَعَهُ على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خَالِدٍ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَقَتَادَةُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ:
193] مَا قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ أَيِّدْ حَسَّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ كَمَا نَافَحَ عَنْ نبيك» فهذا من البخاري تعليقا. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابن سيرين وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ موسى الفزاري، ثلاثتهم، عن أبي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة به. قال التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي الزِّنَادِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب مَرَّ بِحَسَّانَ وَهُوَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَنْشُدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ التَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ، أَسْمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِحَسَّانَ
__________
(1) صحيح البخاري (صلاة باب 68 وبدء الخلق باب 6) .(1/213)
«اهْجُهُمْ- أَوْ هَاجِهِمْ- وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» وَفِي شِعْرِ حسان قوله: [الوافر]
وجبريل رسول الله فينا ... وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ «1»
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ:
«أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وَهُوَ الذِي يَأْتِينِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، وَفِي صَحِيحِ ابن حبان، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أنه لن تموت نفس حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» . أَقْوَالٌ أُخَرُ- قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضحاك، عن ابن عباس وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قَالَ: هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الذِي كَانَ عِيسَى يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى. وَقَالَ ابْنُ جرير «2» : حدثت عن المنجاب فذكره، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ «3» عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَيْضًا قَالَ: وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: الرُّوحُ هُوَ حَفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ:
الْقُدْسُ هُوَ الرَّبُّ تبارك وتعالى، وهو قول كعب، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْقُدُسُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرُوحُهُ: جِبْرِيلُ، وهو قول كعب، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْقُدُسُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرُوحُهُ: جِبْرِيلُ. فعلى هذا يكون القول الأول، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقُدْسُ الْبَرَكَةُ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابن عباس: القدس: الطهر، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قَالَ: أَيَّدَ اللَّهُ عِيسَى بِالْإِنْجِيلِ رُوحًا كَمَا جَعَلَ الْقُرْآنَ رُوحًا، كِلَاهُمَا رُوحٌ مِنَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» :
وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الرُّوحُ فِي هذا الموضع: جبرائيل، فإن الله تعالى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَيَّدَ عِيسَى بِهِ كَمَا أَخْبَرَ في قوله تَعَالَى إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَةِ: 110، فَذَكَرَ أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الرُّوحُ الذِي أَيَّدَهُ بِهِ هُوَ الْإِنْجِيلُ، لَكَانَ قَوْلُهُ: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة
__________
(1) الرواية المشهورة «ليس له كفاء» مكان «ليس به خفاء» . والبيت لحسان في ديوانه ص 75 ولسان العرب (كفأ، جبر) وكتاب العين 5/ 414 وتهذيب اللغة 10/ 389 وتاج العروس (كفأ، جبر) وأساس البلاغة (كفأ) .
(2) تفسير الطبري 1/ 449.
(3) تفسير القرطبي 2/ 24.
(4) تفسير الطبري 1/ 449.(1/214)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
وَالْإِنْجِيلَ» تَكْرِيرُ قَوْلٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعز وأجل أَنْ يُخَاطِبَ عِبَادَهُ بِمَا لَا يُفِيدُهُمْ بِهِ، (قلت) ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أَوَّلِ السِّيَاقِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِرُوحِ الْقُدُسِ بالروح المقدسة، كما تقول: حَاتِمُ الْجُودِ وَرَجُلُ صِدْقٍ وَوَصْفُهَا بِالْقُدُسِ كَمَا قَالَ: وَرُوحٌ مِنْهُ فَوَصْفُهُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالتَّقْرِيبِ تَكْرِمَةٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ تَضُمَّهُ الْأَصْلَابُ وَالْأَرْحَامُ الطَّوَامِثُ وقيل بجبريل، قيل بِالْإِنْجِيلِ كَمَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] وَقِيلَ: بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الذِي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كَلَامُهُ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ رُوحُ عِيسَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةُ الْمُطَهَّرَةُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قوله تعالى:
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ إِنَّمَا لَمْ يَقِلْ وَفَرِيقًا قَتَلْتُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ وَصْفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّمِّ وَالسِّحْرِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي» (قلت) وهذا الحديث في صحيح البخاري «1» وغيره.
[سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أو سعيد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَيْ فِي أَكِنَّةٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَيْ لَا تَفْقَهُ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ هي القلب الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ عليه غِشَاوَةٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا طَابَعٌ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَيْ لَا تَفْقَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ يَقُولُونَ عليه غِلَافٌ، وَهُوَ الْغِطَاءُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: فلا تعي ولا تفقه، قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف، بضم اللام، وهو جمع غلاف، أي قلوبنا أوعية كل علم فلا تحتاج إلى علمك، قاله ابن عباس وعطاء بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ هُوَ كَقَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: 5] وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ في قوله غلف، قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] وهذا الذي رجحه ابن جرير، واستشهد بما رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ عن أبي البحتري، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ» فَذَكَرَ مِنْهَا «وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَذَاكَ قَلْبُ الْكَافِرِ» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَرْزَمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قُلُوبُنا غُلْفٌ قَالَ: لَمْ تُخْتَنْ، هَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ طَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهَا بَعِيدَةٌ مِنَ الْخَيْرِ. قَوْلٌ آخَرُ- قال الضحاك عن ابن عباس
__________
(1) صحيح البخاري (مغازي باب 83) .(1/215)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ قال: يقولون قلوبنا غلف مملوءة لَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِ. وقال عطية الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَتْ قراءة بعض الأنصار فيها، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» . وَقَالُوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، بِضَمِّ اللام، نقلها الزمخشري، أَيْ جَمْعُ غِلَافٍ، أَيْ أَوْعِيَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ قُلُوبَهُمْ مَمْلُوءَةٌ بِعِلْمٍ لَا يَحْتَاجُونَ معه إلى علم آخر كما كانوا يفتون بِعِلْمِ التَّوْرَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ادَّعَوْا بَلْ قُلُوبُهُمْ مَلْعُونَةٌ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 155] وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ وَقَوْلُهُ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 46] فقال بعضهم:
فقليل من يؤمن منهم، وَقِيلَ: فَقَلِيلٌ إِيمَانُهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلَكِنَّهُ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُ مَغْمُورٌ بِمَا كَفَرُوا بِهِ مِنَ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما كَانُوا غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ بِالْجَمِيعِ كَافِرُونَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قَلَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ، تُرِيدُ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنْ زَنَى بِأَرْضٍ قَلَّمَا تُنْبِتُ، أَيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «2» رحمه الله، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 89]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَهُمْ، يَعْنِي الْيَهُودَ، كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يَعْنِي مِنَ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ هَذَا الرَّسُولِ بِهَذَا الْكِتَابِ يَسْتَنْصِرُونَ بِمَجِيئِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيُبْعَثُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمرو، عَنْ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ، قَالَ: فِينَا وَاللَّهِ وَفِيهِمْ، يَعْنِي فِي الْأَنْصَارِ وَفِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا جِيرَانَهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ يَعْنِي:
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قالوا: كنا قد علوناهم قهرا دَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ، وَهُمْ أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَاتَّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 452.
(2) الطبري 1/ 454.(1/216)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانُوا (مِنْ قَبْلُ) يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا قال: يستنصرون، يَقُولُونَ: نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ بل يَكْذِبُونَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يهودا كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وداود بن سَلِمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقَوُا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا، فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَتُخْبِرُونَنَا بِأَنَّهُ مبعوث وتصفونه بِصِفَتِهِ، فَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ أَخُو بَنِي النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكر لكم، فينزل اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ:
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُ:
يَسْتَنْصِرُونَ بِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ وَحَسَدُوهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَنْصِرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلُهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقال اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ وَقَالَ قَتَادَةُ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا قال: وكانوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَأْتِي نَبِيٌّ. فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ قال: هم اليهود.
[سورة البقرة (2) : آية 90]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
قَالَ مُجَاهِدٌ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ يَهُودُ شَرَوُا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَيِّنُوهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ يَقُولُ: بَاعُوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا بِهِ وَعَدَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تصديقه وموازرته وَنُصْرَتِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ والكراهية ل أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَا حَسَدَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَيْ إِنَّ الله جعله من غيرهم.
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ قال ابن عباس: في الغضب على الغضب عليهم فيما(1/217)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
كَانُوا ضَيَّعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَهِيَ مَعَهُمْ، وَغَضِبَ بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى فَباؤُ اسْتَوْجَبُوا وَاسْتَحَقُّوا وَاسْتَقَرُّوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْغَضَبُ الْأَوَّلُ، فَهُوَ حِينُ غَضَبِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِجْلِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ الثَّانِي، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ حِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ ابن عباس مثله.
وقوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ لَمَّا كَانَ كُفْرُهُمْ سَبَبُهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ التَّكَبُّرُ، قُوبِلُوا بِالْإِهَانَةِ وَالصَّغَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِرٍ: 60] أَيْ صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ رَاغِمِينَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أهل النار.
[سورة البقرة (2) : الآيات 91 الى 92]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَيْ لِلْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدِّقُوهُ وَاتَّبِعُوهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَيْ يَكْفِينَا الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَا نُقِرُّ إِلَّا بِذَلِكَ وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ يَعْنِي بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ منصوبا عَلَى الْحَالِ، أَيْ فِي حَالِ تَصْدِيقِهِ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 146] ثُمَّ قَالَ تعالى:
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ بِتَصْدِيقِ التَّوْرَاةِ التِي بِأَيْدِيكُمْ وَالْحُكْمِ بِهَا وَعَدَمِ نَسْخِهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَهُمْ؟ قتلتموهم بغيا وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَلَى رُسُلِ اللَّهِ، فَلَسْتُمْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ وَالتَّشَهِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [الْبَقَرَةِ: 87] وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُعَيِّرُهُمُ اللَّهُ تبارك وتعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جرير «2» : قل
__________
(1) المسند (ج 2 ص 179) .
(2) تفسير الطبري 1/ 464. وحكى الطبري حديث السدي الوارد قبل هذا.(1/218)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
يا محمد ليهود بني إسرائيل إِذَا قُلْتَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالُوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا لِمَ تَقْتُلُونَ- إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله- أنبياء الله يا معشر اليهود وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عليكم قتلهم، بل أمركم بِاتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ؟ وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ:
نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَتَعْيِيرٌ لَهُمْ.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أَيْ بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الله، والآيات البينات هِيَ: الطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَالْعَصَا وَالْيَدُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ وَالْمَنُّ وَالسَّلَوَى وَالْحَجَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ التِي شَاهَدُوهَا (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أَيْ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ الله في زمان موسى وأيامه، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الْأَعْرَافِ: 148] ، وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، أَيْ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ فِي هَذَا الصَّنِيعِ الذِي صَنَعْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 149] .
[سورة البقرة (2) : آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
يُعَدِّدُ سبحانه وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ خَطَأَهُمْ، وَمُخَالَفَتَهُمْ لِلْمِيثَاقِ، وَعُتُوَّهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ، حَتَّى رَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَبِلُوهُ ثم خالفوه ولهذا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَقَدْ تَقَدَّمُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ.
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال: أشربوا حُبَّهُ حَتَّى خَلُصَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخَذَ مُوسَى عليه السلام العجل فذبحه بالمبرد «2» ، ثم ذراه في البحر، ثم لم يَبْقَ بَحْرٌ يَجْرِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَقَعُ فِيهِ شَيْءٌ [مِنْهُ] ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى، اشْرَبُوا مِنْهُ، فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله
__________
(1) المسند (ج 5 ص 194) .
(2) في الطبري 1/ 467: «فذبحه ثم حرقه بالمبرد» . قال في لسان العرب: حرق الحديد بالمبرد: برده وحك بعضه ببعض. [.....](1/219)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه، قَالَ: عَمَدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ فَبَرَدَهُ بِهَا، وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ، فَمَا شَرِبَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ مِثْلُ الذَّهَبِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ قَالَ: لَمَّا أُحْرِقَ الْعِجْلُ، بُرِدَ ثُمَّ نُسِفَ، فَحَسَوُا الْمَاءَ حَتَّى عَادَتْ وُجُوهُهُمْ كَالزَّعْفَرَانِ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ «1» عَنْ كِتَابِ الْقُشَيْرِيِّ: أَنَّهُ ما شرب أحد «منه» مِمَّنْ عَبَدَ الْعِجْلَ إِلَّا جُنَّ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَا هَاهُنَا، لِأَنَّ المقصود من هذا السياق: أنه ظهر عَلَى شِفَاهِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا: أَنَّهُمْ أُشْرِبُوا في قلوبهم الْعِجْلِ، يَعْنِي فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ لَهُ، ثُمَّ أنشد قول النابغة «2» في زوجته عثمة: [الوافر]
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذ ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ «3»
وَقَوْلُهُ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ بِئْسَمَا تَعْتَمِدُونَهُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ مِنْ كُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَتِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ اعْتِمَادِكُمْ فِي كُفْرِكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَكْبَرُ ذُنُوبِكُمْ وأشد الأمر عَلَيْكُمْ إِذْ كَفَرْتُمْ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، الْمَبْعُوثِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ لِأَنْفُسِكُمُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ فَعَلْتُمْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ: مِنْ نَقْضِكُمُ الْمَوَاثِيقَ، وَكُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَعِبَادَتِكُمُ العجل من دون الله؟.
[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ادعوا بالموت على أي الفريقين
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 32.
(2) لم ينسب القرطبي هذه الأبيات إلى النابغة، وإنما إلى «أحد التابعين الذي قال في زوجته عثمة» .
(3) الأبيات منسوبة إلى أحد التابعين في القرطبي 2/ 32 وإلى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ في لسان العرب (غلل) وتاج العروس (غلل) وبلا نسبة في لسان العرب (معع) .(1/220)
أَكْذَبَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَيْ بِعِلْمِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ [فيقال] «1»
لو تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَسَلُوا الْمَوْتَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لو تمنى يهود الْمَوْتَ، لَمَاتُوا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا عَثَّامٌ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ قَالَ: لَا أَظُنُّهُ إِلَّا عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَشَرِقَ أَحَدُهُمْ بَرِيقِهِ، وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» فِي تَفْسِيرِهِ: وَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا، وَلَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا» ، حَدَّثَنَا «3» بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي، حَدَّثَنَا فُرَاتٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سُرُورُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: مَا كَانُوا لِيَتَمَنَّوْهُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهُمْ، قُلْتُ: أَرَأَيْتُكَ لَوْ أَنَّهُمْ أَحَبُّوا الْمَوْتَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ تمنوا الموت أَتُرَاهُمْ كَانُوا مَيِّتِينَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانُوا لِيَمُوتُوا وَلَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، وَمَا كَانُوا لِيَتَمَنَّوْهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ مَا سَمِعْتَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَهَذَا غَرِيبٌ عَنِ الْحَسَنِ. ثُمَّ هَذَا الذِي فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ، هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَهُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبَ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَاهَلَةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجُمْعَةِ: 6: 7: 8] فَهُمْ عَلَيْهِمْ لعائن الله تعالى، لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهودا أَوْ نَصَارَى، دُعُوا إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَالدُّعَاءِ عَلَى أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، لما نَكَلُوا عَنْ ذَلِكَ، عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا جَازِمِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ، لَكَانُوا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَأَخَّرُوا، علم كذبهم
__________
(1) الزيادة من سيرة ابن هشام 1/ 542.
(2) تفسير الطبري 1/ 469.
(3) هذا إسناد ابن جرير الطبري.(1/221)
وهذا كما دعا رسول الله وَفْدَ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، فقال: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 61] فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ لِبَعْضٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَاهَلْتُمْ هَذَا النَّبِيَّ لَا يَبْقَى مِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ، وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، فَضَرَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ معهم أبا عبيدة بن الجراح أَمِينًا. وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ قول الله تعالى لنبيه أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مَرْيَمَ: 75] أَيْ من كان في الضلالة منا ومنكم فَزَادَهُ اللَّهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَمَدَّ لَهُ وَاسْتَدْرَجَهُ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شاء الله تعالى.
وأما من فسر الآية على معنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فِي دَعْوَاكُمْ، فَتَمَنَّوُا الْآنَ الْمَوْتَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ هَؤُلَاءِ لِلْمُبَاهَلَةِ، كَمَا قَرَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ مَا قَارَبَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ قَالَ «1» : الْقَوْلُ فِي تأويل قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ الآية، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لَنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مُهَاجَرِهِ، وَفَضَحَ بِهَا أَحْبَارَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نبيه [أن يدعوهم] «2» إلى قضية عادلة فِيمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْخِلَافِ، كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ الْفَرِيقَ الْآخَرَ مِنَ النَّصَارَى إذ خَالَفُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَادَلُوهُ فِيهِ إِلَى فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ المباهلة، فقال لفريق الْيَهُودِ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ ذلك غير ضاركم إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِيمَا تَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ وقرب المنزلة من الله لكم «3» لكي يعطيكم أُمْنِيَتَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا تَمَنَّيْتُمْ، فَإِنَّمَا تَصِيرُونَ إِلَى الرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا وَنَصَبِهَا وَكَدَرِ عَيْشِهَا وَالْفَوْزِ بِجِوَارِ اللَّهِ فِي جَنَّاتِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ، مِنْ أَنَّ الدَّارَ الآخرة لكم خاصة دُونَنَا، وَإِنْ لَمْ تُعْطُوهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّكُمُ الْمُبْطِلُونَ وَنَحْنُ الْمُحِقُّونَ فِي دَعْوَانَا، وَانْكَشَفَ أَمْرُنَا وَأَمْرُكُمْ لَهُمْ، فَامْتَنَعَتِ الْيَهُودُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ لِعِلْمِهَا، أَنَّهَا إِنْ تَمَنَّتِ الْمَوْتَ هَلَكَتْ فَذَهَبَتْ دُنْيَاهَا، وَصَارَتْ إِلَى خِزْيِ الْأَبَدِ فِي آخرتها، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من «4» المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وآخره فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إِذْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ في دعواهم، أنهم يتمنون
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 468.
(2) الزيادة من الطبري.
(3) عبارة الطبري: «بل إن أعطيتم أمنيتكم ... » .
(4) أي: كما امتنع فريق النصارى من المباهلة.(1/222)
الْمَوْتَ، فَإِنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ وُجُودِ الصَّلَاحِ وَتَمَنِّي الْمَوْتِ، وَكَمْ مِنْ صَالِحٍ لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، بَلْ يَوَدُّ أَنْ يُعَمَّرَ لِيَزْدَادَ خَيْرًا وَتَرْتَفِعَ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عَمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ» وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا عَلَى هَذَا: فَهَا أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَأَنْتُمْ لَا تَتَمَنَّوْنَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ الموت، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟ وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قِيلَ لَهُمْ كَلَامٌ نَصَفٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ عَدَاكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَبَاهِلُوا عَلَى ذَلِكَ وَادْعُوا عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمُبَاهَلَةَ تَسْتَأْصِلُ الْكَاذِبَ لَا مَحَالَةَ، فَلَمَّا تَيَقَّنُوا ذَلِكَ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ، نَكَلُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَيَتَحَقَّقُونَهُ، فَعَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بَاطِلَهُمْ وَخِزْيَهُمْ وَضَلَالَهُمْ وَعِنَادَهُمْ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ تَمَنِّيًا، لِأَنَّ كُلَّ مُحِقٍّ يَوَدُّ لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُبْطِلَ الْمُنَاظِرَ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ في ذلك حجة له في بَيَانُ حَقِّهِ وَظُهُورُهُ، وَكَانَتِ الْمُبَاهَلَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ عِنْدَهُمْ عَزِيزَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ سُوءِ مَآلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء، وَعَاقَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ الْخَاسِرَةِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، فَهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَأَخَّرُوا عَنْ مَقَامِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ. وَمَا يحاذرون منه وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ حَتَّى وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا؟ قال:
الأعاجم، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى سَنَدِ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حياة. قال: المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة، يود أحدهم أي يود أَحَدُ الْيَهُودِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ السِّيَاقِ، وقال أبو العالية: يود أحدهم، أي أحد الْمَجُوسُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عباس: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: هو كقول الفارسي «ده هزار سال» يَقُولُ: عَشَرَةُ آلَافِ سَنَةٍ «1» . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَفْسِهِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ
__________
(1) في الدرّ المنثور (1/ 173) والطبري (1/ 474) : «هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم: زه هزار سال، يعني ألفا سنة» .(1/223)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ هو قول الأعاجم هزار سال نَوْرُوزْ مَهْرَجَانْ «2» وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: حَبَّبَتْ إِلَيْهِمُ الْخَطِيئَةُ طول العمر، وقال مجاهد بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أي وما هُوَ بِمُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا له في الآخرة من الخزي، بما ضيع ما عنده من العلم، وقال عوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ عَادَوْا جبرائيل، قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ عُمَرَ: فَمَا ذَاكَ بِمُغِيثِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا مُنْجِيهِ مِنْهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الآية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عَمَّرَ إِبْلِيسُ لَمْ يَنْفَعْهُ إِذْ كَانَ كَافِرًا، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي خبير بصير بِمَا يَعْمَلُ عِبَادَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَسَيُجَازِي كل عامل بعمله.
[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ «3» رَحِمَهُ اللَّهُ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بالتأويل جميعا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَدُوٌّ لَهُمْ، وَأَنْ مِيكَائِيلَ وَلِيٌّ لَهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ. (ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ) «4» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ، عَنْ شَهْرِ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ، عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي
__________
(1) تفسير الطبري 2/ 372 طبعة دار المعارف بتحقيق محمود محمد شاكر) .
(2) في الطبري: «هو قول الأعاجم: سال زه نوروز مهرجان حر» قال الأستاذ شاكر في تعليقه: سألت أحد أصحابنا ممن يعرف الفارسية فقال: إن هذا النص لا ينطبق على قواعد الفارسية، وأنه يظن أن صوابها «زه در مهرجان نوروز هزار سال» . ومعنى «زه» : عش. و «در» ظرف معنى «في» . ومهرجان هو عيد لهم. ونيروز: عيد آخر في أول السنة. «وهزار» : ألف. وسال: سنة. فكأن «حر» التي في آخر الكلام في نص الطبري هي «در» مصحفة. وباقي النصوص الفارسية صحيح، ومعناه: عش ألف سنة.
(3) تفسير الطبري 1/ 476. [.....]
(4) هذه عبارة الطبري.(1/224)
ذِمَّةَ اللَّهِ وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني عَلَى الْإِسْلَامِ» فَقَالُوا: ذَلِكَ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا عَمَّا شئتم» قالوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ، أَخْبَرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة «1» ، ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «عَلَيْكُمْ عَهْدَ اللَّهِ لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني؟» فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ «2» مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَقَالَ: «نَشَدْتُكُمْ بِالذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَطَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لئن عافاه الله من مرضه لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ: لُحُومَ الْإِبِلِ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَهَا» فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ الله عز وجل، فإذا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل» قالوا: اللهم نعم، «قال اللهم اشهد، وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ» ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ، قَالُوا: أَنْتَ الْآنَ فَحَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ «3» أَوْ نُفَارِقُكَ، قَالَ: «فَإِنَّ وَلِيِّي جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ» قَالُوا: فعندها نفارقك، ولو كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ، قال: «فما يمنعكم أَنْ تُصَدِّقُوهُ» ؟ قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ- إلى قوله- لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فَعِنْدَهَا بَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هاشم بن القاسم وعبد الرحمن بْنِ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ به. ورواه أَحْمَدُ أَيْضًا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ عن عبد الحميد بنحوه وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، حدثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَزَادَ فِيهِ، قَالُوا فَأَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: «فأنشدكم بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أنه جبريل وهو الذي يأتيني» قالوا: اللهم نعم، ولكنه عدو لنا، وَهُوَ مَلَكٌ إِنَّمَا يَأْتِي بِالشِّدَّةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فلولا ذلك اتبعناك، فأنزل الله تعالى فيهم: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ- إِلَى قَوْلِهِ- لا يَعْلَمُونَ وقال
__________
(1) في الطبري: «في النوم» مكان «في التوراة» .
(2) لفظ «الله» غير موجود في الطبري.
(3) في الطبري «نتابعك» .(1/225)
الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعِجْلِيُّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا القاسم، أخبرنا عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل، قال «هاتوا» قالوا: فأخبرنا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ؟ قَالَ:
«تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا ينام قلبه» قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة؟ وَكَيْفَ يُذْكَّرُ الرَّجُلُ؟ قَالَ: «يَلْتَقِي الْمَاءَانِ، فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَتْ» قَالُوا:
أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: «وكان يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَلْبَانَ كَذَا وَكَذَا» قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْإِبِلَ فَحَرَّمَ لُحُومَهَا، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالُوا:
أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: «مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ بيديه أو في يديه مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ يَسُوقُهُ حيث أمره الله تعالى» قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «صوته» قالوا: صدقت، قالوا: إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: «جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ الذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلُ الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَالَ سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي القاسم بن أبي بزة أن يهودا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَاحِبِهِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، قَالَ: «جِبْرِيلُ» قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الْآيَةَ.
قَالَ ابن جرير «2» : قال مجاهد: قالت يهود: يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لَنَا عَدُوٌّ، فَنَزَلَ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية. قال البخاري «3» : قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قال عكرمة: جبرا وميكا وإسراف: عبد. إيل: اللَّهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ «4» فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أهل الجنة، وما ينزع الوالد إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟
قَالَ: «أَخْبَرَنِي بهذه «5» جبرائيل آنِفًا» قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: ذَاكَ عدو اليهود من
__________
(1) المسند (ج 1 ص 274) .
(2) تفسير الطبري 1/ 478.
(3) صحيح البخاري (تفسير سورة البقرة باب 3) .
(4) اخترف في أرضه أو بستانه: أقام وقت اجتناء التمر في الخريف.
(5) في البخاري «بهنّ» .(1/226)
الْمَلَائِكَةِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ «وأما أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ، نَزَعَ الْوَلَدُ، وَإِذَا سبق ماء المرأة نَزَعَتْ» قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنك رَسُولُ اللَّهِ. يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ «1» ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سيدنا، قال: «أرأيتم إن أسلم» قالوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أن محمدا رسول الله. قالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقضوه، فقال: هَذَا الذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ- انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وحكاية البخاري كما تقدم عَنْ عِكْرِمَةَ هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ إِيلَ هُوَ اللَّهُ، وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ الطَّحَّانِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ قَيْسٍ بن عَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبد اللَّهِ، إِيلُ: اللَّهُ، وَرَوَاهُ يَزِيدُ النَّحْوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ كَمَا سَيَأْتِي قريبا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ عَبْدٍ، وَالْكَلِمَةُ الْأُخْرَى هِيَ اسْمُ اللَّهِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ إِيلَ لَا تَتَغَيَّرُ فِي الْجَمِيعِ فَوِزَانُهُ عَبْدُ اللَّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَبْدُ الْمَلِكِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ عَبْدُ السَّلَامِ عَبْدُ الْكَافِي عَبْدُ الْجَلِيلِ، فَعَبْدُ مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَسْمَاءُ المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي كَلَامِ غَيْرِ الْعَرَبِ يُقَدِّمُونَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى، حَدَّثَنِي رِبْعِيُّ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: نَزَلَ عُمَرُ الرَّوْحَاءَ، فَرَأَى رِجَالًا يَبْتَدِرُونَ أَحْجَارًا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صلّى هاهنا، قال: فكره ذَلِكَ، وَقَالَ إِنَّمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أدركته الصلاة بواد فصلّى، ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كَيْفَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ قَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْكَ قُلْتُ وَلِمَ ذلك؟
__________
(1) أي موصوفون بالبهتان، وهو الكذب.
(2) تفسير الطبري 1/ 478.(1/227)
قالوا: لأنك تَغْشَانَا وَتَأْتِينَا، فَقُلْتُ: إِنِّي آتِيكُمْ فَأَعْجَبُ مِنَ القرآن كَيْفَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ وَمِنَ التَّوْرَاةِ كَيْفَ تُصَدِّقُ القرآن، قَالَ: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، ذَاكَ صَاحِبُكُمْ فَالْحَقْ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وما استرعاكم من حقه، وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه، قالوا: فَأَنْتَ عَالِمُنَا وَكَبِيرُنَا فَأَجِبْهُ أَنْتَ، قَالَ: أَمَا إذا نشدتنا بما نشدتنا، فإنا نعلم أنه رسول الله، قلت: ويحكم إذا هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ الله وَلَا تَتْبَعُونَهُ وَلَا تُصَدِّقُونَهُ؟ قَالُوا: إِنَّ لَنَا عَدُوًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَسِلْمًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ قرن بنبوته عدونا من الملائكة، قُلْتُ: وَمَنْ عَدُوُّكُمْ، وَمَنْ سِلْمُكُمْ؟ قَالُوا:
عَدُوُّنَا جبريل، وسلمنا ميكائيل، قالوا: إن جبرائيل مَلَكُ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْعَذَابِ وَنَحْوِ هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة وَالتَّخْفِيفِ وَنَحْوِ هَذَا، قَالَ: قُلْتُ:
وَمَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنْ رَبِّهِمَا عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالُوا: أَحَدُهُمَا عَنْ يمينه والآخر عن يساره، قال: فقلت:
فو الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهُمَا وَالذِي بَيْنَهُمَا لَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمَا، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمَا، وما ينبغي لجبرائيل أَنْ يُسَالِمَ عَدُوَّ مِيكَائِيلَ، وَمَا يَنْبَغِي لِمِيكَائِيلَ أن يسالم عدو جبرائيل، قال: ثُمَّ قُمْتُ فَاتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَحِقْتُهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ خَوْخَةٍ «1» لِبَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا أُقْرِئَكَ آيَاتٍ نَزَلْنَ قَبْلُ» فَقَرَأَ عَلِيَّ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ حتى قرأ الآيات، قال: قلت: بأبي وأمي أنت يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جئت أنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْكَ بِالْخَبَرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ، أَنْبَأَنَا عَامِرٌ، قَالَ:
انْطَلَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِالذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كُتُبِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قال: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا جَعَلَ له من الملائكة كفلا وإن جبرائيل كَفَلَ مُحَمَّدًا وَهُوَ الذِي يَأْتِيهِ، وَهُوَ عَدُوُّنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِيكَائِيلُ سِلْمُنَا لَوْ كَانَ مِيكَائِيلُ الذِي يَأْتِيهِ أَسْلَمْنَا، قَالَ: فَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مَا مَنْزِلَتُهُمَا عند الله تعالى؟ قَالُوا: جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ، قَالَ عُمَرُ: وَإِنِّي أَشْهَدُ مَا يَنْزِلَانِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِيكَائِيلُ لِيُسَالِمَ عَدُوَّ جبرائيل، وما كان جبرائيل لِيُسَالِمَ عَدُوَّ مِيكَائِيلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ إِذْ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: هَذَا صَاحِبُكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَأَتَاهُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ وَهَذَانَ الْإِسْنَادَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الشَّعْبِيَّ حَدَّثَ بِهِ عَنْ عُمَرَ، وَلَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ فإنه لم يدرك زمانه، والله أعلم.
__________
(1) في الطبري: مخرفة لبني فلان» . والمخرفة: البستان. والخوخة: باب صغير وسط باب كبير نصب حاجزا بين دارين، ومخترق ما بين كل دارين.(1/228)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْطَلَقَ ذات يوم إلى اليهود، فلما انصرف ورحبوا به، فقال لهم عمر: وأما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فِيكُمْ، وَلَكِنْ جِئْتُ لِأَسْمَعَ مِنْكُمْ، فَسَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبرائيل، فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ يُطْلِعُ محمدا على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب وَالسَّنَةُ، وَلَكِنْ صَاحِبُ صَاحِبِنَا مِيكَائِيلُ، وَكَانَ إِذَا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل، وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَفَارَقَهُمْ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَوَجَّهُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحَدِّثَهُ حَدِيثَهُمْ، فَوَجَدَهُ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ (نَزَّلَهُ) عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الآيات.
ثُمَّ قَالَ «1» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا أبو جعفر، حدثنا قَتَادَةَ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ أَقْبَلَ إِلَى اليهود يوما فذكر نحوه. وهذا في تفسير آدم وهو أَيْضًا مُنْقَطِعٌ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ عُمَرَ مِثْلَ هَذَا أَوْ نَحْوَهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّشْتَكِيَّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عبد الرحمن، عن عبد الرحمن وهو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ يَهُودِيًّا لقي عمر بن الخطاب، فقال: إن جبرائيل الذِي يَذْكُرُ صَاحِبَكُمْ عَدُوٌّ لَنَا، فَقَالَ عُمَرُ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ قَالَ: فَنَزَلَتْ على لسان عمر رضي الله عنه. ورواه عبد بن حميد عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أبي جعفر هو الرازي. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حدثني هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابن أبي ليلى في قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ للمسلمين: لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة، فإنه عدو لنا، قال:
فنزلت هذه الآية. حدثنا يعقوب، أخبرنا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قال: قالت اليهود:
إن جبرائيل عدو لنا. لِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالشِّدَّةِ وَالسَّنَةِ، وَإِنَّ مِيكَائِيلَ يَنْزِلُ بالرخاء والعافية والخصب، فجبرائيل عدو لنا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية.
وأما تفسير الآية فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ من عادى جبرائيل فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ الذِي نَزَلَ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ عَلَى قَلْبِكَ مِنَ اللَّهِ بِإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ رَسُولٌ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ ملكي، وَمَنْ عَادَى رَسُولًا فَقَدْ عَادَى جَمِيعَ الرُّسُلِ، كما أن من آمن برسول يَلْزَمُهُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَكَمَا أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِرَسُولٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
__________
(1) أَيْ الطبري. وهذا الحديث والذي قبله في تفسير الطبري 1/ 479.
(2) تفسير الطبري 1/ 48. [.....](1/229)
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاءِ: 150- 151] ، فَحَكَمَ عليهم بالكفر المحقق إذا آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ عادى جبرائيل فإنه عدو لله، لأن جبرائيل لَا يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ بِأَمْرِ رَبِّهِ، كَمَا قَالَ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 192- 193- 194] ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ «1» فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ» وَلِهَذَا غَضِبَ الله لجبرائيل على من عاداه، فقال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ هُدًى لِقُلُوبِهِمْ وَبُشْرَى لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فُصِّلَتْ:
44] : وَقَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاءِ: 82] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى: مَنْ عَادَانِي وَمَلَائِكَتِي وَرُسُلِي، وَرُسُلُهُ تَشْمَلُ رُسُلَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: 75] . وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، فَإِنَّهُمَا دخلا في الملائكة في عُمُومِ الرُّسُلِ، ثُمَّ خُصِّصَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السِّيَاقَ في الانتصار لجبرائيل، وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَقَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلَ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ زَعَمُوا أَنَّ جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن مَنْ عَادَى وَاحِدًا مِنْهُمَا فَقَدْ عَادَى الْآخَرَ وعادى الله أيضا، ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بَعْضَ الْأَحْيَانِ، كَمَا قُرِنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر، هذا بِالْهُدَى وَهَذَا بِالرِّزْقِ، كَمَا أَنَّ إِسْرَافِيلَ مُوَكَّلٌ بالنفخ في الصور لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عكرمة وغيره أَنَّهُ قَالَ، جِبْرَ، وَمِيكَ، وَإِسْرَافِ: عُبَيْدُ، وَإِيلُ: اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبي رجاء، عن عمير مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرَّحْمَنِ وَقِيلَ جِبْرِ: عَبْدُ، وَإِيلُ: اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَتُدْرُونَ مَا اسْمُ جِبْرَائِيلَ مِنْ أَسْمَائِكُمْ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: اسْمُهُ عَبْدُ الله، وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز
__________
(1) صحيح البخاري (رقاق باب 38) .(1/230)
وجل. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ومجاهد وَالضَّحَّاكِ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، نَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: اسم جبرائيل فِي الْمَلَائِكَةِ خَادِمُ اللَّهِ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ فَانْتَفَضَ، وَقَالَ: لَهَذَا الْحَدِيثُ أحب إلى من كل شيء في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وَمِيكَائِيلَ لُغَاتٌ وَقِرَاءَاتٌ «1» تُذْكَرُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَلَمْ نُطَوِّلْ كِتَابَنَا هَذَا بِسَرْدِ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَدُورَ فَهْمُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَوْ يَرْجِعَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَبِاللَّهِ الثِّقَةُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ فِيهِ إِيقَاعُ الْمُظْهَرِ مَكَانَ الْمُضْمَرِ حَيْثُ لم يقل: فإنه عدو، بل قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ كَمَا قَالَ الشاعر: [الخفيف]
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الموت ذا الغنى والفقيرا «2»
وقال الآخر: [الكامل]
لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبًا ... كَانَ الْغُرَابُ مقطع الأوداج «3»
وإنما أظهر لله هذا الِاسْمَ هَاهُنَا لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَإِظْهَارِهِ، وَإِعْلَامِهِمْ أن من عادى وليا لله فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، وَمَنْ عَادَى اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لَهُ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عَدُوَّهُ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ «من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «إِنِّي لِأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يثأر الليث الحرب» وفي الحديث الصحيح «من كنت خصمه خصمته» .
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 2/ 37- 38 وتفسير الرازي 3/ 177- 181.
(2) البيت لعدي بن زيد في ديوانه ص 65 والأشباه وللنظائر 8/ 30 وخزانة الأدب 1/ 378 وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 36 ولسوادة بن عدي في شرح أبيات سيبويه 1/ 127 وشرح شواهد المغني 2/ 176 والكتاب 1/ 62.
(3) البيت بلا نسبة أيضا في الطبري 1/ 485. وهو لجرير في ديوانه ص 89 وأمالي ابن الشجري 1/ 243.(1/231)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 103]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» فِي قَوْلِهِ تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ الآية، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ، دالات عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَتِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ مَا حَوَاهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ خَفَايَا عُلُومِ الْيَهُودِ، وَمَكْنُونَاتِ سَرَائِرِ أَخْبَارِهِمْ وَأَخْبَارِ أَوَائِلِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالنَّبَأِ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ التِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ وَمَا حَرَّفَهُ أَوَائِلُهُمْ وَأَوَاخِرُهُمْ وَبَدَّلُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ التِي كَانَتْ فِي التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزل على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لِمَنْ أنصف نفسه ولم يدعها إِلَى هَلَاكِهَا الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ، إِذْ كَانَ فِي فِطْرَةِ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ تَصْدِيقُ مَنْ أَتَى بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ التِي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر، وَلَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ عَنْ آدَمِيٍّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ يَقُولُ: فَأَنْتَ تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ عندهم أمي لم تَقْرَأُ كِتَابًا، وَأَنْتَ تُخْبِرُهُمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ على وجهه، يقول الله تعالى: في ذلك عبرة وبيان [لهم] «2» ، وَعَلَيْهِمْ حُجَّةٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «3» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ صُورِيَّا الْفَطْيُونِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتْبَعُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ «4» حِينَ بُعِثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَكَرَ لهم ما أخذ عليهم له مِنَ الْمِيثَاقِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ مَا عَهِدَ إلينا في محمد عهد، وما أخذ علينا ميثاقا «5» ، فأنزل الله تعالى أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فِي قَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ: نَعَمْ، لَيْسَ فِي الْأَرْضِ عَهْدٌ يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ إِلَّا نَقَضُوهُ وَنَبَذُوهُ، يُعَاهِدُونَ الْيَوْمَ وَيَنْقُضُونَ غَدًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، أَيْ نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ النَّبْذِ الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّي اللَّقِيطُ مَنْبُوذًا، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبِيذُ، وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ إِذَا طُرِحَا في الماء، قال أبو الأسود الدؤلي: [الطويل]
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 485.
(2) زيادة من الطبري.
(3) سيرة ابن هشام 1/ 548 وتفسير الطبري 1/ 485.
(4) سيرة ابن هشام 1/ 547.
(5) في السيرة: «وما أخذ له علينا من ميثاق» .(1/232)
نَظَرْتُ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلًا أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا «1»
قُلْتُ: فَالِقَوْمُ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِنَبْذِهِمُ الْعُهُودَ التِي تَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَلِهَذَا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبَ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً الذِي فِي كُتُبِهِمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ وَأَخْبَارُهُ، وَقَدْ أُمِرُوا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ: 157] ، وَقَالَ هَاهُنَا وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية، أي طرح طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا فِيهِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، أَيْ تَرَكُوهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَاتِّبَاعِهِ، وَلِهَذَا أَرَادُوا كَيْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أَرْوَانَ «2» ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ لَعَنَهُ اللَّهُ وقبحه، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاهُ مِنْهُ وَأَنْقَذَهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ السُّدِّيُّ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ، فَخَاصَمُوهُ بِهَا، فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ، فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ، وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا عِلْمَهُمْ وَكَتَمُوهُ وَجَحَدُوا بِهِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ الآية، وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع اللَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ، وَقَامَ النَّاسُ عَلَى الدين كما كان، وأن سُلَيْمَانَ ظَهَرَ عَلَى كُتُبِهِمْ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَدَثَانَ ذَلِكَ، فَظَهَرَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى الْكُتُبِ بَعْدَ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ وَقَالُوا: هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ نَزَلَ عَلَى سليمان فأخفاه عَنَّا، فَأَخَذُوا بِهِ فَجَعَلُوهُ دِينًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشَّيَاطِينُ، وَهِيَ الْمَعَازِفُ وَاللَّعِبُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به. قال: فأكفره جهال
__________
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 106 وتاج العروس (عنن) والطبري 1/ 488.
(2) أروان: اسم بئر بالمدينة. وقد جاء فيه «ذروان» و «ذو أروان» . والمشاقة: الشعر الذي يسقط في الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. وجفّ الطلع: الغشاء الذي يكون فوقه. والراعوثة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت، تكون ناتئة فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقّي عليها.(1/233)
الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يَسُبُّونَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ السَّوَائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، أَعْطَى الْجَرَادَةَ وَهِيَ امْرَأَةٌ خَاتَمَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذِي ابْتَلَاهُ بِهِ، أَعْطَى الْجَرَادَةَ ذَاتَ يَوْمٍ خَاتَمَهُ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ.
قال: فجاءها سليمان، فقال لها: هَاتِي خَاتَمِي، فَقَالَتْ: كَذَّبْتَ لَسْتَ سُلَيْمَانَ، قَالَ: فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّهُ بَلَاءٌ ابْتُلِيَ بِهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَغْلِبُ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ، قَالَ فَبَرِئَ النَّاسُ مِنْ سليمان وَأَكْفَرُوهُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل عَلَيْهِ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِمْرَانَ وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إذ جاء رجل فقال له [ابن عباس] «2» : مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْعِرَاقِ، قَالَ: مَنْ أَيِّهِ؟ قَالَ: مِنَ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَمَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَلِيًّا خَارِجٌ إِلَيْهِمْ فَفَزِعَ ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ لَا أَبًا لَكَ؟ لَوْ شَعَرْنَا مَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مِيرَاثَهُ، أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ بِكَلِمَةِ حَقٍّ قَدْ سَمِعَهَا، فإذا جرّب منه وصدق، كَذِبَ مَعَهَا سَبْعِينَ كِذْبَةً، قَالَ: فَتَشْرَبُهَا قُلُوبُ الناس قال: فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قام شيطان الطريق «3» ، فقال: هل أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ الْمُمَنَّعِ الذِي لَا كَنْزَ لَهُ مِثْلُهُ؟ تَحْتَ الْكُرْسِيِّ. فَأَخْرَجُوهُ، فَقَالُوا: هَذَا سحر، فَتَنَاسَخَهَا الْأُمَمُ حَتَّى بَقَايَاهَا مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ أهل العراق، فأنزل الله عز وجل وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا الآية، وروى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ بِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أَيْ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ فَتَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كَلَامِ الملائكة ما يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْبٍ أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 494.
(2) زيادة في الطبري.
(3) في الطبري: قام شيطان بالطريق. [.....](1/234)
الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ وَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ، فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً، فَاكْتَتَبَ الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشى ذلك فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَبُعِثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ، فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ، وَقَالَ:
لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان، وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ سُلَيْمَانَ، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ ثُمَّ أَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَا تَأْكُلُونَهُ «1» أَبَدًا؟ قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لَا وَلَكِنَّنِي هَاهُنَا فِي أَيْدِيكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَاقْتُلُونِي، فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ يَضْبُطُ الْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالطَّيْرَ بِهَذَا السِّحْرِ، ثُمَّ طَارَ وَذَهَبَ. وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، وَاتَّخَذَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَمُوهُ بِهَا فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ «2» : إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَانًا عَنْ أُمُورٍ مِنَ التَّوْرَاةِ لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه، فيخصمهم به فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هَذَا أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْنَا مِنَّا. وَإِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ عَمَدُوا إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبُوا فِيهِ السِّحْرَ وَالْكِهَانَةَ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَدَفَنُوهُ تحت كرسي مجلس سليمان وكان عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَلَمَّا فَارَقَ سُلَيْمَانُ الدُّنْيَا اسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ السِّحْرَ وَخَدَعُوا النَّاسَ وَقَالُوا: هَذَا عِلْمٌ كَانَ سُلَيْمَانُ يَكْتُمُهُ وَيَحْسُدُ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ أدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد «3» في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زَادُوا فِيهَا مِائَتَيْنِ مِثْلَهَا، فَأُرْسِلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وَهُوَ السِّحْرُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «4» : كَانَ سليمان يَتَتَبَّعُ مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ مِنَ السِّحْرِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُمْ فَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فِي بَيْتِ خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم
__________
(1) أي لا ينفد أبدا.
(2) هذا الأثر والذي قبله وردا في الطبري 1/ 490.
(3) الطبري 1/ 492.
(4) الطبري 1/ 494.(1/235)
أَتَدْرُونَ مَا الْعِلْمُ الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يُسِخِّرُ بِهِ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا:
فَإِنَّهُ فِي بَيْتِ خِزَانَتِهِ وَتَحْتَ كُرْسِيِّهِ فاستشار به الإنس واستخرجوه وعملوا بها، فقال أهل الحجاز: كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَذَا وَهَذَا سِحْرٌ فَأَنْزَلَ الله تعالى على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَاءَةَ سليمان عليه السلام فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ حِينَ عَرَفَتْ مَوْتَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَتَبُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْلَغَ كَذَا فليفعل كَذَا وَكَذَا حَتَّى إِذَا صَنَّفُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ، جعلوه في كتاب ثم ختموه بِخَاتَمٍ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ وَكَتَبُوا فِي عنوانه:
هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ. ثُمَّ دَفَنُوهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَاسْتَخْرَجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَحْدَثُوا مَا أَحْدَثُوا فَلَمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه، فليس هُوَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الله سليمان بن داود وعده فيمن عد مِنَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ اليهود: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: لما سلب سليمان مُلْكَهُ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَكْتُبُ السِّحْرَ فِي غَيْبَةِ سُلَيْمَانَ، فَكَتَبَتْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَقْبِلِ الشَّمْسَ وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَدْبِرِ الشَّمْسَ وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا، فَكَتَبَتْهُ وَجَعَلَتْ عُنْوَانَهُ: هَذَا مَا كَتَبَ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ العلم ثم دفنه تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قام إبليس لعنه الله خطيبا فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا فَالتَمِسُوا سِحْرَهُ فِي مَتَاعِهِ وَبُيُوتِهِ، ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى الْمَكَانِ الذِي دُفِنَ فِيهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ سَاحِرًا هَذَا سِحْرُهُ بِهَذَا تَعَبَّدَنَا وَبِهَذَا قَهَرَنَا، فقال الْمُؤْمِنُونَ: بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُؤْمِنًا، فَلَمَّا بَعَثَ الله النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم وذكر داود وسليمان فقالت اليهود: انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ يَخْلِطُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا يَرْكَبُ الريح، فأنزل الله تعالى وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدَ الأعلى الصنعاني، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُدَيْرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: أَخَذَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عَهْدًا فإذا
__________
(1) الطبري 1/ 495- 496.
(2) الطبري 1/ 495- 496.(1/236)
أُصِيبَ رَجُلٌ فَسَأَلَ بِذَلِكَ الْعَهْدِ خَلَّى عَنْهُ، فزاد الناس السجع والسحر، فقالوا: هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوَّادٍ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ مصعب عن الحسن وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ قَالَ: ثُلُثُ الشِّعْرِ وَثُلُثُ السِّحْرِ وَثُلُثُ الْكِهَانَةِ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشَّارٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنِي سُرُورُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ منصور عن الحسن وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وتبعته الْيَهُودُ عَلَى مُلْكِهِ وَكَانَ السِّحْرُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ بِهَا، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا يَخْفَى مُلَخَّصُ الْقِصَّةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِهَا وَأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ السِّيَاقَاتِ عَلَى اللَّبِيبِ الْفَهِمِ، والله الهادي.
وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أَيْ وَاتَّبَعَتِ الْيَهُودُ الذين أوتوا الكتاب من بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ، ومخالفتهم لرسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ، أَيْ مَا تَرْوِيهِ وَتُخْبِرُ بِهِ وَتُحَدِّثُهُ الشَّيَاطِينُ على ملك سليمان، وعداه بعلى لأنه ضمن تَتْلُو: تَكْذِبُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «عَلَى» هَاهُنَا بمعنى في، أي تتلوا فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وابن إسحاق.
(قلت) والتضمين أَحْسَنُ وَأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله: وكان السِّحْرُ قَبْلَ زَمَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ- صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الْبَقَرَةِ: 246] ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بَعْدَهَا وَفِيهَا وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَةِ: 251] وَقَالَ قَوْمُ صَالِحٍ وَهُمْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء: 153] أي الْمَسْحُورِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ «مَا» نَافِيَةٌ أَعْنِي التِي فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال القرطبي «1» : ما نافية ومعطوف عَلَى قَوْلِهِ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ثُمَّ قَالَ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وذلك أن اليهود كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فأكذبهم الله وَجَعَلَ قَوْلَهُ هارُوتَ وَمارُوتَ بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء: 11] أو لكونهما
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 50.(1/237)
لَهُمَا أَتْبَاعٌ أَوْ ذُكِرَا مِنْ بَيْنِهِمْ لِتَمَرُّدِهِمَا تقدير الكلام عنده يعلمون النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَأَصَحُّ وَلَا يُلْتَفَتْ إِلَى مَا سِوَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ الآية، يَقُولُ لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ السِّحْرَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا السِّحْرَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هذا وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مِنَ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الذِي مَعْنَاهُ الْمُقَدَّمُ قَالَ: فإن قال لنا قائل: كيف وَجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ؟ قِيلَ وَجْهُ تَقْدِيمِهِ أَنْ يقال وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مِنَ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ببابل هاروت وَمَارُوتَ، فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْمَلَكَيْنِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السِّحْرَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فأكذبهم الله بذلك، أخبر نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمْ يَنْزِلَا بِسِحْرٍ وَبَرَّأَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّهَا تُعَلِّمُ النَّاسَ ذَلِكَ بِبَابِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ: اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ، وَاسْمُ الْآخَرِ مَارُوتُ، فَيَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَرْجَمَةً عَنِ النَّاسِ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حُدِّثْتُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ السحر، قال ابن أبي حاتم:
وأخبرنا الفضل بن شاذان، أخبرنا محمد بن عيسى، أخبرنا يعلى يعني ابن أسد، أخبرنا بكر يعني ابن مصعب، أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى كَانَ يَقْرَؤُهَا «وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ» وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمْ ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان وَالْكُفْرَ، فَالسِّحْرُ مِنَ الْكُفْرِ، فَهُمَا يَنْهَيَانِ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ مَا بِمَعْنَى الذِي، وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مَلَكَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ وَأَذِنَ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ السِّحْرِ اخْتِبَارًا لِعِبَادِهِ وَامْتِحَانًا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَادَّعَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مُطِيعَانِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا امْتَثَلَا مَا أُمِرَا بِهِ، وَهَذَا الذِي سَلَكَهُ غَرِيبٌ جَدًا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ قَبِيلَانِ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ بن مزاحم أنه كان يقرؤها
__________
(1) الطبري 1/ 497.(1/238)
وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَيَقُولُ: هُمَا عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، وَوَجَّهَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء كما في قوله تعالى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: 6] وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الْحَدِيدِ: 25] ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً [غَافِرٍ: 13] وَفِي الْحَدِيثِ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً» وَكَمَا يُقَالُ «أَنْزَلَ اللَّهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ» .
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ أَبْزَى وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمْ قَرَءُوا وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ، قَالَ ابْنُ أَبْزَى: وَهُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَا نَافِيَةً أَيْضًا. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْوَقْفِ على قوله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وما نَافِيَةٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عن قول الله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ فقال: الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان النَّاسَ مَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ: مَا أُبَالِي أَيَّتُهُمَا كَانَتْ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْقَاسِمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: لَا أُبَالِي أَيَّ ذَلِكَ كَانَ «3» ، إِنِّي آمَنْتُ بِهِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُمَا أُنْزِلَا إِلَى الْأَرْضِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا كَانَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ ما ورد مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ هَذَيْنِ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَهُمَا هَذَا، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لَهُمَا فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَمْرِ إِبْلِيسَ مَا سَبَقَ، وفي قوله إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى [الْبَقَرَةِ: 34] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى مَا ذُكِرَ أَخَفُّ مِمَّا وَقَعَ مِنْ إِبْلِيسَ لعنه الله تعالى. وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ.
ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ إِنْ صَحَّ سَنَدُهُ وَرَفْعُهُ وَبَيَانُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «4» رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيْ رب
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 52.
(2) الطبري 1/ 499.
(3) بعد ما سألوه: أأنزل أم لم ينزل، كما ورد في الطبري.
(4) مسند أحمد (ج 2 ص 134) .(1/239)
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] قَالُوا: رَبَّنَا نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ:
هَلُمُّوا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى نُهْبِطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلَانِ، قالوا: ربنا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَمُثِّلَتْ لَهُمَا الزُّهَرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ، فَجَاءَتْهُمَا فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَتَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْإِشْرَاكِ، فَقَالَا: وَاللَّهِ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، فَذَهَبَتْ عَنْهُمَا ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَقْتُلَا هَذَا الصَّبِيَّ، فَقَالَا: لَا وَاللَّهِ لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بِقَدَحِ خَمْرٍ تَحْمِلُهُ فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ، فَشَرِبَا فَسَكِرَا فَوَقْعَا عَلَيْهَا وَقَتَلَا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَفَاقَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا أَبَيْتُمَاهُ عَلِيَّ إِلَّا قَدْ فَعَلْتُمَاهُ حِينَ سَكِرْتُمَا، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا» .
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عن الحسن بن سُفْيَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ- بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا مُوسَى بْنَ جُبَيْرٍ هَذَا وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ مَوْلَاهُمُ الْمَدِينِيُّ الْحَذَّاءُ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَنَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ السَّلَامِ وَبَكْرُ بْنُ مُضَرَ وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَرَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَلَمْ يحك فيه شيئا من هَذَا فَهُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ لَهُ مُتَابِعٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَرْجِسَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا القاسم، أخبرنا الْحُسَيْنُ وَهُوَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، أخبرنا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: يَا نَافِعُ انْظُرْ طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ؟ قُلْتُ: لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ طَلَعَتْ، قَالَ: لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا، قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ نَجْمٌ مُسَخَّرٌ سَامِعٌ مُطِيعٌ، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وقال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ يَا رَبِّ كَيْفَ صَبْرُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ؟ قَالَ: إِنِّي ابْتَلَيْتُهُمْ وَعَافِيَتُكُمْ، قَالُوا: لَوْ كُنَّا مَكَانَهُمْ مَا عَصَيْنَاكَ، قَالَ: فَاخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْكُمْ، قَالَ: فَلَمْ يَأْلُوا جُهْدًا أَنْ يَخْتَارُوا فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ» وَهَذَانِ أَيْضًا غَرِيبَانِ جِدًّا. وَأَقْرَبُ ما يكون في هذا أنه من رواية
__________
(1) الطبري 1/ 504.(1/240)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ لَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عن ابن عمر عن كعب الأحبار قَالَ: ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَمَا يَأْتُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمُ اثْنَيْنِ فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا إِنِّي أُرْسِلُ إِلَى بَنِي آدَمَ رُسُلًا وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ رَسُولٌ، انْزِلَا لَا تُشْرِكَا بِي شَيْئًا وَلَا تَزْنِيَا وَلَا تَشْرَبَا الْخَمْرَ، قَالَ كَعْبٌ: فو الله مَا أَمْسَيَا مِنْ يَوْمِهِمَا الذِي أُهْبِطَا فِيهِ حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِصَامٍ عَنْ مُؤَمَّلٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَذَكَرَهُ، فَهَذَا أَصَحُّ وَأَثْبَتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَسَالِمٌ أَثْبَتُ فِي أَبِيهِ مِنْ مَوْلَاهُ نَافِعٍ، فَدَارَ الْحَدِيثُ وَرَجَعَ إِلَى نَقْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ عَنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ أخبرنا حَمَّادٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانَتِ الزُّهَرَةُ امْرَأَةً جَمِيلَةً مِنْ أَهْلِ فَارِسَ وَإِنَّهَا خَاصَمَتْ إِلَى الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يُعْرَجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَعَلَّمَاهَا فَتَكَلَّمَتْ بِهِ، فَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَمُسِخَتْ كَوْكَبًا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن خَالِدٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: هُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، يَعْنِي وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ مُغِيثٍ عَنْ مَوْلَاهُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. وَهَذَا لَا يَثْبُتُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ اللَّهُ الزُّهَرَةَ فَإِنَّهَا هِيَ التِي فَتَنَتِ الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بن إبراهيم أخبرنا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا جَمِيعًا: لما كثر بنو آدم
__________
(1) الطبري 1/ 502. [.....]
(2) الطبري 1/ 501.(1/241)
وَعَصَوْا، دَعَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ رَبَّنَا لا تمهلهم، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ إِنِّي أَزَلْتُ الشَّهْوَةَ وَالشَّيْطَانَ مِنْ قُلُوبِكُمْ وَلَوْ نَزَلْتُمْ لَفَعَلْتُمْ أَيْضًا. قَالَ: فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ لَوِ ابْتُلُوا اعْتَصَمُوا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِ اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِكُمْ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ وَأُنْزِلَتِ الزُّهَرَةُ إِلَيْهِمَا فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ مِنْ أهل فارس يسمونها بيذخت، قال: فوقعا بالخطيئة، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كل شيء رحمة وعلما، فَلَمَّا وَقَعَا بِالْخَطِيئَةِ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَاخْتَارَا عَذَابَ الدنيا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَيُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ نَازِلًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَالَ لِغُلَامِهِ: انْظُرْ هَلْ طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا وَلَا حَيَّاهَا اللَّهُ هِيَ صَاحِبَةُ الْمَلَكَيْنِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ تَدَعُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ وَهُمْ يَسْفِكُونَ الدَّمَ الْحَرَامَ وَيَنْتَهِكُونَ مَحَارِمَكَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ إِنِّي ابْتَلَيْتُهُمْ فلعل إِنِ ابْتَلَيْتُكُمْ بِمِثْلِ الذِي ابْتَلَيْتُهُمْ بِهِ فَعَلْتُمْ كَالذِي يَفْعَلُونَ، قَالُوا: لَا، قَالَ: فَاخْتَارُوا مِنْ خِيَارِكُمُ اثْنَيْنِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا: إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تُشْرِكَا وَلَا تَزْنِيَا وَلَا تَخُونَا، فَأُهْبِطَا إِلَى الأرض وألقى عليهما الشهوة، وَأُهْبِطَتْ لَهُمَا الزُّهَرَةُ فِي أَحْسَنِ صُورَةِ امْرَأَةٍ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُمَا فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي عَلَى دِينٍ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَنِي إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِهِ، قَالَا: وَمَا دِينُكِ؟ قَالَتِ الْمَجُوسِيَّةُ، قَالَا: الشِّرْكُ هَذَا شَيْءٌ لَا نُقِرُّ بِهِ، فَمَكَثَتْ عَنْهُمَا مَا شَاءَ الله تعالى، ثم تعرضت لهما فراوداها عَنْ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ:
مَا شِئْتُمَا غَيْرَ أَنَّ لِي زَوْجًا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى هَذَا مِنِّي فَأَفْتَضِحَ، فَإِنْ أَقْرَرْتُمَا لِي بِدِينِي وَشَرَطْتُمَا لِي أَنْ تَصْعَدَا بِي إِلَى السَّمَاءِ فعلت، فأقرا لهما بِدِينِهَا وَأَتَيَاهَا فِيمَا يَرَيَانِ ثُمَّ صَعِدَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا انْتَهَيَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ اخْتُطِفَتْ مِنْهُمَا وَقُطِعَتْ أَجْنِحَتُهُمَا فَوَقَعَا خَائِفَيْنِ نَادِمَيْنِ يَبْكِيَانِ وَفِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ يَدْعُو بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أُجِيبَ فَقَالَا: لَوْ أَتَيْنَا فُلَانًا فَسَأَلَنَاهُ فَطَلَبَ لَنَا التَّوْبَةَ، فَأَتَيَاهُ فَقَالَ: رَحِمَكُمَا اللَّهُ كَيْفَ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ أَهْلُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَا:
إِنَّا قَدِ ابْتُلِينَا، قَالَ ائْتِيَانِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَتَيَاهُ، فَقَالَ: مَا أُجِبْتُ فِيكُمَا بِشَيْءٍ ائْتِيَانِي فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فأتياه، فقال: اختارا فقد خيرتما إن اخترتما مُعَافَاةَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ وَإِنْ أَحْبَبْتُمَا فَعَذَابُ الدُّنْيَا وَأَنْتُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منه إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَقَالَ الْآخَرُ: وَيْحَكَ إِنِّي قَدْ أَطَعْتُكَ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَأَطِعْنِي الْآنَ إِنَّ عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال: إننا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَأَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنَا، قَالَ: لَا. إِنِّي أَرْجُو إِنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّا قَدِ اخْتَرْنَا عَذَابَ الدُّنْيَا مَخَافَةَ عذاب الآخرة أن لا يجمعها عَلَيْنَا، قَالَ: فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَجُعِلَا فِي بَكَرَاتٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي قَلِيبٍ مَمْلُوءَةٍ مِنْ نار عليهما سَافِلَهُمَا- وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى(1/242)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ رَفَعَهُ، وَهَذَا أَثْبَتُ وَأَصَحُّ إِسْنَادًا ثُمَّ هُوَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الزُّهَرَةَ نَزَلَتْ فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، وَكَذَا فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيٍّ فِيهِ غَرَابَةٌ جِدًّا.
وَأَقْرَبُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا قال ابن أبي حاتم: أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا وَقَعَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: يَا رَبِّ هَذَا الْعَالَمُ الذِي إِنَّمَا خَلَقْتَهُمْ لِعِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ قَدْ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَرَكِبُوا الْكُفْرَ، وَقَتْلَ النَّفْسِ، وَأَكْلَ الْمَالِ الْحَرَامِ، وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةَ، وَشُرْبَ الْخَمْرِ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْذِرُونَهُمْ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِي غَيْبٍ فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا مِنْ أَفْضَلِكُمْ مَلَكَيْنِ آمُرُهُمَا، وَأَنْهَاهُمَا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَ لَهُمَا شَهَوَاتِ بَنِي آدَمَ وَأَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَعْبُدَاهُ وَلَا يُشْرِكَا بِهِ شَيْئًا وَنُهِيَا عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْحَرَامِ وَأَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَعَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَبِثَا فِي الْأَرْضِ زَمَانًا يَحْكُمَانِ بين الناس بالحق وذلك في زمن إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي النِّسَاءِ كَحُسْنِ الزُّهَرَةِ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهُمَا أَتَيَا عَلَيْهَا فَخَضَعَا لَهَا فِي الْقَوْلِ وَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يكون عَلَى أَمْرِهَا وَعَلَى دِينِهَا، فَسَأَلَاهَا عَنْ دِينِهَا، فَأَخْرَجَتْ لَهُمَا صَنَمًا فَقَالَتْ: هَذَا أَعْبُدُهُ، فَقَالَا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي عِبَادَةِ هَذَا، فَذَهَبَا فَغَبَرَا «1» مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَيَا عَلَيْهَا فَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، فَذَهَبَا ثم أتيا عليها فأراداها عَلَى نَفْسِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ، قَالَتْ لَهُمَا:
اخْتَارَا إِحْدَى الْخِلَالِ الثَّلَاثِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُدَا هَذَا الصَّنَمَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَا هَذِهِ النَّفْسَ، وَإِمَّا أَنْ تشربا هذه الْخَمْرَ، فَقَالَا: كُلُّ هَذَا لَا يَنْبَغِي وَأَهْوَنُ هَذَا شُرْبُ الْخَمْرِ فَشَرِبَا الْخَمْرَ فَأَخَذَتْ فِيهِمَا، فَوَاقَعَا الْمَرْأَةَ فَخَشِيَا أَنْ يُخْبِرَ الْإِنْسَانُ عَنْهُمَا فَقَتَلَاهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا السُّكْرُ وَعَلِمَا مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا إِلَى السَّمَاءِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا وَحِيَلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَكُشِفَ الْغِطَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَنَظَرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى مَا وَقَعَا فِيهِ فَعَجِبُوا كُلَّ الْعَجَبِ وَعَرَفُوا أَنَّهُ مَنْ كَانَ فِي غَيْبٍ فَهُوَ أَقَلُّ خَشْيَةً، فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 5] فَقِيلَ لَهُمَا: اخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ، فَقَالَا: أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ وَيَذْهَبُ وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَلَا انْقِطَاعَ لَهُ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَجُعِلَا بِبَابِلَ فَهُمَا يُعَذَّبَانِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ مُطَوَّلًا عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنْ حَكَّامِ بْنِ سَلْمٍ الرَّازِيِّ وَكَانَ ثِقَةً عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ بِهِ، ثُمَّ قال: صحيح الإسناد لم يُخَرِّجَاهُ، فَهَذَا أَقْرَبُ مَا رُوِيَ فِي شَأْنٍ
__________
(1) غير غبورا: مضى.(1/243)
الزُّهَرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس: أَنَّ أَهْلَ سَمَاءِ الدُّنْيَا أَشْرَفُوا عَلَى أَهْلِ الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي، فَقَالُوا: يَا رَبِّ أَهْلُ الْأَرْضِ كَانُوا يَعْمَلُونَ بالمعاصي، فقال الله: أنتم معي وهم في غُيَّبٌ عَنِّي، فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمْ ثَلَاثَةً فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَةً عَلَى أَنْ يَهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا أن لا يَشْرَبُوا خَمْرًا وَلَا يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَا يَزْنُوا وَلَا يَسْجُدُوا لِوَثَنٍ، فَاسْتَقَالَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فَأُقِيلَ، فَأُهْبِطَ اثْنَانِ إِلَى الْأَرْضِ فَأَتَتْهُمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ يُقَالُ لَهَا: مُنَاهِيَةُ فَهَوِيَاهَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَتَيَا مَنْزِلَهَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَهَا فَأَرَادَاهَا فَقَالَتْ لَهُمَا: لَا حَتَّى تَشْرَبَا خَمْرِي، وَتَقْتُلَا ابْنَ جَارِي، وَتَسْجُدَا لِوَثَنِي، فَقَالَا: لَا نَسْجُدُ ثُمَّ شَرِبَا مِنَ الْخَمْرِ ثُمَّ قَتَلَا ثُمَّ سَجَدَا، فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لَهُمَا: أَخْبِرَانِي بِالْكَلِمَةِ التِي إِذَا قُلْتُمَاهَا طِرْتُمَا، فَأَخْبَرَاهَا فَطَارَتْ، فَمُسِخَتْ جَمْرَةً وَهِيَ هَذِهِ الزُّهَرَةُ، وَأَمَّا هُمَا فَأُرْسِلَ إِلَيْهِمَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ فَخَيَّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَهُمَا مُنَاطَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وهذا السياق فيه زيادة كَثِيرَةٌ وَإِغْرَابٌ وَنَكَارَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَأُهْبِطَا لِيَحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَخِرُوا مِنْ حُكَّامِ بَنِي آدم فحاكمت إليهما امرأة فخافا لَهَا ثُمَّ ذَهَبَا يَصْعَدَانِ فَحِيلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. قال مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ فَكَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ فأخذ عليهما أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ «2» : كَانَ مِنْ أَمْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنَّهُمَا طَعَنَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فِي أَحْكَامِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنِّي أَعْطَيْتُ بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنَ الشَّهَوَاتِ فَبِهَا يَعْصُونَنِي، قَالَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ: رَبَّنَا لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ ثُمَّ نَزَلْنَا لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ. فَقَالَ لَهُمَا: انْزِلَا فَقَدْ أَعْطَيْتُكُمَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ الْعَشْرَ فَاحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ، فنزلا ببابل ديناوند، فَكَانَا يَحْكُمَانِ حَتَّى إِذَا أَمْسَيَا عَرَجَا فَإِذَا أَصْبَحَا هَبَطَا، فَلَمْ يَزَالَا كَذَلِكَ حَتَّى أَتَتْهُمَا امْرَأَةٌ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا فَأَعْجَبَهُمَا حُسْنُهَا وَاسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الزهرة، وبالنبطية بيدخت «3» ، وبالفارسية ناهيد، فقال أحدهما لصاحبه: إنها
__________
(1) وقال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 33: فهذا أظنّه من وضع الإسرائيليين وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل ... وإذا أحسنا الظن قلنا هذا من أخبار بني إسرائيل ومن خرافاتهم التي لا يعوّل عليها.
(2) الأثر في تفسير الطبري 1/ 502.
(3) في الطبري «بيذخت» و «أناهيذ» كلاهما بالذال المعجمة.(1/244)
لَتُعْجِبُنِي، قَالَ الْآخَرُ: قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ، فَقَالَ الْآخَرُ: هَلْ لَكَ أَنْ أَذْكُرَهَا لَنَفْسِهَا. قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ كَيْفَ لَنَا بِعَذَابِ اللَّهِ؟ قَالَ الْآخَرُ إِنَّا لَنَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ. فَلَمَّا جَاءَتْ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا ذَكَرَا إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي فَقَضَيَا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا ثُمَّ وَاعَدَتْهُمَا خَرِبَةً مِنَ الْخَرِبِ يَأْتِيَانِهَا فِيهَا فَأَتَيَاهَا لِذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَادَ الذِي يُوَاقِعُهَا قَالَتْ: مَا أَنَا بِالذِي أَفْعَلُ حَتَّى تُخْبِرَانِي بِأَيِّ كَلَامٍ تَصْعَدَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِأَيِّ كَلَامٍ تَنْزِلَانِ مِنْهَا، فأخبراها فتكلمت فصعدت، فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مَكَانَهَا وَجَعَلَهَا اللَّهُ كَوْكَبًا، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هَذِهِ التِي فَتَنَتْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا فَلَمْ يُطِيقَا فَعَرَفَا الْهَلَكَةَ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ وَجَعَلَا يُكَلِّمَانِ الناس كلامها وَهُوَ السِّحْرُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ «1» : أَمَّا شَأْنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجِبَتْ مِنْ ظُلْمِ بَنِي آدَمَ وَقَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَالْبَيِّنَاتُ، فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ تَعَالَى: اخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ أُنْزِلَهُمَا يَحْكُمَانِ فِي الْأَرْضِ فاختاروا فلم يألوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا حِينَ أَنْزَلَهُمَا:
أَعَجِبْتُمَا من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء وإنكما لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا رَسُولٌ، فَافْعَلَا كَذَا وَكَذَا ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمور وَنَهَاهُمَا، ثُمَّ نَزَلَا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْهُمَا فَحَكَمَا فَعَدَلَا، فَكَانَا يَحْكُمَانِ فِي النَّهَارِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ فَإِذَا أَمْسَيَا عَرَجَا فَكَانَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَيَنْزِلَانِ حِينَ يُصْبِحَانِ فَيَحْكُمَانِ فَيَعْدِلَانِ حَتَّى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمَا الزُّهَرَةُ فِي أَحْسَنِ صُورَةِ امْرَأَةٍ تُخَاصِمُ فَقَضَيَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَامَتْ وَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وَجَدْتَ مِثْلَ الذِي وَجَدْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَعَثَا إِلَيْهَا أَنِ ائْتِيَانَا نَقْضِ لَكِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَا وَقَضَيَا لَهَا «2» فَأَتَتْهُمَا فكشفا لها عن عورتيهما، وإنما كانت سوأتهما «3» فِي أَنْفُسِهِمَا وَلَمْ يَكُونَا كَبَنِي آدَمَ فِي شهوة النساء ولذاتها، فَلَمَّا بَلَغَا ذَلِكَ وَاسْتَحَلَّا افْتُتِنَا، فَطَارَتِ الزُّهَرَةُ فَرَجَعَتْ حَيْثُ كَانَتْ، فَلَمَّا أَمْسَيَا عَرَجَا فَزُجِرَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا وَلَمْ تَحْمِلْهُمَا أَجْنِحَتُهُمَا، فَاسْتَغَاثَا بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَأَتَيَاهُ فَقَالَا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَشْفَعُ أَهْلُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَا:
سَمِعْنَا رَبَّكَ يَذْكُرُكَ بِخَيْرٍ فِي السَّمَاءِ، فَوَعَدَهُمَا يَوْمًا، وَغَدَا يَدْعُو لَهُمَا فَدَعَا لَهُمَا فَاسْتُجِيبَ لَهُ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: أَلَا تَعْلَمَ أَنَّ أَفْوَاجَ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ كَذَا وَكَذَا فِي الْخُلْدِ وَفِي الدُّنْيَا تِسْعُ مَرَّاتٍ مِثْلَهَا؟ فَأُمِرَا أَنْ يَنْزِلَا ببابل فتم عَذَابُهُمَا، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ فِي الْحَدِيدِ مَطْوِيَّانِ يُصَفِّقَانِ بِأَجْنِحَتِهِمَا.
وَقَدْ رَوَى فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ كَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ والحسن
__________
(1) رواه الطبري 1/ 504.
(2) عبارة الطبري: فلما رجعت قالا لها- وقضيا لها-: ائتينا! فأتتهما.
(3) في الطبري: «شهوتهما» .(1/245)
الْبَصَرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَّهَا خَلْقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ إِجْمَالُ الْقِصَّةِ من غير بسط ولا إطناب فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ فِي ذَلِكَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم أنها قالت: قدمت علي امرأة مِنْ أَهْلِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ «2» جَاءَتْ تَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ حَدَاثَةَ «3» ذَلِكَ تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَتْ فِيهِ من أمر السحر ولم تعمل به، وقالت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، فَرَأَيْتُهَا تَبْكِي حِينَ لَمْ تَجِدْ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم فيشفيها، فكانت تَبْكِي حَتَّى إِنِّي لَأَرْحَمُهَا، وَتَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، كَانَ لِي زَوْجٌ فَغَابَ عَنِّي فَدَخَلْتُ عَلَى عَجُوزٍ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنْ فَعَلْتِ مَا آمُرُكِ بِهِ فَأَجْعَلُهُ يَأْتِيكِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْنِي بِكَلْبَيْنِ أَسْوَدَيْنِ فَرَكِبْتُ أَحَدَهُمَا وَرَكِبَتِ الْآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ لشيء «4» حَتَّى وَقَفْنَا بِبَابِلَ وَإِذَا بِرَجُلَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأَرْجُلِهِمَا فقالا: ما جاء بك؟
قلت: أَتَعَلَّمُ السِّحْرَ، فَقَالَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرِي فَارْجِعِي، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ: لَا، قَالَا: فَاذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ، فَذَهَبْتُ فَفَزِعْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا فَقَالَا: أَفَعَلْتِ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ، فَقَالَا: هَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَقَالَا لَمْ تَفْعَلِي ارْجِعِي إِلَى بلادك ولا تكفري فأربيت «5» وَأَبَيْتُ، فَقَالَا: اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ فَذَهَبْتُ فَاقْشَعْرَرْتُ وَخِفْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِمَا وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَقَالَا: كَذَبْتِ لَمْ تَفْعَلِي ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكِ، وَلَا تَكْفُرِي فَإِنَّكِ عَلَى رأس أمرك فأربت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَبُلْتُ فِيهِ فَرَأَيْتُ فَارِسًا مُقَنَّعًا بِحَدِيدٍ خَرَجَ مِنِّي فَذَهَبَ في السماء وغاب حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَجِئْتُهُمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا: فَمَا رَأَيْتِ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ فَارِسًا مُقَنَّعًا خرج مني فذهب في السماء وغاب حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَقَالَا: صَدَقْتِ ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ مِنْكِ اذْهَبِي، فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَمَا قَالَا لِي شَيْئًا، فَقَالَتْ: لن لَمْ تُرِيدِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ، خُذِي هَذَا الْقَمْحَ فَابْذُرِي، فَبَذَرْتُ وَقُلْتُ: أَطْلِعِي فَأَطْلَعَتْ، وَقُلْتُ: احقلي فأحقلت، ثم قلت: افركي
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 506.
(2) قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك (ص 113) : هي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة، ومن الكوفة على عشر مراحل، ومن دمشق على عشر مراحل.
(3) أي عقيبه.
(4) في الطبري «كشيء» .
(5) أربّ بالمكان: لزمه ولم يبرحه.(1/246)
فَأَفْرَكَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيْبِسِي فَأَيْبَسَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَطْحِنِي فَأَطْحَنَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَخْبِزِي فَأَخْبَزَتْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنِّي لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ سَقَطَ فِي يَدِي، وَنَدِمْتُ، وَاللَّهِ يَا أُمَّ المؤمنين ما فعلت شيئا وَلَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ مُطَوَّلًا كَمَا تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعلها أَبَدًا: فَسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَاثَةَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُتَوَافِرُونَ، فَمَا دَرَوْا مَا يَقُولُونَ لَهَا، وَكُلُّهُمْ هَابَ وَخَافَ أَنْ يُفْتِيَهَا بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: لَوْ كَانَ أَبَوَاكِ حَيَّيْنِ أو أحدهما. قَالَ هِشَامٌ: فَلَوْ جَاءَتْنَا أَفْتَيْنَاهَا بِالضَّمَانِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: وَكَانَ هِشَامٌ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كانوا من أَهْلَ الْوَرَعِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ ثُمَّ يَقُولُ هِشَامٌ:
لَوْ جَاءَتْنَا مِثْلُهَا الْيَوْمَ لَوَجَدَتْ نَوْكَى «1» أَهْلَ حُمْقٍ وَتَكَلُّفٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْأَثَرِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَهُ تَمَكُّنٌ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بَذَرَتْ وَاسْتَغَلَّتْ فِي الْحَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ إِلَّا عَلَى التخييل كما قال تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَافِ: 116] وَقَالَ تَعَالَى:
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] استدل بِهِ عَلَى أَنَّ بَابِلَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ هي بابل العراق لا بابل ديناوند كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا بَابِلُ الْعِرَاقِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ: أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِبَابِلَ وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ بِأَرْضِ الْمَقْبَرَةِ وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ بِبَابِلَ فَإِنَّهَا ملعونة وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِبَابِلَ وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ بِأَرْضِ بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ وَابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ حجاج بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ بِمَعْنَى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: فلما خرج منها بَرَزَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي دَاوُدَ لِأَنَّهُ رَوَاهُ وَسَكَتَ عَنْهُ فَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ بِأَرْضِ بَابِلَ كَمَا تُكْرَهُ بِدِيَارِ ثَمُودَ الَّذِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا بَاكِينَ. قَالَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ: وَبُعْدُ مَا بَيْنَ بَابِلَ وَهِيَ مِنْ إِقْلِيمِ الْعِرَاقِ عَنِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ أُوقْيَانُوسُ سَبْعُونَ دَرَجَةً وَيُسَمُّونَ هَذَا طُولًا، وَأَمَّا عَرْضُهَا وَهُوَ بُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ، وَهُوَ الْمُسَامِتُ لِخَطِّ الاستواء اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم.
__________
(1) النوكى: الحمقى. واحده: أنوك. [.....](1/247)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَإِذَا أَتَاهُمَا الْآتِي يُرِيدُ السِّحْرَ نَهَيَاهُ أَشَدَّ النَّهْيِ وَقَالَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا عَلِمَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، فَعَرَفَا أَنَّ السِّحْرَ مِنَ الْكُفْرِ، قال: فإذا أبى عليهما أمراه يَأْتِيَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَتَاهُ عَايَنَ الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خَرَجَ مِنْهُ النُّورُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ سَاطِعًا فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: يَا حَسْرَتَاهُ، يَا وَيْلَهُ مَاذَا صنع.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: نَعَمْ أُنْزِلَ الْمَلَكَانِ بِالسِّحْرِ لِيُعَلِّمَا النَّاسَ الْبَلَاءَ الذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ بِهِ النَّاسَ، فَأُخِذَ عَلَيْهِمَا الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ قتادة: كان أخذ عليهما أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: إِنَّمَا نحن فتنة أَيْ بَلَاءٌ ابْتُلِينَا بِهِ فَلَا تَكْفُرْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا أَتَاهُمَا إِنْسَانٌ يُرِيدُ السِّحْرَ وَعَظَاهُ وَقَالَا لَهُ: لَا تَكْفُرْ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَإِذَا أَبَى قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ فَبُلْ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَالَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ فَسَطَعَ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ، وَأَقْبَلَ شَيْءٌ أَسْوَدُ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ حَتَّى يَدْخُلَ في مسامعه، وكل شيء، وَذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ، فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا بِذَلِكَ عَلَّمَاهُ السِّحْرَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ الآية، وقال سعيد عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السِّحْرِ إِلَّا كَافِرٌ، وأما الفتنة فهي المحنة والاختيار، ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
وَقَدْ فُتِنَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ ... وَخَلَّى ابْنُ عَفَّانَ شَرًّا طَوِيلَا «1»
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الأعراف:
155] أَيِ ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَافِ: 155] وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَعَلَّمَ السحر، واستشهد لَهُ بِالْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المثنى، أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم عن هُمَامٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أَيْ فَيَتَعَلَّمُ النَّاسُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ عِلْمِ السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون مِنَ الْأَفَاعِيلُ الْمَذْمُومَةِ مَا إِنَّهُمْ لَيُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخُلْطَةِ وَالِائْتِلَافِ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا رَوَاهُ مسلم في
__________
(1) البيت للحتات بن يزيد المجاشعي عمّ الفرزدق في تاريخ الطبري 1/ 151 (وفيه: لقد سفه الناس في دينهم ... ) وهو منسوب لعلي بن الغدير بن المضرّس الغنوي أو لإهاب بن همام بن صعصعة أو لابن الغريرة النهشلي في أنساب الأشراف 5/ 104 ولابن الغريرة النهشلي في معجم الشعراء ص 349 والكامل للمبرد 2/ 34 وتاج العروس (وبل) .(1/248)
صَحِيحِهِ «1» مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِ الشَّيْطَانَ لَيَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ، فَأَقْرَبُهُمْ عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، ويجيء أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِفُلَانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ إِبْلِيسُ: لَا وَاللَّهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا! وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ قَالَ: فَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ وَيَلْتَزِمُهُ وَيَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ» وسبب التفريق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالسِّحْرِ مَا يُخَيَّلُ إِلَى الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْآخَرِ مِنْ سُوءِ مَنْظَرٍ أَوْ خُلُقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ عَقْدٍ أَوْ بُغْضِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفُرْقَةِ، وَالْمَرْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّجُلِ وَتَأْنِيثُهُ امْرَأَةٌ وَيُثَنَّى كُلٌّ مِنْهُمَا وَلَا يُجْمَعَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِلَّا بِتَخْلِيَةِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ، مَنْ شَاءَ اللَّهُ سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ يُسَلَّطْ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ من أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَضُرُّ هَذَا السِّحْرُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أَيْ يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ نَفْعٌ يُوَازِي ضَرَرُهُ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أَيْ وَلَقَدْ عَلِمَ الْيَهُودُ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا بِالسِّحْرِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ، ذَلِكَ أَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: مِنْ نَصِيبٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ من جهة عند الله، وقال عبد الرزاق، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُ دِينٌ، وَقَالَ سَعْدٌ عَنْ قَتَادَةَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال: ولقد علم أهل الكتاب فيم عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنَّ السَّاحِرَ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ الْبَدِيلُ مَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ مِنَ السِّحْرِ عِوَضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول لَوْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِمَا وُعِظُوا بِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ أَيْ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَاتَّقَوُا الْمَحَارِمَ لَكَانَ مَثُوبَةُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا اسْتَخَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَرَضُوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ [الْقَصَصِ: 80] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ، كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقِيلَ: بَلْ لَا يَكْفُرُ، وَلَكِنْ حده ضرب عنقه، لما رواه
__________
(1) صحيح مسلم (منافقين حديث رقم 66، 67) .(1/249)
الشافعي وأحمد بن حنبل «1» ، قالا: أخبرنا سفيان، هو ابن عيينة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بِجَالَةَ بن عبدة يقول: كَتَبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، قَالَ:
فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا، وَهَكَذَا صَحَّ أَنَّ حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ سَحَرَتْهَا جارية لها، فأمرت بها، فقتلت، قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ «2» مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدُبٍ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، كَانَ عِنْدَهُ سَاحِرٌ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَ الرَّجُلِ ثُمَّ يَصِيحُ بِهِ فَيَرُدُّ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ صَالِحِي الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ وَذَهَبَ يَلْعَبُ لَعِبَهُ ذَلِكَ، فَاخْتَرَطَ الرَّجُلُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَ السَّاحِرِ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ صادقا فليحي نَفْسَهُ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى:
أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 3] ، فَغَضِبَ الْوَلِيدُ إِذْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَسَجَنَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال الإمام أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أبي أخبرنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ رَجُلٌ يلعب فجاء جندي مشتملا على سيفه فقتله، قال: أُرَاهُ كَانَ سَاحِرًا، وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قِصَّةَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ عَلَى سِحْرٍ يَكُونُ شِرْكًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ]
حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «3» عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ السِّحْرِ، قَالَ: وَرُبَّمَا كَفَّرُوا مَنِ اعْتَقَدَ وَجُودَهُ، قَالَ: وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَقْدِرَ السَّاحِرُ أَنْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ وَيَقْلِبَ الْإِنْسَانَ حِمَارًا، وَالْحِمَارَ إِنْسَانًا إِلَّا أَنَّهُمْ قالوا: إن الله يخلق الأشياء عند ما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات الْمُعَيَّنَةَ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْفَلَكُ وَالنُّجُومُ، فَلَا، خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ والصابئة، ثُمَّ اسْتُدِلَّ عَلَى وُقُوعِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمِنَ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ وَبِقِصَّةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَا ذَكَرَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ إِتْيَانِهَا بَابِلَ وَتَعَلُّمِهَا السِّحْرَ قَالَ: وَبِمَا يُذْكَرُ فِي هَذَا الباب من الحكايات الكثير، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلَا مَحْظُورٍ- اتفق المحققون على ذلك لأن
__________
(1) المسند (ج 1 ص 190، 191) .
(2) سنن الترمذي (حدود باب 27) .
(3) التفسير الكبير 3/ 194.(1/250)
الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ، وَأَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعَلَّمُ لِمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ، وَمَا يَتَوَقَّفُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا، وَمَا يَكُونُ واجبا كيف يَكُونُ حَرَامًا وَقَبِيحًا؟ هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا قَوْلُهُ: الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ عَقْلًا، فَمُخَالَفُوهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَمْنَعُونَ هَذَا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ شَرْعًا، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَبْشِيعٌ لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، وَفِي الصَّحِيحِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ، وَفِي السُّنَنِ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً وَنَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ» وَقَوْلُهُ: وَلَا مَحْظُورَ، اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ، كَيْفَ لَا يَكُونُ مَحْظُورًا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّفَاقُ الْمُحَقِّقِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قد نص إلى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَأَيْنَ نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله في علم السحر في عموم قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى مَدْحِ الْعَالِمِينَ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلِمَ قُلْتَ إِنَّ هَذَا مِنْهُ؟ ثُمَّ تُرَقِّيهِ إِلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزِ إِلَّا بِهِ ضَعِيفٌ بَلْ فَاسِدٌ، لأن أعظم مُعْجِزَاتِ رَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حميد. ثم إن العلم بأنه معجزة لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ السِّحْرِ أَصْلًا، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعَيْنِ وَأَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتَهُمْ، كَانُوا يَعْلَمُونَ الْمُعْجِزَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ السِّحْرَ وَلَا تعلموه ولا علموه، والله أعلم.
ثم ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ «1» ، أَنَّ أَنْوَاعَ السحر ثمانية [الأول] سحر الكذابين وَالْكُشْدَانِيِّينَ «2» ، الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّرَةَ، وَهِيَ السَّيَّارَةُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدَبِّرَةُ الْعَالَمِ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ الله إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبطلا لمقالتهم وردا لِمَذْهَبِهِمْ، وَقَدِ اسْتَقْصَى فِي (كِتَابِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ، في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه، كما ذكرها الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ وَغَيْرُهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ تَابَ منه، وقيل بل صَنَّفَهُ عَلَى وَجْهِ إِظْهَارِ الْفَضِيلَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا هُوَ الْمَظْنُونُ بِهِ إِلَّا أنه ذكر فيه طريقهم فِي مُخَاطَبَةِ كُلِّ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون بِهِ.
قَالَ: [وَالنَّوْعُ الثَّانِي] سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنُّفُوسِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَهْمَ لَهُ تَأْثِيرٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى الْجِسْرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَمْدُودًا عَلَى نَهَرٍ أَوْ نَحْوَهُ «3» ، قَالَ: وَكَمَا أَجْمَعَتِ الْأَطِبَّاءُ على نهي المرعوف عن
__________
(1) التفسير الكبير 3/ 187- 193.
(2) في تفسير الرازي: «الكلدانيين والكسدانيين» .
(3) عبارة الرازي: «أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه، لو كان موضوعا على الأرض، لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر على هاوية تحته. وما ذاك إلا أن تخيّل السقوط متى قوي أوجبه» .(1/251)
النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ، وَالْمَصْرُوعِ إِلَى الْأَشْيَاءِ القوية اللمعان أو الدوران، وما ذلك إِلَّا لِأَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ حَقٌّ- وَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» - قَالَ: فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ النَّفْسُ التِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَدْ تَكُونُ قَوِيَّةً جِدًّا فَتَسْتَغْنِي فِي هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهَذِهِ الآلات، وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية عن الْبَدَنِ شَدِيدَةَ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ السَّمَاوَاتِ صَارَتْ كَأَنَّهَا رُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، فَكَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَوَادِّ هَذَا الْعَالَمِ، وَإِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً شَدِيدَةَ التَّعَلُّقِ بِهَذِهِ الذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فحينئذ لا يكون لها تأثير الْبَتَّةَ إِلَّا فِي هَذَا الْبَدَنِ، ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى مُدَاوَاةِ هَذَا الدَّاءِ بِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ وَالرِّيَاءِ (قُلْتُ) وَهَذَا الذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ هُوَ التَّصَرُّفُ بِالْحَالِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ، تَارَةً تَكُونُ حَالًا صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً يَتَصَرَّفُ بِهَا فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، ويترك ما نهى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهذه الْأَحْوَالُ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَاتٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يُسَمَّى هَذَا سِحْرًا فِي الشَّرْعِ. وَتَارَةً تَكُونُ الْحَالُ فَاسِدَةً لَا يَمْتَثِلُ صَاحِبُهَا مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي ذَلِكَ، فَهَذِهِ حَالُ الْأَشْقِيَاءِ الْمُخَالَفِينَ لِلشَّرِيعَةِ وَلَا يَدُلُّ إِعْطَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هَذِهِ الْأَحْوَالَ عَلَى محبته لهم، كما أن الدجال له من الخوارق للعادات مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ مَعَ أَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا لَعَنَهُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَابَهَهُ مِنْ مُخَالَفِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَبَسْطُ هَذَا يَطُولُ جِدًّا وَلَيْسَ هذا موضعه.
قال: [والنوع الثَّالِثُ] مِنَ السِّحْرِ، الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ وَهُمُ الْجِنُّ، خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ «1» ، وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، وقال: وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنَ اتِّصَالَهَا بالأرواح السماوية لما بينها مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْقُرْبِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَرْبَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الأرضية يحصل بها أعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن وَالتَّجْرِيدِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ وَعَمَلِ التسخير.
قال: [النوع الرابع] من السحر التخييلات وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ وَالشَّعْبَذَةُ، وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يُخْطِئُ وَيَشْتَغِلُ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ ألا ترى ذا الشعبذة الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يُذْهِلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا اسْتَفْرَغَهُمُ الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرَ مَا انْتَظَرُوهُ فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يريد أن يعلمه، ولم تتحرك
__________
(1) عبارة الرازي أوضح في المقام: «واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة. أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به، إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية ... » .(1/252)
النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ (قَالَ) وَكُلَّمَا كانت الأحوال التي تُفِيدُ حُسْنَ الْبَصَرِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلَلِ أَشَدَّ، كَانَ الْعَمَلُ أَحْسَنَ مِثْلَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَعْبِذُ فِي مَوْضِعٍ مُضِيءٍ جِدًّا أَوْ مُظْلِمٍ فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها وَالْحَالَةِ هَذِهِ.
(قُلْتُ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ سِحْرَ السَّحَرَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَافِ: 116] وَقَالَ تَعَالَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طَهَ: 66] قَالُوا: وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنَ السِّحْرِ] : الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ التِي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية [تارة وعلى ضروب الخيلاء أخرى] «1» كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ- وَمِنْهَا الصُّوَرُ التِي تُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، إِلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أمور التخاييل، قَالَ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (قُلْتُ) يَعْنِي مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَحَشَوْهَا زِئْبَقًا فَصَارَتْ تَتَلَوَّى بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ الزِّئْبَقِ فَيُخَيَّلُ إِلَى الرَّائِي أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا. قَالَ الرَّازِيُّ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ بِالْآلَاتِ الْخَفِيفَةِ قَالَ: وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا مَعْلُومَةً يَقِينِيَّةً مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا قَدَرَ عَلَيْهَا. (قُلْتُ) وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِيَلُ النَّصَارَى عَلَى عَامَّتِهِمْ بِمَا يُرُونَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْأَنْوَارِ كَقَضِيَّةِ قُمَامَةِ الْكَنِيسَةِ التِي لهم ببلد القدس، وَمَا يَحْتَالُونَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ خِفْيَةً إِلَى الْكَنِيسَةِ وَإِشْعَالِ ذَلِكَ الْقِنْدِيلِ بِصَنْعَةٍ لَطِيفَةٍ تَرُوجُ عَلَى الْعَوَامِّ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْخَوَاصُّ فَهُمْ معترفون بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُونَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ شَمْلَ أَصْحَابِهِمْ على دينهم فيرون ذلك سائغا لهم. وفيهم شبهة على الجهلة الْأَغْبِيَاءِ مِنْ مُتَعَبَّدِي الْكَرَّامِيَّةِ «2» الَّذِينَ يَرَوْنَ جَوَازَ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَيَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ مَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: «مِنْ كَذَبَ عَلِيَّ مُتَعَمَّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَقَوْلُهُ: «حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلِيَّ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيَّ يَلِجُ النَّارَ» ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ وَهُوَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَائِرٍ حَزِينِ الصَّوْتِ ضَعِيفِ الْحَرَكَةِ فَإِذَا سَمِعَتْهُ الطُّيُورُ تَرِقُّ لَهُ فَتَذْهَبُ فَتُلْقِي فِي وَكْرِهِ مِنْ ثَمَرِ الزَّيْتُونِ لِيَتَبَلَّغَ بِهِ، فَعَمَدَ هَذَا الرَّاهِبُ إِلَى صَنْعَةِ طَائِرٍ عَلَى شَكْلِهِ وَتَوَصَّلَ إِلَى أَنْ جَعَلَهُ أَجْوَفَ فَإِذَا دَخَلَتْهُ الرِّيحُ يُسْمَعُ منه صوت كصوت الطَّائِرِ وَانْقَطَعَ فِي صَوْمَعَةٍ ابْتَنَاهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا على قبر
__________
(1) الزيادة من الرازي.
(2) الكرامية: فرقة من أهل السنّة، تنسب إلى محمد بن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي ببيت المقدس سنة 869 م. والكرامية مجسمون يذهبون إلى أن الله تعالى محدود من جهة العرش وأن شيئا لا يحدث في العالم قبل حدوث أعراض في ذاته.(1/253)
بعض صالحيهم وعلق على ذَلِكَ الطَّائِرَ فِي مَكَانٍ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فيدخل الرِّيحُ إِلَى دَاخِلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَيُسْمَعُ صَوْتُهَا كل طائر فِي شَكْلِهِ أَيْضًا، فَتَأْتِي الطُّيُورُ فَتَحْمِلُ مِنَ الزَّيْتُونِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَا تَرَى النَّصَارَى إِلَّا ذَلِكَ الزَّيْتُونَ فِي هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ وَلَا يَدْرُونَ مَا سَبَبُهُ، فَفَتَنَهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْهَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ «1» .
قَالَ الرَّازِيُّ: النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ السِّحْرِ الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ يعني في هذا الأطعمة والدهانات قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ. (قُلْتُ) يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَالَاتِ «2» .
قَالَ النَّوْعُ السابع من السحر: التعليق للقلب، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أكثر الأمور فإذا اتفق أن يكون السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَحَصَلَ فِي نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا ما حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. (قُلْتُ) هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ التَّنْبَلَةُ وَإِنَّمَا يَرُوجُ عَلَى ضعفاء الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَفِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ ما يرشد إلى معرفة الْعَقْلِ مِنْ نَاقِصِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُتَنْبِلُ حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ لَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ: النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنَ السِّحْرِ: السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالتَّضْرِيبِ «3» مِنْ وُجُوهٍ خَفِيفَةٍ لَطِيفَةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ (قُلْتُ) النَّمِيمَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التحرش بَيْنَ النَّاسِ وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذَا حَرَامٌ متفق عليه، فأما إن كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَائْتِلَافِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ بِالْكَذَّابِ مَنْ يَنُمُّ خَيْرًا» أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، وَكَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فِي تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة: جاء إِلَى هَؤُلَاءِ فَنَمَى إِلَيْهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كَلَامًا، وَنَقَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ لَأَمَ بَيْنَ ذَلِكَ فَتَنَاكَرَتِ النُّفُوسُ وَافْتَرَقَتْ، وإنما
__________
(1) يفهم من حكاية ابن كثير المنقولة هنا عن الرازي أن الراهب المشار إليه أعلاه نصراني. والحال أن الرازي إنما حكى عن «عمل أرجعيانوس الموسيقار في هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه» . قارن برواية الرازي 3/ 193.
(2) توجيه كلام الرازي إلى هذا المعنى غير دقيق. فقد تحدث الرازي عن «الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة، نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلّد عقله وقلّت فطنته» فتأمّل.
(3) التضريب: الإغراء. [.....](1/254)
يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النَّافِذَةُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ، (قُلْتُ) وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وخفي بسببه، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» ، وَسُمِّيَ السُّحُورُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخَرَ اللَّيْلِ، وَالسَّحْرَ: الرِّئَةُ، وَهِيَ مَحَلُّ الْغِذَاءِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَغُضُونِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لعتبة: انتفخ سحره أَيِ انْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سحري ونحري، وقال تعالى:
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] أي أخفوا عنهم علمهم، والله أعلم.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ «1» : وَعِنْدَنَا أَنَّ السِّحْرَ حَقٌّ وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل. قَالَ: وَمِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ بِخِفَّةِ الْيَدِ كَالشَّعْوَذَةِ، وَالشَّعْوَذِيُّ الْبَرِيدُ لِخِفَّةِ سَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ فارس: وليست هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كَلَامًا يُحْفَظُ وَرُقًى مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عُهُودِ الشَّيَاطِينِ وَيَكُونُ أَدْوِيَةً وَأَدْخِنَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لسحرا» يحتمل أن يكون مدحا كما تقول طَائِفَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَمًّا لِلْبَلَاغَةِ قَالَ: وهذا أصح، قال لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام: «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي له» الحديث.
[فَصْلٌ]
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بن محمد بن هبيرة رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الْإِشْرَافُ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَشْرَافِ) بَابًا فِي السِّحْرِ فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ. وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ إِنْ تَعَلَّمَهُ لِيَتَّقِيَهُ أَوْ لِيَجْتَنِبَهُ فَلَا يَكْفُرُ وَمَنْ تَعَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ أَوْ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ كَفَرَ، وَكَذَا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قُلْنَا لَهُ صِفْ لَنَا سِحْرَكَ فَإِنْ وَصَفَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يُلْتَمَسُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَهَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ نَعَمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وأحمد. وقال أبو حنيفة: يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا قُتِلَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قِصَاصًا قَالَ: وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وأحمد في المشهور
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 44.(1/255)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
عنهم: لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تُقْبَلُ، وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لَا يُقْتَلُ يَعْنِي لِقِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ السَّاحِرَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أنها لَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ، وَقَالَ الثَّلَاثَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ:
قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حنبل- عمر بن هارون أخبرنا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ:
يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَلَمْ يَقْتُلَهَا. وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ يُقْتَلُ إِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ، وَأَمَّا السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ تَضَمَّنَ سِحْرُهُ كُفْرًا كَفَرَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:
102] . لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه، فَإِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ قُتِلَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ لَمْ أَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ تَجِبُ عليه الدية.
[مسألة]
وهل يسأل الساحر حلا لسحره؟ فَأَجَازَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ «1» وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَّا تَنَشَّرْتَ، فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أَفْتَحَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ: يُؤْخَذُ سَبْعُ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ فَتُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ تُضْرَبُ بِالْمَاءِ وَيُقْرَأُ عَلَيْهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَيَشْرَبُ مِنْهَا الْمَسْحُورُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِبَاقِيهِ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ الذِي يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ (قُلْتُ) أَنْفَعُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِذْهَابِ السِّحْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ في ذهاب ذَلِكَ وَهُمَا الْمُعَوِّذَتَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَمْ يَتَعَوَّذِ المتعوذ بِمِثْلِهِمَا» وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَإِنَّهَا مُطَّرِدَةٌ للشيطان.
[سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقامهم وَفِعَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَانُونَ مِنَ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَوْرِيَةٌ لِمَا يَقْصِدُونَهُ مِنَ التَّنْقِيصِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يقولوا اسمع لنا يقولون راعنا ويورون بِالرُّعُونَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ
__________
(1) النّشرة (بضم النون وتسكين الشين) : الرّقية يعالج بها المريض ونحوه.(1/256)
أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 46] ، وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا إِنَّمَا يَقُولُونَ السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَالسَّامُ هُوَ الْمَوْتُ، وَلِهَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِ «وَعَلَيْكُمْ» ، وَإِنَّمَا يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا. وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكَافِرِينَ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد «1» : أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت أخبرنا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي مُنِيبٍ الْجُرَشِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَتِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ «2» عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أبي شيبة عن أبي شيبة عن أبي النضير هاشم أخبرنا ابن الْقَاسِمِ بِهِ «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ التِي لم تشرع لنا ولا نقر عليها.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْنٍ وَعَوْنٍ أَوْ أَحَدِهِمَا أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: اعْهَدْ إِلِيَّ، فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: مَا تَقْرَؤُونَ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ راعِنا أَيْ أَرْعِنَا سَمْعَكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْعِنَا سَمْعَكَ وَإِنَّمَا رَاعِنَا كَقَوْلِكَ عَاطِنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي مَالِكٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَقَتَادَةَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
لَا تَقُولُوا راعِنا لَا تَقُولُوا خِلَافًا، وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَقُولُوا اسْمَعْ مِنَّا وَنَسْمَعُ مِنْكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ لَا تَقُولُوا راعِنا، كَانَتْ لُغَةً تَقُولَهَا الْأَنْصَارُ «3» ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَقُولُوا راعِنا، قَالَ: الرَّاعِنُ مِنَ الْقَوْلِ السُّخْرِيُّ مِنْهُ، نَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْخَرُوا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ مثله، وقال أبو صخر:
__________
(1) مسند أحمد (ج 2 ص 50) .
(2) سنن أبي داوود (لباس باب 4) .
(3) في الطبري «تقولها الأنصار في الجاهلية» . والأخبار الواردة هذا في تفسير «راعنا» ذكرها الطبري في تفسيره 1/ 514- 517.(1/257)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَدْبَرَ نَادَاهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ يُدْعَى رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ «1» يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا لَقِيَهُ فَكَلَّمَهُ قَالَ: أَرْعِنِي سَمْعَكَ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُفَخَّمُ بِهَذَا، فَكَانَ نَاسٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ:
اسْمَعْ غَيْرَ مَسْمَعٍ غَيْرَ صَاغِرٍ، وَهِيَ كَالتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَتَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَقُولُوا رَاعِنَا. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ نَهَى المؤمنين أن يقولوا لنبيه رَاعِنَا. لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ كَرِهَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يقولوها لَنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظِيرَ الذِي ذكر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ وَلَكِنْ قُولُوا الْحَبَلَةُ «2» وَلَا تَقُولُوا عَبْدِي وَلَكِنْ قُولُوا فَتَايَ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ يُبَيِّنُ بِذَلِكَ تَعَالَى شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر الله تَعَالَى مِنْ مُشَابِهَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِيَقْطَعَ الْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمْ وبينهم، ونبه تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشَّرْعِ التَّامِّ الْكَامِلِ الذِي شَرَعَهُ لَنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا نُبَدِّلُ مِنْ آيَةٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نمحو مِنْ آيَةٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قَالَ نُثْبِتُ خَطَّهَا وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا، حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَصْحَابِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا نُنْسِكَ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَمَّا مَا نَنْسَخْ، فَمَا نَتْرُكُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يَعْنِي تُرِكَ فَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نَسْخُهَا قَبْضُهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: يعني قبضها ورفعها، مِثْلُ قَوْلِهِ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» ، وَقَوْلُهُ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ من ذهب لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، ما ننقل مِنْ حُكْمِ آيَةٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَنُبَدِّلُهُ وَنُغَيِّرُهُ،
__________
(1) في الطبري: رفاعة بن زيد بن السائب، قال أبو جعفر: هذا خطأ، إنما هو ابن التابوت، ليس ابن السائب.
(2) الحبلة (بالتحريك) : الأصل أو القضيب من شجر الأعناب.
(3) تفسير الطبري 1/ 521.(1/258)
وَذَلِكَ أَنْ يُحَوِّلَ الْحَلَالُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ حَلَالًا، وَالْمُبَاحُ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورُ مُبَاحًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ، فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَأَصْلُ النَّسْخِ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ وهو نقله من نسخة إلى أخرى غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ مَعْنَى نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إِلَى غَيْرِهَا وَسَوَاءٌ نَسْخُ حُكْمِهَا أَوْ خَطِّهَا، إِذْ هِيَ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَةٌ.
وَأَمَّا عُلُمَاءُ الْأُصُولِ، فَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي حَدِّ النَّسْخِ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أن رَفْعُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ. فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ نَسْخُ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ وَعَكْسِهِ وَالنَّسْخُ لَا إِلَى بَدَلٍ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ النَّسْخِ وَذِكْرُ أنواعه وشروطه فمبسوطة، في أصول الفقه.
وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل «1» عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَاقِدٍ، أخبرنا أبي أخبرنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، فكانا يقرآن بِهَا، فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ، فَلَمْ يَقْدِرَا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ وَأُنْسِي، فَالْهُوَا عَنْهَا، فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقْرَؤُهَا: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَصْرِ بْنِ دَاوُدَ عَنْ أبي عبيد الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، مِثْلَهُ مَرْفُوعًا، ذكره القرطبي «2» .
وقوله تعالى: أَوْ نُنْسِها، فقرىء عَلَى وَجْهَيْنِ، نَنْسَأَهَا وَنُنْسِهَا، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ فَمَعْنَاهُ نُؤَخِّرُهَا. قال علي ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا ننسخ من آية أو ننسأها، يَقُولُ مَا نُبَدِّلُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكُهَا لَا نُبَدِّلُهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مسعود: أو ننسأها، نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها، نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: أو ننسأها، نُؤَخِّرُهَا فَلَا نَنْسَخُهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِثْلَهُ أَيْضًا وكذا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا نَنْسَخْ من آية أو ننسأها، يعني الناسخ والمنسوخ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو ننسأها نؤخرها عندنا، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، أخبرنا خلف، أخبرنا الخفاف، عن إسماعيل يعني ابن أسلم، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ ننسأها، أَيْ نُؤَخِّرُهَا، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَوْ نُنْسِها، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، قال كان الله عز وجل:
__________
(1) في المعجم الصغير للطبراني (1/ 237) : «أبو شبل» .
(2) تفسير القرطبي 2/ 68.(1/259)
ينسي نبيه صلّى الله عليه وسلّم مَا يَشَاءُ، وَيَنْسَخُ مَا يَشَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ جرير «1» : أخبرنا سوار بن عبد الله، أخبرنا خالد بن الحارث، أخبرنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: أَوْ نُنْسِها قَالَ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، قرأ علينا «2» قُرْآنًا ثُمَّ نَسِيَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَرَّانِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ يَعْنِي الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، قال ابن أبي حَاتِمٍ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرِ بْنُ نُفَيْلٍ، لَيْسَ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ هُوَ شَيْخٌ لَنَا جَزَرِيٌّ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَوْ نُنْسِها نَرْفَعُهَا مِنْ عِنْدِكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أخبرنا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَأُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها قَالَ: قُلْتُ لَهُ فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يقرأ أَوْ نُنْسِها قال: قال سَعْدٌ: إِنَّ الْقُرْآنَ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمُسَيِّبِ ولا على آل المسيب، قال: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الْكَهْفِ: 24] ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هُشَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ بِهِ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ نَحْوَ قَوْلِ سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: عَلِيٌّ أَقْضَانَا وَأُبَيٌّ أَقْرَأُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أبيا يقول: ما أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وَاللَّهُ يَقُولُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.
قَالَ البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
قَالَ عُمَرُ: أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ: لَا أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها.
وَقَوْلُهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَيْ فِي الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ويقول خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فَلَا نَعْمَلُ بِهَا أَوْ نُنْسِأْهَا، أَيْ نُرْجِئُهَا عِنْدَنَا نَأْتِ بِهَا أَوْ نَظِيرِهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ من الذي نسخناه أو مثل
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 522.
(2) في الطبري: «أقرىء قرآنا ثم نسيه» .(1/260)
الذِي تَرَكْنَاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ فِيهَا رُخْصَةٌ فِيهَا أَمْرٌ فِيهَا نَهْيٌ.
وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، يرشد عباده تَعَالَى بِهَذَا، إِلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ، بِمَا يَشَاءُ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ، فَكَمَا خَلَقَهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُشْقِي مَنْ يَشَاءُ وَيُصِحُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُمْرِضُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ كَذَلِكَ يَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَيَحِلُّ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ وَيُبِيحُ مَا يَشَاءُ وَيَحْظُرُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الذِي يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَيَخْتَبِرُ عِبَادَهُ وَطَاعَتَهُمْ لِرُسُلِهِ بِالنَّسْخِ، فَيَأْمُرُ بِالشَّيْءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ التِي يَعْلَمُهَا تَعَالَى، ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ لِمَا يَعْلَمُهُ تَعَالَى فَالطَّاعَةُ كُلُّ الطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرُوا، وَامْتِثَالِ مَا أَمَرُوا، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرُوا. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ رَدٌّ عَظِيمٌ وَبَيَانٌ بَلِيغٌ لِكُفْرِ الْيَهُودِ وَتَزْيِيفِ شُبْهَتِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فِي دَعْوَى اسْتِحَالَةِ النَّسْخِ، إِمَّا عَقْلًا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ جَهْلًا وَكُفْرًا، وَإِمَّا نَقْلًا كَمَا تَخَرَّصَهُ آخَرُونَ مِنْهُمُ افْتِرَاءً وَإِفْكًا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ، أَنَّ لي ملك السموات وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا دُونَ غَيْرِي، أَحْكُمُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَآمُرُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَأَنْهَى عَمَّا أَشَاءُ، وَأَنْسَخُ وَأُبَدِّلُ وَأُغَيِّرُ، مِنْ أَحْكَامِي التِي أَحْكُمُ بِهَا فِي عبادي، بما أشاء إذ أشاء، وأقر منهما مَا أَشَاءُ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كان خطابا من اللَّهُ تَعَالَى، لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، عَنْ عَظَمَتِهِ فَإِنَّهُ مِنْهُ جل ثناؤه تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا نَسْخَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَجَحَدُوا نُبُوَّةَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِمَجِيئِهِمَا بِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بتغيير مَا غَيَّرَ اللَّهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَخْبَرَهُمُ الله أن له ملك السموات وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا، وَأَنَّ الْخَلْقَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَعَلَيْهِمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَمْرَهُمْ بِمَا يَشَاءُ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا يَشَاءُ، وَنَسْخَ مَا يَشَاءُ، وَإِقْرَارَ مَا يَشَاءُ، وَإِنْشَاءَ مَا يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
(قُلْتُ) الذِي يَحْمِلُ الْيَهُودَ عَلَى الْبَحْثِ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ، إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَشَرَائِعِهِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا أَحَلَّ لِآدَمَ تَزْوِيجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، ثُمَّ حَرَّمَ ذَلِكَ، وَكَمَا أَبَاحَ لِنُوحٍ، بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ أَكْلَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ نَسَخَ حِلَّ بَعْضِهَا، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ مُبَاحًا لِإِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ، وَقَدْ حُرِّمَ ذلك في شريعة التوراة
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 529.(1/261)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
وما بعدها، وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، ثُمَّ نَسَخَهُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَأَمَرَ جُمْهُورَ بَنَى إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مِنْهُمْ، ثُمَّ رَفَعَ عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَيَصْدِفُونَ عَنْهُ وَمَا يُجَابُ بِهِ عَنْ هَذِهِ الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود، كما فِي كُتُبِهِمْ مَشْهُورًا مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ إِلَّا عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الشَّرَائِعَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُغَيَّاةٌ إِلَى بعثه عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُطْلَقَةٌ، وَإِنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَخَتْهَا، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَوُجُوبُ متابعته متعين، لِأَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابٍ هُوَ آخِرُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَفِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَّنَ تَعَالَى جَوَازَ النَّسْخِ، رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لعنة اللَّهِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ، فَكَمَا أَنَّ لَهُ الْمُلْكَ بِلَا مُنَازِعٍ، فَكَذَلِكَ لَهُ الْحُكْمُ بِمَا يَشَاءُ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] وَقُرِئَ فِي سُورَةِ آلِ عمران، التي نزل في صَدْرُهَا خِطَابًا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وُقُوعُ النَّسْخِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: 93] ، كما سيأتي تفسيره.
وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَكُلُّهُمْ قَالَ بِوُقُوعِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْمُفَسِّرُ: لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ في القرآن، وقوله ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ، وَقَدْ تَعَسَّفَ فِي الْأَجْوِبَةِ عَمَّا وَقَعَ مِنَ النَّسْخِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَضِيَّةُ العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذَلِكَ بِكَلَامٍ مَقْبُولٍ، وَقَضِيَّةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ مُصَابَرَةِ الْمُسْلِمِ لِعَشَرَةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ إِلَى مُصَابَرَةِ الِاثْنَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وغير ذلك، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
نهى الله تعالى المؤمنين فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَنْ كَثْرَةِ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 101] أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تَفْصِيلِهَا بَعْدَ نُزُولِهَا تُبَيَّنُ لَكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوا عَنِ الشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يُحَرَّمَ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ:
«إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» «1» وَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرَّجُلِ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سكت
__________
(1) البخاري (اعتصام باب 3) ومسلم (فضائل حديث 132، 133) . [.....](1/262)
عن مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ حُكْمَ الْمُلَاعَنَةِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال «1» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِنْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» «2» وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمْ، «أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْحَجَّ، فَقَالَ رَجُلٌ: أُكُلُّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ، ثُمَّ قَالَ «ذروني ما تركتكم» الحديث، ولهذا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسْنَدِهِ: أخبرنا أبو كريب، أخبرنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: إِنْ كَانَ لَيَأْتِيَ عَلِيَّ السَّنَةُ، أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشيء، فَأَتَهَيَّبُ مِنْهُ وَإِنْ كُنَّا لَنَتَمَنَّى الْأَعْرَابَ. وَقَالَ البزار: أخبرنا محمد بن المثنى، أخبرنا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابن عباس، قال: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ- ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ- ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الْبَقَرَةِ: 217- 219- 220] ، يَعْنِي هَذَا وَأَشْبَاهُهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَيْ بَلْ تُرِيدُونَ، أَوْ هِيَ عَلَى بَابِهَا فِي الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعلم الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولُ اللَّهِ إلى الجميع، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النِّسَاءِ: 153] ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «3» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي محمد عن عكرمة أو سعيد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ حريملة ووهب بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ، ائْتِنَا بِكِتَابٍ تُنَزِّلُهُ علينا من السماء نقرؤه، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتْبَعْكَ وَنُصَدِّقْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ من قولهم، أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ «4» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كانت كفارتنا ككفارات بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا- ثَلَاثًا- مَا أَعْطَاكُمُ الله خير مما أعطى
__________
(1) البخاري (خصومات باب 3) ومسلم (أقضية حديث 14) .
(2) مسلم (حج حديث 411، وفضائل حديث 131) .
(3) تفسير الطبري 1/ 530.
(4) الأثر في الطبري 1/ 531.(1/263)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمُ الْخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفَّارَتَهَا، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآخِرَةِ، فَمَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، قَالَ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النِّسَاءِ: 110] ، وقال «الصلوات الخمس ومن الجمعة إلى الجمعة كفارة لَمَّا بَيْنَهُنَّ» وَقَالَ: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَمَنْ هُمْ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، وَلَا يَهْلَكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ.
وَقَالَ مجاهد: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً، قَالَ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، قَالَ: «نَعَمْ وَهُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [إِنْ كَفَرْتُمْ] » «1» ، فَأَبَوْا وَرَجَعُوا. وَعَنِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ نَحْوَ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ مَنْ سَأَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ، كَمَا سَأَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَنُّتًا وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا. قَالَ اللَّهُ تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ، أي ومن يَشْتَرِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ. وَهَكَذَا حَالُ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاتِّبَاعِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَالِاقْتِرَاحِ عَلَيْهِمْ بِالْأَسْئِلَةِ التِي لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إِبْرَاهِيمَ: 28- 29] ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يتبدل الشدة بالرخاء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
يُحَذِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سُلُوكِ طريق الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُعْلِمُهُمْ بِعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَمَا هُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِفَضْلِهِمْ وَفَضْلِ نَبِيِّهِمْ، وَيَأْمُرُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالِاحْتِمَالِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «2» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَبُو ياسر بن أخطب، من أشد اليهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله
__________
(1) الزيادة من الطبري 1/ 530.
(2) الأثر في الطبري 1/ 534.(1/264)
بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَطَاعَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ الْآيَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قَالَ:
هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أخبرنا أبي أخبرنا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ كَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولًا أُمِّيًّا يُخْبِرُهُمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْآيَاتِ، ثُمَّ يُصَدِّقُ بِذَلِكَ كُلِّهُ مِثْلَ تَصْدِيقِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا ذَلِكَ كُفْرًا وَحَسَدًا وَبَغْيًا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يَقُولُ مِنْ بَعْدِ مَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ، لَمْ يَجْهَلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ حَمَلَهُمْ عَلَى الْجُحُودِ، فَعَيَّرَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ وَلَامَهُمْ أَشَدَّ الْمَلَامَةِ، وَشَرَعَ لَنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا أُنْزِلَ الله عَلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، بِكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ الْجَزِيلِ وَمَعُونَتِهِ لَهُمْ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، من بعد ما تبين أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكَفَرُوا بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا، إِذْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ والربيع بن أنس.
وَقَوْلُهُ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آلِ عِمْرَانَ: 186] ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، وَقَوْلُهُ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] ، إِلَى قَوْلِهِ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَةِ: 29] ، فَنَسَخَ هَذَا عَفْوَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم حدثنا أبي: أخبرنا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى. قال الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَأَوَّلُ مِنَ الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ الله فيهم بالقتل، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَهَذَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَكِنْ لَهُ أَصْلٌ في الصحيحين عن أسامة بن زيد.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ،(1/265)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
يحثهم تَعَالَى عَلَى الِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَتَعُودُ عَلَيْهِمْ عَاقِبَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، حَتَّى يُمَكِّنَ لَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غَافِرٍ: 52] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفَلُ عَنْ عَمَلِ عَامِلٍ، وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَإِنَّهُ سَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، هذا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أو شر، سرا وعلانية، فَهُوَ بِهِ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ خَيْرًا، وَبِالْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا، وَهَذَا الكلام وإن كان قد خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ فِيهِ وَعْدًا وَوَعِيدًا وَأَمْرًا وَزَجْرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْلَمَ الْقَوْمَ، أَنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، لِيَجِدُّوا فِي طَاعَتِهِ إِذْ كان ذلك مذخورا لَهُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى يُثِيبَهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلِيَحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ بَصِيرٌ فَإِنَّهُ مُبْصِرٌ، صُرِفَ إِلَى بَصِيرٍ، كَمَا صُرِفَ مُبْدِعٌ إِلَى بَدِيعٍ، وَمُؤْلِمٌ إِلَى أَلِيمٍ، وَاللَّهُ أعلم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وهو يقرأ هَذِهِ الْآيَةِ: سَمِيعٌ بَصِيرٌ، يَقُولُ «بِكُلِّ شَيْءٍ بصير» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
يُبَيِّنُ تَعَالَى اغْتِرَارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمَا هُمْ فِيهِ، حَيْثُ ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهَا، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، أَنَّهُمْ قَالُوا:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
وَلَوْ كَانُوا كَمَا ادَّعَوْا، لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَمَا تَقَدَّمَ مِنْ دَعْوَاهُمْ، أَنَّهُ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى التِي ادَّعَوْهَا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بَيِّنَةٍ، فَقَالَ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَمَانِيُّ تَمَنَّوْهَا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَذَا قَالَ قتادة والربيع بن أنس.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى قُلْ أَيْ يَا مُحَمَّدُ هاتُوا بُرْهانَكُمْ قال أبو العالية ومجاهد والسدي
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 538.(1/266)
وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حُجَّتُكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ بَيِّنَتُكُمْ على ذلك: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أي فيما تَدَّعُونَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، أَيْ مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آلِ عِمْرَانَ:
20] ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يَقُولُ: مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَلى مَنْ أَسْلَمَ أَخْلَصَ وَجْهَهُ، قَالَ دِينَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي اتبع فِيهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ للعمل المتقبل شرطين: أحدهما أن يكون صوابا خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، فَمَتَى كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُتَقَبَّلْ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ «1» من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام.
فَعَمَلُ الرُّهْبَانِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِيهِ لِلَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، حتى يكون ذلك متابعا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَفِيهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّورِ: 39] ، وقال تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى نَارًا حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:
5] ، وروي عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ تَأَوَّلَهَا فِي الرُّهْبَانِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يُخْلِصْ عَامِلُهُ الْقَصْدَ لِلَّهِ، فَهُوَ أَيْضًا مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا حَالُ المرائين والمنافقين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النِّسَاءِ: 142] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [الْمَاعُونِ: 4- 7] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الْكَهْفِ: 110] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَقَوْلُهُ: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، ضَمِنَ لَهُمْ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ تَحْصِيلَ الْأُجُورِ، وَآمَنَهُمْ مما يخافونه من المحذور، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا مَضَى مِمَّا يَتْرُكُونَهُ، كَمَا قال سعيد بن جبير، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَعْنِي لَا يَحْزَنُونَ لِلْمَوْتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، بين بِهِ تَعَالَى تَنَاقُضَهُمْ وَتَبَاغُضَهُمْ وَتَعَادِيَهِمْ وَتَعَانُدَهُمْ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «2» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ فتنازعوا عند
__________
(1) صحيح مسلم (أقضية حديث 18) .
(2) تفسير الطبري 1/ 542.(1/267)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَفَرَ بِعِيسَى وَبِالْإِنْجِيلِ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى لِلْيَهُودِ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَجَحَدَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، قَالَ «1» : إِنَّ كُلًّا يَتْلُو فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقَ مَنْ كَفَرَ بِهِ، أَيْ يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ، فِيهَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بِالتَّصْدِيقِ بِعِيسَى وَفِي الْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى بِتَصْدِيقِ مُوسَى، وَمَا جَاءَ مِنَ التَّوْرَاةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكُلٌّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ قَالَ: بَلَى قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ قَالَ: بَلَى، قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ الْيَهُودِ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي، أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ صَدَقَتْ فِيمَا رَمَتْ بِهِ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ فِيمَا قَالُوهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً في وقت، ولكنهم تَجَاحَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنَادًا وَكُفْرًا وَمُقَابَلَةً لِلْفَاسِدِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَاللَّهُ أعلم.
وقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، بين بِهَذَا جَهْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيمَا تَقَابَلُوا مِنَ الْقَوْلِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ. وَقَدِ اختلف فيمن عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ قَالَا: وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ قَوْلِ الْيَهُودِ وَقِيلِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؟ قَالَ أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فَهُمُ الْعَرَبُ، قَالُوا لَيْسَ مُحَمَّدٌ عَلَى شَيْءٍ. وَاخْتَارَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «2» أَنَّهَا عَامَّةٌ تَصْلُحُ لِلْجَمِيعِ، وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُعَيِّنُ واحدا من هذه الأقوال، والحمل عَلَى الْجَمِيعِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، أي أنه تعالى يجمع
__________
(1) من هنا إلى قوله «في يد صاحبه» رواه الطبري 1/ 543 منفصلا عن الحديث السابق لابن إسحاق، ولكن بالإسناد نفسه. لذلك يصح ما فعله ابن كثير هنا من الجمع بينهما.
(2) تفسير الطبري 1/ 544.(1/268)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِقَضَائِهِ الْعَدْلِ، الذِي لَا يَجُورُ فِيهِ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذرة، وهذه الآية كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الْحَجِّ:
17] ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:
26] .
[سورة البقرة (2) : آية 114]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ وَسَعَوْا فِي خَرَابِهَا، عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قَالَ: هُمُ النَّصَارَى وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النُّصَّارَى كَانُوا يَطْرَحُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْأَذَى وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله:
وَسَعى فِي خَرابِها. قال هُوَ بُخْتَنَصَّرُ وَأَصْحَابُهُ، خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّصَارَى. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، النَّصَارَى حَمَلَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْتَنَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتَنَصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى خربه وأمر أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَإِنَّمَا أَعَانَهُ الرُّومُ عَلَى خَرَابِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، (الْقَوْلُ الثَّانِي) ، مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَالُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ بِذِي طُوَى، وَهَادَنَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ يَصُدُّ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ الرجل، يلقى قاتل أبيه أو أخيه فَلَا يَصُدُّهُ» فَقَالُوا: لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا مَنْ قَتَلَ آبَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِينَا بَاقٍ. وَفِي قوله:
وَسَعى فِي خَرابِها قال: إذا قَطَعُوا مَنْ يَعْمُرُهَا بِذِكْرِهِ وَيَأْتِيهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ذَكَرَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قُرَيْشًا مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ «2» ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا الرُّومُ فَسَعَوْا فِي تخريب بيت المقدس.
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 546. والوجوه السابقة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدّي كلها ذكرها ابن جرير.
(2) أي أن النصارى هم الذين أعانوا بختنصر على ذلك.(1/269)
(قلت) والذي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْقَوْلُ الثَّانِي كَمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ النَّصَارَى إِذَا مَنَعَتِ الْيَهُودَ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، كَأَنَّ دِينَهُمْ أَقْوَمُ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ، وَكَانُوا أَقْرَبَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ مَقْبُولًا إِذْ ذَاكَ، لِأَنَّهُمْ لُعِنُوا مِنْ قَبْلُ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى، لَمَّا وَجَّهَ الذَّمَّ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، شَرَعَ فِي ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهِ مِنْ مَكَّةَ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا اعْتِمَادُهُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَيُّ خَرَابٍ أَعْظَمُ مِمَّا فَعَلُوا؟ أَخْرَجُوا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا بِأَصْنَامِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْفَالِ:
34] ، وَقَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ. إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التَّوْبَةِ: 17- 18] وَقَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْحِ: 25] فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التَّوْبَةِ: 18] ، فَإِذَا كَانَ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ مَطْرُودًا مِنْهَا مَصْدُودًا عَنْهَا، فَأَيُّ خَرَابٍ لَهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ عِمَارَتِهَا زَخْرَفَتَهَا وَإِقَامَةَ صُورَتِهَا فَقَطْ، إِنَّمَا عِمَارَتُهَا بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ فِيهَا، وَرَفْعِهَا عَنِ الدَّنَسِ وَالشَّرَكِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ، هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الطَّلَبُ، أَيْ لَا تُمَكِّنُوا هَؤُلَاءِ إِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُولِهَا، إِلَّا تَحْتَ الْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، أَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ أَنْ يُنَادَى بِرِحَابِ مِنًى: «أَلَّا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ أَجْلٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ» ، وهذا إنما كَانَ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التَّوْبَةِ: 28] ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا خَائِفِينَ، عَلَى حَالِ التَّهَيُّبِ وَارْتِعَادِ الْفَرَائِصِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَيَمْنَعُوا المؤمنين منها، والمعنى: ما كان إلا الْحَقُّ وَالْوَاجِبُ إِلَّا ذَلِكَ، لَوْلَا ظُلْمُ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ إِنَّ هَذَا بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ، أَنَّهُ سَيُظْهِرُهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ يُذِلُّ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ، حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، إِلَّا خَائِفًا يَخَافُ أَنْ يُؤْخَذَ فَيُعَاقَبَ أَوْ يُقْتَلَ، إِنْ لَمْ يُسْلِمْ. وَقَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ هَذَا الْوَعْدَ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ(1/270)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَا يَبْقَى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَشْرِيفُ أَكْنَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَطْهِيرُ البقعة التِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، بَشِيرًا وَنَذِيرًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَكَمَا صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، صُدُّوا عَنْهُ، وَكَمَا أَجْلَوْهُمْ من مكة أجلوا عنها، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ عَلَى مَا انْتَهَكُوا مِنْ حُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَامْتَهَنُوهُ مِنْ نَصْبِ الأصنام حوله، ودعاء غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَالطَّوَافِ بِهِ عُرْيًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَاعِيلِهِمُ التِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ النَّصَارَى لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَّبُوهُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ الْآيَةَ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ يَدْخُلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خَائِفًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ رُومِيٌّ يَدْخُلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، أَوْ قَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَهُوَ يُؤَدِّيهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا مُسَارَقَةً. (قُلْتُ) وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَعْنَى عُمُومِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّصَارَى لَمَّا ظَلَمُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِامْتِهَانِ الصَّخْرَةِ، التِي كانت تصلي إِلَيْهَا الْيَهُودُ، عُوقِبُوا شَرْعًا وَقَدَرًا بِالذِّلَّةِ فِيهِ، إِلَّا فِي أَحْيَانٍ مِنَ الدَّهْرِ امْتُحِنَ بِهِمْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ لَمَّا عَصَوُا اللَّهَ فِيهِ أَيْضًا، أَعْظَمَ مِنْ عِصْيَانِ النَّصَارَى، كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفَسَّرَ هَؤُلَاءِ الْخِزْيَ في الدُّنْيَا بِخُرُوجِ الْمُهْدِيِّ عِنْدَ السُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ وَوَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كما قال الإمام أحمد «1» : أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ» وهذا حديث حسن، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وليس لصاحبه وهو بشر بن أَبِي أَرْطَاةَ حَدِيثٌ سِوَاهُ، وَسِوَى حَدِيثِ: لَا تقطع الأيدي في الغزو «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ، وَفَارَقُوا مَسْجِدَهُمْ وَمُصَلَّاهُمْ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وُجِّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إلى
__________
(1) مسند أحمد (ج 4 ص 181) . [.....]
(2) رواه أيضا الإمام أحمد في المسند، قبل الحديث السابق، من طريقين.(1/271)
الْكَعْبَةِ بَعْدُ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ لنا مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، شأن القبلة. قال اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَرَكَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى بَيْتِهِ الْعَتِيقِ وَنَسَخَهَا. فَقَالَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَةِ: 149- 150] وَقَالَ «1» عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَهْلُهَا الْيَهُودَ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب قبلة إبراهيم، وكان يَدْعُو وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 149] إلى قوله فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:
144] فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: 142] ، وَقَالَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قَالَ: قِبْلَةُ اللَّهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ شَرْقًا أَوْ غَرْبًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا الْكَعْبَةُ، وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الْأَثَرَ الْمُتَقَدِّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَسْخِ الْقِبْلَةِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وإنما أنزلها لِيُعْلِمَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا مِنْ نَوَاحِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ وَجْهًا مِنْ ذَلِكَ وَنَاحِيَةً، إِلَّا كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ، لِأَنَّ لَهُ تَعَالَى الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا [الْمُجَادَلَةِ: 7] ، قَالُوا: ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ الذِي فَرَضَ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هَكَذَا قَالَ.
وَفِي قَوْلِهِ وَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، إِنْ أَرَادَ عِلْمَهُ تَعَالَى فَصَحِيحٌ، فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَمَّا ذَاتُهُ تَعَالَى فَلَا تَكُونُ مَحْصُورَةً فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، إذنا من الله أن يصلي المتطوع، حَيْثُ تَوَجَّهَ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ، فِي مسيره في سفره، وفي حال المسايفة
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 549.
(2) تفسير الطبري 1/ 550.(1/272)
وشدة الخوف [والتقاء الزحوف في الفرائض] «1» . حدثنا أبو كريب، أخبرنا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَيَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِهِ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْآيَةِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ من حديث نافع عن ابن عمر، وأنه كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصَفَهَا، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذَلِكَ، صَلُّوا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبَلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ: وَلَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[مَسْأَلَةٌ] وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، بَيْنَ سَفَرِ الْمَسَافَةِ وَسَفَرِ الْعَدْوَى، فَالْجَمِيعُ عَنْهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ فِيهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَجَمَاعَتِهِ، وَاخْتَارَ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، التَّطَوُّعَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْمِصْرِ، وَحَكَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، حَتَّى لِلْمَاشِي أَيْضًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخرون: بل نزلت الْآيَةُ فِي قَوْمٍ عُمِّيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ، فَلَمْ يَعْرِفُوا شَطْرَهَا فَصَلَّوْا عَلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَالَ الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأني وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية. حدثنا «2» أحمد بن إسحاق الأهوازي، أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أَبُو الرَّبِيعِ السَّمَّانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَلَمَّا أَنْ أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ الْآيَةَ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ السَّمَّانِ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْ وَكِيعٍ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ السَّمَّانِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ السَّمَّانِ، وَاسْمُهُ أَشْعَثُ «3» بْنُ سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هذا حديث حسن، وليس إِسْنَادُهُ بِذَاكَ وَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الأشعث السَّمَّانِ، وَأَشْعَثُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
قُلْتُ وَشَيْخُهُ عَاصِمٌ أَيْضًا ضَعِيفٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَتْرُوكٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ روى من طريق آخر، عن جابر فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هذه الآية:
__________
(1) الزيادة من الطبري.
(2) الحديث للطبري، وهو في تفسيره 1/ 550.
(3) وانظر موسوعة رجال الكتب التسعة 1/ 140.(1/273)
أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بن عبد اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أبي أخبرنا عبد الملك العزرمي عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً كُنْتُ فِيهَا فَأَصَابَتْنَا ظُلْمَةٌ، فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَّا: قَدْ عَرَفْنَا الْقِبْلَةَ هِيَ هَاهُنَا قبل الشمال فَصَلَّوْا وَخَطُّوا خُطُوطًا فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَفَلْنَا مِنْ سَفَرِنَا سَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَتَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العزرمي عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ فَأَصَابَنَا غَيْمٌ فَتَحَيَّرْنَا فَاخْتَلَفْنَا فِي القبلة فصلى كل رجل مِنَّا عَلَى حِدَةِ وَجَعَلَ أَحَدُنَا يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَنَعْلَمَ أَمْكِنَتَنَا فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالْإِعَادَةِ، وَقَالَ: قَدْ أَجَزَّأَتْ صَلَاتُكُمْ، ثُمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا قَالَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان. ورواه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَأَخَذَتْهُمْ ضَبَابَةٌ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّوْا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد أن طلعت الشَّمْسِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى في هَذِهِ الْآيَةَ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ فِيهَا ضَعْفٌ، وَلَعَلَّهُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَمَّا إِعَادَةُ الصَّلَاةِ لِمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَبَبِ النَّجَاشِيِّ كَمَا حَدَّثَنَا محمد بن بشار، أخبرنا هِشَامُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنْ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ؟ قَالَ: فنزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 199] قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالُوا إنه كَانَ لَا يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَهَذَا غَرِيبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ النَّاسِخَ إِلَى الْكَعْبَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ «1» عَنْ قَتَادَةَ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ ذَهَبَ إِلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، قَالَ: وَهَذَا خَاصٌّ عِنْدَ أصحابنا من ثلاثة أوجه- أحدهما- أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، شَاهَدَهُ حِينَ صَلَّى عَلَيْهِ طُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ. الثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَلِكٌ مُسْلِمٌ لَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى دِينِهِ، وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ هَذَا لَعَلَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَرْعِيَّةُ الصلاة على الميت.
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 83.(1/274)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ. الثَّالِثُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا صَلَّى عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّأْلِيفِ لِبَقِيَّةِ الْمُلُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ» وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ هَاهُنَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَعْشَرٍ وَاسْمُهُ نجيح بن عبد الرحمن السدي الْمَدَنِيُّ بِهِ «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» «1» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَبِي مَعْشَرٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، ثُمَّ قال الترمذي: حدثني الحسن بن بكر المروزي، أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان بن محمد بن الأخنسي عن أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» ثُمَّ قال الترمذي: هذا صَحِيحٌ، وَحَكَى عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَعْشَرٍ وَأَصَحُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» مِنْهُمْ عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا جَعَلْتَ الْمَغْرِبَ عَنْ يَمِينِكَ وَالْمَشْرِقَ عَنْ يَسَارِكَ فَمَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ، إِذَا اسْتُقْبِلَتِ الْقِبْلَةُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم، أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: وَقَالَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَوْلُهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَيُحْتَمَلُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فِي دُعَائِكُمْ لِي فَهُنَالِكَ وَجْهِي أَسْتَجِيبُ لكم دعاءكم، كما حدثنا القاسم، أخبرنا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا نَزَلَتْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] قَالُوا إِلَى أَيْنَ؟ فَنَزَلَتْ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال ابن جرير: ومعنى قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ يَسَعُ خَلْقَهُ كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلِيمٌ فَإِنَّهُ يَعْنِي عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا يَعْزُبُ عن علمه بل هو بجميعها عليم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالتِي تَلِيهَا عَلَى الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى عليهم لعائن الله وكذا من
__________
(1) الترمذي (صلاة باب 139) وابن ماجة (إقامة باب 56) . والموطأ للإمام مالك (قبلة حديث 8) .
(2) تفسير الطبري 1/ 552.(1/275)
أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَقَوْلِهِمْ إِنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، فَقَالَ تَعَالَى: سُبْحانَهُ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا افْتَرَوْا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهنّ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمُقَدِّرُهُمْ وَمُسَخِّرُهُمْ وَمُسَيِّرُهُمْ وَمُصَرِّفُهُمْ كَمَا يَشَاءُ وَالْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُمْ وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مُشَارِكٌ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْأَنْعَامِ: 101] وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مَرْيَمَ: 88- 92] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1- 4] . فَقَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ لَهُ وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ مَخْلُوقَةٌ لَهُ مَرْبُوبَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ؟
وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ «1» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية من البقرة: حدثنا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي الحسين، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ ابْنُ مُطْعَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فزعم أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي، أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: «ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي. وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلِيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَأَنَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» «2» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ ويعافيهم» «3» .
__________
(1) صحيح البخاري (تفسير سورة الفاتحة باب 5) .
(2) وأخرجه البخاري أيضا من هذا الطريق في تفسير سورة الإخلاص باب 1.
(3) صحيح البخاري (توحيد باب 3 وأدب باب 71) وصحيح مسلم (منافقين حديث 49، 50) .(1/276)
وَقَوْلُهُ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا أَسْبَاطٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قانِتِينَ مُصَلِّينَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو مَالِكٍ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مُقِرُّونَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ، يَقُولُ الْإِخْلَاصُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: يَقُولُ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي: قَائِمٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي: مُطِيعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ قَالَ: مُطِيعُونَ، كُنْ إِنْسَانًا فَكَانَ، وَقَالَ: كُنْ حِمَارًا فَكَانَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ مطيعون، قال:
طَاعَةُ الْكَافِرِ فِي سُجُودِ ظِلِّهُ وَهُوَ كَارِهٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تَعَالَى:
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْدِ: 15] .
وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِيهِ بَيَانُ الْقُنُوتِ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أبي حاتم: أخبرنا يوسف بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ» ، وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عن دراج بإسناده مثله، ولكن في هذا الإسناد ضعف لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَرَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْكَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ أَوْ مَنْ دونه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: خَالِقُهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَهُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ للشيء المحدث بدعة، كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة، وَالْبِدْعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً، كَقَوْلِهِ: «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، وَتَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً لُغَوِيَّةً، كَقَوْلِ أَمِيرِ المؤمنين عمر بن الخطاب عَنْ جَمْعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ: نعمت البدعة هذه.
وقال ابن جرير «2» : بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُبْدِعُهُمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُفْعِلٌ فَصُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا صُرِفَ الْمُؤْلِمُ إِلَى الْأَلِيمِ، وَالْمُسْمِعُ إِلَى السَّمِيعِ، وَمَعْنَى الْمُبْدِعِ الْمُنْشِئُ وَالْمُحْدِثُ، مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى إِنْشَاءِ مِثْلِهِ وَإِحْدَاثِهِ أَحَدٌ، قَالَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمُبْتَدِعُ فِي الدِّينِ، مُبْتَدِعًا لِإِحْدَاثِهِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ غيره، وكذلك كل محدث قولا أو فعلا، لم يتقدم فِيهِ مُتَقَدِّمٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ مُبْتَدِعًا، وَمِنْ ذلك قول أعشى بني ثَعْلَبَةَ فِي مَدْحِ هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ: [البسيط]
يرعي إِلَى قَوْلِ سَادَاتِ الرِّجَالِ إِذَا ... أَبْدَوْا لَهُ الحزم أو ما شاءه ابتدعا «3»
__________
(1) مسند أحمد (ج 3 ص 75) .
(2) تفسير الطبري 1/ 555. [.....]
(3) البيت للأعشى في ديوانه ص 86 وتفسير الطبري 1/ 555.(1/277)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
أَيْ يُحْدِثُ مَا شَاءَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد، وهو مالك ما في السموات وَالْأَرْضِ تَشْهَدُ لَهُ جَمِيعُهَا بِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتُقِرُّ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَهُوَ بَارِئُهَا وَخَالِقُهَا وَمُوجِدُهَا، مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ احْتَذَاهَا عَلَيْهِ، وهذا إعلام من الله لعباده، أن مما يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ الْمَسِيحُ، الذِي أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ بُنُوَّتَهُ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ، أَنَّ الذِي ابتدع السموات وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَعَلَى غَيْرِ مِثَالٍ، هُوَ الذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيحَ عِيسَى، مِنْ غَيْرِ وَالدٍ بِقُدْرَتِهِ، وَهَذَا مِنَ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [غافر: 68] يُبَيِّنُ بِذَلِكَ تَعَالَى كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَ أَمْرًا وَأَرَادَ كَوْنَهُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ، أَيْ: مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ، أَيْ: فَيُوجَدُ، عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: 50] وقال الشاعر:
[الطويل]
إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُولُ له كن قولة فيكون
ونبه بِذَلِكَ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ خَلْقَ عِيسَى بِكَلِمَةِ كُنْ فَكَانَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .
[سورة البقرة (2) : آية 118]
وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «1» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، فَقُلْ لله فيكلمنا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، قَالَ: النَّصَارَى تَقُولُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِمْ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ «2» : لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ، أي: يخاطبنا بنبوتك يا محمد، (قلت) : وهو ظاهر السياق، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: هذا قول كفار العرب
__________
(1) الأثر في الطبري 1/ 560. وقد أخرجه من حديث ابن عباس بإسنادين من طريق ابن إسحاق.
(2) تفسير القرطبي 2/ 92.(1/278)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، قَالُوا: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَنَّ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ [الْأَنْعَامِ: 124] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] إلى قوله: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 93] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: 21] ، وقوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [الْمُدَّثِّرِ: 52] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْمُعَانَدَةُ، كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وغيرهم، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاءِ: 153] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] .
وقوله تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ أَشْبَهَتْ قُلُوبُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُلُوبَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَالْعُتُوِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ [الذاريات: 52] ، وقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، أَيْ قَدْ أوضحنا الدَّلَالَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ وَزِيَادَةٍ أُخْرَى لِمَنْ أَيْقَنَ وَصَدَّقَ وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ، وَفَهِمَ مَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَمَّا مَنْ ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فأولئك قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96] .
[سورة البقرة (2) : آية 119]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللَّهِ الْفَزَارِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ النَّحْوِيِّ، أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قال: «أنزلت علي إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، قَالَ: بَشِيرًا بالجنة ونذيرا من النار» .
وقوله: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِهِمْ وَلَا تُسْأَلُ بِضَمِّ التَّاءِ، عَلَى الْخَبَرِ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمَا تُسْأَلُ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم، نقلها ابْنُ جَرِيرٍ «1» ، أَيْ: لَا نَسْأَلُكَ عَنْ كُفْرِ من كفر بك كَقَوْلِهِ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: 40] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21] الآية، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 564.(1/279)
[ق: 45] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَرَأَ آخَرُونَ: «وَلَا تَسْأَلْ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ» بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى النَّهْيِ «1» ، أَيْ: لَا تَسْأَلْ عَنْ حَالِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي ما فعل أبواي؟» فنزلت: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ، فَمَا ذَكَرَهُمَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لَا تُسْأَلُ عَنْ فُلَانٍ، أَيْ: قَدْ بَلَغَ فَوْقَ مَا تَحْسَبُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حتى آمنا به، وَأَجَبْنَا عَنْ قَوْلِهِ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» «2» ، (قُلْتُ) : وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي حَيَاةِ أَبَوَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم قال ابن جرير: وحدثني القاسم أخبرنا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «أَيْنَ أَبَوَايَ» ؟ فَنَزَلَتْ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ كَالذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ رَدَّ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ الْمَرْوِيَّ، عن محمد بن كعب وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، لِاسْتِحَالَةِ الشَّكِّ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ أَبَوَيْهِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَهَذَا الذِي سَلَكَهُ هَاهُنَا فِيهِ نَظَرٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي حَالِ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبَوَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَهُمَا، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُمَا، وَأَخْبَرَ عَنْهُمَا أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا فِي الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ وَنَظَائِرُ وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، وَأَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، فَرَوَاهُ فِي الْبُيُوعِ «3» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ فُلَيْحٍ بِهِ، وَقَالَ تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلَالٍ: وقال سعيد بن هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَرَوَاهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) ذكر القرطبي (2/ 92) أنها قراءة نافع وحده.
(2) تفسير القرطبي 2/ 93.
(3) صحيح البخاري (بيوع باب 50) وفيه «سخّاب» في موضع «صخّاب» ، وهما بمعنى.(1/280)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، بِهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، كَمَا صَرَّحَ به في كتاب الأدب، وزعم ابن مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَقَرَةِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ، عَنِ الْمُعَافَى بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ فُلَيْحٍ بِهِ وَزَادَ: قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ لَقِيتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَسَأَلْتُهُ، فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ إِلَّا أَنَّ كَعْبًا قَالَ: بِلُغَتِهِ أعينا عمومى، وآذانا صمومى، وقلوبا غلوفا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 120 الى 121]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وَلَيْسَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ وَلَا النَّصَارَى بِرَاضِيَةٍ عَنْكَ أَبَدًا، فَدَعْ طَلَبَ مَا يُرْضِيهِمْ وَيُوَافِقُهُمْ، وَأَقْبِلْ عَلَى طَلَبِ رِضَا اللَّهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذِي بَعَثَنِي بِهِ هُوَ الْهُدَى، يَعْنِي هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الصَّحِيحُ الْكَامِلُ الشَّامِلُ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى قَالَ: خُصُومَةٌ عَلِمَهَا اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ يُخَاصِمُونَ بِهَا أَهْلَ الضَّلَالَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «لَا تزال طائفة من أمتي يقاتلون عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» «2» ، (قُلْتُ) : هَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْأُمَّةِ، عَنِ اتِّبَاعِ طَرَائِقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ مَا عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْخِطَابَ مَعَ الرَّسُولِ وَالْأَمْرَ لِأُمَّتِهِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ حَيْثُ أَفْرَدَ الْمِلَّةَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: 6] فَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَارَثُ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَرِثُ قَرِينَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَقَوْلِ مَالِكٍ، إِنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى، كَمَا جَاءَ في الحديث، والله أعلم.
وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: هُمُ
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 565.
(2) صحيح البخاري (اعتصام باب 10) وصحيح مسلم (إيمان حديث 247، وجهاد وحديث 4) .(1/281)
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ الأصبهاني، قال: أخبرنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: إِذَا مَرَّ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَإِذَا مَرَّ بِذِكْرِ النَّارِ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَلَا يُحَرِّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَتَأَوَّلَ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ ابن مسعود، قال السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بمتشابهه، ويكلون مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إِلَى عَالِمِهِ، وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم: أخبرنا أَبُو زُرْعَةَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْسِ: 2] يَقُولُ: اتَّبَعَهَا قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي رَزِينٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أخبرنا زُبَيْدٌ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «1» : وَرَوَى نَصْرُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ:
«يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ» ثُمَّ قَالَ فِي إِسْنَادِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمَجْهُولِينَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ يَتَّبِعُ الْقُرْآنَ يَهْبِطُ بِهِ عَلَى رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب: هُمُ الَّذِينَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلُوهَا مِنَ اللَّهِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذُوا مِنْهَا، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ تَعَوَّذَ.
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أَيْ: مَنْ أَقَامَ كِتَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَقَّ إِقَامَتِهِ، آمَنَ بِمَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْمَائِدَةِ: 68] أَيْ: إِذَا أَقَمْتُمُوهَا حَقَّ الْإِقَامَةِ وَآمَنْتُمْ بِهَا حَقَّ الْإِيمَانِ وَصَدَّقْتُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ وَنَصْرِهِ وموازرته، قَادَكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ: 157] ، وقال
__________
(1) تفسير القرطبي 1/ 95.(1/282)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
تَعَالَى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الْإِسْرَاءِ: 107] أَيْ: إِنْ كَانَ مَا وَعَدَنَا بِهِ مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَاقِعًا، وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْقِصَصِ: 52- 54] وَقَالَ تَعَالَى:
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [آلِ عِمْرَانَ: 20] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْبَقَرَةِ: 121] كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: 17] وَفِي الصَّحِيحِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يؤمن بي إلا دخل النار» «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَكُرِّرَتْ هَاهُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الذِي يَجِدُونَ صفته في كتبهم: نعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم مِنْ كِتْمَانِ هَذَا، وَكِتْمَانِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَلَا يَحْسُدُوا بَنِي عَمِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُهُمْ ذلك على الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عَنْ مُوَافَقَتِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدين.
[سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى شَرَفِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ يُقْتَدَى به في التوحيد حين قَامَ بِمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسُوا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الذِي هُوَ عَلَيْهَا مُسْتَقِيمٌ فَأَنْتَ وَالَّذِينَ مَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ ابْتِلَاءَ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ أَيِ: اخْتِبَارُهُ لَهُ بِمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (فَأَتَمَّهُنَّ) أَيْ: قَامَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 37] أَيْ: وَفَّى جَمِيعَ مَا شَرَعَ لَهُ فَعَمِلَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
__________
(1) صحيح مسلم (إيمان حديث 240) .(1/283)
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 120- 121- 122] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 161- 162] ، وَقَالَ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 67- 68] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِكَلِماتٍ أَيْ:
بِشَرَائِعَ وَأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ، فَإِنَّ الْكَلِمَاتِ تُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهَا الْكَلِمَاتُ الْقَدَرِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التَّحْرِيمِ: 12] وَتُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهَا الشَّرْعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَامُ: 115] أَيْ:
كَلِمَاتُهُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهِيَ إِمَّا خَبَرُ صِدْقٍ، وَإِمَّا طَلَبُ عَدْلٍ إِنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، أَيْ: قَامَ بِهِنَّ قَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أَيْ: جزاء على ما فعل، لما قَامَ بِالْأَوَامِرِ وَتَرَكَ الزَّوَاجِرَ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قُدْوَةً، وَإِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَيُحْتَذَى حَذْوَهُ.
وَقَدِ اختلف في تعيين الْكَلِمَاتِ التِي اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْمَنَاسِكِ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ التَّمِيمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، قال:
ابتلاه بِالطَّهَارَةِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ، فِي الرَّأْسِ قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَفِي الْجَسَدِ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي الْجَلَدِ نَحْوَ ذَلِكَ، (قُلْتُ) : وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللَّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء، وَنَسِيَتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةُ» . قَالَ وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء، وفي الصَّحِيحَيْنِ «1» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ «2» وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ» ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ حَنَشِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيِّ عَنِ ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية:
__________
(1) صحيح البخاري (لباس باب 51، 63، 64) وصحيح مسلم (طهارة حديث 49، 50) .
(2) الاستحداد: هو حلق العانة. سمي استحدادا لاستعمال الحديدة، وهي الموسى.(1/284)
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: عَشْرٌ، سِتٌّ فِي الْإِنْسَانِ، وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ، فَأَمَّا التِي فِي الْإِنْسَانِ حَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَالْخِتَانُ، وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَاحِدَةٌ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالسِّوَاكُ وَغُسْلُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ، وَالْأَرْبَعَةُ التِي فِي الْمَشَاعِرِ: الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَالْإِفَاضَةُ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا ابْتُلِيَ بِهَذَا الدِّينِ أَحَدٌ فَقَامَ بِهِ كُلِّهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قُلْتُ لَهُ: وَمَا الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِهِنَّ فَأَتْمَهُنَّ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التَّوْبَةِ: 112] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرُ آيَاتٍ فِي أول سورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] ، وسَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: 1] وَعَشْرُ آيَاتٍ فِي الْأَحْزَابِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَأَتْمَهُنَّ كُلَّهُنَّ فَكُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ، قَالَ اللَّهُ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 37] هَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَسَانِيدِهِمْ إِلَى داود بن أبي هند وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَأَتَمَّهُنَّ، فِرَاقُ قَوْمِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أُمِرَ بِمُفَارَقَتِهِمْ، وَمُحَاجَّتُهُ نُمْرُوذَ فِي اللَّهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَرِ الْأَمْرِ الذِي فِيهِ خِلَافُهُ، وَصَبْرُهُ عَلَى قَذْفِهِ إِيَّاهُ فِي النَّارِ لِيَحْرِقُوهُ فِي اللَّهِ عَلَى هَوْلِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَالْهِجْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَطَنِهِ وَبِلَادِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُمْ وَمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ فَلَمَّا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كُلِّهِ وَأَخْلَصَهُ لِلْبَلَاءِ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِلَافِ النَّاسِ وَفِرَاقِهِمْ.
وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنِ الْحَسَنِ، يَعْنِي الْبَصْرِيَّ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْقَمَرِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالشَّمْسِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْخِتَانِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِابْنِهِ فَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابن جرير «1» : أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: أي والله لقد ابْتَلَاهُ بِأَمْرٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، فَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ، فَخَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ، حَتَّى لَحِقَ بِالشَّامِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالنَّارِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَابْتَلَاهُ بذبح ابنه والختان، فصبر على ذلك.
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 575. [.....](1/285)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قال: ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار وبالكوكب وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة، أخبرنا أَبُو هِلَالٍ عَنِ الْحَسَنِ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، قال: ابتلاه بالكوكب وبالشمس وَالْقَمَرِ، فَوَجَدَهُ صَابِرًا.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ فمنهن قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَمِنْهُنَّ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة: 127] وَمِنْهُنَّ الْآيَاتُ فِي شَأْنِ الْمَنْسَكِ وَالْمَقَامِ الذِي جَعَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَالرِّزْقِ الذِي رُزِقَ سَاكِنُو الْبَيْتِ، وَمُحَمَّدٌ بُعِثَ فِي دِينِهِمَا «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ:
إِنِّي مُبْتَلِيكَ بِأَمْرٍ فَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْعَلُنِي لِلنَّاسِ إِمَامًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمِنْ ذَرِّيَّتِي؟ قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، قَالَ: تَجْعَلُ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَأَمْنًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَجْعَلُنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسَلَمَةً لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَرْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله؟ قال: نعم، قال ابن نجيح: سمعته عن عِكْرِمَةَ فَعَرَضْتُهُ عَلَى مُجَاهِدٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: ابْتُلِيَ بِالْآيَاتِ التِي بَعْدَهَا إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَوْلُهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] وقوله: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة: 125] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة: 127] الْآيَةَ، قَالَ: فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ التِي ابتلي بهن إبراهيم.
وقال السُّدِّيُّ: الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 127- 128] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ
[الْبَقَرَةِ: 129] وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ «2» : وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ وأول من ضاف الضيف،
__________
(1) في الطبري: «ومحمد في ذريتهما عليهما السلام» .
(2) تفسير القرطبي 2/ 98.(1/286)
[وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَحَدَّ] «1» وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنْ شَابَ فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. وَذَكَرَ ابن أبي شيبة عن سعيد بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى الْمَنَابِرِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ غَيْرُهُ: وَأَوَّلُ مَنْ بَرَّدَ «2» الْبَرِيدَ وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ بِالسَّيْفِ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَاكَ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَتَّخِذِ الْمِنْبَرَ فَقَدِ اتَّخَذَهُ أَبِي إِبْرَاهِيمُ، وَإِنْ أَتَّخِذِ الْعَصَا فَقَدِ اتَّخَذَهَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ» (قُلْتُ) : هَذَا حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ شَرَعَ الْقُرْطُبِيُّ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «3» مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، قَالَ: وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ.
قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَظِيرِ مَعْنَى ذَلِكَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مَا حدثنا به أبو كريب، أخبرنا رَشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ، الَّذِي وَفَّى؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَكُلَّمَا أَمْسَى: سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم: 17- 18] إلى آخر الآية» قال: والآخر: ما حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كَرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ عَنْ عَطِيَّةَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] قال: «أَتُدْرُونَ مَا وَفَّى؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ» وَرَوَاهُ آدَمُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِهِ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ جَرِيرٍ يُضَعِّفُ هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فإنه لا يجوز رِوَايَتُهُمَا إِلَّا بِبَيَانِ ضَعْفِهِمَا، وَضَعْفُهُمَا مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنَ السَّنَدَيْنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مَعَ مَا فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضِعْفِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ الذي قاله غيرهم كان مذهبا لأن قَوْلَهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَوْلُهُ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة: 125] ، وَسَائِرَ الْآيَاتِ التِي هِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ كَالْبَيَانِ عَنِ الْكَلِمَاتِ التِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ ابْتَلَى بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ، (قُلْتُ) : وَالذِي قَالَهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْكَلِمَاتِ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ أَقْوَى مِنْ هَذَا الذِي جَوَّزَهُ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَمَنْ قَالَ مِثْلُهُ لِأَنَّ السِّيَاقَ يُعْطِي غَيْرَ ما قالوه، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من القرطبي.
(2) في القرطبي: «وأول من ثرّد الثريد» وهو الصواب.
(3) تفسير الطبري 1/ 575.(1/287)
وَقَوْلُهُ قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ وَأُخْبِرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ظَالِمُونَ وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَلَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً فَلَا يُقْتَدَى بِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى طَلَبَتِهِ قوله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [الْعَنْكَبُوتِ: 27] فَكُلُّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فَفِي ذُرِّيَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَقَالَ خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي ذُرِّيَّتِكَ ظَالِمُونَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ: لَا يَكُونُ لِي إمام ظالم، وَفِي رِوَايَةٍ:
لَا أَجْعَلُ إِمَامًا ظَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ: لَا يَكُونُ إِمَامٌ ظَالِمٌ يُقْتَدَى به. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَخْبَرَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا مالك بن إسماعيل أخبرنا شَرِيكٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صالحا فأجعله إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ظَالِمًا فَلَا وَلَا نُعْمَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُ لَا يَكُونُ إِمَامٌ ظَالِمٌ، يَقُولُ لَا يَكُونُ إِمَامٌ مُشْرِكٌ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فَأَبَى أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِمَامًا ظَالِمًا، قُلْتُ لِعَطَاءٍ مَا عَهْدُهُ؟ قَالَ أَمْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بن ثور القيساري فيما كتب إليّ أخبرنا الفريابي حدثنا إسماعيل حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ ثُمَّ قَالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ كَائِنٌ فِي ذُرِّيَّتِهِ ظَالِمٌ لَا يَنَالُ عَهْدَهُ وَلَا ينبغي أَنْ يُوَلِّيَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ خَلِيلِهِ، وَمُحْسِنٌ سَتَنْفُذُ فِيهِ دَعْوَتُهُ وتبلغ له مَا أَرَادَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ يَعْنِي:
لَا عَهْدَ لِظَالِمٍ عَلَيْكَ فِي ظُلْمِهِ أَنْ تُطِيعَهُ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» حَدَّثَنَا إسحاق أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ ليس للظالمين عهد وإن عاهدته أنقضه وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَيْسَ لِظَالِمِ عَهْدٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «2» أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ لا ينال
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 579.
(2) تفسير الطبري 1/ 579.(1/288)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
عَهْدُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمِينَ فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالَهُ الظَّالِمُ فَأَمِنَ بِهِ وَأَكَلَ وعاش، وكذا قال إبراهيم النخعي وعطاء وَعِكْرِمَةُ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: عَهْدُ اللَّهِ الذِي عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ دِينُهُ يَقُولُ لَا يَنَالُ دِينُهُ الظَّالِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:
113] يَقُولُ لَيْسَ كُلُّ ذُرِّيَّتِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَقِّ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ.
وَقَالَ جُوَيْبِرٌ «1» عَنِ الضَّحَّاكِ: لَا يَنَالُ طَاعَتِي عَدُوٌّ لِي يَعْصِينِي وَلَا أَنْحَلُهَا إِلَّا وَلِيًّا يُطِيعُنِي.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَسَدِيُّ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، أخبرنا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ لَا طَاعَةَ إِلَّا فِي الْمَعْرُوفِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ يَقُولُ عَهْدِي نُبُوَّتِي.
فَهَذِهِ أَقْوَالُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْخَبَرِ، أَنَّهُ لَا يَنَالُ عَهْدُ اللَّهِ بِالْإِمَامَةِ ظَالِمًا، فَفِيهَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لَنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مجاهد وغيره. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا.
[سورة البقرة (2) : آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ يقول: لا يقضون فيه وَطَرًا، يَأْتُونَهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَثَابَةً لِلنَّاسِ يَقُولُ يَثُوبُونَ، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ «2» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ، قَالَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي رِوَايَةٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَعَطِيَّةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكِ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو يَعْنِي الْأَوْزَاعِيَّ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ
__________
(1) تفسير الطبري 1/ 581.
(2) تفسير الطبري 1/ 581.
(3) تفسير ابن كثير/ ج 1/ م 19(1/289)