لليهود: اتقوا الله فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته. فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله الآية.
ويلحظ أن الآية موجهة إلى أهل الكتاب مثل الآية [15] المقاربة لها في الصيغة، حيث يتبادر أكثر أن تكون استمرارا في السياق الاستطرادي وجزءا منه.
وهذا لا يمنع أن يكون الجماعة المذكورون في الرواية قد قالوا لجماعة اليهود ما قالوا وأن جماعة اليهود قد ردّوا عليهم بما ردّوا في موقف ما.
وأسلوب الآية قوي في صدد الدعوة المحمدية وتوجيهها إلى أهل الكتاب. وفيه صراحة تدعم صراحة الآية [15] في شمول الدعوة لأهل الكتاب فضلا عن غيرهم.
وعلى ضوء ما جاء في الآيتين [15- 16] يصحّ القول إنهما في صدد تقرير أن حكمة الله تعالى قد اقتضت إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بعد فترة انقطاع الرسل بالنور والكتاب المبين ليبيّن للناس وبخاصة لأهل الكتاب حدود ويحلّ مشاكلهم ويصحح انحرافاتهم ويستجيب إلى حاجاتهم ويجمعهم جميعا تحت لواء الدين الحق الذي أرسله الله به.
والآية قد جمعت تعابير (الرسول) و (البشير) و (النذير) معا على معنى أن مهمة الرسول هي التبشير والإنذار. وفي هذا ردّ على ما قاله بعض المستشرقين اعتباطا من أن القرآن كان يفرّق بين معاني النذير والرسول وأنّه مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم فترة كان يتحاشى فيها أن يقول بأنه رسول ويكتفي بالقول إنه نذير ومنذر مع أن هذا غير صحيح أيضا لأن القرآن وصف النبي بالرسول منذ وقت مبكر في مكة وفي أوائل ما نزل من السور (الآية 15 من سورة المزمل) ثم تكرر وصفه بالرسالة في آيات كثيرة أخرى مكية ولأن في القرآن المكي آيات كثيرة تفيد أن التبشير والإنذار هما مهمة الرسول.
هذا، والسلسلة التي تبتدئ بالآية [12] مصبوبة كلّها على كون مفهوم (أهل الكتاب) هم اليهود والنصارى. وفي هذا تدعيم لما قلناه في آخر تفسير الآية [5] .(9/87)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الرسول البشير النذير الذي هو خاتم النبيين كما جاء في الآية [40] من سورة الأحزاب. وأن يكون هذا الدين هو جماع الهدى والحق ليكون دين الإنسانية جميعا ويظهر على الدين كلّه كما جاء في آية سورة الفتح [28] والصف [9] فشاءت حكمته تبعا لذلك أن يكون كاملا تاما مستجيبا لكل حاجات البشر وحالا لكلّ مشاكلهم على اختلاف مستوياتها وأنواعها كما جاء في الآية الثالثة من هذه السورة وآيات سورة النحل [89] والأنعام [38] والأعراف [157] . وكان في ذلك كلّه أعظم شرف للجنس العربي في دور عروبته الصريحة لأنه منه وكتابه بلغته. وقد حمل بذلك أعظم وأشرف رسالة ومسؤولية إنسانية خالدة. ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» «1» ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «2» .
وهذا الحديث يساق في سياق الآيات التي نحن في صددها التي تهتف بأهل الكتاب الذين يستفاد من السياق السابق أن المقصود بهم اليهود والنصارى وأنه قد جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا وبشيرا على فترة من الرسل لئلّا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير وينبغي أن لا يكون هذا الحديث والحالة هذه حاجبا للحقيقة القرآنية المقررة في آيات كثيرة بأن مصير غيرهم من جميع النحل والملل والفئات الذين يسمعون بالنبي ولا يؤمنون به هو نفس المصير.
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) .
__________
(1) التاج ج 3 ص 205.
(2) التاج ج 1 ص 20.(9/88)
(1) وجعلكم ملوكا: أكثر المفسرين على أن هذا التعبير قد قصد به ما تيسر لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من الحرية وملك النفس بعد العبودية لفرعون مصر. وأوردوا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وقد يوجّه هذا إطلاق العبارة على جميع بني إسرائيل.
(2) من الذين يخافون: هنا محذوف مقدر أي يخافون الله.
(3) أنعم الله عليهما: وهنا أيضا محذوف مقدر أي شملهما الله بنعمة الهدى والتقوى والتثبيت والاعتماد على الله.
تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ... والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين. وردّ على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقرّ بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد. وما كتبه عليهم من شتات وذلّة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما(9/89)
أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول إلى الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا. ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف. وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل ليذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل.
وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كلّ سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسّس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون إنها أرض تدرّ لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك ثم قالوا ولكن سكانها أقوياء ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق. ومدنهم حصينة. وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل ويبثّا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما وكادوا أن يرجموهما. فغضب الربّ عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبديه يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.(9/90)
وفي كتب التفسير «1» بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات «2» أن طوله كان 3333 ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب وانطلق بهم إلى امرأته فقال لها انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلي فقالت بل خلّ عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المنّ والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا إن كلمة الْعالَمِينَ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حقّ وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وقالوا إنها لا تعني الملك بمعناه الشهير بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة (وجعل منكم أو فيكم ملوكا) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسّر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة لا أعلم إلّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر: هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها. قال نعم. فقال له إنك لست فقيرا. فقال وإن لي خادما أيضا فقال له
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي إلخ.
(2) في تفسير الطبري صور عديدة أخرى مماثلة لهذه الصورة أو بديلة عنها أيضا.(9/91)
إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة الْمُقَدَّسَةَ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك أو أن الله قدّسها وباركها لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور. أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف [137] جملة وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وفي الآية الأولى من سورة الإسراء سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ وفي آية سورة الأنبياء [71] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها. ونصّ آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر.. ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح (12) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلّي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلّي الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من (النيل إلى الفرات) أبديا ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف [137] وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملّكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا(9/92)
وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجّل في أسفارهم. بحيث يصحّ القول بجزم إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حقّ استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة ونصّ هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا «1» ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة «2» . وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها
__________
(1) انظر الإصحاح 26 من سفر الأحبار واقرأ أسفار القضاة والملوك وأخبار الأيام وارميا وحزقيال وانظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة ص 82- 95 و 135- 195 و 272- 317 وآيات البقرة [40- 146] وآل عمران [71- 120] والنساء [43- 56] والأعراف [162- 169] .
(2) انظر الإصحاحات 14 و 15 من سفر العدد.(9/93)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حقّ ومانع لكل إمكان لخلافه. وأن ما قد تيسّر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبّه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجيل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصحّ أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية.
وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدلّ على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اختلاف الروايات «لا نقول لك كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك وفي رواية بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون» فأشرق وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكان لهذا الموقف أثر كبير في ما تمّ للمسلمين تحت رايته من فتح ونصر في ذلك اليوم «1» .
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) .
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 90 و 366 وتفسير الآيات في الطبري وابن كثير وغيرهما وقد روى البخاري الحديث الذي فيه قول المقداد في سياق غزوة بدر. والذي نرجحه أن يكون ذلك في سياق غزوة الحديبية. وأن يكون التباس في الرواية لأن آيات المائدة لم تكن نزلت والله أعلم قبل وقعة بدر.(9/94)
(1) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك: تبوء بمعنى تعود أو تحمل وأوجه التأويلات للجملة (إني لا أبسط يدي إليك لمقاتلتك وأفضل أن تحمل وحدك إثم قتلك إياي ثم إثم معصيتك التي لم يقبل الله قربانك بسببها) .
(2) فطوعت: بمعنى أساغت ورضيت وسوّلت وزينت.
(3) يبحث: يحفر وينبش.
(4) سوأة: هنا كناية عن الجثة بعد الموت.
(5) أو فساد في الأرض: معطوفة على بِغَيْرِ نَفْسٍ أي من قتل نفسا بقصد البغي والفساد في الأرض.
(6) ومن أحياها: ومن حافظ على حياة النفس.
تعليق على الآية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين(9/95)
قرّبا لله قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرّفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي حيث يفيد هذا أن ضمير عَلَيْهِمْ عائد إلى بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعووا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.
ولقد تعددت روايات المفسرين «1» في تأويل ابْنَيْ آدَمَ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسّرين أيضا.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.(9/96)
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم. حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سنّ القتل» حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.
وبين النصّ القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر.
وملخص ما جاء فيه «أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للربّ تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء فلما خرجا وثب عليه فقتله. وسأل الربّ قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو فأنكر فقال له إن دمه يصرخ إليّ من الأرض. ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه الأرض قوتها فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلّا قصة الغراب.
ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه وتقبّل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجّع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيّا فصيحا بذلك. حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان(9/97)
متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعم ما قلناه قبل.
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عزّ وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي والحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.
وينطوي في جملة مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحلّ دمها مثل مستحلّ دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.(9/98)
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليس من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك. لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلّمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل.
هذا ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية (4) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظّا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني(9/99)
قريظة آخر من نكّل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك.
والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار.
قيل فهذا القاتل فما بال المقتول. قال إنه أراد قتل صاحبه» «1» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه «قال سعد يا رسول الله أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط يده ليقتلني. قال كن كابن آدم القائل لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ «2» ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان «أشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي قلت يا رسول الله أفرأيت أن دخل عليّ بيتي فبسط يده ليقتلني فقال كن كابن آدم وتلا لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) «3» . ونصوص الأحاديث النبوية تفيد أنها في صدد ما قد يقع بين المسلمين من فتن واقتتال. ومن الواجب أن ننبّه في هذه المناسبة أن القرآن والسنّة قرّرا حقّ المرء بالدفاع عن
__________
(1) هذا النصّ منقول عن التاج ج 5 ص 275 والجملة الأخيرة منه في نصّ ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) .
(2) التاج ج 5 ص 275.
(3) الشطر الأول من هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذه الصيغة «قال النبي صلى الله عليه وسلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي. من تشرّف لها تستشرفه. فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به» التاج ج 5 ص 275.(9/100)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
نفسه والانتصار من عدوان وظلم قد يوقع عليه. وجعل هذا الحقّ وسيلة لجعل الناس يرتدعون عن العدوان كما جاء في آيات سورة البقرة [190] والنساء [75] والحج [39- 41] والشورى [37- 43] التي سبق شرحها. وكما جاء في حديث رواه مسلم جاء فيه «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي. قال فلا تعطه. قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله. قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد. قال أرأيت إن قتلته. قال هو في النار» «1» .
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
. (1) من خلاف: بمعنى المخالفة في القطع. فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
(2) من قبل أن تقدروا عليهم: من قبل أن يقعوا في أيديكم وتقبضوا عليهم وتظفروا بهم.
تعليق على الآية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ... إلخ والآية التي بعدها ومدى ما فيهما من تلقين وأحكام
احتوت الآيتان تقريرا إنذاريا وتشريعيا في حقّ الذين يحاربون الله ورسوله
__________
(1) التاج ج 3 ص 16.(9/101)
ويسعون في الأرض فسادا حيث قررت عقوبة من يقدم على ذلك الجرم الفظيع القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، بالإضافة إلى العذاب العظيم الذي سينالهم في الآخرة. مع استثناء الذين يتوبون قبل القدرة عليهم والتمكن منهم حيث يمكن أن ينالهم الله بغفرانه ورحمته.
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة كسبب لنزول الآيتين. منها أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيّر الله رسوله معاقبتهم بالعقوبات المذكورة في الآية الأولى. ومنها أنها نزلت في المشركين عامة. ومنها أنها نزلت في رهط من عكل وعرينة أسلموا وأقاموا في المدينة ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له إنهم استوخموا الهواء فأعطاهم ذودا من إبل مع رعاته وأذن لهم بالنزول خارج المدينة وشرب ألبان الإبل فلما خرجوا قتلوا الرعاة وفي رواية سملوا عيونهم ثم قتلوهم واستاقوا الإبل وارتدوا إلى الكفر فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خيلا وراءهم فأسروهم وأتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركهم في الحرّة حتى هلكوا وفي رواية أنه أحرقهم بالنار. وهذه الرواية من مرويات البخاري بخلاف يسير «2» . ومنها أنها نزلت في قوم هلال بن عويمر الذي وادع النبي صلى الله عليه وسلم باسم قومه أن لا يعتدوا على أحد من المسلمين. أو على أحد يريد الإسلام. فمرّ بهم قوم من بني كنانة يريدون الإسلام فشدوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم. وهناك رواية يرويها الطبري والبغوي- ويعزوها الأخير إلى الليث بن سعد- أن الآية نزلت عتابا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد تنكيله برهط عكل وعرينة على تسميله أعينهم ولتحديد عقوبة أمثالهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(2) انظر التاج ج 4 ص 90- 91. (وهذه صيغة الحديث منقولة من التاج) عن أنس «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي بلقاح ليشوبوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا بها فلما صحّوا قتلوا راعي النبي واستاقوا الإبل فجاء الخبر إلى النبي في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا. قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا أو كفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله» . [.....](9/102)
دون تسميل وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل بعد ذلك أحدا من أعداء الله بناء على هذه الآية وأنه ما قام خطيبا إلّا نهى عن المثلة.
والذي نستلهمه من روح الآيتين ونظمهما وترتيبهما أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة. وبخاصة الآية الأخيرة التي ذكرت أن كثيرا من بني إسرائيل ظلوا على إسرافهم في الفساد والاعوجاج برغم ما كتب الله عليهم من أحكام وأرسله إليهم من رسل فجاءت الآيتان تحتويان إنذارا وتنديدا جديدين لهم وتشريعا لما يجب أن يكون جزاء من يقف مثل موقفهم.
ومحاربة الله ورسوله تعني كما هو المتبادر الكفر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربتها بالكيد والأذى والتعطيل والتضامن مع الأعداء. وهذا مما كان يفعله اليهود كما حكاه القرآن عنهم في مواضع عديدة في سور البقرة وآل عمران والنساء.
وما قلناه من ترجيح كون الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لا يمنع أن تكونا قد نزلتا في ظرف من ظروف نكث اليهود ومظاهرتهم للمشركين وهو ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات الواردة في سبب نزول الآيتين. وإذا صحّ هذا فيكون في الآيتين كما قلنا قبل قرينة على أنهما نزلتا في وقت كان فيه كتلة قوية من اليهود.
أما حادث رهط بدو عكل وعرينة والتنكيل النبوي بهم الوارد في حديث البخاري والروايات الأخرى فمن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول الآيتين فالتبس الأمر على الرواة ونقلوا أنهما نزلتا في صدده. ومن القرائن على ذلك أنه ليس في الآيتين عقوبة تسميل الأعين التي ذكرت الروايات ومنها رواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقعها عليهم. بل ولعلّ الرواية التي تذكر أن الآيتين نزلتا بعد التنكيل وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل بعدها وصار ينهى عن المثلة هي الصحيحة. وقد قال الطبري إن هذا هو الأولى بالصواب.
وفحوى الآية الثانية من القرائن على أن الآيتين هما في صدد كفار أعداء.
فمحاربة الله ورسوله لا يمكن أن تكون إلّا من كافر. والآية الثانية تؤذن بقبول توبتهم أي إسلامهم قبل القدرة عليهم أي قبل الانتصار عليهم وأسرهم. وقد جاء(9/103)
هذا في آية في سورة التوبة فيها صراحة بأنها في صدد أعداء مشركين ناكثين للعهد وهي هذه فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وهذا متمثل بأسلوب آخر في آية سورة الأنفال هذه قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [37] وقد يكون في هذه الآية بخاصة تدعيم لما تبادر لنا من أن الآيات في صدد كفار أعداء.
ولقد كان زعماء بني النضير اليهود حينما أجلوا عن المدينة مع قبيلتهم ذهبوا إلى خيبر وتزعموا يهودها وأخذوا يحرضون قبائل العرب المشركين على النبي والمسلمين ويغرونهم بغزو المدينة. وقد ذهبوا إلى مكة فحرضوا قريشا أيضا وأدى هذا إلى زحف قريش والأحزاب على المدينة. ولقد استمروا على حركاتهم العدوانية بعد وقعة الأحزاب والتنكيل ببني قريظة أيضا مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يزحف على خيبر ووادي القرى وينكل بأهلها وبزعماء بني النضير بعد صلح الحديبية مع قريش على ما شرحناه في سياق تفسير سور الحشر والأحزاب والفتح. فمن الجائز أن تكون هذه الآيات بل وما قبلها في صدد ذلك وأن تكون نزلت قبل أن يزحف النبي عليهم. والله أعلم.
وقد يلحظ أن العقوبات في الآية الأولى غير اعتيادية. ونميل إلى القول إنها أسلوبية بسبيل تعظيم ما كان من اليهود وزعماء بني النضير من حركات فساد وتأليب وعدوان وما كان من ذلك من خطر على المسلمين وكيانهم.
وعبارة مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ في الآية ندم الأعداء الكفار وتوبتهم صدقا عن موقفهم قبل الانتصار عليهم ووقوعهم في الأسر. وينطوي في هذا مبدأ من مبادئ الجهاد في الإسلام. وتمثل التسامح الإسلامي السامي في كل المواقف المماثلة من حيث إنه يوحي بالإغضاء عما كان منهم قبل إسلامهم ما دام أنهم أسلموا من أنفسهم وقبل القدرة عليهم. وينطوي في هذا تقرير كون إصلاح الناس هو من الأهداف الرئيسية التي يهدف إليها القرآن ورسالة الإسلام ومبادئ الجهاد معا. ومن الحقّ أن ننبّه في هذه المناسبة على أن ما قلناه لا يعني أن لا تقبل توبتهم(9/104)
أي إسلامهم بعد القدرة عليهم. فإن هذا من المقررات القرآنية المحكمة المتكررة بحق كل إنسان مهما عظمت جرائمه وإن وروده في حالة التوبة قبل القدرة هنا كان متناسبا مع الحالة المذكورة في الآيات كما هو المتبادر. وآية سورة التوبة التي أوردناها آنفا لم تشترط التوبة قبل القدرة وجاءت مطلقة لتشمل قبول التوبة قبل القدرة وبعدها كما هو المتبادر أيضا. والله أعلم.
ومع ما قلناه من أن القرائن تدلّ على أن الآيات في صدد كفار أعداء وفي صدد مواقف اليهود العدوانية والفسادية فإن أئمة «1» التأويل والفقه رأوا على ما ذكره الطبري وغيره من المفسرين في صيغة الآيتين التشريعية التامة والمطلقة ما جعلهم يعتبرونها شاملة للمسلمين أيضا بالإضافة إلى الكفار ويصوغون لها قواعد فقهية بعنوان (الحرابة) ويرونها قابلة للتطبيق على لصوص المسلمين المجاهرين بلصوصيتهم المصرّين على ذلك وبخاصة في الصحراء والمكابرين في الفسق والفجور والحاملين للسلاح على إخوانهم المسلمين والقاطعين للسبل والمخيفين للناس مسلميهم وذمييهم والمعتدين على أموالهم وأملاكهم وأعراضهم بالإرهاب والقوة. وقد يكون فرض ظهور أفراد ينتسبون إلى الإسلام يقترفون مثل هذه الأفعال الإرهابية واردا ويكون تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى عليهم وتسمية أعمالهم باسم (الحرابة) سائغا. غير أن قبول التوبة منهم قبل القدرة عليهم وهو ما تضمنته الآية الثانية يعني فيما يعنيه إسقاط قصاص القتل عنهم إذا قتلوا وحدّ القطع إذا سرقوا وحدّ الرجم والجلد إذا زنوا وهدر ما أحدثوه من جراحات ودمروه من أملاك ونهبوه من أموال. ولا يصح أن يفرض سواغ ذلك بالنسبة لمسلم تحت السلطان الإسلامي حيث يكون على هذا السلطان واجب مصادرتهم وتعقبهم وإيقاع العقوبات والحدود عليهم.
وسياق الطبري وغيره يفيد أن هذه النقطة مما خطرت للفقهاء والمؤولين
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والنسفي حيث رووا كلهم أقوالا وأوردوا كلاما وقواعد في هذا النطاق.(9/105)
فاختلفوا فيها. فمنهم من قال إن التوبة التي يقبلها السلطان هي بالنسبة للكفار فقط حيث يسقط عنهم بالإسلام كل ما كانوا فعلوه إذا ما تابوا وأسلموا قبل القدرة عليهم وأن على السلطان أن يقيم الحدود على المسلمين إذا ما ارتكبوا جرائم ضد النفوس والأعراض والأموال. ومنهم من قال إن على السلطان أن يقبل التوبة من المحارب المفسد سواء أكان كافرا أم مسلما إذا ما تاب قبل القدرة عليه. وأورد هؤلاء خبر حوادث وقعت في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما حيث خرج بعض المسلمين فحملوا السلاح وسفكوا الدماء ونهبوا الأموال ثم أعلنوا توبتهم وطلبوا الأمان فأعطي لهم ولم يعاقبوا على ما فعلوه. كما أوردوا في معرض ذلك ما وقع في الردة في زمن أبي بكر رضي الله عنه حيث كان يعفو عن الذين كانوا يتوبون ويعودون إلى لواء الإسلام وسلطانه دون محاسبتهم عما وقع منهم في أثناء الردة ونحن نرجح القول الأول ونقول في ما جاء من تعليلات القول الثاني إن الأحداث كانت في سياق فتنة عامة وليست فردية شخصية وأنها لا تصحّ أن تورد في معرض ما نحن فيه وأن المسلم الذي يرتكب جرائم غير عادية فيها قتل نفس وقطع سبيل وإخافة الناس وعدوان على أموالهم وأعراضهم يجب أن يكون موضع تطبيق لحدود الله ولو تاب قبل اعتقاله أي القدرة عليه وإن كل ما يمكن أن يكون في حال توبته هو احتمال عفو الله له إذا ما أقيمت عليه الحدود واستردت منه الأموال. والله أعلم.
وقد يقال إن المسلم قد يرتدّ إلى الكفر ثم يرتكب الجرائم الموصوفة وهو كافر ثم يتوب قبل القدرة عليه. وواضح أن هذا المجرم لا يكون قد احتفظ بصفة المسلم ويصبح حكمه حكم كافر أو مرتد تقبل توبته إذا ما تاب وعاد إلى الإسلام قبل القدرة عليه. ولقد عزا الطبري إلى بعض الفقهاء والمؤولين قولا في صدد مثل هذا مفاده أن على الإمام أن يستردّ ما في يده من مال الناس ويردّه إلى أصحابه وأن يقيم عليه حدّ القتل إذا طلب ولي قتيل بدم قتيله وأقام البينة عليه إذا ما كان ذلك عملا شخصيا وليس في سياق حرب عامة. وهذا وجيه وقد يصح أن يطبق حتى على الكافر أصلا. وأن ينحصر سقوط ما يقع من جرائم من الكافر في الجرائم(9/106)
العامة غير الشخصية والفردية. والله تعالى أعلم.
والكلام دار حول توبة المحارب الساعي في الفساد قبل القدرة عليه.
والقدرة عليه تعني اعتقاله وأسره حيا، فإذا ما تمّ ذلك صار موضع تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى إذا كان مسلما. أما إذا كان كافرا فالذي يتبادر لنا أنه يكون موضع تطبيق العقوبات المذكورة إذا ارتكب جرائم إرهابية فوق العادة ضد المسلمين من نوع ما ذكره المفسرون. أما إذا كان عدوا عاديا وكان كل أمره أنه اشترك في عداء وقتال ضد المسلمين ثم وقع في الأسر فإنه يكون موضوع تطبيق حكم الأسر على ما شرحناه في سياق سورة محمد فإما أن يقتل وإما أن يسترق وإما أن يمنّ عليه بدون فداء أو يطلق سراحه بفداء حسب ما تقتضيه الظروف والمصلحة والأحداث، والله تعالى أعلم.
هذا، وهناك خلاف بين المؤولين والفقهاء على ما ذكره الطبري وغيره في ترتيب إيقاع العقوبات المذكورة في الآية الأولى في حال القدرة على المحارب قبل توبته ناتج عن اختلافهم في مدى حرف (أو) في الآية حيث قال بعضهم إن الحرف للتخيير وإن للإمام أن يعاقب المحارب بأية عقوبة من العقوبات المذكورة في الآية. وحيث قال بعضهم إن الحرف للبيان وإن العقوبات إنما تكون حسب الجرائم فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل. ومن قتل وأخذ مالا قطعت يده ورجله من خلاف (أي اليد اليمنى والرجل اليسرى) ثم قتل أو صلب. ومن حارب ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي. وقد قال الطبري الذي أورد هذه الأقوال إن أولاها بالصواب من أوجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم مختلفا باختلاف الأفعال. وقد ردّ على من قال إن (أو) للتخيير بكلام طويل وأيد كونه للبيان. وأورد سبيل تأييد تصويبه الحديث النبوي الشريف الذي رواه الخمسة وجاء فيه «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «1» . ثم قال فإما أن يقتل
__________
(1) التاج ج 3 ص 27.(9/107)
من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم.
وواضح أن كلام الطبري مساق في صدد المسلم المحارب دون الكافر. وقد يكون هذا الكلام حينئذ في محلّه غير أنه لا يحجب وجاهة قول من قال إن للإمام أن يعاقب بآية عقوبة من العقوبات الواردة في الآية من حيث إن الأفعال التي عددها المفسرون والفقهاء واصطلحوا على تسميتها بالحرابة هي أعمال غير عادية من شأنها إقلاق أمن المجتمع وإثارة الاضطراب وتعريضه للخطر وإيقاع الأضرار بنفوس الناس وأموالهم وأعراضهم وتقتضي إجراءات رادعة غير عادية ولو لم ينتج عنها فعلا إزهاق أرواح وأخذ أموال. فيكون للإمام تقدير الموقف وتطبيق العقوبة الرادعة المتناسبة معها. أما الكافر الذي يقدر عليه قبل توبته فيعامل معاملة الكافر الذي سبق ذكرها. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسرون تأويلات عديدة لجملتي أَوْ يُصَلَّبُوا وأَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. فمما قيل في تأويل الأولى إن الصلب للتشهير كما قيل إن الصلب من أشكال القتل حيث يصلب المجرم حيا ثم يطعن بالرمح حتى يموت أو يترك مصلوبا إلى أن يموت. وكلا القولين سديد. ولعل مما يصح أن يزاد عليهما احتمال كونها بمعنى الشنق حيث جرت العادة من القديم على إعدام المجرمين شنقا.
ومما قيل في تأويل الثانية إنها بمعنى مطاردة المحارب حتى يضطر إلى الخروج فيخلص الناس من شرّه. كما قيل إنها بمعنى إخراجه بالقوة من البلد الذي عاث فيه فسادا إلى بلد آخر وحبسه فيه حتى يتوب ويغلب صلاحه. وقد صوّب الطبري القول الثاني وروى عن الحسن وعكرمة أنهما منعا اضطرار المسلم إلى الخروج إلى دار شرك. والكلام والحالة هذه يدور حول تعليق الجملة على المسلم المحارب دون الكافر. ويكون تصويب الطبري في محلّه على شرط أن لا يكون المجرم قد قتل ونهب ودمّر وهتك عرضا وأن يكون كل عمله إخافة الناس وإثارة(9/108)
الاضطراب والقلق. أما إذا فعل الأفعال المذكورة فلا يعقل أن يكون كل جزائه الاعتقال والحبس حتى يتوب ويصلح أو يستريح الناس من عيثه. ولا بدّ من مطاردته واعتقاله بالقوة وتطبق العقوبات عليه. إلا أن يضطر إلى الخروج من البلاد. ويجب مع ذلك أن يظل مرصودا للاعتقال والعقاب. أما الكافر فقد يكون اضطراره إلى الخروج من دار الإسلام نتيجة لمطاردته هو معنى نفيه. لأنه لا يصح أن يكتفي السلطان الإسلامي بنفيه إذا ما قدر عليه. حتى ولو لم يكن قد قتل أحدا أو نهب مالا أو هتك عرضا. فهو كافر عدوّ فيطبق عليه حكم الكافر إذا وقع في الأسر المشروح سابقا. والله تعالى أعلم.
والجملة الأخيرة من الآية الأولى صريحة بأن العقوبات المذكورة فيها للمحارب لا تعفيه من عذاب الله العظيم في الآخرة. فهي عقوبة ردع وزجر لصلاح المجتمع فيكون ذلك خزيا له في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الله العظيم في الآخرة.
ومع الإيمان بحقيقة وعيد الله الأخروي فقد يكون من الحكمة فيه زيادة التشديد على المحارب وتعظيم جريمته وترهيبه ليرعوي عن موقفه والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية الثانية وبخاصة الجملة الأخيرة منها، منها حديث عن عبادة بن الصامت قال إنه رواه مسلم. وقد ورد حديث مقارب له في التاج برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي هذا نصّه «قال عبادة كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ فمن وفى فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له. ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه، فبايعناه على ذلك» «1» وحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن علي قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثنّي عقوبة على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 34.(9/109)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
ويلوح أن ابن كثير قد أورد الأحاديث على اعتبار انطباق الآية على المسلمين. ومع ذلك فإنه يلوح أنها إنما تصحّ أن تساق في معرض ذنوب يقترفها مسلم ما في حالة اعتيادية وليس في حالة توصف بأنها محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا. وقد يكون حينئذ من حكمتها تطمين المؤمن الصادق في إيمانه مع بثّ الخوف والرجاء في نفسه. أما على اعتبار أن الآية في صدد الكافر وبخاصة الكافر المحارب فليست الأحاديث موضع تطبيق كما هو المتبادر. فالذي يموت كافرا مخلّد في النار. حتى ولو لم يرتكب جرائم أخرى كما هو مقرر في الآيات القرآنية العديدة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
. (1) ابتغوا إليه الوسيلة: تحرّوا وافعلوا كلّ ما يكون فيه رضاء الله والقربى إليه.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ... إلخ والآيتين التاليتين لها. وبحث في التوسل والأحاديث الواردة في معنى الوسيلة الأخروي
عبارة الآيات واضحة. وقد وجّه الخطاب فيها إلى المؤمنين حاثّا إياهم:
(أولا) على تقوى الله وتحرّي كل ما فيه رضاؤه والقربى إليه والجهاد في سبيله.
ومبينا لهم (ثانيا) أن في ذلك فلاحهم وسعادتهم. ومنبها إياهم (ثالثا) إلى هول(9/110)
مصير الكفار يوم القيامة على سبيل التحذير والاستطراد.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذي يتبادر من روحها ومضمونها وترتيبها أنها جاءت معقبة على سلسلة الآيات [12- 34] التي احتوت التذكير بانحرافات أهل الكتاب وكفرهم ونقضهم مواثيق الله وإهمالهم ما أنزل الله إليهم من كتب وإخفاء كثير منها بسبيل الإنكار والمكابرة والتي تساوقت سياقا وموضوعا على ما نبهنا عليه. فبعد أن انتهت السلسلة جاءت الآيات ملتفتة إلى المؤمنين حاثة مبينة منبهة لهم على النحو الذي شرحناه كأنما تريد أن تقول لهم إن هذا هو السبيل الأقوم لكم والأجدر بكم وعليكم أن تعتبروا بمن سبقكم وبالمصير الهائل المعدّ للكافرين والمنحرفين. والله أعلم.
وواضح من روح الآيتين الثانية والثالثة أنهما بسبيل بيان وتصوير مصير الكفار الذين يموتون كفارا. وهذا يستتبع القول إن باب التوبة يظل مفتوحا للكافر والمجرم ما دام حيّا. على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة.
وتصوير مصير الكافرين الأخروي رهيب حقّا. فهم مخلدون في النار.
ويتمنون الخروج منها وليس هناك أي إمكان لتحقيق أمنيتهم حتى ولو كان لهم ما في الأرض ومثله معه وافتدوا به. وقد تكررت هذه الصورة أكثر من مرة. والمتبادر أن من أهدافها إثارة الخوف في نفوس الكفار وحملهم على الارعواء والتوبة وهم في فرصة الحياة والعافية ثم إثارة الغبطة في نفوس المؤمنين الذين هداهم الله فجنبهم هذا المصير الرهيب وكتب لهم السعادة والنجاة.
وجملة وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ في مقامها تجعل كلمة وَجاهِدُوا بمعنى أوسع من القتال وبعبارة أخرى هي بمعنى بذل كل جهد مادي ومعنوي وحربي وغير حربي وفعلي وقولي في تأييد دين الله وشريعته والتزام حدوده وتنفيذ أوامره في مختلف الظروف وتحمّل ما يمكن أن يكون من جراء ذلك من شدة وعنت بالصبر والمجاهدة. وهذا المعنى ملحوظ في آيات كثيرة وردت فيها الكلمة ومشتقاتها.(9/111)
وجملة وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أوجدت على ما يظهر في أذهان بعض المسلمين فكرة (التوسل) أي الاستشفاع بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين من أموات وأحياء لدى الله والإقسام عليه بحقهم بقضاء مطالب متنوعة من دفع ضرر وجلب نفع على اعتبار أنهم من الوسائل التي حثّت الآية على ابتغائها إليه. وبلغ الأمر إلى أن صاروا يشدّون الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم من أولياء الله وينذرون لهم النذور ويقسمون على الله بحقهم أن يحقق لهم مطالبهم. وقد استشرت هذه العادة عند المسلمين في القرون المتأخرة. وكانت من أهم ما ثار عليه الإمام محمد عبد الوهاب من بدع مخالفة لروح الإسلام والتوحيد حتى أقدم متبعو دعوته تحت لواء السعوديين في القرن الماضي على هدم مزارات الأولياء في كل بلد احتلوه.
ولقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحب العباس رضي الله عنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء فقال (اللهم إنّا كنّا إذا أجدبنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا) كما رويت بعض الآثار الأخرى التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم بعض أصحابه أن يدعو إلى الله بحقه فكان هذا وذاك مستندا لمن سار على هذه العادة من المسلمين.
ولم نر المفسرين القدماء الذين اطلعنا على كتبهم يذكرون هذه العادة عند هذه الآية. حيث يدل هذا على أنها لم تكن في القرون الإسلامية الأولى. غير أنها صارت تمارس في القرون الإسلامية الوسطى حيث التفت إليها الإمام المصلح ابن تيمية فيما التفت إليه من بدع وألّف فيها رسالة باسم (الوسيلة والتوسل) ضمنها تحقيقا جليلا كعادته رحمة الله عليه. ولقد استطرد إلى ذكرها الإمامان رشيد رضا وجمال القاسمي في تفسيريهما. ونوّها برسالة الإمام ابن تيمية واعتبراها القول الفصل في الأمر وأوردا مقتبسات منها.
ومما قرره الإمام أن لفظ التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يراد به ثلاثة معان. (أحدها) التوسل بطاعته وهذا حقّ وأصل من أصول الدين لقول الله تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ(9/112)
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. و (ثانيها) التوسل بدعائه.
وهذا إنما كان في حياته كما جاء في حديث استسقاء عمر لأنه لو كان بعد موته لكان الأولى أن يتوسل عمر به ولا يتوسل بدعاء عمه. ويكون هذا كذلك يوم القيامة بشفاعته لما ورد في هذا من الأحاديث الصحيحة «1» . و (ثالثها) التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته. فهذا الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته. ولا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة أو موقوفة، أو عن من ليس قوله حجة. ثم أخذ الإمام يورد أقوال أئمة الفقه والحديث بسبيل تأييد رأيه. منها ما يقرر حرمة التوسل لدى الله بحق أحد من مخلوقاته ولو كان نبيا. ومنها ما يقرر كراهية ذلك كراهة شديدة. ومنها ما يعتبره نوعا من الشرك لأنه دعاء بغير الله أو دعاء غير الله. وقد تنبه إلى أمر مماثل وفيه تأييد لرأيه وهو اتفاق الأئمة على عدم جواز الحلف بغير الله استنادا إلى أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه «من حلف بغير الله فقد أشرك- وفي رواية- فقد كفر» ومنها حديث جاء فيه «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «2» وأورد أقوال
__________
(1) من ذلك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي قال محمد بن علي فقال لي جابر يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة» وحديث رواه الترمذي عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنا آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا» التاج ج 4 ص 347- 349. وحديث رواه البخاري عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قال حين يسمع النداء اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة الدائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» التاج ج 1 ص 147. وهناك أحاديث صحيحة أخرى. انظر التاج ج 3 ص 349- 355.
(2) في التاج ج 3 ص 67 و 68 هذه الصيغ: 1- روى الخمسة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. 2- روى الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال» . 3- روى أبو داود والترمذي وأحمد عن ابن عمر قال «سمعت رسول الله يقول من حلف بغير الله فقد أشرك» .(9/113)
الأئمة بعدم انعقاد اليمين الذي يحلفه المسلم بالأنبياء والصالحين والكرسي والعرش والملائكة والكعبة والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.
وحجة الإمام ناصعة قوية فيها القول الفصل المستند إلى النقل والعقل وجمهور الأئمّة بعدم جواز دعاء غير الله والإقسام على الله بحقّ أحد أو شيء مهما عظمت حرمته ومكانته لقضاء الحاجات والمطالب الدنيوية وبأن هذه العادة التي درج عليها عوام المسلمين في القرون الإسلامية المتأخرة ليس لها سند من سنة نبوية أو صحابية وهي بدعة مخالفة لروح الإسلام والتوحيد الصحيح. والله تعالى أعلم.
هذا، وهناك بعض أحاديث نبوية تتضمن تقرير معنى غيبي لكلمة الوسيلة أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآية. منها حديث عن جابر بن عبد الله جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يسمع النداء «1» اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له الشفاعة يوم القيامة» «2» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» «3» ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صلّيتم عليّ فسلوا لي الوسيلة قيل يا رسول الله وما الوسيلة؟
قال أعلى درجة في الجنة. لا ينالها إلّا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو» «4» .
ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله لي الوسيلة فإنه
__________
(1) الأذان.
(2) روى هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود أيضا عن جابر انظر التاج ج 1 ص 147.
(3) روى هذا الحديث الخمسة أيضا عن أبي سعيد انظر نفس الجزء والصفحة.
(4) هذه النصوص منقولة من تفسير ابن كثير.(9/114)
لم يسألها لي عبد في الدنيا إلّا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» «1» . ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه» «2» .
والمجمع عليه عند أئمة التأويل والمفسرين بدون خلاف على ما يقوله ابن كثير أن معنى الكلمة في الآية هو القربة إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح الذي يرضيه. وأمر الله تعالى المؤمنين بابتغاء الوسيلة إليه يتضمن ذلك كما هو المتبادر ويتضمن أيضا أن ذلك مما يمكن للمؤمنين أن يحققوه.
وعلى هذا فيكون ما ورد في الأحاديث أمرا آخر لا صلة له بالآية إلّا من حيث المشابهة اللفظية. ويجب التسليم به وإن لم يدرك مداه إذا صحت الأحاديث.
ولقد أورد ابن كثير مع سلسلة الأحاديث المذكورة حديثين آخرين. فيهما زيادة عجيبة. منهما حديث أخرجه ابن مردويه عن علي جاء فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة، قالوا يا رسول الله من يسكن معك؟ قال علي وفاطمة والحسن والحسين» ومنهما حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين الأزدي قال «سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة: يا أيها الناس إنّ في الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والأخرى صفراء.
أما الصفراء فإنها إلى بطنان العرش والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد واسمها الوسيلة هي لمحمد وأهل بيته. والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته» .
وقد وصف ابن كثير الحديث الأول بأنه منكر والحديث الثاني بأنه غريب.
والهوى الشيعي بارز على الحديثين.
__________
(1) هذه النصوص منقولة من تفسير ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.(9/115)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
ولقد أورد الحديث الثاني المفسر الشيعي الطبرسي عن الأصبغ بن نباته.
والطبرسي أقدم من ابن كثير حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة على الصنع الشيعي.
وننبه على أن الطبري والبغوي والزمخشري وهم من المفسرين المتقدمين كثيرا عن ابن كثير لم يوردوا من الأحاديث التي أوردها ابن كثير في منزلة الوسيلة الأخروية. واكتفوا بتفسير الكلمة في الآية بمعنى القربة إلى الله تعالى بما يرضيه.
والطبري والبغوي بخاصة إمامان في الحديث ولا بدّ من أنهما يعرفان الأحاديث التي وردت في الكتب الخمسة حيث يبدو من هذا أنهما لم يريا صلة بين الآية والأحاديث.
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
. (1) نكالا: عقابا.
تعليق على الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... والآيتين التاليتين لها وما ينطوي فيها من أحكام
عبارة الآيات واضحة. وتحتوي تشريعا في حدّ السرقة بالنسبة للسارق والسارقة على السواء مع إيذان رباني بقبول توبة من تاب منهما وأصلح.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة الآيات. وإنما روى الطبري أن امرأة سرقت حليا فجاء الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال:(9/116)
اقطعوا يدها اليمنى فقالت المرأة هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
والذي يتبادر لنا أن للآيات صلة بالسياق السابق. فقد احتوت الآية [32] حكما تشريعيا في حقّ من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وكان ذلك في ظرف ارتداد بعض البدو ونهبهم لذود الإبل الذي منحهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلهم الرعاة فجاءت هذه الآيات لتستطرد إلى تشريع حدّ السرقة العادية ليكون الفرق واضحا بين عقوبة السرقة العادية التي تقع خفية وخلسة وبدون عنف ودم وبين تلك الجرائم التي تكون عادة مترافقة مع العنف والدم.
ونرجح أن الآيات الثلاث نزلت معا. وأن الإيذان بقبول توبة السارق قد جاء ليتساوق مع الإيذان بقبول توبة المحارب في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون المرأة السارقة سألت عن إمكان التوبة فتليت عليها الآية فالتبس ذلك على الرواة والله أعلم.
وحدّ السرقة من الحدود القليلة المعينة في القرآن لبعض الجرائم المهمة.
وجريمة السرقة اعتبرت دائما وفي جميع المجتمعات والظروف من الجرائم المهمة لأن فيها عدوانا على أموال الغير التي تشغل في المجتمع مقاما رئيسيا بعد مقام الحياة والأعراض والسلامة العامة. فلا غرو أن يرتّب القرآن عليها حدّا كما رتّب على القتل والزنا والفساد في الأرض. ولا غرو أن اشتد في عقوبتها لتكون متكافئة مع خطورتها.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها دلالة على تشدده في موضوع السرقة وإقامة حدّها. منها حديث عن عائشة جاء فيه «أن قريشا أهمّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا من يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حبّ رسول الله فأتى بها رسول الله فكلّمه فيها أسامة، فتلوّن وجه رسول الله فقال أتشفع في حدّ من حدود الله(9/117)
عز وجل، فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشيّ قام رسول الله فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ وإني والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها» «1» ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو قال «سرقت امرأة على عهد رسول الله فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله إنّ هذه المرأة سرقتنا فقال قومها فنحن نفديها فقال رسول الله اقطعوا يدها فقالوا نحن نفديها بخمسمائة دينار. فقال: اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى» «2» ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الخمسة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق. يسرق البيضة فتقطع يده.
ويسرق الحبل فتقطع يده» «3» .
وفي كتب التفسير «4» بيانات متنوعة في صدد ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ للبال من تعليق:
1- إن حدّ السرقة لا يقام إلّا على العاقل البالغ. وهذا طبيعي. لأن العقل والبلوغ هما اللذان يجعلان الإنسان محلا للتكليف» .
2- وقال الخازن إن العلم بحرمة السرقة وحدها أيضا شرط لإقامة الحدّ.
ولم يذكر سندا. ومثّل على ذلك بالمسلم الحديث العهد الذي لا يعرف أن السرقة
__________
(1) النصّ من ابن كثير. والحديث الأول رواه الخمسة عن عائشة بفرق يسير انظر التاج ج 3 ص 33.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 3 ص 19 وقد فسّر شراح الحديث والمفسرون (البيضة) في الحديث ببيضة الحديد أي المغفر الذي يضعه المحارب على رأسه. وهو تفسير في محله لأن قيمة بيضة الدجاجة لا تصل إلى النصاب الذي تقطع به يد السارق والذي حددته السنّة على ما سوف يأتي بعد. [.....]
(4) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي ورشيد رضا.
(5) هناك حديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» التاج ج 1 ص 133.(9/118)
في الإسلام حرام تستوجب الحدّ. ولسنا نرى هذا وجيها. فالآية من جهة مطلقة، والسرقة من جهة ثانية من الجرائم العامة التي هي محرمة في كل شريعة ولا يمكن أن يجهل أحد أن فاعلها ينجو من عقاب.
3- اختلف في النصاب الذي يقطع به بسبب اختلاف المأثور من السنّة النبوية. فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا» «1» وهناك حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي «أن رسول الله قطع سارقا في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» «2» وهناك حديث عن ابن عباس رواه أبو داود والنسائي «أنّ رسول الله قطع في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم» «3» فذهب بعض أئمة الفقه إلى اعتبار النصاب الأدنى ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم- وقيمة الدراهم الثلاثة كانت تقارب قيمة ربع الدينار- وذهب آخرون إلى اعتبار النصاب الأدنى دينارا أو عشرة دراهم. وبناء على ذلك فمن سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع. وهذا التشريع النبوي متمم للتشريع القرآني. حيث أوضح ما سكت عنه القرآن.
والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم دينارا إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية وهذا يورد على البال سؤالا عما إذا كان يصح أن يكون النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم.
ولقد لاح لنا إلى هذا حكمة سامية في جعل النصاب الذي يقطع به ضئيلا.
فالذي يسرق القليل يسرق الكثير. والعقوبة إنما استهدفت زجر المجرم وردع غيره عن الجريمة. فإذا ما عرف أن اليد عرضة للقطع مقابل القليل ارتدع عن القليل والكثير معا. ولعلّ حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه أن
__________
(1) التاج ج 3 ص 19.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(9/119)
النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» مما يدعم ذلك والله أعلم.
4- والعلماء متفقون على أن القطع إنما يكون في سرقة مال محرز أي موضوع في مكان من العادة أن يعتبر حرزا، ومسوّر عليه ولو لم يكن عليه حارس.
ويدخل في ذلك الخيمة. ولا يوجبون القطع على من أخذ شيئا موضوعا في مكان غير محرز ولا حارس عليه أو بهيمة في برية لا راعي لها. ويظهر أنهم اعتبروا أن مثل ذلك لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن آخذه قد يكون أخذه على أنه مهمل متروك.
5- وهناك من أسقط القطع عن جاحد المتاع المستعار أو جاحد الأمانة أو الذي يأخذ شيئا بطريقة الاختطاف والاختلاس العياني استنادا إلى حديث رواه أصحاب السنن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» «1» وعلّلوا حكمة ذلك بإمكان استرداد المأخوذ خطفا أو نهبا والأمانة والمعار بالبينة. ولأن مثل هذا العمل لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو القول من وجاهة.
6- ومما ذكره الخازن أن لا قطع على سرقة مال للسارق فيه شبهة حقّ كالولد يسرق من مال أبيه أو الوالد من مال ابنه أو العبد من مال سيده أو الشريك من مال شريكه. ولم يذكر المفسر سندا لقوله. ولم نر مفسرا آخر ذكر ذلك ويمكن أن تكون الأحاديث المروية في درء الحدود بالشبهات التي أوردناها في سياق تفسير الآية [24] في سورة النساء سندا لذلك.
7- وأكثر العلماء على أنه لا قطع على آكل الثمر من البستان. وقد روي في صدد ذلك حديثان. واحد رواه أصحاب السنن عن رافع بن خديج قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر» «2» . وثانيهما رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن
__________
(1) التاج ج 3 ص 21.
(2) المصدر نفسه ص 20 والكثر: هو جمار التمر.(9/120)
عبد الله بن عمرو قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلّق فقال من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنّ فعليه القطع.
ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة» «1» .
8- ولقد فسّر شراح الحديث كلمة (العقوبة) في هذا الحديث بالتعزير حتى يرتدع السارق. ويكون في تعزيره عبرة لغيره. وقد أوجب العلماء بناء على ذلك تعزير سارق ما هو أدنى من النصاب من المال المحرز. وهذا حقّ. فالجريمة مهما تفهت لا يجوز أن تذهب بدون عقوبة.
غير أن حديث عبد الله بن عمرو الذي يسمح لذي الحاجة بأكل الثمر من البستان بدون عقوبة بفتح الباب للسؤال عن حكم السارق الذي يسرق عن عوز شديد لسدّ جوعه أو جوع عياله إذا ما ثبت ذلك لدى الحاكم. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم قطع سارق سرق في عام قحط ليسدّ جوعه. ولقد حرم الله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به واستثنى المضطر في حالة الجوع وخطره وعفا عنه. فهلا يصح أن يقال بجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة. ولم تعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناسا بالتلقين القرآني والنبوي والراشدي.
ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم. فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقا في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات- أي الزكاة- وأوجب على الحكام والأغنياء أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحقّ لاكتفى كل ذي حاجة ولقضي على العوز والجوع، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشدّ حالات البؤس والعوز والشقاء. والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 20. والخبنة أي أن يملأ طرف ثوبه أو إزاره أو وعاء ما والجرين محل تخزين أو تجميع التمر.(9/121)
9- والعلماء متفقون على أن القطع هو عمل قضائي ينفذ بأمر ولي الأمر.
وهم متفقون كذلك على أن السرقة تثبت بالاعتراف أو البينة. وهذا وذاك حقّ.
10- وقطع اليد هو قطع الرسغ أي لا يصل إلى المرفق. وهناك حديث عن فضالة بن عبد الله رواه أصحاب السنن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلّقت في عنقه» «1» وهذا يؤيد ذاك كما هو المتبادر.
11- وقد اختلف العلماء في تكرر القطع بتكرر الجرم. فهناك من قال بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في الثانية واليد اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ثم يعزر ويحبس. ورووا في تأييد ذلك حديثا نبويا عن أبي هريرة وعن أبي بكرة لم يرد في أي من الكتب الخمسة جاء فيه «إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» «2» وقد قال المفسر البغوي الذي أورد هذا الحديث إن مالكا والشافعي أخذا به. وهناك من قال تقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في المرة الثانية فقط فإذا تكرر حبس وعزر. ولم يورد قائلو هذا القول سندا. وهناك من قال بالاكتفاء بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى فإذا تكرر حبس وعزر ويبدو من هذا أن أصحاب القولين الأولين لم يثبت عندهم الحديث الذي رواه البغوي. وأن أصحاب القول الثالث أخذوا بالآية التي تأمر بقطع يد السارق.
ويلحظ أن قطع الأيدي والأرجل من خلاف إنما جعل عقوبة للمحاربين المفسدين. وأن تعيين عقوبة خاصة للسارق هو بسبيل إبراز الفرق بين عقوبته وعقوبة المحارب المفسد بحيث يمكن أن يقال إنه لا يصح أن يقاس السارق العادي بالمحارب المفسد. وإن القول الثالث هو الأوجه إلّا أن يقال إن تكرار إقدام السارق على السرقة يجعله في حكم المحارب المفسد ثم يؤخذ بحديث البغوي. والله أعلم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 20.
(2) النصّ من تفسير البغوي.(9/122)
12- واختلف في ما إذا كان القطع يسقط الغرامة عن السارق. فقال بعضهم إنه يسقطها آخذا بظاهر الآية وإطلاقها. وقال بعضهم إنه لا يسقطها. وفي الفقرة (7) حديث نبوي يقرر الغرامة على من أخذ من ثمر البستان في إزار أو وعاء فوق ما أكله ويقررها على من سرق دون ثمن المجنّ. وقد يكون في هذا الحديث ما يدعم القول الثاني حيث يبدو أن قائليه اعتبروا القطع عقوبة على الجناية واعتبروا المسروق حقا لصاحبه يجب ردّه إليه عينا إذا وجد أو قيمة. وهناك من توسط بين القولين فقال إذا وجد عين المسروق أو شيء منه وجب أخذه ورده إلى صاحبه.
ونرى القول الثاني هو الأوجه إذا كان هناك إمكان لتنفيذه.
13- واختلف في ما إذا كانت التوبة أو العفو قبل القدرة على السارق أو بعدها وقبل القطع يسقطان عنه القطع. فهناك من قال بالسقوط قبل رفع الأمر للحاكم والقدرة عليه قياسا على المحارب الذي آذنت الآية [34] بقبول توبته إذا تاب قبل القدرة عليه. وهناك من قال بعدمه لأن الحدّ جزاء على الجناية والتوبة نحو الله من العمل نفسه المحظور دينا. ولقد رجحنا أن الآية [34] هي في صدد الكافر من حيث الأصل. وأوردنا في سياقها ما هناك من خلاف بين الفقهاء في قبول توبة المحارب المسلم الذي طبق الفقهاء عليه الآية قبل القدرة عليه وعدمها.
ورجحنا قول من قال إن على الإمام تنفيذ الحدود عليه ولو تاب قبل القدرة عليه إذا ما طالب أصحاب الحق الشخصي بحقهم قبله وأقاموا البينة وإن توبته هي دينية لمخالفته أوامر الله تعالى. بحيث يكون هذا هو الأوجه في المسألة التي نحن في صددها أيضا. وهناك حديثان أوردهما ابن كثير فيهما تدعيم ما لهذا التوجيه منهما حديث رواه الدارقطني عن أبي هريرة جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال ما أخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول الله. قال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال تب إلى الله فقال تبت إلى الله فقال تاب الله عليك» وحديث رواه ابن ماجه عن أبي ثعلبة الأنصاري قال «إن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهّرني. فأرسل إليهم فقالوا إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده وهو(9/123)
يقول الحمد لله الذي طهّرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار» والشخصان على ما تلهمه روح الحديثين قد تابا قبل أن يرفع أمرهما إلى النبي ويعتقلهما بالسرقة. ومع ذلك فقد طبق عليهما الحدّ واعتبرت توبتهما دينية لله تعالى.
ولا يفوتنا أن ننوّه بما في الحديثين من صورة رائعة لما كان من تأثير القرآن والوعظ النبوي في أصحاب رسول لله صلى الله عليه وسلم حتى الثانويين منهم ...
ومع ذلك فهناك حديث يرويه الإمام مالك جاء فيه «إن سارقا سرق رداء لصفوان بن أمية وهو متوسد في مسجد فلحق به فأمسكه وأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده. فقال صفوان إني لم أرد هذا يا رسول الله. هو عليه صدقة فقال رسول الله فهلّا قبل أن تأتيني به» «1» حيث ينطوي في الحديث صورة أخرى لأحكام رسول الله يستفاد منها سواغ سقوط الحدّ عن السارق إذا أسقط المسروق منه حقه قبل رفع الأمر للحاكم.
14- ولقد نبه الذين يقولون بسقوط الحدّ بالتوبة أو العفو على أن ذلك ليس من شأنه إسقاط الغرامة عن السارق. وهذا وجيه. ولعل الجملة القرآنية فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ تنطوي على ذلك بالإضافة إلى معنى إصلاح النفس بالتوبة والندم.
هذا، ومن الناس من ينتقد عقوبة قطع يد السارق غير أن من المشاهد المجرب أن كثيرا من اللصوص يقدمون على السرقة كأسهل وسيلة إلى حيازة المال والاستمتاع أكثر من أن تدفعهم الحاجة الشديدة وقد أصبحوا بسبب ما يلقونه من خفة العقوبات الحديثة محترفين لا يمتنعون عن معاودة مهنتهم المرة بعد المرة مستهترين بأمن الناس وأموالهم وغير مفكرين في البحث عن الكسب الحلال وكثير منهم قادرون على ذلك. فقطع أيدي أمثال هؤلاء قد يكون أقوى رادع لهم. وفيه عبرة قوية لغيرهم من دون ريب مع التذكير بملاحظاتنا في الفقرة الثامنة.
__________
(1) الموطأ ج 2 ص 236.(9/124)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
. (1) السحت: قيل إنه في الأصل بمعنى المحق والاستئصال. وقد ورد في القرآن بهذا المعنى في آية سورة طه هذه قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) ثم أطلق على الرشوة والمال الحرام لأنه يمحق آخذه ويستأصله.
في الآيات:
(1) تسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلا موجب لحزنه من المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون به في حين أن قلوبهم غير مؤمنة ويسارعون في إظهار الكفر والجحود والشكّ في أية مناسبة. ولا من اليهود الذين يسمعون ويصدقون ما ينقله إليهم غيرهم من الأكاذيب ويشجعون عليها ويحرّفون الكلام عن مقاصده الصحيحة ولا يأتون إلى النبي ليسمعوا منه شفاها ويوسوسون للناس فيشيرون عليهم بقبول حكم النبي إذا حكم بكيت وعدم قبوله إذا حكم بكيت.
(2) وحملة على هؤلاء خاصة: فإن ما يفعلونه ناشىء عن خبث نفوسهم وسوء نواياهم. وإن الله لمخزيهم في الدنيا ولمعذّبهم عذابا عظيما في الآخرة.(9/125)
وإنهم لسمّاعون للكذب راضون به مشجعون عليه. وإنهم لأكّالون للمال الحرام.
(3) وتخيير للنبي إذا جاءوا إليه ليحكم بينهم. فله أن يقضي بينهم أو يعرض عنهم وليس عليه من بأس إذا هو أعرض عنهم ولم يقبل أن يحكم بينهم. أما إذا رضي بالقضاء بينهم فعليه القضاء بالعدل والقسط. فإن الله يحب المقسطين الذين لا ينحرفون عن الحق في أي حال.
(4) وسؤال إنكاري على سبيل التعقيب والتقريع والتعجب عن تحكيم اليهود للنبي والتقاضي عنده وعندهم التوراة فيها حكم الله فيما يريدون أن يتقاضوا فيه.
وعن إعراضهم عنها. وتقرير بأنهم- وهذا حالهم- لا يمكن أن يعتبروا مؤمنين بما أنزل إليهم الله.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي
قد تبدو الآيات فصلا جديدا. ومع ذلك فإن بينها وبين الفصول السابقة تناسبا ما من حيث احتواء هذه وتلك صورا من مواقف اليهود وأخلاقهم. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الفصول السابقة فوضع في مكانه للتناسب الظرفي والموضوعي. وإلّا فيكون وضعه للتناسب الموضوعي والله أعلم.
وقد روى الطبري روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات منها أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي استشاره يهود بني قريظة في أمرهم حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إشارة فهموا منها أن النزول على حكم النبي معناه الذبح. ومنها أنها نزلت في مناسبة طلب رجل من اليهود من حليف مسلم له أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في حكم قتيل قتله فإذا كان الحكم بالدية تقاضى عنده وإلّا فلا. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود حيث اجتمع اليهود حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم(9/126)
إلى المدينة وكان رجل محصن منهم قد زنى بامرأة محصنة فقالوا نسأل محمدا عن الحكم فإن حكم بالجلد والتحميم والتعزير يكون ملكا لا بأس علينا منه وإن حكم بالرجم يكون نبيا فنحذره من استلاب ما في أيدينا. فأتوه فطلب منهم أن يدلوه على أعلمهم في التوراة فذكروا له عبد الله بن صوريا، فخلا به وناشده عما إذا كان يعلم أن حكم الزنا في التوراة الرجم فقال بلى. وإنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك. فأمر النبي برجمهما ولكن ابن صوريا جحد بعد ذلك ما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أن النبي مرّ بيهودي محمم مجلود فدعا رجلا من علمائهم فقال أهكذا تجدون حدّ الزنا قال نعم قال فأنشدك بالذي أنزل التوراة أهكذا تجدونه فقال إن الحدّ كان الرجم ولكن الزنا كثر بين اليهود وصاروا يقيمون الحدّ على الضعيف دون القوي والشريف ثم اتفقوا على تبديل الرجم في التوراة بالجلد والتحميم «1» فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر بالزاني فرجم.
وإلى هذه الروايات فقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلى جملة الْمُقْسِطِينَ نزلت في قضية قتيل من بني قريظة قتله بنو النضير. وكان بنو النضير يرون لأنفسهم فضلا على بني قريظة فإذا قتلوا منهم لم يقيدوا من أنفسهم وإنما دفعوا الدية وإذا قتل بنو قريظة منهم لا يقبلون إلا القود فأراد بنو قريظة أن يرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتحاكموا مع بني النضير عنده حتى يحكم لهم بالقود فقال رجل من المنافقين لبني النضير إن محمدا قد يحكم عليهم بالقود فاحذروا ولا تقبلوا المحاكمة عنده إلا إذا عرفتم أنه يقضي بالدية فأنزل الله الآية.
وقد أورد المفسرون ما أورده الطبري. وأورد ابن كثير بالإضافة إلى ذلك رواية رواها الإمام أحمد عن ابن عباس مشابهة للرواية الأخيرة ولكنها تعود إلى الجاهلية حيث ذكرت ما خلاصته كسبب لنزول الآية أن طائفتين من اليهود اقتتلتا في الجاهلية فقهرت إحداهما الأخرى فاتفقتا على أن القتيل من التي قهرت يودى بمائة وسق ومن المقهورة بخمسين. وبعد قدوم النبي قتلت الذليلة واحدا من
__________
(1) فسّر الطبري التحميم بتسويد الوجه بالسخام.(9/127)
العزيزة فطالبت هذه بالدية المضاعفة فأبت الأولى حتى كادت الحرب تقع بينهما ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدست الذليلة ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأى النبي فإذا كان حكم كما شاؤوا تحاكموا عنده وإلا نكصوا فأنزل الله الآية فيهم.
وجمهور المفسرين بما فيهم الطبري يرجحون نزول الآيات في مناسبة قضية الزنا. ومنهم من قال إن قضية الزنا وقضية القتل بين بني النضير وبني قريظة اجتمعتا معا فأنزل الله الآيات فيهما. وقد روى البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية زنيا فانطلق إلى يهود فقال ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا نسوّد وجوههما ونحمّلهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فأتوا بها فقرؤوها حتى إذا جاءت آية الرجم سترها الذي يقرأ بيده وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله فرجما. قال ابن عمر كنت فيمن رجمهما. ورأيت الرجل يقي المرأة من الحجارة بنفسه» «1» وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في سياق الآيات.
ونصّ الآيات صريح بأنها في صدد حادث ندّدت بسببه بفريق من المنافقين وفريق من اليهود وأنه كان هناك قضية يهودية أريد تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم فيها فكانت مشاورة في صدد ذلك بين الفريقين ثم مؤامرة على حكم النبي بقبوله إذا حكم كما يريدون وبرفضه إذا لم يحكم كذلك. وقد يتفق شيء من هذا مع الرواية التي تذكر أن يهوديا سأل حليفا له بالسؤال من النبي عن حكم قتيل قتله على أن يتحاكم عنده إذا كان حكمه بالدية دون القصاص كما يهوى. أو مع الروايات التي تذكر أن قسما من الآيات نزل في قتيل بني قريظة أو القتيل الذي قتلته القبيلة الذليلة من العزيزة من قبيلتي اليهود والآيات التالية لهذه الآيات تحتوي بيان ما كتبه الله تعالى على اليهود في التوراة من أحكام قتل النفس والدماء والجروح وليس فيها شيء عن حكم التوراة في الزنا بحيث يسوغ القول إن قضية الزنا ليس لها صلة بالآيات.
__________
(1) التاج ج 3 ص 24.(9/128)
ولعلها أقحمت عليها لأنها وردت في حديث صحيح مع أن الحديث لا يذكر بأن لها صلة بالآيات أيضا. ونظم الآيات منسجم مع بعضه بحيث يبعد أن تكون نزلت متفرقة وفي مناسبات مختلفة. ولسنا نرى في رواية أبي لبابة التي انفرد بها الطبري صلة مفهومة بالآيات.
ونصّ الآيات يفيد أن الفريق المنافق قد نقل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله أو أن الفريق اليهودي حرّف ما سمعه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وأن الفريقين اشتركا معا في التهويش والتشويش وأنه كان لذلك أثر شديد محزن في نفس النبي صلى الله عليه وسلم. ويلهم كذلك أن الحادث وقع في ظرف كان اليهود فيه ما يزالون في المدينة يدسّون ويتآمرون مع المنافقين. وإذا صحّ هذا فيكون هذا الفصل والفصول التي سبقته المحتوية على صور من مواقف اليهود وتاريخهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت قبل صلح الحديبية الذي للفصول الأولى من السورة صلة به كما نبهنا على ذلك من قبل. ويكون في هذا دليل على ما ذكرناه في مقدمة السورة من أن في فصول السورة ما هو متقدم في النزول متأخر في الترتيب، وما هو عكس ذلك، وأنها ألّفت مؤخرا بعد أن تمّ نزول ما شاءت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بالقسط بين اليهود في القضايا التي يحكمونه فيها ويريد أن يحكم فيها متسق كما هو واضح مع المبادئ القرآنية المتكررة في إيجاب العدل والقسط بخاصة مع المبدأ الذي شدد عليه في الآية الثامنة من هذه السورة وهو عدم التأثر ببغض قوم وجعله مؤثرا في العدل معهم. والروعة والتساوق يبدوان بارزين خاصة لأن الآيات حكت مواقف تهويش وشغب مقصودة وقفها اليهود. وهذا التلقين مستمر المدى كما هو واضح.
وفي الآيات تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إذا جاءوا إليه أو الإعراض عنهم. ولقد روى الطبري عن الشعبي وعطاء وابن جريج أن حكم الآية محكم وأن للحاكم المسلم الخيار في الحكم بين من يأتي إليه من غير المسلمين وعدم الحكم. كما روى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة أن حكمها منسوخ بآيات الجزء التاسع من التفسير الحديث 9(9/129)
أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم. وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين الذين يعيشون في نطاق السلطان الإسلامي.
وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن حكم الآية ثابت لم ينسخ، وأن للحكام الخيار في الحكم وترك الحكم والنظر، وأن جملة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في الآيات الآتية ليست للنسخ وإنما هي للأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله إذا اختار أن يحكم بينهم. وقد روى البغوي عن ابن عباس قولا بالنسخ ومن الأئمة من أخذ بهذا. ومنهم من أخذ بذاك ولقد قال الخازن إن مذهب الشافعي على أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ونحن نرى في هذا الصواب. والله أعلم.
ويتفرع على هذا مسألة أخرى وهي كيفية حلّ قضايا المعاهدين والذميين فيما بينهم إذا لم يرفعوها للقضاء الإسلامي. وقد روى الطبري قولا للزهري جاء فيه «مضت السنّة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم» وهذا القول متسق مع فحوى وروح الآية الأخيرة من الآيات كما هو المتبادر. حيث يفيد هذا أن للمعاهدين والذميين أن يرفعوا قضاياهم المدنية إلى رجال القضاء فيهم. وبكلمة أخرى يكون قضاؤهم هو المختص في قضاياهم إذا لم يرفعوها إلى حكام المسلمين. وهذا ما عليه الجمهور. وتظهر فيه روعة الشريعة الإسلامية في مراعاتها حرية العقيدة الدينية. فهي لا تكره أحدا على الإسلام. ولا تكره أحدا من الذين يخضعون للسلطان الإسلامي من غير المسلمين على التقاضي إلى قضائه.
وفي الآيات التالية توجيه بإيجاب أن يكون قضاؤهم مستمدا من التوراة والإنجيل على ما سوف نشرحه بعد.
وجملة وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ قد تكون تضمنت قرينة على ما ضمناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [157] من سورة الأعراف بأن سفر الشريعة الذي كتبه موسى واحتوى تبليغات الله ووصاياه والذي(9/130)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
ذكر بعض أسفار ما بعد السبي أنه كان متداولا في أيدي اليهود قد ظلّ متداولا في أيديهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو الآن في التداول فيكون قد ضاع.
هذا، ومع ما قاله المؤولون والمفسرون من أن معنى السحت هو المال الحرام إطلاقا فإن الطبري والبغوي وغيرهما نقلوا عن مجاهد والحسن وقتادة أن الكلمة في مقام ورودها بالنسبة لليهود قد عنت الرشوة التي كان قضاة اليهود يأخذونها ليحكموا لمن يدفعها إليهم بالباطل ضدّ خصومهم. ولا يخلو هذا من وجاهة مستلهمة من مقام الجملة ومدى الآيات والأسلوب الذي جاءت به قد يفيد أنه كان مستشريا بينهم على نطاق واسع وفي بعض أسفار العهد القديم وفي بعض الأناجيل تنديدات باليهود على ذلك. ولقد استطرد البغوي إلى إيراد الحديث الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الراشي والمرتشي وأوردناه في سياق الآية [188] من سورة البقرة فلم نر ضرورة لإعادة إيراده.
[سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 45]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
. (1) الربانيون: نسبة إلى الرب. وهي بمعنى رجال الله وعلماء كتابه.
(2) الأحبار: الفقهاء أو القضاة، والحبر هو العالم الفقيه.
(3) والجروح قصاص: بمعنى إذا جرح إنسان إنسانا جرحا غير ما ورد في الآية فيقتصّ منه بجرح مماثل.(9/131)
تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ... إلخ والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام وتمحيص قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) وما ورد في صدد القصاص والجروح من أحاديث وأقوال
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت أولاهما:
(1) تقريرا بأن الله تعالى قد أنزل التوراة فيها هدى ونور. وأوجب على النبيين والربانيين والأحبار المنقادين المسلمين إليه أن يحكموا بين اليهود بموجب ما فيها من شرائع وأحكام حيث صاروا عليها بما نالوه من علم ووصلوا إليه من مرتبة حفاظا وشهداء. وأن لا يخافوا من أحد غير الله وأن لا يبيعوا آياته وأحكامه بالثمن البخس.
(2) وإيذانا بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر به لا تصح منه دعوى الإيمان.
وقد تضمنت ثانيتهما:
(1) تقريرا بأن الله قد كتب على اليهود في التوراة قصاص النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن وقصاص الجروح الأخرى جروحا مماثلة لها.
(2) وإيذانا بأن العفو جائز. وهو بمثابة صدقة يتقرب بها الذي يعفو إلى الله. وأن من يعفو عن شيء من حقه في القصاص يكون عفوه كفارة عن ذنوبه.
(3) وإيذانا مكررا من الله بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم بانحرافه عن حدوده وشرائعه.
ولقد روى الطبري عن الزهري أن الآية الأولى نزلت في صدد مراجعة اليهود في قضية الزنا حينما رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويلحظ أن الآية ليست وحدها وأنها(9/132)
منسجمة مع الآية التي بعدها التي تذكر أحكام الدماء دون الزنا. ثم بما بعدها من الآيات التي تذكر الإنجيل ثم القرآن كسلسلة واحدة حيث يتبادر أكثر أنها استمرار للسياق السابق على سبيل البيان والاستطراد. ونرجح أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة أو عقبها مباشرة. وروحهما تلهم بقوة كما قلنا قبل أن القضية التي أراد اليهود التقاضي فيها عند النبي ونشأ عنها المشهد الذي احتوته الآيات السابقة هي قضية دم. وأنهما استهدفتا تقرير كون حكم الله في قضايا الدم واضح في التوراة وكون واجب علماء اليهود وحكامهم هو الحكم بها وعدم الانحراف عنها والرضاء بذلك إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بها. والتنديد بهم لمحاولتهم الانحراف عن أحكام الله وإهمالها.
والعبارة القرآنية صريحة بأن الأحكام التي فيها قد كتبت على اليهود في التوراة وقد تؤيد هذه العبارة والآيات السابقة كما قلنا أن سفر التوراة الذي سجل موسى عليه السلام فيه ما بلغه الله إياه من وصايا وأحكام كان موجودا في أيدي اليهود. وفي سفري الخروج والأحبار من الأسفار المتداولة اليوم التي تحكي كثيرا مما بلّغه الله تعالى لموسى من وصايا وأحكام أحكام مماثلة لما جاء في العبارة القرآنية مع مغايرة يسيرة حيث يمكن أن يقال إن كتّاب السفرين استقوا ما كتبوه من سفر توراة موسى. وقد ورد في الإصحاح (21) من سفر الخروج من جملة الأحكام المبلّغة لموسى (نفس بنفس وعين بعين وسن بسن ورجل برجل وكيّ بكيّ وجراحة بجراحة ورضّ برضّ) وورد في الإصحاح (24) من سفر الأحبار تبليغا عن الله كذلك (من قتل إنسانا يقتل قتلا. أي إنسان أحدث عيبا في قريبه فليصنع به كما صنع الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن كالعيب الذي يحدثه في الإنسان يحدثه معه) .
واستتباعا لما استلهمناه من الآيات السابقة بأن القرآن جعل لأهل الكتاب في السلطان الإسلامي أن يتقاضوا فيما بينهم وفق ما عندهم من شرائع يمكن القول إن الآيات التي نحن في صددها قد تكون انطوت على تلقين للسلطان الإسلامي بإجبار اليهود الذين يكونون في نطاق حكمه معاهدين وذميين على التقاضي وفقا لأحكام(9/133)
التوراة إذا ما أرادوا التقاضي عند قضاتهم وأحبارهم وربانييهم.
وقد يقال وكيف يعرف السلطان الإسلامي أحكام التوراة وسفر التوراة الذي كتبه موسى عن الله مفقود. وهذا سؤال وجيه غير أن الأسفار التي تعود إلى حقبة موسى وهي الخروج والأحبار والعدد والتثنية احتوت كثيرا من الأحكام والتشريعات محكية عن موسى عن الله حيث يمكن أن يكون كتّابها استقوها من سفر التوراة قبل فقده مهما كان شابها تحريف وتبديل. ويتبادر هنا أن حكمة الله بعد أن اقتضت جعل اليهود مخيرين وأوجبت على أحبارهم وربانييهم أن يحكموا بينهم وفاقا لأحكام التوراة صار من السائغ أن يقال إنه لا مانع من ترك الأمر في تطبيق ما في أيديهم من أسفار فيها أحكام وتشريعات محكية عن موسى عن الله تعالى دون أحكام خارجة عن نطاقها والله تعالى أعلم.
هذا وفي كتب التفسير أقوال متنوعة في صدد ما في الآيتين من معان وأحكام وفي صدد تطبيق ذلك أو ما في بابه على المسلمين.
فأولا: في صدد جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا روى الطبري عن السدي أنها تعني النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن قتادة حديثا مرفوعا جاء فيه «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الكتاب» . وروى إلى هذا عن الزهري وعكرمة أنها تعني النبيين جميعا ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب عندي أن الله أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء والأحبار لليهود. ونزيد على هذا أن روح الآيتين وفحواهما قويا الدلالة على أن المقصود هم أنبياء بني إسرائيل. وأن الآية بسبيل حكاية ما كان وما ينبغي أن يكون بالنسبة لليهود. والله أعلم.
وثانيا: في صدد جملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وجملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وجملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ والجملتان الأخيرتان وردتا في آيات تأتي بعد هذه الآيات فقد روى الطبري عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كلها(9/134)
في الكافرين. وعن أبي مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم أن المقصود بها أهل الكتاب أو الكفار أو المشركون. وعن الشعبي أن الجملة الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وعن الحسن أنها وإن كانت في اليهود والنصارى فهي واجبة علينا. وعن ابن عباس أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا فهو كافر وإن كان غير جاحد فهو ظالم وفاسق.
وحديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس من الصحاح والأقوال الأخرى اجتهادية.
وقد قال الطبري إن أولاها بالصواب قول من قال إنها نزلت في أهل الكتاب لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات نزلت فيهم وهم المعنيون بها.
ومع ما في تصويب الطبري من وجاهة مستمدة من سياق الآيات فإن نظم الجمل يجعلها عامة الشمول لكل من لم يحكم بما أنزل الله. ويدخل في ذلك المسلمون أيضا كما هو المتبادر. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أن الكفر والظلم والفسق في الجمل الثلاث هي كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وأنها ليست بمعنى خروج عن الملّة حيث يفيد هذا أن المؤولين في الصدر الأول اعتبروا الجمل مطلقة وخرجوها بهذا التخريج. وهو تخريج وجيه دون ريب.
ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا أولا أن الجملة جاءت في مقام تعظيم جريمة إهمال الحكم بما أنزل الله. وأعظم بذلك جريمة. وثانيا أن خروج من لم يحكم بما أنزل الله من الملّة منوط بأن يكون جاحدا لما أنزل الله مستحلا لمخالفته فإن لم يكن ذلك فيكون قد اقترف كبيرة دون أن يخرج من الملّة. وهذا متسق مع ما قاله ابن عباس وأوردناه قبل. وقد يصحّ أن يضاف إلى ذلك أن هذا أيضا يكون إذا كان الإهمال مقصورا ولم يكن للمهمل الذي يظهر إسلامه ولم يجحد ما أنزل الله تأويل أو تخريج لذلك الإهمال. والله تعالى أعلم.
وثالثا: في صدد جملة فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. فقد روى الطبري عن عبد الله بن عمرو وجابر بن زيد من طرق عديدة أنها بمعنى أن عفو(9/135)
المجروح عن جارحه هو كفارة عن ذنوبه. وروى أقوالا معزوة إلى ابن عباس ومجاهد أنها بمعنى أن عفو المجروح عن جارحه هو كفارة للجارح بمعنى مسقط للقصاص والدية عنه والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه. فالضمير ينبغي أن يعود إلى الأقرب وهو فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ. أو الذي يعفو وعفو المجني عليه مسقط لتبعة الجاني بطبيعة الحالة قصاصا كانت أم عقلا. فلا محلّ للقول الثاني من هذه الناحية. وهناك أحاديث نبوية تأتي بعد قليل فيها حثّ على العفو وبشرى للذين يعفون بغفران ذنوبهم وكون عفوهم كفارة لهم مما فيه تأييد للقول الأول.
ورابعا: في صدد ما إذا كانت الآية الثانية هي المستند لقصاص الأطراف والجروح في الإسلام على قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) أم لا. والمستفاد من أقوال المفسرين ولا سيما ابن كثير والخازن أن من الأصوليين والفقهاء من قال إن النبي يتعبد بشرائع الكتب السماوية السابقة وإن ما لم ينسخه القرآن والسنّة من هذه الشرائع هو شرع للمسلمين، ووضعوا قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) وقالوا بالتبعية إن الآية هي مستند قصاص الأطراف والجروح في الإسلام. وهناك من أنكر ذلك وقال إن ما ورد في الآية هو إخبار بما كتب الله على بني إسرائيل وإن المسلمين مقيدون بما أوحى الله إلى النبي من تشريع خاص وبما صدر من النبي من تشريع خاص سواء أكان فيه إقرار ومطابقة لما في الكتب السماوية السابقة أم نسخ له.
والذي يتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات وسياقها ومناسبتها وهدفها بل ومضمونها أيضا إذا ما أنعم النظر فيها. ويلفت النظر خاصة إلى جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وإلى جملة وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها حيث تدلان بصراحة على خصوصية الأحكام بالنسبة لليهود فقط. وفي نصوص الآيات التي تأتي بعد قليل دلائل قوية على وجاهة هذا الرأي أيضا على ما سوف نشرحه بعد. ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذا المقام أن في الأسفار الأربعة (الخروج والعدد والأحبار وتثنية الاشتراع) من أسفار العهد القديم نصوصا كثيرة بطقوس تعبدية وأحكام وتشريعات متنوعة بأسلوب يفيد أنها مما بلغه(9/136)
الله لموسى. والراجح أنها أو أن كثيرا منها مستقى من سفر توراة موسى المفقود وليس في القرآن والحديث نصوص بنسخها منفردة أو جملة. ومع ذلك فلم يرد حديث ما عن النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذها طقوسا وشرائع وطرائق في الإسلام ولم يمارسها النبي والمسلمون في عهده فضلا عن ما بعده. ومثل هذا يقال في أمور متنوعة أخرى وردت على لسان عيسى عليه السلام في الأناجيل كأنها أوامر ربانية أو إلهام رباني.
ومع هذا فإن قصاص الأطراف والجروح في الإسلام متفق عليه عند أئمة الفقه الإسلامي. وقد ورد في ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة. فهناك حديث رواه الخمسة عن أنس «أن يهوديا رضّ رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل هذا بك. أفلان. أفلان؟ حتى سمّي اليهوديّ فأومأت برأسها فجيء باليهودي فاعترف فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرضّ رأسه بحجرين» «1» .
وحديث رواه البخاري وأبو داود عن أنس أيضا «أنّ ابنة النضر لطمت جارية فكسرت ثنيّتها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص» «2» . وحديث رواه الشيخان عن أنس «أن أخت الربيع أمّ حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال القصاص القصاص، فقالت أم الربيع يا رسول الله أيقتصّ من فلانة والله لا يقتصّ منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله، قالت والله لا يقتصّ منها أبدا فما زالت حتى قبلوا الدية فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» «3» . وحديث أخرجه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقدني فقال له حتى تبرأ ثم جاء إليه ثانية فقال أقدني فأقاده ثم جاء فقال يا رسول الله عرجت، فقال له قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى رسول الله عن أن يقتص من جرح
__________
(1) التاج ج 3 ص 7- 8. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه وروى ابن كثير الحديث بصيغة أخرى ولكن جوهر الحديث واحد.(9/137)
حتى يبرأ صاحبه» وقد صارت هذه الأحاديث- وربما كان هناك غيرها من بابها- مستندا لاتفاق أئمة الفقه على أن قصاص الجروح شرع إسلامي أيضا على ما يستفاد من كلام المفسرين وبخاصة ابن كثير والخازن.
والذي يتبادر لنا بناء على ما ذكرناه قبل أن ما جاء في هذه الأحاديث لا يعدّ دليلا على صحة قاعدة (شرع من قبلنا شرع لنا) وبالتبعية على أن شريعة التوراة هي شريعة لنا. وكل ما في الأمر أنه تشريع نبوي في أمور سكت عنها القرآن ويمكن أن يكون مستوحى من هذه الشريعة.
ومن الجدير بالذكر أن الطبري وهو من أقدم من وصل إلينا كتبهم في التفسير وهو من رجال القرن الثالث الذي كان بعض أئمة الفقه من رجاله أيضا لم يذكر هذه القاعدة ولم يذكر أن أئمة الفقه قد استندوا إليها في اتفاقهم على قصاص الأطراف والجروح. بل لم يذكر ذلك البغوي من رجال القرن الخامس. وأول من رأيناه يشير إلى شيء منها الزمخشري من رجال القرنين الخامس والسادس في سياق الآية [48] من السورة حيث قال إن هناك من قال إن هذه الآية دليل على أننا لا نتعبّد بشرع ما قبلنا. حيث يفيد هذا أن هذه القاعدة حديثة نوعا في أصول الفقه الإسلامي. والله أعلم.
وخامسا: في صدد تنفيذ قصاص الجروح. وقد ذكر ابن كثير أن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل لا يرون على المجني عليه شيئا إذا اقتصّ من الجاني فمات. وأن هذا هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. وأن أبا حنيفة يذهب إلى أن الدية تلزم المجني عليه إذا مات الجاني من اقتصاصه استنادا إلى أقوال بعض علماء التابعين. وإلى هذا فقد ذكر هذا المفسر أن هناك من قال بسقوط دية الجرح من الدية الكاملة.
ويفيد هذا في الوقت نفسه أن أئمة الفقه الإسلامي متفقون على أن المجني عليه هو صاحب الحقّ بمباشرة القصاص من الجاني.
وقد يكون في الحديث المروي عن الرجل الذي ضربه رجل آخر في ركبته(9/138)
وأقاده النبي صلى الله عليه وسلم من ضاربه تأييد لذلك. ولقد كان هذا بتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الدولة والمسلمين حيث تكون القاعدة أن يجري هذا بتأييد وتمكين وإشراف وليّ الأمر والسلطان. بل يتبادر لنا أن ما روي كان متساوقا مع عادات ومفاهيم أهل بيئة النبي.. وأنه ما دام ذلك قد تمّ بتمكين النبي صاحب السلطان فإن للسلطان الإسلامي أن يجعل مباشرة القصاص بإشرافه وأن لا يدعه هملا قد يؤدي إلى ما ليس حقّا وما فيه تجاوز وظلم وضرر وجنف. ولقد فرع الفقهاء على هذا التشريع فاتفقوا على ما يستفاد من ابن كثير على أن الجراح التي يكون فيها مفصل هي التي يكون فيها القصاص كاليد والرجل والكفّ والقدم. أما الجراح التي تكون في العظم باستثناء السنّ فمنهم من أوجب فيه القصاص إذا لم يكن من ذلك خطر على حياة الجاني ومنهم من لم يوجبه استنادا إلى أقوال علماء التابعين. أما السنّ فهم متفقون على القصاص فيه.
وسادسا: في صدد الحثّ على العفو في الجروح:
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في هذا الباب. منها حديث رواه الطبري عن أبي السفر قال (دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار فاندقت ثنيته فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألحّ عليه قال معاوية شأنك وصاحبك، وكان أبو الدرداء عند معاوية. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه لله إلّا رفعه الله درجة وحطّ عنه خطيئة به «1» فقال له الأنصاري أنت سمعته من رسول الله؟ قال سمعته أذناي ووعاه قلبي، فخلى سبيله فقال معاوية مروا له بمال) والحديث أيضا يؤيد كون المباشرة في الاقتصاص للمجني عليه بتأييد السلطان. ومن ذلك حديث رواه الطبري عن ابن الصامت قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جرح في جسده جراحة فتصدق بها كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به» . ومن ذلك حديث رواه الطبري عن عدي بن ثابت قال «هتم رجل
__________
(1) هذا الحديث ورد في التاج برواية الترمذي بهذا النص «عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدّق به إلّا رفعه الله به درجة وحطّ عنه به خطيئة» التاج ج 3 ص 32 ومعنى فيتصدق به يعفو عنه.(9/139)
على عهد معاوية فأعطي دية فلم يقبل ثم أعطي ديتين فلم يقبل ثم أعطي ثلاثا فلم يقبل فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله قال فمن تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد فتصدق الرجل» .
وفي هذه الأحاديث التي وإن كانت لم ترد في الكتب الخمسة متساوقة مع الحديث الذي يرويه الترمذي تأييد لتأويل جملة فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ بأنها تعني أن الكفارة لمن يعفو. ومن الجائز أن تكون الجملة تعقيبا أو تنبيها قرآنيا مباشرا فأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حديث رواه ابن ماجه وأورده ابن كثير جاء فيه «أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية فقال يا رسول الله أريد القصاص فقال له خذ الدية بارك الله لك فيها» . وهناك حديث مهم في هذا الباب رواه أبو داود والنسائي عن أنس قال «ما رأيت رسول الله رفع إليه شيء فيه قصاص إلّا أمر بالعفو» .
ففي هذه الأحاديث تلقين قوي بوجوب العدول عن القصاص في الجراحات والتسامح فيها.
وسابعا: في دية الجراحات:
ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة عن دية الجراحات. منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في دية الأصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكلّ إصبع» «1» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع الدية كاملة وإن جدعت ثندؤته فنصف العقل وفي اليد إذا قطعت نصف العقل وفي الرجل نصف العقل. وفي المأمومة (وهي الشجة التي تصل إلى جلدة تسمى أم الدماغ) ثلث العقل والجائفة (وهي الشجة التي تصل إلى جوف الرأس والبطن والظهر ولم تقتل) مثل ذلك. وفي الأصابع في كلّ إصبع عشر من الإبل وفي
__________
(1) التاج ج 3 ص 13.(9/140)
الأسنان في كل سنّ خمس من الإبل» «1» . وحديث رواه أبو داود والنسائي كذلك عن كتاب أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن جاء فيه «أنّ في النفس الدية مائة من الإبل وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقّلة (وهي الشجة التي يتكون بسببها قشور على العظم دون اللحم) خمس عشرة من الإبل وفي كل إصبع من اليد والرجل عشر من الإبل وفي السنّ خمس وفي الموضحة (وهي الجرح الذي يرفع اللحم عن العظم) خمس وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار» «2» . وحديث رواه كذلك أبو داود والنسائي جاء فيه «قضى النبي صلى الله عليه وسلم في العين العوراء السادّة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلّاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السنّ السوداء إذا نزعت بثلث ديتها» «3» . ومنها حديث رواه أبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه «أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنّا قوم فقراء فلم يجعل عليهم شيئا» «4» .
ففي هذه الأحاديث تتمة للتشريع النبوي في قصاص الجروح وفيها تخفيف كبير بالنسبة لما كتب على بني إسرائيل في التوراة وذكر في الآية. لأنه ليس هناك دية بدلا من القصاص. وهذا فضلا عن ما في الأحاديث السابقة من تلقين بالعفو والتسامح وحديث الترمذي بخاصة جدير بالتنبيه ومنطو من دون ريب على تلقين مستمر المدى.
__________
(1) التاج ج 3 ص 13.
(2) المصدر نفسه ص 13- 14 وجملة على أهل الذهب ألف دينار تعني قيمة الدية الكاملة.
وجملة (بثلث ديتها) تعني أن الدية في هذه الأعضاء المعطوبة هي ثلث مثلها إذا كانت سليمة من العطب.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه ص 12.(9/141)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
والمتبادر أن التقدير النبوي للدية متأثر بالظروف والاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية في ذلك الوقت. وقد يكون والحالة هذه مساغ للقول إن لولي أمر المسلمين حقّ الاجتهاد في التقدير بالنسبة للظروف والاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية في وقته والله أعلم.
وثامنا: لقد استطرد الطبري إلى مسألتين. أولاهما نجاة الجاني من عقوبة الآخرة إذا اقتصّ منه أو أدّى دية ما جنت يده. أو عفا المصاب عنه. فقال إن هذا هو كفارته ولا عقوبة أخروية عليه على ما ثبت من حكم رسول الله في ذلك. وهذا حقّ وصواب استنادا إلى أحاديث رسول الله التي أوردناها قبل والتي ذكر فيها أن الله أعدل من أن يثني عقوبة على عبده. أما الثانية فهي ما يمكن أن يحدثه شخص في آخر من جروح خطأ بدون عمد. وقد قال الطبري إن الله سبحانه قد وضع عن عباده جناح ما أخطأوا ولم تتعمده قلوبهم «1» فلا محل لقصاص فإن عفا المصاب فيها وإلا فلا يجب على الجاني غير الدية. وهو اجتهاد وجيه. ولعلّه قاسه على القتل الخطأ الذي لا يستوجب قصاصا بل دية إن لم يعف أهل القتيل على ما مرّ شرحه في سياق الآية [42] من سورة النساء.
وقد تكون الحالة هنا من باب الأولى. وقد يرد سؤال عما إذا لم يجد الجاني دية. فآية النساء شرعت في مثل هذه الحالة صيام شهرين متتابعين توبة من الله والفرق عظيم بين جرح غير مميت وبين إزهاق روح. وقد يكون في صيام الجاني مدة ما توبة له والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) .
__________
(1) ورد هذا المعنى في آية سورة الأحزاب 5.(9/142)
تعليق على الآية وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا:
(1) تقريرا بأن الله قد أرسل بعد أنبياء اليهود وتوراتهم عيسى ابن مريم مصدقا ومؤيدا للتوراة وآتاه الإنجيل أيضا. وفيه هو الآخر نور وهدى وموعظة لمن يخشى الله ويتقيه ومصدق وموقت في الوقت نفسه للتوراة التي نزلت قبله.
(2) وإيجابا على أهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه وإنذارا بأن من لم يحكم كذلك فهو فاسق خارج عن أمر الله.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا في مقام الاستطراد حيث اقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكر عيسى عليه السلام وإنجيله بعد ذكر التوراة وأنبياء بني إسرائيل وإيجاب الحكم بالإنجيل على النصارى بعد إيجاب الحكم بالتوراة على اليهود. والمتبادر تبعا لذلك أن تكون الآيتان نزلتا عقب الآيات السابقة لها مباشرة. والله أعلم.
وجملة وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ تعني آثار النبيين المذكورين في الآية [44] وهذا يعني أن المقصود بكلمة النبيين هم أنبياء بني إسرائيل ويؤيد ما قلناه قبل في سياق شرح هذه الآية.
وجملة وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قوية التأييد للرأي الثاني الذي وجهناه في الفقرة الخامسة في سياق الآيات السابقة وعدم صحة قاعدة (شرع من قبلنا شرع لنا) كما هو المتبادر.
ولقد قرئت اللام في كلمة وَلْيَحْكُمْ بالسكون على معنى الأمر، كما قرئت بالكسر بمعنى (كي يحكم) . وكلتا القراءتين صحيحة المعنى في مقامها. غير أن جملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أولا والآية [68] من(9/143)
هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل ثانيا مما يرجح القراءة الأولى.
ولقد رأينا السيد رشيد رضا يورد زعم النصارى أو مغالطتهم بأن هذه الجملة تعني أنهم غير مخاطبين بالقرآن وحكمه. وهذا الزعم غير مستقيم. لأن كل ما تعنيه الجملة بالنسبة للنصارى في زمن النبي ومن بعده أن عليهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بنصرانيتهم أن يحكموا بما في الإنجيل ويسجّل عليهم الفسق إذا خالفوه في أحكامهم. أما كونهم مخاطبين في القرآن ومدعوين إلى الإيمان به وبالرسالة المحمدية ففي القرآن آيات عديدة في ذلك من أقربها آيات هذه السورة [15- 16] و [19] .
وهذه الجملة تؤيد كما يتبادر لنا وذكرناه في سياق تعليقنا على الإنجيل في سورة الأعراف أنه كان في أيدي النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنجيل لعيسى لا بدّ من أنه كان يحتوي ما أنزله الله عليه من وصايا وتعاليم وأحكام. ومن الجدير بالذكر أن في إنجيل مرقس المتداول اليوم عبارات صريحة بأنه كان لعيسى إنجيل وأمر تلامذته بالتبشير به. وفي رسائل بولس ذكر لهذا الإنجيل أيضا «1» . وليس في أيدي النصارى إلّا الأناجيل التي كتبها كتّابها بعد وفاة عيسى وضمنوها سيرته.
وينطوي في الجملة أن للنصارى الذين هم في نطاق السلطان الإسلامي حق التقاضي في قضاياهم فيما بينهم أمام قضاتهم كما هو الأمر بالنسبة لليهود على ما شرحناه قبل. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه وبخاصة في الإيجاب على السلطان الإسلامي ملاحظة التزامهم لأحكام الإنجيل وتعاليمه في قضاياهم. وإذا كان يمكن أن يقال إن إنجيل عيسى مفقود وهو ما يقال بالنسبة لتوراة موسى أيضا فما قلناه في صدد الحالة بالنسبة لليهود يصح قوله هنا أيضا من حيث إن في الأناجيل المتداولة أشياء كثيرة من أقوال وتعاليم ووصايا وأحكام معزوة إلى عيسى أو إلى الله عن لسانه عليها سمة الوحي. فيصحّ أن يترك لهم هذا على أن يكونوا في نطاقه
__________
(1) الإصحاح 1 و 16 من إنجيل مرقس والإصحاح 1 من رسالة بولس إلى أهل روما والإصحاح 9 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس.(9/144)
وحسب. ومن الجدير بالذكر أن في الأناجيل المتداولة ما يفيد أن شريعة التوراة تظل شريعة للنصارى مما لم ينسخه عيسى رأسا أو بأمر الله. فيكون لهم أن يتحاكموا أيضا بشريعة التوراة والله أعلم.
ولقد رأينا ابن كثير يذكر في سياق تفسير الجملة التي نحن في صددها أنها توجب على النصارى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن الإنجيل يحتوي بشارة به.
ومع وجاهة هذا القول في ذاته فالمتبادر أن الجملة هي في صدد التحاكم القضائي لأن هذا هو مقتضى السياق. ودعوة القرآن للنصارى إلى الإيمان برسالة النبي وكونها لهم في جملة الناس وإيجاب الإيمان بها عليهم وتقرير كونهم يجدون صفاته في التوراة والإنجيل وكون عيسى قد بشّر به قد انطوى في نصوص قرآنية بأسلوب أصرح. وقد فهمها طوائف كبيرة من النصارى على هذا الوجه وآمنوا بها على ما شرحناه في سياق تعليقنا على الآية [157] من سورة الأعراف وغيرها.
هذا وهناك مسألة قد تتفرع عن السماح لليهود والنصارى بالتقاضي فيما بينهم وفق كتبهم وهي حالة غير المسلمين الذين يعيشون في كنف السلطان الإسلامي ذميين ومعاهدين فإنهم قد لا يكونون جميعا يهودا ونصارى وقد يكون منهم من هو منتسب إلى ملل أخرى. ويتبادر لنا أن حكمة اختصاص اليهود والنصارى والتوراة والإنجيل بالذكر هي كونهم الذين كان للعرب بهم الاتصال الأوثق والأوسع قبل الإسلام. وقد ألممنا بمسألة مماثلة في سياق الآية الخامسة من هذه السورة ونقول هنا ما قلناه هناك إنه إذا ادّعت ملّة من الملل التي تعيش في كنف السلطان الإسلامي أن عندها كتابا موحى به من الله إلى أحد أنبيائها فيه شرائع لها وأظهرته وكان عليه سمة من سمات الكتب السماوية بقطع النظر عما يكون فيه من مخالفات للقرآن لأن هذا شأن الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى أيضا فليس للمسلمين أن يكذبوها ويصحّ أن يعاملوا أهلها في هذه المسألة على ذلك الأساس أيضا. أما إذا كان هناك ملّة ليس لها كتاب تدعي أنه سماوي منزل على نبي دون دليل قوي من واقع ونصّ فينطبق عليها وصف الجاهلية الوارد في الآية [50] التي تأتي في(9/145)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
السلسلة التالية ويكون الشرع الإسلامي هو الذي يجب القضاء به في قضاياها والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
. (1) شرعة ومنهاجا: الشرعة بمعنى الشريعة والمنهاج هو الطريق والسبيل والسنّة المبينة. والمستلهم من روح الآيات أن الكلمتين في مقامهما بمعنى القواعد والأحكام العملية وطريقة السير في تنفيذها والجري عليها.
عبارة الآيات واضحة كذلك. وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فأولا: قد آذنته أن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق مصدقا ومؤيدا لما أنزله سابقا من الكتب ورقيبا مهيمنا عليها وضابطا ومرجعا لها.
وثانيا: قد أمرته بأن يحكم بين الذين يتقاضون لديه من أهل الكتاب بموجب ما أنزل الله إليه وأن لا يسايرهم في أهوائهم ومآربهم مسايرة تصرفه عن الحق الذي جاءه.
وثالثا: قد قررت أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة في شرائعها وطرائق تنفيذها ولكن حكمته اقتضت أن يكون لكل منهم أو لكل دور وظرف من أدوارهم وظروفهم شرائع وطرائق ليختبرهم بها في كيفية تصرفهم فيما يرسم لهم من حدود وقيود وأحكام.(9/146)
ورابعا: قد هتفت بالمخاطبين ليتسابقوا بناء على ذلك في الخيرات والفضائل. فإن مرجعهم إلى الله عز وجل. وسوف ينبئهم بما كانوا فيه يختلفون فيظهر المحقّ من المبطل والمهتدي من الضالّ.
وخامسا: قد عادت فأمرت النبي ثانية بأن يحكم بينهم بما أنزل الله وبأن لا يسايرهم ولا يتبع أهواءهم وميولهم وبأن يكون على حذر من تدليسهم فلا يفتنوه ولا يجعلوه ينحرف عن بعض ما أنزل الله ويتساهل معهم.
وسادسا: قد أهابت به بأن لا يحزن ولا يعبأ بهم إن هم أعرضوا عن قبول حكمه وفق ما أنزل الله. فإن إعراضهم ناشىء عما في نفوسهم من خبث ودنس قضت إرادة الله بأن يعذبهم عليه. فكثير من الناس فاسقون وخارجون عن أمر الله وحكمه. وهم من الجملة فلا موجب للحزن والاغتمام.
وسابعا: قد تساءلت تساؤلا إنكاريا فيه معنى التنديد عما إذا كانوا يبغون أن يحكم النبي بينهم بحكم الجاهلية وعرفها ويدع حكم الله.
تعليق على الآية وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وأحكام وما ينطوي في جملة وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ من ضابط للعقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب السماوية
ولقد روى المفسرون «1» أن الآية الثانية نزلت في جماعة من زعماء اليهود وأحبارهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له إننا أشراف قومنا وأحبارهم وبيننا وبين بعض قومنا خصومات ونريد أن نتحاكم إليك فإذا قضيت لنا عليهم آمنّا بك وصدقناك، وإذا فعلنا ذلك تابعنا قومنا، فنزلت الآية. ورووا أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة طلب يهود بني النضير من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم لهم بدية مضاعفة لقتلاهم
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(9/147)
على بني قريظة لأنهم أشرف منهم وفاقا لتقاليد الجاهلية فأبى فنزلت الآية. والرواية الأخيرة رويت في مناسبة الآيات [41- 43] أيضا على ما ذكرناه قبل. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمستلهم من روح الآيات ومضمونها ونظمها وعطفها على ما قبلها أنها وحدة تامة نزلت معا وأنها استمرار في السياق السابق وأسبابه وتعقيب عليه وغير منفصلة عنه لمناسبة جديدة أو مستقلة مع استثناء الآيتين [46 و 47] من السياق اللتين جاءتا استطراديتين. وأنها استهدفت تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه والتسرية عنه وتحذيره من تدليس اليهود وتهويشهم كما استهدفت التنديد بهم.
ومما يلهمه روح الآيات ومضمونها أن الحكم الذي كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم به بإلهام الله في القضية التي رفعت إليه أو أريد رفعها إليه كان مغايرا لما في التوراة فاتخذ اليهود ذلك وسيلة للمشاغبة والتهويش على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أثنى بلسان القرآن على التوراة وأعلن أكثر من مرة أن القرآن جاء مصدقا ومؤيدا لها وأنه مأمور بالإيمان بما أنزل الله قبل القرآن، فاحتوت الآيات إيذانا بأن القرآن هو المرجع لكتب الله السابقة- وهذا يعني أن الكتب المتداولة في أيديهم والتي قد يكون بينها وبين القرآن مغايرة ليست عليه حجة- وأن الله تعالى قد جعل لكل أمة أو دور شرعة ومنهاجا ولم تقتض حكمته أن يجعل الناس أمة واحدة على سبيل التعليل والردّ والتوضيح.
ومما يلهمه روح الآيات وفحواها وبخاصة الأخيرة منها أن اليهود كانوا ينتظرون أو يرغبون أن يقضي النبي بينهم في القضية وفقا لتقاليد الجاهلية لأنها متطابقة مع أهوائهم- وهذا مما تضمنته الرواية المروية لنزول الآية الثالثة- فكان موقف النبي مخالفا لذلك وجاءت الآية لتندد بهم ولتهتف مستنكرة عما إذا كان يصح أن يكون حكم ما أحسن من حكم الله!.
ولقد تعددت الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي التي أوردها المفسرون في تأويل جملتي ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ(9/148)
ووَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ حيث قيل في الأولى إنها بمعنى مؤيد لما قبله من الكتاب. أو متطابق معها. أو أن كل شيء فيه عنها هو الصدق والحق. وحيث قيل في الثانية إنها بمعنى الشاهد والرقيب والأمين والمؤتمن على الكتب السابقة وهناك من جعل الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يكون كل ما تقدم صفة النبي ومهمته. مع التنبيه على أن الجمهور على أن الضمير عائد إلى القرآن، وهو الأوجه.
والمتبادر لنا أن الجملتين تعنيان في مقامهما أن القرآن قد جاء ليؤيد ما كان قبله من كتب الله ويتطابق معها ويكون على ما في أيدي أهل الكتاب منها الضابط والمرجع والرقيب. فما جاء في الكتب المتداولة في أيديهم المنسوبة إلى الله من أسس ومبادئ وتلقينات مطابقا لما جاء في القرآن من ذلك أو غير متناقض معه فيجوز أن تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة. وما جاء فيه ولم يكن فيها من ذلك يكون هو الحق. وهذا التوجيه مؤيد بما جاء في الآيتين [15 و 16] من هذه السورة ثم بما جاء في آية سورة النمل هذه إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وفي آيات سورة النحل هذه تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) .
ويكون هذا الضابط بهذا المعنى هو ضابط العقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب المتداولة التي تحتوي كلاما مبلغا عن الله بلسان أنبيائه. لأنه ليس بين الكتب المتداولة اليوم كتب يمكن أن يكون عليها وصف كتاب الله تعالى كما يصدق على القرآن المبلغ من النبي المنزل عليه مباشرة كوحي رباني المسجّل في وقت نزوله وتبليغه كذلك والمحفوظ كذلك من ذلك الوقت. في حين أن الكتب المتداولة قد كتبت بأقلام بشرية في أوقات مختلفة بعد مدة ما من الأنبياء فيها شذرات محكي تبليغها من الله تعالى مع شذرات كثيرة من أحداث الأنبياء وكلامهم وفيما هو محكي عن الله تعالى وأنبيائه فيها ما يتنزهون عنه، ويدل على أنه محرّف أو غير صحيح عنهم.(9/149)
والمتمعن في نصوص الآية الأولى بخاصة يجدها كما قلنا قبل قوية التأييد للرأي القائل أن المسلمين ليسوا مقيدين بأحكام وشرائع الكتب السابقة وإنما هم مقيدون بأحكام القرآن الذي أنزله الله على رسولهم. وقد قال رشيد رضا في تفسيره في سياق تفسير هذه الآية إنها نصّ صريح على أن (شرع من قبلنا ليس شرعا لنا) خلافا لمن قال بذلك محتجين بقوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ سورة الشورى: [13] وبقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام [90] ثم أخذ يبين ما في الاحتجاج بذلك من مآخذ بإسهاب فيه كل القوة والوجاهة والسداد.
أما واجب المسلمين تجاه الكتب السماوية السابقة فينحصر في الإيمان بما أنزل الله من كتاب وبوحدة المصدر والأهداف الرئيسية التي تجمع بين الكتب التي أنزلها الله سابقا وبين القرآن في نطاق ما شرحناه في سياق تفسير آية الشورى [15] التي تأمر النبي بأن يقول آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وآية العنكبوت [46] التي تأمر المسلمين بأن يقولوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
وقد ترد ملاحظة في صدد هذه الآيات من ناحية أخرى وهي أن في هذه الآيات وما قبلها إقرارا لأحكام التوراة والإنجيل بالنسبة لليهود والنصارى على الأقلّ أولا وتقريرا بأنها نافذة الحكم بعد البعثة النبوية ثانيا. وبأن الذين يسيرون وفقها هم على حقّ وهدى ثالثا. وقد يكون في هذا نقض لدعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والسير وفق ما أتي به من أحكام وشرائع رابعا. وجوابا على هذا نقول إن الآيات هي في صدد مشهد قضائي دار فيه جدل ودسّ وتهويش. وليست بسبيل تقرير أمور تتعلق بالدعوة المحمدية. وقد جاءت لهذا بالأسلوب الذي جاءت به لتتسق مع مقتضيات ذلك المشهد. بحيث يصح القول إن الآيات في مقامها هي في صدد شؤون قضائية متصلة بما يقوم بين الناس(9/150)
من خلاف ونزاع وفي صدد تقرير احتواء التوراة والإنجيل أحكاما ربانية صالحة للفصل فيما يقوم بين النصارى وبين اليهود الذين يظلون على يهوديتهم ونصرانيتهم من مثل ذلك. وبحيث يبدو من هذا أنه ليس من نقض ولا عدول فيها عن دعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع ما أنزل الله عليه من شرائع وأحكام. ولا سيما أن هذه الدعوة ظلت تتكرر بدون فتور في القرآن المكي والقرآن المدني وظل القرآن المكي والقرآن المدني يشير إلى انحرافهم عن دينهم وميثاق الله الذي أخذه منهم وتحريفهم لكتبهم ويندد بهم ويجدد الدعوة لهم كما ظل يسجل أثرها الإيجابي والسلبي في اليهود والنصارى على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده في مناسبات عديدة في سور سبق تفسيرها وفي آيات من هذه السورة سابقة أيضا.
وبطبيعة الحال إن تقرير صلاحية أحكام التوراة والإنجيل لحلّ ما يتكون من قضايا بين اليهود وبين النصارى الذين يبقون على دينهم ينطوي على إقرار حرية ممارسة هذه الأحكام وحرية ممارسة الطقوس الأخرى كاملة لليهود والنصارى بصفة خاصة في نطاق السلطان الإسلامي مع التذكير بما نبهنا عليه قبل من أن جمل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. ووَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. ووَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تنطوي على تلقين بحقّ السلطان الإسلامي بإجبارهم على التحاكم والعمل بمقتضى تلك الأحكام.
أما إذا أرادوا التقاضي لدى القضاء الإسلامي فالآيات صريحة النصّ بأن الحكم عليهم يكون وفاق أحكام الشريعة الإسلامية. وهذا وذاك مما جرى عليه منذ العهد النبوي وفيه من الحق والعدل والتلقين الجليل ومنح الحرية لمن يدخل في ذمة السلطان الإسلامي وعهده أو ضمن رعويته من النصارى واليهود ما هو واضح.
هذا، وفي الآيات أمران يجدر لفت النظر إليهما بنوع خاص. الأول التنبيه والتوكيد على النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب التزام ما أنزل الله والحكم به لا غير. وعدم اتباع(9/151)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
هوى المتخاصمين والحذر من الوقوع في شركهم وتدليسهم وخداعهم أو التأثر بتقاليد وعادات قديمة مخالفة لأحكام الله تعالى. حيث ينطوي في هذا تلقين جليل مستمر المدى للذين يتولون الحكم والقضاء في الإسلام. والثاني جملة فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بعد جملة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ التي قال المفسرون والمؤولون إنها موجهة بنوع خاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بعد الجملة الأولى التي عنت الجميع، وروحها يلهم صواب هذا القول حيث يسوغ القول إنها انطوت على حثّ المسلمين وقد جعل الله كتابهم هو المهيمن على الكتب السابقة ورشح دينهم ليظهره على الدين كلّه على استباق الخيرات ليبرهنوا على أنهم أهل لهذا الدين والمهمة التي حمّلهم الله إياها في نشره والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الطبري، ورواه عنه البخاري بصيغة مقاربة هذا نصها «أبغض الناس إلى الله ثلاثة. ملحد في الحرم. ومبتغ في الإسلام سنّة الجاهلية. وطالب دم امرئ بغير حقّ ليريق دمه» حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني ويوجه بنوع خاص إلى المسلمين.
وقد يرد ملاحظة مهمة في صدد الآيات جملة. وهي أن الأحكام المحددة التي أنزلها الله في القرآن معدودة. وشؤون الناس كثيرة ومتطورة ومتبدلة. وقد يكون فيها ما لم يرد نصا في القرآن. ولقد بحثنا هذا الأمر في سياق الآيتين [59 و 115] في سورة النساء وأوردنا ما رأيناه حقا سائغا في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
.(9/152)
(1) أولياء: نصراء.
(2) يسارعون فيهم: يشتدون في موالاتهم ومصانعتهم.
(3) نخشى أن تصيبنا دائرة: نخاف أن تدور علينا الدائرة في الحرب أو تقع علينا كارثة.
في الآيات:
(1) نداء للمؤمنين نهوا فيه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ونصراء.
(2) وتقرير رباني بأنهم نصراء بعضهم فقط في حقيقة الأمر وبأن من يتولاهم من المؤمنين فيعدّ منهم ويصبح في عداد الظالمين المنحرفين عن أوامر الله الذين لا ينالون رضاء الله وتوفيقه.
(3) وتنديد بفريق المنافقين مرضى القلوب الذين يسارعون ويشتدون في موالاتهم ومصانعتهم والتواثق معهم. ويقولون إنهم إنما يفعلون ذلك لحماية أنفسهم من أن تدور عليهم دائرة الحرب وتحلّ فيهم كارثة من كوارثها.
(4) وإنذار رباني توقعي ينطوي على التنديد بالمنافقين والبشرى للمؤمنين.
فعسى الله أن ينصر المسلمين وييسّر لهم فتحا وفرجا وحدثا ليس في الحسبان فيخزى المنافقون ويندموا على ما أسروا في أنفسهم. ويشمت المؤمنون بهم حينئذ ويسألونهم على سبيل الشماتة والاستخفاف عن نتيجة الأيمان المغلظة التي حلفها لهم من اتخذوهم أولياء وسارعوا فيهم وصانعوهم من أهل الكتاب وجدواها.
وتعقيب أو جواب على ذلك بأنها قد ذهبت سدى. وقد حبط جهد المنافقين وعملهم. وأصبحوا خاسرين عند الله وعند الناس.(9/153)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ... إلخ مع الآيتين التاليتين لها وما ورد في سياقها من روايات. وما فيها من صور وتلقين. وبحث في جواز التحالف مع غير الأعداء من غير المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة
والآيات كما تبدو فصل جديد. وقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات منها «أن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول اختصما وتلاحيا في صدد حلفائهم من اليهود فقال الأول إني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم، فقال الثاني ولكني لا أبرأ منهم لأني أخاف الدوائر، فلا بدّ لي منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية اليهود على عبادة فهو لك دونه قال إذا أقبل، فأنزل الله الآيات» . وقد رووا أن شيئا من ذلك وقع بين الرجلين بعد وقعة بدر أو في أثناء حصار النبي صلى الله عليه وسلم لبني قينقاع حلفاء الخزرج وأن عبد الله بن أبي بن سلول أمسك بدرع رسول الله وقال له أحسن في مواليّ فقال له ويحك أرسلني فقال له والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. إني امرؤ أخشى الدوائر. وإلى هذا فإنهم رووا أنها نزلت بعد وقعة أحد حيث قال أحد المسلمين أنا ألحق بفلان اليهودي فآخذ منه أمانا أو أتهود معه. وقال واحد آخر أنا ألتحق بفلان النصراني في أرض الشام فآخذ منه أمانا أو أستنصر معه. ورووا أنها نزلت في أبي لبابة بسبب تحذيره يهود بني قريظة من النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم حينما استشاروه وأشار إليهم بما يعني أن مصيرهم حينئذ هو الذبح.
والروايات التي تحكي أقوال ابن أبي بن سلول سواء في موقفه مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار بني قينقاع أم في ملاحاته مع عبادة بن الصامت تنطبق على الآيات أكثر من الروايتين الأخيرتين كما هو المتبادر. وفي حالة صحة رواية نزول الآيات بسبب ذلك تكون الآية الأولى بمثابة تمهيد لحكاية موقف مرضى القلوب. وتكون الآيات(9/154)
قد نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة. ولقد احتوت الآيات التي سبقت هذه الآيات صورا من مواقف اليهود وانحرافاتهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. واستدللنا منها على أنها نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة أيضا. وهكذا يمكن أن يكون تقارب ما بين ظروف نزول تلك الآيات وهذه الآيات وأن يكون وضع هذه الآيات عقب تلك بسبب ذلك. والله أعلم.
والنهي في الآية الأولى قد شمل اليهود والنصارى في حين أن الروايات من جهة وروح الآيات ثم روح آيات أخرى تأتي بعدها من جهة تفيد أن اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي. وهذا مما يؤيده واقع الأمر حينذاك من حيث كون اليهود هم الذين كانوا كتلا قوية في المدينة وكان بينهم وبين بطون الأوس والخزرج محالفات وهم الذين يمكن أن يتخذهم بعض المسلمين أولياء ليحتاطوا بولائهم ومصانعتهم من الطوارئ والدوائر دون النصارى الذين لم يكونوا كتلة قوية في الحجاز ولم يكن لهم نتيجة لذلك محالفات مع العرب في المدينة وسائر الحجاز وهذا يسوغ القول إن ذكر النصارى إنما جاء من قبيل الاستطراد والتعميم ليتناول النهي الحالات المماثلة مما جرى النظم القرآني عليه.
وفي صدد جملة بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قال الطبري إنها تعني أن بعض اليهود أنصار بعضهم الآخر وأن بعض النصارى أنصار بعضهم الآخر. وهذا وجيه يزول به ما قد يحيك في الصدر من إشكال كونها تعني تحالف اليهود والنصارى معا. وهو ما كان مغايرا لواقع الأمر حين نزول الآيات استمرارا لما كان قبل، حيث كان العداء قائما بين أهل الديانتين.
ويلحظ أن النهي عن تولي اليهود والنصارى قد جاء بدون تعليل. وفي الآيات التالية آيتان فيهما تكرار للنهي مع بعض أسبابه وهي أنهم كانوا يتخذون دين المسلمين وأذانهم وصلاتهم هزوا ولعبا. والآيات التالية هي استمرار لهذه الآيات.
وهذا يسوغ القول أن هذه الأسباب واردة بالنسبة للنهي الوارد بدون تعليل في هذه الآيات. ويسوغ القول بالتبعية أن النهي في الدرجة الأولى هو بالنسبة لمن يقف من المسلمين ودينهم هذا الموقف.(9/155)
وبالإضافة إلى ما ذكرناه فإن روح الآيات صريحة الدلالة على أن النهي موجه لفريق من المسلمين وليس للمسلمين جميعهم ككيان. ومفهوم القول ولا سيما في الظروف التي نزلت فيها الآيات هو التناصر والتحالف في الحروب على الأعداء. وقد كان المسلمون كمجموع أو كيان طرفا وكل من اليهود والنصارى طرفا. والتعليل أو بعض الأسباب التي ذكرت في سياق النهي في الآيات التالية يعني أن كلا من هذين الطرفين أي النصارى واليهود يقفان موقف السخرية والانتقاص والعداء من المسلمين ودينهم كطرف أو كيان. واحتمال تطور هذا الموقف إلى حالة حرب وارد دائما بطبيعة الحال. وهو ما كان يقع فعلا. فتحالف فريق من المسلمين مع أي منهما وهو في موقف عداء وكيد للمسلمين يعني تحالفه ضد المسلمين كمجموع وكيان. ولا يمكن أن يقع هذا من مؤمن صادق وإن وقع فمن الطبيعي أن يخرجه من صف المؤمنين إلى صف الذين يحالفهم ويناصرهم على المؤمنين. وهو ما عنته جملة وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، ولقد قال الطبري إن النهي في الآية هو عن تحالف فريق من المسلمين وتناصرهم مع النصارى واليهود على أهل الإيمان بالله ورسوله. وهذا متطابق كما قررناه آنفا.
وقد يصحّ القول والحالة هذه أنه ليس من تعارض بين نهي الآية وبين ما نبه عليه رشيد رضا في سياق الآية [38] من سورة آل عمران وأوردناه وصوبناه من جواز التناصر بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان وبين مجموعة من أهل الكتاب ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين على أعداء مشتركين. وجواز التعاهد بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان وبين مجموعة من غير المسلمين ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين تعاهد سلم أو تعاهد تعاون على أعداء مشتركين بسبيل إرهابهم.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «خرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل(9/156)
بدر فلما كان بحرّة الوبرة أدركه رجل يذكر بالجرأة والنجدة ففرح به الأصحاب فقال للنبي جئت لأتبعك وأصيب معك. فقال تؤمن بالله ورسوله قال لا. قال فارجع فلن أستعين بمشرك ثم مضى. حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فردّ عليه النبي كالمرة الأولى ثم رجع فأدركنا بالبيداء فقال كالأول فقال له النبي تؤمن بالله ورسوله. قال نعم فقال له انطلق» «1» .
ويتبادر لنا أن الموقف في ذلك الظرف موقف خاص ومختلف عما نذكره.
فالمشركون كانوا جميعهم جاهزين للرسالة النبوية وكثير منهم في موقف عدائي صريح لها. والإسلام في أول عهده. والقرآن يشنّ أعنف حملة على الشرك والمشركين وقد كان هدف الرجل الغنيمة فقط على أحسن الفروض الظاهرة.
وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مواقف أخرى. فقد عاهد اليهود حينما قدم إلى المدينة لأول مرة. ونصّ الفقرة المتعلقة بهم في كتاب الموادعة الذي كتبه دستورا للعهد الجديد الذي بدأ تحت قيادته صريح فإنه في مثابة حلف حربي حيث جاء في الكتاب المذكور «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم. وإن بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم» «2» . وبعد انعقاد صلح الحديبية بين النبي وقريش دخل بنو خزاعة كطرف مع النبي وصاروا حلفاء له ولم يكونوا مسلمين.
هذا فضلا عما كان يبرمه النبي مع مشركين وكتابيين من مواثيق وعهود سلمية بدءا أو بعد حرب مما احتوت صورا كثيرة منه كتب السيرة ومما أشارت إليه بعض آيات القرآن إشارات مقتضبة «3» .
ومن باب أولى أن يقال إنه ليس من تعارض بين النهي المنطوي في الآيات
__________
(1) التاج ج 4 ص 321.
(2) انظر ابن هشام ج 2 ص 119- 123.
(3) ابن سعد ج 2 ص 25- 56 و 119 وج 3 ص 218- 221 و 339 وابن هشام ج 3 ص 169- 221 وآيات النساء [90 و 92] والأنفال [55 و 72] والتوبة [5 و 7] . [.....](9/157)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
وبين حسن التعامل والتعايش والتعاون بين المسلمين وغيرهم إذا لم يكن بينهم حالة حرب وعداء وكان الغير كافّا لسان ويده عنهم مما قررته آية سورة الممتحنة هذه لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) .
ولقد احتوت الآيتان الثانية والثالثة بشرى تطمينية بانتصار المسلمين على أعدائهم من يهود وغير يهود وبخيبة المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويصانعونهم احتياطا للطوارىء ولقد تحققت هذه البشرى فكان ذلك من المعجزات القرآنية.
[سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
. (1) أذلة: هنا بمعنى مشفقين رحماء.
(2) أعزة: هنا بمعنى أشداء عنفاء.
(3) إذا ناديتم إلى الصلاة: كناية عن الأذان الإسلامي على ما عليه الجمهور.
وفي هذه الآيات:
(1) نداء للمؤمنين فيه تحذير من الارتداد عن دينهم وإنذار لهم وهوان ذلك على الله إن هم فعلوه، فارتدادهم لن يضرّ الله وإنما يضرّهم. وإن الله لقادر في مثل هذه الحالة على الإتيان بمؤمنين آخرين مخلصي الإيمان يحبهم ويحبونه. رحماء(9/158)
مشفقين على إخوانهم أشداء قساة على أعدائهم. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ولا دوران دائرة.
(2) وتقرير على سبيل التعقيب على النهي والتحذير وجّه فيه الخطاب إلى المؤمنين أيضا فلا يصح أن يكون لهم ولي غير الله ورسوله والمؤمنين المخلصين القائمين بجميع واجباتهم نحو الله والناس بالصلاة والزكاة. فهم فقط أولياؤهم حصرا. وإن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين المخلصين هو من حزب الله وإنّ حزب الله هو الغالب.
(3) ونهي آخر موجه للمؤمنين، كذلك بعدم اتخاذ أهل الكتاب والكفار الذين يتخذون دينهم هزوا ولعبا أولياء. وحثّ لهم على تقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا والتزام أوامره ونواهيه.
(4) وبيان تذكيري ببعض تصرفات الذين ينهون عن اتخاذهم أولياء. فهم إذا أذّن المؤذن إلى الصلاة اتخذوا ذلك وسيلة للسخرية والغمز. وهم إنما يفعلون ذلك لأنهم قوم قد ضلّت عقولهم عن فهم الحقّ واتباعه والوقوف عنده.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... إلخ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين. وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية
لقد روى المفسرون روايات عديدة ومتنوعة في نزول هذه الآيات وفيما تعنيه. فروى الطبري عن الحسن ومجاهد وغيرهما أن الآية الأولى هي في حقّ الذين ارتدوا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حقّ أبي بكر وأصحابه الذين جاهدوا فيهم وردّوهم إلى الإسلام. وقال الطبري إن في الآية وعيدا لمن سبق في علم الله أنه سيرتدّ بعد وفاة رسول الله من أهل الوبر والمدر وقيام من هم خير منهم بنصرته ووفّاهم بوعده لهم ووفّى المرتدين بوعيده.(9/159)
وروي مع ذلك عن عياض الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أومأ إلى أبي موسى الأشعري وقال هؤلاء قومك أو هؤلاء قوم هذا. وروى الطبري عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر أن الآية [55] نزلت في علي بن أبي طالب لأنه تصدّق وهو راكع. وعن ابن عباس أن الآيات [57- 61] نزلت في رفاعة بن زيد التابوت وسويد بن الحرث اليهوديين اللذين كانا أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهم. وهناك رواية تذكر أن الآيات [54 و 55] نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم هو وبعض اليهود فقطع سائر اليهود موالاتهم لهم فأنزل الله الآيات لتطمين الذين أسلموا من اليهود. وقد أورد البغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري هذه الروايات. منهم من أوردها جميعها ومنهم من أورد بعضها ومنهم من عزاها إلى الطبري ومنهم من أوردها من طرق أخرى.
وبينما يروى الطبري أن الآية [54] عنت أبا موسى الأشعري وقومه يروي ابن كثير مع هذه الرواية رواية عن جابر بن عبد الله بأنها عنت قوما من اليمن ثم من كنده ثم من السكون ثم من تجيب. كما يروى النيسابوري حديثا عن النبي يفيد أنها عنت سلمان الفارسي وقومه.
ومفسرو الشيعة ورواتهم وعلماؤهم يعلّقون أهمية كبيرة على هذه الآيات وبخاصة الآيات [54 و 55 و 56] ويرون فيها على ضوء أحاديث وروايات ينفردون في روايتها نصّا قرآنيا على ولاية علي رضي الله عنه وأولاده للمؤمنين وإمامتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم. وهذا ما يجعلنا نسهب شيئا في شرح هذا الأمر لوضع الأمر في نصابه الحق إن شاء الله.
فمما أورده الطبرسي أحد مفسريهم والمعتدلين منهم «1» رواية عن علي بن إبراهيم بن هاشم أن الآية الأولى نزلت في مهدي الأمة وأصحابه وأوّلها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصب حقهم. وقد عقب المفسر على الرواية قائلا وينصر هذا القول كون ما جاء في فقرتها الثانية فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
__________
(1) في تفسيره المسمّى مجمع البيان.(9/160)
لم يكونوا موجودين عند نزولها ويتناول القول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة. وروى المفسر نفسه أيضا رواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر أنها في أمير المؤمنين عليّ وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين. وعقب المفسر على هذا بسبيل تدعيم الرواية قائلا إن النبي صلى الله عليه وسلم وصف عليا رضي الله عنه الوصف الوارد في الآية الأولى بلفظ «يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله» في حديث صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حيث قال «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده» «1» ثم أعطاها عليا. ثم استمر المفسر فقال أما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدّة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف فيه لومة لائم الذي جاء في الآية فمما لا يمكن أن يدع عليّ عنه بما ظهر من مقاماته المشهورة.
ويروي الطبرسي عن علي أنه قال يوم البصرة أي اليوم الذي جرى حرب الجمل فيه بين عليّ وأنصاره وعائشة وطلحة والزبير وأنصارهم والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم. يريد القول بذلك الذين عنتهم الآية الأولى لم يكونوا موجودين وإنما جاؤوا بعد النبي. وإن عليا قاتل ذلك اليوم محققا ما في الآية.
ويروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال «يرد عليّ قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول يا ربّ أصحابي أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى «2» .
__________
(1) في التاج ج 3 ص 293- 294 حديث فيه شيء من ذلك رواه الشيخان عن سلمة بن الأكوع بهذا النص «كان عليّ قد تخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا فقال أنا أتخلف، فخرج فلحق بالنبي. فلما كان مساء الليلة التي فتح الله خيبر في صباحها قال رسول الله لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه الله ورسوله أو قال يحبّ الله ورسوله يفتح عليه. فإذا نحن بعليّ وما نرجوه فقالوا هذا عليّ فأعطاه رسول الله الراية ففتح عليه» . وهناك حديثان آخران يرويهما الشيخان بعد هذا الحديث وفي نفس المناسبة فيهما هذا الوصف.
(2) هناك حديث يرويه الشيخان عن سهل بن سعد فيه شيء من ذلك هذه صيغته «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض. من مرّ عليّ شرب. ومن شرب لم يظمأ أبدا.
وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم منّي فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» وفي رواية البخاري قلت وما شأنهم قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى. التاج ج 5 ص 344 و 345.(9/161)
ولقد أورد هذا المفسّر الرواية التي أوردها الطبري عزوا إلى أبي جعفر في صدد الآية [55] بتفصيل مثير عن السدي عن غيابة بن ربعي قال «بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول قال رسول الله إذ أقبل رجل معمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول الله إلّا قال الرجل قال رسول الله فقال له ابن عباس سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه وقال يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري. سمعت رسول الله بهاتين وإلّا صمّتا ورأيته بهاتين وإلّا عميتا يقول «عليّ قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ومخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال اللهم اشهد. إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا. وكان عليّ راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختّم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين رسول الله. فلما فرغ رسول الله من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم إن أخي موسى سألك فقال قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) فأنزلت عليه قرآنا ناطقا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. اللهم وأنا محمّد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر فو الله ما استتمّ رسول الله الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربّه فقال يا محمد اقرأ قال وما أقرأ قال اقرأ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» . ومع أن الرواية تذكر أن النبي كان يصلي حينما تصدق عليّ بخاتمه فإن المفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن النبي خرج إلى المسجد والناس بين قائم(9/162)
وراكع فبصر بسائل فقال له هل أعطاك أحد شيئا قال نعم خاتم من فضة فقال من أعطاكه قال ذلك القائم وأومأ إلى علي فقال على أي حال أعطاكه قال وهو راكع فكبّر النبي ثم قرأ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.
ومما أورده المفسر الشيعي الكاشي في سياق الآيات رواية عن الإمام الصادق في سياق تفسير الآية [55] جاء فيها أنها في حقّ إمامة علي وأولاده إلى يوم القيامة وإنه هو المقصود. بوصف الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وأنه كان عليه حلّة قيمتها ألف دينار كان أهداها إليه النجاشي فجاء سائل إليه وهو راكع فقال السلام عليك يا وليّ الله وأولى المؤمنين من أنفسهم تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه. فأنزل الله الآية وصير نعمة أولاده بنعمته. فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله. وإن السائل الذي سأل أمير المؤمنين هو من الملائكة. والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة» وروى عن الصادق عن أبيه عن أجداده (إنه لما نزلت الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا التي عنت بجملة وَالَّذِينَ آمَنُوا عليا اجتمع نفر من أصحاب رسول الله في المسجد فقال بعضهم إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها وإن آمنا فإن هذا ذلّ حين يسلط علينا علي بن أبي طالب فقالوا قد علمنا أن محمدا صادق فيما يقول. ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا قال فنزلت هذه الآية يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [النحل: 83] يعني ولاية علي وأكثرهم الكافرون بها.
ومما أورده محمد العلوي في تفسيره أن الآية [55] نزلت في علي عليه السلام وإن صيغتها تدل على إمامته دون سواه للحصر. وعدم اتصاف غيره بهذه الصفات. وقد جاءت في صيغة الجمع أي وَالَّذِينَ آمَنُوا للتعظيم أو لدخول أولاده الطاهرين معه فيها) «1» .
__________
(1) ما أوردناه من روايات المفسرين الشيعة نقلناه من تفسير مجمع البيان للطبرسي ومن الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي. ولا نشك في أن مفسري الشيعة الآخرون قد أوردوا هذه الروايات وغيرها من بابها لتوكيد كون الآيتين [55 و 56] هما في صدد إمامة علي وأولاده رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.(9/163)
وتعليقا على الأحاديث والروايات نقول إن معظمها لم يرد في كتب الصحاح وما ورد منها فيها مثل حديث «لأعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله» وحديث الحوض لم يذكر فيها أية صلة بينها وبين الآيات حيث يبدو أن إيرادها في مناسبة الآيات هو من قبيل التطبيق الاجتهادي. وهذا يقال في صدد صرف الآيات إلى قتال أبي بكر للمرتدين. ونرجح أن الرواية التي أوردها الطبري عن الإمام أبي جعفر مصنوعة. ونقول هذا بالنسبة للروايات التي يرويها مفسرو الشيعة من باب أولى التي يرون على ضوئها في الآيات دلالة قرآنية على إمامة علي رضي الله عنه وأولاده من بعده ففيها كثير من التناقض والمفارقة. وطابع الصنعة غير الموفقة والهوى الحزبي بارز عليها. لا يمكن أن يخفى على عاقل مجرد عن الهوى الذي يعمي صاحبه ويصمه ويسوقه إلى التعسف والتحكم. وفيها جرأة على رسول الله وعلى علي رضي الله عنه بل على الأئمة أبي جعفر وأبي عبد الله الذين نحبّ أن ننزههم عن هذا التعسف في التأويل والكذب على الله ورسوله فيه.
والآية التي فيها يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ والتي يوردونها ليقولوا إنها نزلت في أصحاب رسول الله وقررت أن أكثرهم كافرون والعياذ بالله مكية بينما الآية التي تساق في صددها مدنية. والآيتان [55 و 56] اللتان يروون أنهما نزلتا لتقرير إمامة وولاية علي وأولاده جزء من سياق سابق ولاحق في صدد تولي المسلمين لليهود والنصارى. وهذا واضح بحيث يكون من التعسف بل من الغباء الشديد أن يقال إنهما نزلتا لحدتهما لتقرير ذلك.
ولقد أورد ابن كثير الرواية المسهبة المروية عن أبي ذر وفندها تفنيدا سديدا سواء من ناحية اقتطاع الدلالة منها على نصّ القرآن والنبي على ولاية عليّ بعد النبي أم ناحية محتواها العجيب التركيب. أم من ناحية تناقض هذا المحتوى مع(9/164)
روايات أخرى أم ناحية ضعف سندها وتهمة رواتها أم من ناحية عدم تناسبها مع السياق. وفي كتب التفسير الأخرى شيء من ذلك وإن كان ابن كثير هو الأقوى والأصرح فيه. ومما قاله الزمخشري إن الركوع لغة بمعنى الخشوع والإخبات والتواضع لله تعالى وإن معنى جملة يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حالة من الخشوع والإخبات والتواضع لله. وفي هذا ما فيه من الوجاهة. ويضع الأمر الذي يخرجه رواة الشيعة عن مداه في نصابه الحق المعقول الذي يلهمه أسلوب الآية وروحها.
ونحن نتوقف في الروايات التي تروي أن بعض هذه الآيات نزلت في اليهود الذين أسلموا ثم نافقوا أو في عبد الله بن سلام وجماعته إذا كان ذلك يعني أن هذه الآيات نزلت منفصلة عن غيرها. ونرى أن الآيات جميعها سياق واحد بسبيل توكيد نهي المسلمين عن اتخاذ الذين أوتوا الكتاب أولياء وبيان أسباب ذلك. ويلحظ أن الآية [57] شملت في نهيها أهل الكتاب والكفار حيث أريد بذلك النهي عن موالاة كل كافر من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون دين الإسلام وصلاة المسلمين وأذانهم هزوا. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود آمنوا ثم نافقوا وأن اليهود قاطعوا عبد الله بن سلام وجماعته لإسلامهم فرأى أهل التأويل الأولون في الآيات تطابقا مع ذلك وقالوا إنها في حقهم من قبيل التطبيق والاجتهاد وفي سور سبق تفسيرها ما يفيد أن من اليهود من كان يفعل ذلك مثل آية [76] من سورة البقرة والآيات [72- 73 و 85- 91] من سورة آل عمران.
وعلى ضوء كل ما تقدم نقول إن الآيات هي بسبيل نهي المؤمنين عن تولي اليهود والنصارى والكفار والتنديد بمن يفعل ذلك وإنذارهم ووصفهم بالارتداد وتوكيد كون الله ورسوله والمؤمنين الصادقين هم الأولى بالتولي وكون هؤلاء ومن يتولونهم هم المنصورون وكون الله سوف ينصر دينه بطوائف مخلصة في إيمانها مستعدة دائما للقتال في سبيل الله دون هوادة وتردد وخوف، تحب الله ورسوله ويحبهم الله ورسوله. وهكذا تبدو قوة روعة الآيات أسلوبا ومدى. ونضيف إلى(9/165)
هذا أن الآيات متصلة بما كانت عليه الحالة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند نزولها.
ونقول تعليقا على حديث الحوض إن من واجب المسلم الإيمان بما يثبت عن رسول الله من أخبار الآخرة مع استشفاف الحكمة من ذلك. والمتبادر أن من ذلك تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه من الشذوذ والارتداد عن ما رسم الله ورسوله من حدود دينية ودنيوية. وهذا مستمر التلقين بطبيعة الحال لكل مسلم بعد أصحاب رسول الله.
هذا، ومن المؤولين والمفسرين من جعل وصف ارتداد المسلم عن دينه الوارد في الفترة الأولى من الآية الأولى متحققا في تولي أهل الكتاب بسبب خلاف الدين مطلقا. ومنهم من جعل ذلك في من يتولى الأعداء المحاربين منهم وحسب.
والقول الثاني هو الأوجه الذي يتناسب أكثر مع خطورة وصف الارتداد ومع الفقرة الثانية من الآية التي تذكر أن الله سوف يأتي بأناس يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم لأن القتال إنما يرد في صدد أعداء محاربين على ما شرحناه في مناسبات عديدة في سور سبق تفسيرها. ويلحظ أن آية آل عمران [28] قالت إن المؤمنين الذين يتولون غير المؤمنين ليسوا من الله في شيء وذكر هنا أن ذلك يكون ارتدادا.
وليس من تناقض في ذلك. ولقد نهت آية آل عمران عن تولي غير المؤمنين إطلاقا. وآيات المائدة التي نحن في صددها نهت عن ذلك إطلاقا أولا ثم عادت إلى النهي مع التعليل. فيكون التعليل الذي يكون التولي والمنهي عنه به هو بالنسبة لمن يقف موقف عداء وسخرية من الإسلام والمسلمين. ويكون هذا ضابطا. وفي آيات في سورة الممتحنة يأتي هذا الضابط أقوى وأصرح على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها الذي يأتي بعد تفسير هذه السورة مباشرة.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها كسائر الآيات المماثلة عامة التوجيه والتلقين لجميع المسلمين في كل ظرف. وإطلاق عبارتها مما يقوي هذا التعميم أيضا. ومما ينطوي فيها من تلقين بالإضافة إلى النهي والتحذير: (أولا) تقبيح موالاة أي فريق من المسلمين للكائدين لأمته ودينه ومناصرتهم والاستنصار بهم(9/166)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
وخدمتهم ضد أمته ودينه في أي عمل وموقف. واعتبار ذلك ارتدادا عن الدين فضلا عما فيها من خيانة عظمى لأمته ووطنه. (وثانيا) بثّ القوة والطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين وتلقينهم أن تضامنهم فيما بينهم هو الذي يضمن لهم الفوز والنصر وأن واجبهم اللازم هو تولي بعضهم بعضا ومناصرة بعضهم بعضا. (وثالثا) وجوب تحلي المؤمنين بصفات جليلة كالاستغراق في الله ورضائه ومحبته والجهاد في سبيله. وعدم خشية أحد في ذلك. والبرّ والإشفاق بإخوانهم والشدة والعنف مع الأعداء.
[سورة المائدة (5) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
. (1) هل تنقمون منّا: هل تحقدون علينا وتضمرون لنا الحقد والغيظ.
(2) عبد الطاغوت تعددت قراءات هذه الجملة. منها ما يجعل عبد جمع عابد مثل خادم وجمعها خدم والطاغوت مضاف إليه. ومنها ما يجعل عبد فعل ماض والطاغوت مفعولا. ومنها عبدوا بدلا من عبد. والطبري رجّح القراءة الثانية. والمصحف رسم الجملة على هذه القراءة. ويتبادر لنا أن صيغة الآية تجعل القراءة الأولى أكثر وجاهة. والله أعلم.
(3) الطاغوت: هنا بمعنى الأوثان أو الأصنام. وقد وردت في هذا المعنى في آية سورة النساء [51] أيضا وقد ذكرت أسفار العهد القديم مرارا عديدة عبادة بني إسرائيل للأصنام وانحرافهم عن توحيد الله.
في هاتين الآيتين:
(1) أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال إلى أهل الكتاب على سبيل الإنكار(9/167)
والتنديد عما إذا كانت نقمتهم وحقدهم على المسلمين وغيظهم منهم ليس إلا لأنهم يعلنون إيمانهم بالله وبما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل على أنبيائه السابقين في حين أن أكثرهم منحرفون وفاسقون ومتمردون على الله.
(2) وأمر آخر بتوجيه سؤال آخر على سبيل التنديد بهم أيضا عما إذا كانوا يودون أن ينبئهم النبي عن من هم الأولى بالنقمة والعيب والنكال عند الله. وإنهم لهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعباد الطاغوت.
فهؤلاء هم شرّ مكانا وأضلّ عن السبيل القويم في الحقيقة وواقع الأمر والمنطق.
تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ والآية التالية لها
لقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا بمناسبة سؤال أورده على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود عن من يؤمن به من الرسل فقال آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فلما ذكر عيسى جحدوا وقالوا لا نؤمن بمن يؤمن به. وروى المفسرون الآخرون هذه الرواية. ومنهم من رواها بزيادة «1» وهي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم «والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرّا من دينكم» .
والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. وتقتضي أن تكون الآيتان فصلا جديدا لا صلة له بالسياق السابق مع أنهما تلهمان بقوة أنهما متصلتان اتصالا وثيقا بالآيات السابقة. وأن الانسجام بينهما شديد بحيث يصحّ القول إنهما جاءتا على سبيل التعقيب والتنديد بموقف السخرية والهزء بدين المسلمين وأذانهم وصلاتهم المحكي في آخر آية من الآيات السابقة.
__________
(1) انظر تفسير البغوي والخازن والطبرسي.(9/168)
على أن هذا لا يمنع أن يكون جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم السؤال المروي في الآية وأن يكون بدر منهم سوء أدب وبذاءة لسان في الدين الإسلامي كما بدر منهم ذلك إزاء أذان المسلمين وصلاتهم قبل نزول هذه الآيات وما قبلها فأشير إلى ذلك في معرض الكلام عن مواقفهم وواقعهم. ولقد تكررت حكاية مثل ذلك في آيات عديدة في السور السابقة «1» مما يدل على تكرر حدوثه منهم.
وفي الآيتين دلالة قاطعة على أن المقصود المباشر من أهل الكتاب هم اليهود. فهم الذين تكررت الإشارة القرآنية إلى أنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ومسخهم قردة وخنازير وإلى أنهم انحرفوا عن التوحيد إلى عبادة العجل وآمنوا بالجبت والطاغوت. وهذا قد يؤيد ما قلناه قبل من أن ذكر النصارى في السياق السابق كان على سبيل الاستطراد وأن اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي الذي نزل بسببه النهي والتحذير.
والآية الأولى قوية في أسلوبها الإنكاري والحجاجي والإفحامي على ما هو ظاهر. كما أن الآية الثانية قوية في أسلوبها التقريعي. وهذا وذاك يدلان على ما كان لموقف اليهود من إثارة واستفزاز وما كان فيه من قحة وسوء أدب اقتضت حكمة التنزيل مقابلتهم عليه بما يستحقون وبما هو من واقع تاريخهم وأخلاقهم.
وواضح أن الآيتين تدلان فيما تدلان عليه على أن اليهود كانوا مغيظين محنقين من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دعوته وانتشار دينه واشتداد قوته وبخاصة مما في ذلك من قطع الطريق عليهم وإحباط زهوهم وحجتهم وإيقافهم في موقف المتناقض المكابر لأنها تأمر بالإيمان بالله وحده وبما أنزله على الرسل السابقين.
ومما في ذلك من زعزعة لمركزهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني الذي كان لهم عند العرب وكانوا يجنون بسببه كثيرا من الثمرات المادية والأدبية. وفي
__________
(1) اقرأ تفسير آيات سورة آل عمران [72- 73] وسورة النساء [46- 53] .(9/169)
الآيات التالية تأييدات صريحة لهذا المعنى كما أن آيات عديدة في السور السابقة احتوت مثل ذلك «1» .
وهذه ثالث مرة ترد فيها الإشارة إلى مسخ بعض اليهود. غير أنها تذكر مسخهم قردة وخنازير في حين أن المرتين الأوليين في سورتي البقرة والأعراف ذكر فيهما المسخ قردة فقط. وليس في هذا تناقض أو تعديل جديد مما قد يرد على الوهم. فالإشارة القرآنية هنا وفي المرتين السابقتين لم تستهدف ذكر الحادث تاريخيا وقصصيا. وإنما استهدفت التنديد باليهود وتذكيرهم بحادث نكال وخزي رباني في بعض بني قومهم. وروحها تلهم أنهم كانوا يتناقلون خبر هذا الحادث وأن في هذا الخبر خبر مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير في آن واحد. والآيات القرآنية تتلى علنا ولم يرو أن اليهود أنكروا ذلك. ولقد أورد المفسرون روايات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في أسباب وكيفية مسخ فريق من اليهود قردة وخنازير في دور من أدوار تاريخهم في سياق هذه الآيات كما أوردوا مثل ذلك في سياق المرات السابقة مما يدل على أن ذلك كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم:
والمتبادر أن ذلك مقتبس من اليهود. ولقد علقنا على الحادث بذاته في سياق سورة الأعراف بما فيه الكفاية فلا نرى محلا للزيادة أو الإعادة.
أما عبادة الطاغوت فتوجد في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم إشارات كثيرة جدّا إلى ما كان من انحراف بني إسرائيل عن التوحيد وعبادتهم العجل والبعل وغيره من آلهة المصريين والكنعانيين والعمونيين والمؤابيين والفينيقيين وتقديمهم القرابين لها وتنديد الله تعالى بهم وإنذاراته القارعة لهم بواسطة الأنبياء ونكال الله فيهم وتسليطه أعداءهم عليهم بسبب ذلك. وهذا مبثوث في أسفار القضاة ويشوع وصموئيل والملوك وأخبار الأيام من أسفار العهد القديم بكثرة تغني عن التمثيل. وبذلك يستحكم في بني إسرائيل التنديد القرآني الذي يأتي هنا مكررا حيث ندد فيهم من أجل ذلك في آيات عديدة في سورة البقرة التي مرّ
__________
(1) اقرأ تفسير آيات البقرة [76 و 88- 91] وآل عمران [71 و 98- 100 و 119] .(9/170)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
تفسيرها. وقد جعل الخطاب في بعضها موجها إلى المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم والذين في بيئته للربط بين أخلاقهم وشذوذهم وأخلاق وشذوذ آبائهم الأولين.
ولقد ورد في الآية [51] من سورة النساء نسبة هذا الشذوذ إلى هؤلاء المعاصرين المقيمين في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر فيها بأسلوب التنديد والإنكار أنهم كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للكفار العرب إن ذلك أهدى مما عليه النبي والمؤمنون على ما جاء في الآية [60] حيث انطوى في ذلك تقرير استمرار الشذوذ والانحراف المحكي عن آبائهم في هؤلاء الأبناء أيضا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 63]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
. في الآيات:
(1) تقرير منطو على التنديد باليهود الذين هم موضوع الكلام بأنهم إذا جاءوا المسلمين أو إلى مجالس النبي صلى الله عليه وسلم قالوا صدقنا وآمنا. في حين أنهم حين دخولهم دخلوا وقلوبهم جاحدة وحين خروجهم يخرجون كفارا جاحدين. وبأن هذه هي حقيقتهم التي يعلمها الله وهو الأعلم بحقائق ما يكتمون في نفوسهم.
(2) وتقرير آخر منطو على التنديد كذلك بأن المدقق في حالهم يرى كثيرا منهم يوغلون في ارتكاب الآثام والعدوان وأكل المال الحرام دون ما تورع ولا مبالاة. وأنه لبئس العمل والخلق عملهم وخلقهم.
(3) وتحدّ ينطوي على التنديد بأحبارهم ورهبانهم بأنهم كان عليهم أن يزجروا بني ملتهم عن تلك الأخلاق السيئة. ولكنهم لم يفعلوا. ولبئس الصنيع صنيعهم.(9/171)
تعليق على الآية وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعلنونه بإيمانهم به في حين كانوا كاذبين.
والرواية لم ترد في كتب الحديث المعتبرة ومع احتمال صحة الواقعة المروية التي حكت مثلها آيات أخرى في سور أخرى «1» فإننا نرى انسجاما تاما بين الآيات واتصالا وثيقا بينها وبين الآيات السابقة سياقا وموضوعا مما يسوغ القول أنها نزلت معها جملة واحدة أو نزلت عقبها لإكمال السياق. وكل ما يمكن أن يكون أن السياق احتوى فيما احتواه إشارة إلى الواقعة المحكية في الرواية في جملة الوقائع التي صدرت منهم والأخلاق التي اتصفوا بها في معرض التنديد بهم والتحذير منهم والنهي عن موالاتهم ومصانعتهم.
وفي الواقعة المحكية من بشاعة سوء القصد ونية الكيد والدس ما هو واضح. وهذا من مشاهد مواقف اليهود الخبيثة إزاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته مضافة إلى مشاهد مواقفهم المماثلة إزاء المؤمنين. وقد تكرر هذا وذاك منهم على ما حكته آيات عديدة في سور سابقة كما قلنا. ومع ذلك فإن صدر النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتمله منهم لأنه كان في نطاق المماحكة والمكر والكلام ولم يتبدل موقفه منهم إلّا حينما تجاوزوا هذا النطاق إلى التظاهر بالعداء والتآمر مع الأعداء على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة والأنفال وآل عمران والنساء والحشر والأحزاب والجمعة والفتح.
والآية الثالثة في احتوائها معنى التنديد بأحبار اليهود وربانييهم تلهم أنه كان لهم ضلع ويد بارزة في المواقف الخبيثة التي كان يقفها اليهود فضلا عما تفيده من
__________
(1) انظر تفسير آيات البقرة [76 و 105] وآل عمران [71- 74] .(9/172)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
إغضائهم عما كان مستشريا في اليهود من أخلاق سيئة واستحلال مال الغير والعدوان عليه. فاقتضت الحكمة أن يغمزوا هذه الغمزة كأنه أريد أن يقال لهم إنه كان الأولى بهم والواجب عليهم أن ينهوا عامة بني ملتهم عن قول الإثم وأكل السحت. ولكنهم لم يفعلوا هذا أيضا. ولقد أشارت آيات أخرى إلى ضلع الأحبار والربانيين في مواقف العناد والدس والكيد والصد بصراحة «1» . وهكذا تؤيد الإشارات القرآنية بعضها بعضا. بل ولعل من الصواب أن يقال إن موقف عامة اليهود متأثر بموقف هؤلاء الرؤساء. ومن أجل ذلك استحقوا ما احتوته آيات القرآن من التنديد والتقريع بصورة عامة.
ومهما تكن الآيات في صدد اليهود فإنّ فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين من حيث تقبيح استشراء الإثم والعدوان وأكل المال الحرام بين الناس. وتقبيح سكوت الرؤساء الدينيين خاصة عن ذلك وعدم نهيهم عنه.
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
. (1) مغلولة: مقيدة. والكلمة كناية عن البخل والإمساك.
__________
(1) اقرأ تفسير آيات البقرة [44] وآل عمران [187، 188] وفي سورة التوبة آيات صريحة منها هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [31] وهذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... [34] .(9/173)
تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت:
(1) حكاية لقول اليهود يد الله مغلولة سبحانه وتعالى.
(2) وردا عنيفا عليهم: فهم المغلولة أيديهم الملعونون بما قالوا. وإن يديه لمبسوطتان ينفق كيف يشاء على من يشاء.
(3) وتقريرا لما يحدثه فيهم ما ينزل الله على نبيه من آيات حيث يزيدهم كفرا وطغيانا وغيظا وسعيا في الأرض فسادا.
(4) وتقريرا لما جازاهم الله وقابلهم على ذلك حيث ألقى بينهم العداوة والبغضاء وأطفأ نار الحرب كلما أوقدوها وأحبط كل كيد ومكر لهم. والله لا يحب المفسدين أمثالهم.
ولقد روى المفسرون أن الآية نزلت في يهودي اسمه فنحاص قال إن يد الله مغلولة بقصد الشكوى من ضيق حالة اليهود الاقتصادية بعد أن كانوا في بحبوحة وسعة.
والرواية لم ترد في الصحاح ومع احتمال صحتها فالذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وأنها احتوت الإشارة إلى هذا القول الصادر عن بعضهم والتذكير به في جملة الأخلاق التي اتصفوا بها وسوء الأدب الذي يصدر عنهم نحو الله ورسوله والمؤمنين ودينهم وصلاتهم في معرض التنديد والتحذير والنهي عن توليتهم. هذا مع التنبيه على أن نسبة القول في الآية لجميع اليهود تفيد أن القول المنسوب في الروايات إلى واحد منهم إنما كان تعبيرا عنهم جميعا. ومن هنا وجهت الحملة العنيفة عليهم جميعا.
ولقد قلنا قبل إن موضوع الكلام الأصلي في السياق السابق هم اليهود واستدللنا على ذلك من فحوى بعض الآيات فذكرهم صراحة في هذه الآية مؤيد لذلك تأييدا حاسما.(9/174)
والآية في حد ذاتها احتوت صورة بشعة عن سوء أدب يهود المدينة في حياة النبي في حقّ الله تعالى. وصورة ثانية عن شدة الغيظ الذي ملأ صدورهم من النبي صلى الله عليه وسلم وقوة مركزه وانتشار دعوته ورسوخ قدمه. وصورة ثالثة عن المكائد والدسائس التي ينصبونها ويبثونها ضده وضد دعوته ومركزه أيضا وصورة رابعة عن تطور حالتهم الاقتصادية من حسن إلى سوء.
ولعل الكلمة التي صدرت عن بعضهم وكانت كما قلنا تعبيرا عما في صدورهم جميعهم قد صدرت في ثورة من ثورات الغيظ المشتد فيهم الذي احتوت الآية إشارة إليه. والمتبادر أن التفاف الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم وازورارهم عن اليهود قد أثر تأثيرا غير يسير في نشاط اليهود الاقتصادي ومجال الاستغلال الذي كانوا يجولون فيه بين العرب وجعلهم يشعرون بالضيق بعد السعة التي كانوا يتبجحون بالغنى نتيجة لها حتى جعلهم ذلك يقولون كلمة بشعة أخرى فيها سوء أدب إزاء الله تعالى وهي إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ على ما حكته الآية [181] من سورة آل عمران فكان ذلك من أسباب هذا الغيظ أيضا. وفي هذا صورة من تطور حالهم.
ولعل في الآيات التالية قرينة ما على ذلك.
ولقد قلنا في سياق تفسير سلسلة الآيات الواردة في اليهود في سورة البقرة إن تجهمهم من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومواقفهم المناوئة له بمختلف الأساليب قد كانت متأتية من حسبانهم حساب ما سوف يكون لانتشار دعوته واشتداد قوته من أثر في المركز الممتاز الذي كان لهم بين العرب وبخاصة في المدينة اقتصاديا واجتماعيا ودينيا. وفي هذه الآية وما فيها من صور مصداق لذلك.
وبعض المفسرين قالوا إن جملة وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ هي في صدد ما بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء لا تنقطعان. وعزوا هذا القول إلى مجاهد. وقال بعضهم إنها في اليهود خاصة لأنهم كانوا منقسمين في الدين طوائف يعادي بعضهم بعضا «1» .
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي ففي بعضها قول وفي بعضها القولان.(9/175)
ومع أن العداوة والبغضاء لم تنقطعا بين اليهود والنصارى فإن القول الثاني هو الأرجح لأن الآية تصرح باسم اليهود وهي فيهم. ولقد كان بين يهود المدينة خصومات وعداء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أن منهم من كان في الجاهلية حليفا للأوس ومنهم من كان حليفا للخزرج. وكان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب ودماء، فكان حلفاء الخزرج من اليهود يقاتلون معهم الأوس واليهود المتحالفين معهم، وكان حلفاء الأوس من اليهود يقاتلون معهم الخزرج واليهود المتحالفين معهم على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [84- 85] من سورة البقرة مما فيه مصداق لما جاء في الآية عما كان بينهم من عداوة وبغضاء. وكان مثل ذلك بينهم بعد موسى عليه السلام وفي عهد دولتيهم يهوذا وإسرائيل على ما هو مستفيض في أسفار الملوك وأخبار الأيام من أسفار العهد القديم «1» . وكان مثل ذلك بعد ذلك أيضا في زمن حكم الدولة السلوقية والدولة البطليوسية اليونانيتين والدولة الرومانية والدولة المكابية على ما هو مأثور من الروايات التاريخية القديمة «2» . وقد ظلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وما يزالون منقسمين دينيّا وسياسيا وعنصريا إلى طوائف متباغضة.
وسيظل ذلك بينهم إلى يوم القيامة مصداقا لقول الله تعالى.
ولقد أشار بعض المفسرين في سياق جملة كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ إلى ما كان من غزوات قديمة ضد اليهود القدماء مثل غزوة بختنصر والمجوس وما كان تسلطهم عليهم. وذهب بعضهم إلى أن المقصود بذلك الحروب التي قامت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من مكة إلى المدينة وكانوا هم في موقف المعتدين فيها مما فصلناه في سياق تفسير سور الأنفال والأحزاب والفتح والحشر. ومهما يكن من أمر ففي الجملة إطلاق يشمل الماضي والحاضر والمستقبل معا بحيث يقال إنهم استحقوا غضب الله تعالى بعد انحرافهم واستمرارهم فيه. وكان من نتيجة ذلك عزيمة الله تعالى على إثارة العداوة والبغضاء
__________
(1) انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 130، 134.
(2) المصدر نفسه ص 234، 296.(9/176)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
بينهم وإحباط ما يثيرونه من حروب ومكائد ودسائس في الماضي وفي زمن النبي وفي المستقبل إلى يوم القيامة. وفي هذا ما فيه من وعد وبشرى ربانيين يضاف إليهما ما جاء في سورة الأعراف من عهد رباني بأن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب كما جاء في الآية [165] ثم ما جاء في آيات سورة البقرة [61 و 85] وسورة آل عمران [112] من أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضبه في الدنيا بالإضافة إلى عذابه في الآخرة. مما يجب على المسلم الإيمان به رغم ما يبدو الآن من بروز وقوة لهم وتأثيرهم في بعض دول الأرض.
فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل. وقد قال ... سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: 44 و 45] والأعراف [182 و 183] .
ولقد وقف بعض المفسرين عند كلمة يَداهُ فمنهم من أوّلها بأنها كناية عن نعم الله وبأن تثنيتها في مقام التعظيم. ومنهم من أوّلها بأنها كناية عن قدرة الله.
ومنهم من قال إن يد الله صفة من صفاته يجب التسليم بها دون البحث في الكيفية، على ما كان عليه السلف من أهل السنة. ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير الآية الأخيرة من سورة القصص فلا نرى محلّا للإعادة أو ضرورة للزيادة.
ولقد روى الترمذي والبخاري حديثا نبويا عن أبي هريرة في سياق تفسير هذه الآية جاء فيه «يمين الرحمن ملأى سحّاء لا يغيضها الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض» «1» حيث يفيد هذا أن المقصود من الجملة القرآنية تقرير كرم الله سبحانه وسخائه غير المحدودين. وهو ما تلهمه جملة بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ذاتها.
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) .
__________
(1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 91، 92.(9/177)
(1) مقتصدة: معتدلة في مواقفها أو مستقيمة. أو قليلة الانحراف.
في الآيتين:
(1) تقرير استدراكي بأن أهل الكتاب لو آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم واتقوا الله في سيرتهم لنالوا رضاء الله وجناته وغفرانه لسيئاتهم. وبأنهم لو اتبعوا التوراة والإنجيل وأقاموا أحكامهما واتبعوا كذلك ما أنزل إليهم من ربهم لا تسع عليهم الرزق ولأتاهم من كل جهة أو من فوقهم بما ينزل عليهم من مطر ومن تحتهم بما ينبت الله من متنوع النبات.
(2) وتقرير آخر بواقع حالهم من أن أعمال الكثيرين منهم وأخلاقهم سيئة معوجة منحرفة عما أنزل الله تعالى وليس فيهم إلّا القليل الذين يسيرون بقصد واعتدال. وعدم الغلوّ في المواقف أو يسيرون سيرا مستقيما.
تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر الواضح أنهما متصلتان بالآيات السابقة لهما سياقا وموضوعا.
ومع أن موضوع الحديث القريب هم اليهود فقد جاء الكلام في الآيتين عن أهل الكتاب وشملتا بذكر الإنجيل النصارى كما هو ظاهر. والذي نرجحه أن ذلك كما هو في الآيات السابقة من قبيل الاستطراد. ولا سيما أن مقام الكلام يتحمل التعميم كما يدرك ذلك عند إنعام النظر.(9/178)
والمتبادر أن الآيتين قد احتوتا ردا على شكوى اليهود من الضيق بعد السعة والعسر بعد اليسر التي عبروا عنها بتلك الكلمة البذيئة في حق الله التي حكتها عنهم الآية [64] . فما وقع هو ناشىء عن انحرافهم واعوجاجهم. وليس بسبب النبي صلى الله عليه وسلم كما زعموا ولو أنهم آمنوا كما آمن الناس وأقاموا أحكام كتب الله لا تسع عليهم الرزق ودرّت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي.
ومن المؤولين من صرف جملة وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة. والقول الأول معزوّ إلى ابن عباس. ونحن نراه الأوجه لأن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة. ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفّر الله عنهم سيئاتهم حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة، وتعضده أيضا الآيتان [15، 16] من هذه السورة حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين. وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم. فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموهما ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو القرآن.
وقد يرد إشكال آخر. فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم. وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل؟ وجوابا على هذا نقول إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف [157] التي تذكر ذلك.(9/179)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
ومن المؤولين من أوّل جملة أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ بمعنى طائفة مؤمنة مسلمة.
وقالوا إنها تعني الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى. ومنهم من أولها بمعنى معتدلة في موقفها غير مغالية في عدائها ومناوئتها وانحرافها «1» . وكلا التأويلين وجيه غير أن هناك بعض آيات فيها استثناء وفيها تنويه بالمؤمنين منهم على سبيل الاستدراك مثل آيات سورة آل عمران [113- 115] والنساء [46] و [162] والمائدة [13] مما قد يرجح الرأي الأول على الثاني. والله أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... وما روي في صددها وخاصة ما رواه الشيعة من سبب نزولها. وحقيقة هدفها ومداها
عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بوجوب تبليغ ما أنزله الله إليه.
وإيذان له بأن أي تقصير أو إهمال في ذلك يجعله غير مبلّغ لرسالة الله. وعليه أن لا يخشى في ذلك أحدا فإن الله حاميه وعاصمه من الناس. والكافرون الذين يمكن أن يأتيه أذى أو صدّ منهم لن يوفقهم الله ولن يهديهم فيما يريدون ويقصدون.
ولقد تعددت الروايات في سبب ومناسبة نزول هذه الآية والمقصود منها.
فقال الطبري إنها في صدد اليهود والنصارى الذين ذكروا في الآيات السابقة حيث أمره الله أن يستمر في تبليغهم ما أنزل الله ولا يبالي بمواقفهم المناوئة. وروى مع ذلك عن مجاهد أن الشطر الأول نزل لحدته فلما نزل قال إنما أنا واحد كيف أصنع فتجتمع عليّ الناس فنزل الشطر الثاني. وإلى هذا فقد روى عن ابن جريج أن
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. ومنهم من أورد القولين. [.....](9/180)
المقصود بها تطمينه من قريش الذين كان يهابهم. وروي عن محمد بن كعب القرظي أن جملة وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ نزلت في مناسبة مجيء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو وحده في ظل شجرة فاخترط سيفه ثم قال من يمنعك مني؟ قال:
الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب رأسه بالشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله الجملة. وروى ابن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية فأراد عمّه أن يرسل معه من يحرسه فقال: إن الله قد عصمني من الجنّ والإنس» . وروى البغوي عن الحسن أن الله لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذّبه فأنزل الله الآية. وقال البغوي بعد هذه الرواية وقيل إنها نزلت في عتب اليهود حيث دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فاستهزأوا به وقالوا تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى فسكت عنهم فنزلت.
وقيل إنها نزلت في قضية الرجم والزنا اليهودية. وقيل إنها نزلت في مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش. وقيل في الجهاد حيث كرهه المنافقون وكان النبي يمسك أحيانا عن الحثّ عليه فأنزل الله الآية. وهناك روايات يرويها الشيعة سنوردها ونعلّق عليها فيما بعد. ونعلق على الأقوال والروايات السابقة فنقول إنه لم يرد شيء منها في الصحاح. والنفس لا تطمئن إلى معظمها التي يقتضي بعضها أن تكون الآية نزلت متفرقة في مناسبات مختلفة. ويقتضي بعضها أن تكون نزلت في مكة. والتكلف والتلفيق ظاهران فيها. وإذا كان بعض الآيات المكية احتوى إشارة إلى ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وسلم من أسى وضيق بتكذيب الناس ومناوأتهم له فهذه الحالة لم تعد قائمة في العهد المدني الذي قويت فيه الدعوة وكثر المسلمون وتبدل حالهم من الضعف إلى القوة. ولم ترو رواية ما بأن الآية مكية. وهذا فضلا عن أن ما أشارت إليه الآيات المكية من أسى النبي صلى الله عليه وسلم وضيقه لم يكن خوفا من الناس يحمله على عدم تبليغ ما أنزل إليه. ولقد أنزل الله عليه في مكة آيات كثيرة فيها إنذارات قارعة وحملات قاصمة ونعوت لاذعة فكان يتلوها علنا دون ما خوف من زعماء قريش وأغنيائهم الأقوياء وجماهير الناس الذين رضخوا لتحريضهم(9/181)
ووقفوا من الدعوة موقف الانقباض. فالقول إن الآية نزلت في أول التبليغ لأنه ضاق ذرعا بمن كان يكذبه من الناس لا يصحّ تاريخا ولا موضوعا. ومسألة قضية اليهود في الزنا والرجم ومسألة نكاح زينب بنت جحش ليس لهما محل في هذا المقام.
وما سبق الآية ولحقها يسوغان الجزم بأنها جزء من موضوع السياق المتصل بالنهي عن تولي أهل الكتاب ولومهم لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الشامل لهم. وهذا يجعل قول الطبري الذي أوردناه في مطلع الروايات والأقوال هو الأوجه المتسق مع السياق والفحوى. وقد عزاه الطبري إلى ابن عباس وقتادة وقال في توضيحه إن الله أمر رسوله بإبلاغ اليهود والنصارى الذين قصّ قصتهم وذكر انحرافهم ونهى عن موالاتهم ما أنزله عليه دون أن يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه مكروه ولا جزع من كثرة عددهم وقلة عدد من معه وأن لا يتقي أحدا في ذات الله فإن الله تعالى كافيه كل أحد من خلقه ودافع عنه كل مكروه. وأعلمه أنه إن قصر في إبلاغ شيء مما أنزل عليه فهو في تركه شيئا من ذلك وإن قل فيكون في منزلة من لم يبلغ منه شيئا وهذا توضيح جيد يجلي الآية ومداها جلاء قويا. وقد يحسن أن نذكر في هذا المقام بالآيات الست الأخيرة من سورة الحجر حيث يصح القول إن الموقف الذي استوجب نزول هذه الآيات المكية وشرحناه في سياقها قد تكرر في العهد المدني بالنسبة لأهل الكتاب فاقتضت حكمة الله تنزيل الآية لتثبت النبي وإيذانه بأن الله عاصمه منهم كما آذنه في آيات الحجر أنه عاصمه من المشركين وأن عليه أن يستمر في مهمته وإبلاغ ما أنزل الله عليه دون خشية من أحد كتابيّ وغير كتابيّ. ولعلّ ما روي في سياق الآية من أن النبي أرسل إلى أبي طالب يخبره أن الله عاصمه وكافيه، إن صحّ، قد كان في مناسبة آيات سورة الحجر المكية فالتبس الأمر على الرواة. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أن في الآية تأييدا أقوى لما ذكرناه في سياق تفسير الآيتين [15، 16] من هذه السورة من احتمال صحة روايات إرسال النبي صلى الله عليه وسلم رسلا وكتبا إلى ملوك وأمراء البلاد المتاخمة ودعوتهم إلى الإسلام. وذلك باحتوائها أمرا مؤكدا للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته لأهل الكتاب دون أن يخشى شيئا وتطمينا بأن الله تعالى حاميه وعاصمه حيث يمكن أن(9/182)
يتناسب هذا الأسلوب مع فكرة ونتائج إرسال الرسل والكتب إلى أولئك الملوك والأمراء ودعوتهم. والله تعالى أعلم.
ولقد ورد في فصل التفسير في كتب البخاري ومسلم والترمذي حديثان في سياق تفسير هذه الآية رأينا أن نوردهما بدورنا على هامش تفسيرها. أحدهما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت «من حدّثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب والله يقول يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» «1» وثانيهما رواه الترمذي عن عائشة أيضا قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج النبي رأسه من القبّة فقال لهم يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله» «2» .
وفي الحديث الأول توضيح وتوكيد لمعنى جوهري وأصلي في العصمة النبوية بحيث يجب على كل مسلم أن يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلّغ كل ما أنزل إليه من ربّه. وفي الحديث الثاني صورة رائعة لعمق إيمان النبي صلى الله عليه وسلم بربّه وبما ينزله عليه. وتطبيق للآية الكريمة.
ولقد روى مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب خطبة طويلة في حجة الوداع التي مات بعدها بنحو ثمانين ليلة فقال فيما قال «قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا. كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون. قالوا نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهمّ اشهد. ثلاث مرات» «3» حيث ينطوي في هذا كذلك عمق إيمان النبي صلى الله عليه وسلم برسالته ومسؤوليته عنها تجاه الله عزّ وجل وحرصه على استشهاد جمهور المسلمين في موقف حافل جامع على أنه قد بلّغ رسالة ربه.
__________
(1) التاج ج 4 ص 92.
(2) المصدر نفسه.
(3) من خطبة حجة الوداع انظرها في التاج ج 2 ص 140- 145. ولقد أورد ابن هشام خطبة حجة الوداع وفيها زيادة بعد جملة (كتاب الله) وهي (سنّة نبيه) انظر ج 4 ص 272 وما بعدها.(9/183)
روايات الشيعة في صدد الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... والتعليق عليها
نأتي الآن إلى روايات الشيعة في صدد هذه الآية التي يعلّقون عليها أهمية عظيمة تشابه لما يعلقونه على الآيتين [54 و 55] من هذه السورة في تثبيت إمامة عليّ رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كنصّ قرآني أيضا. فقد روى الطبرسي المفسر الشيعي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن جابر بن عبد الله أن الله أمر رسوله بتنصيب علي رضي الله عنه إماما بعده، فتخوّف أن يقول الناس إنه حابى ابن عمه فأنزل الله الآية فأعلن النبي بعد نزولها في غدير خمّ ولاية علي، وفي رواية أنه أخذ بيد عليّ فقال من كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وروى نفس المفسر عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله مثل ذلك.
وروى المفسر الشيعي الكاشي حديثا عن النبي بدون عزو وراو وسند «أن رسول الله قال مبينا سبب نزول الآية إن جبريل هبط إليّ ثلاث مرات يأمرني بأمر ربي بأن أقوم فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي الذي محله منّي محلّ هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي وهو وليكم بعد الله ورسوله وقد أنزل الله عليّ بذلك آية أخرى في ذلك وهي إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) . فسألت جبريل أن يستغفر لي عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين وإوغال الآثمين وحيل المستهترين بالإسلام. الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والذين آذوني فسمّوني أذنا ولو شئت أن أسميهم بأسمائهم لسميت وأن أومئ إليهم بأعيانهم لأومأت فأنزل الله عليّ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في عليّ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس «1» . وفي كتب تفسير
__________
(1) انظر هذا الحديث في الجزء 2 ص 169 من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي.(9/184)
المفسرين روايات وأحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردناه ونقول تعليقا على ذلك، إن سياق الآية السابق واللاحق والتي هي منسجمة معها أشدّ الانسجام يدلّ دلالة نعتقد أنها حاسمة على أنها نزلت آمرة النبي بتبليغ ما أنزل الله إليه إلى أهل الكتاب دون خشية وحذر وأنها نزلت في وقت كان اليهود في المدينة على شيء من الوجود القوي بحيث يمكن أن نقول إن روايات الشيعة مقحمة على الآية وسياقها إقحاما عجيبا فضلا عن نصوص بعضها العجيبة التي تبرز عليها الصنعة بروزا قويا شأن الروايات التي يسوقونها أوردناها في سياق الآيتين [54 و 55] من هذه السورة. والغاية منها ظاهرة وهي زعم كون خلافة عليّ بعد النبيّ مؤيدة بنصوص قرآنية ونبوية وزعم مخالفة الجمهور الأعظم من المهاجرين والأنصار للقرآن والنبي وتحريفهم القرآن بإسقاط اسم عليّ من الآية حاشاهم ثم حاشاهم ولا يجوز لمسلم عاقل أن يخالجه شك في أن النبي لو أمر بإعلان إمامة عليّ لأعلنها دون أي تردد. ولو وصّى بخلافته لعبد حبشي وليس لعلي بن أبي طالب الهاشمي القرشي الصحابي الجليل المجاهد العظيم والعالم الواسع العلم لتقبل أصحابه وبخاصة كبارهم وبالأخصّ أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ذلك بكل خضوع وتسليم ولنفذوا وصيته بدون أي تردد. لأن المسألة في ذلك الوقت ليست مسألة حكم وسياسة وإنما هي مسألة إيمان ودين. وكان أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان والذين سجّل الله في القرآن رضاءه عنهم كانوا مستغرقين في دين الله ورسوله ورسالته وأوامره وسنته والقرآن يأمرهم بأخذ ما آتاهم النبي والانتهاء عمّا نهاهم عنه ويقول من أطاع الرسول فقد أطاع الله. والجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله ومنهم علي بن أبي طالب بايعوا أبا بكر ثم بايعوا عمر من بعده ثم بايعوا عثمان من بعده. وعلى فرض المحال لو حدثت نفوس بعض أصحاب رسول الله بعدم تنفيذ وصية النبي لو كانت صحيحة لحاربهم جمهور أصحاب رسول الله. ولما كان يصحّ فرض تراجع عليّ عنها لأنه يكون في ذلك خالف وصية رسول الله ولحارب دونها ولوجد من المسلمين جمهورا عظيما يحاربون(9/185)
معه. وهو يعد أقوى عصبة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
وقد يكون في كتب الحديث المعتبرة أحاديث فيها شيء خاص بالنسبة لعلي رضي الله عنه. من ذلك مثلا حديث رواه الترمذي جاء فيه «من كنت مولاه فعليّ مولاه» «1» وليس بين هذا الحديث والآية أية صلة. ولا يفيد الدلالة التي يريد الشيعة استخراجها حتى وليس في الزيادة التي زادوها عليه هذه الدلالة. ومن ذلك حديث رواه الترمذي قد يكون فيه تفسير أو توضيح للحديث السابق. جاء فيه «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا وأمّر عليهم عليا فمضى في السرية فأصاب جارية فأنكروا عليه وتعاقد أربعة منهم على أن يخبروا رسول الله إذا رجعوا. فلما قدموا سلّموا على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام أحد الأربعة فقال يا رسول الله ألم تر إلى علي صنع كذا وكذا.
فأعرض عنه ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الثالث فقال مثلهما فأعرض عنه ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه فقال ما تريدون من علي وكرّرها ثلاثا ثم قال إن عليا مني وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي» «2» حيث يمكن أن يستفاد من هذا الحديث إن صح أنه في معرض الدفاع عن علي رضي الله عنه وبيان علوّ منزلته عنده وحسب. ولعل الحديث الأول صدر أيضا في هذا الموقف فرواه أحدهم لحدته. ومن ذلك حديث يرويه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم على ماء خمّ بين مكة والمدينة جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي.
أذكّركم الله في أهل بيتي» «3» وفرق كبير بين هذه الصيغة التي يروي الشيعة صيغة أخرى عن النبي يوم غدير خمّ وما يروونه وأوردناه قبل. وليس لها صلة بالآية التي
__________
(1) التاج ج 3 ص 296.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 310.(9/186)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
نحن فيها. وليس فيها الدلالة التي يريد الشيعة استخراجها. ومحبة واحترام ورعاية أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر واجب على المسلمين جميعا ولو لم يرو هذا الحديث مع القول الحق إن هذا الواجب هو بالنسبة للمستقيمين المتقين الصالحين منهم الملتزمين لأوامر الله ورسوله ونواهيهما. على ما تلهمه آيات قرآنية وأحاديث نبوية عديدة. وإن للمستقيمين المتقين الصالحين منهم الحق في أن يتولوا أمر المؤمنين بالبيعة الشرعية وإن هذا ليس من شأنه أن يحجب ذلك عن المستقيمين المتقين الصالحين من غيرهم إذا ما تمّت لهم بيعة شرعية أيضا.
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
. تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... وما فيها من أحكام ودلالات
عبارة الآية واضحة كذلك. وقد احتوت:
(1) أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأهل الكتاب إنهم لن يكونوا على شيء من الهدى والحق والصواب وأسباب النجاة إلّا إذا نفذوا أحكام التوراة والإنجيل وأقاموا على أحسن وجه ثم آمنوا واتبعوا ما أنزل عليه أيضا لأن النبي واسطة من الله إليهم به.
(2) وتقريرا توكيديا بأن ما ينزله الله عليه سوف يزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا.
(3) وتسلية له على ذلك. فلا ينبغي أن يحزن أو يعبأ بموقف الكافرين منهم.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جماعة من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم(9/187)
فقالوا ألست تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه وتؤمن بالتوراة وتشهد أنها من الله حقّ قال بلى. ولكنكم أحدثتم وجحدتم وخالفتموها وكتمتم ما أمر الله أن تبينوه منها للناس وأنا بريء من إحداثكم فقالوا له فإنا نأخذ بما في أيدينا وهو الحقّ والهدى. ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله الآية.
والرواية لم ترد في الصحاح، والمتبادر المستلهم من فحوى آيات السياق السابق أن الآية لم تنزل لحدتها بمناسبة ما روته الرواية. وأنها جزء من السياق واستمرار له. ففي الآيات السابقة وجّه اللوم إلى أهل الكتاب وقيل لهم لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل الله على النبي الذي هو موجّه إليهم لحسنت حالتهم، فجاءت هذه الآية لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما احتوته. ولعل الآية السابقة لهذه الآية- على ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا- جاءت بمثابة تمهيد وتشجيع. وكأنما أرادت أن تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إن عليه أن يقول هذا لأهل الكتاب بكل جرأة وصراحة وبدون تردد ولا حسبان ما يحدثه في كثير منهم من ازدياد الكفر والطغيان. فالله عاصمه وحاميه منهم ومن غيرهم.
وهذا لا يمنع صحة المحاورة المروية في الرواية بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في مجلس من المجالس قبل نزول الآيات.
وإذا صحت الرواية فيكون فيها تأييد لما قلناه أكثر من مرة من أن ذكر النصارى والإنجيل في السياق قد جاء من قبيل الاستطراد والتعميم. وأن المقصود في الدرجة الأولى في السياق هم اليهود. والله أعلم.
وما قلناه قبل في صدد مدى الحثّ على إقامة التوراة والإنجيل في سياق الآية [66] ينسحب على ما جاء من ذلك في هذه الآية. وجملة لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ليس من شأنها أن تضعف ما قلناه أو تنقضه ما دامت مقترنة بنفس الجملة السابقة وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على ما شرحناه سابقا. وشرح الآية المستلهم من روحها وفحواها بالإضافة إلى الشرح السابق للآيتين [65 و 66] المستلهم كذلك من روحهما وفحواهما ينطوي على دلالة تكاد(9/188)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
أن تكون قطعية على صواب ما قرّرناه من أن الآية [67] التي يتمسك بها الشيعة جزء من السياق وأن تمسكهم بها تعسف وتمحّل.
وفي الآية نصّ صريح والحالة هذه على أن اليهود والنصارى من وجهة النظر الإسلامية ليسوا على هدى يضمن لهم النجاة عند الله ما داموا لا يؤمنون بالرسالة المحمدية والقرآن الذي أنزله الله على محمد صلوات الله عليه. وهو ما دعوا إليه مرارا. وكانت أحدث دعوة إليه قبل هذه الآية في الآية [65] وقبلها في الآيات [13- 16 و 19] من هذه السورة.
ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أهل النار» «1» حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح لمدى الآية متساوقان مع ما استلهمناه منها.
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
. عبارة الآية واضحة. وهي مماثلة- بفرق طفيف- لآية سورة البقرة [61] التي جاءت في سياق التنديد باليهود ومواقفهم وجحودهم كما جاءت هذه هنا.
وليس هناك رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالسياق اتصال تعقيب واستطراد وتنبيه لتقرر أن رضاء الله لا ينال باليهودية والنصرانية والصابئية والإسلام وإنما ينال بالإيمان بالله إيمانا صادقا واليوم الآخر والعمل الصالح لا غير. وإن من يفعل ذلك منهم فهو الذي لا يكون عليه خوف ولا حزن من العاقبة.
وما دامت الآية متصلة بالسياق فإن وجوب الإيمان بالرسالة المحمدية والقرآن منطو فيها بالنسبة لليهود والنصارى والصابئين بطبيعة الحال. ولقد شرحنا هذه المسألة شرحا أوفى في سياق تفسير آية البقرة المذكور فنكتفي بهذا التنبيه.
__________
(1) التاج ج 1 ص 30.(9/189)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
. (1) وحسبوا أن لا تكون فتنة: ظنوا أنهم لا يبتلون أو لا يختبرون أو لا يؤاخذون.
تعليق على الآية لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ... والآية التالية لها وما فيهما من صور
في الآيتين إشارة تنديدية إلى مواقف بني إسرائيل من الرسل الذين يأتونهم من قبل الله وتقرير لواقع حالهم:
(1) فلقد أخذ الله عليهم الميثاق والعهد بأن يسمعوا ويطيعوا لرسله. ولكنهم نقضوا عهد الله فكانوا كلّما جاءهم رسول بما لا يحبّون من المواعظ والأوامر والنواهي كذبوه أو قتلوه.
(2) ولقد ظنوا أنهم لن يتعرضوا لابتلاء الله واختباره ومؤاخذته وعقابه فظلوا في غيّهم عميا عن رؤية الحقّ صمّا عن سماعه حتى عاقبهم الله وابتلاهم فتابوا فتاب عليهم ثم عاد كثير منهم إلى التصامم عن سماع الحق والتعامي عن رؤيته.
(3) وإن الله ليعلم ما يعلمون ومحصيه عليهم وسائلهم عنه.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالسياق أيضا اتصال تنديد وتعقيب وتذكير وإنذار.
ويتبادر لنا أن فيهما معنى من معاني التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كان اليهود قد وقفوا منه المواقف الخبيثة والجاحدة التي وقفوها والتي حكتها الآيات السابقة(9/190)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
فإن ذلك ديدن آبائهم من قبلهم. فلا محلّ للهمّ والحزن. ولقد احتوت سلسلة آيات البقرة الواردة فيهم مثل ذلك في مقام التنديد والتسرية أيضا. ولقد علقنا على الموضوع بذاته بما يغني عن التكرار.
[سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 76]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
. (1) صدّيقة: شديدة الإيمان والتصديق، أو شديدة الصدق.
تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلخ والآيات الأربع التي بعدها
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) تقرير كفر الذين يقولون إن الله هو المسيح والذين يقولون إنه ثالث ثلاثة.
(2) وتقرير كون ذلك هو مخالف لدعوة المسيح الذي دعا بني إسرائيل إلى الله وحده ربّه وربّهم وأنذر المشركين به بالحرمان من الجنّة وبعذاب النار.(9/191)
(3) وتقرير حقيقة المسيح وأمه. فهو رسول مثل سائر الرسل الذين سبقوه.
وأمه صدّيقة مؤمنة. وكلاهما بشر مثل سائر البشر وكانا مثلهم يأكلان الطعام.
(4) وسؤالين استنكاريين وتنديديين موجهين للنصارى: فهل يجوز أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا. وهل لا ينبغي لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله من أقوالهم. وهو الغفور الرحيم الذي يقبل توبة التائبين إليه. أما الذين يظلّون منحرفين ظالمين أنفسهم فليس لهم أنصار ينصرونهم من الله.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة هي الأخرى بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتذكير وإنذار.
ومع أن الآية الأخيرة قد تلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه فيها إلى النصارى كان وجاهيا وعلى سبيل التنديد الجدلي. فإن السياق السابق واللاحق يلهم أن هذه الآية منسجمة مع سائر الآيات. ويجعلنا نرجح أن السؤال فيها أسلوبي وعلى سبيل التنديد من جهة وعلى سبيل تعليم النبي بما يوجهه من حجة مفحمة للنصارى من جهة أخرى. ويتبادر أنها جاءت من باب الاستطراد لبيان انحراف النصارى أيضا عن الإنجيل ودعوة المسيح كما انحرف اليهود. ولتوكيد كون أهل الكتاب اليهود والنصارى معا ليسوا على شيء ما داموا لا يقيمون التوراة والإنجيل على ما قررته الآية [72] بالإضافة إلى عدم اتباع ما أنزل الله إليهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى وردت في الآية [17] من هذه السورة.
وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد علّقنا على موضوع التثليث الذي تضمنته الآية الثانية وعقيدة النصارى بأن الآلهة ثلاثة في سياق الآية [171] من سورة النساء بما يغني كذلك عن التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا فهو تقرير الآية هنا كفر الذين يثلثون الآلهة ويقولون إن الله الذي هو في عقيدتهم واحد من الأقانيم الثلاثة ثالث ثلاثة. فهذا التقرير هنا جديد لأن آية النساء جاءت بأسلوب التنديد والاستنكار والنهي.(9/192)
ومن الجدير بالذكر أن الأناجيل المتداولة اليوم والتي يعترف بها النصارى قد احتوت أقوالا كثيرة منسوبة إلى المسيح فيها مصداق لما جاء في الآيات من حيث كونه بشرا وابن الإنسان ومن حيث إنه كان يدعو إلى الله ويصفه بأنه ربّه وربّ كل الذين يخاطبهم وربّ الناس. وقد أوردنا طائفة من هذه الأقوال في سياق تفسير سورة مريم فلا نرى حاجة إلى التكرار إلا أن نقول إنه من وجهة النظر الإسلامية أن ما يعزى في الأناجيل المتداولة إلى عيسى عليه السلام من أقوال فيها ما يمكن أن لا يتطابق مع القرآن في هذه الآيات وفي غيرها صراحة أو تأويلا من كون المسيح بشرا كسائر البشر ولد بمعجزة ورسولا كسائر الرسل دعا إلى الله وحده وكون الله عز وجل واحدا لا شريك له ولا ولد ولا يقبل التعدد والتجزؤ هو منحول أو محرف عن أصله الحقّ. ومن الجدير بالتنبيه أن الروايات القديمة ذكرت أن من رجال المذاهب النصرانية في القرون النصرانية الأولى من كان يعتقد ويقول ببشرية عيسى عليه السلام وكونه رسولا ونبيّا وحسب، وينكر ألوهيته وألوهية أمه «1» .
وذكر أمّ المسيح ووصفها بالصدّيقة متصلان كما هو المتبادر بعقيدة اليهود والنصارى فيها. فالأولون بهتوها وقذفوها كما حكته الآية [159] من سورة النساء وأوردنا في سياق ما يروجونه من روايات قديمة «2» . ومن الآخرين من ألّهها وعبدها كما هو مأثور في الروايات التاريخية «3» بل وقائم إلى الآن عند بعض الطوائف النصرانية. فالإشارة القرآنية هي بسبيل الردّ على هؤلاء وهؤلاء ووضع أم المسيح في موضعها الحقّ من كونها مؤمنة مخلصة لله طاهرة من الدنس وكون الله قد جعلها محلّ عنايته وبركته واصطفاها لمعجزة ولادة المسيح بدون مسّ رجل على ما جاء في آيات آل عمران [33- 48] وآيات مريم [1- 21] وقد أوردنا ما جاء في صدد ذلك في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم. فنكتفي بالتنبيه إلى ذلك. وإذا كان في بعض آيات القرآن بيانات ليست واردة في هذا
__________
(1) انظر تاريخ سورية للدبس مجلد 3 ج 2 ومجلد 4 ج 3.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(9/193)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
الإصحاح فالذي نعتقده أنها وردت في قراطيس وأناجيل أخرى لم تصل إلينا.
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
. في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينهى أهل الكتاب عن الغلوّ في عقائدهم الدينية غلوّا يتنافى مع الحق والحقيقة. وعن سلوك طريق سلكها قوم قبلهم اتباعا لأهوائهم فضلّوا عن الطريق القويم وأضلّوا كثيرا من غيرهم أيضا.
تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ... إلخ وما فيها من تلقين وما ورد في عدم الغلوّ في الدين من أحاديث
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآية. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وقد قال الطبري إن النهي الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه هو للنصارى في صدد انحرافهم في عقائدهم عن الحق. وإن الذين نهوا عن اتباع أهوائهم هم اليهود. وعزا القول الثاني إلى مجاهد. وقال البغوي إن المقصود بالنهي والتحذير هم رؤساء الضلال من اليهود والنصارى. وقال ابن كثير إن النهي موجّه إلى النصارى والتحذير هو من رؤسائهم المنحرفين السابقين.
وما قاله الطبري هو الأوجه. فالخطاب في الآيات السابقة موجّه للنصارى.
والآية استمرار لها. وتحذيرهم من قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا يدل على أن هؤلاء من غيرهم. وليس هناك غيرهم إلّا اليهود. والوصف الذي وصفوا به في شطر الآية الثانية قد وصفوا به في آيات عديدة سابقة. منها آية قريبة وهي الآية [60] من هذه السورة. ومنها آيات سورة النساء [44- 45] ولعلّ في الآية التالية قرينة على ذلك أيضا. وهكذا تكون الآية قد استهدفت تحذير النصارى من السير في طريق اليهود الذين اتبعوا فيما سبق أهواءهم فضلّوا وأضلّوا.(9/194)
ومع أن أسلوب الآية قد يلهم أن الخطاب الذي أمر النبي بتوجيهه إلى أهل الكتاب كان وجاهيا وعلى سبيل التنديد فإن السياق السابق واللاحق يلهم أنه أيضا تعبير أسلوبي فيه تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم بما يوجهه لهم من تحذير وتنبيه.
ومع أن نهي الآية لأهل الكتاب عن الغلوّ في الدين في مقامه بمعنى النهي عن الانحراف في العقيدة الأصلية فقد وقف المفسّر القاسمي في (محاسن التأويل) عند الآية وأورد بعض أحاديث نبوية في سياقها حيث يبدو أنه رأى في الآية تلقينا للمسلمين أيضا والأحاديث التي أوردها ليست في معنى النهي الذي هدفت إليه الآية أي الانحراف عن العقيدة الأصلية وإنما هي في صدد التزمت والتنطع والتشدد في المبادرات الدينية المفصلة بالعبادات والمعاملات. وهناك كثيرون من المسلمين في مختلف العصور وبخاصة الأخيرة، ومنهم المتزيون بزي رجال الدين من يتجاوزون الحق والاعتدال في أقوالهم وأفعالهم وتزمتهم ويتهمون من لا يسير على طرائقهم أو يشتدون في تسيير الناس على طرائقهم دون أن يكون لهذه الطرائق سند صحيح من قرآن وسنّة. كما أن هناك كثيرين من أصحاب المذاهب الدينية المشوبة بالسياسة الذين يتبعون أهواءهم ويغلبونها على الحقّ والمنطق ويفسرون القرآن وينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أحاديث غير صحيحة بسبيل تأييد هذه الأهواء. والمتبادر أن المفسّر لحظ ذلك فوقف عند الآية مستطردا إلى ما عليه هؤلاء وهؤلاء من غلوّ وأورد ما أورده من أحاديث نبوية في ذلك. ولا نرى والحالة هذه بأسا في ذلك. ومن الأحاديث التي أوردها حديث رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والغلوّ في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين» وحديث رواه مسلم عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا» والمتبادر أن في الحديث الثاني تفسيرا للحديث الأول من حيث إن المقصود به هو التزمت ومجاوزة الحق والاعتدال في الأقوال والأفعال المتصلة بالدين والتدين. ومن الجدير بالتنبيه أن في القرآن المكي والمدني آيات كثيرة في النعي الشديد على الذين يتبعون هواهم ويتخذونه إلها ويجعلونه ضابطا لسيرهم في شؤون الدين والدنيا والتنديد بهم مما(9/195)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
مرّت أمثلة كثيرة منه في السور التي سبق تفسيرها وهي عامة شاملة للمسلمين بطبيعة الحال.
[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 79]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
. تعليق على الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... إلخ والآية التي بعدها وما فيهما من تلقين وما ورد في صدد ذلك من أحاديث
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا إشارة تذكيرية لدور من أدوار تاريخ بني إسرائيل حيث كفر بعض أجيالهم فاستحقوا اللعنة على لسان داود وعيسى عليهما السلام بسبب كفرهم وعصيانهم وبغيهم وتجاوزهم حدود الله. وبسبب أن بعضهم كان يسكت عمّا يرتكبه البعض الآخر من آثام ومنكرات ولا ينهى عن ذلك أحد أحدا. ولبئس ما كانوا يفعلون.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا. وأنهما استهدفتا بيانا توضيحيّا للآية السابقة التي حذرت من اتباع أهواء الذين ضلّوا من قبل وأضلوا. وانطوتا في الوقت نفسه على تدعيم الخطاب الموجّه إلى النصارى في صدد نهيهم عن الغلوّ والانحراف ورجوعهم إلى الحق. فلا يصح لهم أن يسيروا في الطريق التي سار فيها اليهود وأتباع الأهواء مثلهم. فمن هؤلاء من لعنوا بلسان بعض الأنبياء بسبب كفرهم وعصيانهم وتجاوزهم حدود الله وعدم تناهيهم عن الآثام والمنكرات.
ولقد عزا الطبري إلى ابن عباس وابن جريج أن داود عليه السلام دعا على فريق من بني إسرائيل ولعنهم فصاروا خنازير. وأن عيسى عليه السلام دعا على(9/196)
فريق منهم ولعنهم فصاروا قردة. وعزا إلى قتادة أن لعنة داود ودعاءه جعلتهم قردة ولعنة عيسى ودعاءه جعلتهم خنازير. وقال البغوي: إن اليهود لما اعتدوا في السبت في ميناء أيلة قال داود اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وخنازير وإنهم لما كفروا بعيسى قال اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة خنازير. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فضلا عن أنها غير صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يسوغ التحفظ إزاءها.
ومهما يكن من أمر فإن تخصيص لعنتي داود وعيسى عليهما السلام بالذكر متصل فيما يتبادر لنا بحوادث معينة كانت معروفة عند اليهود والنصارى.
ولقد وقف بعض المفسرين عند هذه الآيات أيضا وأوردوا في سياقها أحاديث نبوية فيها تعليم للمسلمين بما يجب عليهم من التناهي عن المنكر وإنذار لمن لا يفعل ذلك حيث يبدو أنهم رأوا فيها تلقينا شاملا للمسلمين وأوردوا الأحاديث بناء على ذلك وهذا وجيه. ولا سيما إن بعض الأحاديث ينطوي على التذكير بما كان من ذلك من بني إسرائيل. ومن الأحاديث التي أوردها الطبري حديث عن ابن مسعود رواه بطرق عديدة بتباين يسير وقد ورد صيغة له في التاج برواية أبي داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود وهذه هي «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلّ لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قرأ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) . ثم قال والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يدي الظالم ولتأطرنّه على الحقّ أطرا ولتقصرنّه على الحقّ قصرا أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننّكم كما لعنهم» «1» ومما أورده ابن كثير حديث
__________
(1) التاج ج 5 ص 204.(9/197)
أخرجه الإمام أحمد عن عدي بن عميرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنّ الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه. فإذا فعلوا عذّب الله الخاصة والعامة» «1» وحديث رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم» «2» . وحديث رواه أبو داود عن ابن عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وفي رواية فأنكرها كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها» «3» وحديث أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال «قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال فيما قال ألا لا يمنعنّ رجلا هيبة الناس أن يقول الحقّ إذا علمه» وحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر» «4» وحديث رواه الإمام أحمد عن المنذر بن جرير عن أبيه قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعزّ منه وأمنع ولم يغيروا إلّا أصابهم الله منه بعذاب» وحديث رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيروا عليه إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا» «5» . وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود فيه ما في هذا الحديث الذي لم يرد في الصحاح روياه عن أبي بكر قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» «6» .
__________
(1) أي إذا لم ينكروا.
(2) ورد هذا النص في التاج أيضا انظر ج 5 ص 204. [.....]
(3) ورد هذا الحديث في التاج أيضا انظر ج 5 ص 205.
(4) وهذا أيضا انظر التاج ج 3 ص 48.
(5) بعض هذه الأحاديث أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآيات [62 و 63] من هذه السورة.
(6) التاج ج 4 ص 95.(9/198)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني بمنتهى القوة والروعة وبخاصة في ما ينطوي في بعضها من حثّ قوي على إنكار الظلم والإثم والانحراف على الحاكم والسلطان الجائر.
ولا شكّ أن في الآيات على ضوء الأحاديث النبوية التي تورد في سياقها تلقينا اجتماعيا جليلا يصحّ أن يكون منبع إلهام في كل ظرف. فمصلحة المجتمع وقوته وطمأنينته وخيره وصلاحه تقوم إلى أبعد حدّ على التعاون على الخير والمعروف والأمر بهما والتناهي عن الشرّ والمنكر وإنكارهما. والمجتمع الذي يستشري فيه الإثم والمنكر وتضعف فيه الدعوة إلى إنكارهما والنهي عنهما يكون مجتمعا فاسدا معرضا للانحلال وعرضة لنقمة الله ولعنته. ولقد تكرر في القرآن تقرير هذه المعاني بأساليب متنوعة مما مرّ منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها.
[سورة المائدة (5) : الآيات 80 الى 81]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
. تعليق على الآية تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... والآية التالية لها وما فيها من صور
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة بنزول الآيتين والمتبادر أن الضمير في مِنْهُمْ عائد إلى بني إسرائيل «1» الذين كانوا موضوع الكلام في الآيتين السابقتين. وهكذا يصح القول إن الآيتين متصلتان بالسياق السابق واستمرار له. وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أن المقصود بهما بنو إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. وهكذا ينتقل الكلام عن أخلاق اليهود ومواقفهم من الماضي
__________
(1) ذكر هذا الطبري أيضا.(9/199)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
إلى الحاضر. ويربط بين أخلاق الآباء والأبناء مما جرى عليه النظم القرآني. ولقد اختلفت الأقوال في المقصود من الَّذِينَ كَفَرُوا فقيل إنهم المشركون وقيل إنهم المنافقون الذين هم كانوا كفارا في حقيقة أمرهم «1» .
واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كانوا وراء المنافقين منذ بدء الهجرة وظلوا وراءهم على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة البقرة [14] وسورة الحشر [11] وتحالفوا مع مشركي العرب أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة النساء [51] وآيات سورة الأحزاب [11- 27] غير أننا نرجح أن المقصود هم كفار المشركين استدلالا من قرنهم مع اليهود في الآية التالية. والمتبادر أن في الآية الثانية إشارة إلى ما كان من دعاوى اليهود الكاذبة بأنهم يؤمنون برسالة النبي على ما حكته الآية [61] من هذه السورة والآية [76] من سورة البقرة والآية [77] من سورة آل عمران.
وهكذا تكون الآيتان بسبيل التنديد ببني إسرائيل في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: فهؤلاء الذين لعن الأنبياء أسلافهم بسبب أخلاقهم وتمرّدهم وعدم تناهيهم عن المنكر لم يرعووا ولم يرتدعوا. وكثير منهم يوالون الذين كفروا بالله ورسالة رسوله. وفي ذلك مناقضة لدعواهم الإيمان. لأنهم لو كانوا يؤمنون حقا بالله ورسوله وما أنزل إليهم لما فعلوا ذلك. والحقيقة من أمرهم هي أن كثيرا منهم فاسقون متمردون على الله تعالى. ولبئس ما سوّلت لهم أنفسهم من موقف خبيث استحقوا عليه سخط الله الدائم وعذاب النار الأبدي.
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) .
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن حيث أوردوا هذه الأقوال.(9/200)
(1) قسيسين: جمع قسّ. وتعددت الأقوال في اشتقاقها ومعناها. فقيل إنها مشتقة من قسّ الإبل يقسّها بمعنى أحسن رعيها وسوقها. وقيل إنها من التقسّس بمعنى التجسّس ونشر الأخبار وتسمع الأصوات وتعرية العظم من اللحم. ولعل القول الأول هو الأنسب. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل نزول القرآن أن معناها رتبة دينية عند النصارى. وقد سمّي بعضهم بها. ومن مشهوريهم قسّ بن ساعدة الإيادي الخطيب.
(2) رهبان: جمع راهب. وكان يطلق على المتبتّل من النصارى المنقطع في دير، الذي نذر حرمان نفسه من التنعم بالزواج والولد ولذّات الطعام والزينة.
وقيل إنها مشتقة من الرهبة بمعنى الخوف. أو من رهب الإبل بمعنى هزالها وكلالها. ولعل القول الثاني أنسب. لأن حرمان الرهبان أنفسهم من لذات الحياة يؤدي إلى هزالهم وكلالهم وإذا صح أن تكون من الرهبنة فينطوي فيها معنى الخوف من الله وكون ذلك هو الذي يجعل الرهبان يحرمون أنفسهم من متع الحياة ولذاتها. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل الإسلام أنها تطلق على المتقشفين المبتعدين عن اللذائذ المتفرغين للعبادة من النصارى. وفي سورة الحديد إشارة إلى ذلك في صدد النصارى وفيها كلمة (رهبانية) وروي في مناسبتها حديثان جاء في أحدهما «لا رهبانية في الإسلام» تفسير الطبرسي وفي أحدهما «لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» تفسير ابن كثير.(9/201)
تعليق على الآية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ... والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشدّ الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا. وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة وهو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن عليهم حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عزّ وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وهو جزاء المحسنين وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.
وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه «إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ... إلخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح.
ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات تتوالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية(9/202)
بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادىء الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين.
وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع اختلاف في عدده بين 12 وبين 70. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.
والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران [34- 64] وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.(9/203)
ولقد قال ابن كثير إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي والقرآن في آيات آل عمران [199] والإسراء [107 و 108] والقصص [52- 55] وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سور آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصحّ أن يقال بناء على ذلك إن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع ما جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا.
وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.
وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة [121] وآل عمران [113- 115] والنساء [162] والرعد [36] والأحقاف [10] التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه وكان رائده الحقّ والهدى ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دينهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة يس [11] هذه إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ(9/204)
اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
وآية سورة السجدة إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمتّ إلى صدق دعوة النبي وروحانية رسالته.
وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوّه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [27] .
ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلّا ردح قصير حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) .
ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعه المشاهد آية سورة التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [34] .
ولقد ظلّ هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه ويتفلّت من تأثير المنافع المادية والتعصّب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحقّ والحقيقة(9/205)
وجعلاه يتعصّب تعصّبا أعمى ظل مكابرا مناوئا وظلّ يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.
وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة وبأنهم أقرب الناس مودّة للمسلمين فيصحّ القول إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوىء الباغي والمكابر المكائد المعادي ولا يزال هذا يظهر في كل ظرف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.
ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء «1» . غير أن في الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا حيث يفيد أنهم من أشدّ أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشدّ صوره.
ومهما يكن من أمر ففي الآية الأولى تلقين مستمر المدى في كون النصارى يظلون على كل حال أقرب مودة إلى المسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار. وفي كون اليهود يظلون أشد الناس عداوة للمسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار أيضا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الفقرة الأولى من الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن أبي هريرة بطرق عديدة جاء فيه «ما خلا يهوديّ بمسلم قط إلّا همّ بقتله أو إلّا حدثته نفسه بقتله» والحديث ولو لم يكن من الصحاح فإنه متساوق مع وصف الله تعالى لشدة عداوة اليهود للمسلمين في الآية في آيات السور المذكورة آنفا التي أشرنا إليها في الذيل.
__________
(1) اقرأ بخاصة آيات سورة البقرة [109] وآل عمران [118- 120] والنساء [44- 46] .(9/206)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... إلخ وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث وروايات
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت نهيا للمسلمين عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات على أنفسهم وعن تجاوز حدوده. وأمرا بالأكل مما رزقهم الله من الحلال الطيب مع التمسك بواجب تقواه وهو الذي يؤمنون به. وواضح من روح الآية ونصها أن جملة لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ لا تعني النهي عن جعل الحلال حراما دائما وإنما تعني النهي عن حرمان النفس بالاستمتاع بما هو مباح حلال من الطيبات.
والآيات فصل جديد كما تبدو. وقد روى الطبري «1» عن ابن عباس وعكرمة والسدي وقتادة وغيرهم روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة المعنى كسبب لنزول الآيات. وهي أن جماعة من المسلمين اختلفت الروايات في أسمائهم وفيمن سمتهم من كان من كبار أصحاب رسول الله مثل عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود أرادوا أن يقلدوا الرهبان والقسيسين فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وتفرغوا للعبادة من صلاة وذكر وصوم وأرادوا أن يتخذوا لأنفسهم صوامع ومنهم من حاول أن يقطع مذاكيره. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكرهه وأغلظ لهم المقال ثم قال «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم. وإني لأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء فمن أخذ بسنّتي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس
__________
(1) لقد روى المفسرون الآخرون ما رواه الطبري فاكتفينا بالعزو إليه.(9/207)
مني فلم تلبث الآيتان أن نزلتا» ، ويروي الطبري صيغا أخرى مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للجماعة. منها «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» ومنها «لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا» ومنها «ليس في ديني ترك النساء واللحم واتخاذ الصوامع» . وهذه الروايات كسبب لنزول الآيات لم ترد في الصحاح. وقد وردت أحاديث صحيحة فيها شيء مما في هذه الروايات دون ذكر كون الآيات نزلت في مناسبتها. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال «أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول لأقومنّ الليل ولأصومنّ النهار ما عشت. فقال رسول الله أأنت تقول ذلك. فقلت قد قلته يا رسول الله.
فقال إنك لن تستطيع. فصم وأفطر. وقم ونم. فإنّ لجسدك عليك حقا وإن لعينيك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا» «1» وروى الشيخان والنسائي عن أنس قال «جاء إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم أما أنا فإني أصلّي الليل أبدا. وقال آخر إني أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» «2» وروى أبو داود عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال يا عثمان أرغبت عن سنتي قال لا والله يا رسول الله ولكني سنّتك أطلب قال فإني أنام وأصلّي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان. فإن لأهلك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصلّ ونم» «3» وهناك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس يذكر سبب نزول الآية جاء فيه «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
__________
(1) التاج ج 2 ص 90 و 91.
(2) المصدر نفسه ص 254 ومعنى تقالوها استقلّوها.
(3) المصدر نفسه ص 92 وعثمان بن مظعون أحد الحالفين والناذرين على ما جاء في الرواية الأولى.(9/208)
يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرّمت عليّ اللحم فأنزل الله الآية» «1» . ومع ذلك فإن الطبري يروي رواية أخرى كسبب لنزولها جاء فيها «أن ضيفا نزل على عبد الله بن رواحة فأخرت امرأته عشاءه إلى أن يحضر زوجها لأن الطعام قليل فلما جاء وعرف ذلك غضب وقال لن أذوقه فقالت وأنا لن أذوقه ما لم تذقه فقال الضيف وأنا لن أذوقه ما لم تذوقاه. فتراجع ابن رواحة وقال لامرأته قربي طعامك وكلوا باسم الله وغدا فأخبر النبي بالأمر. فقال له أحسنت وأنزل الله الآية» ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيات نزلت في مناسبة ما مما ذكرته الأحاديث والروايات. وإن كنا نرجح الرواية الأولى التي ذكرت الأحاديث الصحيحة محتواها وبعض الأسماء التي جاءت فيها لأنها أكثر تساوقا مع فحوى الآيات وما سبقها، وإذا صحّ هذا فتكون الآيات تليت في المناسبات الأخرى فالتبس الأمر على الرواة والله أعلم. وإذا صحّ ترجيحنا فيصحّ القول إن الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت بعدها. والله تعالى أعلم. والحادث الذي ذكرته الرواية الأولى وأيدت فحواه الأحاديث الصحيحة صورة رائعة لاستغراق المؤمنين الأولين في عبادة الله والرغبة في التقرّب إليه.
والآيتان في حدّ ذاتهما احتوتا كما هو المتبادر تشريعا وتلقينا عامي الشمول للمسلمين. وهما رائعان ومتسقان مع المبادئ العامة التي قررها القرآن.
ومتمشيان مع طبائع الأمور. ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود والظهور فهذه الشريعة لا تدعو إلى التنسك والزهد في أطايب العيش بل وتنكر ذلك. وقد استنكرته آية سورة الأعراف هذه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [32] وقد عاتب الله رسوله على شيء منه في حادث عائلي على ما مرّ شرحه في سياق تفسير سورة التحريم. وكل ما تأمر به الشريعة الإسلامية هو مراعاة القصد والاعتدال وتحري الطيّب الحلال.
__________
(1) التاج ج 4 ص 93.(9/209)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لكلّ نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» «1» وروى الطبرسي حديثا آخر جاء فيه «لا رهبانية في الإسلام» «2» .
ولقد تعددت أقوال المؤولين التي يرويها المفسرون في تأويل جملة وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ حيث قيل إنها بمعنى لا تتجاوزوا ما رسم الله من الحلال والحرام كما قيل إنها بمعنى لا تستنوا بغير سنّة الإسلام. أو إنها بمعنى لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام وكل هذه المعاني مما تتحمّله الجملة.
وقد خطر لنا معنى آخر وهو عدم الإسراف ووجوب الاعتدال فيما أحلّه الله للمسلمين من طيبات الحياة على ضوء آية الأعراف هذه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
. (1) اللغو في أيمانكم: روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن اللغو في الأيمان هو كلام الرجل في بيته: كلا والله وبلى والله «3» .
(2) بما عقدتم الأيمان: بما وثقتم الأيمان أو صممتم في أنفسكم عليه. أو
__________
(1) انظر تفسير آية الحديد [27] في تفسير ابن كثير.
(2) انظر تفسير الطبرسي لهذه الآية أيضا. [.....]
(3) انظر التاج ج 3 ص 70.(9/210)
أوجبتموه على أنفسكم باليمين أو تعمدتم الالتزام به.
تعليق على الآية لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ... إلخ وما ينطوي فيها من أحكام وتلقين ونبذة مقتبسة في أنواع الأقسام في الإسلام وما يجوز وما لا يجوز
عبارة الآية واضحة وفيها:
(1) إيذان للمسلمين بأن الله تعالى لا يؤاخذكم على ما يمتزج في كلامهم من لغو الأيمان المعتاد في أساليب الخطاب. وإنما يؤاخذهم بالأيمان التي يعزمون على أنفسهم بها على أمر معين سلبا أو إيجابا وعن تصميم.
(2) وبيان لما يجب عليهم في مثل هذه الحال. فإذا أقسم المسلم يمينا فيها عزيمة على الإقدام على عمل ما أو الامتناع عن عمل ما ثم بدا له أن يرجع عنها أو كان الأوجب الرجوع عنها حسب نوع العزيمة وماهيتها من الإباحة والكراهية فعليه أن يقدم كفارة عن يمينه وهي إطعام عشرة مساكين من نوع أوسط طعام أسرة الحالف أو كسوتهم أو عتق رقبة. فمن لم يستطع فعل ذلك فعليه أن يصوم بدل الكفارة ثلاثة أيام. وفي هذه الحالة لا يبقى حرج عليه من اليمين فيفعل أو لا يفعل ما حلف عليه سلبا أو إيجابا.
(3) وتوصية للمسلمين بوجوب حفظ أيمانهم.
وقد انتهت الآية بتقرير كون الله إنما ينزل آياته متضمنة مثل هذه الأحكام والبيانات حتى يشعر المسلمون المخاطبون بفضله ويقوموا بواجب شكره. مما جرى النظم القرآني عليه في تشريعات وتقريرات عديدة.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أنه لما نزلت الآيات السابقة قال الذين حرموا على أنفسهم طيبات الحياة ما نصنع يا رسول الله بأيماننا التي حلفناها على ذلك؟ فأنزل الله الآية.(9/211)
والرواية محتملة الصحة. ولا يبعد مع ذلك أن يكون خبر عزيمة الذين اعتزموا التنسك قد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مع خبر اليمين وأن تكون الآية قد نزلت مع الآيتين السابقتين كفصل تام فيه نهي عن تحريم التنسك وحرمان النفس من طيبات الحياة وحثّ أو إباحة للاستمتاع بالحلال الطيب وتحلة لليمين معا.
والآية في حدّ ذاتها جملة تشريعية تامة في صدد الأيمان وكفارتها. ولذلك أفردناها عن الآيتين السابقتين. وهي ثانية آية في هذا الصدد. ففي سورة البقرة آية تماثل الشطر الأول منها جاءت في معرض النهي عن اتخاذ اليمين وسيلة للامتناع عن الخير والإصلاح وتقوى الله. والآيتان متساوقتان. ويمكن أن تكون إحداهما متممة للأخرى فيما استهدفه القرآن من تلقين وتشريع في صدد أدب اليمين وتهذيب أخلاق المسلم وتوجيهه نحو الخير ومنعه أو حمايته من المزالق ومما يكرهه الله لعباده المؤمنين من أعمال ومواقف وعزائم.
ولقد روى المفسرون في صدد هذه الآية حديثا نبويا رواه الخمسة عن أبي موسى جاء فيه «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وتحللتها» «1» .
وهكذا يظهر من هذا الحديث ومن آية سورة البقرة [224] التي جاء فيها وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ شدة التساوق بين المبادئ القرآنية والتلقينات النبوية. وكون المهم في الإسلام هو عمل الخير وعدم الوقوع في الضار أو المنكر أو المكروه. فإذا حلف امرؤ يمينا على أمر يفعله أو لا يفعله وكان في تنفيذها ضرر وشرّ ومنكر ومكروه أو كان هناك ما هو خير منها فعليه الرجوع عنها مع التكفير عنها. ولا يجوز له في حال أن يتخذ اليمين
__________
(1) التاج ج 3 ص 78 وقد أورد مؤلف التاج مع هذا الحديث حديثين آخرين من بابهما واحدا رواه مسلم والنسائي جاء فيه «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» وآخر رواه مسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل» .(9/212)
وسيلة للامتناع عن الخير والبرّ والإصلاح أو لعمل ما فيه ضرر وشرّ ومنكر ومكروه. وفي هذا من التلقين والتهذيب ما يتسق مع مصلحة الإنسانية في كل ظرف ومكان. والتكفير عن اليمين هو بمثابة توبة إلى الله واعتذار وإعلان ندم.
وقد جعلت الكفارة وسيلة لعمل البرّ في الوقت نفسه. وفي هذا ما فيه من التوجيه الجليل أيضا.
وقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية في الأيمان اللغو وفي اليمين الغموس وفي اليمين المصبورة وفي اليمين التي تحلف لاقتطاع مال المسلم وفي ما يصح الحلف به ولا يصح وفي عدم لزوم الكفارة لمن يستثني في يمينه إلخ أوردناها في سياق تفسير الآية [224] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة ولقد أوردوا أقوالا متنوعة لبعض أصحاب رسول الله وتابعيهم ولأئمة الفقه في ما في الآيات من أحكام نوجزها ونعلّق عليها فيما يلي:
1- هناك من ذهب إلى اعتبار اليمين التي يحلفها الحالف وهو يظن أنه يحلف صادقا ويكون الأمر على غير ذلك من باب اللغو أو الخطأ الذي لا يؤاخذ عليه. وهذا وجيه يؤيده نصّ آية سورة البقرة [224] .
2- هناك من ذهب إلى أن اليمين التي يحلفها الحالف ليقتطع بها مال رجل مسلم لا تفيد الكفارة في التكفير عنها ولا يخلو هذا من وجاهة مع القول إن التوبة الصادقة مع إصلاح الضرر قد يضمنان غفران الله استلهاما من آيات التوبة في القرآن على ما شرحناه في سياق سورة البروج.
3- هناك قول بأن تحريم المرء الطيبات على نفسه بدون يمين يوجب الكفارة. وقول إنه لا يوجب إذا لم يكن يمين. وهذا هو الأوجه لأن الكفارة شرعت لليمين. غير أن التحريم بدون عذر مشروع يظل مخالفا لنهي الله ومعرضا صاحبه لغضبه ما لم يتب عنه على ما هو المتبادر.
4- هناك من فسّر كلمة أَوْسَطِ بمعنى المعتدل المعتاد. وهناك من فسّرها بمعنى (خير) و (أحسن) فإذا كان أهل الحالف يأكلون اللحم والسمن والتمر والخبز(9/213)
ولو لم يكن ذلك دائما فمن الواجب أن يكون طعام المساكين العشرة من ذلك.
وإلى هذا فهناك اتساق على عدم جواز الإطعام من النوع الرديء الذي لا يأكله أهل الحالف عادة. وهذا وذاك حقّ متسق مع نصّ الآية وروحها. ويستتبع هذا القول إنه إذا كان طعام أهل الحالف من الأنواع الرديئة مثل خبز الذرة والشعير والملح والبصل والخلّ والزيت فلا بأس على الحالف من أن يطعم المساكين منه أيضا.
عملا بالمبدأ القرآني وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها.
5- وهناك قول بأن الطعام هو وجبة واحدة مشبعة. وقول إنه قوت يوم كامل. أو غذاء أو عشاء. والآية تتحمل كل ذلك ومن السائغ القول إن على الميسور أن يفعل الأحسن.
6- وهناك قول إنه يصحّ جمع المساكين العشرة وإطعامهم أو إطعامهم متفرقين. وكل هذا وجيه. وعزا رشيد رضا إلى أبي حنيفة جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام ولا بأس في هذا وإن كان الأولى التزام النصّ وإطعام عشرة مساكين.
7- وأجاز بعضهم إعطاء بدل عيني. والآية تذكر الطعام الذي يمكن أن يقال إن المقصود به المهيأ للأكل. ولعلّ القائلين جوزوه لأنه يمكن أن يتحول إلى طعام مجز. وليس في هذا الرأي بأس فيما نرى. وقد اختلفوا في القدر فقيل إنه مدّ من برّ أو مدّ من تمر أو نصف صاع من برّ أو نصف صاع من تمر. أو مدّ برّ ومدّ تمر أو نصف صاع برّ ونصف صاع تمر. وروى رشيد رضا عن ابن ماجه حديثا يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كفّر بصاع من تمر وأمر به مع التنبيه على أن المفسر وصف الحديث بأنه ضعيف. ونقول هنا ما قلناه في الطعام المهيأ. وهو أن على الميسور أن يعطي الأكثر الأفضل.
والمتبادر أن المقادير المروية هي ما كانت تعدّ مجزية في الظرف والعرف اللذين قدرت فيهما وهذا ما ينبغي أن يلاحظ في أي ظرف وعرف كما هو(9/214)
المتبادر. والمهم على كل حال إعطاء ما يكافىء ما أوحته الآية على الوجه الأفضل الممكن.
ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يذكر جواز إعطاء ثمن الطعام نقدا. وقياسا على جواز إعطاء بدل عيني عنه نرى أن إعطاء الثمن سائغ أيضا والله تعالى أعلم.
8- وهناك قول بأن أي نوع من الكساء مجز. وقول إنه يجب أن يكون كسوة تامة. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية بل وفحواها. وهناك اختلاف في القدر. فقيل ثوبان. واحد للصيف وآخر للشتاء. وقيل إزار ورداء وقميص وسروال. وقيل إزار ورداء وقيل عمامة وعباءة. وعلى كل حال فالمهم هو كسوة تامة. وهي عرضة للتبدل بتبدل الظروف بطبيعة الحال. وهناك قول بأن وصف أَوْسَطِ يشمل الكسوة فيكون الواجب كسوة المساكين كسوة تامة من خير ما يكسي الحالف أهله. وفي هذا وجاهة ظاهرة.
وقد يسوغ القول قياسا على سواغ إعطاء ثمن الطعام أن إعطاء ثمن الكسوة نقدا سائغ أيضا. والله أعلم.
9- هناك قول إن (أو) للتخيير. وهناك من قال إنها للترتيب. وهذا وذاك هما في صدد الطعام والكسوة وتحرير الرقبة. لأن الصيام إنما يجزي في حالة عدم القدرة على الطعام والكسوة والرقبة. والقولان مما يتحمله النظم القرآني. وهناك من أوجب البدء بالأعلى. فالقادر على الرقبة فعليه أن يحرر رقبة والقادر على الكسوة عليه أن يكسو إن كانت الكسوة أغلى من وجبة الطعام. ولا يخلو هذا من وجاهة.
10- هناك من قال إن من كان عنده فضل لإطعام عشرة مساكين بعد قوته وقوت عياله يوما وليلة وجب عليه ذلك ولا يجزيه الطعام ولو لم يكن ذا مال كثير.
وهناك من جعل ذلك منوطا بحيازة ما فوق المائتي درهم. وهناك من جعل ذلك منوطا بفضل يزيد على رأس مال الحالف الذي يتعيش به. والرأي الأخير هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وعلى كل حال فالصيام لا يجزي إلّا في حالة العجز عن(9/215)
أقل الكفارات الأخرى قيمة. وهذا العجز يقدر حسب ظروف الحالف. وهذه مسألة إيمانية يوكل المرء فيها إلى دينه وتقواه.
11- وهناك من لم يقيد الرقبة بأي قيد من لون ودين وجنس. وهناك من قيدها بأن تكون مؤمنة استلهاما من آية النساء [92] التي تقيد الرقبة الواجب عتقها على القتل الخطأ بكونها مؤمنة. وهناك من قيدها إلى هذا بأن لا يكون فيها عيب أو عاهة من عمى وطرش وخرس وجنون أو لا يكون صغير السن. ويتبادر لنا أن قيد (المؤمنة) وجيه. ولكن إذا لم يوجد مملوك مسلم يشترى ليعتق فلا بأس فيما نرى من عتق رقبة غير مؤمنة لأن في ذلك على كل حال تحريرا للإنسان الذي كرّم الله جنسه مطلقا. وقد يكون إطلاق النصّ هذا مما يعضد هذا التسويغ. والمتبادر أن القائلين بسلامة الرقيق من العيب وبكونه كبير السن حتى لا يسترخص الحالف الرقبة التي يشتريها. ومع أن تحرير إنسان كبير وسليم قد يكون أنفع إلا أن تحرير إنسان صغير وذي عاهة ينطوي على البرّ والإشفاق أيضا مما يجعلنا لا نرى ذلك القيد وجيها وضروريا والله أعلم.
12- وهناك من أوجب أن يكون صيام الأيام الثلاثة متتابعا وعدّ الفطر في اليوم الثاني أو الثالث ناقصا يوجب الإعادة وقد روي أن كعب بن أبي أحد كبار قراء أصحاب رسول الله كان يقرأ (ثلاثة أيام متتابعات) وهناك من أجاز عدم التتابع ويلحظ أن القرآن نصّ على التتابع في صيام الشهرين اللذين يجب صيامهما على قاتل الخطأ في آية سورة النساء [92] وعلى المظاهر لزوجته في آية سورة المجادلة [4] وما دام أن المؤولين قالوا إن صفة الرقبة يجب أن تكون مؤمنة قياسا على آية سورة النساء فيسوغ أن يقاس عليها أيضا ويقال إن التتابع في صيام الأيام الثلاثة هو الأوجه والله تعالى أعلم.
وفي تفسير المنار نبذتان عن أقسام الحلف. واحدة تبدو أنها للمفسر وأخرى مقتبسة من فتاوى الإمام ابن تيمية وفي كل منهما سداد وفائدة ولذلك رأينا أن نوردهما في هذه المناسبة.(9/216)
ولقد جاء في الأولى أن الحلف باعتبار المحلوف عليه ينقسم إلى أقسام:
1- أن يحلف على فعل واجب وترك حرام. فهذا تأكيد لما كلّفه الله إياه فيحرم الحنث به ويكون إثمه مضاعفا.
2- أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم فهذا يجب عليه الحنث به لأن يمينه معصية وتجب الكفارة.
3- أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه. فهذا طاعة فيندب أو يجب الوفاء ويكره أو يحرم الحنث.
4- أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه. وهذه معصية فيجب الحنث مع الكفارة.
5- أن يحلف على ترك مباح. وهذا مختلف فيه. غير أن النهي عن تحريم ما أحلّ الله في الآية يلهم كراهية ذلك ووجوب الحنث والكفارة. أما إذا كان الحلف على شأن غير ذلك فإذا كان في الحنث فائدة كمجاملة ضيف أو إدخال سرور على الأهل أو زيارة صديق أو مباشرة عمل أو سفر فهو مستحب مع الكفارة.
ولقد جاء في النبذة الثانية أن الأيمان ثلاثة أقسام:
(أولاها) ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات والكعبة والملائكة والمشايخ والآباء وتربتهم ونحو ذلك. فهذه أيمان غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصحّ قوليهم استنادا إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث منها «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» و «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» و «ومن حلف بغير الله فقد أشرك» .
(وثانيها) اليمين بالله تعالى كقوله والله لأفعلنّ فهذه يمين منعقدة، فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين.
(وثالثها) أيمان المسلمين التي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها(9/217)
تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كقول المرء إن فعلت كذا فعليّ صيام شهر أو الحج إلى بيت الله أو الحل عليّ حرام لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله. أو إن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة. فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
(1) إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به.
(2) لا يلزمه شيء إذا حنث.
(3) يلزمه كفارة يمين فقط إذا حنث، ومن العلماء من جعل النذر كاليمين وأوجب في عدم الوفاء به كفارة.
وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار أنه يجزئه كفارة يمين في جميع هذه الأيمان كما قال الله ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وقَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: 2] .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه» . فإذا قال الحل عليّ حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فعليّ الحج أو مالي صدقة أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفّر كفّارة الظهار فهو أحسن.
هذا، ولقد تعددت تأويلات المؤولين القدماء في معنى جملة وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ حيث أوّلها بعضهم بمعنى (لا تنقضوها) أو (كفروا عنها) وأوّلها بعضهم بمعنى (لا تكثروا من الأيمان وتروّوا فيها) . وكلا القولين محتمل وإن كنا نرجح القول الثاني والله أعلم.
ولما كانت هذه الآية هي الوحيدة التي فيها تحلّة اليمين فإن فيها دليلا على أن سورة التحريم قد نزلت بعدها لأن فيها جملة قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ حيث يكون في هذا دليل آخر أو قرينة أخرى على أن بعض فصول هذه السورة نزلت قبل فصول سورة متقدمة عليها. ويقال هذا بالنسبة لفصول اليهود التي يدل فحواها على أنها نزلت قبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة على كل حال. وهذا وذاك(9/218)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
يؤيدان ما قلنا من أن فصول هذه السورة قد ألّفت بعد تمام نزول ما اقتضت الحكمة أن تحتويه من فصول.
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وصور وأحكام وتلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمؤمنين باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وبيانا بأن كلا منها رجس وشرّ واجب الاجتناب. وتنبيها على ما يؤدي إليه الخمر والميسر بخاصة بوسوسة الشيطان من العداوة والبغضاء بين المؤمنين ومنع متعاطيهما منهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وسؤالا فيه معنى اللوم والتبكيت وإيجاب الانتهاء عمّا إذا كان المؤمنون منتهين بعد الآن عن هذين العملين المنكرين. وحثا على طاعة الله ورسوله فيما يأمرانهم به وينهيانهم عنه.
وتحذيرا من المخالفة بأسلوب ينطوي على الإنذار. فإذا لم يحذروا فليس على الرسول إلّا البلاغ وأمرهم لله القادر عليهم.
ولقد روى الطبري حديثا جاء فيه «قال عمر: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية البقرة [219] فدعي فقرئت عليه فقال اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية النساء [43] فدعي فقرئت عليه فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة فدعي فقرئت عليه فقال: انتهينا انتهينا» «1» وإلى هذا
__________
(1) هذا الحديث رواه أصحاب السنن أيضا انظر التاج ج 4 ص 94.(9/219)
الحديث فإن الطبري أورد روايات أخرى كسبب لنزول الآيات. منها أن جماعة من المهاجرين والأنصار شربوا خمرا في وليمة أقامها أنصاري فانتشوا فتفاخروا فتشاجروا وضرب بعضهم سعد بن أبي وقاص على أنفه فكسره فنزلت الآيات.
ومنها أن جماعة سألوا النبي عن الخمر والميسر فنزلت آية البقرة ثم سألوه فنزلت آية النساء ثم سألوه فنزلت آية المائدة «1» .
وعدا الرواية الأولى التي يرويها أيضا أصحاب السنن فليس شيء من الروايات الأخرى واردا في كتب الحديث، ويلحظ أن الروايات حتى أولاها التي هي أقواها سندا مقتصرة على الخمر في حين أن الآية احتوت نهيا عن الأنصاب والأزلام. والميسر أيضا.
ولقد قال الطبري حينما أورد الآية الأولى إن هذا بيان من الله تعالى للذين حرموا على أنفسهم طيبات ما أحلّ الله لهم تشبها بالقسيسين والرهبان بما هو الأولى والأوجب عليهم أن يحرموه. والقول وجيه ويربط بين هذه الآيات والآيات السابقة. مع التنبيه إلى أن حكمة التنزيل اقتض توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين كما هو الشأن في الآيات السابقة جريا على النظم القرآني في المناسبات المماثلة.
ولعلّ وضع الآيات بعد تلك مباشرة مما يقوي هذا التوجيه ويسوغ القول باحتمال نزولها بعدها. وهذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث والروايات الأخرى كلّه أو بعضه. فاقتضت حكمة التنزيل جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام معا في النهي والبيان.
ولقد تضمنت آية سورة البقرة المار ذكرها تنبيها إلى أن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما وتضمنت آية سورة النساء المار ذكرها نهيا عن الصلاة في حالة السكر. فجاءت هذه الآيات أقوى من المرتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر
__________
(1) هناك روايات أخرى يرويها الطبري ويرويها المفسرون الآخرون فاكتفينا بما أوردناه لأنها متقاربة.(9/220)
والميسر. حيث يصح القول بأن حالة العهد المدني صارت تتحمل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضارة التي كان لها رسوخ شديد بين العرب ومتصلة بمصالحهم الاقتصادية في الوقت نفسه والتي اكتفي بسبب ذلك بالخطوات التمهيدية في صددها في آيتي البقرة والنساء.
ولقد قال بعض المتمحلين إن أسلوب الآيات أسلوب تحذير وكراهية أكثر منه أسلوب تشريع وتحريم حاسم. وحاولوا تأييد تمحّلهم بالقول بأن حدّ شارب الخمر ليس قرآنيا وإنما هو سنّة نبوية وراشدية متموجة المقدار. وليس من حدّ على لاعب الميسر. وهذا وذاك لا يقومان على أساس صحيح لا من حيث أسلوب الآيات ولا من حيث مضمونها. بل ومن الحقّ أن يقال إن أسلوبها ومضمونها احتويا قوة في التحريم. ويكفي أن يكون الخمر والميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذكر للتدليل على ذلك. فإنه لن يسع أحدا أن يقول مثلا إن النهي عن الأنصاب التي كان يقيم المشركون طقوسهم الدينية ويقربون قرابينهم عندها هو من قبيل التحذير والكراهية وليس من قبيل التحريم الزاجر. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول هذه الآيات. يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم- الذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم والانتهاء عمّا نهاهم، كما أنه من الله- من أحاديث عديدة في تحريم كلّ مسكر وفي اعتبار كل مسكر خمرا وفي لعن شاربها وبائعها وحاملها وإنذار شاربيها ومستحليها ومسمى بعضها بأسماء أخرى بالنذر القاصمة. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر وجاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام» «1» وحديث رواه الخمسة عن عائشةو جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «كلّ شراب أسكر فهو حرام» «2» وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن طارق الجعفي «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها
__________
(1) التاج ج 3 ص 126- 130.
(2) المصدر نفسه.(9/221)
للدواء فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» «1» وحديث رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوّى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، فقلت: إن الناس غير تاركيه، قال:
فإن لم يتركوه فقاتلوهم» «2» وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام» «3» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كلّ مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرام» «4» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» «5» وحديث رواه النسائي والترمذي عن ابن عمر ونفر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه، وفي رواية: فاضربوا عنقه» «6» وحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها» «7» وحديث رواه أصحاب السنن «قال النبي صلى الله عليه وسلم: من شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: صديد أهل النار. ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» «8» . أما كون القرآن لم يضع حدا على شارب الخمر ولاعب الميسر
__________
(1) التاج ج 3 ص 126- 130.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه. [.....](9/222)
فالمتبادر أن ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيين لا يتعلق بهما حق الغير.
فالحدود القرآنية إنما تفسّر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسّر به أيضا.
ويلحظ أن القرآن لم يعيّن حدّا على تارك الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي أركان الإسلام مما يمكن أن يفسر بمثل ذلك. والقول بعدم حرمة المسكر والميسر كفر لا ريب فيه بإجماع علماء المسلمين في كل زمن ومكان استنادا إلى هذه الآيات وروحها والأحاديث النبوية العديدة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل وكرامة واحتمال إقدام الشارب على أفعال ضارة به وبغيره كما هو المتبادر.
ويلحظ أن المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك يجعل السنّة النبوية من باب التعزير والتأديب حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس «أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وفي رواية: أنه أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية للترمذي: أنه ضرب شارب الخمر بنعلين أربعين» «1» وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان» «2» وروى البخاري «أنه كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسمّى عبد الله وكان يلقّب حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال بعض القوم: اللهمّ العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فو الله ما علمت إلّا أنه يحبّ الله ورسوله» «3» وليس في النهي النبوي في الحديثين ما يخفف إثم شارب الخمر واستحقاقه للتعزير وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير تجاوز ذلك إلى لعنه. وفي هذا تأديب نبوي رفيع كما هو المتبادر.
__________
(1) التاج ج 3 ص 28.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(9/223)
ولقد استلهم أصحاب رسول الله سنته من بعده فروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال ما ترون في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود فجلد ثمانين «1» .
ولقد روى الشيخان عن ابن عمر قال سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول «أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل» «2» والجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث التي أوردناها قبل تزيل الوهم بحلّ ما يمكن أن يصنع من غير المواد المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر. والمتبادر أن المواد التي ذكرت في الحديث هي ما كان يصنع منه الخمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه.
هذا، وهناك أحاديث أخرى فيها بعض الأحكام في صدد الخمر أيضا. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن النبيذ فنهاهم أن ينتبذوا في الدّباء والنقير والمزفّت والحنتم» «3» والانتباذ هو نقع الزبيب والتمر وما من بابهما وشرب نقيعه الذي كان يسمى نبيذا. وقد روى مسلم والترمذي حديثا فيه تفسير للألفاظ عن ابن عمر لسائل سأله عنها جاء فيه «نهى النبيّ عن النبذ في الحنتم وهي الجرة والدباء وهي القرعة والمزفّت وهو المطلي بالقار والنقير وهي جذع النخلة المنقور وأمر بأن ينتبذ في الأسقية» «4» وهناك حديثان معولان للحديث النبوي روى أحدهما الخمسة إلا البخاري عن بريدة جاء فيه فيما جاء «قال النبي صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير ألّا تشربوا مسكرا» «5» وحديث رواه الخمسة جاء فيه «قال
__________
(1) التاج ج 4 ص 94.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 3 ص 126 وما بعدها.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(9/224)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن الظروف. وإن ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه. وكلّ مسكر حرام» «1» حيث يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم لحظ احتمال تغير النقيع في الأوعية المذكورة حتى يصير مسكرا. ثم استدرك في الحديثين فركز النهي على المسكر. بحيث صار هذا هو القاعدة والضابط. مع ملاحظة الأحاديث السابقة التي تقول ما أسكر كثيره فقليله حرام. وهناك حديثان فيهما توضيح متسق مع هذا الاستدراك رواهما مسلم وأبو داود والنسائي أحدهما عن ابن عباس جاء فيه «كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهرق» «2» وثانيهما عن عائشة قالت «كنّا ننبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة» «3» وهناك حديث آخر فيه توضيح آخر رواه الخمسة عن عائشة قالت «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كلّ شراب أسكر فهو حرام» «4» .
وهذه أحاديث نبوية أخرى فيها بعض الأحكام منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أنس جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلّا فقال لا» «5» وحديث رواه أبو داود عن أنس جاء فيه «إنّ أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها. قال أفلا أجعلها خلا قال لا» «6» وروى الإمام أحمد حديثا جاء فيه «أهدى رجل زقّ خمر لصديق له بعد نزول الآيات فقال له إن الله حرّمها فاذهب فبعها. فقال رسول الله إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها فأهرقت في البطحاء» «7» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 126 وما بعدها.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه. [.....]
(7) المصدر نفسه.(9/225)
وقد يرد سؤال وهو ما إذا كان للمضطر أن يشرب الخمر قياسا على إجازة القرآن للمضطر بأكل الميتة ولحم الخنزير والدم وما أهلّ لغير الله به على ما جاء في آيات عديدة منها الآية الثالثة من هذه السورة. ولقد أوردنا قبل قليل حديثا فيه جواب نبوي يفيد النهي عن صنع الخمر وشربها كدواء. ويتبادر لنا أن نصّ الحديث غير حاسم. وأن من السائغ أن يقال إن للمضطر في حالة المرض الشديد الذي لا يكون له علاج إلا الخمر وإن له في حالة العطش الشديد الذي لا يجد صاحبه ما يدفع به عطشه إلا الخمر أن يتناول من الخمر ما يشفي مرضه ويدفع عطشه في نطاق الرخصة القرآنية المنطوية في جملة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام [145] وفَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [3] والله تعالى أعلم.
وفي صدد الميسر نقول إننا شرحنا معناه اللغوي في سياق تفسير سورة البقرة [219] ونقول هنا إن صيغة الآية تفيد أن تحريم كلّ ما يندرج في معنى الميسر وهو أخذ مال من آخر بدون حقّ وسند شرعي وبأسلوب اللعب والرهان بخاصة هو بنفس قوة تحريم الخمر. وهناك أحاديث في صدد تحريم بعض الألعاب. منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة حديث آخرون. فمن الأول حديث رواه مسلم وأبو داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» «1» وحديث رواه أبو داود عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» «2» . ومن الثاني حديثان في صيغة متقاربة أوردهما ابن كثير أخرج أحدهما الإمام أحمد عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجرا فإنهما من ميسر العجم» وأخرج ثانيهما ابن أبي حاتم عن أبي موسى قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر» وقد روى
__________
(1) التاج ج 5 ص 261.
(2) المصدر نفسه.(9/226)
ابن كثير قولا عن عبد الله بن عمر عن الشطرنج أنه شرّ من النرد وعن عليّ أنه من الميسر. وقال إن مالكا وأبا حنيفة وأحمد حرّموه وإن الشافعي كرهه. وروى عن عطاء ومجاهد وطاووس أن كل شيء من القمار هو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والبيض. ويصحّ أن يفرع على هذا ألعاب الورق التي لم تكن معروفة قبل.
وظاهر مما تقدم أن كل ما يمارس، من ألعاب وأعمال فيها رهان وقمار وأخذ مال الغير وبنية ذلك يدخل في معنى الميسر ويتناوله الوصف والحظر القرآنيان. وفي قول مجاهد وعطاء وطاووس الذي يرويه ابن كثير دعم لذلك.
وفي صدد الأزلام نقول إن المستفاد من كلام الطبري وغيره أن المقصود من الكلمة في الآية هو ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر. وهي الطريقة التي شرحناها في سياق آية سورة البقرة [219] حيث أريد بالعبارة القرآنية هنا التنبيه إلى أنّ كل ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر هو رجس حرام. وتأويل الأزلام بالذبائح التي تذبح على سبيل الميسر هنا وجيه. غير أن ذكر الأزلام مع الميسر قد يفيد أن الكلمتين غير مترادفتين. والذي يتبادر لنا أن الميسر هو القمار بصورة عامة وأن الأزلام نوع منه اختص بالذكر لأنه الأكثر ممارسة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته ممتدّا إلى ما قبل. وقد يدعم هذا الاكتفاء بذكر الميسر في الآية الثانية.
والأنصاب هي ما كان العرب ينصبونه للعبادة والطقوس من حجر وشجر وكانوا يذبحون عندها قرابينهم باسم معبوداتهم التي يشركونها مع الله وقد ذكر ذلك في الآية [3] من هذه السورة. حيث حرّم ما يذبح عليها وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ولعل المقصود هنا أيضا توكيد تحريم أكل الذبائح التي تذبح عليها لأن هذا هو المتناسب مع مقام الآيات.
هذا، وأسلوب الآيات شديد في الوصف والتحذير. مما قد يدلّ على قوة جذور هذه العادات وتعلّق الناس بها وبخاصة الخمر والميسر. وقد نبهت الآية الثانية إلى ما في تعاطي الخمر والميسر من مضارّ عظيمة اجتماعية وخلقية ودينية مما هو من باب حكمة التشريع ومما هو متسق مع الأسلوب القرآني بوجه عام.(9/227)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
وما احتوته الآيات من الحكمة أولا والنهي المشدد والمطلق عن الخمر والميسر ثانيا مما انفرد به القرآن. ومما هو متسق مع العقل والمصلحة الإنسانية في كل ظرف وبالتالي من مرشّحات الشريعة الإسلامية للخلود.
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
. تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... إلخ وما فيها من تلقين
عبارة الآية واضحة. وقد روى الطبري وغيره روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة في الجوهر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا النبي حينما نزلت الآيات السابقة عن حالة الذين شربوا الخمر وأكلوا لحم ذبائح الميسر منهم ومن إخوانهم الذين ماتوا قبل نزولها فنزلت الآية.
والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها محتملة وتكون الآية بذلك متصلة بما سبقها اتصالا موضوعيا ولعلّها نزلت عقبها مباشرة قبل أن ينزل قرآن آخر والله أعلم.
وقد قال الطبري في شرح مدى الآية قولين جاء في واحد منهما أن الفقرة الأولى هي بسبيل رفع الحرج عن الذين أكلوا وشربوا قبل التحريم إذا ما آمنوا واتقوا وعملوا الصالحات وخافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه وثبتوا على ذلك.
وجاء في ثانيهما أن الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله تعالى بالقبول والتصديق والعمل به. والثاني هو الاتقاء بالثبات على ذلك. والثالث بالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال. وقال البغوي إن الاتقاء الأول اتقاء الشرك والثاني بمعنى الدوام في الاتقاء والثالث الإحسان في الأعمال. ومما قاله الطبري أن الأول بالنسبة للذين(9/228)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
ماتوا والثاني بالنسبة للذين ظلوا أحياء في عهد النبي والثالث للزمن المقبل.
وفي كل هذه الأقوال وجاهة. ولقد انطوت الآية على رفع الحرج عن المؤمنين في زمن النبي عمّا فعلوه ولم يكن محرّما عند فعله. كما انطوت على تلقين مستمر المدى بكون المهم عند الله تعالى هو الإيمان والتصديق والاجتهاد في اتقاء حرمات الله ومحرماته واتباع أوامره واجتناب نواهيه والعمل الصالح والإحسان فيه ثم يتسامح الله عزّ وجل فيما يتناوله المؤمنون من مشروب ومطعوم بحسن نية وبغير قصد الإثم وبغير العلم بالإثم ولو كان في حقيقته فيه شبهة أو تهمة. وهذا متسق مع تلقينات القرآن العامة. ومتسق مع طبائع الأمور، ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود.
وواضح من هذا أن التسامح لا يشمل الذين يتناولون المحرمات من مطعوم ومشروب عن علم خلافا لما يقوله ويفعله بعض الفسّاق والمجّان.
ويظهر أن هذا قديم حيث رأينا الرازي يتصدى له ويفنده تفنيدا سديدا على ما جاء في تفسير رشيد رضا مسهبا مع تفنيده بدوره تفنيدا سديدا.
ومقام الآية ونصّها لا يمكن أن يتحملا ذلك. فهي في صدد الذين تناولوا ما تناولوه قبل تحريمه وهي تشترط لرفع الجناح عنهم أن يتقوا حرمات الله بعد تحريمه ويؤمنوا ويحسنوا ويعملوا الصالحات.
واستحلال ذلك بعد نزول الآيات المحرّمة كفر وتناول المحرمات مع الاعتراف بحرمتها دون استحلالها كبيرة. وكل ما يمكن أن يقال في الحالة الثانية هو أن باب التوبة مفتوح أمام المؤمن في نطاق شروطها من ندم واستغفار وعزم على عدم العودة وفي حالة الصحة. والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
.(9/229)
(1) النعم: مرادفة للأنعام.
(2) ذوا عدل: معروفين بالعدل والاستقامة.
(3) السيارة: بمعنى القافلة والمسافرين.
في الآيات:
(1) تنبيه للمسلمين بأن الله قد يختبرهم فيجعل في متناول أيديهم ورماحهم شيئا من الصيد حتى يظهر فعلا المؤمن المخلص الذي يخاف الله ويؤمن به بالغيب ولو لم يره ويقف عند أوامره.
(2) وإنذار للذين ينحرفون عند الاختبار ويتعدون حدود حرمات الله فإن لهم عنده عذابا أليما.
(3) ونهي عن قتل الصيد في حالة الإحرام وتشريع الكفارة لمن يفعل ذلك.
وهو تقريب قربان عند الكعبة من الأنعام معادل لما قتل أو إطعام بعض مساكين أو صيام بعض أيام تعادل ذلك ليشعر بهذا قاتل الصيد أنه اقترف محظورا وكفّر عنه.
(4) وإيذان بأن الله قد عفا عما سلف من ذلك وأن من عاد إليه فإنه يكون قد عرض نفسه لانتقام الله العزيز.
(5) وخطاب تشريعي للمسلمين بأن الله تعالى قد أحلّ لهم صيد البحر وأكله على أن يتمتع بهذه الرخصة المسلمون على السواء المقيم منهم والمسافر وبأنه قد حرّم عليهم صيد البرّ ما داموا حرما. وموعظة لهم فعليهم بتقوى الله الذي سيحشرون إليه ويقفون بين يديه.(9/230)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة
وقد روى البغوي في سياق الآية الأولى أنها نزلت عام الحديبية وكان المسلمون محرمين فابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم بكثرة فهمّوا بأخذها فنزلت. وروى أن الآية الثانية نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شدّ على حمار وحش وهو محرم فقتله. ولم نطلع على رواية في مناسبة حلّ صيد البحر وطعامه. وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولا في تفسير الطبري.
ويلحظ أن الآيات وحدة منسجمة شكلا وموضوعا. وأن فيها موضوعا لم يذكر في روايات النزول وهو حلّ صيد البحر وطعامه مما يجعلنا نرجح نزول الآيات دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون وقع ما ذكرته الروايات فكان ذلك مناسبة لنزول الفصل ليكون تشريعا تاما في موضوع الصيد في حالة الحرم.
وقد لا تبدو صلة ظرفية بين هذا الفصل والآيات السابقة له. ولكن التناسب الموضوعي ملموح لأنه فصل تشريعي كسابقه وفيه تشريع فيما يؤول إلى الأكل وقصده وهو الصيد. والمتبادر أن وضعه في مكانه بسبب ذلك إن لم يكن قد نزل بعد الآيات السابقة مباشرة.
ومع أننا لم نطلع على ما يفيد أن صيد البحر كان محظورا أو غير محظور في حالة الحرم قبل الإسلام فالذي نرجحه من مدى ومفهوم التقليد القديم في حظر الصيد المنبثق من حظر سفك الدم في حالة الإحرام أنه كان محظورا فاقتضت حكمة التنزيل إباحته ليكون ذلك تسهيلا للمسلمين عامة وللذين يأتون من المسافات البعيدة ويكون البحر طريقهم أو على طريقهم. وهذا يؤدي إلى القول أن المقصود من الجملة القرآنية إباحة صيد البحر وأكله في حالة الحرم كما هو المتبادر.(9/231)
ولقد شرحنا مدى جملة وَأَنْتُمْ حُرُمٌ في سياق تفسير الآية الأولى من السورة. فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية والأقوال المعزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي «1» :
1- هناك من قال إن الكفارة إنما تجب على الذين يقتلون الصيد عمدا وهم ناسون أنهم في حالة الإحرام. فإذا لم يكونوا ناسين فلا يحكم عليهم بكفارة لأن ذنبهم أعظم من أن يكفر ويكونون موضع انتقام الله. وينحلّ إحرامهم ويبطل حجهم. وصرف القائلون جملة عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ إلى ما قبل نزول الآيات.
وهناك من قال إن الكفارة تصحّ لمن يقتل الصيد لأول مرة عمدا في حالة الإحرام ولو كان ذاكرا أنه في هذه الحالة. فمن كرر العمل فيغدو ذنبه أعظم من أن تكفره كفارة فلا يحكم عليه ويكون موضع انتقام الله. واتفقوا مع القول الأول بصرف العفو عما سلف إلى ما قبل نزول الآيات وقالوا إن الكفارة لا تسقط ما أنذر الله به من العذاب في الآية الأولى لأنه خالفها. ونبهوا على أن على المحكّمين أن يسألا الذي يحكّمهما إن كان قتل صيدا عمدا قبل ذلك فإن قال نعم ردّاه ولم يحكما وإن قال لا حكما. وقد صوّب الطبري القول الثاني. وهو تصويب في محله إلّا في أمر عدم سقوط ذنب الذي يقتل الصيد لأول مرة بالكفارة. فالكفارة ليست تعويضا لصاحب حقّ وإنما هي بمثابة توبة لله. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات كما جاء في آية سورة الشورى [25] وهناك ذنوب أعظم تسقط بالتوبة فضلا عن الكفارة على ما مرّ شرحه في سياق الآيات [33- 34] من هذه السورة وفي سياق بحث التوبة في سياق سورة الفرقان.
2- هناك من قال إن (أو) هي للتخيير. فالحكمان العدلان يحكمان بما يعادل الصيد طعاما أو صياما أو هديا. والصائد يختار إحدى هذه الثلاث للتكفير.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. والطبري كعادته أكثرهم استيعابا وإسهابا.(9/232)
وهناك من قال إنها للترتيب فيجب الهدي أولا فإن لم يمكن فالطعام فإن لم يمكن فالصيام. والنظم القرآني يتحمل كلا القولين. وإن كنّا نميل إلى القول إن على الميسور أن يقدم هديا إن وجد وقدر عليه وإلا فيطعم المساكين وإن لم يقدر فليصم وقد نبهوا على أن الهدي يذبح عند الكعبة. ويوزع لحمه على المساكين.
3- وقد بينوا الحدود التي يحسن أن يحكم الحكمان في نطاقها. فمن قتل حمار وحش أو بقرة وحش أو وعلا فعليه هدي بقرة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام عشرة أيام. ومن قتل غزالا أو أرنبا أو ضبّا أو يربوعا فعليه شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ستة أيام. ومن قتل دون ذلك كعصفور أو سمان أو حمامة فلا يحكم عليه بهدي لأنه ليس في الأنعام ما يعادل ذلك وإن كان يستحب أن يقرب سخلة أو شاة. ويحكم عليه بطعام ثلاثة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. والطعام قوت يوم كامل نصف صاع أو مدّ من برّ أو تمر أو أكل جاهز.
4- ومما قالوه إن الصيد يقوّم بدراهم وهو حي ويشترى مما ندّ له من النعم إذا كان القاتل قادرا ولم يكن يملك ندا. وإن لم يجد ندا فيشترى بها حنطة أو تمر أو طعام ويوزع على المساكين. فإن لم يجد فيصوم مقابل ذلك أياما. وهناك من قال إن صيام يوم يقابل ما قيمته نصف صاع أو مدّ. وهناك من قال إن مقابل صيام اليوم ما قيمته صاع أو مدّ. والاختلاف في عدد الأصوع والأمداد هو بسبب اختلاف روايات مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ترو في الصحاح. ومهما يكن من أمر فالمبدأ الذي احتوته هذه الفقرة وهو تقويم الصيد بثمنه وهو حيّ وشراء ندّ له وتقريبه وإطعامه للمساكين إذا أمكن وشراء طعام أو حنطة أو تمر بالثمن وتوزيعه على المساكين إذا كان القاتل قادرا وصيام أيام عن كل ما قيمته صاع أو مدّ أو نصف صاع أو نصف مدّ يصحّ أن يكون مبدأ عاما يطبق في كل ظرف. والله أعلم.
5- وقد نبهوا على أن النهي هو في صدد ما يؤكل من الحيوان. وأباحوا قتل المؤذي منه في حالة الحرم استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم روى واحدا منها الخمسة عن النبي جاء فيه «خمس من الدوابّ لا حرج على من قتلهنّ الغراب(9/233)
والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» . وفي رواية «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة» «1» ولقد ألحق الفقهاء الوحوش الضارّة والحيوانات الضارة الأخرى قياسا على هذه الأحاديث.
وهو وجيه.
6- وقد نبهوا إلى جواز أكل صيد البرّ للمحرم إذا لم يصده الآكل أو يصد له. استنادا إلى حديث رواه الإمام الشافعي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «2» ولقد روى الخمسة عن ابن عباس قال «أهدى الصعب بن جثّامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم فردّه عليه وقال لولا أنّا محرمون لقبلناه منك وفي رواية أهدي له عضو من لحم صيد فردّه وقال إنّا لا نأكله. إنّا حرم» «3» وقد فسّر المفسرون هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنّ أن هذا الصيد قد صيد له ليزيلوا التناقض بينه وبين الحديث السابق. وأوردوا بسبيل ذلك حديثا جاء فيه «إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء فقرّب إليهم طير وهم محرمون فقال لهم عثمان كلوا فإني غير آكله.
فقال له عمرو بن العاص وكان معه أتأمرنا بما لست آكلا. فقال لولا أني أظنّ أنه صيد من أجلي لأكلت فأكل القوم» «4» . وهناك حديث مؤيد لذلك رواه البخاري والنسائي عن أبي قتادة «أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم لو سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عنه فسألناه فقال لقد أحسنتم.
هل معكم منه شيء قلنا نعم. قال فأهدوا لنا فأتيناه منه فأكل منه وهو محرم» «5» .
7- ونبهوا كذلك إلى أن صيد البحر وطعامه مباح للمحرم وغير المحرم.
وسواء أخرج من الماء حيا أم ميتا. وكذلك ما قذفه البحر إلى الساحل. وما يقدد
__________
(1) التاج ج 2 ص 107.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 106.
(4) تفسير الطبري.
(5) التاج ج 3 ص 83.(9/234)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
منه وما يملح. وجعلوا الأنهار في مثابة البحار في هذا الأمر. وبعضهم استثنى الضفادع والسرطانات لأنها ليست حيوانات بحرية تماما.
8- أما الحكمان ذوا العدل فلم نطلع على شيء في صددهما. والمتبادر أن الصائد هو الذي يختارهما من ذوي العدل والخبرة ليقدروا المسألة ويشيروا على الصائد برأيهم فيها. فهذه مسألة دينية وليست مسألة قضائية حقوقية بين متخاصمين حتى يصح أن يكون لولي أمر المسلمين دخل فيها. والله أعلم.
هذا، وبمناسبة ورود كلمة الكعبة لأول مرة نقول إن المفسرين قالوا إنها سميت بذلك لأنها مربعة أو مرتفعة. وإنها من كعبت المرأة إذا نتأ ثديها أو ارتفع كما قالوا إنها سميت بذلك لانفرادها عن البنيان «1» . وقد ينطوي في هذا المعنى الأول بشكل ما. ولقد أشير إليها في مواضع عديدة في السور السابقة المكية والمدنية باسم البيت والبيت الحرام والبيت العتيق وهو ما كان العرب يسمونها به قبل الإسلام. وكانوا يضعون فيها وحولها أصنامهم ويطوفون بها ويقيمون صلاتهم ويقربون قرابينهم عندها. والمأثور في الروايات العربية «2» أنها لم تكن الوحيدة في جزيرة العرب حيث كان لبعض قبائل العرب كعبات للأغراض نفسها مع اعتبارها كعبة للعرب جميعهم. وحينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وجد فيها وحولها 360 صنما ووجد على جدرانها صور إبراهيم وعيسى عليهما السلام حيث قد يدل هذا على أن العرب كانوا يعتبرونها كعبة عامة مشتركة ومنهم قبائل نصرانية أرادوا أن يؤيدوا ذلك بوضع نسخ من أصنامهم ومعبوداتهم فيها وحولها. ولقد ذكرنا في مناسبات سابقة ما ورد في صدد وجودها وبنائها فلا ضرورة للإعادة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) .
__________
(1) تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
(2) انظر العرب قبل الإسلام لجواد عليّ ج 5 ص 75 وما بعدها. وانظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 602 وما بعدها.(9/235)
(1) قياما للناس: قوام حياة الناس ومصالحهم.
تعليق على الآية جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) تنبيها إلى ما في الكعبة التي هي بيت الله الحرام والأشهر الحرم والهدي والقلائد وحرماتها وتقاليدها من أسباب قوام أمور الناس ومعايشهم ومصالحهم.
(2) وهتافا للمؤمنين بأن عليهم أن يتأكّدوا ويعلموا أن الله العليم بكل ما في السموات والأرض عليم بمقتضيات كل شيء وبما يقوم به أمر الناس. وأنه شديد العقاب على من يتمرد على حرماته وينقضها غفور رحيم لمن حسنت نيته وراقب الله في أعماله وندم على ما فرط منه.
(3) وتنبيها آخر إلى أنه ليس على الرسول إلّا البلاغ وأن الله مراقب المخاطبين وعليم بكل ما يبدون وما يكتمون ومحصيه عليهم.
(4) والتفاتا في الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به بأن يقول للناس إنه لا يصحّ في حال أن يكون الخبيث والطيب والحلال والحرام سواء ولو كان ظاهر الخبيث أو الحرام معجبا مغريا بكثرته.
(5) وهتافا موجها إلى أولي العقول بتقوى الله تعالى فإن فيها الفلاح والنجاح.(9/236)
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة على سبيل البيان والتعليل لتقاليد الحجّ المتنوعة التي من جملتها تحريم الصيد. ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أو عقبها مباشرة.
ولقد شرحنا في مناسبات سابقة من هذه السورة وقبلها مدى ودلالات وتقاليد الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد فلا ضرورة للإعادة أو الزيادة.
وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ما احتوته الآيات من تعليل رائع في مداه ومفهومه وتلقينه لتقاليد الحج. فالله عزّ وجل إنما ألهم العرب هذه التقاليد أولا وأقرّها في القرآن ثانيا من أجل ما فيها من مصالح عظيمة للناس متنوعة الأشكال والصور وخاصة وعامة ودنيوية وتعبدية معا وفيه قرينة على ما كان لهذه التقاليد من أثر صالح في حياة العرب قبل الإسلام. حيث كانت وسيلة لاجتماعهم في مناسك واحدة ومكان واحد على اختلاف عقائدهم ومعبوداتهم ومنازلهم. ومظهرا من مظاهر حركة وحدوية ظهرت فيهم. وهدنة مقدسة تتوقف فيها الحروب والمنازعات ويسود فيها الأمن والطمأنينة في تلك الربوع الشاسعة الواسعة التي ليس فيها سلطات حكومية أو قضائية نافذة. وسببا لقيام أسواق يتبادلون فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم. ويحلّون مشاكلهم. وتتوحد لغاتهم ولهجاتهم. ويتداولون مفاخرهم.
ويستمعون للمواعظ والخطب والقصائد والأخبار المتنوعة في مداها وتأثيرها مما شرحنا صوره في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الحج والبقرة.
وفي كل هذا مظهر حركة يقظة وجيشان نفوس وأفكار سبقت البعثة النبوية.
والآيات بهذا الاعتبار تنبه على أن التشريع الإسلامي إنما يستهدف مصالح الناس المادية والمعنوية. وتزيل وهما يمكن أن يقوم في الأذهان نحو تقاليد الحج التي أبقي أكثرها على ما كان عليه في الجاهلية بعد تجريدها مما فيها من شوائب ومعائب. كما أنها تحتوي تلقينا جليلا شاملا ومستمرا بإباحة توطيد وإيجاد وتيسير كل ما من شأنه أن يكون فيه قوام مصالح الناس ومعايشهم. ووسيلة إلى قوة المسلمين وعمران بلادهم. وارتقاء أحوالهم مع مراعاة حرمات الله تعالى والوقوف(9/237)
عند الحدود التي رسمها للحلال والحرام والطيّب والخبيث والنافع والضار والخير والشرّ. والعدل والإحسان والبغي والطغيان.
ولقد أتمت الآية الأخيرة هذا التلقين بما نبهت عليه من عدم جواز إقبال الناس على الخبيث والحرام والضارّ والشرّ انخداعا بمظهره وزخرفه ولذاته وسهولة الحصول عليه. ومن وجوب التفريق بينه وبين الطيب والحلال والنافع والخير وعدم التسوية بين هذا وذاك. وفي المقطع الأخير من الآية معنى قوي حيث وجّه الخطاب فيه لذوي العقول المفكرة على اعتبار أنهم يستطيعون التمييز وإدراك ما في تنبيه القرآن من حكمة وحقّ وأسباب نجاح وفلاح ويستطيعون أن يبينوه للناس.
ويتقون الله ويدعون إلى تقواه.
وكل هذا متسق مع التقريرات والتلقينات القرآنية العامة على ما مرّ التنبيه إليه في مناسبات كثيرة سابقة. وكل هذا كذلك من مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود لأنه متسق مع مصلحة الإنسانية وكرامتها وخيرها وصلاحها وطهارة روحها ولا يستطيع عاقل منصف في أي ظرف أن ينكره.
تعليق على مدى جملة ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
ونقف عند مدى جملة ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ لنقول إنها في مقامها تعني أن الرسول لم يرسل ليسيطر على أفعال العباد وقلوبهم وإنما ليكون مبلّغا عن الله فيما شاء من رسوم وحدود. وقد تكرر هذا في مثل هذا المقام في سور مكية ومدنية عديدة.
وليس بين هذا وبين ما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يباشره في العهد المدني بخاصة من سلطان زمني على المسلمين ومن يدخل في ذمتهم ومن أعمال فيها مهمة الدولة والسلطان مثل تسيير وقيادة الجيوش والحرب والصلح وجباية الزكاة وقبض الزكاة وخمس الغنائم والفيء والتصرف فيها حسب الحدود المرسومة والقضاء بين المسلمين فيما يشجر بينهم من مشاكل ومنازعات وإقامة الحدود إلخ. فكل هذا(9/238)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
باشره النبي بإلهام أو وحي قرآني وصار له به سلطان زمني بالإضافة إلى مهمة التبليغ عن الله. ولا يعني هذا أنه صار له على قلوب الناس وأفعالهم سيطرة مانعة لهم من أي فعل وتفكير. فقد كان وظلّ يقوم بتبليغ ما أمره الله به لهم ويعمل فيهم في نطاق ذلك. وما كان يبقى في حيز تفكيرهم رفع عنهم إثمه لأن الله قرر لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ كما جاء في الآية [286] من سورة البقرة وفي نطاق شرحنا لها. وما كانوا يفعلونه إن كان حلالا ومباحا أقرّهم عليه. وإن كان بغيا وعدوانا أقام عليهم فيه أحكام الله في نطاق تبليغاته ووحيه وإلهامه. والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... إلخ وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت:
(1) نهيا للمسلمين عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور بدون مناسبة وضرورة.
(2) وتعليلا للنهي بأنهم قد يجابون إجابة فيها ما يكرهون أو يسيئهم بشدته ومشقته.
(3) وتنبيها تدعيميّا للنهي والتعليل. فقد كان بعض من سبقهم يسألون أنبياءهم مثل هذه الأسئلة فكانت أجوبتها سببا لجحودهم وتمرّدهم.
(4) وإيعازا لهم بأنهم إذا كانوا يودّون السؤال عن شيء فليسألوا عنه حين ينزل قرآن فيه مناسبة لذلك. فهذا هو ما يصحّ وما يحسن أن يسألوا عنه بدون حرج(9/239)
ولا خوف عاقبة فيجابوا بما فيها البيان.
(5) وإيذانا بأن الله تعالى قد عفا عمّا وقع من مثل هذه الأمور وهو الغفور الحليم.
والآيات فصل مستقل كما يبدو. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها في ترتيب السورة. وقد روي في سبب نزولها روايات عديدة. منها رواية رواها البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: «كان قوم يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي فأنزل الله الآيات» «1» .
ورواية رواها الترمذي ومسلم عن عليّ قال «لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا يا رسول الله في كلّ عام فسكت قالوا يا رسول الله في كل عام. قال لا. ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله الآيات» «2» ورواية رواها البخاري ومسلم عن أنس قال «بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال عرضت عليّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشرّ ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فما أتى على الأصحاب يوم أشدّ منه حتى غطّوا رؤوسهم ولهم خنين فقام عمر فقال رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيا فقام رجل فقال من أبي قال أبوك فلان فنزلت الآيات» «3» . ولقد أورد الطبري هذه الروايات مع شيء من الزيادة وبطرق أخرى. فالرواية الثانية رواها عن أبي هريرة فيها زيادة «ولو وجبت لكفرتم» وليس فيها أن السؤال ورد حينما نزلت الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وإنما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فقال «كتب عليكم الحجّ» والرواية الأخيرة رواها بهذه الصيغة «سأل الناس النبيّ صلى الله عليه وسلم فألحفوا في المسألة فغضب فقال لا تسألوني عن شيء في مقامي إلّا أجبتكم عليه فقام رجل كان يدعى إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله فقال له أبوك حذافة. فقام رجل آخر فقال
__________
(1) التاج ج 4 ص 94.
(2) المصدر نفسه ص 95.
(3) المصدر نفسه ص 95. [.....](9/240)
أين أبي يا رسول الله فقال له في النار، فقام عمر فقبّل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنّا عفا الله عنك فسكن غضبه، وفي رواية قال رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبنبيّنا محمد رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن فنزلت الآية» .
وإلى هذا فإن الطبري روى عن ابن عباس أن الآيتين نزلتا بسبب سؤال بعضهم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي ورد ذكرها في الآية التي تأتي بعد الآيتين اللتين نحن في صددهما. وليس في كتب التفسير زيادة عما في كتاب الطبري.
ويتبادر لنا أن السؤال عن البحيرة وأخواتها لا يقتضي نهيا ولا إنذارا ولا غضبا من الله ورسوله. وهذا ما جعلنا نفرد الآيتين عن الآيات التالية لها. إلا أن يقال إن السؤال أورد في مناسبة أو في صيغة غير لائقة والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الأحاديث التي يرويها البخاري ومسلم والترمذي متباعدة إلّا أن يقال إن من الجائز أن يكون كل ما ورد فيها كان يحدث حتى كثرت الأسئلة بدون مناسبة وضرورة وكان منها ما هو غير لائق في مداه أو صيغته فوقف النبي صلى الله عليه وسلم موقف الغاضب ونزلت الآيات ناهية منذرة معلمة.
ومهما يكن من أمر فالآيتان كما هو متبادر من فحواهما بسبيل التحذير من اللجاجة والمواقف والأسئلة المثيرة التي قد يكون لها نتائج ضارة وسيئة لأصحابها وغيرهم. وفي هذا ما فيه من تلقين تأديبي وتعليمي رفيع مستمر المدى.
ولقد روى مسلم عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرّم فحرّم على الناس من أجل مسألته» «1» وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «2» . ولقد أورد ابن كثير والقاسمي حديثا عزاه
__________
(1) التاج ج 4 ص 95.
(2) المصدر نفسه (كتاب التفسير سورة الحشر) . وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بشيء من المغايرة وهي «ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم» وأورده البغوي والزمخشري بشيء من الزيادة وهي «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .(9/241)
الأخير إلى ابن ماجه والترمذي والحاكم جاء فيه «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا» وأورد ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه «إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» .
وينطوي في الأحاديث تلقينات رائعة واسعة المدى متسقة مع التلقين القرآني وفيها مثل أخلاقية واجتماعية وسلوكية وتعبدية يحتذيها المسلم ويقيس عليها أمورا كثيرة من شؤون الدين والدنيا مماثلة لها في كل ظرف ومكان والله تعالى أعلم.
وواضح من روح الآيات والأحاديث أن الأسئلة المكروهة هي ما كان فيه تنطّع وتكلّف وحذلقة وقصد إحراج ومماراة وجدل من دون ما ضرورة من شرع ودين ومصلحة. وأن الأسئلة التي لا يكون فيها ذلك وكان فيها رغبة معرفة حدود كتاب الله وسنّة رسوله ليست مكروهة ولا محظورة بل هي واجبة على المسلم. ولقد روى أبو داود حديثا عن جابر قال «خرجنا في سفر فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمّم. قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال» «1» .
هذا ولقد روى الطبري في صدد جملة قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أنهم الذين سألوا عيسى إنزال المائدة فلما أعطوها كفروا أو إنهم قوم صالح سألوا معجزة فلما أظهر الله لهم معجزة الناقة كفروا أو إنهم بعض المنافقين واليهود طلبوا من النبي بعض الأمور فلما أجيبوا كفروا. وليس شيء من
__________
(1) التاج ج 1 ص 113.(9/242)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
هذه الأقوال واردا في كتب الصحاح. ولا نرى الأمثلة تنطبق تماما على فحوى العبارة. وفي الجملة إخبار رباني وليس هناك توضيح نبوي فيوقف عند ذلك بدون تخمين كما هو الواجب في هذا وأمثاله. والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
. (1) بحيرة: من البحر وهو الشق.
(2) سائبة: من السيب. وهو الترك.
(3) وصيلة: من الوصل.
(4) حام: من الحماية.
تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
في الآيتين:
(1) تقرير بأن الله تعالى لم يشرّع شريعة البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولم يأمر بالجري على تقاليدها.
(2) واستدراك بأن الذين يمارسون هذه الشريعة من الكفار إنما يفترون على الله الكذب حينما ينسبونها إليه وأكثرهم جاهل لا يدرك مدى ما يقول.
(3) وتنديد بعقولهم وتناقضهم: فهم من جهة يسخفون في نسبة هذه الشريعة إلى الله ويدعون أنهم يسيرون عليها حسب أوامر الله بينما هم من جهة أخرى إذا(9/243)
بيّن لهم ما شرع الله ورسوله مما فيه المصلحة والفائدة ودعوا إلى اتباعه أبوا وقالوا إنه يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا.
(4) وتقريع لاذع بسبيل الرد عليهم بأسلوب سؤال عما إذا كان يصحّ في العقل أن يحتجوا بآبائهم فيسيروا على ما كانوا عليه سيرا أعمى ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا وليسوا من أمرهم على هدى.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآيتين السابقتين أن الطبري روى أنهما نزلتا في صدد سؤال عن تقاليد البحيرة وأخواتها. وقد توقفنا في هذه الرواية. بسبب صيغتها. ولم نطلع على رواية أخرى كسبب لنزول الآيات التي نحن في صددها والتي نرجح أنها مستقلة عن ما سبقها وأنها نزلت جوابا على استفسار أورده بعضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه التقاليد وما كان يدعيه العرب من أن ذلك تقاليد دينية شرعها الله. فنزلت الآيات موضحة نافية أن يكون ذلك من شرع الله.
ومقررة أن هذه الدعوى كذب وافتراء على الله. ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها وظنّ بعضهم أنها نزلت بسبب السؤال الذي ترويه الرواية. أو أن تكون وضعت بعدها للتماثل بينها وبين ما قبلها من حيث احتواء السياق أوامر وتحذيرات. والله تعالى أعلم.
وهناك حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب في شرح المقصود من عبارة الآية الأولى جاء فيه «البحيرة هي التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد.
والسائبة كانوا يسيّبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة هي الناقة البكر تبكّر بأنثى ثم تثني بعد بأنثى ليس بينهما ذكر وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم. والحامي هو فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضاه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل» «1» وهذه التعريفات لا توضح مدى التقاليد والاصطلاحات الجاهلية توضيحا شافيا. وفي كتب التفسير بيانات أوسع فيها صور عديدة لذلك. غير أنها
__________
(1) التاج ج 4 ص 96.(9/244)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
متغايرة وليس فيها ما يساعد على ترجيح صورة على أخرى. وقد أوردنا إحداها في سياق تفسير الآيات [136- 140] من سورة الأنعام فنكتفي بذلك.
وروح الآيات تلهم أن العرب قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن هذه التقاليد من أمر الله وشرعه. ويمارسونها ويحترمونها على هذا الاعتبار بسبيل شكر الله أو التقرب إليه لتحقيق مطالبهم ورغباتهم وأنهم قد تلقوها كذلك عن آبائهم. وأنهم كانوا شديدي التعلق بتقاليد الآباء وتقديسها. وهذا مما تكرر تقريره أكثر من مرة في القرآن عنهم حيث يفيد ذلك أنهم كانوا يكررون الاحتجاج بتقاليد الآباء وقدسيتها واتصالها بالله عزّ وجل في كل مناسبة متجددة مماثلة.
هذا، ولقد أورد الطبري والبغوي في سياق الآيات حديثا روياه بطرقهما عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن جون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه به رجل منك ولا به منك. وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحّر البحيرة وسيّب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي. فقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه. فقال أكثم أيضرني شبهه يا رسول الله. فقال لا إنك مؤمن وهو كافر» وقد أورد ابن كثير هذا الحديث وأورد صيغا أخرى منها عزا بعضها إلى البخاري وبعضها إلى الإمام أحمد وبعضها إلى البزار. فلم نر ضرورة إلى إيرادها لأن حديث الطبري والبغوي أوفى. فإن صحت هذه الأحاديث فيكون فيها مشهد روحاني شهده النبي وأخبر به فيوقف عند ذلك وتستشف حكمته وهي الوعظ والإنذار وتوكيد متساوق مع توكيد الآيات بأن هذه التقاليد لا تمتّ إلى الله وإنما هي خروج عن الفطرة السليمة وانحراف نحو الشرك والوثنية. والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
.(9/245)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ... وما ورد في صددها من أحاديث وما فيها من تلقين
في الآية هتاف للمسلمين بأنهم إذا كانوا مهتدين بهدي الله ورسوله فلا يضرّهم من كفر وسلك غير سبيل الحقّ والهدى. فالجميع مرجعهم إلى الله تعالى وحينئذ ينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه بما استحقوا.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآية. والمتبادر المستلهم من فحواها وروحها ومقامها أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستدراك وتسلية حيث تقول للمسلمين إن الكفار إذا كانوا يسيرون في تلك التقاليد ويعزونها إلى الله كذبا ويتمسكون بما كان عليه آباؤهم من سخف وضلال فأنتم غير مسؤولين عنهم. وإنما أنتم مسؤولون عن أنفسكم. وإن عليكم أن تسيروا وفق ما أنزل الله دون أن تأبهوا بضلال الضالين وجحود الجاحدين.
على أن الآية في حدّ ذاتها جملة مستقلة تامة المدى أيضا. وقد اعتبرها المؤولون والمفسرون كذلك وأداروا الكلام في صددها على هذا الاعتبار.
ولقد أورد المفسرون «1» روايات عديدة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في مدى هذه الآية يستفاد منها أن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة لأهل الكتاب أو لأهل كلّ ملّة ضالّة. فما داموا مؤمنين مهتدين بهدى الله ورسوله فلا يضرهم ضلال غيرهم من أهل الملل الأخرى. وأن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة إلى بعضهم بشرط أن يبذل المهتدون بهدى الله ورسوله منهم جهودهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح وتقويم ما يكون في جماعات من المسلمين أو أفرادهم من فساد وبغي وانحراف عن ذلك الهدى. فإن عجزوا فعليهم أنفسهم فلا يضرّهم ذلك الفساد والانحراف ما داموا مهتدين.
__________
(1) الطبري أكثرهم استيعابا لها. انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(9/246)
والقول الأول فيما يتبادر لنا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومقام ورودها. وفيها كما قلنا تسلية لجميع المسلمين عن ضلال غيرهم من جهة وحثّ على وجوب تمسكهم بهدى الله ورسوله وعدم الانحراف عنه من جهة، وتوطيد لحرية الدين فيما يتبادر لنا من جهة، وتوكيد لما استلهمناه من آيات كثيرة سابقة ونبهنا عليه من أن المسلمين غير مكلفين بمحاربة من لم يسلم من أهل الملل الأخرى بسبب عدم إسلامه فقط.
ولا يعني هذا رفع واجب الدعوة عن المسلمين إلى الإسلام. فالدعوة واجب مستمر الوجوب على المسلمين في كل ظرف ومكان. سواء في ذلك أفرادهم وهيئاتهم وحكوماتهم في النطاق القرآني وهو ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] . فوعد الله عز وجل بإظهار دينهم على الدين كلّه إنما يتحقق بذلك. وهذا فضلا عما في القرآن والسنّة من نصوص صريحة في هذا من حيث إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي عامة شاملة. وقد أمر بإبلاغها وصار ذلك واجب المسلمين من بعده. على أن هذا القول لا يتعارض مع القول الثاني أيضا ولا يضعف وجاهته. ولا سيما أن هناك أحاديث نبوية وصحابية يوردها رواة الحديث ومفسرو القرآن في سياق الآية، بل فيها ما هو صريح بأنه ذو علاقة بها. منها حديثان رواهما الترمذي وأبو داود: أحدهما عن أبي بكر قال «إنكم تقرءون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم الله بعقاب» «1» . وثانيهما عن أبي أمية الشعباني قال «سألت أبا ثعلبة عن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... الآية فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه
__________
(1) التاج ج 4 ص 95 وفي رواية الطبري أنّ أبا بكر قال «والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها» .(9/247)
فعليك بخاصة نفسك. ودع العوامّ. فإنّ من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. قيل:
يا رسول الله أجر خمسين منّا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم» «1» .
وحديث رواه النسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال «بينما نحن حول النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكرت الفتنة فقال إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفّت أماناتهم وكانوا هكذا وشبّك بين أصابعه فقمت إليه وقلت كيف أفعل عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك. قال الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة» «2» وهناك أحاديث أخرى أوردها المفسرون هاهنا حديث رواه الطبري وأورده عن أبي بكر قال «يا أيها الناس لا تغتروا بقول الله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم عليّ نفسي والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب ثم ليدعو خياركم الله فلا يستجيب لهم» وحديث رواه الخازن عن ابن مسعود قال «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم» ومنها حديث رواه الطبري عن الحسن قال «إن هذه الآية قرئت على ابن مسعود فقال: ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم» وحديث رواه الطبري عن سفيان بن عقال قال «قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، وكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم» . وحديث رواه البغوي عن ابن عباس في
__________
(1) التاج ج 4 ص 95، 96.
(2) التاج ج 5 ص 205 ويمكن أن يقال في التوفيق بين هذا الحديث والذي قبله إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالثاني الحالة التي يصل الأمر فيها من الفساد وخفة الأمانة واختلاف الناس وشدة الفتنة إلى الحدّ الذي لا يسمع فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وروح الحديث ونصه يؤيدان ذلك والله أعلم.(9/248)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
الآية «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم» . وحديث رواه الخازن عن عبد الله بن المبارك «أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هذه الآية، فإن الله قال فيها عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغّبه في الخيرات وينفّره من القبائح والمكروهات» .
وظاهر أن في الأحاديث ما يزيل كل وهم يمكن أن يحيك في صدر أحد بأن الآية تخاطب أفراد المسلمين وتوعز إليهم بالاكتفاء بما يكون عليه الواحد منهم من عافية في أمر دينه ودنياه وعدم الأبوه لما يكون من انحراف غيره من بني دينه وضلاله عن جادة الحق والاستقامة. ويتأكد هذا المعنى بآية آل عمران [74] التي توجب على المسلمين أن يكون منهم دائما جماعات يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبوية أوردناها في سياق تفسير هذه الآية.
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
. (1) من غيركم: من غير المسلمين على أرجح الأقوال.
(2) تحبسونهما: بمعنى تجعلونهما ينتظران إلى ما بعد الصلاة ليؤديا شهادتهما.(9/249)
(3) لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى: بمعنى لا نكتم شهادتنا ولا نكذب فيها مهما أعطينا من الرشوة ولو كان الحق على أقاربنا أو كانت المسألة تخصّ أقاربنا.
(4) فإن عثر على أنهما استحقا إثما: فإن تبين وعرف أنهما اقترفا إثما بكتمهم الشهادة أو كذبهم فيها.
(5) يقومان مقامهما: يخلفانهما في مقام الشهادة.
(6) من الذين استحق عليهم الأوليان: بمعنى نالهم ضرر الإثم والحلف الكاذب في الشهادة من أولياء الميت وورثته.
(7) أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم: بمعنى أن يخافوا أن يرد حق اليمين والشهادة إلى غيرهم فيكون في ذلك تكذيب وفضيحة لهم.
في هذه الآيات تشريع بشأن الوصية والإشهاد عليها وتحقيق صحتها في حال الاشتباه. وقد احتوت الآيتان الأوليان منها على ما يلي:
1- أمر المسلمون بأنه إذا شعر أحد منهم بقرب أجله وكان في سفر بعيد عن أهله فعليه أن يشهد على وصيته وتركته شاهدين عدلين من المسلمين أو غير المسلمين.
2- فإذا وقع قضاء الله في الموصي وجاء الشاهدان ليسلما أهل الميت التركة أو يبلغا الوصية وارتاب هؤلاء في صحة أقوالهما فلهم أن يطلبوا منهم يمينا على صدقهما وعدم كتمانهما شيئا لأي سبب كان سواء أمن أجل منفعتهما الخاصة أم من أجل صالح قريب من أقاربهما.
3- وعلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يحجزوا الشاهدين ليؤديا اليمين والشهادة بعد الصلاة.
4- فإذا ظهر بعد يمينهما وشهادتهما أنهما كاذبان أو أنهما جنفا وخانا فيهما فيصحّ أن يتقدم اثنان من أولياء الميت الذين يقع عليهم الحيف وضرر الشهادة الكاذبة فيخلفاهما في مقام الشهادة ويشهدا بما يريانه الحق ويقسما بالله على أن(9/250)
شهادتهما أحقّ من شهادة الشاهدين الأولين. وأنهما لم يجنفا ولم يعتديا فيهما.
وحينئذ تقبل هذه الشهادة وتنقض الشهادة الأولى.
وقد احتوت الآية الثالثة (1) تعليلا بأن هذه الطريقة التي جعلت بها شهادة أولياء الميت حجة مقبولة ضد شهادة الشاهدين الأصليين من شأنها أن تجعلهما يتحريان الحق ويلتزمانه ويصدقان في شهادتهما خشية التكذيب والفضيحة من جراء ردّ شهادتهما وجعل حق لأولياء الميت في الشهادة بدلا منهما. (2) وتحذيرا للمسلمين. فعليهم أن يتقوا الله في حقوق بعضهم. وأن يسمعوا ويطيعوا أوامره.
فإن الله لا يوفق الفاسقين عن أوامره ونواهيه.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وصور وتلقين
والآيات كما يبدو فصل جديد. ولعلّها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها أو لعلّها وضعت في مكانها للتناسب التشريعي الملموح بينها وبين سابقاتها.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا في صدد هذه الآيات عن ابن عباس جاء فيه «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من عدي وتميم. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. قال وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية» «1» .
وقد روى الطبري هذه الرواية مع شيء من الزيادة والبيان خلاصته أن اسم السهمي بديل وأنه كان في رحلة تجارية في الشام وأن تميم الداري وعدي بن بداء
__________
(1) التاج ج 4 ص 110.(9/251)
سافرا معه وكانوا على دين النصرانية حينئذ. وإنه لما مرض وشعر بدنوّ أجله كتب قائمة بمتاعه ودسّها فيه وعهد إلى رفيقيه المذكورين بتسليم متاعه إلى أهله وإنهما فتشا متاعه بعد موته فوجدا فيه الإناء المخوّص بالذهب فأخذاه لنفسهما وسلّما بقية المتاع لأهله. ثم باعاه في مكة. وفتح أهل الميت المتاع فوجدوا القائمة وسألوا الرفيقين فأنكراه. ثم وجدوا الإناء في يد شخص في مكة فقال إنه اشتراه منهما فراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم فعقد مجلسا بعد صلاة العصر وحلّف الرجلين فأصرّا على الإنكار وفي رواية ادّعيا أن الإناء لهما فتقدم اثنان من أولياء الميت فحلفا أنه لقريبهم فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لهم وفي رواية إن الشاهدين بعد أن حلفا تركا وشأنهما ثم إن تميما أسلم وتأثّم من عمله فأخبر أهل الميت بالحقيقة وردّ إليهم ما أخذه من ثمن الإناء فراجعوا النبي وأظهروا استعدادهم للشهادة فاستشهدهما ثم حكم على عدي بردّ ما قبضه من ثمن الإناء فانتزع منه ولم تلبث الآيات أن نزلت. وليس في هذا البيان ما يمنع صحته ولا ما يتعارض مع حديث ابن عباس. وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في المسألة وحكم فيها بعد نزول الآيات وفاقا لها. وحديث ابن عباس يذكر أن الآيات نزلت بعد النظر والحكم وسنده أقوى. وفي هذه الحالة يكون النبي صلى الله عليه وسلم نظر وحكم في المسألة بإلهام رباني ثم نزلت الآيات بإقرار ذلك وبأسلوب يجعل الأسلوب الذي نظره وحكم به النبي صلى الله عليه وسلم تشريعا عاما في الحالات المماثلة. ومثل هذا قد تكرر ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله وعلماء التابعين وتابعيهم فيما احتوته الآيات من معان وأحكام. وقد استوعبها الطبري أكثر من غيره «1» . وهذا إيجاز لها:
1- هناك من أوّل جملة مِنْ غَيْرِكُمْ بمعنى أهل الكتاب أو بمعنى غير المسلمين إطلاقا. وهناك من قال إنها تعني من أسرة غير أسرة المتوفى أو حيّه أو عشيرته من المسلمين. وروي عن الزهري في صدد تأييد الرأي الثاني قوله إن السنة
__________
(1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.(9/252)
مضت على عدم جواز شهادة كافر على مسلم لا في حضر ولا في سفر وإن الجملة هي في المسلمين فيما بينهم. ومعظم الأقوال بأنها تعني من غير المسلمين إطلاقا.
ويدخل في ذلك المجوس والمشركون والوثنيون مع أهل الكتاب. وقد صوّب الطبري هذا وفنّد صرف جملة مِنْ غَيْرِكُمْ إلى عشيرة أهل الميت أو حيّه لأن الخطاب موجّه للمؤمنين. وهو تصويب في محلّه. وقد يرد أن القسم بالله لا يتوقع الصدق فيه إلّا من مسلم. ويرد على هذا أن الكتابيين والمشركين كانوا يؤمنون بالله ويحلفون به حيث يكون توقع الصدق واردا منهم أيضا.
2- ومن أصحاب الرأي الثاني من قال: (أولا) إن إشهاد غير المسلمين في مثل هذا الموقف مشروط بأن لا يكون هناك مسلمون يمكن إشهادهم. ومنهم من قال إن (أو) للتخيير حيث يصح إشهاد مسلمين وغير مسلمين. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه مع تنبيه أو استدراك. فالآية تجعل صفة العدل مما يجب توفره في الشاهد بحيث يصحّ أن يقال إن للموصي إذا لم يطمئن لاستقامة وأمانة من حضره من المسلمين أن يوصي من يطمئن باستقامته وأمانته ممن حضره من غيرهم. والله أعلم. (وثانيا) إن أصحاب هذا الرأي قالوا إن إشهاد غير المسلمين إنما يجوز في السفر لأن في هذه الحالة فقط يتوقع عدم وجود مسلمين للشهادة.
وقد يكون هذا متسقا مع نصّ الآيات وظرف نزولها. غير أن تعذر وجود شهود من المسلمين في بعض الظروف المستعجلة والحرجة يكون واردا. وروح الآيات تسوغ كما هو المتبادر لنا استشهاد غير المسلمين في غير السفر إذا تعذّر وجود مسلمين والله تعالى أعلم. (وثالثا) هناك من قال إن شهادة غير المسلمين كانت مقبولة في البدء ثم نسخت بآية البقرة [282] التي نزلت بعد هذه الآيات والتي قصرت الشهادة على المسلمين في جملة مِنْ رِجالِكُمْ وهناك من قال إنها محكمة لم تنسخ. والمتبادر أن هذا هو الأوجه، لأن تعذّر وجود شهود من المسلمين وارد في كل ظرف. (ورابعا) إن هناك من قال إن شهادة غير المسلم على المسلم لا تجوز إلا في قضية وصية. ويبدو مما أورده الطبري من أقوال عديدة أن هذا مجمع عليه. ولم يرد في الأقوال ما ينقضه. ولكن مما يرد على البال أن يكون(9/253)
هناك حقّ لمسلم على مسلم ولا يكون لصاحب الحقّ شاهد أو شاهد عدل أمين إلّا غير مسلم. فهل يصحّ أن يقال إنه لا مانع من ضياع حقّ المسلم في مثل هذه الحالة؟ ونحن نميل إلى القول إن ذلك لا يصحّ.
وورود الآية في مقام الوصية ليس من شأنه أن ينفي ذلك أو يحصره فيها.
ولقد تطرقنا إلى هذه المسألة في سياق تفسير سورة البقرة المذكورة وألمعنا إلى ما ذكره رشيد رضا عزوا إلى ابن القيم وانتهينا إلى ترجيح صحة شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن إثبات حق المسلم إلا بها. فنكتفي بهذا التنبيه. والله أعلم.
3- هناك من قال إنه إذا تقدم مسلمان فشهدا خلاف ما شهد به غير المسلمين أخذ بشهادتهما وأبطلت شهادة غير المسلمين إطلاقا. ويتبادر لنا أن هذا مناف لنصّ الآيات. فالآيات تنصّ على قبول شهادة الشاهدين على الوصية إطلاقا ولو كانا غير مسلمين إذا ما تعذر وجود مسلمين وعدم ردّ شهادتهما والأخذ بشهادة غيرهما إلّا إذا ظهر أنهما أثما في شهادتهما أو ادعي أنهما آثمان وأريد إثبات ذلك. والله تعالى أعلم.
4- وفي صدد الصلاة المذكورة في الآيات فإنّ هناك من قال إنها صلاة يصليها الشاهد مسلما أم غير مسلم لتكون شهادته عقبها أدعى إلى الاطمئنان وهناك من قال إنها صلاة العصر حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعقد مجالسه بعدها لأنها قريبة من الغروب. وأكثر الأقوال في جانب هذا. ونراه هو الأوجه ولقد صرف أكثر المؤولين جملة الصلاة الوسطى في الآية [228] من سورة البقرة إلى صلاة العصر على ما شرحناه في سياق تفسيرها حيث يتبادر أن وقتها كان مساعدا في المدينة لاجتماع الناس من حيث الطقس ومن حيث الفراغ فحثّت الآية على المحافظة عليها بصورة خاصة.
5- والمتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي روجع وحلّ المسألة على اعتباره وليّ أمر المؤمنين وصاحب السلطان فيهم بالإضافة إلى نبوّته الشريفة. والمسألة(9/254)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
هي مسألة قضائية تكون بعده من نطاق سلطان وليّ أمر المسلمين أو من ينيبه عنه كما هو المتبادر.
هذا، والآيات من جهة ما تؤكد واجب الوصية المأمور بها في الآيات [180- 182] من سورة البقرة والمنوّه بها في الآيات [11، 12] من سورة النساء وضرورتها بصورة عامة. كما تؤكد واجب الإشهاد عليها تفاديا من التلاعب والتبديل فيها وفي هذا تعليم للمسلمين وحرص على نفاذ الوصية وحقوق أصحاب الحق فيها. وتلقين مستمر المدى كما هو واضح يضاف إلى التلقين المنطوي في آيات سورة البقرة والذي نوّهنا به في سياق تفسيرها بما يغني عن التكرار.
وجملة إِنِ ارْتَبْتُمْ في الآية [106] جديرة بالتنويه حيث يتبادر أنّه ينطوي فيها أن اليمين لا يلزم أولا يحسن أن يطلب من الشاهد إلا في حالة الارتياب. وأنه في غير هذه الحالة يصحّ أن تقبل شهادة الشاهد بغير يمين وقد يسوغ أن يزاد إلى هذا أن الشاهد يجب أن يحلف إذا طلب صاحب الحق أن يحلف أيضا، من حيث إن طلب صاحب الحقّ قد يكون ناشئا عن الارتياب. ولسنا نرى هذا متعارضا مع الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «البيّنة على المدعي واليمين على المدعى عليه» «1» أو الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس وجاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل حلّفه احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء» «2» . والشهادة هي البينة. فإذا ارتاب الحاكم أو صاحب الحق وجب على الشاهد أن يؤدي شهادته بعد اليمين. والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
. عبارة الآية واضحة. وقد قال المفسرون «3» ما مفاده إنها تحتمل أن تكون
__________
(1) التاج ج 3 ص 55.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم.(9/255)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
متصلة بسابقاتها اتصال إنذار وتعقيب فيكون معناها «إن الله تعالى لا يوفق ولا يسعد الفاسقين المتمردين على أوامر الله الذين لا يتقونه في اليوم الذي يجمع الله فيه الرسل فيسألهم عما أجيبوا» . كما قالوا إنها تحتمل أن تكون بدء الفصل التالي ومقدمة له.
وكلا الاحتمالين وجيه يتحمّله أسلوب الآية وسياق الكلام وإن كنّا نرجح الثاني لأن الآيات التالية تلهم أن حكاية تذكير الله بعيسى عليه السلام ومخاطبته له مما سوف يكون في يوم القيامة فتكون الآية متسقة مع هذا أكثر لهذا السبب. وهذا الاتساق يبدو واضحا أكثر أيضا في حكاية جواب عيسى عليه السلام لله تعالى في الآيات [116- 118] إذا ما أمعن النظر فيها.
وإذا صحّ توجيهنا فتكون الآية بدء فصل جديد لا تبدو صلة ما بينه وبين الآيات السابقة ويحتمل أن يكون نزل عقبها بدون فاصل فوضع بعدها والله أعلم.
ولقد تعددت التأويلات المعزوة إلى علماء التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لجملة لا عِلْمَ لَنا لأن رسل الله يعلمون على الأقل ماذا أجيبوا في حياتهم. فمنهم من قال إن جوابهم نتيجة ذهول من هول الموقف. ومنهم من قال إنهم قصدوا به أن لا علم لنا إلّا علما أنت أعلم به منّا. والذي يتبادر لنا أن الجملة الجوابية جملة أسلوبية وأن المراد منها بيان كونهم لم يعرفوا إلّا القليل الظاهر في حين أن الله عزّ وجل يعلم الحقائق ما ظهر منها وما خفي وما وقع منها في حياتهم وبعدها.
[سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 120]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
.(9/256)
(1) مائدة: قيل إنها من ماده يميده بمعنى موّنه وأطعمه مرادفا لجذر ماره يميره أو بمعنى أعطاه ورفده. وقيل إنها من ماد يميد بمعنى تحرك وإن الكلمة تعني الخوان الذي يوضع عليه الطعام لأنه يتحرك وضعا ورفعا، أو لأنها تميد بمن يتقدم إليها من الآكلين. وعلى كل حال فقد صارت بمعنى الخوان الذي يوضع عليه الطعام.
(2) عيدا: معنى الكلمة في الأصل العائد ثم صارت بمعنى العائد من أسباب السرور أو الفرح، والعائد من أسباب العبادة أو من أسباب ما هو جدير بالحفاوة.(9/257)
تعليق على الآية إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ... إلخ وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه:
أولهما: تضمّن حكاية لتذكير رباني موجّه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمّه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عزّ وجلّ.
وثانيهما: تضمّن حكاية سؤال موجّه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصّل من ذلك وإشهاد لله على براءته منه وكونه لم يقل لهم إلّا ما أمره به أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني.
وأن الثاني قد تضمن فيما تضمّنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمّه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى وكونه لم يقل إلّا ما أمره الله تعالى من أنه رسول الله وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربّه وربّهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.(9/258)
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين فريق من النصارى أو أن سؤالا ما وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمّه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات. لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية ولا تبدو الحكمة في تكراره إلّا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران.
وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمّنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإنّ به شيطانا «1» وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه.
وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا. ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
__________
(1) انظر الإصحاحات 10 و 12 من إنجيل متى و 3 من مرقص و 11 من لوقا. [.....](9/259)
(فأولا) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كلّ ما تسألونه فصاموا فطلبوا المائدة فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير» . وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار «1» . ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدّي والحسن وعكرمة وقتادة حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صحّ لكان الفيصل في هذه المسألة لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا:
(1) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخلّ وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
(2) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
(3) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
(4) إنها من كل طعام عدا اللحم.
(5) إنها من ثمار الجنة.
(6) إنها خبز ورز وبقل.
(7) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
(8) لما نزلت قالوا لعيسى كن أول الآكلين منها فقال معاذ الله أن آكل منها
__________
(1) التاج ج 4 ص 97.(9/260)
فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا فلم يأكل فقير إلّا غني ولا مبتل إلّا عوفي، وبقيت على هيئتها ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
وننبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثنتي عشرة قفة أو سبعة سلال «1» . وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل- من ملحقات الأناجيل التي سمّي مجموعها العهد الجديد- قصة فيها شيء مقارب جاء فيها «إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا فجاع ووقع عليه انجذاب فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلّى على الأرض وكان فيه من كل ذوات الأربع ودوابّ الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات ثم رفع الوعاء إلى السماء» «2» . غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة.
ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في
__________
(1) انظر إنجيل متى الإصحاح 6 ويوحنا الإصحاح 15 ومرقص الإصحاح 6 ولوقا الإصحاح 9.
(2) النص منقول من النسخة الكاثوليكية.(9/261)
القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بدّ من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول إنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعلّ من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة القلب.
وهو ما ذكر منه صورة عن إبراهيم عليه السلام على ما شرحناه في سياق الآية [260] من سورة البقرة. ثم الإنذار للذين يرتابون ويكفرون بعد ذلك بالله وآياته.
وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين أيضا. والله تعالى أعلم.
(وثانيا) إن الجمهور على أن المقطع التذكيري الأول هو مما سوف يخاطب الله تعالى عيسى عليه السلام به يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل. أما المقطع الثاني الذي فيه سؤال الله لعيسى وجواب عيسى عليه فهناك من قال إنه هو أيضا سيكون يوم القيامة. وهناك من قال إنه كان يوم رفع الله عيسى عليه السلام إليه. وأصحاب القول الأول أولوا جملة هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ بأنها إشارة إلى ذلك اليوم الذي سوف يأتي. وأصحاب القول الثاني أولوها بأنها تنبيه تنويهي باليوم بمعنى هذا هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم. وليس هناك أثر نبوي ليكون حاسما.
وقد صوّب الطبري القول الأول. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو الأوجه لأن الكلام سياق واحد وأسلوب واحد. فالمقطع التذكيري الأول بدأ بجملة وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى والمقطع الثاني الذي فيه السؤال والجواب بدأ بنفس الجملة.
ونقول في صدد الحوار الذي حكته الآيات بين الله تعالى وعيسى عليه السلام إن الإيمان بذلك واجب. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن من الحكمة في ذكره بالأسلوب الذي جاء به هو ما قلناه قبل التنديد بعقيدة النصارى في عيسى وأمه.
وتبرئة عيسى من مسؤولية ذلك وتقرير حقيقة ما قاله للناس. وتقرير كون كل(9/262)
ما خالف ذلك فيما أيدي النصارى من أناجيل وأسفار وما هم عليه من عقائد هو مخالف لما أمر الله عيسى عليه السلام أن يقوله أو لما قاله.
والجمهور على أن كلمة نَفْسِكَ بالنسبة إلى الله التي حكيت على لسان عيسى هي في مقام الذات الإلهية وهو الصواب. وهو ما تكرر كثيرا في السور السابقة في هذا المعنى على ما نبهنا عليه.
أما جملة تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ فالمتبادر أنها أسلوبية للمقابلة، وبسبيل التقرير بلسان عيسى بأن الله تعالى هو وحده الذي يعلم حقا بالنفوس وخلجات الصدور. وأنه هو وبالتالي سائر عباد الله لا يعلمون من أمر الله ومغيباته شيئا بقدرتهم والله تعالى أعلم.
ونقول في صدد مدى ما ورد في الآيتين [116 و 117] من سؤال الله تعالى لعيسى عليه السلام عما إذا كان قال للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وتنصّله من ذلك إن الطوائف النصرانية تسمّي مريم أمّ الله وأمّ الربّ وتتعبّد لها كما تتعبّد لعيسى عليه السلام على اعتبار أنه إله. أو الله. حيث ينطوي في هذا مصداق الخبر القرآني كما هو واضح. وجواب عيسى عليه السلام المحكي بأنه لم يقل لهم إلا ما أمره أن يقوله وهو اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ متسق مع عبارات كثيرة وردت في الأناجيل المتداولة المعترف بها مما أوردنا نماذج منها في سياق تفسير سورة مريم. وأسلوب تنصّله المحكي قوي محكم. وموجّه إلى العقول والقلوب معا ويتبادر لنا أن هذا من أهداف الآيات لتدعيم ما قرره القرآن من نبوّة عيسى وعبوديته لله ومن وضع الأمر في شأنه في نصابه الحق. ثم لتدعيم دعوة النصارى إلى الارعواء وترك ما هم عليه من غلوّ وانحراف والرجوع إلى عقيدة وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن كل شائبة وتعدد وكون عيسى رسولا من رسل الله وحسب دعا مثلهم إلى عبادة الله ربّه وربّ جميع الناس.
وتعبير مِنْ دُونِ اللَّهِ المحكي عن لسان عيسى لا يقتضي أن يكون قال لهم اتخذوني إلها لكم بدلا من الله. ويصحّ أن يكون قصد بها (مع الله) وبهذا يزول(9/263)
ما قد يورده النصارى من أن عيسى لم يقل ما جاء في القرآن بحرفيته. على أن في القرآن شواهد على أن جملة مِنْ دُونِ اللَّهِ لا تعني بدلا من الله أو مكان الله.
فآية سورة الزمر هذه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [3] . وآية سورة يونس هذه وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) صريحتان بأن الذين يعبدون من دون الله ويتخذون أولياء من دون الله لا ينكرون الله ويؤمنون به وإنما عبدوا من دون الله واتخذوا أولياء من دون الله مع الله وللاستشفاع بهم لديه.
هذا، وهناك حديث يرويه الشيخان في سياق الآية [117] عن ابن عباس قال «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الأنبياء: 104] ثم قال ألا وإنّ أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا ربّ أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» «1» .
وهذا خبر عن مشاهد الآخرة عن رسول الله فيوقف عنده ويؤمن به كما هو شأن أمثاله من أخبار المشاهد الأخروية في القرآن والأحاديث الصحيحة. والحكمة الملموحة في الحديث بالإضافة إلى ذلك الخبر الأخروي هي التأسي بكلام عيسى المحكي في الآية بسبيل التنصّل مثله مما قد يرتكس فيه بعض أمته من بعده من انحراف وشذوذ، وإنذار لأمته بذلك بقصد حملهم على خوف الله وتقواه واجتناب الشذوذ والانحراف. والله أعلم.
__________
(1) التاج ج 4 ص 111.(9/264)
والآية [119] تنطوي على تنويه بالصادقين وبشرى لهم. وإطلاقها يفيد أنها في صدد كل صادق في إيمانه مستقيم على طريق الحقّ السوي. فهذا الصدق في هذا النطاق هو الكفيل بنجاة أصحابه يوم القيامة. وبنيل رضاء الله عنهم ورضائهم عنه عز وجل بما يكون لهم منه من تكريم.
وطابع الختام بارز على الآية الأخيرة. مما تكرر مثله في خواتم سور عديدة.
ولقد وقف ابن كثير عند الآية [118] فقال إن لها شأنا عظيما ونبأ عجيبا. ثم أخذ يورد بعض أحاديث نبوية في سياقها. منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ بصيغتين هذه إحداهما «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها وهي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) فلما أصبح قلت يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها قال إني سألت ربي عزّ وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا» ومنها حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) ، فرفع يديه فقال اللهمّ أمتي وبكى فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد، وربّك أعلم، فاسأله ما يبكيه فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال. فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولا يمنع هذا صحتها.
وفيها صورة من صور تأسي النبي صلى الله عليه وسلم بمواقف وأقوال بعض الأنبياء في مناجاة الله عزّ وجل وصورة من صور عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمّته. ومشهد من المشاهد الروحانية التي طمأنه فيها الله تعالى بأنه سيرضيه في أمته ولا يسوءه. وفيها في النهاية تطمين وبشرى لمن لا يشرك بالله شيئا من أهل هذه الأمة. والله تعالى أعلم.(9/265)
سورة الممتحنة
في السورة نهي عن موالاة الكفار الأعداء المعتدين مهما ربطت بينهم وبين المسلمين أرحام. ودعوة للتأسي بإبراهيم والمؤمنين معه في موقفهم من قومهم الكافرين. وتأميل باهتداء الكفار. وتقرير بأن النهي لا يتناول المسالمين بحيث لا حرج على المسلمين من موادة هؤلاء والبرّ بهم. وإنما يتناول الأعداء المؤذين والمتظاهرين معهم على الإسلام والمسلمين. وأمر بعدم إرجاع المسلمات المهاجرات إلى الكفار. وتحريم بقاء المسلمين مرتبطين بزوجاتهم الكافرات.
وأمر بمبايعة المسلمات وأخذ العهد عليهن استقلالا. وانطوى في السورة صور عديدة من السيرة النبوية. وتلقينات جليلة المدى.
وهي فصلان مستقلان في الموضوع متناسبان في الظروف. وإذا صحت الروايات التي سوف نوردها بعد فإن الأمر بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المسلمات يكون قد نزل بعد الفتح المكي. وعلى كل حال فالذي نرجحه أنها من السور التي ألفت تأليفا في وقت متأخر بعد نزول ما اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه وكذلك روايات ترتيب النزول الأخرى «1» تذكر أن هذه السورة نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى رحلة الحديبية وصلحها بسور عديدة. في حين أن مضامينها والروايات الواردة في صددها تسوغ القول- بقوة- بأنها نزلت بعد ذلك الصلح، بل وبين يدي فتح
__________
(1) انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.(9/266)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
مكة الذي كان بعد ذلك الصلح بسنتين. وهذا ما جعلنا نخالف روايات الترتيب فيها كما فعلنا في بعض السور ونؤخرها إلى ما بعد سورة الفتح التي نزلت عقب ذلك الصلح مباشرة ثم إلى ما بعد سورة المائدة التي نزل فصلها الأول كذلك عقبه على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين. وبذلك يتم التساوق في ترتيب النزول في نطاق ما هو معروف من صحيح الوقائع. والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
. (1) إن يثقفوكم: هنا بمعنى إن يلقوكم ويظفروا بكم.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) نداء للمؤمنين فيه نهي عن اتخاذ الكفار أولياء ونصراء وعن فعل ما فيه مودة ومحبة وفائدة لهم. وتعليلا لهذا النهي: فهم أعداء الله تعالى وأعداؤهم.(9/267)
كفروا بما جاءهم من عند الله من الحقّ وآذوهم وآذوا رسول الله واضطروهم إلى الخروج من وطنهم بدون ذنب بسبب إيمانهم بالله وحده.
(2) وتنبيها لهم بأن فعل ما فيه مودة للكفار وبخاصة بصورة سرّية متناقض مع الإخلاص في الإيمان إذا كانوا حقّا مخلصين فيه وإذا كانوا حقّا قد هاجروا من وطنهم ابتغاء وجه الله وجهادا في سبيله.
(3) وإنذارا بأن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون وبأن من يوادّ الكفار منهم يكون قد ضلّ عن السبيل الحقّ وانحرف عن واجب الإخلاص.
(4) وتذكيرا لهم بشدة حقد الكفار عليهم: فهم لو لقوهم وظفروا بهم لعاملوهم معاملة الأعداء الألداء ولبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالشرّ والأذى.
وإنهم ليودّون أن يكفروا بعد إيمانهم.
(5) وتقريرا بأنه لن تكون أية فائدة ونفع للأرحام والأولاد يوم القيامة وبأن الله تعالى سوف يفصل بينهم فيه حسب أعمالهم وهو البصير الرقيب على كل ما يفعلونه.
(6) وضرب مثل لهم بموقف إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم: فقد أعلنوا جهرا ومواجهة براءتهم من قومهم وما يعبدونه من دون الله. وعالنوهم العداء والبغضاء إلى الأبد ما داموا كفارا، مقررين إيمانهم بالله وحده وإسلام النفس إليه واعتمادهم عليه. معترفين بأنه هو مرجعهم. طالبين منه المعونة. ملتمسين منه أن لا يجعلهم موضع فتنة الكفار وأذاهم. وأن يغفر لهم هفواتهم وذنوبهم. وفي هذا الأسوة الحسنة للمؤمنين المخلصين حقّا الذين يرجون رضاء الله وحسن العاقبة في اليوم الآخر. أما الذين ينحرفون عنه فهم وشأنهم والله غني عنهم حميد للمخلصين الصادقين.
وقد احتوت الآية الرابعة استدراكا فيه حكاية لما وعد إبراهيم به أباه من استغفار الله له مع إعلانه أنه لا يملك له من الله شيئا.(9/268)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ... إلخ والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من روايات وأقوال وما انطوى فيها من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون «1» بطرق عديدة المناسبة التي نزلت فيها هذه الآيات.
ورواها البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود أيضا فاخترنا إيراد نصّهم حيث جاء فيه «2» عن علي بن أبي طالب أنه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ أو لتلقينّ الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممّن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبيّ فقال ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم. وكان المهاجرون لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قد صدقكم، فقال عمر دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعلّ الله عزّ وجلّ اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآيات» وفي رواية أوردها الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا له إلّا خيرا» .
ولقد روى البغوي في تعريف المرأة خبرا فيه صورة طريفة حيث روي أنها مولاة لبني عبد المطلب قدمت إلى المدينة فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: أمسلمة جئت؟
قالت: لا، قال: أمهاجرة؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي.
(2) التاج ج 4 ص 233.(9/269)
والعشيرة والموالي وقد ذهبتم فاحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها: وأين أنت من شباب مكة- وكانت مغنية نائحة- فقالت: ما طلب مني شيء بعد بدر. فحثّ النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها. فاغتنم حاطب عودتها فأعطاها مبلغا من المال وحملها الرسالة.
ومضمون الآيات واختصاصها المهاجرين بالخطاب يؤيدان صحة الرواية. غير أن أسلوبها يلهم أن النهي والتحذير والتنبيه موجه إلى جملة من المسلمين. وإذا كانت نزلت في مناسبة رسالة حاطب- وهذا قوي الرجحان لتعدد الروايات بطرق مختلفة وعدم الاختلاف فيها- فإن أسلوبها الشديد وما ورد في مواضع عديدة من السور المدنية من آيات فيها نهي عن اتخاذ الآباء والأبناء والعشيرة والإخوان أولياء وموادتهم، وإنذار لمن يفعل ذلك كما جاء في آية سورة المجادلة هذه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.... وآيات سورة التوبة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) .
فكل هذا يسوغ القول بأنه كان يعتلج من حين لآخر في نفوس بعض المهاجرين أزمات نفسية بسبب ما صار إليه الأمر من العداء والبغضاء والدماء والتناكر الشديد بينهم وبين أهل مكة الذين تربط بينهم الأرحام والعصبيات والمصالح المتنوعة في ظرف كان للأرحام وعصبيتها أثر نافذ عميق في الحياة(9/270)
الاجتماعية. وأن هذا كان يسوق بعضهم إلى ما لا ينبغي من مواقف وعواطف وتصرفات فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الخطاب إلى الجميع بما فيه من شدّة وإنذار وتنبيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على هذا التوجيه على ما سوف نشرحه.
ولقد اختلفت الروايات التي رواها المفسرون «1» عن أهل الصدر الأول في ظروف إرسال الرسالة حيث روي أن حاطب أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وسلم تسيير جيش نحو مكة بعد وقعة بدر بسنتين. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وسلم السفر إلى مكة للعمرة وهي السفرة التي أدت إلى صلح الحديبية. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وسلم على غزو مكة لفتحها بعد هذا الصلح بسنتين. وفي المقطع الثاني من السورة قرينة تكاد تكون حاسمة على أنها نزلت بعد صلح الحديبية. وهذا ما يجعلنا نرجح الرواية الثالثة.
ولعل الرواية الأولى أو الثانية هما اللتان جعلتا رواة ترتيب لنزول يرتبون نزول السورة بعد سورة الأحزاب. والله أعلم.
والآيات كما هو ظاهر احتوت تعليلا لوصف الكفار بالأعداء والنهي عن موادتهم بما كان من كفرهم وبدئهم المسلمين بالأذى وإلجائهم إلى الخروج من وطنهم وإضمارهم لهم العداء والسوء وتمنّي ارتدادهم عن دينهم وكفرهم به. وهذا متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن ونبهنا عليه من كون موقف المسلمين العدائي نحو غيرهم هو موقف دفاع ومقابلة بالمثل وحسب. وقد انطوى فيها في الوقت ذاته مبدأ في غاية العدل والحق والتمشي مع طبائع الأمور دائما وهو عدم موادة المسلمين لأناس يبدأونهم بالعدوان والأذى ويضمرون لهم الشر والسوء وعدم جواز اطلاعهم على أسرارهم. ووجوب الوقوف منهم موقف الحذر والاستعداد وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان.
وفي التصرف الذي تصرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث الذي قاله في حق أهل
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.(9/271)
بدر تلقين مستمر المدى كذلك بالإغضاء عن موقف قد يصدر من بعض الناس عن ضعف نفسي مهما كان خطير المدى والأثر إذا ما كان هناك يقين بأن صاحبه مخلص غير خائن ولا غادر وله مواقف تضحية وإخلاص سابقة مشهودة.
والأسوة التي دعت الآيات المسلمين إلى التأسي بها رائعة قوية الإحكام من ناحيتين. الأولى كونها عائدة إلى إبراهيم عليه السلام، والذين آمنوا معه في ظرف يتداول سامعو القرآن من المسلمين أنه أحد آبائهم ويأمر القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إنّ ربّه هداه إلى صراط مستقيم دينا قيما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين كما جاء في الآية [161] من سورة الأنعام. والثانية شدة حسم الأسلوب الذي يعلن به إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه لقومهم الكفار العداوة والبغضاء أبدا ما لم يؤمنوا بالله وحده. في ظرف تعتلج في نفوس بعض المسلمين أزمة من جراء ما بينهم وبين الكفار من قومهم من أرحام ووشائج ومصالح.
وأهل التأويل من التابعين متفقون على ما ذكره المفسرون «1» على أن جملة إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ هي استثناء للأسوة أي أن المسلمين لهم أسوة بإبراهيم والذين آمنوا معه إلّا قول إبراهيم هذا فليس لهم فيه أسوة. بل قد روى الطبري عن مجاهد أن المسلمين نهوا بهذه الآية عن الاستغفار للمشركين. ونحن نتوقف في التسليم بهذا التخريج والاستنتاج. ويتبادر لنا أن الاستدراك استطرادي لحكاية وعد إبراهيم عليه السلام وحسب. ولو كان فيه معنى النهي لما أمكن أن يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض المؤمنين لبعض أقاربهم المشركين وهو ما أشير إليه بأسلوب عتابي في آية سورة التوبة التي نزلت بعد هذه السورة وهي: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) . ويظهر أنهم فعلوا ذلك اقتداء بإبراهيم عليه السلام الذي وعد أباه بالاستغفار على ما أخبر بذلك القرآن في آية سورة مريم هذه: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) . فاقتضت
__________
(1) انظر الكتب السابقة الذكر.(9/272)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
حكمة التنزيل أن تنزل آية أخرى مع آية التوبة وهي: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) . فعدم التأسي وجب بناء على ذلك وليس بناء على الآية التي نحن في صددها كما يبدو ذلك بكل قوّة من آيتي سورة التوبة. والله أعلم.
ولأهل التأويل من التابعين تخريجان لجملة: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا على ما ذكره المفسرون. أحدهما أنها بمعنى (ربنا لا تصبنا ببلاء وعذاب لئلا يقولوا إنهم لو كانوا على حقّ لما أصابهم هذا البلاء والعذاب من الله) فيكون بذلك فتنة لهم تجعلهم يستمرون على كفرهم. وثانيهما بمعنى (ربنا لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك ويقولوا لو كانوا على حقّ لما غلبناهم) وكلا التخريجين وجيه.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 الى 9]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
. تعليق على الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد انطوى في الآية الأولى تأميل للمؤمنين الذين وجّه الخطاب إليهم بأن يجعل الله بينهم وبين من عادوهم مودّة بعد العداء وتواصلا بعد الجفاء والقطيعة: فالله قدير على ذلك. وهو غفور رحيم يغلب غفرانه ورحمته في معاملة الناس. وفي الآيتين الثانية والثالثة تنبيه تقريري بأن الله لا ينهاهم عن البرّ والإقساط وحسن التعامل مع الذين لم يقاتلوهم ولم يعتدوا على حريتهم ولم(9/273)
يؤذوهم بسبب دينهم ولم يضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم من الكفار. فإن الله يحبّ المقسطين الذين يعاملون غيرهم بالعدل والقسط إذا لم يصدر منهم مثل ذلك. وإنما ينهاهم عن موالاة وموادّة الذين قاتلوهم بسبب دينهم واعتدوا على حريتهم وآذوهم واضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم أو ساعدوا على ذلك. فمن تولى هؤلاء فهو آثم ظالم لنفسه منحرف عن أمر الله تعالى.
وقد روى ابن كثير عن مقاتل أن الآية الأولى نزلت في أبي سفيان حيث تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة فكان ذلك مودّة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعزا الطبري إلى أهل التأويل من التابعين أن الله تعالى أخبر بالآية بما سوف يكون من إسلام كثير منهم ومن قيام حالة سلم بين بعضهم وبين المسلمين. أما في صدد الآيتين الثانية والثالثة فقد روي عن أهل التأويل من التابعين أقوال وروايات عديدة «1» .
منها أنه عني بهما المسلمون الذين ظلوا في مكة أو حيث هم. ولم يهاجروا إلى المدينة. ومنها أنه عني بهما قبيلتا خزاعة ومدلج اللتان صالحتا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا تقاتلاه ولا تعينا عليه. ومنها أنه عني بهما مشركو مكة الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يؤذوهم. ومنها أنه عني بهما من لم يؤذ المسلمين ويقاتلهم من المشركين عامة. ومنها ما جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: إن أمّ أسماء بنت أبي بكر قتيلة- وكان أبو بكر قد تزوجها في الجاهلية وطلقها ولم تسلم- قدمت على ابنتها في المدينة ومعها هدية لها فقالت لها لا تدخلي حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك لعائشة فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيتين «2» .
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(2) هذه الرواية وردت في حديث رواه الشيخان عن أسماء وليس فيه ذكر لنزول الآيتين بمناسبة ذلك حيث جاء في الحديث «قالت أسماء قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبيها فاستفتيت رسول الله فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها. قال نعم صلي أمك» التاج ج 5 ص 4 و 5. وعهد قريش هو صلح الحديبية الذي انعقد بين النبي وبينهم. وهذا الحديث يدعم ترجيحنا نزول السورة بعد صلح الحديبية بالإضافة إلى المقطع الثاني من السورة الذي يدعمه كما قلنا.(9/274)
وقد فنّد ابن كثير رواية صلة أبي سفيان بالآية الأولى. وهو على حقّ. لأن أبا سفيان كان كافرا عدوا يقود جيش قريش لقتال المسلمين حين نزلت الآية. وكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنته قد تمّ وهي في الحبشة حيث هاجرت مع زوجها فمات عنها وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة وعقد له عليها وقدمت رأسا إلى المدينة على ما ذكرته الروايات «1» .
والروايات إلى هذا تقتضي أن تكون الآيات الثلاث نزلت متفرقة، في حين أن الانسجام بينها قائم وقوي أولا. وأن الصلة بينها وبين سابقاتها سياقا وموضوعا ملموحة بقوة ثانيا. حيث اكتفي باستعمال ضمير الجمع المخاطب على اعتبار أن صفة المخاطب واضحة في الآيات السابقة وهي مهاجر والمسلمين. وحيث اكتفي بتعبير (منهم) للدلالة على أهل مكة الكفار الذين كانوا موضوع الحديث في الآيات السابقة. وفي الآيتين الثانية والثالثة دلالة أخرى على ذلك في تعبير الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. ويتبادر لنا بناء على ذلك ومن روح الآيات وبخاصة الأولى أن الآيات السابقة قد أثرت تأثيرها المطلوب في نفوس المهاجرين، وحزّت في الوقت نفسه في قلوبهم، وأيأستهم أو كادت من أقاربهم وذوي أرحامهم الكفار. ولعل بعضهم فاتح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر أو سأله عما إذا كان النهي شاملا لجميع أهل مكة الباغي منهم والمسالم على السواء فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء الآيات للتنفيس والتأميل من جهة. وللتفريق بين الباغي والمسالم ووضع الأمر في نصابه الحق من جهة أخرى. ومن الممكن في الوقت نفسه أن يلمح فيها- وبخاصة في أولاها- بشرى تطمينية بين يدي ما اعتزمه النبي صلى الله عليه وسلم من غزو مكة- والآيات قد نزلت بين يدي هذا العزم على ما رجحناه استلهاما من الآيات والروايات- من
__________
(1) انظر ابن هشام ج 4 ص 323 بل هناك خبر طريف ورائع وهو أن أبا سفيان جاء إلى المدينة بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة ليوثق ذلك الصلح فدخل إلى ابنته فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم (انظر ابن هشام ج 4 ص 12، 13) .(9/275)
شأنها أن تشرح صدر المسلمين المهاجرين للغزوة وتهيىء نفوسهم لها وتبعث فيهم الإقدام والشوق والأمل بحسن النتائج، وانضواء كثير من الأقارب والأصدقاء إلى الإسلام، وانقلاب العداء والجفاء إلى مودة واجتماع. كما يمكن أن يلمح في الآيتين الثانية والثالثة أنه كان بين أهل مكة أناس لم يشتركوا في أذى المسلمين والتآمر عليهم مما هو طبيعي جدّا.
وهذا الشرح لا يمنع أن تكون رواية قدوم أم أسماء المدينة واستفتاء ابنتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة فكان في الآيات فتوى لها أيضا.
هذا من الوجهة الزمنية المتصلة بالسيرة النبوية. أما من النواحي العامة فالآية الأولى متسقة مع الأسلوب القرآني في جعل الباب مفتوحا أمام غير المسلمين سواء أكانوا أعداء محاربين أم غير ذلك للمسالمة والموادة والتوبة والإنابة والارعواء عن الغلو والمواقف المنبثقة من الغرض والمآرب والمكابرة والاستكبار أو الجهل مما مرّ منه في السور السابقة أمثلة كثيرة جدا نبهنا عليها في مناسباتها فلا ضرورة لتمثيل جديد. وفي عبارة الآية تلقين من شأنه أن يجعل أفق المسلمين واسعا وصدرهم رحبا ويحملهم على النظر في الأمور من أكثر من ناحية. ويبثّ فيهم أمل السلام والخير والاستبشار. ويجتث منهم العداء والحقد الشديدين. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. والآيتان الثانية والثالثة متسقتان بدورهما مع المبدأ القرآني العام الذي نبهنا عليه ونوهنا به في مناسبات سابقة عديدة والذي يقرر معاملة العداء للعدو المعتدي وحسب ويجعل ذلك مقابلة للعدوان وليس بدءا. أما الذين يوادون المسلمين ويكفون عنهم ألسنتهم وأيديهم من غير المسلمين فلا يعتبرون أعداء ولا مانع من برّهم والإقساط إليهم. بل إن أسلوب الآية الثانية ينطوي على الحثّ والتشويق على ذلك.
وفي الآيتين إلى هذا تقرير وتنظيم للمناسبات بين المسلمين وغيرهم أولا.
وفرض لوجود طبقة بين مشركي العرب وكفار الكتابيين يمكن تسميتها بالمسالمين ثانيا. وهي على ما يتبادر لنا غير طبقة المعاهدين الذين يقوم بينهم وبين المسلمين(9/276)
ميثاق صلح وسلام دون خضوع وجزية وبعد عداء وقتال أو بدون قتال مثل ما صارت الحالة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش نتيجة صلح الحديبية وقبائل أخرى مما ذكرته الروايات «1» . وهي كذلك غير طبقة الذين يدخلون في ذمة المسلمين وحكمهم وحمايتهم ويؤدون إليهم الجزية سواء أكان ذلك نتيجة قتال أم لا. مثل ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران والمدن اليهودية والنصرانية في مشارف الشام مما ذكرته الروايات كذلك «2» . أي الطبقة التي تكفّ ألسنتها وأيديها عن المسلمين ودينهم وتقف منهم موقف الحياد والمسالمة أو المودة بدون ميثاق مكتوب.
وفيهما دلالة على عدم وجاهة القول بعدم قبول شيء غير الإسلام أو القتل من مشركي العرب. وبعدم قبول شيء غير الإسلام أو الجزية من أهل الكتاب. وعلى عدم وجاهة القول بإيجاب محاربة غير المسلمين مع إطلاق القول حتى يسلموا.
فالقتال والعداء كما قررنا وذكرنا في مناسبات عديدة سابقة استلهاما من آيات عديدة صريحة أو ملهمة إنما شرعا بالنسبة للبادئين بقتال المسلمين وأذيتهم وفتنتهم أو الصادين عن سبيل الله ودينه أو من يساعد على ذلك ثم لمن ينكث عهده مع المسلمين ويتحول من موقف المعاهد إلى موقف العدو. ومع هؤلاء ينتهي الأمر بالإسلام أو المعاهدة أو الجزية فقط. وطبيعي أنه ليس كل غير مسلم يكون قد آذى المسلمين وقاتلهم واعتدى عليهم وصدّ عن سبيل الله حيث لا يمكن إلّا أن يكون فئات كثيرة في كل ظرف ومكان لم تفعل ذلك ولم تساعد عليه. فهؤلاء يباح البرّ والإقساط معهم بل يستحسنان. وهذا تشريع عام محكم ومستمر وشامل وفيه من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب. ومما يزيد في روعته وجلاله أن الآيات مطلقة لا تشترط بدءا من غير المسلمين في البر والإقساط والموادة. فيكفي من غير المسلم أن يكون مسالما غير مؤذ بلسانه أو يده مباشرة أو غير مباشرة ليكون موضع برّ المسلم ومودته وقسطه. والأمثلة على ذلك كثيرة في السيرة النبوية وعن الخلفاء الراشدين. فلم يقاتلوا ولم يأمروا بقتال غير الأعداء الذين يقاتلونهم وتركوا وأمروا
__________
(1) ابن سعد ج 3 ص 139- 150.
(2) ابن سعد ج 2 ص 41 وما بعدها وج 3 ص 70. [.....](9/277)
بترك من لا يقاتلهم ومن يكفّ عنهم لسانه ويده، ومن هو غير أهل للقتال من شيوخ ونساء وصبيان ورهبان «1» . ولقد قال بعض المفسرين وعزا بعضهم إلى بعض أهل التأويل من التابعين أن الآية الأولى منسوخة بخاصة بالنسبة لمشركي العرب بآية سورة التوبة هذه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) . ونحن لا نعتقد ذلك وسياق هذه الآية السابق واللاحق لها لا يدعمه على ما سوف نشرحه في مناسبته. ولقد أورد الطبري هذا القول أيضا ثم فنده بقوله: «وأولى الأقوال بالصواب قول من قال عني بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرّوهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. وقد عمّ الله عزّ وجل جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ. لأن برّ المؤمن لأهل الحرب «2» ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح» وفي هذا كل الحق والصواب إن شاء الله.
والله أعلم.
ولقد تحقق ما توقعته الآية الأولى وأمّلت المسلمين به فدخل معظم قريش ثم معظم العرب في دين الله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وانقلب ما كان من عداء بينهم وبين المسلمين إلى مودّة وإخاء فكان ذلك من معجزات القرآن الباهرة.
ولقد ترد ملاحظة على الفرق في التعبير في الآيات. ففي الآية الثانية استعمل
__________
(1) انظر ابن سعد ج 3 ص 132 وتاريخ الطبري ج 2 ص 587.
(2) أهل الحرب اصطلاح فقهي كان مطلقا في العصور الإسلامية الأولى على أهل البلاد التي أهلها كفار. ولم يكن الإطلاق سليما إلا في حالة أن يكون بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء. ويتبادر لنا أنه أطلق لأن البلاد التي كانت مجاورة لبلاد المسلمين كانت في حالة حرب مع المسلمين إما في حالة حرب قائمة أو في حالة حرب متوقفة بهدنة. وكلام الطبري هو في صدد من يكونون غير محاربين للمسلمين ولا متآمرين عليهم من أهل هذه البلاد.(9/278)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
(البرّ والإقساط) وفي الآية الثالثة استعمل (التولّي) . ومع التسليم بما بين التولّي والبرّ من فرق فإن الآيات وروحها وروح آيات أوائل السورة معا تلهم أن القصد من التولّي هنا هو فعل ما ليس فيه مصلحة وخير للمسلمين أو ما فيه ضرر وخطر.
وهذا يشمل التحالف كما يشمل التعاون والتحذير والتواصل والتراسل والتوادّ.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
. (1) فامتحنوهن: اختبروا صحة دعواهن الإسلام.
(2) وآتوهم ما أنفقوا: الضمير راجع إلى الكفار أزواج اللائي جئن إلى المدينة مهاجرات مؤمنات. والجمهور على أن جملة ما أَنْفَقُوا تعني مهور النساء.
(3) عصم: القصد منها عقود الزوجية.
(4) الكوافر: جمع كافرة.
(5) وإن فاتكم: بمعنى إن ضاع عليكم أو ذهب منكم أو فرّ من عندكم.
(6) فعاقبتم: فكان لكم عقبى بالنصر وحصلتم على غنائم من أعدائكم.
الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين. وقد تضمنت:
(1) أمرا بامتحان من يأتين إليهم مؤمنات مهاجرات واختبار صحة دعواهن الإيمان أو التوثّق منها.(9/279)
(2) ونهيا عن إعادتهنّ إلى الكفر إذا ثبتت صحة دعواهنّ لأنهنّ يكنّ قد أصبحن محرّمات على الكفار وأصبح الكفار محرّمين عليهنّ.
(3) وأمرا بالتعويض على أزواجهم الكفار ما أنفقوه عليهن.
(4) وإباحة لهم أن يتزوجوا باللائي جئن مؤمنات مهاجرات.
(5) ونهيا لهم عن الاستمرار في التمسك بأنكحة زوجاتهم اللاتي بقين على كفرهن وتخلفن عنهم مع تقرير حق الأزواج بمطالبة ذويهن الكفار بما أنفقوا عليهن وحقّ الأزواج الكفار بالمطالبة بما أنفقوه على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن.
(6) وتقريرا لحق الأزواج المسلمين الذين تلتحق زوجاتهم بذويهن في دار الكفر باستيفاء ما أنفقوه عليهن من الغنائم التي قد تقع في أيدي المسلمين من أموال الكفار حينما يتيسر لهم ذلك.
(7) وتنبيها إلى أن هذه الأحكام هي أحكام الله التي يجب السير في نطاقها وهو العليم بمقتضيات الأمور الذي يقرر ما فيه الحكمة والصواب.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... إلخ والآية التي بعدها وما ينطوي فيهما من أحكام وصور وتلقين
ولقد روى المفسرون «1» أن الآية الأولى نزلت في نسوة جئن إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرات مؤمنات من مكة بعد صلح الحديبية. ومنهم من روى أنهن جئن وهو في الحديبية بعد أن تمّ الاتفاق بينه وبين قريش وقبل أن يرجع إلى المدينة، ومنهم من ذكر أسماء اختلفت باختلاف الروايات مثل سبيعة بنت الحارث الأسلمية زوجة من بني مخزوم أو زوجة صيفي الراهب أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت عاتقا- غير متزوجة- أو أميمة بنت بشر إحدى نساء بني أمية بن زيد بن أوس الله كانت عند ثابت بن الدحداحة، فجاء ذووهن أو أزواجهن في طلبهن استنادا إلى
__________
(1) انظر الطبري والبغوي.(9/280)
شروط الصلح التي تنصّ على إرجاع النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه من مكة بدون إذن وليّه ولو جاء مسلما. فأمر الله في الآية بعدم إرجاعهن.
واحتمال صحة إحدى الروايات قوي مع ترجيحنا وقوع الحادث بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بمدة ما على ما تلهمه روح الآية ومقامها المتأخر كثيرا عن سورة الفتح. فلو لم يكن هناك عهد لما كان ضرورة للأمر بعدم الإرجاع ولما كان هناك مجال لمجيء الكفار ومطالبتهم بالإرجاع كما هو ظاهر.
والآيتان وحدة تشريعية تامة ومنسجمة بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معا بقوة. وفيهما أمور ليست من أسباب ومحتوى الرواية حيث يصحّ القول بأن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الآيتين أحكاما متصلة بأمور عديدة من باب واحد في مناسبة إحدى الحوادث المروية.
ولقد تعددت روايات المفسرين في حقيقة شروط الصلح لمعرفة ما إذا كان في الأمر بعدم الإرجاع نسخ لبعضها. فمن هذه الروايات أن النصّ كان مطلقا «لا يأتيك أحد منّا بدون إذن أهله إلّا رددته ولو كان مسلما» ومنها أنه كان بهذه الصيغة «لا يأتيك رجل منّا.. إلخ» ومنها أنه كان في شأن النساء فقط هكذا «لا تأتيك امرأة ليست على دينك إلّا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج تردّ على زوجها الذي أنفق» . وليس هناك نصّ للعهد في حديث صحيح.
والنفس تطمئن إلى الرواية الأولى أكثر من غيرها. ولا سيما وهناك رواية ذكرت أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وكان مسلما قد قيده أبوه بالحديد وحبسه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية يرسف في أغلاله، وكان أبوه هو مندوب المفاوضة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان الاتفاق قد تمّ على الشروط فطلب الأب ردّ الابن تنفيذا للعهد فردّه النبي صلى الله عليه وسلم على ما شرحناه في سياق سورة الفتح. والرواية الثالثة متطابقة الفحوى مع الآية الأولى فلا يكون هناك ضرورة لأمر رباني ناسخ للاتفاق. وهذا فضلا عن أن نقض العهد الصريح وعدم تنفيذه لم يكن متسقا مع المبادئ القرآنية المكررة بشأن الوفاء بالعهود والعقود. وآيات سورة المائدة الأولى بخاصة قوية(9/281)
شديدة في شأن صلح الحديبية على ما شرحناه في مناسبتها. ومن جهة أخرى فإن المشركين ما كانوا ليقبلوا بذلك. وكانوا اعتبروا الصلح منقوضا وحملوا تبعة نقضه على النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يرو شيء من ذلك. والمأثور أن العهد ظلّ محترما معتبرا إلى أن نقضه أهل مكة وحلفاؤهم بنو بكر بعد سنتين فكان ذلك سببا لزحف النبي صلى الله عليه وسلم على رأس المسلمين على مكة وفتحها.
والمتبادر أن قريشا كانوا يعتبرون نصّ العهد شاملا للنساء والرجال معا.
فجاء ذوو النساء المهاجرات إلى المدينة ليطالبوا بردهن. ولم يكن هذا النصّ صريح الشمول فشاءت حكمة التنزيل أن يؤمر المؤمنون بعدم إرجاعهن ما دام ليس هناك نص صريح، ثم شاءت أن يعوض أزواجهن عن النفقة التي أنفقوها والتي يتفق المؤولون على أن المراد منها الصداق إرضاء لهم لأنهم كانوا يرون في المطالبة بردهن شبهة من الحق. ولم يرو أحد أنهم رفضوا هذا الحلّ حيث ينطوي في هذا أنهم لم يكونوا يرون أنفسهم محقين أو مستندين إلى نصّ صريح. وهو بعد حلّ فيه العدل والإحسان. وفيه تلقين جليل في كل موقف مماثل.
ويلفت النظر خاصة إلى جعل الحقوق متبادلة بين المسلمين والكفار في مطالبة الأزواج المسلمين تعويضا عن نسائهم اللائي تخلفن عنهم أو التحقن بذويهم ولو كن كوافر أصلا أو ارتدادا وفي مطالبة الأزواج الكفار تعويضا عن نسائهم اللائي أسلمن والتحقن بالمسلمين. ففي ذلك تسوية متقابلة عادلة إنما تكون في ظروف عهدية وسلمية مستمرة ومحترمة من طرفيها. وفي ذلك أمارة من أمارات رحابة أفق وصدر الشريعة الإسلامية في المناسبات بين المسلمين وغير المسلمين، وتلقين جليل مستمر المدى في كل موقف مماثل أيضا.
والحادث الذي نزلت الآيتان في مناسبته والأمر بعدم الإرجاع يدلان على كل حال على أن موقف المسلمين صار أقوى من موقفهم أثناء عقد صلح الحديبية فاقتضت حكمة التنزيل التساهل في مسألة ليس فيها نصّ صريح. في حين لم يكونوا في تلك الأثناء من القوة ما يكفي لإصرارهم على المساواة في بعض(9/282)
الشروط وبخاصة في عدم إرجاع من يأتي إليهم من ناحية المشركين مقابل عدم إرجاع هؤلاء من يأتي إليهم من ناحية المسلمين مما كان مثيرا لنفوس بعض المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح.
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في كيفية الامتحان الذي أمرت الآية الأولى به. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلّف المرأة بالله أنها ما خرجت من بغض زوج ولا لالتماس دنيا وإنما خرجت حبّا لله ورسوله. ومنها أنه كان يحلّفها بأنها لم تخرج إلّا للدين. ومنها أنه كان يطلب منها بيعة بصيغة الآية التالية للآيتين. وهي «أن لا تشرك بالله شيئا ولا تسرق ولا تزني ولا تقتل أولادها ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها ولا تعصيه في معروف» . وهذه الرواية بخاصة من مرويات البخاري والترمذي في سياق تفسير الآية عن عائشة حيث قالت: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية» «2» ونحن نرجح هذه الرواية لأنها أوثق سندا وبقرينة ورود الآية التي تحتوي الصيغة بعد الآيتين. ولعلّها نزلت معهما.
ولقد انطوى في الآيتين صور عديدة من صور السيرة النبوية في العهد المدني زادتها الروايات جلاء:
(1) من ذلك أن بعض النساء المكيّات اللاتي أسلمن ولم يستطعن الهجرة وظلّت المتزوجات منهن في كنف أزواجهم المشركين كنّ يتحيّنّ الفرصة للهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تاركات وطنهنّ وأهلهنّ وأزواجهنّ على ما كان يحفّ هذا العمل من أخطار ومصاعب. وفي هذا صورة رائعة للمرأة العربية ودورها في الدعوة الإسلامية وما بثّه الإسلام فيها من قوة وإخلاص وجرأة وإقدام وتضحية.
(2) ومن ذلك أن بعض زوجات المهاجرين تخلّفن عن أزواجهنّ محتفظات بشركهن. ومؤثرات أهلهنّ على أزواجهنّ، وممن روت الروايات أسماءهن قريبة
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والطبرسي والخازن.
(2) انظر التاج ج 4 ص 233.(9/283)
بنت أبي أمية بن المغيرة وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية زوجتي عمر بن الخطاب وأروى بنت ربيعة زوجة طلحة بن عبيد الله «1» .
(3) ومن ذلك أن من المهاجرات من ارتددن وفررن من المدينة ولحقن بأهلهن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم الحكم بنت أبي سفيان زوجة عياض بن شداد، وبروع بنت عقبة زوجة شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى زوجة عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل بن هشام زوجة هشام بن العاص بن وائل «2» .
(4) ومن ذلك أن بعض المسلمين ظلوا يحتفظون بعقد زوجيتهم بالكافرات اللاتي تخلفن عنهم ولم يسلمن ولم يهاجرن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وزوجاتهم اللاتي ذكرنا أسماءهن قبل قليل فطلقاهن بناء على أمر الله في الآية الأولى «3» .
(5) ومن الصور الطريفة التي رواها الطبري أن زوجة أحد المسلمين فرت إلى مكة وجاءت في هذه الأثناء امرأة من مكة مهاجرة مؤمنة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذهبت زوجته وقال للمرأة القادمة هذا زوج التي ذهبت إلى المشركين أزوجكه. فقالت يا رسول الله عذر الله زوجة هذا أن تفرّ منه لا والله ما لي به حاجة. فدعا رجلا جسيما اسمه البختري فقال لها هذا قالت نعم.
ومما يلحظ أن آية سورة البقرة [221] نهت عن نكاح المشركات. فالظاهر أن هذا النهي فهم على أنه بالنسبة للزواج بعد الإسلام وأنه ليس شاملا للعقود الزوجية السابقة فاحتفظ المسلمون بزوجاتهم الكافرات إلى أن نزلت هذه الآيات.
وفي هذا مشهد من مشاهد تطور التشريع القرآني.
وقد قال المؤولون على ما ذكره الطبري وغيره في جملة وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا
__________
(1) انظر تفسير الطبري.
(2) هذه الأسماء رواها الطبرسي عن الزهري. وقد قال الطبري إنه لم يخرج إلا امرأة واحدة ولم يذكر اسمها.
(3) الطبري.(9/284)
إن المرأة إذا جاءت مؤمنة مهاجرة ووجب أداء صداقها إلى زوجها الكافر أخذ هذا الصداق من المؤمن الذي يتزوجها. وهذا حلّ حقّ. غير أن هناك حالة مفروضة وهي أن لا يتيسر للمرأة زواج والمتبادر أن أداء صداقها يكون على جميع المؤمنين أو على بيت مالهم. ويكون المخاطب بالتنفيذ في هذه الحالة ولي أمر المؤمنين فيجمعه من القادرين من المؤمنين أو يؤديه من بيت مال المسلمين الذي يكون تحت إشرافه.
وقد قال المؤولون كذلك في جملة: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا إنها في صدد أمر المؤمنين إعطاء صداق زوجات المؤمنين اللاتي يلحقن بالكفار مما ييسره الله من غنائم العدو.
وهذا حقّ مستلهم من روح الجملة. والمتبادر أن ما يعطاه الزوج يكون غير سهمه الخاص من الغنائم. وهذا من شأن ولي أمر المؤمنين الذي تكون قسمة الغنائم إليه.
هذا، وهناك أحاديث يصحّ إيرادها في هذا المقام لتناسبها مع الموضوع وفيها أحكام تشريعية نبوية.
من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «إنّ رجلا جاء مسلما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة فقال يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي فردّها عليّ فردّها عليه» «1» .
ومن ذلك حديث رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس قال: «أسلمت امرأة على عهد رسول الله فتزوّجت فجاء زوجها الأول إلى النبيّ فقال يا رسول الله إني قد كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها النبيّ صلى الله عليه وسلم من زوجها الثاني وردّها إلى الأول» «2» .
__________
(1) التاج ج 2، ص 324 و 325.
(2) المصدر نفسه.(9/285)
ويبدو من روح الحديثين والحادثين أن النبي صلى الله عليه وسلم تيقّن من كلام الزوجين فأمر بما أمره.
وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «ردّ النبي صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ستّ سنين بالنّكاح الأول ولم يحدث نكاحا» «1» وزينب هي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن هشام قصتها. وخلاصة ذلك أن زوجها وقع أسيرا في جملة أسرى بدر، وكانت هي في عصمته في مكة فأرسلت قلادتها لفدائه. فاستشار النبي أصحابه بالمنّ عليه بدون فداء فوافقوا ومنّ عليه على شرط أن يرسلها إلى المدينة ففعل. ثم وقع أسيرا مرة أخرى وجيئ به إلى المدينة فاستجار بزينب فأخبرت بذلك أباها فأجاره ولكنه نبّه عليها قائلا: «لا يخلصنّ إليك فإنّك لا تحلّين له. وقد عاد إلى مكة بعد هذا الحادث وقضى مصالحه ورجع فأسلم فردّ النبي عليه زوجته بدون نكاح جديد» «2» .
وقد روى الإمام مالك حادثا مماثلا في حديث رواه عن ابن شهاب جاء فيه «أنّ صفوان بن أمية فرّ يوم الفتح فأرسل إليه النبيّ أمانا فعاد وكانت امرأته قد أسلمت قبله فردّها عليه بدون نكاح جديد» «3» . وروى البخاري حديثا عن ابن عباس قال: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرّمت عليه» «4» .
وقد يكون إسلام أبي العاص قبل نزول آيات الممتحنة التي حرّمت الزوجات المسلمات على أزواجهم الكافرين فلم يكن فيما فعله النبي نقض لأن الحكم القرآني لم يكن قد نزل. غير أن هذا ليس واردا بالنسبة لصفوان وزوجته. ويمكن والحالة هذه أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر جملة: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ في آية سورة الممتحنة بحرمة الوطء دون انفساخ العقد. وتكون جملة «حرّمت عليه» في
__________
(1) التاج ج 1، ص 325.
(2) ابن هشام ج 2، ص 296 و 297 و 302 و 303.
(3) الموطأ ج 2 ص 31.
(4) التاج ج 2 ص 325. [.....](9/286)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
حديث ابن عباس في نفس المعنى. فلما أسلم الزوجان صار الحرام عليهما مباحا دون حاجة إلى عقد جديد. والله أعلم.
والمتبادر أن بقاء الزوجتين بدون زواج هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يمضي حكمه الحكيم. ولو تزوجتا قبل إسلام زوجيهما لما كان محلّ ولا إمكان لذلك.
والتحريم هو تشريع مدني كما هو واضح. فليس من محلّ للسؤال عن سبب بقاء بنت رسول الله التي نعتقد أنها كانت مؤمنة في عصمة زوجها المشرك في العهد المكي ثم في شطر من العهد المدني قبل نزول التحريم. ويظل الحكم الشرعي هو التفريق بين الزوجين إذا ارتدّ أحدهما ولم يتب. أما إذا تاب فقد يكون ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم محلّ قياس فيعود الزوجان إلى زوجتيهما بدون عقد جديد. وإذا كان الزوج هو المرتدّ فتكون عودة زوجته إليه إذا تاب رهنا ببقائها غير متزوجة. فإن تزوجت فيكون الأمر قد انتهى. والله تعالى أعلم.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
(1) ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن: ولا يقدمن على شيء مما تفعله الأيدي والأرجل فيه كذب وافتراء. وقد أوّلها معظم المؤولين بنسبة النساء لأزواجهم أولادا نتيجة للزنا والفاحشة. فبطنها الذي تحمل فيه ولد الزنا بين يديها، وفرجها الذي تلده منه بين رجليها «1» وهو تأويل وجيه.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا جاءه النساء المؤمنات يردن أن يبايعنه ويعطينه العهد على أنفسهن بأن لا يشركن ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ينسبن كذبا لأزواجهن ولدا ليس منهم نتيجة للزنا والفاحشة ولا يعصينه في ما يأمر
__________
(1) التفسير الأخير للنيسابوري.(9/287)
به من أمر معروف متعارف أنه خير وصالح ونافع فليبايعهن وليستغفر لهن الله تعالى المتصف بالغفران والرحمة.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... إلخ وما روي في صددها من أحاديث وروايات وما فيها من تلقين وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة واستقلاليتها في المجتمع الإسلامي إزاء الرجل
لقد أوردنا في سياق تفسير الآيات السابقة ما رواه البخاري والترمذي عن عائشة عن كيفية امتحان النبي صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي يأتين إلى المدينة مؤمنات مهاجرات وهي مثل نصّ هذه الآية. مع التنبيه على أن صيغة حديث عائشة لا تفيد أنها أنزلت لذلك. ولم نطلع على رواية أخرى في صدد نزولها. وكل ما هناك أن المفسرين رووا روايات عديدة في تطبيقها. وقد يرد بالبال أن تكون نزلت مع الآيتين السابقتين لها لتكون صيغة الامتحان. وفي حال صحة هذا الاحتمال تكون صلتها بالآيات السابقة لها وموضوعها وثيقة. غير أن اختلاف الصيغة بين هذه الآية والآيتين السابقتين لها يجعلنا نتردد في الجزم بذلك. فالخطاب في الآيتين السابقتين يوجّه إلى المؤمنين بامتحان النساء المؤمنات اللاتي يجئن إليهم مهاجرات. والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالاستجابة إلى النساء المؤمنات إذا جئن إليه للمبايعة. والفرق غير يسير في ما يتبادر لنا بالرغم مما يمكن أن يصح أن يقال إن الخطاب للمؤمنين يعني الخطاب للنبي. وكل هذا يجعل الاحتمال أقوى أن تكون الآية نزلت مستقلة استجابة إلى طلب تقدم به بعض المؤمنات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبايعهن استقلالا عن الرجال. وقد روي شيء من ذلك في مناسبة الآية [195] من سورة آل عمران والآية [35] من سورة الأحزاب على ما أوردناه في مناسبتهما. فإذا صحت وجاهة وقوة هذا الاحتمال فتكون الآية قد نزلت في ظرف مثل هذا الطلب وقبل مجيء المؤمنات مهاجرات من مكة فجعلت صيغتها(9/288)
صيغة امتحان لهن على ما ورد في حديث عائشة الصحيح ووضعت بعد الآيتين اللتين ذكرتا حادث مجيئهن للتناسب الموضوعي وهو ما نرجحه. وتكون الآية مظهرا جليلا آخر من مظاهر عناية القرآن بالمرأة المسلمة وتقرير شخصيتها وأهليتها للتكليف والخطاب والتعامل استقلالا مما فيه معنى تقرير كونها ركنا في الدولة الإسلامية كالرجل سواء بسواء. ومما فيه معنى دعم لكون قوامة الرجل عليها التي قررتها آية سورة النساء [34] هي منحصرة في الحياة الزوجية على ما شرحناه في سياقها شرحا يغني عن التكرار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. على أنه لو صح الوارد الأول بكون الآية نزلت مع الآيتين السابقتين فإن هذا المظهر الجليل البعيد المدى والقوي الدلالة في نطاق شرحنا الآنف يظل ملموحا في الآية بكل روعته وجلاله.
ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ البيعة من أول رهط أسلم من الأوس والخزرج قبل الهجرة إلى المدينة بصيغة هذه الآية «1» . وروى الطبري عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه إلى المدينة جمع طائفة من نساء الأنصار في بيت وجاء إليهن مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسلّم عليهن من وراء البيت وقال: أنا رسول الله، فقلن: مرحبا وحبّا، فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا، إلى جملة ولا تعصين في معروف، قلن: نعم. فمدّ يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهمّ فاشهد.
ولقد روى المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب فتح مكة أخذ البيعة من الرجال ثم أخذ البيعة من النساء، وأن صيغة بيعة النساء كانت صيغة الآية. ومن طريف ما روي في صدد ذلك أن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من جملة من أقبل من نساء قريش على مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت متنكرة لأنها حسبت أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حاقدا عليها وقد يقتلها لما فعلته في عمّه حمزة رضي الله عنه يوم أحد. حيث روي أنها بقرت بطنه وأخذت قطعة من قلبه أو كبده فلاكتها شفاء لنفسها من قتل أبيها
__________
(1) ابن هشام ج 2 ص 41 بصيغة التذكير.(9/289)
وإخوتها وابنيها في وقعة بدر «1» . وقد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك فدعاها باسمها فأتت فأخذت بيده فعاذت به وقالت عفا الله عما سلف يا رسول الله فصرف وجهه عنها. ولما لقن النساء وَلا يَسْرِقْنَ قالت والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلّهن لي أم لا قال أبو سفيان ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال فضحك رسول الله. ولما لقنهن وَلا يَزْنِينَ قالت يا رسول الله وهل تزني الحرة؟ قال لا والله ما تزني الحرة. ولما لقنهن وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ ...
إلخ. قالت والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولما لقنهن وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قالت ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنت وهم أبصر. وضحك عمر حتى استلقى على قفاه وتبسّم النبي صلى الله عليه وسلم. ولما لقنهن وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قالت ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
وروايات مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم النساء بهذه الصيغة معقولة بالنسبة إلى ما بعد نزولها سواء أكان ذلك ممن كن يأتين مؤمنات مهاجرات قبل الفتح ويدعين الإسلام أم كان ذلك من نساء قريش عقب الفتح. أما روايات أخذ البيعة بنفس الصيغة قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعقب هجرته إليها ففيها نظر إلّا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ألهم الصيغة قبل أن ينزل بها الوحي قرآنا. وفي هذا إذا صحت الروايات مشهد من مشاهد التوافق بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم الملهمة وبين الوحي القرآني «2» .
والنهي عن قتل الأولاد متصل بعادة وأد البنات على ما ذكره المفسرون. وقد كان النساء إلى ذلك إذا ما ولدن بنتا يخنقنها حال ولادتها سخطا وكراهية ولادة
__________
(1) انظر ابن هشام ج 3 ص 41، وج 2 ص 251 وما بعدها.
(2) هناك حديث عن عبادة بن الصامت رواه الشيخان والترمذي والنسائي جاء فيه: «كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله» . انظر التاج ج 3 ص 34. وعبادة بن الصامت من الذين بايعوا النبي قبيل هجرته إلى المدينة وعيّنه النبي نقيبا مع رفاق له على ما شرحناه في سياق [الآية: 30] من سورة الأنفال. وهذا الحديث الصحيح قد يفيد أن هذه البيعة تمت بعد الهجرة النبوية. والله أعلم.(9/290)
البنات وتفاديا من غضب أزواجهن. ولقد ندد القرآن المكي بوأد البنات في الآية [8] من سورة التكوير والآية [59] من سورة النحل. ونهى عن قتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق في الآية [31] من سورة الإسراء والآية [151] من سورة الأنعام، فجاءت الآية هنا مطلقة لتؤيد الأمرين معا. فيتساوق في ذلك القرآن المدني مع القرآن المكي.
وفي فقرة وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ تلقين جليل بالنسبة لظروف نزول الآية وبالنسبة لواجب المسلمين نحو أولياء أمورهم وواجب هؤلاء نحو المسلمين.
حيث قرن النهي عن عصيان النبي صلى الله عليه وسلم بتعبير فِي مَعْرُوفٍ للإيذان بأنه ليس من حق ولي الأمر أن يأمر بمعصية، وأن ينتظر من الناس طاعة مطلقة بدون قيد. وبأن الطاعة الواجبة عليهم هي فيما هو متعارف عليه أو معروف بأنه خير وصلاح ومفيد ولا إثم فيه ولا منكر ولا عدوان- ولو كان النبي- وهذا من باب التعليم والتوكيد على هذا المبدأ الدستوري القرآني لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الأمر بمعصية أو بما ليس فيه صلاح وخير وفائدة.
وقد سبق قيد قريب من هذا في إحدى آيات سورة الأنفال [24] التي تأمر المؤمنين بالاستجابة إلى الرسول إذا دعاهم لما فيه خيرهم وحياتهم. فهذا القيد وذاك ينطويان على مبدأ دستوري قرآني عام بسبيل تنظيم الحقوق بين المسلمين وأولياء أمورهم. وبسبيل تقرير كون الحكم في الإسلام ليس مطلقا وإنما هو مقيد بأحكام الكتاب والسنّة وبما فيه الخير والحقّ والصلاح. وقد انطوى في آية سورة النساء [59] حلّ دستوري لذلك فيما إذا قام نزاع عليه بين المسلمين أو بين المسلمين وأولياء أمورهم وهو ردّ النزاع إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنّة رسوله على ما شرحناه في سياقها. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . حيث ينطوي فيه تدعيم حاسم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 40.(9/291)
ولقد روى المفسرون أحاديث وروايات في صدد هذه الجملة يكاد ظاهرها يبعدها عن المعنى الرائع الدستوري الشامل الذي نوهنا به. ويجعلها في صدد أمور ثانوية أو محددة. فقد روى الخازن عن أسيد بن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت: «كان فيما يأخذ رسول الله من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننشر شعرا» وعن أنس: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن. فقلن يا رسول الله نساء أسعدننا في الجاهلية- أي نحن معنا على أمواتنا- فنسعدهن؟ فقال لا إسعاد في الإسلام» «1» وروى الطبري عن أبي الجعد أن جملة وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ هي النوح. وعن ابن عباس: «ولا يعصينك في معروف أي لا ينحن» وعن زيد بن أسلم: «ولا يعصينك في معروف أي لا يخدشن وجها ولا يشققن جيبا ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا» . وعن قتادة: «أخذ عليهن لا ينحن ولا يخلون بحديث الرجال إلا مع محرم» .
وهذه الروايات والأحاديث قد تكون صحيحة. غير أنها ليس فيها حديث نبوي يفسر الجملة بالمنهيات أو يحصرها فيها. وليس من شأنها بالتبعية أن تغطي على المعنى الدستوري العام المطلق الذي ينطوي في الجملة. وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى النساء حينما كان يأخذ البيعة منهن عن بعض عاداتهن المنكرة التي فيها معصية والتي هي من متناول النهي القرآني فالتبس الأمر على الرواة.
ونستطرد إلى القول بأن المفسرين أوردوا أحاديث نبوية عديدة في سياق تفسير هذه الجملة في النهي عن النياحة وردت في الكتب الخمسة أيضا. وقد رأينا أن نجاريهم في إيرادها لما فيها من تأديب نبوي رائع. من ذلك حديث عن عبد الله رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس منّا من ضرب الخدود وشقّ
__________
(1) من العجيب أن الطبري روى حديثا مناقضا لهذا الحديث عن مصعب بن نوح الأنصاري أن عجوزا لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ على النساء عهدا بعدم النوح قالت يا رسول الله إن أناسا كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني وقد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أن أسعدهم فقال لها فانطلقي فكافئيهم فانطلقت ثم أتت فبايعته.(9/292)
الجيوب ودعا بدعوة الجاهلية» «1» وحديث عن أبي موسى رواه الخمسة إلّا الترمذي جاء فيه: «أنّ رسول الله بريء من الصالقة والحالقة والشاقة» «2» وحديث عن أبي مالك الأشعري رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» «3» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ينح عليه يعذّب بما نيح عليه» «4» وحديث عن أبي سعيد رواه أبو داود قال: «لعن رسول الله النائحة والمستمعة» «5» .
ولقد أورد المفسرون في سياق الجملة كذلك أحاديث نبوية أخرى فيها تلقينات جليلة منها حديث رواه الطبري عن أميمة التيمية قالت: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لنسوة جئن لمبايعته بعد أن أخذ عليهن البيعة بأن لا يعصينه في معروف: «فيما أطقتن واستطعتن» فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا» . وهذا متسق مع المبادئ القرآنية المتكررة من كون الله تعالى لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. ومنها حديث رواه الطبري كذلك عن قتادة: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نهى النساء أن لا ينحن ولا يخلون مع غير المحارم من الرجال أو لا يخلونّ بحديث الرجال إلّا مع ذي محرم قال
__________
(1) التاج ج 1 ص 307.
(2) المصدر نفسه. والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة هي التي تمزق ثيابها عند المصيبة.
(3) المصدر نفسه ص 307.
(4) المصدر نفسه ص 308.
(5) المصدر نفسه. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال «لمّا أصيب عمر جعل صهيب يقول وا أخاه فقال عمر أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت يعذّب ببكاء الحي وفي رواية أن الميت يعذّب ببكاء أهله. وذكر لعائشة قول عمر فقالت رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله بذلك، ولكن قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه. وقالت حسبكم القرآن. ولا تزر وازرة وزر أخرى. وفي رواية سمعت عائشة بقول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ. إنما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» والمتبادر أن في تصحيح عائشة رضي الله عنها تفريقا بين البكاء والنواح وجواز الأول دون الثاني. وحديث عائشة من مرويات الخمسة أيضا. انظر المصدر نفسه ص 308- 309.(9/293)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
عبد الرحمن بن عوف إنا نغيب يا رسول الله عن نسائنا ويكون لنا أضياف فقال ليس أولئك عنيت» حيث ينطوي في هذا توضيح نبوي لكون النهي إنما هو عن المواقف والحالات المريبة أو الداعية للفتنة والتهمة مما فيه كل الحكمة والسداد.
ولقد روى الطبري أيضا حديثا عن أميمة: «أنّ النساء بعد أن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن يا رسول الله ألا تصافحنا؟ فقال إني لا أصافح النساء ما قولي لامرأة واحدة إلّا كقولي لمائة امرأة» . ولقد روى البخاري والترمذي عن عائشة حديثا جاء فيه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع النساء بالكلام دون أن تمسّ يده يد امرأة» «1» .
ولعلّ هذه الأحاديث هي مستند الذين يحرمون أو يكرهون مصافحة الرجال للنساء. وقد يكون الاستناد في محلّه. غير أن من الحق أن نذكر أنها لا تنطوي على ما يمكن الجزم به بأن ذلك كان حراما أو مكروها. والله تعالى أعلم.
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
. (1) قد يئسوا من الآخرة: من المفسرين من أوّل الجملة بمعنى قد يئسوا من رحمة الله ورضائه وثوابه في الآخرة. ومنهم من أوّلها بمعنى قد يئسوا من أي احتمال للبعث الأخروي. وكلا التأويلين وجيه تتحمّله العبارة.
(2) كما يئس الكفار من أصحاب القبور: بعض المفسرين أوّل الجملة بمعنى أن الأحياء من الكفار قد يئسوا من أي احتمال لبعث الذين ماتوا وصاروا أصحاب القبور. وبعضهم أولها بمعنى أن الأموات من الكفار يئسوا من أي بعث أخروي أو من رحمة الله ورضائه في الآخرة. والتأويلات الثلاثة وجيهة ومحتملة.
وفي هذه الآية نهي للمؤمنين عن موالاة أناس غضب الله عليهم فغدوا يائسين من رضاء الله في الآخرة أو ليس عندهم أي احتمال لبعث أخروي. وكان مثلهم في
__________
(1) انظر التاج ج 4، ص 233.(9/294)
ذلك كمثل يأس الكفار الأموات من رحمة الله ورضائه في الآخرة أو يأس الكفار الأحياء من أي احتمال لبعث الأموات.
ولم يرو المفسرون «1» رواية في نزول الآية. وإنما قالوا والله إن المقصود من (قوم) هم اليهود وإنه كان أناس من فقراء المسلمين يتصلون باليهود ويخبرونهم بأخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله.
ويلحظ أن السورة قد نزلت قبيل الفتح المكي على ما سبق ذكره. وقد كان يهود المدينة قد أجلوا قبل ذلك بنحو سنتين عنها. كما أن خيبر وغيرها من القرى كانت دخلت في حيازة النبي والمسلمين وحكمهم فلم يبق يهود يصحّ أن يتخذهم المسلمون أولياء. ولقد بدأت السورة بنهي المسلمين عن اتخاذ الكفار المشركين أولياء والمساررة إليهم بالمودة. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل شاءت أن تختم بالنهي نفسه حتى يجتمع طرفاها في أمر واحد. فإذا صح هذا يكون في الآية مشهد من مشاهد التأليف القرآني. ويكون القوم هم الكفار المشركون أنفسهم وهو ما نرجو أن يكون صحيحا. وليس من الضروري أن يكون وصف القوم بأنهم الذين غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مصروفا إلى اليهود ولو أن القرآن كثيرا ما وصفهم به. وهذا الاعتبار هو على الأغلب الذي أوحى بذلك. فالوصف يصح على كلّ كافر بطبيعة الحال. والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.(9/295)
سورة الحديد
في هذه السورة دعوة إلى الإخلاص في الإيمان. والبذل في سبيل الله.
وتحذير للمسلمين من قسوة القلوب والاستغراق في الدنيا وأغراضها كما صار إليه أهل الكتاب. وحضّ على الخير والتسابق فيه مع الاعتماد على الله. وتنديد بالبخلاء المختالين. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتقريع وإنذار للمنافقين بمناسبة موقف ممضّ وقفه بعض مرضى القلوب المنافقين. وفيها تشبيهات واستطرادات إلى حكمة إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد العدل وما كان من أمر الأمم السابقة وانحراف أكثرهم مما فيه توطيد لفكرة السلطان وهدفه. وفيها إشارة تنويهية إلى أخلاق الذين اتبعوا عيسى عليه السلام مع الإشارة إلى فسق كثير منهم أيضا.
وفصول السورة غير منقطعة عن بعضها بحيث يسوغ القول بأنها نزلت متتابعة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أنها نزلت بعد سورة الزلزلة التي يروى أن سورة النساء نزلت بعدها وقبل سورة محمد. ومعظم رواة ترتيب النزول يجعلون ترتيبها مثل ترتيبها في هذا المصحف «1» في حين أن فيها آية تفيد بصراحة أنها نزلت بعد الفتح الذي يتفق معظم المؤولين على أنه فتح مكة «2» .
وليس في السورة ما يمكن أن يساعد على القول بأن فصولا منها نزلت قبل هذا الفتح. وهذا ما جعلنا نؤخر ترتيبها عن الترتيب المروي للتوفيق بين ظروف
__________
(1) انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9. [.....]
(2) انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والزمخشري والخازن وابن كثير والطبرسي.(9/296)
نزولها ونزول سورة الممتحنة التي نزلت بعد صلح الحديبية وقبيل الفتح المكي.
ولقد وردت كلمة الفتح في سورة النصر، والجمهور على أنه فتح مكة أيضا غير أن الإشارة جاءت فيها بأسلوب التذكير والتنويه، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن السورة هي آخر سور القرآن نزولا. وقد ذكر ذلك الزمخشري. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أنها نزلت في حجة الوداع التي لم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا نحو ثمانين يوما. وروى حديثا عن ابن عباس أن السورة لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها وقال إنه قد نعيت إليّ نفسي. وحديثا عن عبد الله بن عقبة «أنّ ابن عباس سأله أتعلم آخر سورة نزلت من القرآن؟ قال نعم إنها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ. فقال صدقت. وحديثا عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعيت إليّ نفسي بها وإني مقبوض هذه السنة» . وقال النيسابوري: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزولها إلّا سبعين يوما. حيث تتضافر هذه الروايات على أنها نزلت قبل قليل من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت بعد فتح مكة بنحو سنتين. ولقد احتوت سورة التوبة آيات تفيد بصراحة أنها نزلت بعد فتح مكة منها هذه الآية: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ... [3] وهذه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ... [28] .
وبناء على ما تقدم وضعنا سورة الحديد بعد سورة الممتحنة لأن الفتح المكي وقع بعد نزول هذه السورة وفي ظروف نزول سورة الحديد. والله تعالى أعلم.(9/297)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
. عبارة الآيات واضحة. وباستثناء صفتي الظاهر والباطن فقد ورد مثلها في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وهي هنا مجموعة رائعة قوية بسبيل تعداد صفات الله تعالى وعظمته وما أودعه في كونه من نواميس وبيان شمول ملكه وعلمه وقدرته.
وإحاطته بجميع ما في الكون من مخلوقات وما يقع من هذه المخلوقات من أعمال وحركات ظاهرة وخفية وباطنة. وتقرير كون مردّ كل شيء إليه أولا وآخرا.
وليس هناك روايات خاصة في مناسبتها. والمتبادر أن مما استهدفته لفت نظر الإنسان وإيقاظ ضميره وتوجيهه نحو الله. وأنها مقدمة تمهيدية لما احتوته الآيات التالية من دعوة وأمر وتقرير وحثّ وعتاب. وهذا من أساليب القرآن المألوفة المتكررة.
وصفتا الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ تأتيان في الآيات لأول مرة. ولقد شرحهما الطبري فقال: إن الظاهر بمعنى الظاهر على كل شيء دونه، أو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه. وإن الباطن بمعنى باطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه. وروى البغوي أن عمر رضي الله عنه سأل عنها كعبا فقال: معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن. وروى بطرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بدعاء فيه تفسير للصفتين وهو: «اللهم ربّ السموات وربّ الأرض وربّ كل شيء فالق الحبّ والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شرّ كل ذي شرّ أنت آخذ بناصيته. أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر(9/298)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اقض عني الدين واغنني من الفقر» . وقد روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا عن أبي هريرة الذي قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بترديد الدعاء الذي تضمنه حينما جاءت تسأله خادما.
ولقد علقنا على موضوع خلق السموات والأرض في ستة أيام في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار. وإن كان من شيء يحسن قوله هنا هو أن الآية التي ذكر فيها ذلك مع الآيات الأخرى هي بسبيل التنبيه على عظمة الله وقدرته وإحاطته بكل شيء في كونه وتسبيح كل ما في السموات والأرض له. وكون ذلك يوجب على الإنسان الخضوع له وتقديسه وتسبيحه من باب الأولى لما اختصه الله به من خصائص وكرم من تكرمات.
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 10]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
. تعليق على الآية آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ... إلخ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة. وقد تضمنت:
(1) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله(9/299)
خلفاء ووكلاء عليه. فالذين يفعلون ذلك منهم لهم أجر من الله عظيم.
(2) وسؤالا استنكاريّا على سبيل الحثّ والعتاب عمّا يمنعهم عن الإيمان بالله، ورسوله يدعوهم إلى ذلك. وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقّا.
(3) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم بها من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وأنه إنما يفعل ذلك لأنه بهم رؤوف رحيم.
(4) وسؤالا استنكاريّا آخر على سبيل الحثّ والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله في حين أن كل ما في السموات والأرض هو ملك لله تعالى.
(5) وتقريرا على سبيل الحثّ والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده. وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم.
ويتبادر لنا أن جملة: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هي في مقامها في معنى (وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله، وتطيعونه فيه) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك. لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا. فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة. وجملة: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تدعم ذلك. كما تدعمه جملة: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ من حيث إنها تعني (أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان) . وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال على صيغة الكلام. والله تعالى أعلم.(9/300)
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات إلّا ما رواه البغوي عن الكلبي من أن الآية [10] نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله. وذبّ عن رسول الله. وقد روى المفسّر حديثا بطرقه عن ابن عمر قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل فقال ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال؟ فقال أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال فإن الله عزّ وجلّ يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط.
فقال رسول الله يا أبا بكر إن الله عزّ وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك أم ساخط. فقال أبو بكر أأسخط على ربّي. إني عن ربّي راض. إني عن ربي راض» وفحوى الروايات لا يتضمّن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح.
والحديث بعد لم يرد في الصحاح.
ومع عظم احترامنا للصدّيق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد. وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجّل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [100] . ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة [264- 267] والنساء [71- 87 و 95- 100 و 114- 115 و 140- 147 ... ] وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيّه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحثّ وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة(9/301)
التي احتوت ما احتوته من بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومطلق تصرفه في الكون بما في ذلك نفوس الناس وأموالهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» «1» . حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييد ما لما قلناه. مع التنبيه على أننا ننزّه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب.
وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب «2» . ولقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أبي سعيد فيه شيء من ذلك قال:
«كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبّوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» التاج ج 3 ص 272. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد التمار «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم فقلنا من هم يا رسول الله أقريش؟ قال لا هم أرق أفئدة وألين قلوبا وأشار بيده إلى اليمن فقال هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية فقلنا يا رسول الله هم خير منا قال والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ثم جمع أصابعه ومدّ خنصره وقال ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى» وروح الأحاديث يلهم أنها في صدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهناك أحاديث أخرى في فضلهم أيضا أوردناها في سياق سورة الفتح السابقة لهذه السورة. انظر التاج ج 3 ص 270 وما بعدها.
(2) مما رواه ابن هشام (ج 3 ص 319) أن كلا من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد خرجا بعد قليل من صلح الحديبية يريد الوفود على النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام. وقد التقيا في الطريق فسأل عمرو خالدا إلى أين فقال له إلى المدينة فأسلم فإن الرجل نبي وحتى متى.
فقال له وأنا كذلك قد خرجت لهذا. والمأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّاه سيف الله. انظر (أشهر مشاهير الإسلام ج 1 ص 149 تأليف رفيق العظم) .(9/302)
المدينة مسلما باختياره وعن قناعة «1» . ورسخ في الإسلام مع الأيام حتى صار من أقوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانا وإخلاصا وجهادا.
ومهما يكن من أمر فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط. وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق. وقصد التنديد بهم. والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه. وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله والفناء فيه. كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية [100] من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها. ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة [204- 206] وآل عمران [138- 168] والنور [47- 54] والمجادلة [8- 9] والصف [2- 3] صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور. وجميعها قد مرّ تفسيرها وشرحها. وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين «2» عن التابعين من أهل التأويل في جملة: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حيث قال بعضهم: إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا ... [172] . وحيث قال بعضهم إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول
__________
(1) انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.
(2) انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.(9/303)
ونصب لهم من أدلة فصار كل عاقل راشد بمثابة معاهد لله على الإيمان به بما وهبه من عقل ورشد. ومن هذه الأقوال ما ساقه بعض المفسرين قولا لهم «1» .
ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عزّ وجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف. والله أعلم.
ومع أن هناك من قال إن الفتح المذكور في الآية [10] هو فتح الحديبية- وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح- فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة «2» . وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي والمسلمين. وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة «3» .
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين. ويحفزهم إلى التضحية. بالمال والنفس والتسابق في ذلك. وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشدّ لزاما. ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عزّ وجل.
وجملة: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها. وبأن عليهم أن
__________
(1) انظر الكتب السابقة الذكر.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 152 وما بعدها.(9/304)
يطيعوا الله مالكها الأصلي فينفقوا في سبيله على كل ما أمرهم الإنفاق عليه من نصرة دينه ومساعدة المحتاجين من خلقه. وهو هنا قد يجعل ولي أمر المؤمنين والمحتاجين من المسلمين أقوى صوتا في مطالبة أصحاب الأموال بالإنفاق في سبيل الله والمحتاجين.
استطراد إلى خبر فتح مكة وما جرى في سياقه من أحداث وما كان له من أثر
والمناسبة سانحة للاستطراد إلى خبر فتح مكة فنقول إن هذا الفتح الذي تمّ بعد سنين من صلح الحديبية على جلالة شأنه وخطورته لم يرد فيه في القرآن إلا الإشارة الخاطفة التي تقرر أنه كان واقعا في الآية [10] من هذه السورة ومثلها وفي مداها في سورة النصر. ثم إشارة تدل على أن مكة قد دخلت في حوزة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وسلطانهم في آية سورة التوبة هذه: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ... [3] .
وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ... [28] . وكل ما يرد للبال في هذا الصدد أن حكمة التنزيل لم تر في هذا الفتح من مواضع العبرة والعظة والتعليم والتسكين والتنديد والتنويه ما يستلزم قرآنا وهي المواضع التي استهدفتها الفصول التي أشير فيها إلى وقائع الجهاد والفتح على ما شرحناه في سياق وقائع بدر وأحد والأحزاب والحديبية وبني قريظة وبني النضير في سور الأنفال وآل عمران والأحزاب والفتح والحشر.
وملخص ما ذكرته الروايات عن هذا الفتح «1» أنه قد تمّ في الثلث الأخير من شهر رمضان من السنة الهجرية الثامنة. وأن السبب المباشر له نقض قبيلة بني بكر
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبرسي وابن كثير والخازن لسورة النصر وانظر سيرة ابن هشام ج 4 ص 3- 167 وابن سعد ج 3 ص 181- 198 وتاريخ الطبري ج 2 ص 323- 344.(9/305)
التي كانت داخلة في عهد قريش في ميثاق صلح الحديبية وغارتها على قبيلة بني خزاعة التي كانت داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وقتلها بعض أفرادها بمساعدة وتشجيع بعض القرشيين. وقد ذهب وفد خزاعي إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع عليهم وناشدوه النصرة فوعدهم خيرا. وأدركت قريش أن عملها نقض للعهد فسارع أبو سفيان إلى المدينة ليوثق العهد. فكلّم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه فطلب من أبي بكر التوسط فأبى ثم من عمر فأبى ثم أتى علي بن أبي طالب وفاطمة فأبيا فجاء إلى باب المسجد يائسا وهتف (أيّها الناس إني قد أجرت بين الناس) ثم عاد ولما تمّ ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من حشد وإعداد زحف على رأس جيش بلغت عدته نحو عشرة آلاف من مسلمي المدينة والقبائل مثل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم وفزارة. وكان الزحف لعشر ليال خلون من رمضان.
ولما علم المكيّون بمسيره استنفروا حلفاءهم من هوازن وثقيف وبني بكر والأحابيش. ووصل زحف النبي صلى الله عليه وسلم مكّة قبل أن يصل القسم الأقوى من الحلفاء أي هوازن وثقيف. فرأى أهل مكة أن لا قبل لهم بما جاءهم واستسلموا للنبي صلى الله عليه وسلم وحكمه ولم يقع إلّا اشتباك جزئي في ناحية من أنحاء مكة مع فريق من القوة الزاحفة وأسفر عن بعض القتلى. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أرسل أمرا بالكفّ فكان. ولقد خرج أبو سفيان قبيل الإسلام ليتحسس الأخبار فلقي عمّ النبي صلى الله عليه وسلم العباس وكان قد أسلم وظل في مكة يكتم إسلامه بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: ما وراءك؟ فقال له: هذا رسول الله في عشرة آلاف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك. ثم قال له: أنت في جواري وأردفه وراءه وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على يديه.
وكرّمه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر مناديا ينادي «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» كما أمر من ينادي «من دخل الحرم فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو آمن» . ولقد رأى أبو سفيان ما لا قبل له به وما لم يخطر بباله حتى لقد قال للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فأجابه: ويحك هي نبوة الله ونصره. وكان سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج من قواد بعض الأجنحة وحملة الرايات فلما دخل مكة أخذ يهتف (اليوم يوم الملحمة. اليوم تستحلّ الحرمة) فأخبر عمر بن الخطاب النبي بهتافه(9/306)
وقال له: ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه فيأخذ الراية منه فيكون هو الذي يدخل بها. ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عمد توّا إلى الكعبة فطهرها من الأصنام. وكان في جوفها وحولها نحو 360 صنما، ووجد على جدرانها صورا لإبراهيم وهو يستقسم الأزلام، وصورا لعيسى والملائكة فأمر بطمسها. وفي ثاني يوم احتشد الناس حول الكعبة فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم خطبة بدأها بقوله: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. صدق وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده» . ثم قال: «ألا كلّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
[الحجرات:
13] يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم. فأجابوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» .
وأخذ أهل مكة يقبلون بعد ذلك على مبايعة النبي ويعلنون إسلامهم. وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدم العزّى وعمرو بن العاص لهدم سواع وسعيد بن زيد لهدم مناة في أطراف مكة. وعدا خزاعي على مشرك من هذيل في أثناء ذلك فقتله فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: «أيها الناس. إنّ الله حبس عن مكة الفيل. وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد من قبلي ولا تحلّ لأحد من بعدي.
وإنما حلّت لي ساعة من نهار ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلّغ الشاهد منكم الغائب. ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. ثم قال: يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل. لقد قتلتم قتيلا.
ولسوف أؤدي ديته. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله» .
ولقد كان تصرّف النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه في أثناء الفتح رائعة عظيمة استهدف بها تأنيس الناس بالإسلام وتوطيد كلمة الله وحرماته مع توطيد الأخوة والمساواة الإسلامية والإنسانية معا.(9/307)
ولقد كان من بركات صلح الحديبية أن ازدادت قوة النبي والمسلمين واتسعت دائرة الإسلام وتمكن النبي من خضد شوكة اليهود في مستعمراتهم خارج المدينة. ولقد كان ضعف قريش يزداد موازيا لازدياد قوة النبي واتساع دائرة الإسلام فكان هذا الزحف العظيم الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بعد سنتين من ذلك الصلح، بعد أن زحفت قريش وحلفاؤها في السنة الخامسة على المدينة بزحف مماثل فكان ما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الأحزاب التي أشير إليها في سورة الأحزاب.
ولقد انهدم بفتح مكة السدّ الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام وبين سائر العرب فتدفق سيل وفودهم بعده على النبي صلى الله عليه وسلم من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب. ودخل معظم اليمن في دين الله وسلطانه بالإضافة إلى معظم شمال الجزيرة وشرقها وسار النبي صلى الله عليه وسلم على رأس ثلاثين ألفا نحو مشارف الشام فيما سمي في تاريخ السيرة بغزوة تبوك، فوطّد هيبة السلطان الإسلامي في هذه المشارف وأخذ الإسلام ينتشر بين قبائلها وكانت هذه الغزوة من خطوات حركة الفتح الكبرى التي تمّت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أخذ الأنصار يتساءولون عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم- وقد نصره الله على قريش ويسّر له فتح مكة أم القرى- يعود ثانية إلى المدينة أم يبقى في مكة ويتخذها مقرا له فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمع زعماءهم وقال لهم «معاذ الله. المحيا محياكم.
والممات مماتكم» حيث سجّل بهذا الموقف تقديره العظيم لما كان من نصرهم له وإيوائهم لأصحابه المهاجرين ولما كان للهجرة إلى المدينة من بركات عظمى كان هذا الفتح من بعضها.
وقد عيّن النبي صلى الله عليه وسلم فتى من فتيان مكة اسمه عتّاب بن أسيد واليا. وكان في اختياره دون المسنين من رجال مكة الحكمة والسداد. وكان من بني أمية فأراد مع ذلك أن يتألف قلوبهم. ومن طريف ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عيّن لهذا الوالي درهما كل يوم لنفقته فقام خطيبا وقال: «يا أيّها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم.(9/308)
فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد» . ويبدو أن الفتى لم يكن من الأغنياء. ولعلّ هذا من أسباب اختياره.
ومما روته الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أشخاص ولو كانوا معلقين بستار الكعبة لما كان من شدة كفرهم وأذاهم. منهم عبد الله بن خطل الذي عدا على مولى له فقتله بدون حقّ ثم ارتدّ والتحق بالمشركين. والحويرث بن نقيذ الذي كان اعتدى على بنتي رسول الله حينما هاجرتا من مكة للالتحاق بأبيهما فتحسّس راحلتيهما وأسقطهما إلى الأرض ومقيس بن صبابة الذي قتل أنصاريا وارتدّ ولحق بالمشركين وعبد الله بن سعد أخا عثمان بن عفّان في الرضاعة الذي كان كاتبا لرسول الله فافترى على الله ورسوله وارتدّ ولحق بالمشركين وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل اللذان كانا شديدي الخصومة للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة. وقد نفذ أمر رسول الله بالثلاثة الأولين. وشفع عثمان بن عفان بأخيه لدى رسول الله وقال إنه ندم وعاد إلى الإسلام فقبل شفاعته «1» . وفرّ صفوان وعكرمة من مكة فلم يظفر بهما واستشفع فيهما بعض المسلمين على أن يأتيا ويسلما فقبل النبي الشفاعة فجاءا وأسلما.
وروت الروايات فيما روت أن رجلين من بني مخزوم استجارا بأم هانىء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد علي أن يقتلهما فأغلقت الباب ثم ذهبت إلى رسول الله فأخبرته. فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من أمّنت. فجاء الرجلان وأسلما.
وفي الكتب الخمسة أحاديث ورد فيها شيء من ما روته الروايات من الأحداث والصور. في بعضها مغايرة لما جاء في الروايات وفي بعضها صور أخرى. من ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس قال: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ثمان سنين ونصف من
__________
(1) مما روته الرواية أن النبي صمت فترة بعد استشفاع عثمان بأخيه ثم قبل الشفاعة وقال لمن حوله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال له رجل هلا أو مأت إليّ يا رسول الله فقال له إن النبي لا يقتل بالإشارة. فأوردنا الرواية والله أعلم بصحتها.(9/309)
مقدمه المدينة فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا» «1» . وحديث رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال: «لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وبلغ قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مرّ الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه. لكأنها نيران عرفة. فقال بديل بن ورقاء هي نيران بني عمرو فقال أبو سفيان بنو عمرو أقلّ من ذلك فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم إلى رسول الله فأسلم أبو سفيان «2» .
فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار قال مالي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هزيم فقال مثل ذلك ومرّت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هذه يا عباس قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة. معه الراية. فقال سعد يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة التي تستحلّ الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس هذا يوم الذمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله وأصحابه وراية النبي مع الزبير بن العوام فلما مرّ رسول الله بأبي سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال ما قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد. ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. وأمر رسول الله أن تركز رايته بالحجون. وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء. ودخل النبي من كدا فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري» «3» وحديث رواه البخاري عن أسامة أنه قال يوم الفتح «يا رسول الله أين تنزل غدا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل من منزل ثم قال لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث
__________
(1) التاج ج 4 ص 383.
(2) لا يذكر الحديث ما كان من أمر ومصير حكيم وبديل. ولا تذكر الروايات أنهما قتلا. فإما أن يكونا أسلما مع أبي سفيان أو أسرا ثم أسلما بعد.
(3) التاج ج 4 ص 383- 385.(9/310)
الكافر المؤمن. قيل للزهري ومن ورث أبا طالب. قال ورثه عقيل وطالب» «1» .
وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «كنا مع رسول الله يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فدعوتهم فجاؤوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا نعم. قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا. فما أشرف لهم أحد يومئذ إلا أناموه. وصعد رسول الله الصفا فجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش. لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن ألقى السلاح فهو آمن. ومن أغلق بابه فهو آمن. فقالت الأنصار أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ونزل الوحي على رسول الله. قال قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ألا فما اسمي إذا. أنا محمد عبد الله ورسوله. هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم.
قالوا والله ما قلنا ذلك إلا ضنّا بالله ورسوله قال فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم» «2» . وحديث رواه الشيخان عن عبد الله قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب. فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحقّ وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد» «3» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله. لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبّر في نواحيه وخرج ولم يصلّ فيه» «4» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر: «أن
__________
(1) التاج ج 4 ص 383- 385. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(9/311)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد ومعه بلال وعثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمره أن يأتي بمفتاح البيت فدخل رسول الله ومعه أسامة وبلال وعثمان فمكث فيه نهارا طويلا ثم خرج فاستبق الناس فكان ابن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى النبي فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه قال ونسيت أن أسأله كم صلى» «1» وحديث رواه الترمذي بسند صحيح عن الحارث بن مالك قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة» «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي شريح العدوي جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الغد من يوم الفتح فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرّمها الله ولم يحرمها الناس. فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب» «3» .
[سورة الحديد (57) : آية 11]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
. عبارة الآية واضحة. وليس هناك رواية خاصة بنزولها. ونرجح أنها نزلت مع الآيات السابقة لأن صلتها بها وثيقة. فإن لم تكن نزلت منها فيكون والله أعلم نزلت عقبها والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. وبسبيل توكيد ما احتوته هذه الآيات من حثّ على البذل والهتاف بأصحاب الأموال بأن أموالهم وإن كانت هي لله وهم عليها خلفاء فإن الله تعالى ليعدّ بذلها بمثابة قرض يقرضونه له يضاعف لهم عليه الأجر الكريم.
__________
(1) التاج ج 4 ص 383- 385.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(9/312)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
وفي هذا ما فيه من روعة وتلقين مستمر المدى. وقد تكرر فحوى الآية لتجدد المناسبات التي اقتضتها. وقد نبهنا على مداها في سياق تفسير سورة المزمل التي جاءت فيها لأول مرة بما يغني عن التكرار.
[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
. (1) انظرونا: بمعنى انتظرونا.
(2) نقتبس: نأخذ قبسا من نوركم نشعل به مشاعلنا.
في الآيات: حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة حيث يسعى النور بين يدي الأوّلين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنّات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا؟ فيقولون لهم نعم ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور. وقد غرّتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عزّ وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله. فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه. وحيث يقال لهم(9/313)
إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر. وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى.
ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره إن كلمة وَبِأَيْمانِهِمْ في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطى للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم إنها مع كلمة بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم. وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية. وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة.
ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكور في الآية الثانية هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة.
وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنّة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم.
تعليق على الآية يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة يَوْمَ التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم.
وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد(9/314)
وتقريع وإنذار للمنافقين. وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة من أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين. ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم.
والردّ قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى. فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة. فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة.
وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنيّة سابقة.
ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل يا نبيّ الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك فقال أعرفهم محجلون من أثر الوضوء. ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم» والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صحّ فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح(9/315)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة.
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلّا موضع قدميه» وروي أن عبد الله بن مسعود قال: «يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى» وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم وقد انطويا على حثّ على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا.
ولقد جاء في الآية [8] من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة مشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء، وإنما بشرى بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار ...
وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات.
والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم.
[سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
.(9/316)
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت سؤالا استنكاريا ينطوي على معنى التنديد عما إذا كان لم يحن الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله ويخضعون للحقّ الذي أنزله الله على رسوله. وأن يحذروا من أن يكونوا كمن سبقهم من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن فانحرف كثير منهم عن جادة الحق وتمردوا على أوامر الله تعالى وكانوا فاسقين.
تعليق على الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ... إلخ. وما فيها من تلقين وعظة
لم يرو الطبري روايات خاصة في سبب نزول هذه الآية. ولكن البغوي روى ثلاث روايات «1» . واحدة عن الكلبي تذكر أن الآية الأولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي أن يحدثهم عمّا في التوراة من عجائب فأنزل الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] . وثانية معزوة إلى ابن مسعود تذكر أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين «2» . وثالثة معزوة إلى ابن عباس تذكر أنه قال إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
والروايات الثلاث غريبة. فالأولى تذكر أن الآية في حق المنافقين في المدينة ثم تذكر نزول آيتين في مناسبة نزولها ونزولهما قبلها في المدينة أيضا. الآيتان من
__________
(1) أورد الخازن وابن كثير والطبرسي هذه الروايات أيضا. وهم متأخرون عن البغوي بمدة طويلة.
(2) هذا الحديث من مرويات مسلم في فصل التفسير انظر التاج ج 4 ص 227.(9/317)
سورتين مكيّتين وأولاهما الآية [3] من سورة يوسف وثانيهما الآية [23] من سورة الزمر «1» . والرواية الثانية تقتضي أن تكون الآية مكيّة لأن عبد الله بن مسعود أسلم في بدء الدعوة في مكة. والعهد المكي استمر ثلاث عشرة سنة. والآية مدنيّة في سياق مدني الطابع والمدى. وهذا فضلا عما كان عليه الرعيل الأول في مكة الذين منهم ابن مسعود من استغراق في ذكر الله تعالى وعبادته وإيمان شديد بما أنزل الله.
كما وصفتهم آيات مكيّة عديدة مثل آيات سورة الذاريات [17- 19] وسورة المعارج [22- 35] وسورة الزمر [23] وسورة الفرقان [63- 64] وسورة المؤمنون [1- 10] وسورة الرعد [20- 24] . والرواية الثالثة تقتضي أن تكون نزلت في السنة الأولى بعد الهجرة. وباستثناء المنافقين فقد كان المؤمنون مخلصين كل الإخلاص ومستغرقين كل الاستغراق. ولم يكن مضى على المنافقين مدة تتحمل مخاطبتهم بالأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها.
فالآيات السابقة مباشرة انطوت على مقايسة بين حالة المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة، وتنديد ضمني بالمنافقين المرتابين المتربصين المغترين بالأماني وإنذار لهم. والآيات التي قبل هذه الآيات انطوت على عتاب لبعض المسلمين على عدم قوة إخلاصهم ويقينهم وعدم إنفاقهم في سبيل الله. وتساؤل عمن يقرض الله فيضاعف له الأجر فجاءت هذه الآيات تهتف بالفريق المقصر المرتاب المتباخل عما إذا لم يحن وقت إخلاصه وخشوع قلبه لذكر الله وما أنزل من الحق حتى لا يكون كأهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن مع توكيد التنويه بالفريق المخلص المتفاني.
وترتيب السورة وذكرها الفتح يعنيان أنها نزلت في السنة الهجرية الثامنة أو التاسعة وأن معظم القرآن كان قد نزل. وهذا وقت يتحمل ذلك الهتاف بالنسبة
__________
(1) روى المصحف الذي اعتمدناه أن آية سورة يوسف مدنيّة. وقد فندنا الرواية في سياق تفسير سورة يوسف. وليس هناك خلاف في مكيّة آية الزمر.(9/318)
للمقصرين المرتابين الواقفين مواقف غير مستحبة من الذين عاهدوا الله ورسوله على الإسلام مما حكته الآيات الكثيرة التي نزلت قبلها والتي أوردنا أرقامها وسورها قبل قليل. ولقد ذكرنا في ذيل الصفحة السابقة أن الرواية الثانية من مرويات مسلم عن ابن مسعود. وأحاديث مسلم من الصحاح. ولكن هذا ليس من شأنه أن يمنع الاستبعاد والاستغراب بل والشك أيضا. هذا، وتحذير المؤمنين في الآية الأولى من أن يكونوا كأهل الكتاب مستمد على ما هو المتبادر من واقع أهل الكتاب بانحرافهم ونزاعهم وتحريفهم لكتب الله وبعدهم وتمردهم عن أوامر الله وشرائعه ونسيانهم كثيرا مما أنزل الله على أنبيائهم مما حكته آيات كثيرة في سور المائدة والنساء وآل عمران والبقرة.
وهو تحذير مستحكم لأن هذا الواقع كان تحت نظر المسلمين ومشاهداتهم ومسموعاتهم وكان موضع انتقادهم بل موضع انتقاد العرب قبل الإسلام على ما انطوى فى بعض الآيات منها آية فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [42] . وآية الأنعام أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [157] .
ومع ما لمحناه من خصوصية الظرف الذي نزلت فيه الآية وصلتها بأحوال بعض فئات المسلمين في العهد النبوي المدني فإن الهتاف الذي فيها يظل واردا داويا مستمر المدى موجها إلى جميع المسلمين في كل ظرف ومكان كلّما انحرفوا أو انحرفت منهم فئة عن كتاب الله وسنّة رسوله. مذكرا إياهم بما فيهما من المثال الذي يشاهدونه من أهل الكتاب الذين ظلوا منحرفين عن رسالات رسلهم وكتب الله المنزلة عليهم. مهيبا بهم ألا يكونوا مثلهم لئلا تفسد قلوبهم وأن يخشعوا لذكر الله وما أنزل الله على رسوله من الحق وما صدر عن رسول الله من الحكمة ليكون في ذلك هدى لهم إلى سبيل الخير والسعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.(9/319)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
[سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
. عبارة الآية واضحة. وقد وجّه الخطاب فيها إلى مخاطبين قريبين لتلفت نظرهم إلى قدرة الله تعالى على إحياء الأرض حتى بعد موتها. وتنبههم إلى أنه تعالى إنما يضرب لهم الأمثال في آيات لعلّهم يدركون مغزاها ومرماها وينتفعون من عبرها ومواعظها.
ولا يروي المفسرون في نزول الآية رواية خاصة. والراجح أن الخطاب فيها موجّه إلى المخاطبين في الآيات التي قبلها وهم المؤمنون وأنها متصلة بهذه الآيات.
ولقد قال الزمخشري في تأويلها: قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وإنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض. وروى الخازن عن ابن عباس في تأويلها قوله إن الله يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها لينة محببة ويحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة كما هو شأن المطر بالنسبة للأرض. وشيء من هذا قاله مفسرون آخرون. والمتبادر على ضوء هذا التأويل الوجيه أن في الآية معنى تعقيبيا على الآية السابقة لها مباشرة يهدف إلى فتح الأمل في الذين أوشكوا أن تقسو قلوبهم كما قست قلوب أهل الكفار من قبلهم برحمة الله ليتلاقوا أمرهم بالارعواء عن غفلتهم والاتعاظ بما أنزل الله لهم من الآيات البينات المبينات.
[سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
. (1) المصدقين والمصدقات: المتصدقين والمتصدقات.
(2) الصديقون: هناك من قال إن الكلمة تعني لغويا كثيري الصدق والتصديق. وأنها عنت السابقين الأولين لكثرة وشدة تصديقهم لرسول الله. وقد(9/320)
وصف مريم بالصديقة في آية سورة المائدة [75] وجاءت كلمة الصديقين في آية سورة النساء هذه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [69] . وقد تكون الكلمة تعني طبقة استغرقت في طاعة الله فصارت ذات حظوة عنده بعد النبيّين. ومع ذلك فمجيئها بعد جملة:
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ تعني أن المخلصين من هؤلاء هم الصديقون.
(3) الشهداء: هناك من قال إن الكلمة عنت الذين قتلوا في سبيل الله. وهناك من قال إنها عنت الأنبياء والملائكة الذين يشهدون على الناس يوم القيامة. وهناك من قرأ: الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ كجملة واحدة وقال إنها تفيد أن كل مؤمن مخلص صديق شهيد. وهناك من قال إن كلّا منهما تعني فئة غير الأخرى وقد رجح الطبري هذا، وترجيحه وجيه. ونرجح إلى هذا أنها عنت الذين قتلوا في سبيل الله.
تعليق على الآية إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ... إلخ والآية التي بعدها
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها بالمتصدقين والمتصدقات الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله ويقرضونه قرضا حسنا ووعدا بالأجر المضاعف الكريم لهم عند الله. ثم تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله حيث يستحقون بذلك اسم (الصديقين) وبالشهداء في سبيله الذين لهم الأجر والنور عند الله في حين تكون الجحيم عقابا ومصيرا للكافرين المكذبين.
ولا يروي المفسرون رواية في نزولها فيما اطلعنا عليه. وقد رأينا البغوي يروي عن الضحاك أحد علماء التابعين أن الآية الأولى عنت ثمانية نفر من الأمة سبقوا أهل الأرض في الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وإن لهم تاسعا ألحقه الله بهم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا.(9/321)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
ومع الاحترام العظيم للتسعة فإنه يلحظ أن هناك عددا غير يسير من الرجال والنساء قد أسلموا وصدقوا وتعرضوا للأذى قبل حمزة وعمر. منهم خديجة أم المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف وفاطمة بنت الخطاب وعبد الله بن مسعود وخباب وعمّار وأبو سلمة وزوجته وأبو عبيدة وغيرهم وغيرهم. والآيات إلى هذا منسجمة مع بعضها وبسبيل التنويه والبشرى للفئات الثلاث مع الإنذار للكافرين والمكذبين بصورة عامة. ومثل هذا التخصيص لا يؤخذ به إلا عن رسول الله وليس هناك حديث وثيق بذلك.
والآيتان على كل حال تنطويان على صور رائعة لفريق من الرجال والنساء السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله الذين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا في سبيل الله بإخلاص وفناء واستغراق. ولعل حكمة التنزيل استهدفت بهما الاستدراك على ما تضمنته الآيات السابقة من صور غير مستحبة لفريق من المسلمين استحقوا ذلك الهتاف والعتاب على ما شرحناه آنفا لتقرر أن هناك فريقا من المسلمين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا وأخلصوا وفنوا في سبيل الله ودينه وطاعة رسوله.
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
. (1) الكفار: هنا بمعنى الزراع. ومن معاني كفر الأصلية ستر وغطى.
والزارع يستر بذاره ويغطيه.
(2) حطاما: مكسرا مهشما من اليبس بعد الاصفرار.(9/322)
عبارة الآيتين واضحة كذلك. وقد تضمنتا:
(1) وصفا تقريريا للحياة الدنيا بالنسبة للبشر بكونها لعبا ولهوا وزينة وموضوع تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.
(2) تمثل ذلك في حقيقته ونهايته كالماء الذي ينزل إلى الأرض فينبت به نبات رائع يسرّ به الزراع ثم يتعاظم ولكنه لا يلبث أن يصفرّ ويغدو حطاما مهشّما.
(3) وتقريرا تنبيهيّا آخر ينطوي على الأمر الجد وهو أمر الآخرة حيث يلقى الناس فيها مصائرهم إما عذابا شديدا وإما غفرانا من الله ورضوانا وحينئذ يدركون أن الحياة الدنيا لم تكن إلا متاعا قصيرا لأمد، خداع المظهر.
(4) ودعوة تعقيبية على ذلك التقرير موجهة إلى المخاطبين بأن يسارعوا- والحالة هذه- إلى اصطناع الأسباب إلى غفران الله ورضوانه وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض قد هيئت للذين يؤمنون بالله ورسله. وهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
تعليق على الآية اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان أيضا بالآيات السابقة سياقا وهدفا وأن المخاطبين فيهما هم المسلمون. وظاهر من فحواهما وروحهما أنهما بسبيل الموعظة والحثّ على التسابق إلى نيل رضاء الله عزّ وجلّ بالبذل والإخلاص. والكفّ عن التقصير والتردد اللذين ندد بهما في الآيات السابقة.
ومع ما يلحظ من صلة الآيتين بالموقف الراهن في العهد النبوي حين نزولهما فإن إطلاق العبارة والنداء فيهما يجعلهما خطابا مستمر المدى لكل الناس ولكل المسلمين بخاصة في كل ظرف ومكان ليكون لهم بما فيهما من عظة وحث(9/323)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
وإيجاب للكف عن التقصير والتردد في الإخلاص والبذل والاستغراق في دين الله والطاعة لله ولرسوله، أكثر وأشد من الاستغراق في متع الحياة وزينتها والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد.
ولقد تكرر تمثيل الحياة الدنيا بهذا الأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى في مواضع سابقة. وجاء هنا في معرض التنديد بالمقصرين والمترددين في الإخلاص والبذل كما جاء في المواضع السابقة في معرض الدعوة إلى الله وعدم التصامم عنها ركونا إلى ما يتمتع به المدعوون من جاء ومال وقوة دنيوية. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة إن الآيات ليست في صدد التزهيد في الدنيا وطيباتها والكسب والمال والولد. وكل ما في الأمر أن فيها تنبيها على عدم ميل المرء إلى الدنيا وجعل أعراضها أكبر همّه وقصارى آماله. وعلى عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله ونحو الناس. ويجعله يغفل عن الآخرة وحسابها وهي دار الخلود في حين أن أمد الحياة الدنيا قصير جدا بالنسبة لكل إنسان يعيش فيها. والأسلوب بهذا البيان علاج روحاني شاف يفيد الإنسان في جميع ظروفه وبخاصة حينما تطغى المادة على الروح وتغطي أغراض الدنيا الغرارة مثل الإنسانية العليا وتقسي القلوب وتنزع منها خشية الله تعالى.
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
. (1) من قبل أن نبرأها: من قبل أن نخلقها. ومن المؤولين من جعل الضمير عائدا إلى النفس والأرض ومنهم من جعله عائدا إلى المصيبة. وضمير المفرد قد يجعل عودته إلى المصيبة أوجه.(9/324)
(2) لكيلا تأسوا: لكيلا تحزنوا.
في الآيات:
(1) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها.
وهذا من الأمور اليسيرة على الله عزّ وجلّ المتسقة مع شمول قدرته وعلمه.
(2) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره. حميد شاكر لمن يستجيب إليها.
تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا. وأن الخطاب فيها موجّه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضنّ بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.(9/325)
وروح الآيات وفحواها يلهمان أن المصيبة المذكورة فيها هي من نوع ما ليس في مقدور الناس جلبه أو دفعه. ومعظم المفسرين أداروا الكلام عليها في هذا النطاق بحيث يصح القول إنها لا صلة لها بما يصدر من الناس من أعمال يثابون ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة.
ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم.
وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمدّ المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحضّ على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال.
وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي.
وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء «1» التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة.
هذا، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف
__________
(1) انظر تفسير آيات الليل [8] ولقمان [18 و 19] والإسراء [37] والنساء [26 و 27] .(9/326)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
خاصة على ما شرحناه استلهاما من فحواها وسياقها فنرى الأولى أن يوقف عند ذلك دون توسع في موضوع قدر الله وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة عليهم حتما. لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها وسياقها. وكل ما فيها هو تقرير كون ذلك بعلم الله الأزلي الذي عبّر عنه في الآية بكلمة كِتابٍ والله أعلم.
وننبّه على أن المفسرين والمؤولين الذين يروي المفسرون أقوالهم قالوا إن كلمة كِتابٍ هنا عنت اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سوف يحدث في كون الله وخلقه. ولقد قالوا مثل هذا في سياق آيات أخرى وردت فيها كلمة كِتابٍ بالمعنى الذي وردت فيه هنا. مثل آيات سورة الأنعام [59] وهود [6] والرعد [29] والحج [70] وفاطر [11] . ولقد علقنا على تعبير اللوح المحفوظ في سياق تفسير سورة البروج التي ورد فيها لأول مرة كما علقنا على ما قالوه في سياق الآيات المذكورة آنفا. فنكتفي بهذه الإشارة دون التكرار.
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
. في الآية تقرير رباني: بأن الله قد أرسل رسله للناس بالحجج والبينات.
وأنزل عليهم الكتب التي احتوت ما يجب أن يقوم به الناس لتوطيد الحق والعدل فيما بينهم. كما أنه خلق الحديد وألهمهم كيفية استعماله وفيه وسائل القوة والتنكيل كما فيه منافع أخرى للناس وقد جعل الله كل هذا اختبارا للناس وقطعا لحجتهم وأعذارهم. وليمتاز منهم الذين ينصرون الله ورسله بتصديقهم وتأييدهم بما جاءوا به من الحقائق الإيمانية ولو كانت ماهيتها غائبة عنهم وأفهامهم غير مدركة لكنهها. وهو القوي العزيز المستغني عن الناس القادر على ما يريد.(9/327)
تعليق على الآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ... وما فيها من تلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ومع أنها تبدو فصلا جديدا إلّا أن احتمال اتصالها بالآيات السابقة لها اتصال تعقيب واستطراد وارد. ولا سيما أن الآيات السابقة احتوت دعوة إلى الجهاد والبذل في سبيل الله. وهذه الآية احتوت بيان هدف من أهداف هذه الدعوة وهو توطيد الحق والعدل بين الناس.
والآية بحد ذاتها جملة تامة احتوت تلقينات إيمانية واجتماعية وقضائية وسلطانية. وبجملة واحدة احتوت تقرير استهداف قيام السلطان في الأرض لتوطيد الحق والعدل بين الناس: فالله تعالى لم يدع الناس بدون تعليم وتنبيه. فأرسل رسله إليهم بالبينات الواضحة. وأنزل عليهم كتبه لتوطيد الحق والعدل بينهم. وجعل القوة الممثلة في الأسلحة الحديدية من الوسائل النافعة لمن ينحرف ويكابر ويعاند ويحاول مظاهرة البغي والباطل على الحق والعدل ولا يرضخ لمقتضياتهما. وكل ذلك إنما هو لخير الناس وصلاحهم.
ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين عن أهل التأويل الأولين في صدد الميزان والحديد اللذين أنزلهما الله على رسله»
. حيث رووا أن الميزان هو الميزان المعروف الذي يتعامل الناس به في معايشهم وأن الله قد أنزله مع جبريل على نوح وأمره أن يأمر قومه بالتعامل به، وحيث رووا أيضا أن الله قد أنزل مع آدم من الحديد السندان والكلبتين والمطرقة والميقعة. وحيث رووا حديثا مرفوعا عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله أربع بركات من السماء إلى الأرض وهي الحديد والنار والماء والملح» وحيث رووا مع ذلك أن الميزان هنا بمعنى العدل وأن القصد من تعبير إنزال الحديد هو خلقه وتعليم الناس الانتفاع به في شتى الوجوه من حفر الأرض والجبال وبخاصة في صنع السلاح الذي فيه ردع للناس وهو ما عبر عنه
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي وابن كثير والخازن.(9/328)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
بجملة: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ. والحديث النبوي لم يرد في الصحاح. والمتبادر أن التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع طبائع الأشياء. وقد روى المفسر القاسمي في محاسن التأويل للإمام ابن تيمية تفنيدا سديدا للتأويلات الأولى جاء فيه فيما جاء أن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وما يروى عن ابن عباس من إنزال الأدوات الحديدية على آدم ونوح كذب. وأن الناس يشهدون بعضهم وهم يصنعون بأيديهم هذه الأدوات من حديد المعادن الذي يعثرون عليه في الأرض والجبال. وأن تلك الأقوال مكابرة للعيان.
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
. تعليق على الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ... والآية التالية لها. وما فيهما من صور وتلقين وأهداف وتنويه بأخلاق النصارى عامة وما ورد في رهبانية النصارى والإسلام من أحاديث
لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا معقبتين على الآية السابقة لهما تعقيبا بيانيّا تضمن تقرير كون الله- جريا على ما اقتضته حكمته من إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد الحق والعدل بينهم- قد أرسل نوحا وإبراهيم. وجعل في ذريتهما النبوّة والكتاب. فاهتدى من اهتدى منهم وفسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق كثيرون. ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرين. ثم أرسل عيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل. وجعل في قلوب(9/329)
الذين اتبعوه رأفة ورحمة حتى إنهم فرضوا على أنفسهم ابتداعا شيئا لم يفرضه الله عليهم وهو الرهبانية والاعتزال للعبادة والتبتل والتعفف عن النساء ابتغاء رضوان الله تعالى وتزيدا في عبادته. ولكنهم لم يستمروا على رعايتها حق الرعاية. فمنهم من آمن وأخلص فآتاه الله أجره. وكثير منهم فسق عن أمر الله وانحرف عن جادة الحق أيضا.
وينطوي في البيان التعقيبي الذي استهدفته الآيات- كما تبادر لنا- تقرير واقع الأمر عند نزول الآيتين بالنسبة لأهل الكتاب وبخاصة النصارى منهم كما هو ظاهر.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه بطرقه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم. وقد وازت فرقة من الثلاث الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فترهبوا فيها فهو قول الله عزّ وجلّ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: ما فعلوها إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم الذين آمنوا بي وصدقوني. قال: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: فهم الذين جحدوني وكذبوني» .
والحديث ليس من الصحاح. فإن صحّ جاء توضيحا للمقصود من الجملة الأخيرة في الآية الثانية وهم الذين آمنوا به وكفروا به فالأولون لهم أجرهم والآخرون فاسقون وهم الأكثر. وهذا كذلك متبادر من العبارة ولو لم يصح الحديث أيضا لأنها تقرر واقع النصارى عند نزول القرآن. ولا يمكن أن تنصرف عبارة الَّذِينَ آمَنُوا إلّا إلى الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإيمان فريق من النصارى بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه حقيقة يقينية مؤيدة بنصوص قرآنية عديدة جاءت في سور(9/330)
سبق تفسيرها. ولقد كان عدد المؤمنين منهم في حياة النبي أقل من الجاحدين.
وكانت النصرانية سائدة في بلاد الشام ومصر. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسله وكتبه إلى ملوكهم فلم يستجيبوا إليها. وهذا وذاك مصداق ما جاء في الآية. والله تعالى أعلم.
وفي الحديث إن صح بالإضافة إلى ما فيه من أخبار متسقة مع المأثورات القديمة عن سير المسيحية ونزاعاتها وفرقها وما كان من اضطهاد ملوك الرومان للنصارى أولا ثم لمن خالف مذهبهم بعد أن اعتنقوا النصرانية ثانيا وما جرى من قتال بين الفرق النصرانية «1» تفسير لجملة وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ يفيد أن الله تعالى لم يفرض عليهم الرهبانية بدءا وإنما هم ابتدعوها وفرضوها على أنفسهم فأقرهم الله عليها ابتغاء رضوانه. وهذا ملموح من فحوى الآيات وروحها وبدلالة كلمة ابْتَدَعُوها إن لم يصح الحديث.
ولقد أراد فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتدعوا رهبانية في الإسلام ابتغاء رضوان الله تقليدا للرهبان والقسيسين من النصارى الذين أثنت عليهم آيات سورة المائدة [87- 89] فاقتضت حكمة التنزيل أن لا تشجعهم على ذلك لئلا يقعوا فيما وقع فيه النصارى من قبلهم. ولينصرفوا إلى ما هو الأنفع والأجدى لنشر دين الله وتعاليمه والجهاد في سبيله مما انطوى خبره وتلقينه البليغ في الآيات المذكورة وفي الأحاديث النبوية الواردة في صددها والتي منها «لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات المذكورة.
وذكر النصارى على الوجه الذي ورد وإن كان يتبادر أنه من قبيل الاستطراد المألوف في النظم القرآني فإن فيه على كل حال معنى التنويه المستحب بما كان عليه النصارى إجمالا من دماثة خلق ورقة قلب وتسامح وتواضع بالقياس إلى اليهود الذين وصف القرآن أخلاقهم بما وصفها من قسوة وغلظة وخبث وأنانية
__________
(1) انظر كتابنا تاريخ الجنس العربي ج 2 وج 4 وتاريخ سورية للدبس مجلد 3 ج 3 ومجلد 3 ج 4.(9/331)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ودسّ وعداء شديد صريح للمسلمين. ولعل فيه كذلك إشارة تنويهية إلى تلك الفئة التي كانت تقيم في الصوامع والديارات التي كانت منثورة في براري العراق والفرات والشام والتي كان العرب يمرون بها في رحلاتهم غدوا ورواحا والتي كانوا قد فرغوا فيها للعبادة واعتزلوا شهوات الدنيا وأعراضها وشرورها وبهارجها. والله أعلم «1» .
وجملة: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما السلام قد تفيد أن الله عزّ وجلّ اختصّ ذريتهما بذلك. وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن لأنه لم يسبق مثله. ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول ذُرِّيَّتِهِمَا فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة:
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. في الآية [164] من سورة النساء وفي الآية [78] من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة.
ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الردّ على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك. والله أعلم.
[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
. (1) كفلين: بمعنى ضعفين على قول الجمهور.
__________
(1) اقرأ بحث الديارات في حرف الدال في معجم البلدان لياقوت واقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي أيضا.(9/332)
(2) لئلا يعلم: الجمهور على أن (لا) زائدة وأن تقدير الجملة لأن يعلم أو لكي يعلم. وروح الآية يؤيد ذلك. وقد قرئت (ليعلم) وهذه في نفس المعنى المقصود.
(3) أن لا يقدرون: الجمهور على أن (أن) هي مخففة من أنّ وتقدير الجملة (أنهم لا يقدرون) أي لا يقدرون على منع فضل الله عن أحد. وعدم حذف نون المضارع دليل على صحة ذلك.
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت الأولى التفاتا إلى المؤمنين منطويا على التعقيب والحثّ والبشرى: فعليهم- وقد عرفوا سنّة الله تعالى وحكمته- أن يعتبروا ويتقوا الله ويلتزموا حدوده ويؤمنوا برسله إيمانا مخلصا ويتبعوا إرشاده. فإن فعلوا ضاعف الله لهم الأجر وجعل لهم نورا يمشون في ضوئه فلا يضلون عن سبيل الحق القويم وغفر لهم ذنوبهم وهو الغفور الرحيم وتضمنت الثانية شيئا من الالتفات إلى أهل الكتاب منطويا في الوقت نفسه على بشرى للمسلمين: ففي ما يوصي الله تعالى المؤمنين ويأمرهم به من تقوى الله والإيمان برسله ويعدهم به من مضاعفة الأجر لهم وتيسير النور الذي يسيرون على هداه وغفران ذنوبهم. ويكون في ذلك تنبيه لأهل الكتاب ليعلموا أنهم غير قادرين على منع فضل الله عن أحد ولا محتكريه. فالله تعالى هو صاحب الفضل وهو يتصرف فيه كما تقتضي حكمته وعدله فيؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا يتضمن قرينة بل دلالة على أن جملة وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ لا تعني الإيمان البدني بالرسول لأنهم مؤمنون به حينما وصفوا ب الَّذِينَ آمَنُوا وإنما تعني الحثّ على قوة اليقين والوثوق والطاعة. وهي من هذه الناحية من باب الآيتين [7] و [8] من هذه السورة على ما شرحناه في سياقهما.(9/333)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إلخ والآية التالية لها. وما فيهما من تلقين وما ورد في صددهما من أحاديث
روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن وفدا من نصارى الحبشة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. ورأوا ما عليه المسلمون من خصاصة فاستأذنوا النبي بأن يحضروا شيئا من أموالهم ويعطوها للمحتاجين فأذن لهم فذهبوا وأحضروها ووزعوها فأنزل الله آيات سورة القصص [52- 55] هذه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) . فصاروا يفخرون على المسلمين من العرب ويقولون لهم أجرنا مضاعف، لأننا آمنا بكتابكم وكتابنا من قبله فأنزل الله الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فحسد المسلمون الحبشة المسلمين العرب فأنزل الله الآية الثانية.
والرواية لم ترد في الصحاح. ولقد روي أن آيات القصص المذكورة مدنيّة.
ولعل ذلك متصل بهذه الرواية. ولقد توقفنا في سياق تفسير آيات القصص في رواية مدنيتها ونبهنا على ما تبادر لنا من دلائل على مكّيتها بما يغني عن التكرار.
ونزيد هنا فنقول إن فحوى الآيتين لا يمكن أن ينطبق على ما جاء في الرواية من حيث إن الرواية تقتضي أن تكون الآية الأولى ردا على فخر من بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بسبب آيات مدنيّة وضعت في سورة مكيّة. ثم وضع الردّ في سورة مدنيّة. وأن يكون أهل الكتاب الذين آمنوا قد حسدوا المسلمين العرب فأنزل الله آية فيها ردّ عليهم مع أن فحوى الآية لا يمكن أن تفيد أنها عنت جماعة مؤمنين بالرسالة المحمدية ...(9/334)
والذي يتبادر لنا أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة التي تحكي حالة أهل الكتاب وبخاصة النصارى في زمن النبي وقبله لتهتف بالمسلمين أن يتقوا الله ويتيقنوا ويثقوا بكل ما جاء به رسوله ودعا إليه فيستحقوا بذلك ضعفين من رحمة الله وغفرانه ونوره. ويكون في ذلك ردّ على أهل الكتاب غير المؤمنين الذين قد يحتجون بأنهم على هدى الله وأنهم الحائزون وحدهم لرحمته وفضله.
والراجح أنه كان يقع حوار بين بعض المسلمين وأهل الكتاب حول من هو الأهدى والأفضل والمستحق لرحمة الله فكان في الآية الثانية ترديد لذلك ووضع للأمر في نصابه الحق. وهناك آيات في سور سبق تفسيرها تذكر ما كان من تبجح أهل الكتاب بأنهم أبناء الله وأحباؤه وبأنهم الأهدى الذين لهم الجنة وحدهم إلخ كما جاء مثلا في آيات البقرة [111 و 120 و 125] والمائدة [18] .
ولقد روى الطبري عن ابن زيد في تأويل جملة: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إنها بمعنى يؤتكم رحمته مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة. وعن الضحاك إنها بمعنى يؤتكم أجرا على إيمانكم بالكتاب الأول وأجرا على إيمانكم بالقرآن. ومع أن القول الأول أوجه من الثاني فإنه يتبادر لنا أيضا أن الجملة على سبيل البشرى والتطمين بمضاعفة الله الأجر للمؤمنين المتقين. وهو ما تكرر بأساليب متنوعة مرّت أمثلة كثيرة منها في السور التي سبق تفسيرها والله أعلم.
وعلى كل حال ففي الآيتين تلقين مستمر المدى يستمد منه المسلم حافزا على تقوى الله لنيل أجره المضاعف والاهتداء بنوره الهادي. وإيذانا بأنه لا حرج على فضل الله ولا يحقّ لأحد أن يحتكره فالله هو صاحب الفضل فيؤتيه من يشاء ممن استحقه بعمله الصالح وتقواه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية فيها تمثيل مبشر للمسلمين وهي ليست من الصحاح ومع ذلك فلم نر بأسا من إيرادها لما فيها من تبشير وتطمين للمسلمين. منها حديث أخرجه الطبري عن عبد الله بن عمر قال:
«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة(9/335)
العصر إلى مغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر عمالا فقال من يعمل من بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين فعملتم» . وحديث أخرجه الطبري بطرقه عن عبد الله بن دينار قال:
«سمعت ابن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأمة أو قال مثل أمتي ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل قال من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط قال اليهود نحن فعملوا. ثم قال من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قالت النصارى نحن فعملوا. وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين» .
هذا، وفي دعوة المسلمين إلى تقوى الله عزّ وجلّ والإيمان برسوله في ختام السورة تناظر مع الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله في أول السورة. وقد يكون في هذا مشهد من مشاهد النظم والتأليف القرآني التي تكررت في أوائل وأواخر سور عديدة على ما نبهنا عليه في مناسباته، والله أعلم.(9/336)
سورة التوبة
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلّا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحثّ على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين.
وتنطوي فصولها على:
(1) التبرّؤ من المشركين الناقضين للعهد والحثّ على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم.
(2) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام. وليس لهم في ذلك حقّ وميزة.
(3) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك.
(4) وحثّ على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.
(5) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.(9/337)
(6) وحثّ واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلّفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق.
(7) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.
(8) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.
(9) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان.
ومنافقين متسترين، وخالطي عمل صالح بعمل سيىء. وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله. ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.
(10) حظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.
(11) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم.
(12) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن.
(13) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد.
(14) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم.
وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة «1» . في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة. حيث يسوغ القول إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة. وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيّتان. وهذه الرواية مروية
__________
(1) انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار. [.....](9/338)
في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي «1» عن ابن الفرس. وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول إن معنى الآيتين لا يظهر إلّا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا. وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار.
هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات.
والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان الذي هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي «2» حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين «3» فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها «4» فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال» . وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها أن هذه السورة نزلت بالسيف وأن البسملة أمان. ورواية عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
__________
(1) الإتقان ص 16.
(2) التاج ج 4 ص 112، 113.
(3) يسمى ما قلّت آياته عن المائة من السور ولم تكن من القصار بالمثاني، وما زادت آياته على المائة بالمئين.
(4) أي فيها فصول مثلها من جهاد وعهد.(9/339)
يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها. ورواية- جاءت بصيغة قيل- تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ولم يتغلب رأي على رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان. ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول إنهما سورة واحدة.
وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب «1» .
وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقلّ آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا. ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا.
وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات، الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها.
وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنيّة. وأن السور المكيّة كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنيّة أضيف إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات [163- 170] من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. والله أعلم.
__________
(1) انظر كتب تفسير البغوي والزمخشري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والنيسابوري ومن الغريب أن الطبري لم يتعرض لهذا البحث ورواياته!(9/340)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنيّة نزولا. وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر. وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنيّة نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة «1» ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة. وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنيّة نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها.
وللسورة أسماء عديدة. المشهور منها اثنان وهما (التوبة) و (براءة) . وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور. والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وهي المبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم، وهي المقشقشة لأنها تقشقش أي تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق، وهي المدمدمة أي المهلكة، وهي الحافرة لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم، وهي العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار. وهذه الأسماء التي بلغت العشرة معزوة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم «2» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
. تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ومتناولهما
عبارة الآيتين واضحة. والخطاب في الآية الأولى موجّه إلى المسلمين يخبرون به بأن الله ورسوله يعلنان براءتهما من الذين عاهدوهم من المشركين
__________
(1) انظر روايات ترتيب نزول السور في كتابنا سيرة الرسول. ج 2 ص 9.
(2) انظر كتب التفسير السابقة. وأجمعها للأسماء تفسير الطبرسي.(9/341)
وتنصلهما من عهدهم. وفي الثانية موجه إلى المشركين يؤذنون به بأن لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بأمان. مع إنذارهم بأنهم غير معجزين لله وغير فالتين منه. وأنه مخزي الكافرين في أي حال.
وتوجيه الخطاب في الآية الأولى إلى المسلمين قد يبدو غريبا لأول وهلة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعقد العهود مع غير المسلمين. والمتبادر أن حكمة التنزيل لما اقتضت أن يقرن رسول الله مع الله عزّ وجلّ في إعلان البراءة والتنصل من هذه العهود جاءت العبارة القرآنية على النحو الذي جاءت عليه لأن العهود وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعقدها فإنها كانت أيضا بين المسلمين والمشركين.
ولقد قال الطبري إن أهل التأويل- وقد ذكر في سياق كلامه ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ومحمد بن كعب القرظي- اختلفوا في من برىء الله ورسوله إليه من العهد فقال بعضهم هم صنفان. أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل أربعة أشهر لأن الآيات نزلت في شوال الذي يعقبه الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وثانيهما كانت مدته أكثر من أربعة أشهر فقصرت على أربعة أشهر ليرتاء لنفسه ويعلم أنه على حرب إن لم يسلم. وقال بعضهم إن الآيات براءة من العهود مع المشركين عامة لأن الله تعالى علم سرائرهم وأنهم كانوا يخفون غير ما يظهرون من نية الغدر والعداء.
وهذه الأقوال تتعارض كما هو المتبادر مع استثنائين وردا في آيتين تردان بعد قليل أولهما لمن عاهدهم المسلمون ووفوا بعهودهم. وقد أمر المسلمون بإتمام عهدهم إلى مدتهم التي كانت على الأرجح أكثر من أربعة أشهر لأن حكمة الأمر إنما تكون في ذلك. وثانيهما لمن عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام واستقاموا على عهدهم. وقد أمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم دون تحديد وتوقيت. وهذا فضلا عن تعارضها مع تكرر إيجاب الوفاء بالعهود والعقود على المسلمين في سور عديدة مكيّة ومدنيّة.
ولقد لاحظ الطبري هذا. وعقب على الأقوال التي رواها قائلا إن أولى(9/342)
الأقوال بالصواب أن الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته دون الذين لم ينقضوا لأن الله أمر بإتمام العهد معهم وبالاستقامة لهم ما استقاموا عليه.
وفي تفسير البغوي رواية عن ابن إسحق ومجاهد تذكر أن الآيات نزلت قبل تبوك وأنها نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين ودخلت خزاعة في عهد رسول الله وبنو بكر في عهد قريش ثم عدا بنو بكر على خزاعة فنالوا منها وأعانتهم قريش بالسلاح وحينئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة وناشد رسول الله النصر فقال له رسول الله لا نصرت إن لم أنصركم وتجهّز إلى مكة.
والرواية تقتضي أن تكون الآيات قد نزلت قبل فتح مكة في حين أن الآية التالية لها المنسجمة معها كلّ الانسجام تدل على أنّ الآيات نزلت بعد فتح مكة.
ولقد روى المفسر إلى روايته المذكورة رواية أخرى جاء فيها: «إنّ المفسرين- ويقصد أهل التفسير والتأويل في الصدر الأول- قالوا إنّ رسول الله لما خرج إلى تبوك أرجف المنافقون وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل أو قصرها على أربعة أشهر كانت أكثر» . وهذا متساوق مع ما ذهب إليه الطبري وصوّبه، وهو أن الآيات نزلت في شأن الذين بدرت منهم بوادر نقض من المشركين. والرواية تفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة لأن سفرة تبوك كانت بعد الفتح. وهو الحق والصواب اللذان يزول بهما وهم التعارض والتناقض.
وليس في كتب التفسير الأخرى شيء مهم آخر في صور الآيتين. فاكتفينا بما أورده الطبري والبغوي لأنهما من أقدم من وصل إلينا كتبهم ومعظم من أتى بعدهم من المفسرين نقلوا عنهم.(9/343)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
[سورة التوبة (9) : آية 3]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)
. تعليق على الآية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.. إلخ وما روي في صدد إعلانها مع غيرها يوم الحج الأكبر من روايات وتمحيصها
في الآية أمر بأن يعلن للناس يوم الحج الأكبر أن الله تعالى ورسوله بريئان من المشركين وبأن ينذر المشركون بأنهم إذا تابوا فهو خير لهم. وإن أعرضوا وتصامموا فليعلموا أنهم غير معجزين لله تعالى. وأمر بتبشير الكافرين عامة بعذاب الله الأليم.
والآية معطوفة على الآيتين السابقتين بحيث يصحّ القول إن المشركين فيها هم الذين ذكروا في الآيتين السابقتين. وتكرار جملة غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ قرينة على ذلك.
وفي الآية دلالة قاطعة على أنها نزلت بعد فتح مكة. وفي هذا تأييد لما ذكره البغوي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد زحف إلى تبوك بعد هذا الفتح بمدة غير طويلة.
والمستلهم من جملة فَإِنْ تُبْتُمْ أن إمهال المشركين الناقضين أربعة أشهر يسيحون في الأرض بأمان هو في الوقت نفسه مهلة لهم للتروي لعلّ ذلك يؤدي بهم إلى التوبة عن كفرهم وشركهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
ولقد رويت روايات عديدة في صدد إعلان هذه الآية وما قبلها وآيات عديدة أخرى بعدها أو إعلان أحكامها يوم الحج الأكبر «1» .
منها أن التبليغ والإعلان كان لعشر آيات من صدر براءة، ومنها أنه كان
__________
(1) انظر الطبري والنسفي والنيسابوري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(9/344)
لثلاثين، ومنها أنه كان لأربعين. ومنها أنه حينما نزلت الآيات العشر أو الثلاثون أو الأربعون الأولى من السورة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي في الناس بأربع مسائل وهي أن لا يطوف بالبيت عريان. وأن لا يحجّ مشرك. وأنه لا يدخل الجنة إلّا النفس المؤمنة. وأن كل عهد مؤجل إلى مدته وفي رواية إلى أربعة أشهر.
وفي الآيات الثلاثين أو الأربعين الأولى مواضيع متنوعة أخرى غير أمر المشركين وإعلانهم. وليس في الآيات العشر الأولى أمر حظر المسجد الحرام على المشركين. وإنما جاء هذا في الآية [28] من السورة وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «1» ثم إن الآيات بعد هذه الآية هي في موضوع قتال أهل الكتاب ثم في موضوع النسيء وتحريمه والاستنفار إلى غزوة تبوك. ولو كانت نزلت حين إرسال النداء لكان من المعقول أن ينادى على الأقل بتحريم النسيء. وهو ما لم يقع. وهذا كله يسوغ التوقف في كون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الآيات الثلاثين أو الأربعين للتبليغ. وكل ما يمكن أن يكون أنه أرسل يبلغ بعض ما جاء في الآيات بعد نزول الشطر الذي فيه حظر المسجد الحرام على المشركين. والله أعلم.
ومن الروايات ما هو في صدد الذي قام بالتبليغ الرباني والنبوي. وهذه متعددة ومتضاربة أيضا. فمما رواه الطبري منها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحبّ أن يحج في السنة التالية لفتح مكة أي في السنة التاسعة لأنه يحضر البيت مشركون ويطوفون عراة فأرسل أبا بكر ليحجّ بالناس وأن صدر براءة نزل بعد سفره فأرسله مع علي بن أبي طالب وأمره أن ينادي بالناس بالمسائل الأربع. ومنها أن أبا بكر لما رأى عليا مقبلا ليبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع فقال للنبي هل نزل فيّ شيء قال لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. ومنها أن الآيات لما نزلت قيل للنبي لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، وروي في سياق ذلك أن أبا بكر سأل عليّا لما أقبل عليه أأميرا أم مأمورا؟ فقال له بل مأمور فأقام
__________
(1) أي بعد السنة التاسعة الهجرية التي أعلن فيها ذلك على ما هو المتفق عليه.(9/345)
أبو بكر للناس الحجّ وقام علي فأذّن في الناس بالمسائل الأربع. ومنها أن النبيّ أرسلها مع أبي بكر حينما أمّره على الحجّ ثم أتبعه بعليّ فأخذها منه في الطريق فرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال له بأبي أنت وأمي أأنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا يبلغ عني غيري إلا رجل منّي. وفي رواية إلّا أنا أو علي. وسأله ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض. قال بلى يا رسول الله.
ومنها أن أبا بكر لما قضى يوم عرفة وخطب في الناس قال لعلي قم فأدّ رسالة رسول الله. ومنها عن أبي هريرة أنه كان مع عليّ حين بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس فكان إذا صحل صوته- أي صوت علي- نادى هو. وقد روى البخاري حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «بعثني أبو بكر في الحجة التي أمّره رسول الله عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس بمنى ألا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبيّ صلى الله عليه وسلم بعلي يؤذّن ببراءة فأذّن معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة» «1» وروى الترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا فبينا أبو بكر في الطريق سمع رغاء ناقة رسول الله القصواء فخرج فزعا فظنّ أنه رسول الله فإذا هو علي فدفع إليه كتاب رسول الله وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات. فانطلقا فحجّا فقام علي أيام التشريق فنادى «ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر. ولا يحجّنّ بعد العام مشرك. ولا يطوفنّ بالبيت عريان. ولا يدخل الجنة إلّا مؤمن. وكان علي ينادي فإذا عيي قام أبو بكر فنادى بها» «2» . وروى الترمذي حديثا آخر جاء فيه: «سئل علي بأي شيء بعثت في الحجّة. قال بعثت بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان. ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدته. ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا» «3» . وروى ابن سعد الحديث الذي رواه البخاري
__________
(1) التاج ج 4 ص 114- 115.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(9/346)
بدون جملة «ثم أردف النبيّ بعليّ إلخ» «1» وروى ابن كثير حديثا عن علي أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليه فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي فقال يا رسول الله نزل في شيء. فقال لا ولكن جبريل جاءني فقال لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك» وروى حديثا آخر عن علي أيضا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال يا نبيّ الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال لا بدّ لي من أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت قال فإن كان ولا بدّ فسأذهب أنا قال انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ثم وضع يده على فيه» .
ونحن نخشى بل نرجح أن يكون الهوى الشيعي قد لعب دورا في بعض هذه الروايات وبخاصة في الروايات التي فيها «لا يبلّغ عني إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي أو إلّا أنا أو عليّ أو إلّا رجل مني» والتي فيها «جاءني جبريل ... إلخ» ثم الرواية التي تذكر «أن النبي بعد أن أعطى الآيات لأبي بكر أو كلّفه بالمهمة أرسل عليّا فأخذها منه في الطريق» . ولا سيما أن الشيعة يعلقون أهمية عظمى على هذه الروايات وقد استخرجوا منها اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عليّا بما هو من خصائصه النبوية وعدّوها دليلا على أنه والنبي شيء واحد وأنه وريثه في هذه الخصائص «2» .
ومن المحتمل أن يكون أهل السنّة رأوا في إناطة إمارة الحج بأبي بكر دليلا على خلافته للنبي صلى الله عليه وسلم من بعده فأراد الشيعة أن يهوّنوا من هذا الدليل أو يبطلوه.
ولعلّ بعض أهل السنّة لعبوا دورا في بعض الروايات بالمقابلة في رواية كون عليّ قال لأبي بكر إنه جاء مأمورا ولم يجىء أميرا ...
__________
(1) ابن سعد ج 3 ص 222.
(2) في تفسير رشيد رضا فصل طويل في مزاعم الشيعة وما يعلقونه على هذا الأمر من أهمية.
سواء في اختصاص النبي عليا بالتبليغ عنه أم في عدم تفويض ذلك لأبي بكر يؤيد ما قلناه من أن الهوى الشيعي الحزبي لعب دورا في بعض هذه الروايات. [.....](9/347)
فليس يعقل قط أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن يرسل الآيات مع أبي بكر أو يكلفه بإعلان المسائل يبعث عليّا ليأخذها منه. وليس يعقل قط أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يبلّغ عني إلّا رجل مني أو إلّا من أهل بيتي في أمر لا صلة له بالاعتبارات الأسروية وإنما هو متصل بمهمته العظمى التي اختصه الله تعالى بها لخصائصه الذاتية التي عبّرت عنها جملة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وجملة وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . ولقد كان من المعقول أكثر لو فكّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الاعتبارات- وحاشاه ذلك- أن يرسل عليّا أميرا على الحجّ دون أبي بكر. وحديث البخاري عن أبي بكر الذي يعتبر أصحّ الأحاديث والروايات الواردة في هذا الصدد صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كلّف أبا بكر ببعض المسائل الواردة في الآيات ثم أرسل عليّا بمسألة أخرى رأى وجوب إعلانها أيضا. وأن الإعلان كان بإشراف أبي بكر وأمره وأن عليّا شارك أو ساعده فيه. وهذا هو الذي يعقل أن يكون وقع دون الحواشي والزوائد الواردة في الروايات الأخرى والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون عن رسول الله وبعض أصحابه وتابعيهم في المقصود ب يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وبعض الأحاديث والأقوال تروى متناقضة عن نفس الأشخاص. فقد روي عن قيس بن مخرمة أن رسول الله خطب يوم عرفة فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر» وروي عن ابن عمر أن رسول الله وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر» . وروى بعضهم عن علي أنه يوم عرفة. كما روى بعضهم عنه أنه يوم النحر. وروي عن عمر وابن الزبير أنه يوم عرفة. وعن عبد الله بن قيس والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة أنه يوم النحر. وإلى هذه الأقوال روي عن مجاهد أن قرن الحج مع العمرة هو الحج الأكبر تمييزا له عن الإفراد بين العمرة والحج الذي يسمى الحج الأصغر. وروي عنه في الوقت نفسه أن جميع أيام منى أو أيام الحج كلها هي يوم الحج الأكبر تمييزا لها عن العمرة لحدوثها في غير موسم الحج التي كانت تسمى الحج الأصغر. وهناك قول غريب عن الحارث بن نوفل أنه يوم حج رسول الله حجة الوداع حيث اجتمع في ذلك اليوم حجّ المسلمين وحجّ اليهود وحجّ(9/348)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
النصارى. ولم يحدث هذا قبل ذلك ولا بعده.
والنصوص السابقة لم ترد في أي من الكتب الخمسة. وقد ورد في جامع الترمذي وهو من هذه الكتب حديث روي عن عليّ قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحجّ الأكبر فقال يوم النحر» «1» . وقد صوب الطبري كون يوم الحج الأكبر هو يوم النحر. ولعلّه استند إلى هذا الحديث. ومع وجاهة ذلك فلسنا نرى فيه منعا لوجاهة أن يكون هذا اليوم هو يوم عرفة الذي ذكر في أحاديث نبوية وصحابية أخرى، فالحجّ لا يتمّ إلا بالوقوف في عرفة على ما ورد في أحاديث صحيحة أوردناها في سياق آيات الحج في سورة البقرة «2» . وعرفة والحالة هذه تكون مجمع جميع الحجاج الأكبر والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 4 الى 5]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
. (1) انسلخ: بمعنى انقضى.
تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... والآية التالية لها. وتمحيص مدى ما ورد في شأن قتال المشركين في هذه الآية إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
عبارة الآيتين واضحة أيضا. وفي أولاهما استثناء وجّه الخطاب فيه إلى
__________
(1) التاج ج 4 ص 114.
(2) انظر التاج ج 2 ص 128 وج 4 ص 53.(9/349)
المسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم ووفوا بعهدهم فلم ينقضوا ولم ينقصوهم شيئا ولم يظاهروا ويناصروا أحدا عليهم حيث يؤمرون بإتمام عهدهم إلى نهاية المدة المتفق عليها بينهم. فهذا هو من التقوى والله يحبّ المتقين. وفي ثانيتهما وجّه الخطاب إلى المسلمين يؤمرون فيه بقتال المشركين بعد انقضاء الأشهر الحرم حيث وجدوهم ومطاردتهم والترصد لهم في كل مكان. وبالكفّ عنهم إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. فإن الله غفور رحيم لعباده التائبين.
والآيتان كما هو ظاهر استمرار في السياق السابق وجزء منه. وقد روى الطبري عن قتادة أن المقصود من الاستثناء هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وهذا غريب لأن صلح الحديبية قد انتقض في السنة الثامنة وأدى ذلك إلى زحف النبي صلى الله عليه وسلم على مكة وفتحها ودخول قريش في دين الله. في حين أن الآيات نزلت بعد فتح مكة على ما تدلّ عليه الآية [3] بصراحة. وقد روى البغوي أنهم حيّ من كنانة يقال له بنو ضمرة لم ينقضوا العهد وكان بقي من مدتهم تسعة أشهر. وخبر موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة من كنانة قد ذكره ابن سعد ولم يذكر أنه كان موقوتا «1» . وعلى كل حال فإن فحوى الآية الأولى التي فيها الاستثناء يدل على أنها في حقّ الذين بينهم وبين المسلمين عهد موقوت ولم يبد منهم نقض له بشكل ما. وقد يكون هناك من كان كذلك فعلا. وفي الاستثناء حكم مستمر المدى كما هو المتبادر.
والآية الأولى هذه تؤيد الرواية التي أوردناها قبلا بكون النداء يوم الحج الأكبر الذي نادى به أبو بكر وعلي هو «من كان له عهد فلأجله» وكون الإذن والإمهال أربعة أشهر هما بالنسبة لمن كان أجله أقل من أربعة أشهر دون الرواية الأخرى التي تقول إن النداء كان «من كانت مدته أقل من أربعة أشهر فله مهلة أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر فتقصر على أربعة أشهر» .
وروح هذه الآية بل فحواها يؤيد كذلك الرواية التي رواها البغوي والقول
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 46.(9/350)
الذي قاله الطبري بأن المشركين المعاهدين الذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى من السورة هم الناقضون لعهدهم. وهذا يستتبع القول إن الذين أمر المسلمون بقتالهم في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صدد تفسيرهما عقب انقضاء الأشهر الحرم التي في نهايتها تنتهي مدة الأشهر الأربعة- لأن الآيات نزلت في شوال كما ذكرنا- هم هؤلاء الناقضون لأنهم موضوع السياق.
وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر.
ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم.
وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلوّ ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادّين وبرّهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام وأن ينقض ما كان سمّى لهم من عهد وميثاق وأنها لم تبق لأحد من المشركين عهدا ولا ذمة. وقد روى المفسر نفسه قولا عن سفيان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآية وآيات أخرى من هذه السور وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليّ بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذّن في الناس يوم الحج الأكبر منها هذه الآية وسمّاها سيفا في المشركين من العرب.
ومنها آية التوبة هذه قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا(9/351)
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ
(29) وسمّاها سيفا في قتال أهل الكتاب. ومنها هذه الآية من سورة التوبة أيضا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) وسمّاها سيفا في قتال المنافقين. ومنها هذه الآية في سورة الحجرات وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [9] وسمّاها سيفا في قتال أهل البغي. ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين حين انتهاء مدتهم أو إذا نقضوا العهد ومن لا عهد لهم إطلاقا دون تفريق مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البرّ والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملّة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين!.
كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكلّ مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى.
وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات القرآنية المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحثّ على البرّ والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومنها آية سورة النساء [90] التي سنورد نصّها بعد قليل والتي تذكر أن الله لم يجعل للمسلمين سبيلا على من لا يقاتلهم ومن يعتزلهم ويلقي إليهم السلم. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم بدون تحديد وتوقيت. وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله «1» .
__________
(1) في تفسير المنار تعليق سديد على هذا الموضوع في سياق الآيتين متطابق في النتيجة مع ما قررناه.(9/352)
ولقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وأوردناه قبل أن عليّا أمر بأن ينادي فيما أمر به «من كان بينه وبين النبيّ عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر» ونحن نتوقف في أن يكون مدى الحديث هو الأمر بالقتال بعد انقضاء الأربعة أشهر عام ضد من لم يكن عهد من المشركين مطلقا ولو لم يكن عدوا معتديا بناء على ما شرحناه قبل. والله أعلم.
ولقد وقف الطبري عند الرواية التي تذكر أن الإعلان يوم الحجّ الأكبر كان فيه إمهال للمشركين أربعة أشهر. ورأى فيها تعارضا مع عبارة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا ... لأنه لم يكن بين الإعلان وبين نهاية الأشهر الحرم إلا خمسون يوما وقال إن في هذه الرواية وهما. وأورد صيغة أخرى للحديث المروي عن علي رواها من طرق متعددة وهي «أمرت بأربع. أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك. ولا يطوف رجل بالبيت عريانا. ولا يدخل الجنة إلّا كل نفس مسلمة. وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده» ومما قاله أن الآيات نزلت في شوال وبانتهاء الأشهر الحرم تكون مهلة الأشهر الأربعة المذكورة في الآية الثانية قد انتهت. والمتبادر أن فيما يسوقه الطبري صوابا وسدادا. لأن به وحده يزول وهم التعارض بين نصوص القرآن وبين بعض الأحاديث والروايات. والله تعالى أعلم.
وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام. أولاهما: أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟
وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئا من التوضيح: فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمين قبل العهد وقد وقع حرب وقتال بينهم ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء(9/353)
وقتال. وآية النساء هذه إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) . تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني ضمرة من كنانة أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدوا وكتب بينه وبينهم كتابا بذلك. ووادع هلال بن عويمر وسراقة المدلجي وقومه بمثل ذلك «1» . وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله.
أما المسألة الثانية فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكفّ عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة. أي بدخولهم في الدين الإسلامي.
والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيام بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعدّ هذا من قبيل الإكراه في الدين بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق كما يمثل نظاما جاهليا فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة وأن الإسلام الذي يشترط عليهم
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 46. وانظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير لتفسير الآية [90] من سورة النساء والآيات [4 و 7] من سورة التوبة.(9/354)
الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلا وخلقا وعبادة وعقيدة وعملا. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم.
وقد يكون في آية سورة البقرة هذه أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وآية سورة الأنفال هذه الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) دليل على ذلك. فإن الآيتين تفيدان أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد الفريق الذي نبذ العهد مرة بعد مرة بالرغم من أنه كان ينقض العهد مرة بعد مرة أيضا. بل وفي آيات جاءت آية الأنفال المذكورة دعما لهذا الدليل حيث جاء فيها وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) . وجملة وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ لافتة للنظر فهي لا ترى مانعا من الجنوح للسلم وتجديد العهد حتى ولو كان من المحتمل أن يكون جنوحهم إليها من قبيل الخداع. والله أعلم.
وجملة فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تنطوي على تقرير التلازم بين اعتناق الإسلام وبين القيام بأركانه وواجباته العملية التي من أهمها إقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر كما جاء في الآية [45] من سورة العنكبوت وإيتاء الزكاة التي يطهر المسلم بها نفسه وماله ويساعد بها المحتاجين من إخوانه ويؤيد بها الدعوة إلى سبيل الله ونشرها ويجاهد بها الصادقين عنها والمعتدين على أهلها.
وهذا مما تكرر كثيرا جدا في السور المكيّة والمدنيّة بأساليب متنوعة تغني كثرتها عن التمثيل بحيث يصح القول إن عدم القيام بهما يجعل إسلام المسلم موضع شك. ولعل هذا هو ما جعل بعض العلماء يعتبرون تاركي الصلاة عمدا بخاصة مرتدين ويجوزون قتلهم عقوبة على ارتدادهم استنباطا من بعض الأحاديث أو(9/355)
استنادا إليها حيث روى مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي حديثا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» «1» . وروى الترمذي حديثا عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» «2» . وقولا رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق جاء فيه «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» «3» وحديثا رواه الطبري عن أنس ورد في تفسير الآية في تفسير المنار جاء فيه «من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر» وحديثا رواه أصحاب مساند الحديث الصحيح الخمسة عن عبد الله قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحلّ دم امرئ يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «4» .
والتارك لدينه هو المرتد. ولقد رأى المؤولون في هذا التلازم صواب عمل أبي بكر رضي الله عنه حينما قاتل الذين كان ارتدادهم قاصرا في ظاهره على الامتناع عن أداء الزكاة لبيت المال أيضا وقد روي في هذا الصدد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله» «5»
__________
(1) التاج ج 1 ص 124.
(2) المصدر نفسه ص 124- 125.
(3) المصدر نفسه ص 124- 125.
(4) التاج ج 3 ص 17.
(5) روى هذا الحديث الخمسة عن أبي هريرة انظر التاج ج 4 ص 325- 326 وروى أصحاب السنن حديثا آخر عن أنس فيه زيادة مهمة وهذا نصّه «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلّوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» «التاج ج 4 ص 326. وروى الخمسة حديثا آخر عن ابن عمر مثل الحديث الذي رووه عن أبي هريرة مع زيادة مهمة وهذا نصّه «قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله» التاج ج 1 ص 29.(9/356)
فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حقّ المال.
والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلّا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق «1» .
ونقول استطرادا: إن الأحاديث النبوية- وهي من الصحاح- التي أوردناها في المتن وفي الذيل قد تثير إشكالا متصلا بالآيات التي نحن في صددها حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله ... إلخ» .
وحيث يتعارض ذلك إذا أخذ على إطلاقه وظاهره مع ما تلهمه آيات قرآنية عديدة من أنه لا إكراه في الدين ومن أن الله لا ينهى المسلمين عن موادة الذين لا يقاتلونهم في الدين والبرّ إليهم. ومن أن الله إنما أمر المسلمين بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم على ما قررناه قبل قليل هنا وفي مناسبات سابقة عديدة. ونقول في صدد هذا الإشكال إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلّ من أن يناقض التقريرات القرآنية المحكمة.
وأن المأثور المتواتر من سيرته وسيرة خلفائه الذين ساروا على هداه أنهم لم يقاتلوا إلّا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءا أو نكثا بعد عهد. ولهذا فإن الأولى أن يفرض أن الحديثين النبويين قد قصدا قتال المعتدي والناكث. فهذا هو المتساوق مع نصوص الآيات المحكمة التي لا يمكن أن ينقضها رسول الله. وهذا هو المؤيد بالمأثور المتواتر من السيرة النبوية. ولقد محّصنا هذا الموضوع ومدى هذه الأحاديث في سياق سورتي المزمل والكافرون بشيء من الإسهاب وانتهينا إلى أنه ليس من تعارض وتناقض. والله تعالى أعلم.
هذا، ولقد روى الطبري عن الضحاك أن هذه الآية قد نسخت بآية سورة محمد التي فيها فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها وعن قتادة أن آية سورة محمد هي المنسوخة بآية سورة التوبة التي نحن في صددها. ويلحظ أن آية التوبة نزلت بعد آية محمد فإن كان نسخ فالمعقول أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم.
__________
(1) هذا الحوار منقول من البغوي. والعناق: هي الأنثى من أولاد المعز.(9/357)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
علما أن الطبري صوّب عدم النسخ وقال إنه ليس من تعارض بين الآيات. وهذا هو الأوجه. والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (9) : آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)
. (1) أبلغه: أوصله، أو يسّر له الوصول.
(2) مأمنه: المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته.
تعليق على الآية وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ... إلخ وما روي في صددها ومدى ما فيها من تلقين ودلالات
عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا ما أراد أحد من المشركين أن يأتي النبي وطلب منه الجوار والحماية فعليه أن يمنحهما له حتى يتسنّى له سماع كلام الله تعالى وعليه بعد ذلك أن ييسّر له البلوغ إلى المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته. وتعليل لذلك بأن المشركين جاهلون ومن الحق على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتيح لهم فرصة العلم وسماع كلام الله وتدبره.
وقد روى الزمخشري عن سعيد بن جبير أن رجلا جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نادى يوم الحجّ الأكبر فقال إن أراد الرجل منّا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال لا لأن الله تعالى يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... إلخ وهذه الرواية بهذه الصيغة لا تكون سبب نزول الآية. والآية بعد معطوفة على ما قبلها وجزء من السياق كما هو ظاهر حيث يتبادر لنا أن حكمة التنزيل أوحت بها في جملة السياق على سبيل الاستدراك والاستثناء في صدد حالة محتملة. وهذا لا يمنع احتمال نزولها بسبب حالة وقعت(9/358)
أو سؤال ورد، ثم وضعت في السياق للتناسب. والله أعلم.
ونرى في الآية قرينة أخرى على صحة ما ذكرناه قبل من أن الآية السابقة لها ليست في صدد قتل وقتال كل مشرك إطلاقا إلى أن يكفّ عن الشرك ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. وعلى ما قررناه في مناسبات عديدة قريبة وسابقة من عدم إكراه أي مشرك غير عدو وغير محارب على الإسلام. ونرى فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين وأولياء أمورهم في كلّ وقت بوجوب منح الفرص لغيرهم ولو كانوا أعداء محاربين ليسمعوا منهم كلام الله ويستوعبوا منهم مبادئ وأهداف الإسلام وبوجوب قبول التجاء غيرهم إليهم وحمايتهم إذا ما كان قصدهم التعرّف على تلك المبادئ والأهداف. وضمان عودتهم إلى بلادهم آمنين.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية حديثا رواه البخاري والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أمّن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا» وحديثا آخر رواه الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» .
وفي الحديثين تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو واضح من تشديد ضدّ من ينحرف عن هذا التلقين. ولقد روى القاسمي عن الحاكم تنبيها وجيها في هذا الصدد. وهو أن الإجارة والتأمين منوطان بالتيقن من حسن القصد. وإن جملة حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مما يدعم ذلك. وهذا يعني عدم الإجابة لطلب الجوار إذا غلب الظن بكبر الطالب وخداعه وسوء نيته. والله أعلم.
ولقد روى الطبري وغيره عن الضحاك والسدي أن الآية منسوخة بجملة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الآية السابقة لها. وعن ابن زيد أنها محكمة غير منسوخة. وليس هناك أثر نبوي. وورود الآية بعد الآية التي تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا قد يكون قرينة قوية على وجاهة القول الثاني حيث يمكن أن تكون الآية قد جاءت للاستدراك. والإجابة على تساؤل ما من بعض الكفار.
وروحها يدعم ذلك أيضا. لأن القتال والقتل لم يكن غاية وإنما هو مقابلة للعدوان(9/359)
وعقوبة على النكث. والدعوة إلى الإسلام تظل قائمة لكل الناس في كل وقت.
وهدف الآية إعطاء فرصة لكافر ما ولكافر عدوّ بخاصة ليسمع كلام الله لعلّه يستجيب ويؤمن. والآية السابقة للآية تأمر بالكفّ عن قتال المشركين الناكثين الأعداء إذا ما تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. والاستجابة للاستجارة وسيلة إلى ذلك. والله أعلم.
استطراد إلى مدى جملة كَلامَ اللَّهِ ومسألة أزلية القرآن وحدوثه
ونرى أن نستطرد هنا بمناسبة جملة كَلامَ اللَّهِ في الآية إلى مدى هذه الجملة وما تفرع عنها من خلاف مذهبي فنقول إن هذه الجملة وردت في آيات أخرى مثل آية البقرة [75] وآية سورة الفتح [15] غير أنها هنا عنت القرآن أكثر من هذه الآيات على الأرجح وعلى ما عليه جمهور المفسرين. ووصف القرآن بأنه كَلامَ اللَّهِ أدى إلى ذلك الخلاف حيث ذهب بعض علماء الكلام إلى أن الكلام الله متصل بذات الله وذات الله أزلية فيكون كلام الله أزليّا، وما دام القرآن هو كلام الله فيكون بدوره أزليا. وحيث ذهب فريق آخر إلى كون القرآن ليس أزليا وإنما هو حادث. ولقد كان من جراء هذا الخلاف فتنة شديدة في زمن المأمون ثامن الخلفاء العباسيين وامتدت نحو عشرين عاما. واضطهد وعذّب فيها علماء كثيرون على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل وكان أحيانا يشتبك أنصار هؤلاء وهؤلاء في نزاع دام تزهق فيه مئات الأرواح. ولقد كان المعتزلة الذين يسمون أهل العدل والتوحيد من القائلين بالقول الثاني. وكان لهم مركز الوجاهة والنفوذ عند المأمون وجعلوه يقنع بقولهم وأرادوه على حمل الإمام أحمد بن حنبل ومن يقول بقوله أي القول الأول أن يرجعوا عن قولهم ويقولوا بالقول الثاني فأبوا.
وهذه المسألة متفرعة عبر مسألة أعمّ. وهي الخلاف على صفات الله تعالى بين أهل السنة والجماعة الذين كان الإمام أحمد من رؤوسهم وبين المعتزلة.(9/360)
فهؤلاء قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته قادر بذاته متكلم بذاته إلخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه هي غير ذاته يعني تعددا لله القديم الذي يستحيل عليه التعدد. في حين قال أهل السنة والجماعة إن لصفات الله تعالى معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلّم بكلام وحي بحياة إلخ. واحترزوا من أن يكون هذا الكلام مؤديا إلى التعدد لأنهم مثل المعتزلة يعتقدون باستحالة التعدد بحق الله تعالى فقالوا إن الله عالم بعلم غير منفك عن ذاته وقادر بقدرة غير منفكة عن ذاته ومتكلم بكلام غير منفك عن ذاته.. ثم انجرّ الخلاف إلى صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله فقال فريق من أهل السنة والجماعة إن الله تكلّم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها وإن القرآن معنى قائم بذات الله مع تقييدهم أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به فهو شامل في أي وقت لجميع الكلام الذي يدور في الخلد. أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف على حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة. وهناك من هذا الفريق من قال إن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن كلام الله الأزلي القديم وإنها مثله قديمة أزلية أيضا ليست حادثة ولا مخلوقة. وهناك من هذا الفريق من قال إن جميع ما في المصحف هو من صفة الله القديمة حتى الورق والمداد وجلدة الغلاف ... أما المعتزلة والشيعة الإمامية الذين يذهبون إلى أكثر المذاهب الكلامية التي يذهب إليها المعتزلة فقالوا إن الله تكلم بذاته بدون كلام زائد عن هذه الذات وأنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض فتقرأ وتسمع وأن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفة المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة لسان وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق لا يصح أن يكون قديما أزليا. ومما قالوه أن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصحف(9/361)
تواترا. وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان.
وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة. ويردّ عليهم جمهور أهل السنة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حالّ فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم. وأن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج.
هذه خلاصة وجيزة جدا لرأي علماء المذاهب الكلامية. وواضح أن الجماعات المختلفة يعترفون بكمال صفات الله وأن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات وتخيلها وتفهمها. وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافات الكلامية الأخرى المتصلة بالله تعالى وقدرته وكنهه وما ينسبه القرآن إليه من أعضاء وأفعال.
منهم المعظم لله ومنهم المنزّه له. وأنهم متفقون على أن القرآن منزّل من الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم.
ونعتقد أن ثوران هذه المسألة الخلافية وما يترتب عليها من فتنة ومحنة في أوائل القرن الثالث الهجري ذو صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرن الإسلامي الأول. ومن مظاهرها مسألة القدر وفرق المسلمين فيه على ما شرحناه في سياق سورة القمر مع احتمال أن يكون لتسرب الأفكار والكتب اليونانية وغير اليونانية أثر فيها. وأنها ضخّمت أكثر مما تتحمله طبيعتها. وقد يصح أن يقال مع ذلك أن للقرآن صلة وثقى بأحداث السيرة النبوية وظروف البيئة النبوية وشؤون البشر والحياة على إطلاقها وأن جلّ سوره وفصوله وآياته أو كلّها قد نزلت حسب المناسبات والأحداث والمقتضيات من هذه السيرة والظروف والشؤون. وأنه استهدف صلاح البشر وتوجيههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وكل هذا من الأمور الحادثة المتجددة المتبدلة المتطورة، ويجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة. ولا سيما إن القول الأول يؤدي إلى حرج القول أنه ما دام كلام الله صفة غير منفكة عن ذات الله وما دام القرآن هو كلام الله فيكون القرآن هو ذات الله سبحانه وتعالى ...(9/362)
ومما يجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة أن ألفاظ القرآن (مفرداتها وتركيباتها) ليست أمرا قاصرا على القرآن. وإنما هي مما يستعمله الناطقون باللغة العربية للتعبير عن أفكارهم نطقا وكتابة. وكان ذلك قبل نزول القرآن واستمرّ بعده وإلى ما شاء الله. وهي ألفاظ بشرية للتعبير عن أمور وأفكار بشرية حادثة. والله ليس كمثله شيء. فله سمع وبصر ولكن ذلك غير مماثل لأي شيء كما جاء في آية سورة الشورى التي أوردناها والتي هي ضابط قرآني هام في مثل هذه المسائل.
ومن ذلك فهو متكلم ولكن كلامه غير مماثل لأي شيء.
وهناك أمر آخر مهم يقوي ذلك أيضا وهو أن الله عزّ وجلّ لم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مباشرة. ففي سورة الشعراء هذه الآيات نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) . وفي سورة النحل هذه الآيات وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) . وفي سورة البقرة هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) . أي إن الذي كلم النبي مباشرة وقرأ عليه القرآن ونزّله على قلبه هو جبريل الذي وصف في آيتي النحل والشعراء بالروح الأمين والروح القدس.
وجبريل مخلوق مثل سائر خلق الله، ينقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يتلقاه من الله. أما كيف كان جبريل يتلقى القرآن من الله تعالى فقد يصحّ أن يترك تأويله لله عزّ وجلّ تبعا لمسألة الملائكة على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. ويصح أن يقال أيضا والله أعلم أن الله يخلق معنى ما يريد وحيه قرآنا إلى نبيّه في جبريل فينزل به على قلب النبي بألفاظه العربية.
ويظهر أن المفسرين الذين لم يفتهم هذا المعنى فطنوا إلى ما يمكن أن يورد عليه بما جاء في سورة القيامة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
فقال ابن عباس في تأويل(9/363)
ذلك على ما رواه الطبري وابن كثير والبغوي في تفسير هذه الآية «إذا قرأه عليك جبريل فاتبع قرآنه» فصار في هذا توفيق بين هذه الآية وآيات النحل والشعراء والبقرة. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس في ذلك أيضا قال:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرف منه، فأنزل الله الآيات، فكان إذا آتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعد الله» .
هذا ومع تناولنا المسألة الخلافية وشرحنا لها موضوعيا في مناسبة جملة كَلامَ اللَّهِ مجاراة للمفسرين واجتهادا لوضع الأمر في نصابه فإننا نقول:
أولا: إننا لا نرى جملة حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مناسبة سائغة لذلك. فهي تعني حتى يسمع ما أوحى الله لرسوله من مبادئ وأهداف الرسالة وأن في إثارة الجدل الكلامي في مناسبتها تحميلا لها غير ما تتحمل.
وثانيا: إن هذه الخلافيات والجدليات لا تتصل بآثار نبوية ولا راشدية موثقة ثابتة في ذاتها. فضلا عما كان من آثار نبوية وراشدية تنهى عن الخوض في ماهية الله والقرآن. ومن ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق ربّك. فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتبه» وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المراء في القرآن كفر. ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه جلّ جلاله» . وأن من الأولى أن يظل المسلم في حدود التقريرات القرآنية بأن القرآن كلام الله ومن عند الله ووحي من الله وأنزله الله ليتدبر الناس آياته وجعله عربيا ليعقله السامعون وليخرج الناس به من الظلمات إلى النور. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأن لله أحسن الأسماء وأكمل الصفات وأنه ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار. وأن لا يتورط ويخوض في ماهيات وكيفيات متصلة بسرّ واجب الوجود وسرّ الوحي والنبوّة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل الإنساني مع قيام البراهين عليه ومما لا طائل من ورائه. والله تعالى أعلم.(9/364)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
هذا، مع التقرير اللازم الذي يجب على المؤمن أن يؤمن به أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام الأزلية الأبدية القديمة مثل صفات السمع والبصر وغيرها. وأنه يراعي الضابط القرآني الوارد في آية سورة الشورى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
والكلام الذي يمكن أن يسمعه بشر لا يمكن أن يكون إلا بطريقة كلام وسمع البشر أي أصوات تخرج من شفتين وتتموج في الهواء حتى تصل إلى أداة سمع في إنسان آخر فيفهمها. وكل هذا متسم بصفة الحدوث التي تتنزه صفة كلام الله القديمة عنها. واستلهاما من ذلك كلّه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة كَلامَ اللَّهِ في الآية التي نحن في صددها وتأتي مكانها في القرآن تعني أحكامه وتبليغاته وتنزيلاته.
وقد يرد في القرآن جمل تفيد أن الله كلّم موسى كما جاء في آية سورة الأعراف وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [143] .
وكما جاء في آية سورة النساء: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) . فيمكن أن يقال والله أعلم إن موسى مخلوق بشر ولا يسمع إلا أصواتا تأتي إلى أذنه بطريقة التصويت البشري وهذا متسم بالحدوث الذي تتنزه صفة كلام الله عنها ويمكن أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قذف في قلبه ما أراد تبليغه له وعبّر عن ذلك في القرآن بالجمل المذكورة والله أعلم. ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 12]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
.(9/365)
(1) إن يظهروا عليكم: إن يتفوقوا عليكم ويغلبوكم.
(2) لا يرقبوا: لا يراعوا.
(3) إلّا: عهدا.
(4) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا: بمعنى فضّلوا الثمن القليل أي متاع الدنيا وزينتها على آيات الله ودينه.
في الآيات:
(1) تساؤل يتضمن معنى النفي عما إذا كان يصحّ أن يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله.
(2) واستثناء وجه الخطاب فيه للمسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام. وأمر بأن يستقيموا على عهدهم معهم ما استقاموا هم عليه. فإن في هذا تقوى الله والله يحبّ المتقين.
(3) وتساؤل آخر وجّه الخطاب فيه كذلك للمسلمين يتضمن أيضا معنى النفي ثم تقريرا لواقع المشركين وتعليلا لعدم استحقاق عهودهم للاحترام، فإنهم إذا ظهروا عليهم وانتصروا لا يرعون فيهم عهدا ولا ذمة ويعاملونهم معاملة العدوّ اللدود. وإنهم إنما يحاولون إرضاءهم بالكلام وقلوبهم غير صادقة ولا مخلصة.
وإن أكثرهم فاسقون متمردون على الله تعالى خبثاء الطوية. وإنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ولا ذمة. وإنهم معتدون متجاوزون على كل حق في جميع مواقفهم.
(4) وخطاب موجّه إلى المسلمين كذلك بشأنهم: فإذا تابوا عن شركهم وأسلموا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنهم يصبحون إخوانا لهم في الدين. وفي(9/366)
هذا بيان يفهمه ويدرك قيمته الذين يعلمون ويدركون الأمور. أما إذا نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم للمسلمين وطعنوا في دينهم فعليهم أن يقاتلوا أئمة الكفر الذين لا يقيمون وزنا لأيمانهم، لعلّ هذا القتال يضطرهم إلى الانتهاء عن موقفهم الباغي.
تعليق على الآية كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات أو بعضها. وإنما رووا روايات عن المقصود منها «1» . فمن ذلك أن المقصود من الاستثناء الوارد في الآية الأولى منها أي الآية [7] هم بنو خزيمة أو بنو مدلج أو بنو الديل من بني بكر بن كنانة الذين دخلوا في صلح الحديبية مع قريش ولكنهم لم ينقضوا حينما نقض بطون أخرى من بني بكر وظاهرتهم قريش فكان ذلك سببا لحملة الفتح المكي. ومنها أن المقصود منه هم قريش الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وبخاصة زعماءهم الذين يصحّ عليهم وصف أئمة الكفر مثل أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة وسهيل بن عمرو. وذكر هذه الأسماء عجيب. لأن منهم من كان قتل يوم بدر مثل أبي جهل وأمية وعتبة. ومنها أن المقصود منه قوم في جوار منطقة المسجد الحرام كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد على أن لا يدخلوا هذه المنطقة ولا يعطوا للمسلمين جزية. ومن ذلك أن المقصود في الفقرة الأولى من الآية الأولى ثم في الآيات الأخرى هم المقصودون في آيات السورة الأولى أي المعاهدون الناقضون لعهدهم.
__________
(1) أكثر المفسرين استيعابا لهذه الروايات هو الطبري.(9/367)
وقد علّق الطبري على الروايات التي تقول إن المقصود في الآيات قريش فقال إن الآيات نزلت بعد فتح مكة وبعد دخول قريش في الإسلام. وهذا سديد صحيح. وقد رجح الرواية التي تقول إنهم البطن الذي لم ينقض من بني بكر حين نقض العهد البطون الأخرى مع قريش فأمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا عليه. وهذا أيضا وجيه. ولكنه لا يمنع أن يكون أناس آخرون في جوار منطقة المسجد الحرام عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة فاستقاموا على عهدهم فعنتهم الآية والله أعلم. والرواية التي تقول إن المقصود من الفقرة الأولى من الآية الأولى أي الآية [7] ثم الآيات الأخرى أي [8- 12] هم المشركون المعاهدون الناقضون لعهدهم محتملة ومتسقة مع فحوى الآيات وروحها. وقد انطوى فيها تبرير لإعلان براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى ثم في الآية الثالثة من السورة وتبرير للأمر الوارد في الآية الخامسة بقتلهم أينما وجدوا بدون هوادة إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي الآية [11] قرينة على ذلك حيث جاءت بصيغة مماثلة للفقرة الأخيرة من الآية الخامسة.
وعبارات التبرير الواردة في الآيات قوية شديدة تدلّ على أن المشركين المعاهدين الذين بدا منهم النقض والغدر والذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم كانوا على درجة شديدة من الحقد على المسلمين وتبييت المكر والشرّ والكيد لهم بحيث كان من المستبعد أن يحترموا العهد احتراما صحيحا. وبحيث انطوى فيها حكمة التنزيل في عدم الكفّ عن مطاردتهم وقتالهم وقتلهم إلّا إذا تابوا نهائيّا عن الشرك وأسلموا.
والأمر بالاستقامة في العهد لمن يستقيم عليه من المشركين دليل كما نبهنا من قبل على أن المقصود من المشركين المعلن براءة الله ورسوله منهم والمأمور بقتالهم هم الناقضون البادي غدرهم. ويلحظ أن العبارة مطلقة بدون توقيت. وهذا مهمّ في بابه كما هو المتبادر.
وجملة فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ بالنسبة لمن يتوبون من المشركين ويقيمون(9/368)
الصلاة ويؤتون الزكاة جديرة بالتنويه حيث تلهم روحها معنى خلاص المشركين من تبعة أعمالهم ومواقفهم السابقة. وفي ذلك من التلقين والتشجيع والتسامح وفتح الباب للاندماج في الكيان الإسلامي بيسر. والعفو عما سلف ما هو جدير بالإجلال. وما فيه الدلالة على أن غاية الدعوة الإسلامية هي إنشاء كيان إسلامي قوي قائم على المبادئ القويمة السامية التي قامت عليها الدعوة الإسلامية وتيسير الاندماج فيه لكل امرئ مهما كانت حالته ومواقفه السابقة. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة. وبخاصة مع الهدف والتلقين المنطويين في آيات التوبة الكثيرة على ما نبهنا عليه في مناسباته. وكلمة فَإِخْوانُكُمْ بخاصة تنطوي في مقامها على هدف التحبب والتأنيس لمن ينضوي إلى لواء الإسلام وتؤكد أخوة المنضوين الدينية التي قررتها جملة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] والتي تمثل أقوى الروابط الروحية الإنسانية وأعمقها لأنها رابطة العقيدة والمبدأ التي تسمو على سائر الروابط. ولقد جاء في آية سورة الأنفال قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [38] . ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون المعنى هنا أقوى وأروع وأبعد مدى.
وجملة وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ في [الآية: 12] قد توهم أنها في صدد معاهدين لم يكونوا نكثوا حينما نزلت الآيات. غير أن فحوى آيات السياق وروحها يلهمان بقوة أنها في صدد موضوع الكلام السابق من المعاهدين.
بل إن نظم الآية قد يفيد ذلك حيث عطفت على ما قبلها والضمير فيها راجع إلى الذين هم موضوع الكلام السابق.
وجملة وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ في الآية تجعل الطعن في الدين الإسلامي من أسباب قتال المسلمين للمشركين والكفار ومبرراته. وهذا حقّ لا ريب فيه.
لأن الطعن يؤدي إلى الصدّ عنه. وبالتالي إنه عدوان على الدين وأهله وحرية الدعوة إليه.
وجملة فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قد تكون في صدد جميع المشركين(9/369)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
بوصفهم أئمة كفر. وقد تكون في معنى التشديد في التحريض على قتال الأشد نكاية منهم في العداء والأذى. وقد يكون سياق الآيات وروحها مما يجعل الرجحان للمعنى الأول. غير أن المعنى الثاني لا يخلو من وجاهة. لأن التنكيل بالكبار والأشد نكاية يحلّ عقدة الباقين الذين هم تبع لهم. ومتأثرون بهم.
والحملة على زعماء الكفار قد تكررت في القرآن من أجل ذلك وبسببه. غير أنها لم تقتصر عليهم وإنما شملت الكفار عامة مع التشديد على الزعماء. ويصحّ أن يقال إن مدى الجملة هنا هو من هذا القبيل. والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 16]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
. (1) وليجة: مرادفة في معناها للدخيلة بمعنى الولي أو البطانة الذي يدخل في خصيصة شأن المرء.
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
(1) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصحّ لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصحّ أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا.
(2) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين. فعليهم أن يقاتلوهم. فإنّ الله(9/370)
معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم. وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلّا الحكمة والصواب.
(3) وتنبيه بصيغة السؤال موجّه إلى المسلمين أيضا عمّا إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تمّ إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم.
تعليق على الآية أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة. حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحثّ على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر.
وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محلّ تساؤل وتوقف. لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة.
لأن وصف وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب(9/371)
قريش بطون بني بكر لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى الله عليه وسلم على مكة. فلعلّ من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي. وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمّنّاه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم.
وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم.
ولقد قال المفسرون إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية هي الهدف الجوهري في كلّ المواقف والمناسبات.(9/372)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال أما والله لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ قال يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة.
والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 22]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
. (1) يعمروا، وعمارة: هنا بمعنى الخدمة والصيانة وقيل إنها تعني كذلك كثرة الغشيان للمساجد.
(2) شاهدين على أنفسهم بالكفر: بعضهم أوّل الجملة بأنهم الذين كانوا يعترفون بشركهم وكفرهم. وبعضهم أولها بأن كفرهم وشركهم بمثابة شهادة(9/373)
منهم على أنفسهم. وهذا أوجه فيما هو المتبادر.
(3) سقاية الحاج: مهمة تدبير الماء للحجاج.
في الآيات:
(1) تقرير بأنه لا يصحّ أن يكون المشركون عمّارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
(2) وتعقيب تقريري بأن الذين يصحّ أن يكونوا عمّارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة وو يؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله.
فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
(3) وسؤال استنكاري موجّه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان- والحالة هذه- يصحّ أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.
تعليق على الآية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ... إلخ والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن(9/374)
النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند منبر رسول الله في يوم جمعة فقال رجل منهم ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أسقي الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني (الأسير) فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعليّ وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول: أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة: أنا أعمر مسجد الله، وقال عليّ: أنا هاجرت مع رسول الله وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وروى الطبرسي أن عليّا قال لعمّه العباس: ألا تهاجر وتلحق برسول الله، فقال: ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ....
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حقّ المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحقّ والأهلية هما للذين آمنوا بالله واليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلّا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردّا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من(9/375)
محلّ للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعليّ بن أبي طالب لا تنطبق. لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تنطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله عن ذلك فنزلت الآيات للردّ والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية [28] من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم. وعلّلت ذلك بأنهم رجس. وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعاشية بسبب ذلك فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.(9/376)
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [18] حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» . وحديثا آخر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما عمّار المساجد هم أهل الله» . والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي «قال الله تعالى إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» «1» والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حدّ ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله وإنه لا يصحّ مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولهما الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية «2» من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في عهدة عمّه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن
__________
(1) التاج ج 4 ص 115.
(2) انظر مروج الذهب للمسعودي ج 1 ص 358 وما بعدها وج 2 ص 164 وما بعدها وج 3 ص 366 وما بعدها وطبقات ابن سعد ج 1 ص 46 وما بعدها وتاريخ الطبري ج 2 ص 14 وما بعدها، وتاريخ العرب قبل الإسلام- جواد علي ج 4 ص 187 وما بعدها. [.....](9/377)
عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية.
والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحلّ المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام. والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمّى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة: «ألا إن كلّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج» وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له: خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمّه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإقرار السقاية فيهم» «1» .
ولعل اختصاص المهمتين بالذكر في الآيات بسبب ذلك بل ولعلّ هذا هو سبب الجدال حول ثواب ومنزلة من كان يقوم بهما عند الله وهو على شركه. والله أعلم.
__________
(1) انظر ابن هشام ج 4 ص 32 وابن سعد ج 3 ص 232- 233.(9/378)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
. (1) اقترفتموها: بمعنى كسبتموها وحزتموها.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) نهيا للمسلمين عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم أولياء ونصراء إذا فضلوا الكفر على الإيمان. ووصفا لمن يفعل ذلك بالظلم أي بالتمرّد على الله والانحراف عن جادة الحق والبغي على نفسه بالذات لأنه بذلك يعرضها للخطر.
(2) وإنذارا لكل من يكون أبوه وأخوه وابنه وزوجته وعشيرته وأمواله وتجارته وموطنه المحبب إليه أحبّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله. فعلى من يكون كذلك أن ينتظر أمر الله فيه. وإن هذا لفسق، وإن الله لا يمكن أن يسعد الفاسقين ويرضى عنهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ والآية التي بعدها وما فيهما من صور وتلقين ودلالات
لقد روى الطبري عن أهل التأويل من التابعين أن الآيات نزلت في العباس وطلحة بن شيبة حينما أمروا بالهجرة فقالوا نبقى لنقوم بمهمتنا. وأردف الطبري هذا بقوله وكان ذلك قبل الفتح! وروى كذلك عن مجاهد أن جملة فَتَرَبَّصُوا حَتَّى(9/379)
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
تعني فتح مكة. وروى البغوي أن الآيات في شأن الذين تخلفوا عن الهجرة بعد الفتح تعلقا بأبنائهم وأزواجهم وأموالهم والذين نزلت فيهم وفي أمثالهم جملة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا في الآية [72] من سورة الأنفال. كما روي أنها في صدد النهي عن موالاة تسعة من المسلمين ارتدّوا ولحقوا بمكة. وروى هذا المفسر عن الحسن أن الجملة المذكورة آنفا هي إنذار بعقوبة عاجلة أو آجلة إطلاقا. وروى الطبرسي أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى أهل مكة ينذرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح وهي لا تنطبق على فحوى الآيات وروحها. وفي الآيات التالية لها دليل قاطع على أنها نزلت بعد فتح مكة لا قبله كما تذكر الروايات أو تقتضيه. لأنها تذكّر المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في يوم حنين بعد هزيمتهم على سبيل تدعيم النهي. ويوم حنين إنما كان بعد فتح مكة. ومن العجيب أن لا ينتبه الرواة والمفسرون إلى ذلك.
والصورة التي يمكن أن تنطوي في الآيات هي أنه كان لبعض المؤمنين بعد الفتح المكي أقارب ما زالوا على شركهم، وكان المؤمنون يتواصلون معهم ويعتبرونهم عصبيتهم. ومن المحتمل أن يكون لبعضهم في المكان الذي هاجروا منه أموال وأراض فكانوا يتطلعون إليها ومنهم من حاول الالتحاق بها. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء من أهل مكة أو من القبائل المجاورة لها أو من القبائل التي لم تكن أسلمت من أطراف المدينة. ومن المحتمل أن تكون الظروف اقتضت أن يسيّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض سراياه عليهم فاعترض أقاربهم المؤمنون أو أظهروا عصبيتهم نحوهم فاقتضت الحكمة إنزال الآيات بالأسلوب القوي الذي جاءت به ليكون زاجرا وحاسما في توطيد الرابطة الدينية والكيان الإسلامي دون أي اعتبار لشيء آخر من صلات وأنساب ومنافع.
والآيات مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير والتلقين مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية. فصحة إيمان المؤمن منوطة بأن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله(9/380)
أحبّ إليه من كل عرض دنيوي وصلة رحمية مهما عظمت في نفسه أو عظمت فيها مصلحته الشخصية. وهكذا تكون الآيات قد وضعت قياسا لإيمان المسلم وإخلاصه. وهو قياس دقيق شديد بل قياس خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لعقائدهم ومبادئهم في كلّ ظرف ومكان. وإذا لوحظ أن الآية شملت كل ما يمكن أن يكون للمرء فيه مصلحة خاصة ومحببة وصلة وشيجة من آباء وأبناء وإخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ووطن خاص بدا مدى هذا المقياس الرقيق الشديد الخالد. وسبيل الله التي تجعل الآيات الجهاد فيها من أركان هذا القياس هي الدعوة الإسلامية وما ينطوي فيها من أوامر ونواه ومبادئ وأهداف دنيوية وأخروية بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة حيث يبدو من خلال ذلك شمول هذا القياس الدقيق. وينطوي في الآيات بالإضافة إلى ذلك هدف توطيد الكيان الإسلامي وتضامن المسلمين في نطاقه بقطع النظر عن أي اعتبار وصلة خارجة عنه.
ومن الجدير بالذكر أن القرآن المكي وصّى الإنسان والمسلم بوالديه حسنا على أن لا يطيعهما في الشرك وأن يصاحبهما في الدنيا معروفا. كما جاء في آيات سورة الإسراء [23- 24] وسورة لقمان [13- 14] وسورة العنكبوت [8] ثم تطور هذا في الآية [22] من سورة المجادلة حيث قررت أنه لا يمكن لمؤمن صادق أن يوادّ من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. ثم جاءت الآيات التي نحن في صدد تفسيرها تطورا آخر حاسما بنهيها صراحة عن اتخاذ الآباء والأبناء وغيرهم من ذوي الأرحام أولياء ونصراء إذا ظلوا كفارا. والفرق التطوري يلمح في كون الوصف في آية المجادلة هو مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهذا يعني العداء في حين أن الوصف في الآيات التي نحن في صددها هو إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وهذا لا يعني العداء دائما. وحكمة التطور تلمح في تطور حالة المسلمين والإسلام وقوتهما واشتداد أمرهما كما هو المتبادر. وفي ذلك كلّه صور من صور السيرة النبوية.(9/381)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
ومن الحق أن نستدرك في هذا الصدد أمرا وهو مدلول (الأولياء) في الآيات التي نحن في صددها من حيث كونه يعني التحالف والتناصر. بحيث يمكن أن يقال إن حكم آية سورة الممتحنة لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) لم يتعطل بالآيات التي نحن في صددها وإنه ليس فيها ما يمنع البرّ بالوالدين والأقارب والإقساط إليهم فضلا عن غيرهم ولو كانوا كفارا إذا كانوا موادّين مسالمين كافّين ألسنتهم وأيديهم عن الإسلام والمسلمين.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال: «كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال والله يا رسول الله لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه فقال عمر فأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي فقال رسول الله الآن يا عمر» . وحديثا رواه البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» وهذا الحديث رواه الشيخان والنسائي أيضا «1» وهناك حديث آخر من بابه رواه الثلاثة ومنهم الترمذي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه من سواهما وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلا لله تعالى وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار» «2» حيث ينطوي في الأحاديث تنبهات نبوية متساوقة مع مدى الآية.
[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) .
__________
(1) التاج ج 1 ص 22.
(2) المصدر نفسه.(9/382)
عبارة الآيات واضحة كذلك وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية تذكيرا للمسلمين على سبيل المنّ الرباني بما كان من نصر الله لهم في مواطن كثيرة اشتبكوا فيها مع أعدائهم وبما كان بنوع خاص في يوم حرب حنين حيث كانوا كثيري العدد فأعجبتهم كثرتهم وداخلهم الزهو فلم تفدهم كثرتهم واشتد عليهم ضغط أعدائهم حتى ضاقت عليهم الأرض على رحبها وولوا منهزمين. ثم نظر الله إليهم برحمته فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين المخلصين وأيدهم بجنود لم يروهم فدارت الدائرة على أعدائهم الكافرين ونالهم ما استحقوا من عذاب الله.
أما الآية الثالثة فقد احتوت تطمينا عاما حيث قررت كون الله من بعد ذلك يتوب على من يشاء ممن يهتدي بهداه ويستحق رحمته وغفرانه وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ.. إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت استطرادا تدعيميا للآيتين السابقتين لها هادفة إلى تقرير كون الله تعالى هو الذي نصر المسلمين وينصرهم دائما. وأن هذا يغنيهم عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان. وأن التكثر بهم لا يغنيهم شيئا. وقد رأوا مثالا على ذلك بما كان من كثرتهم يوم حنين وزهوهم بها وتيقنهم أنهم منتصرون على أعدائهم فانهزموا ليكون لهم بذلك درس وعبرة. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعليهم وأيدهم بجنود من عنده فانتصروا.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح قد انطوت على تلقين وتهذيب مستمري(9/383)
المدى يستمد منهما المسلم قوة روحية عظيمة ويجعلانه يدرك وجوب الاعتماد على الله والإخلاص له وحده وعدم التأثر بالمصالح الشخصية وجعلها تحرفه عن ذلك وعدم التضامن مع غير المخلصين مثله مهما اشتدت بينه وبينهم الروابط، وكون ذلك هو الذي يكفل له النصر والتأييد الربانيين بقطع النظر عن القلة والكثرة.
وهذا مما تكرر في مناسبات عديدة سابقة بأساليب متنوعة.
ويوم حنين المذكور في الآيات هو وقعة حربية نشبت بين المسلمين وقبائل هوازن بعد فتح مكة. وملخص ما روته الروايات عنها «1» أن هذه القبائل كانت حليفة لقريش مثل قبائل ثقيف وأن قريشا حينما علمت بزحف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أرسلت إليها تستنجد بها فتحركت للنجدة. ولكن زحف النبي صلى الله عليه وسلم كان أسرع وتمّ استيلاؤه على مكة قبل أن تصل النجدات فعاد فريق من ثقيف إلى منازله وبقي فريق مع هوازن وتحشدوا في وادي حنين على بعد ثلاث ليال من مكة نحو الطائف.
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يستطلع خبرهم فعاد الرسول يقول إنهم مجمعون على الحرب وإن المدد متواصل إليهم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل شوال على رأس (12000) فيهم نحو ألفين ممن أسلم من أهل مكة حتى لقد قال النبي أو أبو بكر أو رجل من بكر على اختلاف الروايات: لن نغلب اليوم من قلة. وكان قائد القبائل مالك بن عوف. واشتبك الفريقان. وكان عدد جيش مالك نحو أربعة آلاف. غير أنه كان فيهم رماة ماهرون. فلما اشتبك الفريقان ظهر من جانب بعض المسلمين استهتار بالعدو لقلته وكثرتهم. ورشق الرماة المسلمين بمدرار من النبل فأدى هذا وذاك إلى اضطراب صفوف المسلمين وفرار أكثرهم من الميدان عدا النبي صلى الله عليه وسلم كعادته وأبي بكر وعمر والعباس وعليّ والفضل وآخرون من أصحاب رسول الله المخلصين رضي الله عنهم. وأخذ ينادي الناس بصوته: يا أنصار الله يا أنصار رسول الله. فلم يلبث المسلمون أن هدأ روعهم وأنزل الله السكينة عليهم وعادوا إلى الميدان هاتفين: لبيك لبيك ثم حملوا على المشركين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن
__________
(1) انظر ابن سعد ج 3 ص 200- 212، وابن هشام ج 4 ص 65- 149، وتاريخ الطبري ج 2 ص 344- 360. وتفسير الطبري وتفسير البغوي أيضا.(9/384)
حمي الوطيس. وجعل يرتجز وهو على ظهر بغلته:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وأيّد الله المسلمين وقذف الرعب في قلوب المشركين فانهزموا لا يلوون على شيء واحتاز المسلمون أنعامهم وماشيتهم ونساءهم وأطفالهم، وكان عدد السبي (6000) والإبل (24000) والغنم (40000) والفضة (4000) أوقية.
وقد زحف بعد ذلك في شهر شوال على الطائف لأن معظم أهلها من ثقيف الذين كانوا حلفاء قريش وهوازن وجاءوا إلى نجدتهم. وحاصرها نحو ثمانية عشر يوما وضربها بالمنجنيق حيث كانت مسورة ولم يتيسر له فتحها ولم يخرج أهلها إلى المسلمين. وتراشق الطرفان بالنبال واستشهد نحو اثني عشر من المسلمين وأمر النبي بقطع أعنابهم وتحريقها فنادوه من وراء الأسوار وناشدوه الرحم فاستجاب وقال أدعها لله والرحم، واستشار بعض أصحابه فقال له بعضهم «ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك» فأمر رسول الله مناديا ينادي بالرحيل. وأمر الناس أن يهتفوا «آئبون تائبون عابدون لربّنا حامدون» وسألوه أن يدعو على ثقيف فقال: «اللهمّ اهد ثقيفا وائت بهم» .
وهناك حديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو في صدد حصار الطائف والانصراف عنها قال: «حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال إنا قافلون إن شاء الله. قال أصحابه نرجع ولم نفتح. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنا قافلون غدا. قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم» «1» .
وفي طريق عودته توقف في الجعرانة لقسمة سبي هوازن وغنائمها. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينعم منها على بعض زعماء مكة والقبائل زيادة على الأسهم العادية تألفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام فأعطى بعضهم مائة من الإبل وبعضهم خمسين ومنهم من أعطاه فضة ومنهم من أعطاه غنما. ثم وزع الباقي على سائر
__________
(1) التاج ج 4 ص 391.(9/385)
الناس بعد إفراز الخمس لبيت المال. وفعل كذلك بالسبي. أي أنه قرر استرقاق السبي- النساء والأطفال- ووزعهم كغنائم على المسلمين.
ولقد أرسلت هوازن وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعلنه بإسلامها وتطلب منه ردّ أموالها وسبيها فأخبرهم أنه قد وزع السبي والأموال ثم سألهم: أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم من أموالكم؟ فقالوا بلى. فقال أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله. ففعلوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.
فقال الأنصار والمهاجرون من أصحاب رسول الله وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال بنو سليم كذلك. وأبى بعض زعماء القبائل فقال رسول الله أما من تمسك بحقّه منكم من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه. فقبل الممتنعون وردّوا ما في أيديهم من السبايا.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة قتيل فسأل عن شأنها فقالو اقتلها خالد بن الوليد فأمر أحد أصحابه ليدرك خالدا ويقول له إن رسول الله ينهاه عن قتل المرأة والوليد والعسيف «1» .
ومما روي في سياق توزيع الغنائم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنح زعماءهم كما منح زعماء مكة والقبائل حتى قال قائلهم: إن رسول الله لقي قومه. ودخل عليه سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم في هذا الفيء الذي أصبت.
قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له: اجمع لي قومك فجمعهم، فأتاهم رسول الله فقال بعد حمد الله «يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم. وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم. ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله. وعالة فأغناكم الله. وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال ألا تجيبوني
__________
(1) الخادم أو المملوك.(9/386)
يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المنّ والفضل فقال لهم أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك. ومخذولا فنصرناك. وطريدا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم.
فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» «1» . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظّا فكان مشهدا من أروع مشاهد السيرة. وفيه تلقين بليغ المدى سواء أفي عظم أخلاق ووفاء السيد الرسول أم في عظم مقام الأنصار عنده أم في النظرة النبوية إلى الناس حسب قوة إيمانهم وإخلاصهم.
وفي الكتب الخمسة أحاديث نبوية في بعضها تطابق لما جاء في الروايات أو إيجاز. وفي بعضها مغايرة وتوضيح. وفي بعضها صور لم ترد في الروايات. وقد رأينا من المفيد إيرادها لإكمال الصورة ولأنها الأوثق في بابها.
من ذلك حديث رواه مسلم والبخاري عن أنس جاء فيه: «إنّ أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فسمع رسول الله من قولهم فأرسل إلى الأنصار فقال ما حديث بلغني عنكم. فقال له فقهاء الأنصار يا رسول الله أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا. وأمّا أناس منّا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألّفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 389.(9/387)
برسول الله. فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. فقالوا بلى يا رسول الله قد رضينا. قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة. فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض. قالوا سنصبر» «1» . وروى مسلم والبخاري عن أنس قال:
«جمع رسول الله الأنصار فقال أفيكم أحد من غيركم. فقالوا لا إلا ابن أخت لنا.
فقال رسول الله إنّ ابن أخت القوم منهم. فقال إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة. وإني أردت أن أجيرهم وأتألّفهم. أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم. لو سلك الناس واديا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار» «2» . وروى مسلم والبخاري عن عبد الله قال: «لمّا كان يوم حنين آثر رسول الله ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله. قال فقلت والله لأخبرنّ رسول الله فأتيته فأخبرته قال فتغيّر وجهه حتى كان كالصّرف ثم قال فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله. ثم قال يرحم الله موسى. قد أوذي بأكثر من هذا فصبر.
قلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا» «3» . وروى مسلم عن رافع بن خديج قال أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كلّ إنسان منهم مائة من الإبل. وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
__________
(1) التاج ج 4 ص 344 و 345 والحديث الأول يفيد أن ذوي الأسنان من الأنصار لم ينتقدوا.
وهم لا شك السابقون الأولون الذين سجّل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في إحدى آيات هذه السورة.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 345 و 346.(9/388)
قال فأتمّ له رسول الله مائة» «1» .
وروى البخاري ومسلم عن العباس قال: «شهدت مع رسول الله يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله فلم نفارقه وهو على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي. فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفّها لئلا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه فقال رسول الله أي عباس ناد أصحاب السمرة «2» فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة. قال فو الله لكأنّ عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها تعالوا يا لبيك يا لبيك فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث يا بني الحارث. فنظر رسول الله إلى قتالهم وهو على بغلته وقال هذا حين حمي الوطيس. ثم أخذ رسول الله حصيات فرمى بهنّ وجوه الكفار. ثم قال انهزموا وربّ محمد. قال فذهبت انظر فإذا القتال على هيئته فيما نرى. قال فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدّهم كليلا وأمرهم مدبرا. وفي رواية رماهم بقبضة من تراب وقال شاهت الوجوه. فولوا مدبرين وانهزموا وقسمت غنائمهم بين المسلمين» «3» . وفي رواية للبخاري «لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبيّ عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا. قال يا معشر الأنصار. قالوا لبيك يا رسول الله وسعديك. لبيك نحن بين يديك. فنزل رسول الله وقال أنا عبد الله ورسوله. فانهزم المشركون. فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا فقالوا في ذلك فدعاهم رسول الله فأدخلهم في قبّة. قال أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله. لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لاخترت شعب الأنصار» وفي رواية قال: «كنّا إذا احمرّ البأس نتقي
__________
(1) التاج ج 4 ص 345 و 346.
(2) السمرة هي الشجرة التي بايع أصحاب رسول الله رسول الله تحتها يوم الحديبية. وهي التي عنتها آية سورة الفتح لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
(3) التاج ج 4 ص 388 و 389.(9/389)
برسول الله. وإنّ الشجاع منّا للّذي يحاذيه» «1» .
وروى الشيخان عن أبي موسى قال: «لما فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: وبعثني النبي مع أبي عامر فرماه رجل جشميّ بسهم في ركبته فانتيهت إليه فقلت يا عمّ من رماك. فأشار إليّ فقال ذاك قاتلي الذي رماني فقصدت له فلحقته فلما رآني ولّى فاتبعته فجعلت أقول له ألا تستحي، ألا تثبت، فكفّ فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ثم رجعت لأبي عامر فقلت قتل الله صاحبك. قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء. قال يا ابن أخي أقرئ النبيّ السلام وقل له استغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس. فمكث يسيرا ثم مات فرجعت فدخلت على النبيّ فرأيته على سرير مرمل «2» ، وعليه فراش قد أثّر رمال السرير بظهره وجنبيه. فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال قل له استغفر لي فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال اللهمّ اغفر لعبيد أبي عامر. اللهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس. فقلت ولي فاستغفر فقال اللهمّ اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما. قال أبو بردة إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى» «3» .
ونستطرد إلى ذكر فتح الطائف للمناسبة أيضا. ولقد كان ذلك بعد سنة من فتح مكة. وقد جاء أحد زعماء ثقيف عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فاستأذنه في الذهاب إلى الطائف ليدعو قومه فأذن له. فلما وصل حيّا الناس بتحية الإسلام فاستنكروا فلما طلع الفجر أذّن للصلاة من فوق غرفة له فخرج الناس منكرين عليه ورماه أحدهم بسهم فانبرت عشيرته للمقابلة وكاد الشرّ يتسع بين الناس فقال رضي الله عنه تصدقت بدمي لأصلح بين الناس وهي كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها
__________
(1) التاج ج 4 ص 388 و 389. [.....]
(2) مشدود بحبال الحصر.
(3) التاج ج 4 ص 390.(9/390)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
إلي. فلما قضى نحبه جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع رفيق له فأسلما. واستدعى النبي مالك بن عوف فعهد إليه بثقيف فقال له أنا أكفيكهم حتى يأتوك مسلمين. ثم صار يغير على سرحهم ويقاتلهم حتى أعجزهم فاتفقوا على إرسال وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمفاوضته على التسليم والإسلام وجاء الوفد وكانوا سبعين رجلا وعلى رأسهم زعماؤهم عبد ياليل وابناه وكنانة وشرحبيل بن غيلان وغيرهم فسرّ النبي بمقدمهم وضرب لهم قبة في المسجد. وقد حاولوا الحصول على بعض الامتيازات فلم يتساهل معهم فاستعفوه من هدم أصنامهم بأيديهم فأعفاهم فأسلموا. وغدت الطائف في حوزة السلطان النبوي وكان ذلك في رمضان أو شوال من السنة التاسعة للهجرة «1» .
[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
. (1) عيلة: فقرا أو فاقة.
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت:
(1) خطابا للمسلمين تؤذنهم فيه بأن المشركين نجس فلا ينبغي أن يقربوا المسجد الحرام بعد هذا العام الذي أنزلت فيه الآية.
(2) وتطمينا لهم فإذا كانوا يخافون الفاقة وضيق العيش من هذا المنع فليطمئنوا فإن الله عزّ وجلّ قادر على إغنائهم من فضله. وإنه لهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصواب.
__________
(1) انظر تفصيل فتح الطائف في ابن هشام ج 4 ص 194- 200، وابن سعد ج 2 ص 77- 78.(9/391)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وما روي في صددها من أقوال وما ينطوي فيها من صور وتطور وتلقين وأحكام
لقد روى الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالنداء بأن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك قال المسلمون كنّا نصيب من بياعاتهم في الموسم فأنزل الله الآية. كما روي أنه لما نزل شطر الآية الأول وشقّ على المسلمين وقالوا من يأتينا بطعامنا ومن يأتينا بالمتاع فنزل شقّها الثاني. هذا في حين أن الطبري روى في جملة ما روى في سياق الآيات الأولى من السورة أن هذه الآية نزلت مع ما قبلها من أول السورة وكان حكمها في جملة ما نودي به يوم الحج الأكبر وهو أن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية على كلّ حال لم تنزل لحدتها ولم تنزل مجزأة وإنما هي جزء من السياق السابق أو نتيجة من نتائجه. فالآيات السابقة أمرت بقتال المشركين الناكثين وقررت عدم أهلية المشركين كافة لعمارة مساجد الله. ولقد كان من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانه يوم الحج الأكبر أن لا يحج بعد الآن مشرك على ما رويناه قبل.
ولقد علم الله أن حياة أهل مكة كانت تقوم على الخارج تجارة وغذاء. وأن أهلها سوف يستشعرون خوفا من أن يضيق بالمنع رزقهم ومعيشتهم فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية تبريرا للمنع من جهة وتطمينا لأهل مكة من جهة أخرى.
ولما كان نزول الآيات والنداء يوم الحج الأكبر الذي أمرت الآية الثالثة من السورة وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم له بواسطة أبي بكر وعلي رضي الله عنهما قد وقع بعد سنة من فتح مكة وبعد فتح الطائف ودخول هوازن وثقيف أقوى قبائل منطقة الحجاز في الإسلام بالإضافة إلى أهل مكة ومعظم من حولها من القبائل فإن معنى هذا أن ذلك قد وقع بعد أن صارت هذه المنطقة جميعها في حوزة السلطان الإسلامي(9/392)
وصار معظم أهلها مسلمين حيث صار في الإمكان منع من بقي على شركه من العرب من دخول منطقة المسجد الحرام وممارسة طقوس تتنافى مع دين الله الذي توطّد فيها. وينطوي في هذا صورة لتطور الدعوة الإسلامية وانتشارها وقوتها وسلطانها تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد حجّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه السنة الحجة التي سميت حجة الوداع لأنه مات بعدها بقليل. ومن الممكن أن يلمح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحجّ ويكون في من يشهدون الحجّ مشركون فأرسل أبا بكر أميرا للحج وأرسل معه الأمر بمنع المشركين بعد هذه السنة من دخول المسجد الحرام تنفيذا لهذه الآية. فلمّا تمّ ذلك بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحجّ في السنة التالية حيث لم يشهد الحجّ معه إلا المسلمون.
ولقد تعددت أقوال المفسرين وأهل التأويل من التابعين الذين يروي المفسرون أقوالهم في مفهومهم لنجاسة المشركين. وتحديد المنطقة المحرمة.
وشمول التحريم:
1- فبالنسبة للنقطة الأولى فهناك من قال إن نجاستهم عينية كنجاسة الكلب والخنزير وإن على من يمسّهم ويصافحهم أن يغسل يده أو يتوضأ. وهناك من قال إنها نجاسة حكمية. وأكثر المذاهب الفقهية على القول الثاني. وهو الأوجه إذ المتبادر أن الوصف منبثق من ما كان عليه المشركون من عقائد باطلة. وما كانوا يمارسونه من تقاليد شنيعة من جملتها الطواف في حالة العري وأكل الميتة والتزوج بزوجات الآباء وعدم التطهر من الجنابة إلخ. وكل هذا نجاسة معنوية مما يتنافر مع قدسية المسجد الحرام وطهارته.
2- وبالنسبة للنقطة الثانية هناك حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وأورده ابن كثير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا إلّا أهل العهد وخدمهم» حيث يفيد ظاهر هذا الحديث أن المنع هو للمسجد. وهناك قول يرويه الزمخشري عن عطاء أحد كبار التابعين بأن المراد بالمسجد هو الحرم(9/393)
أي منطقة الحرم بل هناك قول رواه الزمخشري أيضا عن مالك أن المنع شامل لكلّ مساجد المسلمين.
ولما كان نصّ الآية قطعيا بأنها في صدد المسجد الحرام فإن تشميل المنع لكل مسجد أو لغير المسجد الحرام هو غلوّ لا مبرر له. ولما كان على القادم إلى مكة أن يحرم من حدود الحرم المعروفة خارج مكة فالمتبادر أن المنع هو لمنطقة الحرم ويكون قول عطاء هو الأوجه وهو ما عليه الجمهور. وليس في هذا نقض للحديث المروي عن جابر في حالة صحته. فإن روح الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر المسجد الحرام تلهم أن المقصد من التعبير منطقة المسجد الحرام «1» وآية العنكبوت هذه أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [67] . وآية القصص هذه وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [57] بنوع خاص تلهمان ذلك بكل قوة.
3- وبالنسبة للمسألة الثالثة فإن الحديث الذي رواه جابر وأورده ابن كثير يفيد أن المنع للمشركين دون الذميين «2» . وقد روى الطبري عن جابر مع ذلك قولين متناقضين أحدهما يجعل المنع شاملا للذميين. وثانيهما لا يشمله. وروي عن قتادة أن المنع للمشركين وأن الذميين وعبيد المسلمين مستثنون منه. وروي أن عمر بن عبد العزيز أمر بمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام بهذه الآية. ويظهر أنه لم يثبت عنده حديث جابر من جهة واجتهد بأن قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله هو شرك بوجه ما. ومنع اليهود والنصارى بالإضافة إلى المشركين من دخول المسجد الحرام هو الذي عليه التعامل المتواتر منذ صدر الإسلام إلى اليوم. ولقد قال البغوي وتابعه الخازن إن علماء الإسلام يقسمون بلاد الإسلام بالنسبة للكفار إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) اقرأ آيات سورة الفتح [25] وسورة الحج [75] وسورة الأنفال [34] مثلا. فالصدّ في هذه الآيات كان عن منطقة الحرم وعن الحج ويدخل في ذلك الكعبة وفناؤها.
(2) والمقصود بكلمة الذميين في الأعمّ الأغلب أهل العهد من الكتابيين.(9/394)
(1) الحرم المكي: فلا يجوز لكافر أن يدخله ذميا كان أو مستأمنا. وننبه على أن كلمة الكافر تطلق على كل جاحد برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. فيدخل في ذلك أهل الكتاب وغيرهم.
(2) الحجاز: فيجوز للكافر دخولها بإذن ولمدة مؤقتة دون الإقامة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب. وعدم السماح بوجود دينين فيها. ومعنى هذا منعهم من الإقامة فيها.
(3) سائر بلاد الإسلام: فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان. على أن لا يدخل مساجد المسلمين إلّا بإذن منهم. وهو تقسيم وجيه مع التنبيه على أن التعليل بالنسبة للقسم الثاني يقتضي أن يكون منع الإقامة الدائمة شاملا لجميع جزيرة العرب وليس للحجاز فقط. وقد يكون الجاري في الحجاز هو هذا حيث إن أهلها جميعهم مسلمون وإن غير المسلمين الذين يقيمون في جدة إنما يقيمون إقامة مؤقتة. ولا يمكن أن يقال هذا بالنسبة لليمن مثلا التي كان وما يزال يسمح لليهود بالإقامة فيها إقامة دائمة. ولعلّ شيئا من هذا جار في أنحاء جزيرة العرب الجنوبية والشرقية والغربية الأخرى.
ولم يذكر أصحاب التقسيم المسجد النبوي بخاصة والمساجد في جميع جزيرة العرب بعامة. واقتصر كلامهم على أن دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين في غير جزيرة العرب منوط بإذن المسلمين.
وما دام النص القرآني محصورا في المسجد الحرام وليس هناك أثر ثابت صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره فالمقتضى أن يكون دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين غير محرّم باستثناء المسجد الحرام. والجاري اليوم بالنسبة للمسجد النبوي هو التحريم مع أن من المتواتر الذي بلغ حدّ اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يستقبل في مسجده إلى آخر حياته طوائف من الكفار مشركين وكتابيين ومعاهدين وغير معاهدين لمصالح ومقاصد متنوعة وأن خلفاءه الراشدين فعلوا ذلك أيضا.
والآية [28] من هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجارة من يستجيره من(9/395)
المشركين حتى يسمع كلام الله تنطوي على قرينة قرآنية بالإباحة لأن النبي إنما كان يستقبل جميع الناس من غير المسلمين في مسجده.
ولقد روى مسلم والترمذي عن عبد الله بن زيد بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنّ إبراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها. وإني حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة.
وإني دعوت في صاعها ومدّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» «1» .
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن علي قال: «من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلّا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب. فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات. وفيها قول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا. وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. زاد في رواية فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» «2» وروى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «حرّم رسول الله ما بين لابتي المدينة. فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها. وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» «3» . ومع أن المتبادر من هذه الأحاديث هو تحريم سفك الدماء فيها وضمان الأمن لمن يكون فيها كما هو الأمر بالنسبة للحرم المكي ومداه قد يكون ما درج عليه المسلمون منذ العهود القديمة من عدم السماح لغير المسلمين بدخول المدينة مستمدا من ذلك. والله تعالى أعلم.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المذكور في الفقرة الثانية بعدم السماح بوجود دينين في جزيرة العرب وإخراج اليهود والنصارى منها جاء في أحاديث عديدة. منها حديث رواه ابن هشام والطبري والبلاذري ونصّه: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» «4» .
__________
(1) التاج ج 2 ص 167 و 168.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) انظر ابن هشام ج 4 ص 345 وتاريخ الطبري ج 2 ص 534 و 535 وفتوح البلدان للبلاذري ص 73.(9/396)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
وحديث رواه الإمام أبو عبيد بن القاسم في كتاب الأموال وهو «أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» «1» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» «2» .
ومما لا شكّ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هدف بذلك إلى غاية عظيمة. وهي تحصين جزيرة العرب من تعدد الأديان وما يؤدي هذا إليه من شقاق ونزاع ودسائس ومكائد وجعلها بلادا خالصة للإسلام وحده. وهي موطن الجنس العربي الذي حمل راية الإسلام. ومهبط الوحي الإلهي على نبي الإسلام. وفي هذا كلّ الحكمة والحق.
[سورة التوبة (9) : الآيات 29 الى 35]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) .
__________
(1) كتاب الأموال ص 99.
(2) التاج ج 4 ص 361.(9/397)
(1) الجزية. قيل إنها من الجزاء بمعنى المكافأة والمقابلة. وقيل إنها الإجزاء بمعنى الإكفاء، وقيل إنها من الجزي بمعنى القضاء، وعلى القول الأول يكون معناها في مقامها (جزاء إقرار أهل الكتاب على ما هم عليه) وعلى القول الثاني (اجتزاء بها عن إسلامهم) وعلى القول الثالث (قضاء ما عليهم) وعلى كل حال فالكلمة اصطلاح للضريبة التي يدفعها المغلوب المستسلم لغالبه مقابل إقراره على ما هو عليه والدفاع عنه. ونرجح أنها كانت في هذا المعنى في اللغة قبل الإسلام أيضا. ولقد قال بعضهم «1» إنها فارسية معربة من لفظ (كزيت) وكان الفرس يستعملونها في المعنى المراد منها. وقد يكون هذا صحيحا. وقد تكون أصالة عروبتها هي الصحيحة. ونحن نميل إلى هذا ما دام في العروبة جذر مناسب لها ولا يبعد أن تكون دخلت إلى اللغة الفارسية وحرّفت فيما بعد. وعلى كل حال فمما لا ريب فيه أن الكلمة بصيغتها مما كان العرب قبل الإسلام يتداولونه في معناها.
(2) يضاهئون: يشتبهون ويماثلون.
تعليق على الآية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملّة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين
__________
(1) انظر تفسير رشيد رضا.(9/398)
صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله إن النبي صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال: إن لمسلمين لمّا قالوا من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية [29] وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية إن الآية نزلت على رسول الله بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزولها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عزّ وجلّ قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي لم يكن قد حارب الروم ثم أن لا يكون النبي قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأوّلا أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهمّا يسدّ ثغرة واسعة في حياة(9/399)
المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة [28] هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مرّ شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية [94] من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا أن النبي صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [33- 64] من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سريّة في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية «1» . ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي «2» وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه «3» ، وشلّح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر «4» . وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين إلى آخر لغزو المدينة «5» . فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر ابن سعد ج 3 ص 132.
(2) المصدر نفسه ص 174. [.....]
(3) ابن سعد ج 2 ص 46 و 117.
(4) ابن سعد ج 3 ص 131.
(5) المصدر نفسه ص 103- 104 و 177- 188.(9/400)
يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين حيث قاد النبي في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد 15 أو 16 ليلة من المدينة وعاد منها دون اشتباك لأن قبائلها فرت وتفرقت «1» . ثم سيّر حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلّحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم «2» . ثم سيّر حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية «3» . ثم سيّر جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد «4» . ثم سيّر حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها «5» حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك
__________
(1) ابن سعد ج 3 ص 103- 104.
(2) المصدر نفسه 131- 132.
(3) المصدر نفسه ص 132.
(4) المصدر نفسه ص 174- 177 وابن هشام ج 3 ص 427- 447.
(5) ابن سعد ج 3 ص 77- 78.(9/401)
وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحثّ والتبرير والتعليل وحسب.
والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام «1» فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما عاد من تبوك فكّر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلّ يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيّره خليفته الأول أبو بكر ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام فسيّر الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر
__________
(1) ابن سعد ج 2 ص 218- 221 وابن هشام ج 4 ص 169- 221 وتاريخ الطبري ج 2 ص 361- 367 والبلاذري ص 66- 69.(9/402)
والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحثّ والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير أَهْلَ الْكِتابِ في الآية الأولى وذكر اليهود مع النصارى في الآيات التالية لها قد قصد به التشريع العام ليشمل اليهود والنصارى في أي ظرف آخر غير الظرف الذي نزلت الآيات فيه. ولقد جاءت الآيات بأسلوب تشريعي مطلق مما فيه تأييد لذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره «1» عن أهل التأويل من التابعين في تأويل جملة: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وجملة: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. فرووا في صدد الأولى أن معناها (لا يحرمون ما حرمه نبينا صلى الله عليه وسلم) كما رووا أن معناها (لا يحرمون ما حرّمه رسلهم وكتبهم) . ورووا في صدد الثانية أن معناها (لا يطيعون الله حق الطاعة أو لا يطيعون طاعة أهل الحق) ، كما رووا أن معناها (لا يدينون بدين الإسلام) . وبعض هذه الأقوال تقتضي أن يكون المسلمون قد أمروا بالآية الأولى بمقاتلة كل كتابي على الإطلاق لا يحرّم ما حرّم الله ورسوله محمد ولا يدين بالإسلام حتى يعطي الجزية للمسلمين. وهذا في اعتقادنا وحسب ما شرحناه في مناسبات سابقة يتناقض مع المبدأ العام المحكم الذي قررته آيات سورة النساء [90- 91] وبخاصة آيات سورة الممتحنة [8- 9] والذي هو متسق مع المبادئ القرآنية الجهادية عامة على ما شرحناه في المناسبات السابقة. والذي لا يتسق عكسه مع طبائع الأمور بسبب وجود أمم بعيدة لا صلات بينها وبين المسلمين ولا صدام ولا خصام. وبسبب بعد احتمال أمر القرآن بقتال من يمكن أن يكون مسالما موادّا حسن السلوك والنيّة نحو المسلمين وبدليل ما أثر
__________
(1) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(9/403)
عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من نهي عن قتال وقتل غير المحاربين كالنساء والأطفال والشيوخ والرهبان مما أوردنا نصوصه في تعليقنا المسهب في سورة الكافرون ومناسبات أخرى «1» . وقد يكون من الأدلة على ذلك ورود حرف (من) التبعيضية في الآية. وروح الآية والأوصاف المذكورة فيها أولا وروح الآيات الأخرى ثانيا يسوغان الأخذ بالأقوال الأخرى وهي عدم تحريم ما حرّمه الله ورسله في الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء أهل الكتاب وعدم طاعتهم لله حقّ الطاعة وعدم احترامهم حقوق غيرهم ودمائهم وأموالهم مما يدخل فيه العدوان على القوافل وإخافتها وسلب أموالها وقتل أفرادها إلخ. وقد يدعم هذا جملة:
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ التي لا تصح على جميع أهل الكتاب الذين منهم من كان وما يزال يؤمن بالله واليوم الآخر بصورة ما. كذلك مما يدعمه ما ذكرته الآيات من إرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم مما يتسع لمعنى تعطيل الدعوة إلى دين الله والصدّ عنه. وهذا قد نسب بصراحة إلى أحبار اليهود ورهبان النصارى في الآيات مع نسبة أكل أموال الناس بالباطل. وهو من موجبات الجهاد الإسلامي ومبرراته على ما شرحناه في المناسبات السابقة. يضاف إلى ذلك كلّه قيام حالة الحرب بين المسلمين وسكان مشارف الشام والروم منذ السنة الخامسة بسبب عدوانهم بأساليب وصور متنوعة نشأت عنها تلك السلسلة من الحركات الحربية التي ذكرناها ثم تسيير خليفة النبي بعد وفاته الجيوش.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل كذلك في جملة: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ حيث رووا أن معنى عَنْ يَدٍ هو أن تدفع الجزية نقدا لا نسيئة ومن قبل المستحقة عليهم وجاها كما يقول العرب أعطيته يدا بيد وكلمته فما بفم. كما رووا أن معناها القهر لأن العرب يقولون لكل معط لقاهر
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 327- 329 وكتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص 37- 39 وكتاب أبي بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص 326- 328 وسيرة أبي بكر وعمر في أشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم وكتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 118 وما بعدها ووصية أبي بكر في موطأ الإمام مالك.(9/404)
له شيئا طائعا أم كارها (إعطاء عن يد) . وحيث رووا في صدد كلمة صاغِرُونَ أنها تعبير عن حالة الصغار التي يتلبس بها المعطي وأن الإعطاء هو الصغار كما رووا أنها في صدد إيجاب إعطاء الجزية من قبل أصحابها في حالة تلبس الهوان والذلة كأن يعطوها وهم واقفون لقابضها وهو جالس وكأن يدفعوا أو يلبّبوا أو يصفعوا حينما يعطونها. وقد استنكر الإمام النووي إهانة الكتابيين وصفعهم حين إعطائهم الجزية وقال إنها سيئة باطلة على ما رواه المفسر القاسمي.
والذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تعني حتى يخضعوا ويستسلموا للمسلمين ويرضوا بسلطانهم عليهم، وفي هذا يتحقق هوانهم وصغارهم. ولقد روي أن عياض بن غنم رأى نبطا يعذبون في الجزية فقال للجابي إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا» «1» .
وروي أن عمر أتي بمال كثير من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟
قالوا: لا. والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال بلا سوط ولا نوط. قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني «2» .
وروي أن عمر مرّ على قوم أقيموا في الشمس يصبّ فوق رؤوسهم الزيت وهو راجع من الشام فقال ما بال هؤلاء فقالوا عليهم الجزية لم يؤدوها. فهم يعذبون حتى يؤدوها فقال عمر فما يقولون ويعتذرون به. قالوا يقولون لا نجد، قال فدعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإني سمعت رسول الله يقول: «لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة» وأمر بهم فخلّي سبيلهم «3» . ولقد قال الإمام أبو يوسف في كتابه (الخراج) الذي رفعه لهارون الرشيد عن شؤون المال والخراج إنه لا يجوز ضربهم في استيدائهم الجزية ولا يوقع عليهم في أبدانهم شيء من المكاره «4» . والصفع والتلبيب والإهانة من
__________
(1) كتاب الأموال ص 43.
(2) المصدر نفسه وفسّر الناشر كلمة (نوط) بالتعليق وهو على ما يبدو نوع من التعذيب.
(3) كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 69- 72. [.....]
(4) المصدر نفسه.(9/405)
التعذيب. وإذا كان عمر بن الخطاب وعياض بن غنم رضي الله عنهما وجدا تعذيب الذمّي على تأخّره في دفع الجزية منطبقا على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الناس وإنذاره وأنكراه. وإذا كان الإمام أبو يوسف يقول إنه لا يجوز بناء على ذلك ضرب الذمي وإحداث أي مكروه في بدنه في استيدائه الجزية. فمن باب أولى أن يكون ضربه وتعذيبه وإهانته وهو مقبل على دفعها منكرا غير جائز بل موضعا لإنكار أشد. وهو مما يقوي قول الإمام النووي رحمه الله ويدل على التسامي الإسلامي.
ومن تمام هذا التسامي الحديث الذي رواه أبو يوسف عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء فيه: «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه» . والرواية التي رواها عن عمر بن الخطاب حين حضرته الوفاة حيث قال: «أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم» «1» . وهذا يعني أن خلفاء رسول الله وكبار أصحابه الذين كانوا الأكثر اتصالا به والأفهم لمنهجه ولمدى التلقين القرآني قد فهموا أن الجزية تعني قبول دخول معطيها في ذمة المسلمين وسلطانهم وأن على المسلمين وسلطانهم الدفاع عنهم وضمان سلامتهم وحريتهم الدينية وغير الدينية ومنع الأذى عنهم. ولقد حدث حادث رائع عظيم المغزى دلّ على أن أصحاب رسول الله كانوا على هذا الهدى السامي حيث روى الإمام أبو يوسف أن أهل الذمة لما رأوا وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونا للمسلمين على أعدائهم. وقد بعثوا رجالا من قبلهم يتحسسون أخبار الروم فرجعوا يخبرون أهل مدنهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله فأتى رؤساء المدن الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم- وكان ذلك في بلاد الشام- فأخبروه فكتب وإلي كل مدينة إلى أبي عبيدة بذلك.
وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال يأمرهم أن يردوا على أهل مدنهم ما جبي منهم من جزية وخراج وأن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر الآن على ذلك. ونحن لكم على الشرط وما
__________
(1) كتاب الأموال ص 71.(9/406)
كتبناه بيننا إن نصرنا الله عليهم. فلما فعلوا قال أهل المدن ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئا «1» . وينبغي أن لا يشك في صحة هذه الرواية إجمالا. فإنها لم تسق للدفاع عن المسلمين في ذلك الوقت الذي لم يكن للدفاع محلّ. والإمام أبو يوسف كتب كتابه قبل نهاية القرن الهجري الثاني وهو من أقدم الكتب التي وصلت إلينا إن لم يكن أقدمها.
ولقد أوّل ابن كثير جملة عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ بقوله: أي ذليلون حقيرون مهانون. وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اشترط عليهم بناء على ذلك تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم حيث روى رواية عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: «كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من رأينا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشّا للمسلمين ولا نعلّم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا.
__________
(1) كتاب الخراج ص 80- 81 وليس هذا الحادث هو الفريد فهناك حوادث مماثلة ونصوص عديدة يشترط قواد المسلمين على أنفسهم لأهل الذمة الدفاع والمنعة. انظر أمثلة عديدة في تفسير رشيد رضا في سياق تفسير الآيات.(9/407)
ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زيّنا حيثما كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا. وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلّا ضربا خفيفا. وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا بعوثا ولا نرفع أصواتنا. ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم» . قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه «ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حلّ لكم منّا ما يحلّ من أهل المعاندة والشقاق» . وتأويل ابن كثير رحمه الله للجملة بعيد عن روح الأحاديث المروية. والكتاب الذي يورده ويقول إن الأئمة الحفاظ قد رووه والذي كتبه نصارى مدينة لم يذكر اسمها عجيب غريب في بدايته ونهايته وفحواه وأسلوبه. فهو من حيث الأصل بعيد عن روح الأحاديث المروية. وليس هناك أي سبب محتمل لكتابة أهل المدينة النصرانية لهذا الكتاب إذا كان هناك عهد سابق بينهم وبين عمر.
ولم يرو التاريخ أن عمر شهد فتح وتسليم مدينة ما غير مدينة بيت المقدس.
وعبارة العهد الذي روي أنه كتبه لأهلها وفحواه مناقضان مناقضة صارخة لعبارة هذا الكتاب وفحواه كما ترى فيما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيّزها. ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من(9/408)
أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم.
ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة خمس عشرة» «1» . وكلمات (ما كان للمسلمين من خطط- أي أحياء وحارات. وأسواق المسلمين ومنازلهم) قرائن لا تدحض على افتعال الكتاب لأنه لم يكن للمسلمين قبل الفتح خطط وأسواق ومنازل. وما كان يمكن أن يفرض ذلك سلفا لأن حركة الفتح لم تكن انتهت ولم تكن احتمالات الانتكاس والانتقاض مستحيلة. ولم يكن يعرف ما هو تصرف المسلمين بعد نهاية الفتح واستقراره. والغالب أن النصارى أظهروا في دور من أدوار الحكم الإسلامي مخامرة أو أقدموا على مغامرة كان لها وقع شديد وعميق في نفوس المسلمين وحكامهم فتشدد المسلمون معهم في المقابلة وألزموهم بما ذكره الكتاب ولعل بعضهم افتعله بسبيل ذلك. ولقد روت مصادر التاريخ الإسلامية والمسيحية القديمة «2» أن الموارنة أو المردة والجراجمة ومن على مذهب الروم من النصارى «3» ناصروا الروم حينما جاءت جيوش الفتح ثم استجابوا لتحريكاتهم في أثناء المنازعات التي نشبت بين الأمويين والهاشميين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى اغتناما لفرصة انشغال المسلمين بأنفسهم ثم ناصروا الصليبيين في حركتهم
__________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 105.
(2) انظر كتاب تاريخ الموازنة المفصل للمطران الدبس ص 34 وما بعدها و 186 وما بعدها وفتوح البلدان للبلاذري ص 166 وما بعدها.
(3) كان نصارى بلاد الشام ومصر والعراق على مذهبين مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح التي مداها أنه ليس إلها كاملا ولا إنسانا كاملا وأنه مزيج من الناسوتية واللاهوتية. ومذهب الطبيعة الثانية التي مؤداها أن المسيح إله كامل وإنسان كامل. وكان المذهب الأول مذهب غالبية أهل هذه البلاد والثاني مذهب الروم أصحاب السلطان.(9/409)
في القرن الخامس ثم في القرنين السادس والسابع الهجريين. فلعلّ ذلك مما أثار حنق المسلمين عليهم وجعلهم يلزمونهم بما جاء في الكتاب. ومن الحق أن ننبه على أن في كتاب الخراج لأبي يوسف «1» أقوالا فيها تساوق مع بعض ما جاء في الكتاب من إلزام للذميين بزي خاص وهيئة خاصة عزوا إلى عمر بن الخطاب. غير أن هذا لا يجعلنا نغير موقفنا وتوقفنا بناء على ما شرحناه من دلائل قوية. وكل ما في الأمر هو أن تكون مواقف بعض الذميين التي أثارت المسلمين كانت مبكرة فكان ذلك مؤديا إلى ردّ فعل مبكر والله تعالى أعلم.
ولقد روى الطبري وغيره «2» أقوالا عديدة عن أهل التأويل كذلك في صدد الذين تقبل منهم الجزية، حيث اعتبر بعضهم على ما يستفاد منها أن النص القرآني قاصر على أخذها من الكتابيين ومنع أخذها من غيرهم وقتاله إلى أن يتوب ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ولم يجز بعضهم أخذها من الكتابي العربي وجعله في زمرة الغير الذي لا يقبل منه إلا الإسلام وقصر أخذها على الكتابي الأعجمي. ومنهم من أجاز أخذها من المشركين والوثنيين الأعاجم دون العرب بالإضافة إلى جواز أخذها من الكتابيين العرب والعجم. ومنهم من أجاز أخذها من جميع الكفار سواء أكانوا كتابيين أم مشركين أو وثنيين وعربا أم عجما. والذين قصروا إباحة أخذها على الكتابيين أجازوها من المجوس لورود آثار نبوية في ذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب قال كيف نصنع بالمجوس فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب وأشهد أنه أخذها من مجوس هجر وشهد آخرون أنه أخذها من مجوس البحرين أيضا «3» . وقد رووا رواية عن علي بن أبي طالب فيها تعليل للحديث النبوي ومفادها أنهم كانوا أهل
__________
(1) كتاب الخراج ص 72.
(2) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(3) روى هذا الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج ص 73- 75 ورواه الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال ص 31، 32. وانظر التاج ج 4 ص 347 أيضا فإن فيه حديثا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر وحديثا رواه الترمذي أنه أخذها من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من بني فارس وأن عثمان أخذها من الفرس أو البربر.(9/410)
كتاب. وقد أوردنا نصّ هذه الرواية في سياق تفسير الآية [5] من سورة المائدة.
والقول بعدم أخذ الجزية من كتابيي العرب ينقضه ما هو مروي بطرق وثيقة من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من نصارى نجران على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. والذي يتبادر لنا إلى هذا أن الأمر بقتال أهل الكتاب الموصوفين حتى يعطوا الجزية لا يعني حصر ذلك فيهم وأنه إنما جاء في سياق استنفار المسلمين إلى قتالهم وأن الرأي الذي يقول بجواز أخذها من الكفار إطلاقا عربا كانوا أم عجما وكتابيين كانوا أم مشركين ووثنيين وهو قول الإمام مالك هو الأوجه. ولقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى الحرب بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال وشريح بن عبد كلال أقيال ذي رعين ومعافر وهمدان في أنحاء اليمن يعرض عليهم الإسلام وإن أبوا فالجزية «1» . وأنه كتب بمثل ذلك إلى أسد عمان من أهل البحرين «2» وهؤلاء لم يكونوا أهل كتاب. وقد روي أنه حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بأن يأخذ من كل حالم من المعافر دينارا أو عدله «3» . وهذا جزية أيضا. وهؤلاء عرب. ولم يرو أحد أنهم كتابيون. وفي حديث بريدة الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الكافرون إجازة نبوية بأخذ الجزية من أعداء المسلمين المشركين إذا أبوا الإسلام «4» وفي كل هذا دليل على صحة هذا القول ووجاهته.
ولقد اختلفت الروايات والأقوال في مقدار الجزية ومن يجب عليهم دفعها من أهلها. وليس هناك نصوص نبويّة وراشدية صريحة باتّة في ذلك. وإنما هناك روايات عمّا فرضه النبي صلى الله عليه وسلم حيث روي أنه فرض دينارا على كلّ حالم من المعافر «5» وفرض على نصارى نجران ألفي حلّة في السنة «6» وفرض على أهل جربا
__________
(1) كتاب الأموال ص 27.
(2) المصدر نفسه.
(3) كتاب الأموال ص 26.
(4) انظر الحديث في التاج ج 4 ص 327.
(5) كتاب الأموال ص 26. [.....]
(6) ابن سعد ج 2 ص 120.(9/411)
وأذرح مائة دينار في السنة «1» . وفرض على أهل مقنا ربع غزو لهم وربع ثمارهم «2» .
ولقد روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق (الفضة) أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي أن عمر بعث عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف إلى أهل الكوفة فوضعوا على كل رجل أربعة وعشرين درهما فأجاز عمر ذلك. وفي رواية أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين درهما. وأربعة وعشرين درهما. واثني عشر درهما. وقد روى الإمام نفسه أن ابن نجيح سأل مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع النبي على أهل اليمن؟ فقال: لليسار «3» . حيث يبدو من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقدرون الجزية حسب حالة الناس المفروضة عليهم وطاقتهم. وقد روى الإمام أبو عبيد أن خلفاء المسلمين كانوا لا يرون الزيادة على ما وظف عمر بن الخطاب بل وكانوا يرون النقصان في ذلك إذا عجزوا عن الوظيفة. وفضلا عن ذلك فقد كانوا يعفون النساء والصبيان إطلاقا والعميان والزمنى والمقعدين والرهبان إذا لم يكن لهم مال. وكان الخلفاء يأمرون بالرفق بأصحابها وعدم الإصرار على أخذها منهم ذهبا وفضة ويأخذها بدلا من غلة الأرض والماشية وصناعة اليد على ما رواه الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد «4» . بل كانوا يسقطونها عن العاجز عن أدائها ويرتبون لهؤلاء إذا طعنوا في السنّ مرتبات من بيت المال حيث روى الإمام أبو يوسف خبرا رائعا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء فيه أن عمر بن الخطاب مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل وهو شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي قال فما ألجأك إلى ما أرى قال أسأل الجزية والحاجة والسنّ، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى
__________
(1) ابن سعد ج 2 ص 55.
(2) المصدر نفسه ص 41.
(3) انظر هذه الأحاديث في كتاب الأموال 39- 41 وانظر التاج ج 4 ص 347.
(4) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص 70- 72 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 36- 47.(9/412)
منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين وهذا من المساكين ووضع عنه الجزية وعن ضربائه «1» . وحيث روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى واليه بالبصرة أن لا يأخذ الجزية إلّا ممن أطاق حملها وأن يجري على من كبرت سنّه وضعفت قوته وولّت عنه المكاسب من أهل الذمة من بيت المال ما يصلحه لأنه بلغه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد فعل ذلك «2» . ومما ورد في موطأ مالك «3» قوله «مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم ولا تؤخذ إلّا من الذين بلغوا الحلم. وليس على نخلهم وكرومهم ومواشيهم صدقة (أي زكاة) لأن الصدقة قد وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردّا على فقرائهم. وليس على أهل الكتاب سوى الجزية. إلّا أن يتجروا في بلاد المسلمين فيؤخذ منهم العشر فيما يدبرون من تجارات. ويعامل المجوس معاملتهم» . والشاهد في هذا الكلام السنة التي استثنت النساء والصبيان من الجزية. مما هو متساوق مع المقتبسات السابقة. وفي كل هذا ما فيه من العدل والتسامح الإسلامي.
ولقد رويت سنن راشدية «4» بالنهي عن إعنات دافعي الجزية وعدم التشدد في أخذها ذهبا وفضة وجواز أخذ عدلها سلعة ما من غلّة أو صنعة يد. وهذا متساوق مع ذلك العدل والتسامح.
ويلحظ أن القرآن لم يذكر مصارف الجزية. وقد تكون الحكمة في ذلك أن الآية لم ترد في معرض التشريع لمورد قد تحقق كما هو الشأن في الغنائم والفيء والزكاة. والجزية من حقّ بيت مال المسلمين. ولقد ذكرت مصارف حصة بيت المال من الغنائم والفيء في آيات سورة الأنفال [41] وسورة الحشر [7] وهذه
__________
(1) كتاب الخراج ص 72.
(2) كتاب الخراج لأبي يوسف ص 72 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 45.
(3) الموطأ ج 1 ص 152 و 153.
(4) كتاب الأموال 43- 46 والخراج 68 وما بعدها.(9/413)
الحصة توزع على مجموعتين وهما المصالح العامة والمحتاجون. ومصارف الزكاة أيضا مثل ذلك على ما سوف يأتي شرحه في سياق الآية [60] من هذه السورة.
ويسوغ القول قياسا على ذلك أن مورد الجزية يصرف بدوره على المجموعتين.
والله أعلم. ولقد عدّ الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام الجزية من الفيء «1» . وفي هذا تأييد لما نقول.
والمتبادر أن تقرير مبدأ الصلح مع المحاربين الكفار على الجزية قد انطوى على تبرير غاية الجهاد الإسلامي وهي إخضاع المحارب وخضد شوكته حتى لا يكون قادرا على الإخلال بأمن المسلمين ومصالحهم وحريتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها. ونصّ الآية الأولى يلهم بقوة أنه ليس للسلطان الإسلامي أن يمتنع عن المصالحة على الجزية في حالة قهر المحارب وخضوعه واستسلامه وإعلان رغبته في الصلح واستعداده لأداء الجزية. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة أيضا.
فالقتال شرّع لدفع العدوان والمقابلة من جهة وتأمين حرية الدعوة وأمن المسلمين ومصلحتهم وكرامتهم واحترام دينهم من جهة أخرى. فإذا ما أعلن المحارب خضوعه للسلطان الإسلامي وأصبح المسلمون في أمن على حريتهم ومصلحتهم وحرية الدعوة إلى دينهم واحترام دينهم دون أي عثرة ومناقضة فيكون المقصد قد حصل ولم يبق ما يسوغ تجاوزه. وآيات الأنفال هذه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) صريحة في ذلك على ما شرحناه في سياق تفسيرها.
ولقد روى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إنّكم لعلّكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح. فلا تأخذوا منهم فوق ذلك فإنّه لا يحلّ لكم» «2» حيث يفيد أن إجابة المسلمين لطلب الصلح من المحارب على الجزية أمر واجب وطبيعي فضلا عن ما
__________
(1) كتاب الأموال ص 18.
(2) المصدر نفسه ص 143.(9/414)
يفيده الحديث من حظر الطمع في أموالهم وابتزاز شيء منها فوق ما صالحوا عليه.
ومن باب أولى أن يقال إن العدو إذا جنح للسلم بدون حرب على شرط الخضوع وأداء الجزية وجب مقابلته بالجنوح إليها. وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم طوائف عديدة على الجزية بدون حرب حينما طلبوا ذلك، منهم نصارى نجران والمعافر وأكيدر دومة ويهود فدك وتيما والجربا ويوحنه بن رؤبة ملك أيلة ويهود بني جنبه والغريض وبني عاديا والمقنا وأذرح «1» .
وقد يرد سؤال وهو هل يصح لولي أمر المسلمين أن يعقد صلحا مع عدو غير مسلم أو غير كتابي بدون جزية؟ فجوابا على هذا السؤال نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد صلحا بدون جزية مع أعداء محاربين وهو صلح الحديبية مع قريش. وفي آيات الأنفال [61، 62] إجازة بالجنوح إلى السلم إذا جنح لها العدو. وليس هناك قرينة على أن ذلك كان منوطا بالجزية. وقد يصح أن يقال إن الآية [29] التي نحن في صددها قد نزلت بعد ذلك. وإن المعقول أن يكون الأخير ناسخا أو معدلا للأول. غير أن المتبادر لنا أن روح آيات الأنفال وفحواها وسياقها تلهم أنها تشريع مستمر التلقين لاتساقه مع ظروف الحياة وطبائع الأمور. فهناك احتمالات دائمة لقيام ظروف لا تسمح للمسلمين بالاستمرار في قتال عدوهم إلى أن يخضع ويعطي الجزية. فمن الحقّ أن يستلهم ولي أمر المسلمين هذه الآيات في مثل هذه الظروف فيقابل جنوح العدو إلى السلم بالمثل ولو كان بدون جزية.
والله تعالى أعلم.
ومع أن اعتقاد اليهود ببنوة العزير غير شائع الآن فإن نصّ الآية الثانية أي [30] يدل دلالة قاطعة على أن اليهود أو بعضهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون بذلك. ولقد روى الطبري روايتين في ذلك. واحدة تذكر أن يهوديا اسمه فنحاص قال ذلك في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرى تذكر أن جماعة من اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 349 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 41- 56 وج 3 ص 152- 163 و 218- 221 وفتوح البلدان ص 41 و 42 والخراج لأبي يوسف ص 40 وما بعدها.(9/415)
كيف تريد أن نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزرا ابن الله. ثم روى الطبري عن ابن عباس رواية تذكر أن اليهود لما أهملوا أوامر الله وشرائعه نسخ التوراة من صدورهم ورفع التابوت من بينهم. وكان عزرا حبرا صالحا فصلّى وابتهل إلى الله حتى استجاب إليه وأعاد إلى صدره التوراة فبشر بذلك قومه وأخذ يمليها عليهم ثم أعاد الله التابوت. فقالوا ما فعل الله له هذا إلّا لأنه ابنه. وروى الطبري رواية أخرى عن السدي مختلفة عن رواية ابن عباس في التفصيل متفقة في الجوهر. وبين أسفار العهد القديم سفر باسم سفر عزرا ليس فيه شيء من ذلك وإنما نعت عزرا فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الربّ. وكان يعمل ويعلم في إسرائيل بالرسوم والأحكام. وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الروايات المروية عن ابن عباس والسدي مصدرها يهود المدينة وأنها كانت في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا. كما أن مما لا شك فيه أن قول اليهود كان يمثل واقعا مسموعا. وحكاية القرآن شاهد حاسم على ذلك.
وفي صدد جملة يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ روى الطبري عن أهل التأويل روايات عديدة. منها أنها للنصارى فقط. وفي مقام تقرير كونهم في قولهم إن المسيح ابن الله يشبهون اليهود الذين كفروا قبلهم وقالوا العزير ابن الله. ومنها أنها لليهود والنصارى معا في مقام تقرير كونهم في قولهم إن العزير ابن الله والمسيح ابن الله يشبهون الكفار من العرب وغيرهم الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ويستشفون بهم لديه. ولو كان سند وثيق لكون عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله سابقة لعقيدتي اليهود والنصارى ببنوة العزير والمسيح لكان هذا وجيها. إلا أن يقال إن الجملة قد تعني ظروف نزولها حيث كان اليهود والنصارى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك استمرارا للسابق. على أن اعتقاد الأمم التي كانت أقدم من عهود اليهودية والنصرانية بأنه كان للآلهة زوجات وأولاد من الحقائق التاريخية المعروفة حيث ثبت من الآثار المنقوشة أن أهل اليمن والعراق والشام ومصر واليونان القدماء كانوا يعتقدون بذلك. ونعتقد أن ذلك مما كان معروفا في عصر النبي وبيئته. والراجح أن مصدر ذلك اليهود والنصارى والله أعلم.(9/416)
ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ حديثا عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة فقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فقلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم» «1» . وروى الطبري إلى هذا أقوالا معزوة إلى حذيفة وأبي البختري وابن عباس من هذا الباب أيضا. وعلى كل حال فإن الفقرة تتضمن تقريرا لواقع مشاهد بكون عامة اليهود والنصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم استمرارا لما قبله قد خضعوا لتأثير وسلطان أحبارهم ورهبانهم حتى صاروا كأنما هم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يحرّمون ما يحرّمون ويحلّلون ما يحلّلون ويفعلون ما يأمرون به ولو كان مخالفا للشرائع المسجلة في كتبهم والمبلّغة عن أنبيائهم.
والآية [33] وإن كانت تضمنت حكاية لمواقف اليهود والنصارى عامة من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بسبيل إطفاء نور الله الذي جاء به بأفواههم فإن في الفقرة الأولى من الآية [34] أي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ما يمكن أن يفيد أن تلك المواقف إنما كانت بتأثير الأحبار والرهبان على عامة بني ملتهم. وفي ذلك صورة من صور اتخاذ عامة اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله إلّا من استطاع أن يفلت من هذا التأثير ويهتدي بهدي الله وينضوي إلى دعوة رسوله.
__________
(1) روى الترمذي حديثا قريبا لهذا عن عدي نصّه «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وقال أما إنهم لم يعبدوهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه» التاج ج 4 ص 115.(9/417)
وقد تكون جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ مفسّرة لمواقف الأحبار والرهبان المناوئة للدعوة الإسلامية والصادرة لعامة اليهود والنصارى عن الانضواء إلى الإسلام حيث كانوا يستولون من بني ملتهم على أموال كثيرة بأساليب باطلة غير مشروعة وقد يكون ذلك بصورة رشاوى على تحليل الحرام وتحريم الحلال وبصورة نذور للأديرة والكنائس لا يلبثون أن يستحلوها لأنفسهم فكانوا يخشون ضياع هذه الموارد فضلا عن فقد ما كان لهم من جاه ونفوذ عظيمين. ولقد روى ابن هشام «1» عن ابن إسحق رواية لها مغزى قوي مؤيد لما نقول مفادها أن وفد نصارى نجران لما قدم على رسول الله واستمعوا له قال أسقفهم أبو حارثة لأخيه: والله إنه للنبي الذي كنّا ننتظر، فقال له أخوه وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرّفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منّا كل ما ترى.
ولقد كانت النصرانية سائدة في بلاد الشام والعراق ومصر فأخذ عامة النصارى يقبلون على الإسلام حتى شمل أكثريتهم الساحقة. وقد شاء بعضهم الاحتفاظ بدينه فكان له ما شاء. وظل هؤلاء منثورين أسرا منفردة وسط كتل إسلامية كثيفة في ظل سلطان المسلمين القوي. والذي نعتقده أن كثيرا من هؤلاء إن لم يكن أكثرهم هم من الرهبان والقسيسين الذين كانت الأديرة والكنائس وأملاكها وإيرادها مأكلة لهم فكان ذلك مما جعلهم يشذون عن الأكثرية الساحقة.
وفي جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في حدّ ذاتها توكيد للنهي المتكرر في سور سابقة عن أكل الناس أموال بعضهم بالباطل وعن الصدّ عن سبيل الله وتعطيل شرائعه والتمرد على رسالاته كمبدأ من مبادئ الرسالة الإسلامية. وتوكيد للتنديد والإنذار اللذين انطويا في الآيات التي احتوت ذلك مما فيه توكيد للتلقين القرآني المستمر في هذا الأمر. وفي نسبة ذلك إلى الأحبار والرهبان بخاصة تشديد للتلقين من حيث كون صدور ذلك من رجال الدين ورؤساء الملّة الذين يجب أن يكونوا قدوة في الصلاح والتقوى أشد جرما وإثما عند الله تعالى.
__________
(1) ابن هشام ج 2 ص 204- 205. [.....](9/418)
والآيتان [32 و 33] قد وردتا بأسلوب مقارب لما ورد في سورة الصف في سياق آيات ذكر السامعون فيها بمواقف اليهود الإزعاجية والمؤذية من موسى وعيسى عليهما السلام مع فارق واحد هو أن ذلك التذكير كان للعرب والتنديد كان بهم على الراجح في حين أنهما هنا في صدد الكتابيين مباشرة. وواضح أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارهما لمرة الثانية لبيان سوء مقاصد ونوايا ومواقف الكتابيين.
والتنديد بهم والردّ عليهم بأن الله محبط لمكائدهم وبأنه يأبى إلّا أن يتم نوره ولو كرهوا. وبالطبع إنهما في حدّ ذاتهما قد احتوتا ذلك المعنى القوي الرائع الذي نوهنا به في تفسير سورة الصف بعموم الدين الإسلامي والتطمين الذي يبعث الثقة التامة في نفوس المسلمين بأن دينهم الذي ارتضاه الله لهم سيكون هو الدين الظاهر على سائر الأديان. فهو نور الله الذي لن يقدر أحد على إطفائه مهما حاول ومهما ظنّ نفسه قادرا على ذلك. وهو دين الحق الذي وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه. ولو كره المشركون والكافرون. وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بالآيتين لتكونا توكيدا حاسما وجديدا لوعد الله عزّ وجلّ في أواخر حياة الرسول وأواخر ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من القرآن. ولن يخلف الله وعده.
ولقد شرحنا مدى الآيتين في سياق تفسير سورة الصف. فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة.
تعليق خاص على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ والآية التالية لها وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث وأقوال وما انطوى في ذلك من صور وتلقين وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكاة واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ(9/419)
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
عام كما هو ظاهر. غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية قد يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى. فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة.
وصدّهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى.
على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كلّ من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا. وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا.
ولقد روى المفسرون «1» أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي إباحة اكتناز المال وذمّه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بلغ أن تؤدّى زكاته فزكّي فليس بكنز وفي رواية ما أدّي زكاته فليس بكنز» «2» . وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه: «إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» «3» . وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قلّ وأن كلّ مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر. وروي مثل هذا عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر كذلك قوله لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه. وروي عن
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. والنصوص التي ننقلها هي من الطبري والبغوي وابن كثير.
(2) التاج ج 2 ص 6.
(3) تفسير القاسمي.(9/420)
النبي صلى الله عليه وسلم حديث جاء فيه نعم المال الصالح للعبد الصالح. وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله وقال له إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم. فكبّر عمر. فقال له رسول الله ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته. وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته» .
فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. وأن معنى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق على سبيل الله.
ولقد روى المفسرون «1» في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه- أي شدقيه- ثم يقول أنا مالك. أنا كنزك» «2» . ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره. كلّ ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار.
قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها، ومن حقّها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي. ومعظم ما نورده من نصوص وارد في تفسير الطبري.
(2) روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج 2 ص 7.(9/421)
إلى الجنة وإمّا إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم. قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلّ ما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» «1» . حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بدّ منه على صدق إيمان المسلم. ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة.
وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحدّ الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته. وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبّا للذهب، تبّا للفضة ثلاث مرات. فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله فقالوا فأي مال نتخذ فقال عمر أنا أعلم لكم ذلك ثم أتى رسول الله فقال يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم. قالوا أي المال نتخذ فقال رسول الله:
لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه» «2» .
والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله فهموا أن المذموم هو نوع المال أي
__________
(1) روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. انظر التاج ج 2 ص 6- 7.
(2) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة «لما نزلت الآية قال بعض أصحاب رسول الله يا رسول الله أنزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» انظر التاج ج 4 ص 116.(9/422)
عين الذهب والفضة لا جنس المال فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر. وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة. وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك بعده كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول ويلك ما أنت؟ فيقول أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده» «1» . وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الق الله فقيرا ولا تلقه غنيّا. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال هو ذاك وإلّا فالنار» . وروي عن قتادة «أنّ رجلا من أهل الصفّة مات فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيّتان» .
وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذمّ المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما. منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكلّ أمة فتنة وفتنة أمتي المال» «2» وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبيّ قال:
«لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا» «3» . وحديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» «4» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرّف عن أبيه قال: «انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول ألهاكم التكاثر.
قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت» «5» . وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أوردنا قبل حديثا رواه الشيخان عن أبي هريرة صيغته مقاربة لهذه الصيغة مع فارق مهم هو أن الوعيد لمن لا يؤدي زكاة كنزه.
(2) التاج ج 5 ص 147- 159.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(9/423)
قال: «أما إن كلّ بناء وبال على صاحبه إلّا ما لا، إلّا ما لا، يعني ما لا بدّ منه» «1» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة والخميصة. إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» «2» .
وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه الله» «3» . وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة لم يا رسول الله؟ قال إنّهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» «4» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله قال: «يا عائشة إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب. وإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه» «5» . وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء» «6» . وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا» «7» . وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ. ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربّه، وأطاعه في السرّ، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده فقال عجّلت منيّته. قلّت بواكيه قلّ تراثه» «8» . وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هذا المال
__________
(1) التاج ج 5 ص 147- 159.
(2) المصدر نفسه. [.....]
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه.(9/424)
حلو من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع» «1» . وحديث رواه البغوي عن أبي ذرّ قال: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظلّ الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون وربّ الكعبة. فجئت حتى جلست فلم أتقارّ أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم فقال الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم» . وروي عن أبي ذرّ أنه كان يقول من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة. ولقد روي عن زيد بن وهب قال: «مررت على أبي ذرّ بالربذة- وهي قرية من قرى المدينة- فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنّا بالشام فقرأت: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ... فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلّا في أهل الكتاب. فقلت إنها لفينا وفيهم فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليه فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنحّ قريبا قلت والله لن أدع ما كنت أقول» «2» . ويروي الطبري في تاريخه بعض مواقف أبي ذرّ من هذا الباب
__________
(1) التاج ج 5 ص 147- 159.
(2) روى هذا الطبري وروى البخاري شطرا من هذا الحديث وهو هذا عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... الآية قال معاوية ما هذه فينا ما هي إلا في أهل الكتاب قلت إنها لفينا وفيهم. وقال ابن عمر هذا قبل الزكاة. فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال) التاج ج 4 ص 116 ونقول استطرادا إن كلام ابن عمر يوهم أن الزكاة فرضت بعد هذه الآية. وهناك من قال إن آية الزكاة نسخت هذه الآية وإن الزكاة فرضت في السنة التاسعة.
وقال القاسمي الذي أورد هذا إن ابن كثير جزم بذلك في تاريخه. وإن بعضهم قواه بسبب كون آية الصدقات في هذه السورة قد نزلت بعد هذه الآية. والمقصود من آية الزكاة وآية الصدقات هو هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) .
وهذا القول غريب من نواح عديدة. فالزكاة ذكرت في سور مكيّة مبكرة ثم ظلت تذكر متلازمة مع الصلاة في السور المكيّة ثم في السور المدنيّة بأسلوب يفيد بكل قوة أنها كانت مفروضة وممارسة في العهد المكي. وهناك آيات مكيّة قوية الدلالة على أن مقدارها كان معينا وكان المسلمون يؤدونه مثل آيات سورة المعارج هذه وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وآية الصدقات أو الزكاة المذكورة ليست في صدد فرض الزكاة وإنما هي في صدد ذكر المصارف التي تصرف فيها. بل إن أسلوبها لا يدل على أن هذه المصارف تعين تعيينا جديدا. وإنما هو في صدد تقرير ذلك كأنما هو المعروف الذي يجب أن يوقف عنده. والرقاب ورد ذكرها في معرض ما يجب الإنفاق عليه في آية سورة البقرة [177] وليس في القرآن والحديث ما يفيد أن الزكاة فرضت في العهد المدني فضلا عن أواخره. ونحن نجل ابن عمر رضي الله عنه عن أن يجهل ذلك. ولذلك فإما أن يكون كلامه نقل محرفا أو أن المقصود منه هو أن الآية في حق الذين لم يؤتوا الزكاة، وأن الزكاة جعلت طهرا للأموال. وهذا هو ما جاء في الحديث النبوي المروي سابقا والله أعلم.(9/425)
ويقول إن الفقراء ولعوا بما كان أبو ذر يقوله وصاروا يوجبونه على الأغنياء، حتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس فكان ذلك مما جعل عثمان يستدعي أبا ذرّ مع الرفق به. ومما رواه أن عثمان قال لأبي ذرّ ما لأهل الشام يشكون منك؟ فقال لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا فقال عثمان عليّ أن أقضي ما عليّ وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزهد ولا أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد «1» .
وقد عقب المفسّر ابن كثير على حديث أبي ذرّ بقوله: «كان من مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين وأن يأخذه إليه فاستقدمه وأنزله بالربذة. ومما رواه هذا المفسر أن معاوية أراد أن يختبره فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يوميه ثم بعث الذي أتاه بها ليقول له إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال له ويحك إنها خرجت. ولكن إذا جاء ما لي حاسبناك به.
ولقد عقب الطبري على هذه الأحاديث والأقوال قائلا وأولى الأقوال بالصحة هو أن كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز يحرّم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب وإن قلّ إذا كان مما تجب فيه الزكاة. وعقب
__________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 335.(9/426)
البغوي قائلا إن القول الأول هو الأصح لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال. وقد علّق النيسابوري والزمخشري والخازن والنسفي والطبري تعليقات مماثلة أيضا. وقد يكون هذا هو المتسق مع طبائع النفوس والأمور. فليس من ذلك أن يطلب من كل الناس أن لا يحتازوا مالا أو أن ينفقوا ما يحتازونه دون أن يدخروه أو ينفقوا معظمه. وكل ما يتسق مع ذلك هو أن يطلب منهم أداء ما فرضه الله عليهم من حقّ. وقد يكون الهدي النبوي في الأحاديث التي ذكر فيها «أن المال الذي يؤدي زكاته ليس كنزا. وأن نعم المال الصالح للعبد الصالح. وأن الله إنما فرض الزكاة ليطيّب بها ما بقي عند الناس من أموال. وأن المال الذي يفعل به الخير نعم المعونة هو» هو الاتساق مع طبائع الأمور والنفوس في شأن ليس محرما تحريما باتا. ويمكن أن يضاف إلى هذا أن الهدي القرآني لا يمنع المسلمين من الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق إذا ما راعوا الاعتدال والقصد لأن ذلك هو المتسق مع تلك الطبائع. غير أن قوة الزجر في الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث العديدة الأخرى التي لا نرى تناقضا بينها وبين هذا الاتساق الذي يراعيه هدي القرآن والنبي معا تسوغ القول أنها تنطوي في الوقت نفسه على تلقين قوي بشجب اكتناز المال والتكالب عليه وحبسه عن سبيل الله ومصالح المسلمين ومحتاجيهم وعمل الخير حتى ولو كان ما احتازوه بطرق مشروعة ولو أدوا القدر الزهيد المفروض عليها زكاة. ومن الجدير بالذكر والتأمل:
أولا: إن القليلين من الأغنياء هم الذين يؤدون الزكاة بحقها. أما الأكثر فإما أنهم لا يؤدونها بالمرة وإما أنهم يؤدون قدرا أقل من المستحق عليهم. ومعنى هذا أن أكثر الأغنياء هم موضوع الإنذار الرهيب الذي تضمنته الآيات من جهة. وقد فقدوا التكأة التي تجعل حيازتهم للكنوز سائغة على ضوء بعض الأحاديث من جهة أخرى ونعني بها إعطاء الزكاة كاملة عنها.
وثانيا: إن كثرة الثروة في أيدي الأفراد مؤدية في الأعمّ الأغلب كما هو مشهود دائما في أيامنا بنوع خاص إلى التبذير والإسراف والفسق والفجور والبغي(9/427)
والاستعلاء على الفقراء المحرومين وهو المستنكر المندد به والمنهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة على ما نبهنا عليه، أوردنا نصوصه في سور سبق تفسيرها مما يجعل التلقين القرآني واللغوي أشدّ لزاما واستحكاما.
وثالثا: إن سبيل الله الذي أنذرت الآيات الذين لا ينفقون أموالهم فيها ذلك الإنذار الرهيب هي الدعوة الإسلامية نفسها التي من نطاقها نشر الدعوة وحمايتها والدفاع عنها وحماية الإسلام والمسلمين من البغي والعدوان. وتوفير الكرامة والعزة والحرية لهما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل. وكل هذا من مهام السلطان وأولي أمر المسلمين.
وبناء على ذلك كلّه يسوغ القول إن لأولياء أمر المسلمين أن يعالجوا أمر استقطاب الثروة في جانب واستقطاب الفقر والعوز في جانب وتعديل الفروق بأساليب متنوعة تضمن منع الأفراد عن التبذير والسّفه والاستعلاء مع عدم الإجحاف بحق الحيازة المعتدلة وحاجات الحياة المشروعة من جهة وسدّ حاجة سبيل الله ووجوه الخير ومساعدة المحتاجين من جهة أخرى. ولعلّ الفاروق رضي الله عنه حينما قال كلمته المشهورة «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وفرقتها على الفقراء» «1» كان يستوحي من هذا التلقين القرآني والنبوي. والله تعالى أعلم.
ومن الجدير بالذكر أن آيات التوبة التي نحن في صددها ليست هي الوحيدة في بابها. فإن الآيات التي تندد بحبّ المال حبّا جمّا والتكاثر فيه والبخل به عن سبيل الله والمحتاجين وبالذين ينهجون هذا المنهج وتنذرهم قد تكررت كثيرا في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وكل ما في الأمر أن أسلوب آيات التوبة قد جاء على أشدّ ما يكون زجرا وإنذارا حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في أواخر ما نزل من القرآن ليظلّ شديدا على الأسماع والأذهان والله أعلم.
__________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 291.(9/428)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
[سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
. (1) النسيء: من الإنساء وهو التأجيل. والتعبير اصطلاح على تقليد جاهلي لتبديل أعيان الأشهر المحرمة بالتقديم والتأخير.
تعليق على الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... والآية التي بعدها وما ورد في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور ودلالات وتلقين وأحكام
المستلهم من روح الآيتين وفحواهما أنهما بسبيل التنبيه على حرمة الأشهر الحرم بأعيانها وأعدادها معا. والتنديد بالنسيء الذي يؤدي إلى الإخلال بحرمة أعيانها مع محافظته على أعدادها. وأسلوب الآيتين تقريريّ يتضمن تقرير ما يلي:
إن الله قد جعل للزمن منذ خلق السموات والأرض دورة تتجدد كل سنة.
وجعل في كل سنة اثنتي عشرة دورة ثانية متجددة تظهر في مشاهد القمر وهي الشهور. ومن هذه الشهور أربعة محرّمة بأعيانها. وهذا هو الحق القويم ويجب على المسلمين مراعاته وعدم ظلم أنفسهم بفعل ما يخلّ به وفي عادة النسيء الذي سار عليها العرب في الجاهلية إخلال به. وفي سير الكفار عليه زيادة في الكفر لأنه وإن كان فيه رعاية للعدد فإن فيه تحليلا لأشهر حرّمها الله بأعيانها وتحريما لأشهر أحلّها الله بأعيانها والاكتفاء بالمحافظة على العدد وحسب، مع أن الواجب أن(9/429)
ترعى حرمة العين كما ترعى حرمة العدد. وهذا مما زيّن للكافرين من عاداتهم السيئة فلا يجوز للمسلمين أن يتبعوه.
وقد جاء في الفقرة الأخيرة من الآية الأولى حثّ للمسلمين على قتال المشركين كافة ومجتمعين ومتضامنين كما يقاتلهم المشركون كذلك. وتطمين لهم بأن الله تعالى مع المتقين لحرماته يؤيدهم وينصرهم.
ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في سبب نزول الآيتين اللتين تبدوان في الظاهر أن لا صلة لهما بما قبلهما ولا بما بعدهما. وكل ما قاله الطبري أن فيهما حثّا للمسلمين على قتال المشركين جميعا متفقين ومؤتلفين وغير متفرقين كما يفعلون هم ذلك. ولم يذكر تأويلا لسبب ذكر عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء. وقال البغوي وابن كثير إن جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً هي في صدد تبرير حصار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للطائف في شهر ذي القعدة المحرم استمرارا لما بدأ به في شوال. وحصار الطائف كان بعد قليل من فتح مكة ويوم حنين أي في السنة الثامنة على ما ذكرناه قبل. وهذه الآيات نزلت في سياق آيات أخرى بين يدي غزوة تبوك التي كانت بعد سنة تقريبا من ذلك. ولا تبدو حكمة من إقحام ذلك في هذا السياق. ولم يذكر المفسران بدورهما شيئا من أسباب وحكمة ذكر عدة الشهور والنسيء. وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا شيء مهم آخر في هذا الصدد.
ولقد ذكرت الروايات أن غزوة تبوك قد كانت في شهر رجب من العام الهجري التاسع «1» . وذكرت كذلك أن وقفة الحجّ في الحجة التي حجّها أبو بكر رضي الله عنه في هذا العام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونيابة عنه كانت في شهر ذي القعدة بدلا من شهر ذي الحجة «2» بناء على إعلان إنساء في العام السابق. حيث صار بهذا الإعلان الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية شوال وذا القعدة وذا الحجة بدلا من ذي
__________
(1) انظر ابن سعد ج 3 ص 218.
(2) المصدر نفسه ص 238.(9/430)
القعدة وذي الحجة والمحرم وصارت الوقفة في ذي القعدة وصار المحرّم حلالا.
ونتيجة لذلك تغير رجب عن مكانه الصحيح وهو رابع الأشهر الحرم بسبب موسم ديني كان يقوم في الحجاز فيه وقد سمي لذلك رجب مضر على ما شرحناه في سياق تفسير سورة البقرة. فالذي يخطر بالبال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استنفر الناس إلى غزوة تبوك وكان ذلك في رجب اعترض البعض على السير للقتال في هذا الشهر لأنه شهر محرم أو لاحظوا ذلك فنزلت الآيتان ليعلن بهما:
أولا: إن هذا الرجب ليس هو الرجب المحرّم الأصلي وإن مكان الرجب المحرم الأصلي هو جمادى الثانية. لأن رجب يأتي بعد المحرّم بستة أشهر. وقد صار ذو الحجة في هذا العام بديلا عن المحرم فصار رجب هذا العام غير الرجب الأصلي ويكون الرجب الأصلي هو جمادى الآخرة.
وثانيا: إن السير إلى غزوة تبوك في رجب هذا العام ليس فيه إحلال بحرمة شهر المحرم لأن رجب هذا العام ليس هو الشهر المحرم الأصلي.
وثالثا: إن تقليد النسيء باطل وكفر وضلال ولو أن فيه مواطأة لعدة الأشهر المحرمة لأن الحرمة ليست للعدة فقط بل هي لعين الأشهر أيضا. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صحيحا والشرح يقوي صحته ورجحانه على أي احتمال آخر، فتكون الآيتان قد نزلتا في المناسبة التي نزلت فيها الآيات السابقة واللاحقة ويكون السياق منسجما ومتلاحقا.
ولقد حجّ النبي صلى الله عليه وسلم في العام الثاني لحجة أبي بكر أي في العام العاشر للهجرة. وكان ترتيب الأشهر الحرم قد عاد إلى أصله فكان مما قاله في خطبة الوداع «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «1» . وهكذا حسم أمر وجوب الاحتفاظ
__________
(1) روى هذا الحديث البخاري انظر التاج ج 4 ص 116، 117. وروى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة أيضا.(9/431)
بأعداد الأشهر الحرم وأعيانها وترتيبها دون أي إخلال.
وجملة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قد تبدو ولا صلة لها بالمناسبة. غير أن المتعّن في الآية [31] يكشف عن صلتها الوثيقة بها لأنها حكت نسبة اليهود عزيرا إلى الله بالبنوّة ونسبة النصارى المسيح إلى الله بالبنوّة واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في حين أنهم لم يؤمروا إلّا بعبادة إله واحد ونزّهت الله تعالى عما يشركون. وبهذا دخلوا في زمرة المشركين. وهكذا يطّرد الكلام ويستقيم ويتوثق الانسجام في السياق.
ولقد دأب المفسرون على وصف هذه الجملة بآية السيف مثل الآية [5] من هذه السورة وظلوا يقررون أنها ناسخة لكل ما جاء في القرآن في صدد التساهل والتعاقد مع المشركين وقبول غير الإسلام منهم على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أدخلت الآية [31] النصارى واليهود- أهل الكتاب- في زمرة المشركين وأذنت بالكفّ عن الأعداء المحاربين منهم إذا رضخوا للمسلمين وأعطوهم الجزية. وهذا دليل قرآني على عدم نسخ الآية للآيات الأخرى فضلا عن كون ذلك غير متسق مع المبادئ القرآنية العامة ولا مع طبائع الأمور على ما شرحناه قبل قليل. وفي الجملة تفسير لمقصدها. فالأعداء المشركون- ومنهم المنحرفون من أهل الكتاب- يقاتلون المسلمين كافة ومجتمعين وبكل حماسة فيجب أن يكون قتال المسلمين لهم مثل ذلك. وفي الجملة والحالة هذه توكيد على المبادئ القرآنية العامة التي نبهنا عليها بدلا من كونها تنقضها وتنسخها! ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره «1» عن أهل التأويل في صدد جملة فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ. فهناك من صرفها إلى جميع الأشهر. وهناك من صرفها إلى الأشهر الحرم. وهناك من أول الظلم بالإثم والمنكر عامة. والذين صرفوها إلى الأشهر الحرم وصرفوا الظلم إلى الإثم والمنكر قالوا إن النهي هو بسبب كون الظلم فيها أشدّ إثما منه في غيرها. وهناك من صرف الظلم إلى
__________
(1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير. [.....](9/432)
الإخلال بحرمة الأشهر الحرم وعمل ما هو محرّم فيها مما هو غير محرّم في غيرها كالصيد والقتال أو تبديل أعيانها وجعل حلالها حراما وحرامها حلالا. وقد رجح الطبري قول من قال إنها في صدد الأشهر الحرم وتنظيم حرمتها وعدم استحلال حرامها. وهو الصواب المتبادر من مقام الجملة وروحها. والله أعلم.
والنسيء تقليد جاهلي متصل بحرمة الأشهر الحرم. ويظهر من فحوى الآية وروحها أنه بدعة ابتدعت فيما بعد. ومما روي «1» عن ذلك أنه كان يتولى إعلان النسيء زعيم بيت معين من بيوتات العرب يوم الحج الأكبر إذا رأى ذلك مناسبا أو طلب منه الناس فيعلن مثلا بأن يكون شهر شوال القادم حراما فيصبح شهر المحرم حلالا ويتغير موعد الحج فتكون الوقفة في شهر ذي القعدة بدلا من ذي الحجة.
ويكون ذو الحجة بديلا عن المحرم. ثم يعلن في سنة ثانية بأن يعود المحرم محرما فتعود الأشهر الحرم إلى ترتيبها أو يعلن أن صفر العام القابل محرما فيصير بدء الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية ذا الحجة وتكون الوقفة في شهر المحرم. وقد روي أن صاحب النسيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني حيث كان يوافي الموسم فينادي يوم الحج الأكبر فيقول: ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يخاب فيقال له نعم فيعلن تقديم الأشهر الحرم أو تأخيرها شهرا. ويروى أن أبا ثمامة ورث المهمة عن أبيه أمية. وهذا عن أبيه قلع وهذا عن أبيه عبّاد وهذا عن أبيه حذيفة الذي كان أول من تولّى مهمة إعلان النسيء. ومما يروى أن العرب كانوا يطلبون من صاحب النسيء إعلان ذلك ليتمكنوا من متابعة حرب تعطلت بدخول الأشهر الحرم دون انتظار طويل. ويروى إلى هذا ما يفيد أن هذا التقليد قد ابتدع لموازنة الفصول حيث كان من شأن السير في حساب أشهر السنة على حساب القمر أن تتبدل مواعيد الحج وتدور على الفصول فكان يراد بالنسيء إبقاؤه في موسم أو فصل واحد. ونحن نميل إلى ترجيح كون الأصل في النسيء هو الرواية الأخيرة لأنها متسقة مع طبائع الأشياء كما أن من الممكن الاستدلال على رجحانه
__________
(1) انظر لأجل هذه النبذة تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 234 وما بعدها.(9/433)
بأسماء الأشهر نفسها. ففي أسماء الأشهر العربية المستعملة دلالات على الفصول وموسم الحج معا مثل ذي الحجة وربيع الأول وربيع الثاني ورمضان. وأسماء الأشهر المتداولة الآن مبدلة عن أسماء سابقة حيث كانت الأسماء هكذا: المؤتمر بدلا من المحرم ثم ناجر وخوات ومصان وحنتم ورباء والأصم وعاذل ونافق وغل وهواع وبرك. وهناك روايات فيها أسماء بدلا من أسماء. وفي تسمية رمضان دلالة على شدة الحرارة لأنها من الرمضاء على ما هو متفق عليه عند علماء اللغة. ويعقبه شوال وهو ليس محرما ثم تأتي الأشهر المحرمة الثلاثة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي أشهر الحج. فمن المحتمل أن يكون تقليد الأشهر الحرم للحج قد ضعف لسبب ما، ثم جاءت ظروف قضت تقويته وتجديده. وربما كان ذلك لاتجاه أنظار العرب إلى الكعبة في الظرف الذي غزا الأحباش فيه اليمن وقوّضوا السلطان العربي عنها وسيطروا عليها. وكان الرومان مسيطرين على بلاد الشام وعربها والفرس مسيطرين على بلاد العراق وعربها. وكانت الحجاز وحدها تحتفظ باستقلالها. وربما كان ذلك في آخر صيف وكان رمضان يصادف شهر آب وشوال يصادف شهر أيلول فصارت أشهر الحج الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم مصادفة لأشهر تشرين أول وتشرين ثاني وكانون أول وهي أشهر معتدلة الطقس يمكن السير فيها في جزيرة العرب بسهولة ويسر. فلما أخذت الفصول تتبدل لأنها تابعة لدورة الشمس ورأى العرب أن أشهر الحج صارت تصادف موسم البرد الشديد أو الحرّ الشديد ابتدعوا تقليد النسيء وصاروا في كل بضع سنين يقدمون وقت الأشهر المحرمة شهرا أو يؤخرونه شهرا حتى تظل أشهر الحج تأتي في موسم معتدل الطقس. ولما كانت اللغة الفصحى قد صارت كذلك قبل البعثة النبوية بمائة وخمسين سنة أو نحوها ولما كانت أسماء الأشهر العربية هي من الفصحى فيمكن القول إن هذه البدعة ابتدعت من نحو مائة وخمسين سنة. وإذا صح ما روي أن حذيفة الكناني هو أول من قام بمهمة النسيء فيكون هذا التقدير في محله لأنه أعقبه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أجيال.
ولا نريد أن ننفي بترجيحنا القول الثاني نفي القول الأول. فإن ما يحتمل(9/434)
كثيرا أن يكون النسيء الذي جعل في أول أمره لموازنة الفصول قد أسيء استعماله مؤخرا فصار الناس يطلبونه لأغراض حربية وثأرية. ولعل هذا كان من أسباب إلغائه المباشرة فضلا عن حكمة أخرى تنطوي في الإلغاء وهي سدّ الباب أمام الجرأة على انتقاص الحرمات والتلاعب فيها. وهذا المعنى منطو في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. والله تعالى أعلم.
وتقليد الأشهر الحرم هو تقليد عربي خاص كما هو واضح في حين أن عدة الشهور اثْنا عَشَرَ شَهْراً هو ناموس كوني. ولهذا فالمتبادر أن تعبير مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ مرتبط بما بعده وليس بما قبله.
وكتب التفسير تذكر تعليلا لتسمية ذي القعدة بأنه الشهر الذي كان العرب الذين يعتزمون الحج يرتحلون فيه إلى مكة ويقعدون بسبيل ذلك على رواحلهم ولتسمية ذي الحجة بأنه الشهر الذي يتمّ فيه الحج. أما تسمية المحرم الذي لا تكون فيه مناسك حجّ فقد قالوا إنها بسبيل توكيد تحريم القتال فيه. لأنّ الشهر الذي ينصرف الحجاج فيه إلى منازلهم فيكون فيه مجال اللقاء والقتال. وفي التعليلات وجاهة ظاهرة. أما تسمية رجب وهو الشهر المحرم الرابع، فهي مشتقة من الترجيب وهو التعظيم على ما قالوه فينطوي فيها سبب أو مدى تحريمه كما هو المتبادر.
ولقد تعددت أقوال المؤولين في تأويل جملة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فمنهم من قال إنها بمعنى الحساب الصحيح، أو الحقّ دون تبديل وتعديل بالنسيء.
ومنهم من قال إن معناها أن ذلك هو الأصل الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
وكلا القولين وجيه. والثاني متصل بما كان يتداوله العرب من إرجاع أصول الحج إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة. وعلى كل حال فإن في الجملة إيذانا بأنّ هذا التقليد على وجهه المحدد هو من حيث الأصل من التقاليد الدينية الملهمة أو الموحاة من الله عزّ وجلّ. ويؤيد هذا جملة لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ وفي هذا توكيد لما قلناه في(9/435)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
المناسبات السابقة من أن العرب في الجاهلية كانوا يعتقدون أن تقاليد الحجّ هي تقاليد دينية موحاة من الله عزّ وجلّ ومن هنا استحكم فيهم التنديد.
والأشهر الحرم الثلاثة هي أشهر الحج. ويبدو أنها قدرت لتكون كافية لرحلة أي عربي من أي منزل وبلد إلى الحج وعودته إلى مأمنه. أما شهر رجب فيستفاد من الروايات أنه كان يقام في أثنائه موسم ديني في الحجاز. لا صلة له بموسم الحج ولعلّه موسم زيارة الكعبة المعروفة بالعمرة. وعند المسلمين تقليد أو اصطلاح (الزيارة الرجبية) ولعلّه متصل بذلك.
ويبدو من خلال الروايات ومن قصر المدة أنه كان موسما حجازيا لا يشترك فيه إلّا أهل الحجاز «1» . والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
. (1) اثّاقلتم إلى الأرض: أثقلتم مقاعدكم في الأرض. والجملة كناية عن عدم المسارعة إلى الاستجابة إلى دعوة النفرة في سبيل الله ومقابلتها بالبطء والتثاقل.
__________
(1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج 5 ص 237- 239.(9/436)
(2) خفافا وثقالا: قيل في تأويل اللفظين إنهما بمعنى حمل السلاح خفيفه وثقيله. وقيل إنهما بمعنى النفرة إلى سبيل الله مشاة وركبانا. أو شيوخا وشبانا. أو مع أسرهم وبدونها. أو سواء أكانوا مشاغيل أم لا. أو فقراء وأغنياء.
وعلى كل حال فالمراد بهما الاستجابة إلى النفرة في أي حال وإمكان وصورة وعدة.
في هذه الآيات:
1- تنديد وعتاب موجّه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
2- وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عمّا إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة.
3- وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم.
ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم وهو القادر على كل شيء. ولن يضرّوه شيئا.
4- وتذكير منطو على العتاب والتحدي: فإذا لم ينصروا النبي ويلبّوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطرّه الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلّا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألمّ بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيّده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.
5- وتعقيب على هذا كلّه بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلّل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.(9/437)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها
والمفسرون «1» متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.
ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية [29] وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك.
وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.
والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.
ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا.
واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والنسفي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.(9/438)
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) «1» . أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.
والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.
وغزوة تبوك التي قلنا إن المتفق عليه أن معظم هذه السورة نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين
__________
(1) هناك آيات أخرى من هذا الباب أو قريبة منها في سور مرّ تفسيرها مثل آيات آل عمران [156 و 166- 168] والنساء [71 و 73 و 88 و 89 و 137- 143] والمائدة [52] والأحزاب [12- 20] وسيأتي في هذه السورة آيات عديدة أخرى من هذا الباب.(9/439)
لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس.
وقد سمّي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلّا هذه الغزوة حيث صرّح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرّع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم «1» .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا. ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.
__________
(1) روى الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحثّ على جيش العسرة فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائتي بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فنزل رسول الله وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه. وروى عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجرة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم. (التاج ج 3 ص 293) . أما المشاهد الأخرى فقد أشير إليها في آيات من هذه السورة.(9/440)
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل.
وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على 2000 بعير و 800 رأس رقيق و 400 درع و 400 رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم فكتب له كتاب عهد..
وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاؤه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي على الإسلام.
والمستفاد من الروايات أن من المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلّا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون- والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام- ليس أقل العسكرين. ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي لهم كان نحو ثمانين «1» . والرواية السابقة التي
__________
(1) ذكر هذا في حديث طويل رواه الشيخان والترمذي عن كعب بن مالك سنورده في سياق تفسير الآية [118] من هذه السورة.(9/441)
شكّ فيها ابن إسحاق بحقّ لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدّين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.
ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول.
وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة لأن المستفاد من الآيات أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدود والعدد دائما.
ونكتفي بهذه الخلاصة على أن نشرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.
ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [91] لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [122] . ومع أن الآية في مقامها هي في معرض التثريب على المتثاقلين والتحريض على النفرة فإن في الآيتين المذكورتين تعديلا أو استدراكا لحكم الآية من الناحية الموضوعية كما هو المتبادر.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [40] حديثا عزاه إلى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله. فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» حيث يحتوي الحديث تنبيها على وجوب إخلاص القتال في سبيل الله.(9/442)
تعليق خاص على الآية إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ... إلخ.
في هذه الآية إشارة خاطفة إلى حادث خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة. وقد جاءت كما شرحناه قبل على سبيل التنديد بالمتثاقلين عن النفرة إلى الجهاد وتنبههم إلى أن الله كفيل بنصر رسوله إن لم ينصروه. وقد نصره من قبل حين أخرجه الكفار من مكة.
وهي الإشارة الوحيدة في القرآن الصريحة إلى هذا الحادث العظيم الذي كان له أعظم الأثر في الرسالة الإسلامية وأدى إلى اندحار الشرك وغدو كلمة الله هي العليا كما جاء في الآية.
ولقد أوردنا خلاصة ما روي في صدد هذا الحادث في سياق الآية [30] من سورة الأنفال وأوردنا ما روي من أحاديث نبوية أيضا وعلقنا على كل ذلك بما يغني عن التكرار.
والآية لا تذكر اسم صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الغار. ولكن التواتر الذي بلغ مبلغ اليقين أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى إن بعضهم قال بكفر من أنكر ذلك «1» . ولقد روى الترمذي حديثا عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار «2» . وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس جاء فيه: «إن أبا بكر حدّثه. قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» «3» . حيث ينطوي في الحديثين الصحيحين أدلة نقلية على كون أبي بكر هو صاحب رسول الله في الغار.
وفي الآية صورة رائعة لعمق إيمان النبي واعتماده على الله تعالى وما انبثّ في نفسه نتيجة لذلك من رباطة جأش. وصورة رائعة لشدة إخلاص أبي بكر رضي
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي.
(2) التاج ج 3 ص 276.
(3) التاج ج 4 ص 117.(9/443)
الله عنه. والحديث الذي يرويه البخاري والترمذي لا يذكر قول الرسول له «لا تحزن إنّ الله معنا» . وإن كان يذكر معنى ذلك. ويجب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له هذه الجملة لأنها نصّ قرآني قاطع.
والتذكير في الآية قوي محكم. وبخاصة الإثارة إلى ما كان من نتائج نصر الله الباهر لنبيّه حيث خرج شريدا خائفا ثاني اثنين. فلم يزل الله تعالى يؤيده وينصره إلى أن أرغم جميع أعداء الإسلام وجعل كلمة الكفر والكفار السفلى وكلمة الله هي العليا في أنحاء جزيرة العرب، وامتد ذلك إلى أطراف الجزيرة من خارجها ثم من خارجها إلى أبعاد شاسعة في مشارق الأرض ومغاربها. ولعلّ في هذه الإشارة صورة خاطفة ولكنها قوية رائعة وتامة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرها ونتائجها.
ومن المؤسف المثير أن الشيعة الذين يظهر أنهم لم يستطيعوا نفي صحبة أبي بكر لرسول الله زعموا زورا وكفرا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذه معه مخافة أن يشي به للمشركين والعياذ بالله من ذلك. وحاولوا تهوين شأنه في هجرته لله مع رسول الله بفسطات أشبه ما تكون بالهذيان منها بأي شيء آخر «1» متجاهلين أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه بفضل أبي بكر وعظم قدره عند الله ورسوله. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه. فكان رسول الله هو المخيّر. وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربّي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوّة الإسلام ومودّته. وفي رواية ولكنه أخي وصاحبي» «2» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإنّ له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر» «3» . وحديثان آخران رواهما الترمذي عن عائشة جاء في أحدهما «دخل أبو
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير المنار لرشيد رضا.
(2) التاج ج 3 ص 275.
(3) المصدر السابق نفسه.(9/444)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت عتيق الله من النار قالت فمن يومئذ سمّي عتيقا» .
وجاء في ثانيهما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره» «1» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 48]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
. (1) عرضا قريبا: بمعنى الهدف القريب والغنيمة السهلة المنال.
(2) سفرا قاصدا: رحلة قصيرة قليلة العناء.
(3) بعدت عليهم الشقة: رأوا الرحلة بعيدة شاقة.
(4) انبعاثهم: خروجهم.
(5) خبالا: اضطرابا وفسادا.
(6) ولأوضعوا خلالكم: لسعوا بينكم بالنميمة والفساد. وأصل الإيضاع الإسراع في السعي والسير.
(7) قلبوا لك الأمور: بذلوا جهدهم في الكيد لك.
في هذه الآيات: تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفرة في
__________
(1) المصدر السابق نفسه. وهناك أحاديث صحيحة أخرى في فضائل أبي بكر فاكتفينا بما أوردناه. انظر المصدر نفسه.(9/445)
سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية:
1- لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية. ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
2- ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلّا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
3- وأذن النبي لهم بالتخلّف حينما استأذنوه بذلك كان خطأ عفا الله عنه.
وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
4- ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكانوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السنّ والمرضى والزمنى والعميان ...
5- ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به «1» ولذلك لم يشأ الله تعالى
__________
(1) بعض المفسرين ومنهم الطبري من أوّل جملة وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ بتأويل ثان مع التأويل الذي أولناه بها وهو أن بينكم أناس غير منافقين عيون لهم ينقلون إليهم أخباركم. والتأويل الذي اخترناه هو الأوجه لأن غير المنافق أجلّ من أن يكون عينا. والله أعلم. [.....](9/446)
أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
6- ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلّف وحسن القصد كذبا.
تعليق على الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ.. والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة وَسَيَحْلِفُونَ وفي جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وجملة لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة.
والآيات تلهم أن تخلّف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدلّ على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.(9/447)
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وسلم وقوي أمره وتمّ ما تمّ من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعل ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية [44] قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية [43] نزلت في جماعة قالوا استأذنوا النبي فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) . هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوّه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون(9/448)
الآية تنطوي على عتاب رباني «وقيل إن الله عزّ وجلّ وقّر النبي ورفع محلّه بافتتاح الكلام بالدعاء له كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني» ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك «لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به حيث يقال إنما أمر به على وجه الذبّ عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم.
والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلّف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي وهي الآية [101] فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات [45- 47] قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [43] دليلا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني. وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها. حيث كان الوحي إما يقر النبي في اجتهاده أو(9/449)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
يسكت سكوت إقرار أو ينبّه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
[سورة التوبة (9) : آية 49]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)
. في هذه الآية:
1- صورة خاصة لموقف بعض المنافقين من الدعوة إلى حملة تبوك حيث جاء بعضهم يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلف ويرجو عدم تعريضه للفتنة والإثم.
2- وردّ عليه بأنه هو وأمثاله قد تورطوا بمواقفهم التي يقفونها في الإثم والفتنة فعلا كأنما تريد أن تقول لهم إن خوفهم من الفتنة عجيب منهم لأنهم تورطوا فيها بتلك المواقف.
3- وإنذار لهم بأن جهنّم محيطة بالكافرين في كل حال ومآل.
ولقد روى الطبري روايات عديدة في صدد هذه الآية منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في استنفاره الناس يقول انفروا تغنموا بنات بني الأصفر أو بنات الروم. ومنها أن هذا كان لمنافق اسمه الجد كان مغرما بالنساء حيث قال له النبي ذلك أو قال له هل لك بجلاد بني الأصفر فتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال له ائذن لي بالقعود ولا تعرضني للفتنة وأنا أعينك بمالي دون نفسي.
وقد تكون الروايات أو رواية الجد صحيحة في الإجمال. فإنه لا يستبعد أن(9/450)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
يكلّم النبي صلى الله عليه وسلم كل إنسان بما يعرفه فيه من ميول. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا سبب آخر للاعتذار وهو أن يكون المعتذر قد اعتذر بشدة رغبته الجنسية وعدم إطاقته الصبر عنها طويلا. فالاستمتاع بالسبي ليس في حدّ ذاته فتنة وإثما حتى يخشى المنافق على نفسه منه.
ومهما يكن من أمر فالآية لم تنزل لحدتها كما هو المتبادر من عطفها على ما قبلها وصلتها بالسياق السابق واللاحق. وإنما هي جزء من السلسلة تضمنت صورة من صور اعتذارات المنافقين على سبيل التنديد بهم.
وفي الآية دلالة مؤيدة لما قلناه قبل من أن المنافقين كانوا أو كان كثير منهم معروفين بأسمائهم كما هو المتبادر.
[سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 52]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
. (1) حسنة ومصيبة: الكلمة الأولى في مقامها كناية عن النصر والثانية كناية عن الانكسار والهزيمة.
(2) قد أخذنا أمرنا من قبل: قد احتطنا لأنفسنا حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.
(3) تربصون: تتربصون أي تنتظرون وتتوقعون.
في الآيات:
1- بيان لما في نفوس المنافقين نحو النبي والمؤمنين المخلصين من نيات وعواطف أو لما هو مفروض أن يكون فيهم إزاء هذه الغزوة بحيث لو أصابهم خير(9/451)
ونصر استاءوا واغتاظوا ولو أصابتهم مصيبة وهزيمة حمدوا ما كان منهم من الحذر والاحتياط والتخلف وفرحوا.
2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتف قائلا لهم بلسان الحال إنه لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا وإنه هو مولانا وإن على المتوكلين أن يتوكلوا عليه وحده. وإنكم مهما تربصتم بنا وانتظرتم نتائج رحلتنا فلن يصيبنا منها إلّا إحدى الحسنيين. حسنى الشهادة والثواب في حالة الموت. وحسنى الفوز والغنيمة في حالة النصر. في حين أن أمركم إلى عذاب لا معدى لكم عنه في حال. فإمّا أن يكون عقوبة مباشرة من الله تعالى وإما أن يكون على أيد منّا فلننتظر معا والأيام بيننا.
وما حكي عن المنافقين من نيات هو لسان حالهم. ولهذا قلنا إن النبي أمر بأن يهتف بهم بلسان الحال بالمقابلة. ونرجو إن شاء الله أن يكون فيه الصواب.
تعليق على الآية إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور ولم يرو المفسرون شيئا خاصا في صدد الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة
ومع خصوصيتها الزمنية والموضوعية فإن الصورة التي ترسمها الآية الأولى من الصور التي تقع من بعض الناس دائما إزاء الآخرين. وفيها تلقين بوجوب الحذر من أصحابها. والآيتان الثانية والثالثة مستمد إلهام قوي للمؤمنين المخلصين يمدهم دائما بالطمأنينة والسكينة. ويبث فيهم الاعتماد على الله وحده. ويحفزهم على الإقدام على عظائم الأمور والتضحيات في سبيل الله ومصلحة المسلمين العامة بنوع خاص برباطة جأش وسكون نفس وقوة قلب وجميل صبر وشدة تحمل.
ويجعلهم على يقين بأنهم فائزون غانمون على كل حال إن لم يكن بنصر دنيوي فبثواب الله ورحمته ورضوانه.(9/452)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم روى صيغة له البخاري ومسلم مع زيادة مهمة فرأينا أن نوردها بدلا من صيغة البغوي وهي «تضمّن الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا وتصديقا برسلي. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» «1» وينطوي في الحديث تساوق مع ما في الآيات من تلقين جليل مستمر المدى مع التنويه بفضل الجهاد والمجاهدين والحثّ عليه على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى.
[سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 55]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
. الخطاب في الآيات موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها:
1- أمر بأن يعلن للمنافقين بأن الله لن يتقبل منهم ما يريدون أن ينفقوه طوعا من تلقاء أنفسهم أو رغما عنهم وكرها بضغط الظروف والموقف لأنهم قوم فاسقون. كفروا بالله ورسوله. ولا يقومون إلى الصلاة إلّا مع الكسل وعدم الرغبة الصادقة ولا ينفقون ما يريدون إنفاقه إلّا مع الكراهية والاستثقال.
2- وتسلية وتطمين له: فلا ينبغي أن يأخذه العجب من كثرة أموالهم وأولادهم. فإنما هي وسائل عذاب لهم في الدنيا حتى تزهق أنفسهم وهم كافرون جاهدون.
__________
(1) التاج ج 4 ص 291 و 292.(9/453)
تعليق على الآية قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وقد روى الطبري وغيره «1» أن الآية الأولى نزلت بمناسبة ما وعد به المنافق الجدّ من مساعدة مالية حينما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود والتخلف عن الحملة.
ويلحظ أن الأمر في الآية بسبيل إعلان لأكثر من شخص من المنافقين، حيث يفيد هذا أن أكثر من واحد من المنافقين المستأذنين بالتخلف أرادوا أن يجاملوا النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في نفقات الحملة. ومهما يكن من أمر فالذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها وأنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة.
ومع أن صيغة الآيات تفيد في ظاهرها أنها أمر بتوجيه الخطاب إلى المنافقين السامعين له فالذي يتبادر لنا استلهاما من روح الآيات وفحواها وبخاصة الآية الثانية والثالثة منها ثم من نزول السلسلة في أثناء السفر على ما تلهمه بعض آياتها أن هذه الصيغة أسلوبية. وأن الآيات بسبيل التنديد والتقريع وإعلان حالة المنافقين على حقيقتها من كفر وكسل واستثقال وكره أولا ثم بسبيل التهوين مما عندهم من كثرة مال وأولاد.
وفي الآيات ما يدل على أن طبقة المنافقين كانت أو كان أكثرها من ذوي اليسار والجاه. ولعل هذا من أسباب ما كان منها من مخامرة ونفاق. وكان هذا من أسباب ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة من مناوأة على ما شرحناه في مناسبات عديدة في السور المكيّة.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه موجه إلى المسلمين من جهة وإلى المنافقين من جهة أخرى أيضا على ما يلهمه روحها وهدفها. للأولين على
__________
(1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.(9/454)
سبيل التعليم والتعليل والتلقين والتهوين والتسلية. وللآخرين على سبيل التنديد والإنذار والزراية.
ولقد تعددت تخريجات المؤولين على ما يرويه المفسرون لما ظنوه إشكالا في جملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من حيث إن الأموال والأولاد في الدنيا يسببون السرور لا العذاب.. من ذلك أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأن تقديرها فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فيصبح معناها إن الله سوف يعذبهم بها في الآخرة بسبب حبسهم أموالهم عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم وفسادهم في الأرض. ومنها أن عذابهم بها في الدنيا هو وعيد رباني بأنه سوف يسلط عليهم بسبب مواقفهم الصادة عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم المصائب والضرائب والحسرات. ومنها أن الجملة تنطوي على معنى كون أموالهم وأولادهم هي من قبيل الاستدراج والابتلاء وليست من قبيل الحظوة من الله على ما جاء في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها مثل باب سورة القلم [44 و 45] وطه [131] والمؤمنون [54- 56] وآل عمران [118] فلا ينبغي أن يثير ذلك عجب النبي والمؤمنين.
والتأويلان الثاني والثالث هما أوجه من التأويل الأول فيما نرى مع القول إنه يصح مزج التأويلين معا. وقد يصح أن يقال أيضا إن حكمة التنزيل هدفت إلى تهوين شأن أموال المنافقين وأولادهم وبث روح القوة والتعالي في نفوس المؤمنين المخلصين. وهو ما انطوى أيضا في الآيات المشار إلى سورها وأرقامها آنفا.
وعلى كل حال إن الآيات موضوعيا هي في صدد منافقين مخامرين في إيمانهم وصلواتهم وصدقاتهم. وقد احتوت الآية [54] تعليلا قويا للوعيد الرباني الذي تضمنته الآية [55] ويجب أن يبقى ويؤخذ مدى الآيتين في هذا النطاق.
وفي الآيات كما في سابقاتها تلقين مستمر المدى والأثر. فلا ينبغي أن يكون لأموال ذوي القلوب المريضة ومظاهر قوتهم تأثير في الموقف الذي يجب أن يوقف منهم إزاء ما يبدو منهم من تثاقل في أداء الواجبات ورغبة في التفلت منها.(9/455)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
ولا ينبغي أن يكون ما يقدمونه أحيانا مساعدات بضغط ظروف المجتمع وسيلة إلى الإغضاء عن المواقف التخريبية والمخامرات الضارة التي تبدر منهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
. (1) يفرقون: يخافون.
(2) مدخلا: مكانا يدخلون إليه ليستخفوا فيه.
(3) يجمحون: يسرعون.
الخطاب في الآيتين موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يقرر به:
1- أن المنافقين يحلفون لهم بالله إنهم منهم وعلى ملتهم وهم في الحقيقة ليسوا كذلك.
2- وإنما يحملهم على ذلك فزعهم وخوفهم. وأنهم لو وجدوا ملجأ يعتصمون به أو مغارات يختفون فيها أو مدخلا ما يجعلهم في أمان لسارعوا إلى ذلك تخلّصا من الموقف الثقيل عليهم. والخطر الذي يهددهم ويحملهم على النفاق والمراءاة.
تعليق على الآية وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآيتين. والمتبادر أنهما استمرار في السياق والموضوع وجزء من السلسلة. وفيهما توكيد آخر وأقوى لما قلناه قبل من تطور موقف المنافقين وخضد شوكتهم وتناقص عددهم واضطرارهم إلى(9/456)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
المجاملة والتوكيد بإخلاصهم أكثر من ذي قبل. كما أن فيهما تقريرا لحقيقة حالهم وعدم تبدلها برغم ما يظهرونه من مجاملة وتوكيد بسبيل فضيحتهم وتقريعهم والتحذير منهم.
والصورة التي ترسمها الآيتان قوية رائعة حقّا. وهي من الصور التي تشاهد خاصة حينما يستعلي المخلصون في ظروف النضال. وفيهما تلقين مستمر المدى والأثر بوجوب الانتباه لهذه الفئة وعدم الانخداع بما تظهره من ضروب الرياء والمداهنة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 60]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
. (1) يلمزك: يطعن فيك أو يعيب عليك. ومعنى الكلمة هنا: ينسب إليك المحاباة.
(2) الصدقات: هنا كناية عن الزكاة.
(3) العاملين عليها: الموظفين لجبايتها.
(4) المؤلّفة قلوبهم: الطبقة التي يراد تأليف قلوبهم وتقوية ارتباطهم بالإسلام ومصلحته.
(5) وفي الرقاب: وفي عتق العبيد والمماليك وفكّ رقباتهم من العبودية.
(6) الغارمين: المدينين المعسرين أو الذين يتحملون المغارم.
في الآيات:
1- إشارة إلى صورة أخرى من صور المنافقين ومواقفهم: فإن منهم من كان(9/457)
ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم منها ويرضون إذا أعطاهم.
2- وتنديد بهم: فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله.
3- وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة.
تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين. وما روي في صددها من روايات وما روي من أحاديث وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها
ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألّفهم فقال رجل: ما عدلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين» «1» . وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال: «إن رسول الله كان يقسم إذ جاءه ذو
__________
(1) التاج ج 4 ص 118. وروى شارح الحديث أن هذا هو ذو الخويصرة حرقوص بن زهير التميمي. وأن الأربعة الذين تألفهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وزيد الطائي وعلقمة العامري الكلابي. وهم من مشاهير زعماء قبائل العرب.(9/458)
الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب ائذن لي فأضرب عنقه، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد:
أشهد أني سمعت هذا من رسول الله وأشهد أن عليا حين قتلهم- يعني الخوارج- جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» «1» . وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له ويلك فمن ذا يعدل؟ ثم قال احذروا هذا وأشباهه. فإن في أمتي أشباه هذا. يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورآه رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية «2» .
وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله
__________
(1) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا. انظر التاج ج 5 ص 284 و 285.
(2) هناك حديثان آخران من باب هذه الأحاديث يرويهما الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وفيهما بعض الزيادات (انظر التاج ج 5 ص 283 و 284) . ولم يذكر في سياقهما أيضا أنهما في صدد نزول الآية. فلم نر إيرادهما ضرورة اكتفاء بما أوردناه.(9/459)
عنه وكان في جيشه مع قومه وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على عليّ لقبوله التحكيم وقتل في من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج «1» . ولقد روى الطبري أن عليّ بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال ما كذبت ولا كذبت «2» .
والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث عليّ الذي يرويه الطبري فيكون فيه، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بغيب وقع بعد موته.
هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة. لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول- إذا كانت الوقائع متعددة- من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن
__________
(1) انظر تاريخ الطبري ج 3 ص 376 وما بعدها وج 4 ص 52- 65 وننبه على أن الطبري يسميه حرقوص بن زهير السعدي ولا ندري هل هو التميمي أم غيره.
(2) المصدر نفسه ج 4 ص 68، 69.(9/460)
السياق. وكل ما في الأمر أنها احتوت إشارة إلى موقف كان وقفه بعض المنافقين من نوع ما ذكرته الأحاديث في معرض التذكير بأقوال ومواقف المنافقين وتقريعهم والتنديد بهم بمناسبة تثاقلهم عن غزوة تبوك.
والموقف الذي حكته الآية الأولى يدل على ما كان من جرأة المنافقين على الطعن في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدله والتهويش عليه في سبيل منافعهم الخاصة.
ويدل على ما كانوا عليه من خبث طوية وفراغ إيمان وقلة ثقة بالله ورسوله. ثم على ما كان النبي يلقاه من هذه الفئة الخبيثة. والذي نرجحه أن ذلك الموقف مما كان يبدر منهم حينما كانوا أكثر قوة أو حينما كان النبي والمسلمون أقل قوة واستعلاء مما صاروا إليه حين نزول الآيات. وقد أشير إليه هنا على سبيل التذكير والتنديد كما قلنا.
والموقف المحكي هو في الآية الأولى فقط. أما الآيتان الأخريان فقد جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد حيث احتوت الثانية تنديدا بالمنافقين وتنبيها إلى ما كان الأولى بهم لو كانوا مخلصين حقا وحيث احتوت الثالثة تحديدا للمصارف التي لا يجوز أن تعطى الصدقات لغيرها.
ومع أن الآية الثالثة قد جاءت مع الآية الثانية كما قلنا على سبيل التعقيب والاستطراد فإنها هي الوحيدة التي وردت في القرآن عن أصناف مستحقي الصدقات جميعها وكانت من أجل ذلك هي المستند التشريعي في هذا الأمر.
والمجمع عليه أن الصدقات المقصودة في الآية هي الزكاة المفروضة خاصة.
ولعلّ في ورود جملة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ في الآية قرينة على ذلك. هذا مع القول إن هذه الجملة قد تكون في نفس الوقت بسبيل التشديد على واجب إبقاء الزكاة في نطاق مصارفها المعينة.
والمفروض في الآية الثالثة هو مصارف الزكاة وليست الزكاة. لأن فريضة الزكاة قد فرضت كما استلهمنا من آيات مكيّة منذ أواسط العهد المكي أو قبل ذلك. وقد استلهمنا من آيات مكيّة أخرى أن مقاديرها أيضا كانت معينة في العهد(9/461)
المكي على ما نبهنا عليه في سياق سور الأنعام والذاريات والمعارج والمزمل.
وبناء على ذلك نعتقد أن القول بأن في الآية فرضا للزكاة هو تحميل لها غير ما تحمله نصا وروحا. وغير متسق مع الأوامر القرآنية العديدة المكيّة ثم المدنيّة التي نزلت قبل هذه الآية بمدة غير قصيرة بوجوب إيتاء الزكاة وقرنها بالصلاة واعتبارهما الركنين المتلازمين اللذين لا بد منهما لصحة دعوى الإسلام.
ولقد قال بعضهم إن هذه الآية نسخت ما جاء في القرآن من أوامر الصدقة حيث قامت فريضة الزكاة مقام ذلك. وهذا القول منبثق من اعتبار الآية فرضا للزكاة. قد نبهنا على ما في هذا الاعتبار من تجوز قبل قليل. وهذا فضلا عن أن روح الآيات القرآنية الكثيرة المكيّة والمدنيّة تلهم بكل قوة أنها أوسع من أن تحصر الصدقة بالقدر المحدود المستوجب بالزكاة المفروضة. فمهما كثر مقدار هذه الزكاة فإن مجال الإنفاق في سبيل الله في معناها الشامل وفي وجوه البرّ ومساعدة المحتاجين يظل أوسع من أن يملأ ذلك القدر المحدود وتظل حكمة التنزيل مستمرة المفعول بالنسبة للصدقات التطوعية. وفي الآية [103] من هذه السورة التي نزلت بعد الآيات التي نحن في صددها دلالة قوية على ذلك حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ صدقة من أموال الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا ليزكيهم ويطهرهم بها. والمتبادر أن هذه الصدقة هي غير الزكاة المفروضة. وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه دليل على ذلك رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت «سألت النبي صلى الله عليه وسلم أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال إنّ في المال لحقّا سوى الزكاة. ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى آخر آية سورة البقرة [177] «1» وفيها أمر بإيتاء المال بالإضافة إلى ذكر الزكاة.. وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل جملة لها مغزى عظيم في هذا الباب وهي: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ...
وكل هذا يسوغ القول إن الزكاة المفروضة المحددة المقدار بالسنّة النبوية هي
__________
(1) التاج ج 2 ص 39.(9/462)
الحدّ الأدنى لما يجب على صاحب المال أن يؤديه تطهيرا لماله.
والزكاة واجبة على جميع الأموال التي تبلغ النصاب الأدنى المعين بالسنّة النبوية. وتشمل الغلات الزراعية شجرا أو حبا والماشية والنقود والعروض التجارية المتنوعة الأخرى كما هو المجمع عليه أيضا. والقرآن لم يعين إلا مصارفها. أما المقادير الواجبة فقد عينتها السنّة النبوية. وإذا لاحظنا أن الآية الثالثة إنما جاءت على سبيل الاستطراد والتعقيب والردّ على اللامزين ظهرت لنا حكمة عدم ذكر المقادير فيها. ويصح أن يقال إن هذا الأمر ترك للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه بإلهام الله وفقا لما تمليه الظروف والمصلحة والإمكانيات.
والمصارف الثمانية التي ذكرت في الآية قد جمعت كل وجه محتمل من وجوه الإنفاق سواء أكانت المصالح العامة للإسلام والمسلمين أم الطبقات المعوزة. وهو ما اجتمع في مصارف الغنائم والفيء على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال [41] وآية الحشر [7] حيث يبدو التساوق قويا رائعا.
وقد يلحظ أن معظم المصارف المذكورة في الآية قد ذكرت في آيات أخرى وردت في سور سبق تفسيرها. منها ما ورد في آيات الغنائم والفيء في سورتي الأنفال والحشر. ومنها ما ورد في آية سورة البقرة [177] حيث جاء فيها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ....
ويمكن أن يقال إن ما جاء في آية سورة البقرة وما من بابها قد جاء للحثّ على إعطاء الفئات المحتاجة المذكورة فيها بصورة عامة مما قد يدعمه ذكر الزكاة في آية البقرة مستقلا أيضا ثم شاءت حكمة التنزيل أن تجمع مصارف الزكاة المفروضة في آية واحدة ليكون ذلك فرضا إلزاميا فكان ذلك في الآية التي نحن في صددها التي نزلت بعد تلك الآيات. كما يمكن أن يقال في صدد تكرر ذكر بعض مصارف الغنائم والفيء في عداد مصارف الزكاة أن حكمة التنزيل لحظت احتمال عدم تيسر الغنائم والفيء دائما أو عدم كفايتهما للحاجة فشاءت زيادة في العناية(9/463)
بالفئات المحتاجة أن تكرر ذكر بعض ما ذكر في آيات الغنائم والفيء والله أعلم.
وقد يلحظ أيضا في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية ثلاثة لم ترد في مصارف الفيء والغنائم. وهي المؤلفة قلوبهم والرقاب والغارمون. وقد تكون حكمة التنزيل اقتضت ذكر هذه الفئات نصّا نتيجة لتطور حالة المسلمين والسلطان الإسلامي. على أن هذه الأصناف لا تخرج في الوقت نفسه عن المجموعتين اللتين يوزع عليهما الفيء والغنائم وهما المصالح العامة والطبقات المعوزة.
وقد يلحظ كذلك أنه ليس في مصارف الصدقات اسم (رسول الله) في حين كان هذا الاسم بين مصارف الغنائم والفيء. ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة بأوساخ الناس ونبّه على أنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد على ما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث الهاشمي حيث قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» «1» . وكان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل وإن قيل صدقة لم يأكل على ما رواه الترمذي ومسلم «2» . حتى أنه لم يحلها لمولى من مواليه لأن مولى القوم من أنفسهم على ما رواه أبو داود والترمذي. حيث رويا عن أبي رافع مولى رسول الله «أنّ النبيّ بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال له اصحبني فإنك تصيب منها قال حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم وإنّا لا تحلّ لنا الصدقة» «3» .
ويتبادر لنا إلى هذا حكمة أخرى. وهي أن خلوها من اسم رسول الله قد يكون بمثابة ردّ على ما حكته الآية من لمز النبي بالصدقات. فكأنما أريد أن يقال لهم من باب المساجلة إن رسول الله نفسه ليس له نصيب في الصدقات وإنّه والحالة هذه فوق كل مظنة وشبهة ولمز. ومسألة الأموال العامة ولا سيما التي تؤخذ من
__________
(1) التاج ج 2 ص 30- 31 وفي الحديث الأخير تلقين إنساني رائع في صدد اعتبار مملوك المرء من نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(9/464)
المسلمين مسألة حسّاسة يتسع فيها مجال التهويش والفخر فكان ذلك من أسباب ما يتبادر لنا من حكمة في تنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها خلافا للغنائم والفيء التي تكسب من أموال الأعداء وتوزع على مستحقيها بقطع النظر عن فقرهم وغناهم. وفي هذا تلقين قوي لمن يتولّى أمر المسلمين ومصالحهم وأموالهم العامة أيضا مع التنبيه على علوّ مرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرامته عن كلّ مرتبة وكرامة.
ولقد فرق أهل التأويل «1» بين زكاة الماشية وغلة الأرض وزكاة النقد والعروض حيث ذهب بعضهم إلى أن حق بيت المال محصور في جباية زكاة الماشية وغلة الأرض طوعا أو كرها دون زكاة النقد والعروض. التي يستطيع الواجبة عليه توزيعها مباشرة ولا يحق لبيت المال جبايتها كرها. وحيث ذهب بعضهم إلى أن لبيت المال الحق في كل ما تجب فيه الزكاة.
ويلحظ أن الآية مطلقة ولا تتحمل هذا التفريق. وأن تعبير وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ما يمكن أن يسوغ القول إن جباية أنواع الزكاة حقّ لولي الأمر بواسطة عماله. ومن الذين قالوا القول الأول من استدل على قوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يرسل جباته لجباية زكاة الغلات والمواشي فقط. وليس هناك أحاديث نبوية تؤيد القول الأول هذا بأسلوب حاسم وقطعي. في حين أن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة فيها دلالة على صحة القول الثاني، من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي جاء فيه «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» «2» والعباس لم يكن صاحب مواش وإنما كان صاحب أموال سائلة على ما هو المشهور. ومن ذلك حديث رواه الإمام مالك عن القاسم بن محمد جاء فيه «إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وكان إذا أعطى الناس أعطياتهم يسأل الرجل هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة. فإذا
__________
(1) اقرأ الفصل الطويل الذي عقده الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال على الصدقة ص 349 وما بعدها وص 567 وما بعدها وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) التاج ج 2 ص 24 و 25.(9/465)
قال نعم أخذ من عطائه زكاة ذلك وإن كان قال لا أسلم إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئا» «1» . وحديث رواه الإمام مالك أيضا عن عائشة بنت قدامة عن أبيها أنه قال «كنت إذا جئت عثمان بن عفّان أقبض عطائي سألني هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة فإن قلت نعم أخذ من عطائي زكاة ذلك المال وإن قلت لا دفع إليّ عطائي» «2» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة الحديث المشهورين عن عبد الرحمن بن عبيد القاري قال «كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «3» .
وإذا كان حقا أن جباة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يباشرون جباية زكاة المواشي وغلة الأرض فحسب فالمتبادر أن هذا إنما كان لأن أكثر الثروة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي المواشي وغلات الأرض.
وفي كتاب الأموال للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام بحث طويل «4» سرد فيه أقوال عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في هذا الأمر جاء في أوله عزوا إلى ابن سيرين أن الصدقة كانت تدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمر به وإلى أبي بكر وعمر وعثمان أو من أمروا به. فلما قتل عثمان اختلفوا فكان منهم من يدفعها إلى الخلفاء وكان ابن عمر ممن يدفعها إليهم. ومنهم من يوزعها بنفسه. ثم أخذ أبو عبيد يورد أقوالا أخرى لأصحاب رسول الله وتابعيهم حيث قرر بعضهم وجوب دفع الزكاة عن جميع الأموال لبيت المال وجوّزه بعضهم. وجعل بعضهم الخيار للمسلمين في زكاة النقود والعروض في أدائها لبيت المال أو توزيعها من أيديهم. ومنهم من لم يجوز دفعها لبيت المال بل قال بتوزيعها مباشرة. وقد علل أصحاب القول الأخير مذهبهم بأن بيت المال صار في يد ملك عضوض فلا يجزىء أداء الزكاة له عن
__________
(1) الموطأ ج 1 ص 128. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) كتاب الأموال ص 425.
(4) المصدر نفسه ص 567 وما بعدها.(9/466)
الغرض. وقد أوجب علماء الشيعة دفع جميع أنواع الزكاة للإمام العلوي الذي كان هو الإمام الشرعي عندهم ولو لم يكن يمارس سلطانا. وكانت عائشة أم المؤمنين ممن يدفع الزكاة إلى بيت المال على ما ذكره الإمام أبو عبيد في فصل كتابه المذكور آنفا.
والأخذ والرد والنقاش كان يدور حول زكاة النقود والعروض كما قلنا.
وجمهور المتكلمين يسلمون بجباية بيت المال لزكاة الغلات والماشية. والذين قالوا بعدم جواز دفع زكاة النقود والعروض لبيت المال في حكم الملك العضوض قالوا إن أداء زكاة الغلات والماشية اضطراري لأن هذه الزكاة لا يمكن أن تمنع إلّا بالقوة التي يمكن أن ينتج عنها فساد وفتنة بعكس زكاة النقود والعروض التي يمكن أن تمنع لأنها مما يمكن أن لا تعلم. والذين أوجبوا أو جوزوا أداء زكاة النقود والعروض لبيت المال قالوا بناء على هذا المعنى الأخير بعدم الإجبار وبتصديق من يقول أدى زكاته مباشرة.
والمستفاد من كل هذا أنه لم يكن في البدء خلاف في حق ولي أمر المؤمنين في جباية جميع أنواع الزكاة. وتولّي توزيعها. وهو المستفاد من فحوى الآية وروحها. وأن ما وقع من فتن وخلافات حزبية في صدر الإسلام هو الذي أدى إلى هذا التفريق الذي كان قديما جدا والذي جرى عليه العمل منذ ذلك الزمن القديم الذي يبلغ في حساب السنين ألفا وثلاثمائة ونيفا. والراجح أن الأمويين الذين كان العمل بهذا في عهدهم واستمر بعدهم قد جنحوا فيه إلى التساهل تفاديا من الفتنة في حالة إجبار الناس عليه وقد كثرت مواردهم واكتفوا بما كان يأتيهم منه طواعية دون إكراه. ثم بزكاة الغلة والماشية التي تعرف على حقيقتها ولا يمكن إخفاؤها ولا التفلت من زكاتها. إذ يكون ذلك عصيانا يسيغ التنكيل. وكان موقف أبي بكر من مانعيها ما يزال حديث عهد اشترك في التضامن معه فيه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل انحصار ثروة الوسط العربي في الماشية وغلة الأرض تقريبا في الظروف التي قامت فيها الدولة الأموية في أول عهدها مما جعل هذه الدولة قليلة الاهتمام لزكاة النقد القليلة أو سوغ انصراف الذهن عنها بعض الشيء. فكان هذا(9/467)
وذاك أصلا أو مسوغا لما جرى عليه المسلمون. وقد يحسن أن يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث فيها إذن لبعض المسلمين بإعطاء صدقاتهم للأزواج والأقارب كالحديث المروي عن سلمان الضبي الذي جاء فيه «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة رحم» «1» والحديث الذي قال فيه لزوجة ابن مسعود جاءت إليه تستأذنه في إعطاء صدقتها لزوجها وولدها «زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «2» وما أثر عن عمر رضي الله عنه من إذنه لرجل أتى إليه بزكاة ماله «بأن يذهب بها فيقسمها» «3» وما أثر عن عثمان رضي الله عنه من قوله «من تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا» «4» حيث يسوغ أن يكون ذلك من مبررات ما كان من جعل الناس بالخيار في هذا الأمر.
وعلى كل حال فليس هناك قرآن ولا سنّة تمنع الدولة من جباية جميع أنواع الزكاة من جميع ما هي مفروضة عليه من أموال المسلمين وتوزيعها على مستحقيها أسوة بالغنائم والفيء.
ولقد نبهنا على خطورة تشريع الزكاة وما ينطوي فيه من حكمة ربانية جليلة تهدف إلى ضمان أمن المجتمع الإسلامي. وتخفيف أزمات المحتاجين من بنيه.
وبثّ التعاون والتضامن بين أفراد هذا المجتمع في تعليقنا الأول على الزكاة في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وفي كتب التفسير والحديث بيانات متنوعة «5» في صدد الجهات والفئات
__________
(1) كتاب الأموال ص 353، هذا الحديث من مرويات الشيخين والنسائي والترمذي أيضا انظر التاج ج 2 ص 35.
(2) المصدر نفسه ص 586- 587.
(3) المصدر نفسه ص 571.
(4) المصدر نفسه ص 437 و 531.
(5) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي لتفسير هذه الآيات وانظر التاج ج 2 ص 3- 40 وكتاب الأموال ص 349- 613 وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 43- 47.(9/468)
الثمانية المذكورة في الآية الثالثة وتوزيع الزكاة عليها نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ لنا من تعليق. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر ضرورة للتبسط فيها.
1- الأقوال مجمعة على أن (الفقير) و (المسكين) صنفان. وهذا ملموح في ذكر الاثنين. ومما ذكره المفسرون عزوا إلى بعض أهل التأويل أن الفقير هو المحتاج المتعفف عن السؤال وأن المسكين هو المحتاج الذي يسأل. كما رووا أن الفقير هو المحتاج من المسلمين والمسكين هو المحتاج من الذميين. مع أن هناك حديثا نبويا فيه تعريف حاسم رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس وتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» . وقد ورد في الآية [177] ذكر للسائلين والمساكين معا وفي هذا دعم قرآني.
ولقد اختصت حكمة الله المسكين بالذكر أكثر من الفقير وجعلت له نصيبا في الفيء والغنائم كما جعلته هو الذي يجب أن يطعم ويكسى من كفارات الأيمان والظهار وقتل الصيد في حالة الحرم إلخ إلخ لأنها رأته على ضوء وصف النبي صلى الله عليه وسلم له هو الأشد حاجة والأوجب رعاية من الذي يسأل ويطوف على الناس وفي هذا ما فيه من مغزى جليل. وقد كان هذا الأمر موضوع تعليق لنا في سياق أول آية مكيّة ذكر فيها المسكين في سورة المدثر.
ولقد رويت أحاديث نبوية في من تحلّ له المسألة أي سؤال الناس وفي من تجوز عليه الصدقة. منها حديث رواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي» «1» وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن أنس قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي
__________
(1) التاج ج 2 ص 28 و 29.(9/469)
فقر مدقع أو لذي غرم مفظع. أو لذي دم موجع» «1» وحديث رواه كذلك أصحاب السنن عن عبد الله قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح. قيل يا رسول الله وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من ذهب» «2» . وحديث رواه أبو داود وابن حبان عن سهل بن الحنظلية قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سأل وله ما يغنيه فإنّما يستكثر من النار، وفي رواية من حجر جهنّم. قالوا يا رسول الله وما يغنيه. قال قدر ما يغديه أو يعشيه وفي رواية أن يكون له شبع يوم وليلة» «3» وحديث رواه أبو داود وأحمد والحاكم عن عطاء بن يسار قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمسة:
لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدّق على المسكين فأهداها للغني» «4» . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يحتطب أحدكم جزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» «5» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «قال قلت يا رسول الله إنا قوم نتساءل أموالنا فقال صلى الله عليه وسلم يسأل الرجل في الجائحة والفتق ليصلح بين الناس فإذا بلغ أو كرب استعفّ» «6» وحديث رواه الإمام نفسه عن عدي بن الخيار أنه حدثه رجلان قالا «جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع والناس يسألونه الصدقة. فزاحمنا عليه الناس حتى خلصنا إليه فسألناه من الصدقة فرفع البصر فينا وخفضه فرآنا جلدين. فقال إن شئتما فعلت ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» «7» . وحديث أورده ابن كثير عن عمر بن الخطاب
__________
(1) التاج ج 2 ص 28 و 29.
(2) المصدر نفسه ص 29 و 30 و 177.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه. [.....]
(6) كتاب الأموال ص 548 و 549 ومعنى إذا بلغ أو كرب استعفّ أي إذا بلغ صاحبه أو قريبا منها تعفف عن السؤال.
(7) المصدر نفسه.(9/470)
جاء فيه: «ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الأخلق الذي ليس له حظّ من كسب» .
وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن قبيصة بن مخارق الهلالي جاء فيه: «لا تحلّ المسألة إلّا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» «1» .
وروى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل» «2» . وعن أم سنان الأسلمية قالت: «جئت رسول الله فقلت يا رسول الله إني جئتك على حياء وما جئتك حتى ألجأت الحاجة فقال لو استغنيت لكان خيرا» «3» وعن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» «4» . وروى البزار عن أبي هريرة قال: «إنّ رجلين أتيا رسول الله فسألاه فقال اذهبا إلى هذه الشعوب فاحتطبا فبيعاه فذهبا فاحتطبا ثم جاءا فباعاه فأصابا طعاما ثم ذهبا فاحتطبا أي ضا فجاءا فلم يزالا حتى ابتاعا ثوبين ثم ابتاعا حمارين فقالا قد بارك الله لنا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» «5» وروى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتح أحدكم على نفسه باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر» «6» .
والأحاديث بسبيل تأديب المسلم ورفع مستواه الخلقي والأدبي. وتجنيبه ذلّ السؤال. وحثّه على الكسب. وهي رائعة في بابها. وفيها تلقين جليل بأن أخذ
__________
(1) التاج ج 2 ص 28.
(2) مجمع الزوائد ج 3 ص 93- 95.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(9/471)
الصدقة لا يمكن ولا يصح أن يكون حلا لمشكلة الفقر وأن هذه المشكلة لا تحل إلا بالعمل والكسب. وأن الصدقة إنما هي للمحتاج غير القادر على الكسب لسبب من الأسباب. ولقد أمر الله الناس بالعمل والكسب وابتغاء فضل الله ورزقه في آيات كثيرة مبثوثة في السور المكيّة والمدنيّة التي مرّ تفسيرها حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر. ولقد كره بعضهم بناء على ذلك إعطاء القادر على الكسب ولو كان محتاجا. وكره بعضهم إعطاء من ليس في حاجة عاجلة ما دام عنده ما يسدّ رمقه في حالته الحاضرة. ومنهم من قدر ذلك بخمسين درهما أو عدلها ذهبا وفضة. ومنهم من قدر ذلك بشبعه وشبع عياله يوما «1» . ولقد قال الإمام أبو عبيد تعليقا على الأحاديث إنها من قبيل التغليظ على السائل والسؤال. وإن المعطي يجزئ عنه ما يعطيه للسائل. وإن هذا هو ما عليه أمر الناس وفتيا العلماء.
وقد يكون هذا وجيها بخاصة بالنسبة لحاجة السائل الملحة. غير أن التلقين الذي نوهنا به يظل هو الأقوى فيما هو المتبادر.
وننبه على أن الكلام هو في صدد السؤال والسائلين أما المحتاج الذي لا يسأل ولا يقدر على الكسب أو لا يتيسّر له مجال للكسب فليس من حرج في إعطائه مطلقا. وهذه صفة المسكين على ما جاء في الحديث الذي أوردناه قبل.
وحقّه في الزكاة منصوص عليه والله تعالى أعلم.
وهناك من كره أن يعطي الشخص الواحد من الفقراء والمساكين أكثر من خمسين درهما. وفي قول أكثر من مائة درهم. وهناك من أجاز ذلك. وقد روي في صدد الإجازة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «إذا أعطيتم فأغنوا» «2» وقوله: «لأكررن عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل» «3» . وفي هذا من السداد والحكمة ما فيه. بل نراه عظيم الهدف لأن به يخلص فقير من الفقر ولا يظل موضعا للصدقة.
__________
(1) انظر كتاب الأموال ص 553 وما بعدها.
(2) المصدر نفسه ص 565.
(3) المصدر نفسه.(9/472)
والأقوال مجمعة على جواز إعطاء المكلّف صدقته لأقاربه الفقراء والمساكين الذين لا تجب عليه إعالتهم شرعا. وقد روي في صدد ذلك حديث نبوي عن سلمان بن عامر الضبي جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «1» . بل لقد روي حديث نبوي أجاز فيه إعطاء الزوجة زكاتها لزوجها وولدها الفقراء على اعتبار أنها غير مكلفة بهما شرعا حيث روي عن ابن مسعود أنه أفتى لامرأته أن تعطيه صدقتها فأبت حتى تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت فاستأذنته «فقال لها صدق ابن مسعود زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «2» .
وهناك من أجاز إعطاء اليهودي والنصراني والمجوسي بل وغيرهم من الصدقة إذا كانوا فقراء ومساكين لإطلاق الآية. وهناك من لم يجز ذلك. وهناك من أجازه إذا لم يكن فقيرا أو مسكينا من المسلمين. ولقد روينا في سياق بحث الجزية أي في سياق الآية [29] من هذه السورة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رتب من بيت المال الذي تجتمع فيه الصدقة وغيرها ليهودي طاعن ضرير مرتبا مما يدعم القول الأول. وهناك آية في سورة البقرة فيها إشارة داعمة له أيضا على ما شرحناه في سياقها. وهي الآية [272] ومع ذلك فإن القول الثالث لا يخلو من وجاهة وصواب أيضا.
2- والأقوال مجمعة على أن وَالْعامِلِينَ عَلَيْها هم السعاة عليها قبضا وقسمة. وهناك من قال إن لهم ثمن ما يجبون. وهناك من قال إنهم يعطون أجرة مثلهم على قدر عمالتهم ولو كانوا أغنياء عنها وهو الأوجه الذي عليه الجمهور.
3- وأكثر الأقوال على أن المؤلفة قلوبهم هم الذين يتألفون على الإسلام استصلاحا لهم ولذويهم واستفادة من خدماتهم ولو كانوا أغنياء. ولقد روى
__________
(1) كتاب الأموال ص 353.
(2) المصدر نفسه ص 586- 587 والحديث جاء في سياق طويل اكتفينا بالجوهري المتصل بالمسألة منه.(9/473)
الطبري عن الزهري أحد أئمة الحديث من التابعين أنهم أو أنه يدخل فيهم من أسلم من اليهود والنصارى ولو كانوا أغنياء. وهناك مأثورات أوردناها قبل قليل تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى لزعماء قبائل أغنياء من الصدقات لأجل هذه الغاية. وهناك أقوال عديدة بأن هذا الصنف قد بطل بعد أن أعز الله الإسلام. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاءه عيينة بن بدر فقال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ليس اليوم مؤلفة وقد قال الطبري الصواب عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما سدّ خلّة المسلمين والثانية معونة الإسلام وتقويته.
فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطى في كل وقت وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وعزّ الإسلام وقال الإمام أبو عبيد إن حكم هذا الصنف محكم ولا ناسخ له من كتاب ولا سنّة «1» . وفي هذا وجاهة وسداد ظاهران. ومعناه بعبارة أخرى أنه يجوز لولي أمر المؤمنين أن يعطي من الصدقات من يرى في إعطائه مصلحة للإسلام والمسلمين في كل وقت ومكان ولو لم يكن محتاجا. ويدخل في ذلك الرغبة في تأليف من دخل في الإسلام جديدا أو ضعفاء الإيمان من الزعماء والقائمون بأعمال نافعة للإسلام والمسلمين.
وهناك من قال يدخل في هذا الباب الكفار لدفع شرّهم إذا خشي أو لجلبهم إلى الإسلام إذا رجي «2» . ولا يخلو هذا من وجاهة. وهناك من أدخل فيه من هم في حدود بلاد الأعداء من المسلمين لتقويتهم «3» . ومع وجاهة هذا القول أيضا فإنه أدخل في باب سبيل الله أكثر منه في باب المؤلفة.
4- وأكثر الأقوال على أن المقصود من وَفِي الرِّقابِ هم المكاتبون أي الذين يشترون أنفسهم من مالكيهم لقاء مبلغ يؤدونه إليهم على أقساط. وعلّل القائلون قولهم بأن الذي يعتق رقبة مباشرة يكون له حقّ ولائه وبعبارة أخرى يكون له حقّ في إرثه على ما جاءت به الآثار. فيكون في ذلك منفعة مستمرة للعاتق. في
__________
(1) كتاب الأموال ص 607. [.....]
(2) تفسير رشيد رضا.
(3) المصدر نفسه.(9/474)
حين أن الزكاة لا يجوز أن يكون فيها ذلك على ما شرحه الطبري في صدد تصويبه لهذا القول. على أن هناك من قال إن الكلمة تعني فكّ رقبة المملوك إطلاقا. وقد روي عن ابن عباس جواز عتق الرقاب من زكاة المال والإطلاق أوجه على ما يلهمه الإطلاق في الآية حيث يتناول المكاتب وغير المكاتب. فالله سبحانه حثّ على فكّ الرقاب إطلاقا وشرع بعض التشريعات بسبيل ذلك مما مرّ منه أمثلة. ففي هذا توجيه عام إلى ذلك العمل الإنساني الكبير.
5- وهناك من قال إن وَالْغارِمِينَ هم المدينون العاجزون عن الأداء الذين استدانوا لغير معصية وسرف وتبذير. وهناك من قال إنهم الذين حملوا حمالة «1» أو ضمنوا دينا وعجزوا عن تحمل ذلك من أموالهم أو أجحف أو يجحف أداء ذلك بهم. ويتبادر لنا أن النوع الثاني متفرع أو صورة ما من النوع الأول. ولقد رويت أحاديث نبوية تفيد أن التعبير يشمل النوعين حيث أبيح فيها إعطاؤهما من الصدقة. منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق عليه الناس فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلّا ذلك» «2» ومنها الذي روي عن قبيصة بن مخارق وأوردناه في الفقرة الأولى حيث وعد رسول الله فيه إعطاء الرجل الذي حمل حمّالة.
وقد أجاز بعض التابعين في احتساب الدائن دينا له على مدين معسر من الزكاة «3» . وفي هذا وجاهة ظاهرة فيما نرى. وفي آية سورة البقرة هذه وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ دعم لذلك.
6- وأكثر الأقوال على أن سَبِيلِ اللَّهِ في الآية تعني الجهاد الحربي وأسبابه. وهناك من قال إن كل ما فيه برّ عام وتقوية للإسلام يدخل في هذا
__________
(1) الحمّالة هي ما تحمّله الإنسان من دية قتيل أو غرامة ليصلح بين متخاصمين.
(2) التاج ج 2 ص 27، 28.
(3) كتاب الأموال ص 436.(9/475)
التعبير. ومن ذلك تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ويدخل فيه بطبيعة الحال الجهاد الحربي وأسبابه.
وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر. لأن سبيل الله كما قلنا في مناسبات عديدة سابقة أشمل من الجهاد الحربي الذي ليس هو إلّا وسيلة من وسائلها. وهناك من قال إن إعانة المسلم على الحجّ يدخل في هذا الباب. وليس من سند قوي يسند هذا القول كما أن الحجّ هو فريضة على المستطيع بنفسه ولا يترتب على غير المستطيع.
7- ومعظم الأقوال على أن وَابْنِ السَّبِيلِ هو المجتاز من أرض إلى أرض وقد نفد ما في يده وأصبح محتاجا إلى مساعدة ولو كان في بلده غنيّا. وهناك من قال إنه الضيف إطلاقا. وروح الآية تجعل الرجحان للأول. على أن القول الثاني لا يبعد عن باب الأول إذا كان الضيف غريبا محتاجا كما هو الواضح. وحقّ ابن السبيل في الزكاة هو أن يعطي ما يكفيه لمعيشته وبلوغه إلى بلده.
8- والأقوال مختلفة في صدد جواز الاجتزاء بإعطاء صنف أو أصناف دون أخرى مما ذكر في الآية. حيث قال بعضهم بجواز ذلك وحيث قرر بعضهم وجوب تجزئة الصدقة وتوزيعها على الأصناف جميعها. ولقد أورد المفسرون في صدد هذه المسألة حديثا نبويا رواه أبو داود جاء فيه: «أن رجلا جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة فقال إن الله تعالى لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزّأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» «1» . وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرف خلقه أن الصدقات لا تتجاوز هذه الأصناف إلى غيرهم. وهذا وجيه سديد كما هو المتبادر. وليس في الحديث ولا في نصّ الآية وروحها ما يؤيد القول الثاني. والأكثر على القول الأول. وقد يصح أن يقال في هذا الصدد إن القول بوجوب إعطاء الصدقة لجميع الأصناف متعسر
__________
(1) هذا الحديث ورد في التاج برواية أبي داود انظر ج 2 ص 27.(9/476)
التنفيذ أيضا إذا كان المعطي هو المكلّف لأنه قد لا يكون ما يجب عليه مجزيا لتوزيعه على أكثر صنف أو صنفين بل إن هذا هو الغالب. أما إذا كان بيت المال هو الذي يعطي فإنه مستطيع أن ينفق على كلّ صنف لأن الصدقات تتجمع فيه من كل نوع ومكان. ويجب عليه والحالة هذه أن ينفق على كل ما يتطلب الإنفاق من كل نوع.
9- وهناك من نبّه إلى أنه لا يجوز إعطاء حصة صنف من الأصناف إلى أقل من ثلاثة منهم. وليس في هذا أثر نبوي ولا صحابي. ونحن نراه غريبا لأنه قد لا يكون وقت الإعطاء أشخاص عديدون من صنف واحد وقد لا يكون ما يعطيه المكلف إذا أعطى صدقة بنفسه مجزيا للتوزيع على أكثر من شخص واحد.
10- وقد كره بعضهم إعطاء صدقة بلد إلى أهل بلد آخر مع وجود المستحقين في البلد واستندوا في ذلك إلى حديث نبوي يوصي فيه معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن حيث جاء فيه: «فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم. فإن هم أطاعوا بذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» «1» .
وليس في الحديث تأييد حاسم للقول المذكور فيما نرى. لأنه إنما احتوى شرح مبادئ الإسلام والزكاة. ولا سيما أن الله قد جعل للزكاة مصارف عديدة ولم يجعلها للفقراء وحدهم. أو لعلّ بعثة معاذ قبل أن تنزل الآية التي تذكر مصارف الزكاة. وبيت مال المسلمين تتجمع فيه الصدقات من كل ناحية وتوزع منه على مصارفها في كل ناحية. فليس من حكمة لتخصيص زكاة كل بلد لأهل ذلك البلد.
وقد يكون في القول وجاهة بالنسبة للمستوجب عليه الزكاة إذا أراد توزيعها بنفسه.
__________
(1) رواه الخمسة عن ابن عباس انظر التاج ج 2 ص 3- 4، والقصد من النهي عن كرائم الأموال أن لا يأخذ الزكاة من أحسن ما عندهم أو من أحب ما عندهم أو أحسنه وأحبه إليهم.(9/477)
استئنافا بالأحاديث النبوية التي تجعل الأولوية للأقارب وذوي الأرحام. وقد أوردنا بعضا منها قبل قليل.
ونكرر هنا ما قلناه في تعليقنا الأول على الزكاة في سورة المزمل أنه ليس هناك ما يمنع أن ينشأ بمال الزكاة أو بجزء منه منشآت لمصلحة المعوزين مثل المياتم والمشافي والعيادات ودور العجزة والملاجئ والصنائع والضيافة حيث يكون هذا أدوم وأشمل وأهدى والله أعلم.
هذا، ولقد شاءت حكمة التنزيل أن لا يرد في القرآن مقادير الزكاة فبينت ذلك السنّة النبوية. وهو ما كان شأن الصلاة أيضا. وقد رأينا أن نورد المبادئ الرئيسية من ذلك إتماما للكلام. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر أن نتبسط فيها:
1- النصاب الأدنى في الإبل السائمة خمس فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الخمس شاة ثم تزداد الفريضة بنسب محددة من الزيادة «1» . ويستثنى من ذلك العوامل أي التي تعمل في حرث وسقي. فزكاتها مندمجة في زكاة الغلة التي تنتج من عملها «2» . ويستثنى من ذلك الإبل المعدة للتجارة. فإن زكاتها تكون حسب قيمتها كعرض «3» .
2- النصاب الأدنى في البقر ثلاثون فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الثلاثين تبيع ثم تزداد الفريضة بنسب محدودة من الزيادة. والاستثناءان الواردان في صدد الإبل واردان هنا أيضا. وصدقة الجواميس مثل صدقة البقر «4» .
__________
(1) كتاب الأموال 358 وما بعدها وفي هذا الفصل أحاديث وبيانات كثيرة اكتفينا بالأساس منها. وفي التاج أحاديث فيها تعيين للنسب والمقادير وما أوردناه في المتن مستخلص من كل ذلك. انظر التاج ج 2 ص 10 وما بعدها.
(2) المصدر نفسه ص 381.
(3) المصدر نفسه ص 382.
(4) المصدر نفسه 378 وما بعدها.(9/478)
3- النصاب الأدنى في الغنم- الضأن والماعز- أربعون. ولا صدقة فيما دون ذلك. وفي الأربعين شاة إلى أن تبلغ مائة وعشرين فتزداد الفريضة بنسبة الزيادة. ويستثنى من ذلك ما كان للتجارة فإنه يقوّم وتؤدى زكاته حسب قيمته «1» .
4- النصاب الأدنى في الذهب عشرون دينارا. وفي الفضة مائتا درهم.
وليس فيما دون ذلك صدقة «2» . وفي النصاب وما فوقه اثنان ونصف في المائة.
ولا تستحق الصدقة إلّا إذا حال على النصاب أو ما فوقه حول حيث يكون معنى ذلك أنه فائض عن نفقة الحائز كما هو المتبادر. وهناك قول بأن صدقة الذهب تعطى ذهبا وصدقة الفضة تعطى فضة، بحيث إذا ملك شخص النصاب في أحدهما ولم يملكه في الثاني يؤدي زكاة عن ما يملك نصابه دون الثاني. وهناك قول بأن الذهب والفضة يقدران معا فإذا بلغت قيمتها النصاب الذهبي أو الفضي وجب عليه الزكاة بقطع النظر عن نقص نصاب الذهب أو الفضة. وهذا هو الأوجه في ما هو المتبادر. لأن النقد ثمن السلعة وليس سلعة. والقيمة تقدر بنفعها الاستعمالي.
والأقوال مجمعة على أن النصاب الذي يحول عليه الحول يجب أن يكون زائدا على الدين الذي قد يكون على مالكه.
وبالنسبة للزمن الحاضر يصحّ أن تقدر قيمة العشرين مثقالا من الذهب أو المائتي درهم من الفضة بما تساويه اليوم فتكون قيمتها الحاضرة هي النصاب الواجب أداء الزكاة عنه وعن ما يزيد عليه على ما هو المتبادر. وهو ما يقرر جمهور العلماء المعاصرين.
5- هناك حديث يرويه الدارقطني والحاكم صححه عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «في الإبل صدقتها. وفي البقر صدقتها. وفي البزّ صدقته» «3» حيث ينطوي تشريع نبوي يجعل عروض التجارة إذا بلغت قيمتها النصاب خاضعة
__________
(1) كتاب الأموال ص 382 وما بعدها و 386.
(2) المصدر نفسه 408 وما بعدها والأقوال المذكورة في هذا الفصل أيضا.
(3) التاج ج 2 ص 19. البزّ بالفتح الثياب أو ثياب التجارة. [.....](9/479)
للزكاة. وهو ما عليه الجمهور. والمتواتر أن هذه العروض تقوم بقيمتها حين ما يحول الحول عليها وتؤدى صدقتها يحسب ذلك كصدقة النقد. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: «كنت على بيت المال في زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «1» وروي عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: «مرّ بي عمر فقال يا حماس أدّ زكاة مالك فقلت مالي مال إلا جعاب وأدم فقال قوّمها وأدّ زكاتها» «2» وروي عن نافع عن ابن عمر أنه قال: «ما كان من رقيق أو بزّ يراد به التجارة ففيه زكاة» «3» .
والجمهور على أن الرقيق الذي تجب على قيمته الزكاة هو ما كان للتجارة «4» .
وهذا في محلّه.
ولقد اختلف المؤولون والفقهاء في اللؤلؤ والجواهر والمصوغات الذهبية والفضية. فهناك من أوجب على قيمتها الزكاة في أي حال. وهناك من أوجب الزكاة على ما كان منها للتجارة دون الحلية لأن الحلية في منزلة أثاث البيت ومتاعه فلا تجب عليه صدقة «5» . وقد يكون هذا هو الأوجه. وتبدو وجاهته قوية إذا ما لوحظ أنه ينفد بالزكاة في بضع سنين لأنه غير نام. والله تعالى أعلم.
6- في المال المدين أقوال عديدة «6» . منها وجوب تزكية الدين إطلاقا.
ومنها أن زكاته لا تجب على صاحبه ولكنها تجب على المديون. ومنها أن لا زكاة عليه إلّا بعد قبضه. ومنها أن ما كان مرجو القبض يزكي عنه صاحبه وما لم يكن كذلك يؤجل حتى يقبض. ولعلّ أوجه الأقوال كما هو المتبادر لنا تزكية الدين
__________
(1) كتاب الأموال ص 425 و 465 و 466.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه ص 129.
(5) المصدر نفسه ص 441.
(6) المصدر نفسه ص 425 وما بعدها.(9/480)
المرجو قبضه وتأجيل غير المرجو إلى أن يقبض.
7- ليس في الخيل والبراذين والحمير زكاة إذا كانت للاستعمال وتجب عليها إذا كانت للتجارة حيث تكون كالإبل والبقر والغنم المعدة للتجارة «1» .
8- النصاب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب خمسة أوسق. وليس فيما دون ذلك صدقة. والوسق 15 مدا والمدّ ملء إناء ماء يكفي الوضوء أو وزن رطلين أي نحو 400 غرام «2» . وفي النصاب وما فوقه العشر في ما يسقى بماء المطر والعيون. ونصف العشر فيما يسقى بماء الآبار والسواقي والنواضح «3» . أي أن زكاة هذه المواد أربعة أضعاف زكاة النقد.
9- العنب والبلح والقطاني كالحمص والعدس والعسل والزيتون والخضار مما اختلف في وجوب الصدقة فيه لاختلاف الأحاديث في ذلك حيث ذكرت في بعض الأحاديث وأغفلت في بعضها. وقال بعضهم إذا بيعت تحسب كسلعة تجارية وتؤدى صدقتها إذا بلغت نصاب النقدين. خلافا للحنطة والشعير والتمر والزبيب التي يجب أداء صدقتها إذا ما بلغت النصاب. ولو كانت لطعام صاحبها «4» .
10- وقد اختلف في وجوب أداء صدقة غلة الأرض إن كان صاحبها مدينا فقال بعضهم بوجوبها وقال بعضهم بعدم وجوبها وتوسط بعضهم بإسقاط قيمة الدين فإن بقي نصاب تؤدى زكاته «5» . وهو الأوجه. والله أعلم.
11- وأقوال العلماء القدماء على أن قيمة أدوات حرفة الصانع لا تدخل في تقويم ما يجب على صاحب الحرفة من زكاة ما يملكه من عروض ونقد في نهاية الحول.
غير أن الظروف الحاضرة غيرت الصورة بعض الشيء حيث صار هناك معامل
__________
(1) كتاب الأموال ص 468 وما بعدها.
(2) المصدر نفسه ص 463 وما بعدها.
(3) المصدر نفسه ص 468 وما بعدها.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(9/481)
ومصانع ودور صناعة ومهن تقدر قيمتها بمبالغ كبيرة. وقد أوجب بعض العلماء المعاصرين تقويمها وأداء الزكاة عن قيمتها. واعتبرها بعضهم مالا مجمدا كالأرض وأوجب الزكاة على ما تدره من ربح بعد طرح أجور العمال وأكلاف مواد العمل إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يربحه من هذه الأدوات إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يريحه من هذه الأدوات إذا بلغ ربحه النصاب أو زاد وحال عليه الحول وكان زائدا عن حاجة معيشته أثناء السنة. ومع ذلك فقد يكون أوجه من القول بأن على صاحب المصنع الكبير تقويم قيمة مصنعه وأداء الزكاة عنها. لأنه يقتضي أن يدفع زكاة قيمة مصنعه سنويا مضافا إليها ما زاد عن حاجته من أرباحه. فيكون قد دفع مضاعفا ودفع زكاة مال مجمد يستنفده الدفع في بضع سنين أيضا والله تعالى أعلم. بل ولعل القول الثاني أوجه من باب أولى أيضا لأن الأرض ثابتة ومستمرة الإغلال في حين أن المصنع معرض للاستهلاك مع الوقت ومحتاج إلى نفقة الترميم والإصلاح مستمرة أيضا مع شيء من التعديل. فزكاة غلة الأرض تؤدى حين حصادها وهذا مستند إلى نص قرآني وهو آية الأنعام هذه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [141] بقطع النظر عن حيلولة الحول. ونفقة حياة صاحبها. ثم إن زكاة الأرض التي تسقى بها والسواقي والآبار والنواضح تكون نصف زكاة الأرض التي تسقى بماء المطر والضخ بدون كلفة. ويلحظ أن زكاة غلة الأرض تبلغ نحو أربعة أضعاف زكاة النقد والعروض التجارية. والحكمة المتبادرة من ذلك هي أن الأرض لا يدفع عنها زكاة مع أنها ذات قيمة كبيرة لأنها مجمدة فاقتضت الحكمة أن تكون زكاة غلتها مضاعفة بالنسبة المذكورة وأن تدفع يوم حصادها وجنيها بقطع النظر عن حيلولة العام والله أعلم.
13- وفي العصر الحديث صورة جديدة لم تكن في القديم وهي أسهم الشركات المساهمة التي يشتريها ويتداولها الناس ويأخذون ربحها حسب نتائج(9/482)
وحسابات إدارة الشركات. ومع ما قد يرد على البال من فرق بين هذه وبين المصانع والعقارات المعدة للإيجار فإن الأسهم في يد صاحبها مجمدة.
والجمهور على أن دور السكن لا يؤخذ عن قيمتها زكاة ولكن صار يقوم عمارات متنوعة معدة للإيجار وبيوت للسكن وفنادق وحمامات ومخازن ودكاكين وأندية ومقاهي إلخ.. وهذه ذات قيمة كبيرة. ولكن الأموال مجمدة فيها وإذا أخذ زكاة قيمتها يكون جنفا على أصحابها لأن هذه الزكاة قد تبلغ نصف الريع أو ربعه ولذلك يتبادر لنا أيضا أن أسلوب غلة الأرض ينطبق على هذه أيضا فيكون زكاة هذه العمارات مستوجبا على ريعها. ويكون مضاعفة مثل غلة الأرض وريع المعامل والمصانع. ولما كانت هذه العمارات تحتاج إلى إصلاح وتجديد فتكون زكاتها مثل زكاة غلة الأرض التي تسقى بماء الآبار والضخ والله أعلم.
وقد يقال إن قياس المعامل والعمارات المعدة للإيجار على الأرض فيه تجوز لأن الأرض دائمة والمعامل والعمارات قد تزول غير أنه يتبادر لنا أن هذه العمارات والمعامل قد تدوم عشرات بل مئات السنين واستثناؤها من التعويض أكبر من نسبة النقد من جنف عن مورد الزكاة ومصارفها ولذلك لا نزال نرى أن مضاعفة زكاة ريعها يظل وجيها والله تعالى أعلم. على كل حال وربحها محدود لا يتجاوز العشرة في المائة من قيمتها. على أحسن الحالات. فيكون في إيجاب زكاتها حسب قيمتها مضاعفة لقيمة الزكاة وإجحافا لصاحبها الذي قد لا يكون له مورد آخر. ويتبادر لنا أن الزكاة الواجبة عليها هي زكاة ربحها حسب النصاب الشرعي بكامله دون المناصفة. لأن المناصفة جعلت لغلات الأرض التي تسقى بالآبار والنضح وقيس عليها المصانع والعقارات المعدة للإيجار لأنها في حاجة إلى ترميم. وهذا وذاك ليس واردا بالنسبة لإسهام الشركات والله تعالى أعلم.
14- وهناك صورة أخرى. وهي ما يتقاضاه أرباب الوظائف الحكومية وغير الحكومية من مرتبات وما يحصل عليه أصحاب المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين من أجور. ومن هذه وتلك ما يكون كبير المقدار. ويتبادر(9/483)
لنا أن ما يبقى في يدهم في آخر كل سنة خالصا لهم تجب عليه الزكاة إذا بلغ النصاب أو زاد. والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث عديدة في عدم التضييق والتشديد على الناس في مقاضاة الزكاة الواجبة عليهم. وفي إيجاب التزام الحق على الجباة. منها حديث رواه الإمام أبو عبيد وأبو داود أيضا عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» «1» وحديث رواه الإمام مالك ورواه الخمسة أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بعث معاذا إلى اليمن «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات عن كل يوم وليلة. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة أموالهم. فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم. وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس لها دون الله حجاب» «2» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن عروة عن أبيه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فقال لا تأخذ من حزازات أنفس الناس شيئا. خذ الشارف والبكر وذا العيب» «3» وفي كتاب الأموال أحاديث صحابية تحتوي صورا تطبيقية فيها التزام لوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيمة.
ولقد أوردنا ما ورد من أحاديث نبوية في صدد وجوب أداء الزكاة وفي إنذار الذين لا يؤدونها في سياق تفسير الآية [34] من السورة. فنكتفي بهذه الإشارة لنربط بين تلك الأحاديث وبين بحث الزكاة.
وختاما نقول إن فحوى الآية متسق في هدفه التشريعي مع المبادئ القرآنية العامة في إيجابها على القادرين مساعدة المحتاجين والإنفاق في سبيل الله ووجوه البرّ والصالح العام من جهة، وفي عدم هذه الجهات هنا بالتطوع والتبرع من جهة ثانية، وفي جعل هذا الواجب مما يدخل في واجبات السلطان الإسلامي وجزءا من سياسة الدولة المالية والاجتماعية من جهة ثالثة. وفي هذا من المدى والروعة
__________
(1) كتاب الأموال ص 401 والتاج ج 2 ص 26.
(2) كتاب الأموال والتاج ج 2 ص 3 و 4.
(3) كتاب الأموال 402- 406. [.....](9/484)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
وخصائص التشريع القرآني ما فيه مما نبهنا عليه في سياق آيات الغنائم في سورة الأنفال والفيء في سورة الحشر.
[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
. (1) هو أذن: كناية عن وصف رسول الله بأنه يصغي ويسمع لكل ما يقال له ويصدقه.
في هذه الآية:
1- صورة أخرى للمنافقين حيث إنهم كانوا يؤذون النبي بأقوالهم ويصفونه بأنه يصغي لكل ما يقال له ويصدقه.
2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالردّ عليهم وإنذارهم. فإذا كان هو أذنا كما قالوا فإنه أذن خير للمسلمين المخلصين وليس أذن شرّ. وإنه لمؤمن بالله ومعتمد عليه وحده. وإنه لمؤمن للمسلمين المخلصين وراكن إليهم وحسن الظن فيهم. وإنه في خلقه هذا لرحمة للمسلمين المخلصين في إيمانهم ونياتهم. وإن الذين يؤذون رسول الله بأي نوع من الأذى قولا وفعلا وجهرا وسرّا مستحقون لعذاب الله الأليم.
تعليق على الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ... وما فيها من تلقين وصور
وقد روى الطبري وغيره «1» أن بعض المنافقين كانوا في مجالسهم الخاصة
__________
(1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير.(9/485)
يقدحون في النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حذر بعضهم بعضا من وصول خبر هذه المجالس إليه قالوا إنه أذن سهل الإقناع فننكر ونحلف له فيصدق ويقنع. وإلى هذه الرواية قال البغوي إن الآية نزلت في نبتل بن الحارث من المنافقين وكان مشوه الخلقة حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه على ما جاء في رواية البغوي «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل» وكان ينمّ حديث النبي إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال: «إنما محمد أذن. فمن حدثه صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا» . وكل من الروايتين محتملة ومتسقة مع الآية إجمالا. وإن كان مما يتبادر لنا أن الآية يمكن أن تفيد أن المنافقين إنما كانوا يعيبون على النبي صلى الله عليه وسلم كونه سريع الاستماع والتصديق لكل ما ينقل إليه مع تقريرها حقيقة أمرهم في تعمد القدح به وإيذائه.
على أن الذي نرجحه أن الآية لم تنزل لحدتها ولمناسبة ما ورد في إحدى الروايتين. وأنها جزء من السلسلة واستمرار في السياق. وعطفها على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب والعائد إلى من هم موضوع الكلام في الآيات السابقة قرائن على ذلك. ويسوغ القول والحالة هذه أن الصورة كانت قديمة معروفة عن المنافقين فذكرت في سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاقهم ومواقفهم التي اقتضت حكمة التنزيل وحيها أثناء غزوة تبوك للتنديد بتثاقلهم وتخلفهم عن الغزوة. والله أعلم.
والردّ الذي احتوته الآية انطوى على ثناء رباني بليغ على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وما تحلّى به من صفات كريمة محببة. وجاء الردّ بسبب ذلك قويا محكما في الوقت نفسه: فالنبي إذن خير لهم. وليس ظنان سوء بالمؤمنين المخلصين. وإنه ليراهم خليقين بالاعتماد والثقة والتصديق ولا سيما أنه يؤمن بالله ويجعل اعتماده عليه ولا يبالي ما وراء ذلك. وقد صار بهذا رحمة للمؤمنين. لأن إساءة الظن وكثرة الشك بدون موجب وخاصة في المخلصين من مفسدات الأمور ومعقدات النفوس. وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك في سورة الحجرات على ما مرّ تفسيره. ومما لا ريب فيه أن في هذه الصفة على هذا البيان مستمد إلهام قوي لمن يتولى قيادة الأمة.(9/486)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
. عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا حكاية حلف المنافقين ليرضوا المؤمنين وردّا عليهم بأنهم لو كانوا صادقين لكان الأوجب عليهم أن يرضوا الله ورسوله، وإنذارا لمن يحادد الله ورسوله بالخزي العظيم والعذاب المخلّد.
تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ... والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
روى المفسرون «1» عن قتادة أن جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إن كان ما يقول محمّد حقا فنحن شرّ من الحمير. وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فغضب الغلام وقال والله إن ما يقوله محمد حقّ وأنتم شرّ من الحمير ثم أتى رسول الله فأخبره.
فدعا لهم فسألهم فحلفوا له أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم هم الكاذبون.
وصدّقهم النبيّ فجعل عامر يدعو ويقول اللهمّ صدّق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله الآيتين. وهناك رواية أخرى عن مقاتل يرويها المفسرون «2» أيضا تذكر أن الآيتين نزلتا في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله أتوه يعتذرون ويحلفون فأنزلهما الله.
وفي السياق ما يفيد أن هذه السلسلة نزلت أثناء غزوة تبوك بحيث تكون الرواية الثانية غير محتملة الصحة. والرواية الأولى متسقة مع الآيتين ومحتملة الصحة. غير أن الذي يتبادر لنا على ضوء السياق أن الآيتين متصلتان بالصورة التي
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
(2) المصدر نفسه.(9/487)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
احتوتها الآية السابقة وبمشهد من المشاهد كان فيه بعض المؤمنين والمنافقين وجرى فيه أخذ ورد وعتاب ونقاش حول ما كان يقع من المنافقين من القدح والعيب في حقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالسهم الخاصة حاول المنافقون فيه التنصل والتبرّؤ مما عوتبوا عليه إرضاء للنبي صلى الله عليه وسلم والغاضبين لكرامته من المؤمنين المخلصين.
ومع ما قلناه فإننا نرجّح أن الآيتين لم تنزلا لمناسبة جديدة وليستا منفصلتين عن السياق. والمشهد الذي احتوتاه كان قديما فذكر في سياق سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاق المنافقين ومواقفهم. وعطف الآيتين على ما قبلهما وضمير الجمع الغائب من القرائن على ذلك.
وفي المشهد المحكي صورة أخرى لما صار إليه موقف المنافقين من تطور إلى الخوف والرياء والرغبة في كسب رضاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المخلصين. وفيه صورة تتكرر في ظروف استعلاء أصحاب الحق والمجاهدين في سبيله. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى بالتحذير من الانخداع بالمنافقين الذين لم يثبتوا إخلاصهم وصدق دعواهم في المواقف والظروف الهامة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
. في الآيات:
1- إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم.
2- وأمر للنبي بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء.(9/488)
3- وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنّا نلهو ونمزح.
4- وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصحّ لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزىء بالله وآياته ورسوله.
5- وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم. فقد كفروا بعد إيمان. وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرّون على إجرامهم.
تعليق على الآية يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
وقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا. ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله كأننا بهم غدا مقرّنين بالجبال فعلم النبي بأقوالهم فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا ومنهم من تاب وحسن إيمانه. ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القرّاء من أصحاب رسول الله أثناء غزوة تبوك وقال إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فكذّبه أحد المخلصين ثم ذهب ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم به فوجد القرآن قد سبقه. ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي والمخلصين لعلّ الله لا يفشي سرّنا. ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترحوا
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.(9/489)
قتل الجماعة المتآمرة فقال: «أكره أن تقول العرب لما ظفر محمّد وأصحابه أقبل يقتلهم» بل يكفيناهم الله بالدبيلة «1» . وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبيّ بن سلول في المدينة وأن النبي عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله. وقد ذكر هذا المفسّر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول: «اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها، تقشعرّ الجلود وتجب القلوب منها. اللهمّ اجعل وفاتي قتلا في سبيلك. لا يقول أحد أنا غسلت. أنا كفنت. أنا دفنت» وأنه أصيب يوم اليمامة.
وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكّه. وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا. ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظلّ مرتكسا في الكفر والنفاق. وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة.
وإن كنّا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها وأنها جزء من السلسلة وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة. وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صحّ هذا الترجيح وهو ما نرجوه تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي بن سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلّفين والله أعلم.
والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف. وبخاصة في الظروف العصيبة. والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم.
__________
(1) فسّر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم.(9/490)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي صلى الله عليه وسلم على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي صلى الله عليه وسلم في حقّ عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة (المنافقون) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
. (1) بخلاقهم: بنصيبهم.
(2) وخضتم كالذي خاضوا: بمعنى وفعلتم ما فعلوه من خوض وسعي في الباطل والفساد.
تعليق على الآية الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر(9/491)
أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكن منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حلّ بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوّة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. فقد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة.
وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية [42] بل منذ الآية [37] سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهرّبهم منها. ولعلّ ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك.
وإنما أشركن بالذكر لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا.
ويحسن أن ننبّه في مناسبة الآية [70] إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكيّة كانت تقصّ بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن(9/492)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنيّة فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لا تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟
وفي رواية قيل يا رسول الله كفارس والروم. قال ومن الناس إلّا أولئك» «1» . وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله «اقرأوا إذا شئتم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى آخر الآية» . ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمّل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة. حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادىء الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك.
[سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) .
__________
(1) انظر التاج ج 1 ص 36- 37.(9/493)
تعليق على الآية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ والآية التالية لها. وما فيهما من دلالة وتلقين. وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. وبعض ما ورد في سياقهما من أحاديث نبوية عن الجنة ورضوان الله
عبارة الآيتين واضحة أيضا. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددهما.
والمتبادر أنهما جاءتا استطراديتين للتنويه بالمؤمنين المخلصين وتبشيرهم مقابل ما سبقهما من التنديد بالمنافقين وإنذارهم: فالمؤمنون المخلصون من الرجال والنساء متضامنون متناصرون على كل ما فيه الخير والحقّ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله وسيكونون بسبب ذلك موضع رحمة الله القوي الحكيم. وقد وعدهم بالخلود في مساكن طيبة من جنّات عدن فضلا عن رضوان الله الذي يفوق في مداه ومعناه نعيم الجنّات.
وعلى هذا فالآيتان ليستا منفصلتين عن السياق والسلسلة. ومثل هذا الاستطراد للمقابلة مألوف في النظم القرآني مما مرّ منه أمثلة عديدة. وورود الآيتين في مقامهما يوثق ما قلناه من وحدة السلسلة وانسجام آياتها وترابطها.
وذكر المؤمنات في هذا المقام يؤكد الدلالة التي نبّهنا عليها قبل قليل في صدد بروز المرأة العربية ونشاطها في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركتها في ما كان من أحداث متنوعة في مجال الدعوة الإسلامية العظيم.
وفي ذكر المؤمنات مع المؤمنين في الآيات معنى آخر نوّهنا به في مناسبات عديدة سابقة وجاءت الآيتان لتدعمه وتؤكده بقوة. وهو توطيد القرآن الكريم لشخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. ومساواتها معه في المكانة الاجتماعية والسياسية والأهلية للتكاليف الإسلامية على أنواعها وبخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضامن والتناصر مع الرجل في كل ما يعود على المجتمع بالصلاح والخير مما هو ذو خطورة عظمى امتاز به القرآن وترشحت به(9/494)
الشريعة الإسلامية للشمول والخلود. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن على ما نبهنا عليه في مقدمتها. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل قد شاءت بذكر المؤمنات بهذا الأسلوب القوي في آخر سور القرآن توكيد توطيد مركز المرأة وشخصيتها في المجتمع الإسلامي سياسيا واجتماعيا على قدم المساواة مع الرجل ليكون هذا الأمر محكما وحاسما. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ولقد أورد المفسرون في سياق هاتين الآيتين أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة والمساكن الطيبة ورضوان الله، وفي بعضها حثّ على الأعمال الصالحة وترغيب فيها. من ذلك حديث رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هل مشمّر إلى الجنة. فإنّ الجنة لا حظر لها، هي وربّ الكعبة نور يتلألأ. وريحانة تهتزّ. وقصر مشيد ونهر مطرد. وثمرة نضيجة. وزوجة حسناء جميلة. وحلل كثيرة. ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة. وحبرة ونعمة.
في محلة عالية بهية. قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمّرون لها. قال: قولوا إن شاء الله. فقال القوم إن شاء الله» «1» . ومنها حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. فقام أعرابي فقال: يا رسول الله لمن هي؟ فقال: لمن طيّب الكلام وأطعم الطعام. وأدام الصيام. وصلى بالليل والناس نيام» «2» .
ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة. يا أهل الجنة. فيقولون لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك فيقول أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «3» . ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن عبد الله بن قيس قال:
__________
(1) من تفسير ابن كثير في سياق الآيات.
(2) المصدر نفسه.
(3) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج 5 ص 384.(9/495)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» «1» . ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الإمام أحمد قال: «قلنا يا رسول الله حدّثنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك. وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا ييأس. ويخلد لا يموت ولا تبلى ثيابه. ولا يفنى شبابه» «2» .
وليست هذه الأحاديث كل ما ورد في هذا الباب فهناك أحاديث كثيرة من بابها أوردها المفسرون أو وردت في كتب الحديث فاكتفينا بما أوردناه. ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما جاء في القرآن وثبت عن رسول الله من المشاهد الأخروية ونعيمها واجب. وأنه في نطاق قدرة الله وأنه لا بدّ من حكمة من ذكره بالأسلوب الذي ورد به. وفحوى الآيات والأحاديث يلهم أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين، والترغيب والحثّ على صالح الأعمال ابتغاء رضا الله ورضوانه.
[سورة التوبة (9) : آية 73]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
. عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددها. والمتبادر أنها بمثابة وصل بين أجزاء وموضوع السلسلة بعد الآيتين السابقتين اللتين جاءتا للاستطراد والمقابلة.
والمتبادر كذلك أن هدف الآية المباشر هو تلقين الموقف الذي يجب أن يقفه النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين بعد سرد مواقفهم ومكائدهم وأخلاقهم ولا سيما أن
__________
(1) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج 5 ص 383.
(2) من ابن كثير، وهناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه. انظر تفسير الطبري وانظر التاج ج 5 ص 364 وما بعدها.(9/496)
السلسلة في صددهم. أما ذكر الكافرين معهم فالمتبادر أنه من قبيل التعميم. ولقد ذكرت الآية [67] من السورة التي مرّت قبل قليل مصير الفريقين معا فيكون في ذكرهما معا في هذه الآية توكيد الآخر، ولقد ورد نصّ هذه الآية في سورة التحريم التي سبق تفسيرها. ويظهر أن مناسبة السياق والكلام اقتضت إيحاءها ثانية هنا.
ولقد روى الطبري في سياق الآية روايتين متعارضتين واحدة عن ابن مسعود جاء فيها أن في الآية أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بمجاهدة المنافقين بنحو ما يجاهد به المشركين والكفار، وأخرى عن ابن عباس والضحاك والحسن تفيد التفريق في المعاملة فتكون مجاهدة الكفار بالقتال والسيف والمنافقين بالإغلاظ لهم بالكلام والحدود.
وقال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب هو ما قاله ابن مسعود، فإن قاله قائل فكيف تركهم رسول الله مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم قيل إن الله تعالى إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر منهم ثم أقام على إظهاره. وأما من إذا اطلع عليه منهم أن تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها فأنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك.
ولقد جاء نصّ هذه الآية في سورة التحريم وهي الآية [9] وقد علقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد آخر. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها لتجدد المناسبة. ولقد علقنا على موقف النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين في سياق تفسير بعض آيات سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأحزاب والمنافقون بما يغني عن تعليق جديد آخر أيضا.. وإن كان من شيء نزيده على ما قلنا سابقا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل إلى آخر حياته لا يعتبر المنافقين أعداء محاربين ولم يقاتلهم ولم يأمر بقتلهم حيث يلهم هذا أنه اعتبر الآيات الواردة بذلك من قبيل الإذن وليس من قبيل الإلزام. وأن ما كان من موقفه منهم هو ما رأى فيه الخير والمصلحة للإسلام والمسلمين.
ومهما يكن من أمر فهذه الآية كمثيلاتها وعلى ضوء موقف النبي صلى الله عليه وسلم تنطوي(9/497)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
على تلقين قوي مستمر المدى بوجوب الوقوف من المنافقين وذوي القلوب المريضة في تصرفاتهم الدينية والاجتماعية والوطنية الشاذة المنحرفة عن الحق القويم موقف الشدة والتنكيل في حدود مصلحة الإسلام والمسلمين.
[سورة التوبة (9) : آية 74]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
. في الآية:
1- حكاية لما كان المنافقون يحلفون عليه بالله من كونهم لم يقولوا ما نسب إليهم من الأقوال الخبيثة الدالة على كفرهم وعدم إخلاصهم.
2- وتكذيب رباني لهم بتوكيد كونهم قد قالوا ما به الكفر وكفروا بعد إيمانهم. وزادوا على ذلك فحاولوا محاولات عدوان أحبطها الله فلم ينالوا منها مأربا.
3- وتقرير كون مواقفهم الخبيثة الجاحدة ناشئة من طبيعة نكران الجميل والحسد المجبولة عليها نفوسهم. إذ لم يكن موجب لنقمتهم وغيظهم إلّا ما عاد عليهم من الخير والنفع والفضل من الله ورسوله مما يستوجب الشكر بدل النقمة والكفر.
4- وإنذار رادع ودعوة جديدة لهم: فباب التوبة مفتوح لهم فإن يتوبوا يكن خيرا لهم وإن يصروا على موقفهم ويعرضوا فقد استحقوا عذاب الله الشديد في الدنيا والآخرة معا ولن يجدوا لهم في الأرض وليّا ولا نصيرا يدفع عنهم العذاب.
تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا.. وما فيها من صور وتلقين
ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أن شخصا اسمه الجلاس قال إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شرّ من الحمير. فنقلها(9/498)
ابن زوجته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعاتبه فحلف بأنه ما قال فنزلت الآية مكذبة له. ومنها أن الذي نقلها إلى النبي شخص آخر وكان صديقا للجلاس فقال للنبي خفت إن كتمتها أن تصيبني قارعة أو ينزل فيّ قرآن وإن الجلاس تاب بعد نزول الآية وحسن إيمانه.
ومنها أن قائل ذلك القول رجل غير الجلاس فانبرى له رجل مؤمن فقال له إن ما قاله حقّ ولأنت شرّ من حمار، فهمّ المنافق مع بعض أصحابه بقتله فلما عاتبهم النبي حلفوا له ما قالوا وما فعلوا وأن الرجل القائل كان فقيرا فأغناه الله حيث قتل له مولى فأعطاه رسول الله ديته. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول كبير المنافقين حيث قال: ما مثلنا ومثل محمد إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك.
ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وكان ذلك في أثناء غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنها نزلت في حق الذين استغابوا النبي أثناء غزوة تبوك وتآمروا على قتله. ومنها أن جملة وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا عنت تفكير بعضهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ففشلوا أو عنت ما قاله ابن أبي بن سلول. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.
وبعض هذه الروايات روي في مناسبة سابقة في هذه السورة وفي سورة (المنافقون) وعلى كل حال ففي الآية صورة من صور المنافقين ومواقفهم وأقوالهم ومسارعتهم إلى التنصّل وحلف الأيمان من جهة. وقد استهدفت التنديد بهم وفضحهم وإنذارهم وتلقين وجوب الوقوف منهم موقف الشدة من جهة أخرى.
ويتبادر لنا إلى هذا أن الآية غير منفصلة عن السياق والتسلسل. وكل ما في الأمر أنها احتوت هذه الصورة على سبيل التذكير بأخلاقهم ومواقفهم في معرض التنديد.
ومن المحتمل أن يكون الحادث وقع في أثناء غزوة تبوك فكانت المناسبة قائمة لذكره في السلسلة كما أن من المحتمل أن يكون وقع قبله فذكر على سبيل التذكير.
ولقد تكررت حكاية مواقف مماثلة من المنافقين مما يدل على أن هذه المواقف كانت تتكرر منهم فاستحقوا ما احتوته هذه الآية وأمثالها من التنديد والإنذار.
والفقرة الأخيرة قد تلهم أن المنافقين أخذوا في التناقص وعزلوا عن(9/499)
المجتمع الإسلامي حتى أصبحوا لا يجدون وليا ولا نصيرا. وهذا تطور واضح في مركزهم وفي استعلاء كلمة الله ورسوله.
والدعوة إلى التوبة ونصيحتهم بها حتى في مثل الظرف التطوري الذي صاروا فيه مما هو متسق مع الدعوة والنصيحة القرآنيتين المتكررتين في كل مناسبة وبالنسبة للمنافقين والكفار على السواء، ومؤكد لما نبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بكون الهدف الجوهري للتنزيل القرآني والشريعة الإسلامية إنما هو إصلاح البشرية وإنقاذ الناس من الضلال والفساد والأخلاق المنكرة.
ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن جملة وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ عنت شخصا كان فقيرا فصار غنيا بسبب دية حصل عليها بحكم رسول الله. ويتبادر لنا أنها أشمل مدى وقصد من حادثة شخص واحد. وإن ما تلهمه هو أن عهد رسول الله في المدينة قد صار إلى جانب بركته الروحية الفياضة سببا من أسباب الغنى والثروة للناس عامة ومن الجملة المنافقين. وهذا مما يتسق مع الروايات وبخاصة بعد أن أخذ سلطان الإسلام يتوطد ودعوته تنتشر وعاصمته المدينة المنورة- يثرب تزدحم بالناس من كل صوب لمختلف البواعث، والحركة الاقتصادية تقوى نتيجة لذلك.
والتقريع فيها قوي يكشف عن ناحية من نواحي نفوس المنافقين ومقابلتهم الفضل بالجحود. ويكشف في الوقت نفسه عن طبيعة خبثاء الطوية لؤماء الطبع.
وهي الحسد للمنعم والكيد للمتفضل والنقمة على مغدق الخير وسببه. وفي ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الطبيعة ووجوب الاحتراز منها. وتقرير كونها من صفات المنافقين وذوي القلوب المريضة.
ويلحظ أن الآية أكدت أن المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم.
ومع ذلك فحكمة الله اقتضت أن يظل باب التوبة مفتوحا لهم. وليس هناك أي خبر صحيح يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم أو قتلهم مما فيه تدعيم لما قلناه في سياق تفسير الآية السابقة لهذه الآيات. وتوافق مع الذي علّق به الطبري وأوردناه في سياق آية(9/500)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
سورة التحريم [9] من أن القتل والقتال لمن كفر بعد إيمانه علانية وأصرّ على ذلك دون من يكون قال ذلك خفية وعلم الله به ولكنه أنكره وقال إني مسلم إذ يكون بذلك قد حقن دمه وحسابه على الله.
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
. في هذه الآيات:
1- صورة أخرى من مواقف المنافقين حيث كان بعضهم يعاهد الله وينذر على نفسه إن آتاه الله من فضله ووسع عليه الدنيا بأن يتصدق ويخلص فلما حقق الله له أمنيته بخل وأخلف وعده.
2- وتعقيب على هذه الصورة يتضمن تقرير كون هذا الموقف قد أدى إلى اندماغ المخلف بالنفاق اندماغا مستمرا إلى يوم يلقى الله لأنه أخلف فيما وعد وكذب على الله تعالى فعاقبه الله على ذلك.
3- وسؤال استنكاري فيه إنذار ووعيد عما إذا كان المنافقون وهم يقفون مثل هذه المواقف الغادرة الكاذبة لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه علام الغيوب لا تفوته هاجسة ولا يغرب عن علمه شيء مما يدور في خلدهم؟
تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون «1» أن شخصا اسمه ثعلبة بن حاطب طلب من رسول
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي.(9/501)
الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله ليرزقه مالا فقال له ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فأعاد عليه السؤال فقال له أما ترضى أن تكون مثل نبي الله والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت. فقال له والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه. فقال رسول الله اللهمّ ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه المدينة فتنحّى عنها فنزل واديا وصار يقصر في واجبات الصلاة. وظلّ ماله ينمو وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فأرسل من يأخذ صدقة ماله منه فأبى وقال ما هذه إلا جزية أو أختها، فأنزل الله فيه الآيات. ورووا إلى هذه الرواية روايات أخرى منها أن ثعلبة نذر بما نذر أمام ملأ من قومه ثم ورث مالا فلم يف بما وعد. ومنها أن هذا النذر كان من جماعة من بني عوف فآتاهم الله من فضله فبخلوا. ومنها أنها نزلت في حاطب بن بلتعة. كان له مال في الشام فأبطأ عليه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن أتاه ذلك المال ليصدقن فأتاه فلم يفعل.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ولقد روينا قصة لحاطب بن بلتعة في سياق سورة الممتحنة تفيد أنه كان مخلصا وممن شهدوا بدرا. لذلك نستبعد صحة الرواية عنه. وفي الرواية التي ذكر فيها ثعلبة أن بعض أقاربه قال له ويحك قد أنزل الله فيك قرآنا فخرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل صدقته فقال له إن الله منعني من ذلك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال له رسول الله هذا عملك فقد أمرتك فلم تطعني. وقبض رسول الله ولم يقبض صدقته. فأتى أبا بكر فعرض عليه صدقته فقال له لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها مستنكرا. وقبض أبو بكر ولم يقبضها، فجاء إلى عمر فرفضها، ثم جاء بعده إلى عثمان فرفضها.
ومات في زمن عثمان. وهذا التفصيل عجيب. فالروايات لا تذكر أنه كان من المنافقين. والآية السابقة تشجع المنافقين على التوبة وتعدهم بالخير إذا فعلوا.
والآية الثانية إلى كل هذا تلهم أن الذين عاهدوا الله وأخلفوه أكثر من واحد وأنهم كانوا من المنافقين.
وعلى كلّ حال فالآيات تضمنت حكاية مشهد أو صورة خبيثة من مشاهد(9/502)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
المنافقين ومواقفهم. والذي نرجحه أن ذلك كان مما وقع قبل غزوة تبوك فاحتوت الآيات تذكيرا بذلك في معرض سرد أخلاق المنافقين كما هو الحال في الآيات السابقة. وأن الآيات والحكمة هذه جزء من السلسلة ولم تنزل لحدتها في مناسبة إحدى الروايات المروية والله تعالى أعلم.
وواضح أن الآيات تنطوي كسابقاتها على تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
ولقد أورد الطبري في سياقها بعض الأحاديث من ذلك حديث مرفوع رواه قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة. قالوا ما هي يا رسول الله قال إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم. أبصاركم عن الخيانة. وأيديكم عن السرقة.
وفروجكم عن الزنا» وحديث مرفوع آخر رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من كنّ فيه صار منافقا وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم. إذا حدّث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا وعد أخلف» . وهناك حديثان من باب الثاني رواهما الشيخان والترمذي وأبو داود جاء في أحدهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» «1» . وثانيهما عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهنّ كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها. إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «2» .
وفي الأحاديث مقاييس بليغة للمنافقين. ومن الحكمة المنطوية فيها كما هو المتبادر تقبيح هذه الصفات والتحذير منها وتقرير كونها لا يمكن أن تكون في مؤمن مخلص.
[سورة التوبة (9) : آية 79]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) .
__________
(1) التاج ج 5 ص 41.
(2) المصدر نفسه. [.....](9/503)
(1) المطوعين: المتطوعين. وروح الآية تلهم أنها هنا في معنى المتبرعين في الصدقات.
في الآية:
(1) صورة خبيثة أخرى للمنافقين حيث كانوا يعيبون المتبرعين من المؤمنين بالصدقات ويسخرون منهم وبخاصة من الذين يتصدقون بالقليل الذي يبلغ إليه جهدهم وطاقتهم.
(2) وتعقيب تنديدي على ذلك: فهم أحق بالسخرية. وليسخرن الله منهم وليكونن لهم عنده العذاب الأليم.
تعليق على الآية الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ... إلخ وما فيها من صور وتلقين
روى البخاري عن ابن مسعود حديثا جاء فيه: «لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون إنّ الله لغنيّ عن صدقة أبي عقيل. وإنّ الآخر ما فعل إلا رئاء فأنزل الله الآية» «1» ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث وأوردوا معه روايات أخرى «2» مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا المسلمين إلى التصدق فأقبلوا أغنياء وفقراء كل بحسبه. فكان من الأغنياء عبد الرحمن بن عوف الذي تصدّق بنصف ماله البالغ أربعة آلاف دينار أو بأربعمائة أوقية من فضة أو بأربعين أو بمائة أوقية من ذهب. وعاصم بن عدي الذي تبرّع بمائة وسق من تمر. وعمر بن الخطاب الذي تبرّع بمال كثير. وكان من الفقراء أبو
__________
(1) التاج ج 4 ص 118.
(2) انظر أيضا البغوي وابن كثير والطبرسي.(9/504)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
عقيل وفي رواية أخرى أبو خيثمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له لقد أجرت نفسي ونلت صاعين من تمر فأمسكت بأحدهما وأتيتك بالآخر فأخذ المنافقون يلمزون الأغنياء بالرياء ويسخرون بأبي عقيل أو أبي خيثمة ويقولون إن الله ورسوله لغنيان عنه. وأنه لم يأت بصاعه إلّا ليذكر بين الناس. ومما رووه أيضا أن رسول الله هتف يوما قائلا من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة فجاء رجل ليس في البقيع رجلا أقصر منه قامة ولا أشدّ سوادا ولا أذم لعين منه يقود ناقة ليس في البقيع أحسن ولا أجمل منها فقال أصدقة يا رسول الله قال نعم قال فدونكها فألقى إليه بخطامها. فقال والله إنه ليتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله فقال بل هو خير منك ومنها. وليس ما يمنع أن المواقف كانت تتكرر فتعددت الروايات وإن كان من الصحيح أن يؤخذ بحديث البخاري على أنه سبب نزول الآية مباشرة.
ونرجح أن الوقائع المروية وقعت قبل السفر إلى تبوك. ولعلها وقعت في مناسبة الإعداد لغزوة تبوك. وأن الآية لم تنزل حين وقعت. وأنها جزء من السلسلة في معرض ذكر أخلاق ومواقف المنافقين والتنديد بهم.
والصورة من الصور الخبيثة المألوفة من ذوي القلوب المريضة في مختلف الظروف حيث يبخلون بما آتاهم الله ثم يقدحون في ذوي النفوس السمحة من قبيل التعطيل والتغطية على بخلهم. وواضح أن في الآيات تلقينا مستمر المدى في تقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
[سورة التوبة (9) : آية 80]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
. تعليق على الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ... ومداها وما ورد في صددها من أقوال وروايات وأحاديث
عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الجمع(9/505)
الغائب عائد إلى المنافقين الذين هم موضوع الحديث في الآيات السابقة. وهي بسبيل تسجيل كفرهم وفسقهم وعدم إمكان شمولهم بغفران الله تعالى سواء أستغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يستغفر لهم حتى ولو استغفر لهم سبعين مرة. فإن الله لا يمكن أن يوفق ويهدي الفاسقين عن أوامره.
وقد روى المفسرون «1» أن المنافقين لما نزلت الآيات السابقة التي تحكي مواقفهم وتفضحهم وتندد بهم لجأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويطلبون منه الاستغفار لهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خيّرني أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم فاستغفر لهم أو همّ بذلك فأنزل الله الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدها: «لأزيدنّ على السبعين أو سأستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين ... » .
ولقد روى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر قال: «لما توفّي عبد الله بن أبيّ بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن به أباه. فأعطاه ثم سأله أن يصلّي عليه فقام رسول الله ليصلّي عليه فقام عمر فأخذ بثوب النبي فقال يا رسول الله تصلّي عليه. وقد نهاك ربّك فقال إنما خيرني الله فقال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وسأزيده على السبعين. قال عمر إنه منافق. قال فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» «2» . وبقطع النظر عما يتحمله هذا الحديث من ملاحظات سوف نوردها في سياق تفسير الآية: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ... التي ستأتي بعد قليل فإن خبر مسارعة المنافقين إلى الاعتذار للنبي وطلب الاستغفار منه لهم بعد نزول الآيات القارعة فيهم محتمل الصحة. وبخاصة بالنسبة للمنافقين الذين كانوا معه في غزوة تبوك. لأننا نعتقد أن هذه السلسلة نزلت أثناء هذه الغزوة على ما تلهمه القرائن العديدة في آياتها السابقة واللاحقة. غير أننا
__________
(1) انظر تفسير الخازن مثلا وانظر أيضا تفسير الطبري وابن كثير والبغوي.
(2) التاج ج 4 ص 118.(9/506)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
في حيرة من تتمة الروايات وبخاصة من حديث ابن عمر الذي يرويه الشيخان.
فليست هذه أولى مرة يؤذن القرآن ورسول الله بأن الله لن يغفر لهم سواء استغفر لهم أم لم يستغفر حيث ورد هذا في الآية [6] من سورة المنافقون. ويصعب علينا أن نسلّم بأن رسول الله استغفر لهم أو همّ بذلك. أو حدّث نفسه، بعد هذا التوكيد الحاسم الذي جاء في الآية التي نحن في صددها بعد آية المنافقون. أو أن يكون قد فهم عبارة آية التوبة فهما عدديا. ولا سيما أنها تلهم بقوة أنها على سبيل التغليظ والتشديد. ومع ذلك فليس لنا إذا صح الحديث إلا أن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتهد في الأمر ورأى أن التأييد القرآني بعدم مغفرة الله للمنافقين هو في حق أناس علم الله أنهم لا يصدقون في الندم وطلب الغفران وأن عفو الله تعالى ورحمته تتسعان لقبول استغفاره لمن يرى أن يستغفر له منهم إذا ما استغفر لهم أكثر من سبعين مرة. أو لمن يرى أنه صادق في ندمه وتوبته وطلب الغفران. ولعلّه استند في اجتهاده إلى الآية [74] التي شجعت المنافقين بعد أن قررت أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم وهمّوا بما لم ينالوا على التوبة والندم ودعتهما إليهما وقالت إن ذلك خير لهم تساوقا مع الهدف الإصلاحي الذي استهدفته حكمة التنزيل من جعل باب التوبة مفتوحا لكل الناس مهما فعلوا على ما شرحناه في سورة البروج.
وسيأتي في سياق آيات تجيء بعد قليل حديث بأن بعض المنافقين ممن لم يكن النبي يعلم نفاقهم جاؤوه نادمين وطلبوا أن يستغفر لهم فاستغفر لهم ودعا لهم مما قد يكون فيه تدعيم. والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 85]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
.(9/507)
(1) المخلّفون: المخلّفون وراءك أو المتخلفون.
(2) خلاف رسول الله: إما أنها بمعنى خلف أو بعد أو وراء وإما أنها بمعنى مخالفة لرسول الله.
(3) مع الخالفين: قيل إنها بمعنى المخالفين. وهناك من قرأها كذلك.
وقيل إنها بمعنى المتخلفين الذين تجعلهم طبيعة حالتهم يتخلفون كالنساء والصبيان والزمنى والمرضى والعميان. وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
1- إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر.
2- وردّا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشدّ حرا لو علموا. وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا معه في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم وأن يلعنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا. لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغترّ ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها. وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.(9/508)
تعليق على الآية فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ... والآيات الثلاث التي بعدها
وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص وما روي من روايات عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على كبير المنافقين ابن أبيّ بن سلول روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال لا تنفروا في الحرّ حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد إلى تبوك فأنزل الله قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة جزء من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة ردّ على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلّفهم.
ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبيّ بن سلول أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر ولكن النبي أتاه فلما دخل عليه قال له أهلكك حبّ اليهود فقال يا نبيّ الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي. وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي بن سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً.. نزلت في هذه المناسبة.
ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية(9/509)
يذكران أن عمر قال للنبي كيف تصلّي عليه وقد نهاك ربّك؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي عليه. ويلحظ كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر إنما خيّرني الله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبّهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات.
والحديث يذكر أن الآية وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ... نزلت بعد أن صلّى النبي على ابن أبيّ بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي إلى تبوك وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك «1» . وهذا يعني إذا صحّ الحديث أنه مات بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل. وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي كيف تصلّي عليه وقد نهاك ربّك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي لم يصلّ على ابن أبيّ بن سلول ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله أراد أن يصلّي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 4 ص 173.(9/510)
التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكّر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي صلى الله عليه وسلم الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسباتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر. فألف رجل في المدينة رقم عظيم.
ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي لم يكن فيه إلّا نحو ثمانين شخصا....
ويلحظ أن الآية [85] جاءت تكرارا للآية [55] من هذه السورة بفرق يسير.
وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا غير يسير في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بثّ القوة والعلوّ والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية [55] .
وتعبير فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يدلّ بصراحة كما قلنا أن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلّفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.(9/511)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشدّ مما احتوته الآيات السابقة حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلّوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره. لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلمّ بالناس من محن وبلاء في سبيل الله.
[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 87]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)
. (1) أولو الطول: ذوو القدرة والاستطاعة واليسار.
(2) الخوالف: يصحّ أن يكون المقصود بالكلمة الإشارة إلى النساء اللاتي كن بطبيعتهن يتخلفن عن الحرب في البيوت دون الرجال. ويصحّ أن يكون المقصود من يتخلّف عادة من نساء ومرضى وصبيان وشيوخ بصورة عامة. وقد عبر عن ذلك في آية سابقة بكلمة الْخالِفِينَ.
عبارة الآيتين واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولهما.
والمتبادر أنهما استمرار في الحملة على المنافقين المتخلفين التي وردت في السياق السابق، فهم كلما أنزل الله أمرا قرآنيا بالإيمان به والجهاد في سبيله بادر ذوو القدر(9/512)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
واليسار منهم إلى الالتماس من النبي بأن يدعهم يبقون مع القاعدين عن الحرب.
راضين بذلك مهانة البقاء مع الخوالف العجزة فكان ذلك مظهرا من مظاهر انغلاق قلوبهم وأفهامهم عن إدراك مغبة موقفهم ومهانته.
[سورة التوبة (9) : الآيات 88 الى 89]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
. وعبارة الآيتين كذلك واضحة. وصلتهما بالسياق قائمة من حيث ورودهما على سبيل التنويه والإشادة بموقف المخلصين الذين كانوا يلبّون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتنفيذ أمر الله فيسارعون معه إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم. والبشرى لهم. وتقرير فلاحهم وسعادتهم ورضاء الله عنهم والمقابلة لما ذكر من مواقف المنافقين وأخلاقهم، والتنديد بهم وإنذارهم في الآيات السابقة مما جرى عليه النظم القرآني في المناسبات المماثلة التي مرّت أمثلة عديدة منها.
[سورة التوبة (9) : آية 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
. 1- المعذّرون: قيل إنها بمعنى (المعتذرون) أي الذين اعتذروا عن الاشتراك في غزوة تبوك. وقيل إن المعذّر هو الذي يتوسل بعذر غير قوي وغير وجيه وغير معقول. أو المقصّر في الأمر المتواني فيه.
تعليق على الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ.. وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من صور
يستفاد مما أورده المفسرون «1» في تأويل هذه الآية أنها تحتمل أن تكون
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي.(9/513)
بسبيل الإشارة إلى فريقين من الأعراب. فريق جاء معتذرا طالبا الإذن له بالتخلّف عن غزوة تبوك وكانت أعذاره كاذبة وغير وجيهة. وفريق قعد وتخلّف بدون اعتذار واستئذان. ويحتمل أن تكون بسبيل الإشارة إلى فريق واحد فقط من الأعراب جاء معتذرا طالبا الإذن بالتخلّف وقعد عن الجهاد في سبيل الله وكان في اعتذاره وقعوده كاذبا فيما عاهد الله ورسوله عليه من الصدق في الإسلام والجهاد في سبيل الله. أما فقرة سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فهناك من جعلها عائدة إلى الفريق أو الفريقين واعتبر اعتذارهم الكاذب وقعودهم كفرا. وهناك من جعلها عائدة إلى الذين يصرّون على الكفر من الفريق أو الفريقين.
وقد رووا ثلاث روايات في صدد المعتذرين، منها أنهم جماعة من بني غفار. ومنها أنهم جماعة من أسد وغطفان. ومنها أنهم رهط عامر بن الطفيل. ولم يذكر الذين قالوا إن الآية تحتوي إشارة إلى فريقين أي اسم للفريق الذي قعد بدون اعتذار واستئذان. وإنما قالوا إنهم منافقو الأعراب.
وقد تلهم روح الآية وفحواها أن القول بأنها تحتوي إشارة إلى فريقين وأن الفقرة المذكورة عائدة إلى الذين يصرّون على الكفر منهم هو الأوجه والله أعلم.
وعلى كلّ ففي الآية صورة لموقف بعض الأعراب المنضوين إلى الإسلام إزاء غزوة تبوك وكان موقفا فيه نفاق وكذب ونكث عهد فاستحقّ أصحابه ما احتوته الآيات التالية من تنديد وتوبيخ شديدين.
والآية صريحة الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استنفر الذين أعلنوا له إسلامهم من قبائل البدو أيضا إلى غزوة تبوك. وذكر الآية اعتذار فريق وقعود فريق منهم لا يفيد بالطبع أن جميع من استنفروا تخلّفوا. والروايات تروي أن كثيرا من البدو أجابوا واشتركوا في الحملة. والعدد العظيم المروي البالغ ثلاثين ألفا يؤيد ذلك فيما هو المتبادر.(9/514)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 96]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
. في الآيات:
1- تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله. ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي إجابتهم فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد. لأنه ليس على من أدّى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلّفون وهم أغنياء قادرون مفضّلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
2- ووصف لهؤلاء: فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.(9/515)
3- وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي والمسلمون. حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
4- وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به: فعلى النبي والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن. وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أخبارهم. وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم. وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسرّ. وعلى النبي والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله. لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.
تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ... والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية [91] نزل في حقّ ابن أم كلثوم الضرير.
وقسما آخر نزل في حقّ فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية [92] نزلت في جماعة التمسوا من النبي أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سمّوا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصّهما ونصّ الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من(9/516)
فقراء ومرضى ذوي عاهات فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل «1» تصرف ما جاء في الآيات [93- 96] إلى المنافقين المتخلّفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عودة إلى ذكر الأعراب حيث يلهم هذا أن الفصل جميعه من الآية [90] إلى الآية [99] في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات [93- 96] هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات [91- 96] مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ وتعبير إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ صريحا الدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية [83] من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفر دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحرّ تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنها أسماؤهم. وقد عرفوا في روايات السيرة
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي ... إلخ.(9/517)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
بالبكائين «1» . ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشدّ. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى: فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
[سورة التوبة (9) : آية 97]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
. تعليق على الآية الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ... واستطراد إلى نقد ما كان من استعمال ابن خلدون كلمة العرب محل كلمة الأعراب
عبارة الآية واضحة، وهي كما يبدو تعقيب على الآيات السابقة التي احتوت
__________
(1) هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجّلها نحن أيضا لأن من حقّ أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال: سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم.(9/518)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
تنديدا بالأعراب المعذرين والقاعدين. وعلى سبيل الاستطراد لبيان طبيعة الأعراب أكثر منها لقصد التشديد والتغليظ على ما هو المتبادر. فكافرهم يكون أشدّ كفرا ومنافقهم أشدّ نفاقا. وهم أكثر بعدا عن تقدير وإدراك وفهم حدود ما أنزل الله.
وواضح أن هذا مظهر من مظاهر الاجتماع البشري وتفاوت درجاته.
فالأعرابي أقسى طبعا وأجفى خلقا وأقلّ تقيّدا بالواجبات وإدراكا للحدود من الحضري. وكلما تقدّم الإنسان في سلم الحضارة لطف طبعه ودمث خلقه ولان قلبه واتسع علمه وتجربته وأفقه. وأقام صلاته بالناس على أسس الواجبات والحقوق المتبادلة.
ولقد استعمل ابن خلدون لفظ العرب خطأ في مقام الأعراب أو استعمله استعمالا عاميّا كما كان شائع المفهوم في حياته وأدى هذا إلى فهم تقريراته عن البدو وطبائعهم وحياتهم وآثارهم فهما خاطئا. في حين أن ما ذكره عن نفور العرب من الحضارة وتدمير المعالم الحضرية إنما ينطبق على الأعراب لا على العرب. وهو ما يدخل في مفهومه جميع أعراب الدنيا لا أعراب العرب خاصة.
ومن الغريب أن يكون هذا الفهم الخاطئ وأن يستمر إيراده في معرض وصف طبائع العرب وأخلاقهم مع ما في الأمر من بداهة ومع ما في كلام ابن خلدون من دلالات على أنه إنما قصد البدو والأعراب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه فيما جاء «من سكن البادية جفا» «1» حيث ينطوي فيه المعنى المراد في الآية والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 98 الى 99]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
__________
(1) أورد هذا الحديث عزوا إلى أبي داود والترمذي والنسائي المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية. وللحديث تتمة هي «ومن اتّبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن» .(9/519)
(1) مغرما: خسارة لا عوض عنها.
(2) يتربص بكم الدوائر: يتوقع أن تدور عليكم الدوائر السيئة لينقلبوا عليكم.
في الآيتين تقسيم للأعراب الذين أعلنوا إسلامهم إلى فريقين: فريق كان لا يعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي من صدقات واجبا دينيّا له ثوابه عند الله، وإنما هو ضريبة أو خسارة لا عوض لها يتحملها خوفا ورياء، ثم يتربّص أن تدور الدائرة على المسلمين فيتخلص منها أو ينقلب عليهم. وفريق مخلص في إيمانه بالله واليوم الآخر ويعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي من صدقات وسيلة إلى التقرّب إلى الله ونيل رضاء رسوله ودعائه.
وقد تضمنت الآيتان تعقيبا مناسبا على صفات وحالة كلّ من الفريقين.
فالأول هو الذي تدور عليه دائرة السوء. وإن الله لسميع لما يقوله عليم بخبث نياته وإنه لمجزيه عليها بما يستحق. وللثاني البشرى. فاعتبارهم أن ما ينفقونه وسيلة قربى إلى الله ورسوله صادق وإنها لقربة لهم حقّا. وإن الله سيشملهم برحمته وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. وإنما روى الطبري أن الآية الأولى عنت منافقي الأعراب والثانية عنت بني مقرن من مزينة الذين عنتهم الآية [92] . وقد روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم، والثانية في بني مقرن من مزينة في رواية وفي قبائل أسلم وغفار وجهينة في(9/520)
رواية أخرى. وروى بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان» .
ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيتين استطراد إلى ذكر حالات الأعراب الذين انضووا إلى الإسلام بمناسبة ذكر المعذّرين والمتخلفين منهم عن غزوة تبوك ووصف طبيعة الأعراب عامة. فهما والحالة هذه متصلتان بالسياق وجزء من السلسلة.
وفي الآية الثانية صراحة حاسمة بأنه كان من الأعراب من آمن وأخلص في إيمانه وتأييده للنبي صلى الله عليه وسلم والجهاد بماله ونفسه خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمموه على البدو بدون استثناء. ومن المتواتر أن عددا غير يسير من القبائل قد ثبت على إسلامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم واندمج في حروب الردة تأييدا للإسلام وخليفة الرسول «1» . ولا بدّ من أن يكون المذكورون في الآية الثانية منهم أو هم إياهم.
والآية الثانية إلى هذا تنطوي على مشهد تطوري لإسلام الأعراب. فمن المحتمل أن يكون إسلامهم أو إسلام معظمهم في بدء الأمر غير عميق، وتأثرا بالظروف وخوفا وطمعا. ولقد قررت آية سورة الحجرات هذه قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ذلك عنهم وقررت قبول الله ذلك منهم إذا ما قاموا بالواجبات الدينية والمادية التي يفرضها الله ورسوله عليهم. ثم أخذ إسلامهم يقوى حتى صار إيمانا مخلصا في فريق منهم دون فريق. وهو ما احتوت الآيتان تقريره. وقد يصح القول استلهاما من روح الآيتين والآية [97] أن الكثرة الغالبة من الأعراب كانت من الفريق الأول. والله تعالى أعلم.
__________
(1) اقرأ تاريخ الطبري ج 2 ص 463- 550 واقرأ فصل حروب الردة في الجزء السابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي حيث لخصت فيه الروايات وثبت ما قلناه.(9/521)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
[سورة التوبة (9) : آية 100]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
. تعليق على الآية وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ... وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في سبب نزولها. ويتبادر لنا من روحها وروح الآيات المتلاحقة التي بعدها ومضمونها معا أنها استمرار في ذكر صنوف المسلمين المخلصين بعد ذكر صنوف الأعراب في الآيتين السابقتين الاستطراديتين. وأنها والحالة هذه استمرار للسياق. وجزء من السلسلة.
وقد احتوت ثناء محببا وبشرى للطبقات الثلاث التي ذكرتها الآية. وأعظم برضاء الله عنهم ورضائهم عنه بشرى وثناء. وهي التي أخلصت في إيمانها وتفانت في واجبها وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده في كل المواقف والتي قام الإسلام عليها وانتصر بها بعد الله ورسوله. والتي أشير إليها بأساليب ومواضع عديدة في القرآن المكي والمدني معا. وإن كان ذكرها هنا جاء أوضح بيانا.
ولقد روى الطبري بعض الروايات في من عناه تعبير وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ منها أنهم المهاجرون والأنصار الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ومنها أنهم الذين صلوا للقبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما تعبير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ فهم على ما رواه الذين أسلموا لله إسلام السابقين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير.
وعلى كل حال فالآية اعتبرت الرعيل المخلص الأول من المؤمنين فئتين، الأولى السابقون الأولون من المهاجرين وهم الذين آمنوا في مكة وثبتوا وتحملوا(9/522)
الأذى وهاجروا من مكة مفضلين الله ورسوله على الأهل والوطن والمال والراحة.
والثانية السابقون الأولون من الأنصار وهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاهدوه على النصرة من أهل المدينة ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وأيدوه ونصروه فعلا في أوقات الشدة. وأضافت الآية إليهما فئة ثالثة وهم الذين اتبعوا سبيل الفئتين بإحسان أي الذين أسلموا إسلام السابقين الأولين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير كما عرّفهم الطبري.
وروح الآية من جهة وروح آيات عديدة أخرى من جهة ثانية تلهم- وهذا مما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا- أن عدد هذه الفئات الثلاث كان غير يسير وأن موقفها كان خالصا لله ورسوله ومنبعثا عن إيمان وعقيدة راسختين لا يشوبهما قصد المنفعة والمسايرة خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمّموه ويوسعوا نطاقه. والراجح أن هذه الطبقة وبخاصة الفئتين الأوليين منهما هما المقصودتان في الأحاديث النبوية في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيجاب احترامهم التي روينا طائفة منها في مناسبات سابقة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يخاطب السامعين بقوله:
«لا تسبّوا أحدا من أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أو «الله الله في أصحابي. لا تتخذهم غرضا من بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» و «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» لا يعقل أن يكون قصد جميع الناس الذين رأوه وبايعوه على الإسلام لأنه لا يكون حينئذ محلا لتوجيه هذا النهي والتنبيه.
وهذه الدلالة منطوية في آية في هذه السورة تأتي بعد قليل أمرت المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين حيث يفيد أن الأمر لعموم المسلمين ليكونوا مع الصفوة من أصحاب رسول الله.
ومما لا شكّ فيه أن هذه الطبقة أهل لكل تعظيم وتوقير واقتداء واتباع. فهذا الثناء الرباني والنبوي عليهم لا بدّ من أنه بسبب إيمانهم العميق وإخلاصهم الشديد(9/523)
وتفانيهم في خدمة دين الله ورسوله وتعاونهم على البرّ والتقوى وورعهم.
وفي السور المكيّة والمدنيّة صور كثيرة من ذلك نبهنا عليها في مناسباتها وفي روايات السيرة صور كثيرة أيضا فيها الروائع التي تملأ النفس إجلالا وإعظاما.
والآية من أواخر ما نزل من القرآن. ولهذا دلالة هامة من حيث اقتضاء حكمة الله تسجيل رضائه عن هذه الفئة في أواخر ما اقتضت حكمته إيحاءه.. ومن هنا يظهر ما في الانتقاص من قدر هذه الفئة أو معظمها وبغضها وسمها وتكفيرها وهو ما دأب وما يزال يدأب عليه طوائف الشيعة بزعم أنهم خالفوا أوامر الله ونبيه ووصاياهما وهو زعم كاذب كل الكذب من جرأة على الله ورسوله وأصحابه بل ومن كفر صريح.
وجملة: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ صريحة بأنها عنت الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان من أهل مكة والمدينة. وفي كتب التفسير تعريفات عنهم مروية عن أهل التأويل منها أنهم أوائل الذين آمنوا من المهاجرين وأوائل الذين آمنوا من الأنصار ومنها أنهم جميع الذين هاجروا إلى المدينة وصلوا إلى القبلتين. وجميع الذين آمنوا في المدينة وصلوا إلى القبلتين. ومنها أنهم الذين بايعوا رسول الله بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ولعلّ الأوجه أنهم الذين آمنوا قبل الهجرة ثم قبل الفتح المكي من غير أهل المدينة وأنهم الذين آمنوا قبل هجرة النبي إلى المدينة وفي ظروفها الأولى من أهل المدينة. وفي سورة الحديد آية يمكن أن تكون ضابطا ما وهي لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى. وهناك حديث نبوي رواه الخمسة يمكن أن يكون فيه ضابط ما أيضا وهو «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة. وإذا استنفرتم فانفروا» «1» والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر الخازن في جملة ما ذكره أن تعبير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ
__________
(1) التاج ج 3 ص 304.(9/524)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
يشمل جميع المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سوى السابقين الأولين. وذكر الطبرسي أن هذا التعبير يشمل كل مسلم سار على طريقة أصحاب رسول الله إلى يوم القيامة.
ونقول في صدد القول الأول إن في الآيات التالية لهذه الآيات ما لا يتسق معه لأن فيها تقريرا بأن من المسلمين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا والمرجى لأمر الله فضلا عن المنافقين غير المعروفين. أما القول الثاني فإن الآية وإن كان من الممكن أن تلهم أن التعبير هو في صدد أناس موجودين فعلا حين نزولها. وهذا ما يلهمه كذلك تعبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الذي يشملهم فإن فيه وجاهة حيث يمكن أن ينطوي في الآية تلقين مستمر المدى يوجب على المسلمين في كل ظرف ومكان أن يجعلوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قدوة وإماما بعد الله ورسوله. ويجعل الذين يلتزمون ذلك محلّ رضاء الله سبحانه وتعالى. ويلفت النظر في هذا المقام إلى تعبير بِإِحْسانٍ فكأنما جاء ليكون شرطا للحوق الآخرين بالأولين أو لدخولهم في ساحة رضاء الله وبشراه.
[سورة التوبة (9) : آية 101]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)
. (1) مردوا: مارسوا النفاق حتى مرنوا وبرعوا فيه أو صار لهم جرأة عليه وعتوّ فيه.
تعليق على الآية وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ وما فيها من صور وتلقين
في الآية تنبيه وإنذار وتقرير لواقع حال: فإنه يوجد إلى جانب من كان يعرف(9/525)
النبي صلى الله عليه وسلم نفاقهم أناس آخرون من أهل المدينة ومن الأعراب الذين هم حولها منافقون لا يعلمهم النبي لأنهم مرنوا على النفاق وأتقنوا دورهم فيه حتى استطاعوا أن يخفوا حقيقتهم. وإن الله تعالى يعلمهم. ولسوف يعذبهم الله مرتين قبل يوم القيامة ثم يردون إلى عذاب عظيم في ذلك اليوم جزاء خبثهم ومكرهم.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآية. والمتبادر من أسلوبها وعطفها على ما سبقها أنها استمرار في الاستطراد وجزء من السياق السابق فيها ذكر صنف من صنوف المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد احتوت صورة طريفة لفريق من المنافقين استطاعوا أن يخفوا نفاقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. ومن الممكن أن يستلهم من أسلوب الآية قصد الإيقاظ والتحذير من جهة وقصد التهديد بالفضيحة من جهة أخرى بالإضافة إلى بيان واقع أصحاب هذه الصورة وتقرير استحقاقهم لعذاب مضاعف.
والآية تحتوي صورة من صور النفاق والمخامرة تكون في مختلف الظروف وبخاصة في ظروف النضال واستعلاء أهله. وتحتوي بالتالي إيقاظا وتلقينا مستمر المدى نحو أصحاب هذه الصورة وخطرهم وضررهم اللذين يفوقان خطر وضرر المعروفين من المنافقين.
ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآية عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين المجهولين للناس فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة.
سراج من نار يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره. وستة يموتون موتا.
وأن عمر بن الخطاب كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منافق نظر إلى حذيفة فإن صلّى عليه صلّى عليه وإلّا تركه. وأن عمر نفسه ناشد حذيفة (هل هو نفسه منهم فقال له لا) . والحديث مرفوع ولم يرد في كتب حديث معتبرة. ونص الآية صريح بأن من ذكر في الآية لا يعلمهم النبي وهذا ما يوجب التوقف فيه. ويوجب التوقف فيه مناشدة عمر لحذيفة عما إذا كان هو نفسه منهم فإنه من المتواتر تواتر اليقين أن عمر كان من أخلص الرجال المؤمنين وكان له عند رسول الله مكانة عظمى وأثرت(9/526)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه به. منها حديث رواه الترمذي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب» «1» وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «أن أبا بكر قال لعمر لقد سمعت رسول الله يقول ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر» «2» . وحديث رواه الترمذي أن النبي قال: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» «3» وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبيّ إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر» «4» . وليس من ريب عندنا أن عمر كان متيقنا من عمق إيمانه ومنزلته من رسول الله فلا يمكن أن يطرأ شكّ ما على قلبه من نفسه. ونخشى أن يكون للشيعة أثر في هذا الخبر لفش غلهم ولبغضهم له.
ولقد تعددت الروايات التي أوردها الطبري وغيره عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في تأويل جملة سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ منها أنهما عذاب الحسرة والغيظ لانتصار الإسلام والمسلمين أولا ثم عذاب القبر ثانيا قبل عذاب يوم القيامة العظيم. ومنها أنهما عذاب الفضيحة أولا ثم عذاب القبر ثانيا.
ورووا عن ابن عباس في سياق الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم جمعة فقال:
اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق. فأخرج من المسجد أناسا منهم فضحهم فهذا هو العذاب الأول. ومهما يكن من أمر فالتعبير استهدف تقرير استحقاقهم العذاب مضاعفا، ليتناسب مع شدة خطرهم وبشاعة دورهم ويكون قوي الردع والزجر في الوقت نفسه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآية حديثا من تخريج ابن عساكر عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الإيمان هاهنا وأشار إلى لسانه» و «النفاق هاهنا وأشار إلى قلبه» ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال رسول
__________
(1) التاج ج 3 ص 279.
(2) المصدر نفسه ص 280- 282.
(3) المصدر نفسه. [.....]
(4) المصدر نفسه.(9/527)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
الله: «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحبّ من يحبّني وصيّر أمره إلى خير» فقال: يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم. أفلا آتيك بهم قال «من أتانا استغفرنا له. ومن أصرّ فالله أولى به ولا تخرقن على أحد سترا» . ومن المحتمل أن يكون هذا الرجل قد جاء نادما مستغفرا لنفسه ولرفاقه على أثر نزول الآية. وإذا صحّ الحديث ففيه تدعيم لما ذكرناه في سياق الآية [80] من أن استغفار النبي كان لمن يرى أن توبته صادقة. ونفي الغفران الرباني هو لمن علم الله إصراره على النفاق والطوية الخبيثة. وفي الحديث تلقين جليل بإيكال من لم ينكشف نفاقه إلى الله وعدم خرق الأستار عن الناس إذا لم يكن خطرهم وضررهم مؤكدين. والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 102 الى 105]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
. في الآيات:
1- إشارة إلى فريق آخر أذنبوا واعترفوا بذنوبهم وكان لهم أعمال صالحة إلى جانب هذه الذنوب.
2- وبشارة وتعليم بما يجب بالنسبة إليهم: فمن الممكن أن يتوب الله عليهم إذا تابوا وهو الغفور الرحيم. وعلى النبي أن يأخذ من أموالهم صدقة لتكون كفارة عما اقترفوه من ذنوب وتطهيرا لهم. وأن يدعو لهم ففي دعائه لهم تسكين لهم وتطمين لقلوبهم. والله سميع لكل ما يقال عليم بالنيات والمقتضيات. وعليهم هم أن يطمئنوا ويعلموا أن الله يقبل التوبة من عباده ويتقبل صدقاتهم إذا ما كانت عن إخلاص وصدق نية وعلى النبي أن يشجعهم على العمل الصالح ليثبتوا به(9/528)
إخلاصهم وصدق نيتهم وتوبتهم ويقول لهم اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالكم وستردون إلى عالم الغيب والشهادة والسرّ والعلن فينبئكم بما عملتم ويجزيكم عليه بما تستحقون.
تعليق على الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.. والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الطبري وغيره روايات عديدة في نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها بشأن أبي لبابة من الأوس وحليف بني قريظة الذي أشار لهم حينما استشاروه بعد حصار النبي لهم وطلبه النزول على حكمه بإشارة تفيد أن مصيرهم الذبح. ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه بعمود مسجد رسول الله وقال لا أبرح حتى يتوب الله عليّ فقبل الله توبته وأطلقه النبي بيده. ومنها أنها في صدد الجماعة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر وجيه وكانوا مخلصين في إيمانهم حيث عمدوا حين قفل رسول الله من الغزوة إلى سواري مسجد رسول الله فربطوا أنفسهم بها ندما وتوبة وقالوا لن نبرح حتى يقبل الله توبتنا ويطلقنا رسول الله. ولم ير النبي أن يطلقهم حين عودته وقال لا أعذرهم حتى يعذرهم الله فظلوا حتى نزلت الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.. فآذنهم بقبول توبتهم وأنهم جاؤوه بعد ذلك فقالوا خذ من أموالنا ما تشاء وتصدق بها وصلّ علينا فقال لا أفعل حتى أؤمر فنزلت الآية خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً.. إلخ ومنها أن هذا كان قاصرا على أبي لبابة. وأنه لما أطلقه رسول الله جاء إلى رسول الله فقال له إن من توبتي أنخلع من مالي كله صدقة فقال له رسول الله «يجزيك الثلث» . ومن الروايات أنها نزلت بشأن جماعة من منافقي الأعراب والمدينة تابوا عن نفاقهم. وليس شيء من الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ويلحظ في صدد رواية إشارة أبي لبابة لليهود أنها بعيدة المناسبة من جهة وقد أوردت في سياق آيات سورة الأحزاب [26- 27] من جهة أخرى على ما شرحناه سابقا. ونستبعد أن تكون في صور المتخلفين عن غزوة تبوك من(9/529)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
المخلصين لأن الآية جزء من السياق الذي رجحنا أنه نزل أثناء غزوة تبوك. وقد ذكر أمر هؤلاء في آية أخرى تجيء بعد قليل. وبعد العودة من تبوك. ونستبعد أن تكون في حق منافقين لأن نصّ الآية قد يلهم أنها بحقّ مؤمنين غير منافقين.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها ومن عطف ما لحقها عليها في سياق منسجم أو أنها استمرار في السياق الاستطرادي السابق وأنها احتوت صورة أخرى من صور الناس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى ومعالجة روحية رائعة. فالصورة أيضا من الصور التي تظهر في مختلف الظروف فإذا ما استشعر بعض المذنبين والمقصرين بخطئهم عن حسن نية ورغبوا في إصلاح أنفسهم فيكونون ممن يرجى إخلاصهم وصلاحهم. ومثل هؤلاء يجب أن يشجعوا وتطمئن قلوبهم ويفسح لهم بين صفوف الصالحين. ويحسن بهم أن يقدموا بين يديهم صدقات تنفق في سبيل الله ووجوه البرّ تكفيرا عن ما أسلفوه من الذنوب ووسيلة قربى إلى الله تعالى.
[سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
. (1) مرجون: مرجئون. أي مؤخرون وموكولون.
وفي هذه الآية إشارة إلى فريق آخر من المسلمين موكولين لتقدير الله وأمره.
فهو العليم بكل شيء والحكيم في كل ما يقدر ويأمر فيعاملهم بمقتضى علمه وحكمته فإما أن يراهم مستحقين للعذاب فيعذبهم أو مستحقين للرحمة والمغفرة فيرحمهم ويتوب عليهم.
تعليق على الآية وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ.. وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن الآية نزلت في حقّ فريق من المسلمين المخلصين تخلّفوا(9/530)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
عن غزوة تبوك ولم يسارعوا إلى الاعتذار والتوبة. فأرجأ الله أمرهم ثم شملهم بتوبته وعفوه في الآية [117] التي تأتي بعد قليل. وأوردوا ثلاثة أسماء قالوا إن الآية التي نحن في صددها فيهم. وهم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك.
والآية [117] هي في شأن الذين اشتركوا في الغزوة. وهناك أحاديث صحيحة تذكر أن كعب بن مالك ورفيقيه هم الذين نزلت في توبتهم آية أخرى هي الآية [118] بحيث لا يبقى محل للقول إن الآية التي نحن في صددها نزلت فيهم.
ولذلك فنحن نتوقف في بعض الروايات التي لم ترد في كتب حديث صحيحة أيضا والذي يتبادر لنا من روح الآية وعطفها على ما سبقها أنها هي الأخرى استمرار للسياق الاستطرادي لتشير كما قلنا إلى صنف آخر من صنوف المسلمين لم يكن أمرهم جليا من حيث النفاق أو الإخلاص. وهذه صورة مألوفة كذلك في المجتمعات البشرية. ولعلّ الآية قد تضمنت تلقينا بعدم التسرّع في حقّ أصحاب هذه الصورة ما داموا لا يجاهرون بذنب ولا يقفون موقفا منكرا وضارا ولو لم يكن أمرهم جليا كل الجلاء. وفي هذا ما فيه من الصواب والحكمة ثم التلقين المستمر المدى إزاء أصحاب هذه الصورة المألوفة في كل ظرف.
[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
. (1) ضرارا: بقصد الضرر والمضارة.(9/531)
(2) إرصادا: مكان انتظار وترصد أو ارتقابا.
(3) شفا: الطرف الدقيق وراء الهاوية أو الحافة.
(4) جرف: المكان المرتفع الرخو من تآكل السيول.
(5) هار: مائل للسقوط والانهيار.
(6) إلا أن تقطع: قرئت (إلّا أن) بصيغة (إلى أن) وقرئت (تقطع) بفتح التاء وبضمّها وعلى كل حال فالجمهور على أن معنى الجملة إلى أن تقطع قلوبهم بالموت.
في هذه الآيات:
(1) إشارة إلى فريق أنشئوا لهم مسجدا خاصا.
2- وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية.
وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنو النية. فإن الله يشهد أنهم كاذبون.
3- وأمر للنبي بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحقّ بذلك لأن أصحابه مخلصون.
يحبون التطهر والله يحب المتطهرين.
4- وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرّب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل.
5- وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنّم. وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم(9/532)
الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
تعليق على الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد في صددها من روايات. وما احتواه الفصل الاستطرادي من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي
ولقد روى الطبري «1» وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحرّ وقد صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذكر الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا.
كان نبذ الشرك ووحّد ثم تنصّر وترهّب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة قال له ما الذي جئت به؟ قال له جئت بالحنيفية دين إبراهيم فقال أنا عليها فقال له النبي إنك لست عليها فقال بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر أمات الله الكاذب منّا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي آمين فقال أبو عامر لا
__________
(1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2) هذا الخبر مذكور في حديث الهجرة الطويل الذي رواه البخاري عن عائشة وأوردناه في سياق تعليقنا على الآيات [38- 41] من هذه السورة.(9/533)
أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي فقالوا له إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه. وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلّي فيه للبركة.
فصدقهم وقال لهم إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم بضعة أشخاص فهدموا المسجد وأحرقوه.
والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضدّ النبي ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية.
ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق.
وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية [98] والذي نزل في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك. وهي:(9/534)
(1) أعراب مخامرون متربصون.
(2) أعراب مخلصون في أيمانهم.
(3) سابقون أولون من المهاجرين.
(4) سابقون أولون من الأنصار.
(5) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين.
(6) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلّى الله عليه وسلم.
(7) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيّء.
(8) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه.
(9) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى.
وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يؤلفون الغالبية.
ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية [97] من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح [11 و 12 و 15] وسورة الحجرات [14- 17] أن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحقّ أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوّه بها في الآية [100] كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتهما ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات. حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات حيث قال العوفي إنه مسجد(9/535)
قباء وقال صاحبه إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلم فسألاه فقال هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته «قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسّس على التقوى فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله فقال رسول الله هو مسجدي هذا» «1» .
ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزّار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء» «2» والضمير في (فيه) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصحّ في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا يا رسول الله ما خرج منّا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء» . وروى الطبري هذا بهذه الصيغة «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور.
فماذا تصنعون. قالوا نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم لا تدعوه» .
وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويّا شاملا لكل مسلم في كلّ ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية.
وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
__________
(1) التاج ج 4 ص 119- 120.
(2) المصدر نفسه.(9/536)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
وواضح أن الآيات تحتوي أيضا تلقينا قويا يظل مستمد إلهام مستمر المدى في تشنيع أعمال الدسّ والمخامرة والتآمر التي يبيتها ويقدم عليها ذوو القلوب المريضة الذين قلّما يخلو منهم مجتمع في أي ظرف وفي وجوب الوقوف منهم موقف الشدة والحسم. والانتباه لهم. وعدم الانخداع بمظاهرهم وأيمانهم الكاذبة. وفي وجوب تكريم ذوي المقاصد الحسنة والمظاهر الفاضلة. وفي وجوب مراعاة جانب الله ومراقبته وتقواه وابتغاء وجهه في ما يباشره المسلمون من أعمال ومنشآت برّ وخير فهذا هو الدائم المستوجب لرضاء الله في الدنيا والآخرة والآية [109] بخاصة قوية رائعة في صدد هذا التلقين وشموله لكل عمل وموقف.
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
. (1) السائحون: يروي المفسرون «1» عن أهل التأويل قولين في معنى الكلمة.
أحدهما الذين يسيحون في الأرض للجهاد. وثانيهما أنها بمعنى الصائمين. ويروون حديثين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحدهما يؤيد القول الأول وثانيهما يؤيد القول الثاني. وقد جاء في أولهما «سياحة أمتي الجهاد» . وجاء في ثانيهما «سياحة هذه الأمة الصيام» والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث المعتبرة. وهناك قول ثالث يرويه القاسمي عن الرازي وأبي مسلم وبعض المحققين وهو أنها بمعناها اللغوي المتبادر وهو السياحة في الأرض مطلقا. وسياق الكلام يسوغ ترجيح أحد المعنيين الأولين. والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي.(9/537)
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا بشرى ربانية للمؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وحثّا على ذلك. وتعدادا لصفات المؤمنين المخلصين واستغراقهم في دين الله وواجباته على سبيل التنويه والتثبيت.
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ... والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
روى الطبري أن الآية الأولى نزلت عند بيعة العقبة الكبرى التي بايع فيها وفد الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وسلم قبيل هجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة حيث قال أحدهم عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون به أنفسكم فقالوا وما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فقال الجنة. فقالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فأنزل الله الآية.
ومع احتمال صحة المحاورة المروية عند بيعة العقبة فإن أسلوب الآية ومضمونها يسوغان الشك في صحة رواية نزولها في ظروف بيعة العقبة. بل إن الرواية نفسها تسوغ هذا الشك لأن كل ما طلبه النبي صلى الله عليه وسلم من الوفد هو المنع والحماية بينما الآية واسعة المدى في الجهاد. ولقد ذكرنا في سياق شرح قصة وقعة بدر في تفسير سورة الأنفال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى له على الأنصار إلّا الدفاع والحماية فقط. ولذلك لم يقدم على الاشتباك مع قريش إلّا بعد أن استشارهم وأظهروا استعدادهم للحرب مما فيه تأييد لذلك. ولقد ربط الطبري وغيره بين الآية الأولى والثانية وقالوا: إن الله قد بين في الثانية صفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم. حيث يفيد هذا أن الآيتين نزلتا معا. وهو ما لم تروه الرواية. والانسجام بين الآيتين تام يؤيد ذلك. فضلا عن أن ما في الآية الثانية من صفات لم يكن بعد متحققا في الذين بايعوا بيعة العقبة.
وبالإضافة إلى هذا فإننا نرى التناسب قائما بين الآيتين والسياق السابق بحيث(9/538)
يسوغ ترجيح نزولهما معه أو عقبه وأن تكونا قد جاءتا على سبيل التعقيب على السياق من جهة وخاتمة للسلسلة التي استدللنا من مضامينها أنها نزلت أثناء غزوة تبوك من جهة أخرى والتي دار أساسها وفصولها على التنديد بالمتخلفين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم أولا وبالمخامرين المنافقين ثانيا، والتنويه بالمؤمنين المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثالثا.
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب قوي نافذ. وجمعت الثانية منهما بخاصة كل صفات المؤمن المخلص فكانتا ختاما رائعا لهذه السلسلة وللغزوة التي نزلت فيها والتي كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها عددا وعدة ومن أبعدها خطورة وأشدها شقة وأطولها مسافة وأمدا. وقد تلهم روحهما أنهما في صدد التنويه بأصحاب رسول الله الذين اشتركوا في غزوة تبوك أيضا.
ومع ذلك فإن إطلاق عبارتهما يجعلهما تقريرا عاما موجها إلى كل مسلم في كل ظرف ومكان ليستمد منهما إلهاما فياضا في الإقدام على الجهاد بماله ونفسه وتحمل التضحيات مهما عظمت في سبيل الله ويجد فيهما مقياسا للإخلاص الذي يستحق المتحقق به لرضاء الله ويجد فيهما جماع صفات الصلاح وأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة التي يجب عليه أن يتحقق بها.
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأولى من مغزى عظيم. حيث تتضمن تقرير أن المسلم المخلص بمجرد انتسابه للإسلام يكون قد باع نفسه لله ليجاهد في سبيله بماله ونفسه وكون الله قد اشترى ذلك بالجنة. ففي هذا ما فيه من قوة الحثّ على الجهاد والدعوة إليه. وقوة عنصر الاستجابة فيه واعتباره أقوى أركان الإسلام ودعائمه. وطبيعي أن هذا الجهاد يدور في نطاق المبادئ التي قررها القرآن وشرحناها في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» «1» .
__________
(1) النص من ابن كثير جاء في سياق تفسير آيات الزخرف [12- 14] وقال المفسّر إن الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي.(9/539)
وروى ابن سعد في طبقاته عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رجوعه من غزوة عسفان أولى غزواته «آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «1» وروى ابن سعد أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قرر العودة من غزوة الطائف بعد وقعة حنين قال للمسلمين «قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. فلما ارتحلوا قال قولوا آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «2» .
والفرق بين ما جاء في هذه الأحاديث والآية هو أن الصيغة في الأحاديث إعلان من النبي والمؤمنين بالتوبة والإنابة إلى الله وحمده. في حين أن صيغة الآية أشمل وأوسع. وفيها تثبيت للصفات العظيمة التي تتحقق في المؤمنين من إنابة إلى الله وتوبة وجهاد وعبادة وسجود وركوع وسياحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وحفظ لحدود الله حينما يوفون ما أوجبه عليهم تعاقدهم على شراء الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة من قتال في سبيله. وتنويها بهم وتبشيرا لهم حيث تكون حكمة التنزيل شاءت أن توحي قرآنا بصيغة أوسع وأشمل لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتف به ويأمر المسلمين بالهتاف به كلّما عاد وعادوا معه من سفر وجهاد في أعقاب غزوة تبوك آخر غزوات رسول الله وأعظمها عدد جيوش وبعد مدى وأهداف ومشقة.
وهذا لا ينقض ما قلناه استئناسا بإطلاق العبارة القرآنية من شمول مدى الآية لكل مسلم حينما يقوم بواجبه من القتال في سبيل الله نتيجة لتعاقده مع الله ببيع نفسه وماله بالجنة.
وفي صدد جملة وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ نقول إن القرآن احتوى آيات عديدة فيها دعوة للجهاد بالمال والنفس وحثّ عليه ووعد رباني بالنصر والجنّة للمجاهدين. ومن آخرها الآيات [88 و 89] من هذه السورة وإذا لم يكن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى شيء صريح من ذلك فلا يعني هذا نفي ما جاء في الجملة القرآنية.
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 122- 123 و 211.
(2) المصدر نفسه.(9/540)
فالتوراة والإنجيل اللذان أوحى بهما الله لموسى وعيسى عليه السلام واللذان كانا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مفقودان على ما شرحناه في التعليق على التوراة والإنجيل في سياق تفسير الآية [158] من سورة الأعراف. وأسفار العهد القديم التي يمكن أن يكون فيها شيء مما بلّغه الله عزّ وجلّ لموسى عليه السلام أو بلّغه موسى لبني إسرائيل قد دونت بعد موسى بمدة طويلة. وفيها متناقضات كثيرة تدل على طروء تحريف عليها فضلا عن أنه ليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزّ وجلّ لموسى أو بلّغه موسى لبني إسرائيل. والأناجيل المتداولة هي ترجمة حياة عيسى عليه السلام وليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزّ وجلّ لعيسى وبلّغه عيسى لبني إسرائيل وغيرهم. ولقد جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب السابقة المنسوبة إلى الله عزّ وجلّ. ومقتضى هذا من وجهة العقيدة الإسلامية أن كل ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم من المبادئ والأسس هو الحق على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [48] من سورة المائدة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا روى الشيخان صيغة مقاربة لأوله مع زيادة مهمة فرأينا أن نورد صيغة الشيخين لما في الزيادة من روعة وتلقين وهذه هي «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم. لونه لون دم وريحه ريح مسك.
والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكني لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ... » «1» .
__________
(1) التاج ج 4 ص 291- 292.(9/541)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
هذا، ولقد رأينا المفسر القاسمي يقف عند كلمة السَّائِحُونَ ويروي ما قاله بعض العلماء من أنها بمعنى السياحة في الأرض مطلقا وينقل عنهم ما ذكروه من فوائد السياحة المتنوعة حيث يبدو أنهم يرون في الكلمة إيعازا قرآنيا للمسلمين بالسياحة في الأرض واجتناء فوائدها. وشيء من هذا في تفسير رشيد رضا أيضا.
ومع أن فيما قالوه من فوائد السياحة وكونها مستحسنة للمسلمين وجاهة، فإنّ في الاستدلال على ذلك من الكلمة في مقامها تكلفا. ولا سيما أنها تصف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله بأوصاف تدخل في نطاق عبادة الله والإنابة إليه. ولم تكن السياحة بمعناها هذا قد تحققت في المسلمين المخاطبين الأولين في الآية. والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 115]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
. (1) أوّاه: قيل إنها بمعنى الخاشع المتضرّع إلى الله الموقن به. وقيل إنها بمعنى كثير التأوّه والخوف من الله.
تعليق على الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.. والآيتين اللتين بعدها وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا(9/542)
ينبغي للنبي والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميّا لهم في الآخرة. وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به وقبل أن يتيقّن من عدائه لله فلما تيقّن من ذلك تبرأ منه لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بيّنة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور.
لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية. منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله لعمّه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصرّ على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار. وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله يا عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب. فلم يزل النبي يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملّة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية» «1» ومنها أنه لما قدم النبي على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية. وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف.
وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربّي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» «2» .
__________
(1) التاج ج 4 ص 120.
(2) التاج ج 1 ص 345.(9/543)
ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله قالوا له يا نبيّ الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم. قال بلى. والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين. فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفّه عن ذلك. ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه وهما مشركان فقال له أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت الآيتان. وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة.
وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة وهي أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولم تكن الخمر محرّمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة.
ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات. وكذلك بينها وبين زيارة النبي لقبر أمه. فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي وليست قاصرة عليه. وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي ونزول الآيات في صددهما. وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك. والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي لأمه ليس من الصحاح. والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك.
وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة بلى ثم قال لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نصّ الآيتين وإن لم ترد في الصحاح. لأن النبي والمؤمنين معا اشتركوا(9/544)
فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة حيث ظن النبي والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم.
ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا فإنّ وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة.
والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه السلام بالأوّاه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحلمه وإشفاقه ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر.
ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عزّ وجلّ لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنصّ قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «1» .
وجملة ما كانَ لِلنَّبِيِّ قرينة قرآنية أخرى على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله تعالى فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه
__________
(1) التاج ج 1 ص 37.(9/545)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة.
[سورة التوبة (9) : آية 116]
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
. عبارة الآية واضحة وقد أفردناها لأن من المحتمل أن تكون معقبة على الآيات السابقة فيكون معناها إيجاب عدم تعلّق المسلمين بذوي قرباهم المشركين واستغفارهم لهم نتيجة لهذا التعلّق لأنهم ليس لأحد منهم نصير ولا ولي غير الله.
ومن المحتمل أن تكون مقدمة وتمهيدا للآيات التالية لها التي قررت إعلان توبة الله على النبي والمسلمين فيكون معناها أن الله وحده هو ناصرهم ووليهم. وعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه وحده. وفيها على كل حال توكيد لما تكرر كثيرا في القرآن من إيذان الناس عامة والمؤمنين خاصة أن السموات والأرض تلك لله وحده وأنه ليس لأحد من دونه ولي ولا نصير فهو وحده المرتجى. وبه وحده يتحقق النصر ولا يصح لأحد أن يتعلق بغيره.
[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 118]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
. (1) وظنوا: الراجح أن الكلمة هنا بمعنى تيقنوا لأن الظن من الأضداد أحيانا، تعني الشك وتعني اليقين. وفي القرآن أمثلة من هذا الباب مثل ما جاء في آية سورة يوسف [109] وآية سورة الكهف [54] .(9/546)
في الآيتين:
1- تطمين رباني بتوبة الله تعالى ورضائه عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ظرف عسير شاق حتى كاد يزيغ بعضهم فيه ويتورطون في موقف لا يرضاه الله. فثبتهم وتاب عليهم لأنه رؤوف رحيم بهم.
2- وتطمين رباني آخر بشمول توبة الله تعالى ورحمته أيضا للثلاثة المتخلفين عن رسول الله الذين استشعروا بخطئهم استشعارا جعل الأرض تضيق بهم على رحبها بل وجعل أنفسهم تضيق عليهم فلجأوا إلى الله ليعفو عنهم لأنهم تيقنوا أن لا ملجأ لهم ولا مفرّ منه إلا إليه فتاب عليهم. وهو التواب الرحيم.
تعليق على الآية لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... والآية التالية لها. وما روي في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور وتلقين
الآيتان تبدوان فصلا جديدا مع اتصالهما بموضوع غزوة تبوك. وفحواهما يلهم أنهما نزلتا بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من تبوك وهو ما تفيده الروايات المروية في صددهما. والمتبادر أنهما نزلتا بعد الفصل السابق الذي رجحنا أنه نزل بعد العودة من تبوك فوضعتا بعده.
ولم يرو المفسرون حادثا معينا في صدد نزول الآية الأولى وإنما رووا وصفا لظروف غزوة تبوك وما كان فيها من شدة كادت قلوب فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تزيغ منها على حدّ التعبير القرآني. والمتبادر أن توبة الله المعلنة في هذه الآية هي متصلة بذلك «1» . ووصف القرآن لها بيوم العسرة مؤيد لذلك حيث كانت عسرة من شدة الحرّ وعسرة من قلة الظهر والزاد والماء حتى كان الثلاثة والأربعة
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. [.....](9/547)
بل والعشرة منهم يتناوبون على بعير واحد. وحتى وصل العطش بهم أحيانا إلى نحر الإبل واعتصار كروشها. وحتى وصلت قلة الطعام مع بعضهم إلى الاكتفاء أحيانا بالتمرات القليلة في اليوم بل إلى المناوبة في لوك التمرة الواحدة. وقد برّح ببعضهم التعب حتى كان بعضهم يتخلف عن الركب فيخبرون النبي صلى الله عليه وسلم به فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه. وكان من المتخلفين ثم اللاحقين أبو ذرّ رضي الله عنه. وتخلّف من المخلصين بضعة نفر أحدهم أبو خيثمة الأنصاري الذي ندم بعد رحيل الجيش والتحق به في خبر شائق يرويه ابن هشام حيث قال «1» إنه جاء أهله في يوم حار فوجد زوجتيه في عريشين لهما في حائطه- بستانه- كل منهما قد رشت عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح- في الشمس- والريح والحرّ وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم. ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك. ولقي في طريقه واحدا مثله خرج للالتحاق برسول الله وهو عمير بن وهب الجمحي فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير: إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله قبلك ففعل حتى إذا دنا من رسول الله قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كن أبا خيثمة» فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول الله وأخبره فدعا له بخير. وقد أورد ابن هشام أبياتا منسوبة إليه جاء فيها:
لما رأيت الناس في الدين نافقوا ... أتيت التي كانت أعفّ وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمّد ... فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة ... صفايا كراما بسرها قد تحمّما
__________
(1) انظر ابن هشام ج 4 ص 174- 186.(9/548)
وكنت إذا شكّ المنافق أسمحت ... إلى الدين نفسي شطره حيث يمّما
ومما يلفت النظر اختصاص المهاجرين والأنصار بالذكر في الآية الأولى في حين أن الروايات تذكر أن من القبائل البدوية من اشترك في الحملة إلى جانبهم.
ومما يؤيده ذكر حادث اعتذار بعض الأعراب ذوي القدرة والثروة في الآية [90] وبعدها.
ويتبادر لنا أن هذا هو بسبب كون هذه الطبقة هي التي كانت العمود الحقيقي القوي الذي قامت عليه الدعوة والمجتمع الإسلامي في عهد النبي وعقب وفاته.
والتي كانت تسارع إلى تأييد رسول الله والاستجابة إليه قلبا وقالبا في كل ظرف وبخاصة في الملمات فيقتدي بها سائر الناس. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اختصتهم بالذكر استعظاما لما حكته الآية عن بعضهم كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لأنه لم يكن يصحّ أن يصدر مثل هذا من أي فرد من هذه الطبقة. أما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وشموله بالتوبة فقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس وغيره أن ذلك إما بسبب موقف التساهل الذي وقفه من المستأذنين بالتخلف والإذن لهم مما حكته بعض الآيات وإما بقصد تشريف المهاجرين والأنصار وتطمينهم. وكلا القولين وجيه وإن كنا نرجح الثاني. لأن موضوع الإذن قد ذكر في آية بأسلوب تحببي عتابي مع ذكر عفو الله عنه وهي الآية [43] فلم يبق محل لتوبة أخرى والله أعلم.
أما الآية الثانية فهي في حق ثلاثة من المخلصين تكاسلوا وتخلفوا في المدينة بدون عذر، وقد روى المفسرون خبرهم، وقد روى خبرهم الشيخان والترمذي في سياق تفسير الآية في حديث طويل عن كعب بن مالك أحد الثلاثة رأينا إيراده لما فيه من فوائد وصور رائعة عن أخلاق أصحاب رسول الله «1» . قال: «لم أتخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلّا في غزوة تبوك. غير أني قد تخلّفت في غزوة بدر ولم يعاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدا تخلّف عنه إنما خرج النبيّ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) التاج ج 4 ص 122- 128.(9/549)
ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها النبيّ في حرّ شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عددا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ. فقلّ رجل يريد أن يتغيب يظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وكانت تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر. فتجّهز النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرّ بالناس الجدّ فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم ويا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيّضا يزول به السراب فقال صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فلما بلغني أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد توجّه قافلا من تبوك حضرني بثّي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه وصبّح رسول الله قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له(9/550)
وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلّمت تبسّم تبسّم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلّفك. ألم تكن قد ابتعت ظهرك قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا. ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذر والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك قال رسول الله أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبيّ بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأكذّب نفسي ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد. قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي في الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفتّ نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ علي فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحبّ الله ورسوله فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال(9/551)
الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وعدت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيّ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلّ على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع لي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن النبيّ يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها فلا تقربنّها. وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية- أحد الثلاثة- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه. قال لا ولكن لا يقربنّك. فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ما يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شابّ. قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون وركض رجل إليّ فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني فنزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم(9/552)
جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره فكنت لا أنساها له. فلما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور قال: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك. فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال لا بل من عند الله. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه كأنّ وجهه قطعة قمر وكنّا نعرف ذلك. فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال أمسك بعض مالك فهو خير لك. فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا
صدقا ما بقيت. قال فو الله ما علمت أن أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) . قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. فإنّ الله أنزل الوحي فيهم بشرّ ما قال لأحد قال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) . وفي رواية البخاري خاصة زيادة وهي «فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر وما من شيء أهمّ إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النبي أو يموت النبيّ فأكون من الناس بتلك(9/553)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
المنزلة فلا يكلّمني أحد منهم ولا يصلّي عليّ. فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلث الآخر من الليل وهو عند أم سلمة وكانت محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله يا أمّ سلمة تيب على كعب قالت أفلا أرسل إليه فأبشّره. قال إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة حتى إذا صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا. وكان إذا استبشر استنار وجهه كأنه قطعة من القمر» .
والآية الثانية تلهم بقوة أن الذين تخلّفوا بغير عذر صحيح من المخلصين هم ثلاثة فقط. ويدلّ هذا على أن جميع القادرين من هؤلاء قد اشتركوا في الحملة.
وقد اشترك فيها نساء أيضا على ما ذكرته الروايات كما اشترك فيها المخلصون من القبائل البدوية. وعدد المتخلفين من المنافقين في المدينة كان نحو ثمانين شخصا على ما جاء في الحديث الطويل الصحيح الذي أوردناه آنفا المروي عن كعب بن مالك. وأسلوب الآيات [90- 92] التي تندد بالمعتذرين من الأعراب يدل على أن عددهم كان قليلا أيضا. وفي كل هذا دلائل على ما كان من خطورة الحملة ومن صحة العدد العظيم الذي روى اجتماعه فيها. ولا سيما إذا لحظنا أن المدينة بعد فتح مكة أخذت تكتظّ بالوافدين إليها من كل صوب.
والصورة التي رسمتها الآية الثانية عن المتخلفين الثلاثة قوية البروز تدلّ على ما كان من شدة أثر الموقف المتجهم الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون منهم في نفوسهم. وهو ما زاده الحديث المروي عن كعب بيانا وقوة. وحكمة ذلك واضحة. فالتقصير في الواجب ولا سيما إذا كان من المخلص خطير شديد الأثر من حيث احتمال تذرع غير المخلص به واحتمال عدواه للمخلص في الوقت نفسه. وفي هذا تلقين مستمر المدى فيما يجب على المسلمين أن يقفوه من موقف الحزم والشدة مع الذين يشذون عن المجموع ويقصرون في واجباتهم. وبخاصة في واجب الجهاد والنضال حتى ولو لم يكونوا متهمين في إيمانهم وإخلاصهم.
[سورة التوبة (9) : آية 119]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
.(9/554)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) وما فيها من تلقين
عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وقد روى المفسرون عن أهل التأويل مثل نافع والضحاك وسعيد بن جبير أن المقصود بالصادقين في الآية هم الذين صدقوا في الاعتراف بذنبهم ولم يعتذروا بأعذار كاذبة ممن تخلفوا عن غزوة تبوك. كما رووا أنهم محمد وأصحابه الخلّص أو أبو بكر وعمر وأمثالهما. ونرى القول الثاني هو الأوجه وهو مستلهم من فحوى الآية.
فالخطاب فيها موجّه للمؤمنين على سبيل حثّهم على مراقبة الله وتقواه وعلى أن يكونوا مع السابقين الأولين من أصحاب رسول الله الذين كانوا صادقين في القول والعمل والجهاد والطاعة لله ورسوله. وهذا يسوغ القول إن الآية جاءت معقبة على الآيتين السابقتين اللتين أشير فيهما إلى ما كان من تخلّف بعض المخلصين وإلى ما كاد أن يقع فيه بعض الأنصار والمهاجرين من زيغان القلب بسبب عسرة ظروف غزوة تبوك لتهيب في هذه المناسبة بجمهور المؤمنين بتقوى الله والاقتداء بأصحاب رسول الله السابقين الصادقين ويسلكوا مسلكهم. وتسوغ القول أيضا بأن هذه الطبقة من أصحاب رسول الله لم يكونوا من المعنيين بجملة مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ في الآية [117] .
وإطلاق الخطاب في الآية يجعلها مستمرة التلقين بوجوب اتخاذ المخلصين في الإيمان والجهاد والإقدام والتضحية والصدق في القول والعمل قدوة وأسوة وإماما في كل ظرف ومكان.
ولقد روى الطبري والبغوي أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأها (كونوا من الصّادقين) ويقول: «إن الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه له، اقرأوا، إن شئتم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا(9/555)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
من الصادقين) ومع ما في هذا من وجاهة وتلقين فإن الجمهور على أن المعني بالصادقين هم أصحاب رسول الله السابقون.
[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
. عبارة الآيتين واضحة وفيهما:
1- تنبيه إلى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله حينما يخرج إلى الجهاد. ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه ويضنوا بها عن التعرض لما يمكن أن يتعرض له من الأخطار والمشاق.
2- وتنبيه آخر فيه بشرى بما للذين يشتركون في حملات الجهاد في سبيل الله من عظيم الأجر والمنزلة مهما كان نصيبهم فيها: فإنهم لا يصيبهم في هذا السبيل ظمأ ولا نصب ولا جوع ولا يقفون موقفا يغيظ الكفار ولو لم يقع الحرب بينهم. ولا ينالون من أعدائهم نيلا ما ولا ينالهم من عدوّهم نيل ما. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة. ولا يقطعون واديا أو يسيرون مسيرة إلّا كتب الله لهم به عملا صالحا وجازاهم عليه بما هو أحسن منه. ولا يضيع عند الله أجر المحسنين قط.(9/556)
تعليق على الآية ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.. والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين كذلك. والمتبادر أنهما معقبتان أيضا على الآيات السابقة وعلى سبيل الحثّ والتنبيه والتحذير بمناسبة ما ورد في الآيات السابقة من خبر تخلّف المتخلّفين واعتذار المعتذرين من أهل المدينة والأعراب. وهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. والراجح أنهما نزلتا بعد الآيات السابقة لهما فوضعتا مكانهما للتناسب الزمني والموضوعي.
وقد قلنا في شرح الفقرة الأولى من الآية الأولى: ما كان ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب أنها في معنى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد ما أن يتخلّف عن رسول الله حين يدعو إلى الجهاد أو أن يفضل لنفسه العافية دونه، لأن روح الفقرة قصدت ذلك كما يتبادر منها ولأن الوقائع اليقينية ذكرت أن الجمهور الأعظم من أهل المدينة وكثيرا من أعرابها لم يتخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختصاص أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بالذكر قد يكون هدف إلى التنبيه على أن واجب هؤلاء في عدم التخلف هو ألزم وأشدّ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ولأنه إذا كان للبعيدين ما يمكن أن يكون عذر ما يسبب بعدهم وغيابهم وظروفهم فهذا ليس واردا بالنسبة للقريبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم المتصلين به مباشرة.
ولا سيما أن الدعوة تصل إليهم بيسر. ويفرض أن يكونوا ملمّين بالظروف والبواعث.
والنبي عمود الدعوة والقريبون إليه هم أولى الناس بالالتفاف حوله. وهذا الاختصاص بهذا البيان لا يعني كما هو المتبادر تخفيف واجب المسلمين البعيدين.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية فإنها، فيما عدا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، محكمة الأمر عامة التوجيه مستمرة التلقين فيما هو المتبادر. فجمهور المسلمين مدعو إلى التضامن مع أولياء أمره ودعاته المخلصين في الجهاد في سبيل الله في كلّ مناسبة ملزمة. وواجب القريبين لمجالات الجهاد وظروفه وأسبابه واجب ألزم لا يصح فيه(9/557)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
تكاسل ولا تثاقل. وكل ما يقوم به المسلمون في سبيل هذا الواجب مهما كان شأنه بدنيا أو ماليا أو استعدادا أو مرابطة هو داخل في مشمول هذا الواجب ومستحق لأجر الله الموعود.
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
. (1) فلولا: هنا في معنى الحضّ أو الاستدراك.
(2) طائفة: هنا بمعنى جماعة قليلة من جماعة أكثر.
في الآية:
تقرير تنبيهي بأنه ليس من الضروري أن ينفر جميع المؤمنين إلى الجهاد وأنه يكفي أن ينفر من كل فريق منهم قسم. وأن من شأن ذلك أن يتيح لبعضهم التفقّه في الدين وإنذار قومهم حينما يعودون إليهم حتى يحذروا مما يجب الحذر منه.
تعليق على الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... وما ينطوي فيها من صور وتلقين
ولقد تعددت الروايات التي يرويها الطبري وغيره «1» في سبب نزول هذه الآية. منها أنه لما نزلت الآيات السابقة في التنديد بالمتخلّفين قال الناس هلك المتخلّفون بعد الآن فصاروا إذا دعا النبي إلى الجهاد يسارعون إلى النفرة بقضّهم وقضيضهم ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من الخارجين إلى الغزوة ولو لم تكن الحاجة ماسة. ومنها أن من قبائل البدو التي أسلمت من أخذ ينتقل إلى المدينة بقضّه وقضيضه ويقيم فيها أو حولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له وحجة
__________
(1) انظر البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي أيضا.(9/558)
مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والاستماع منه والتفقّه بالدين. وكان هذا مما يضيق على أهل المدينة. ومنها أن فريقا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البادية وأصابوا خيرا فأقاموا ثم أخذوا يدعون الناس إلى الإسلام فقيل عنهم إنهم تركوا صاحبهم فوجدوا في أنفسهم وعادوا جميعا فنزلت فيهم بعذرهم وإيذانهم بكفاية وجود جماعة من كل فريق منهم عند النبي ليتعلموا منه ويعلّموا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة.
والرواية الثالثة لا تتسق مع مفهوم الآية ولا مع روحها وسياقها كما هو المتبادر من حيث إن الآية في صدد جميع المؤمنين أو غالبيتهم العظمى على الأقل. والرواية الثانية ليست بعيدة الاحتمال. فإن المدينة بعد فتح مكة أخذت تعجّ بوفود قبائل العرب. وتدخل في دين الله أفواجا. فلا يبعد أن يكون منهم من حاول الإقامة في المدينة وحولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له ومصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفقّه بالدين فسبّب هذا ضيقا على أهل المدينة.
وقد صوب الطبري الرواية الأولى. وقد يكون التصويب في محلّه مع شيء من التعديل تقتضيه الوقائع المعروفة. فلم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه غزوة ما بعد تبوك. كما أنه لم يرو خبر سرايا عديدة سيّرها إلا ما كان من خبر سرية سيّرها إلى اليمن بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإعداد جيش إلى البلقاء بقيادة أسامة بن زيد. ويتبادر لنا أن المسلمين خارج المدينة قد فزعوا وتحسبوا من عواقب الآيات السابقة فصاروا يقبلون على المدينة للاشتراك في الجهاد ومصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والاستماع له والتفقه بالدين. وكان في ذلك حرج عليهم وعلى أهل المدينة معا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية على سبيل التخفيف والتطمين والتعليم. وعلى كل حال فالآية متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا مع رجحان نزولها لحدتها بعدها من حيث إنها مترتبة عليها. والله أعلم.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره في المقصود بالجملة الثانية من الآية. منها أنهم الذين ينفرون إلى الجهاد حيث يعاينون نصر الله لأهل(9/559)
دينه فيكون ذلك لهم فقه في الدين ويرون مكائد الأعداء فيكون ذلك موضوع إنذار وتحذير لقومهم حين رجوعهم إليهم. ومنها أنهم الذين يبقون حول رسول الله حيث يتفقهون بما يسمعون منه من قرآن وحكم وينذرون بذلك قوم الذين نفروا إلى الجهاد حين رجوعهم.
ويتبادر لنا على ضوء الشرح المعدل الذي نقدم والذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن الجملة عائدة للطوائف التي أذن لها أن تنفر من كل فرقة وتفد إلى المدينة لتكون مع رسول الله مقيما أو مجاهدا فتتفقه بما تسمعه من قرآن وحكم وتنذر قومها بما تعلمته حين تعود إليهم والله أعلم.
والآية في حدّ ذاتها وبإطلاق عبارتها شاملة التعليم والتلقين لجميع المسلمين في مختلف ظروفهم. وفيها تعليم أسلوب من أساليب الاشتراك في الجهاد أو السعي للتفقه في الدين والوقوف على مقتضيات الأمور- حسب احتمال مضمون الآية- حيث أوجبت اشتراك جميع الفئات، دون اشتراك جميع الأفراد. ولعلّ فيها إلهاما بالمناوبة في الاشتراك بين أفراد كل فئة فلا يتعطل الجهاد والسعي للتفقه ولا تتعطل مصالح الناس معا. وقد اعتبر بعضهم الآية مستندا لوصف فرض الجهاد بأنه فرض كفاية إذا قام به فريق سقط عن الباقين «1» . وقد يكون هذا في محله إذا كان قيام فريق من المسلمين كافيا للحاجة وسادّا لها. أما في حالة الضرورة فإن هذا الفرض يكون فرض عين على كل قادر. وقد كتب على المؤمنين جميعا على ما انطوى في الآية [216] من سورة البقرة. فإذا لم يقم به حينما تدعو دواعيه من الفئات ما يسدّ الحاجة أثم القاعدون.
ولقد أورد البغوي وهو إمام محدث أيضا بعض الأحاديث النبوية في سياق تفسير هذه الآية وفي صدد ما احتوته من التفقه بالدين رأينا من المفيد نقلها عنه لأن فيها تعليما وتوجيها نبويين عظيمين في هذا الصدد لكل المسلمين في كل ظرف.
منها حديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقّهه في
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي عزوا للسيوطي.(9/560)
الدين» «1» وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقّهوا» وعلّق البغوي على هذا الحديث تعليقا لا يخلو من الوجاهة حيث قال: «والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية. ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كلّ مكلّف معرفته. وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا فإذا قعد أهل بلد عن تعلّمه عصوا جميعا. وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث» . ومما ساقه في صدد ذلك حديث نبوي جاء فيه «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وحديث عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» «2» . وحديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» «3» وأردف هذا بقول للشافعي وهو «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة» «4» .
__________
(1) هذا الحديث رواه الأربعة أيضا عن معاوية. وله تتمة وهي «وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» التاج ج 1 ص 53.
(2) روى هذا الحديث الترمذي وفي روايته هذه الزيادة ثم قال: «إنّ الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» التاج ج 1 ص 56.
(3) روى هذا أيضا الترمذي انظر المصدر نفسه.
(4) ومن هذا الباب حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» التاج ج 1 ص 54 و 55 وعن أبي هريرة رواية الترمذي: «قال النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» وفي رواية «من طلب العلم كان كفّارة لما مضى» المصدر نفسه ص 55، 56 وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» المصدر نفسه ص 64 وروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» المصدر نفسه ص 66.(9/561)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
. عبارة الآية واضحة. وفيها حثّ للمسلمين على قتال الأقرب إليهم من الكفار والإغلاظ والشدة في معاملتهم وقتالهم. مع التطمين بأن الله مع الذين يتقونه ويلتزمون حدوده.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ... وما روي فيها من أقوال وما تضمنته من تلقين وتعليم
ولقد قال الطبري في صدد هذه الآية إن الله أمر المسلمين بقتال من وليهم من الكفار دون من بعد منهم. وكان الذين يلون المخاطبين في الآية يومئذ الروم لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق. أما بعد الفتوح فالمسلمون مأمورون أن يقاتل أهل كل ناحية من وليهم من الأعداء دون الأبعد ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم.
ولهذا تأول كل من تأول هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء. وروى بعد هذا عن ابن عمر أنه أجاب على سؤال عن قتال الديلم فقال عليك بالروم. وروي عن الحسن أنه أجاب على سؤال عن قتال الروم والديلم فقال الديلم «1» . وروى عن ابن زيد في تأويل الآية قوله: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل كفار العرب حتى فرغ منهم فلما فرغ أمر بقتال أهل الكتاب» . وقال الخازن عزوا إلى
__________
(1) الراجح أن المقصود هم أهل بلاد فارس.(9/562)
بعض العلماء- بدون تسمية- إن الآية نزلت قبل نزول وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً فلما نزلت هذه صارت ناسخة للآية قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ومضى الخازن قائلا: «إنّ المحققين من العلماء لا يرون وجها للنسخ لأن الله لما أمر المسلمين بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب والأصلح وهو أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد.
وبهذا يحصل الغرض من قتال المشركين كافّة. لأن قتالهم دفعة واحدة لا يتصور.
ولذلك قاتل رسول الله أولا قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال أهل الكتاب الأقربين قريظة والنضير وخيبر وفدك. ثم انتقل إلى غزو الروم في الشام، ثم كان فتح الشام في زمن الصحابة. ثم انتقلوا إلى العراق، ثم إلى سائر الأمصار» .
وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا زيادة هامة يحسن نقلها.
ويلوح لنا أن معظم هذه الأقوال اجتهادي من جهة ومتأثر بالوقائع التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده من جهة أخرى فضلا عن ما فيها من ثغرات. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل بني قريظة وبني النضير ومن قبلهم بني قينقاع ومن بعدهم خيبر وما حولها قبل أن يفرغ من قتال قومه فضلا عن فراغه من قتال سائر كفار العرب. وسار بنفسه إلى دومة الجندل وأرسل سرايا عديدة إلى مشارف الشام لقتال نصارى العرب في السنين الخامسة والسادسة والسابعة ثم سيّر جيشا بقيادة زيد بن حارثة لقتال الروم في أقصى بلاد الشام في السنة الثامنة قبل أن يفرغ من هذا وذاك على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [29] من هذه السورة.
وواضح من هذا أن المؤولين والمفسرين تلقوا الآية مستقلة وأداروا الكلام على مداها بصورة عامة متأثرين ببعض الوقائع. ولم يلتفتوا أو يلمحوا ما بينها وبين مدى سابقتها من صلة. مع أن الصلة بينهما وثيقة فيما نرى. وبها يمكن تأويلها تأويلا متسقا مع السياق والواقع الذي نزلت الآية في ظروفه. فالمسلمون خارج المدينة أخذوا يتوافدون إليها بقصد الجهاد مع رسول الله ومصاحبته. فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية السابقة لتنبيههم إلى أنه لا حاجة إلى قدومهم جميعهم(9/563)
ويكفي أن يأتي من كل فرقة منهم طائفة ثم اقتضت هذه الحكمة الإيحاء بالآية التي نحن في صددها لتؤذن المسلمين من غير أهل المدينة بأن مما يكفيهم ويجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الأعداء الكفار دون حاجة إلى مجيئهم جميعا إلى المدينة.
ومع أن معظم جزيرة العرب قد أرسلت وفودها بعد غزوة تبوك وقبيلها إلى المدينة وبايعت النبي على الإسلام على ما جاء في كتب السيرة القديمة «1» فإنه بقي شراذم متفرقة مناوئة. مثل بني حنيفة بقيادة زعيمهم مسيلمة في اليمامة الذي ادعى النبوة في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومثل بني أسد بقيادة زعيمهم طلحة في نجد وجماعة الأسود العنسي في اليمن اللذين ادعيا النبوة كذلك في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت حالة الحرب قائمة في الوقت نفسه بين المسلمين ونصارى الشام والروم والغساسنة أصحاب السلطان والحكم فيها. ومن المحتمل أن يكون قد وفد على المدينة جماعات من هذه الأنحاء فنزلت الآية للإيعاز لهم بما هو الأولى والألزم والله تعالى أعلم.
وظروف نزول الآية وهدفها من جهة والمبادئ القرآنية الجهادية المحكمة من جهة أخرى تسوغ القول إن الكفار المقصودين في الآية هم الكفار الأعداء فحسب وليس كل الكفار إطلاقا وبدءا ولو لم يكونوا أعداء محاربين ومعتدين على الإسلام والمسلمين. وهذا متسق مع قول الطبري: «أنّ كلّ من تأوّل هذه الآية يرى أن معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء» . والفرق واضح بين الكفار إطلاقا وبين الأعداء منهم.
والآية في حدّ ذاتها مطلقة العبارة والتوجيه وعليها طابع التعليم والتشريع للمسلمين في جميع ظروفهم أيضا. ولعلّ مما تعلّمه هو السير على ما هو الأولى من قواعد الحرب وهو عدم توزيع القوى وفائدة حشدها وتوجيهها إلى الأقرب فالأقرب من الأعداء. مع التنبيه على أن ذلك يجب أن يكون متمشيا مع مقتضيات المصلحة الإسلامية التي يقررها ولي أمر المسلمين، وعلى وجاهة ما قاله الطبري
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد.(9/564)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
من أن هذا يكون ما لم يضطر إليه أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام.
فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم، أي ولو كان ذلك في ناحية غير قريبة. والله أعلم.
وجملة وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً لا تفسر فيما يتبادر لنا بالقسوة في القتل والإبادة أو بذلك وحسب بل بمعنى إظهار العزيمة والحمية والتصميم والشدة التي ترهب الأعداء أيضا. ولعلّ الجملة التي انتهت بها الآية التي فيها الجملة ممّا يبرز هذا التنبيه. وفي تفسير البغوي ورشيد رضا والقاسمي ما يتساوق مع هذا القول.
وفيه والحالة هذه تلقين مستمر المدى.
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 126]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
. (1) سورة: نرجح أن معنى الكلمة في مقامها هو اللغوي الذي هو «جملة من آيات القرآن» وليس «السورة» التي صارت تطلق على سور القرآن الكاملة من بدء إلى نهاية.
في هذه الآيات:
1- إشارة إلى موقف من مواقف المنافقين. حيث كان بعضهم إذا ما أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بسورة قرآنية سألوا سؤال المستهزئ الجاحد عن من استفاد منها زيادة إيمان وهدى وعلم.
2- وردّ منطو على التنديد والإنذار للمنافقين والتنويه بالمخلصين: فالذين أخلصوا في إيمانهم يزيدهم ما ينزل من القرآن يقينا واستبشارا لأنهم يرون فيه تعليما وإرشادا وهدى. وأما المنافقون ذوو القلوب المريضة فيزدادون رجسا إلى(9/565)
رجسهم بما يزدادون من شكّ وتصميم على عدم الإخلاص والتصديق حتى يموتوا كفارا جاحدين.
3- وتساؤل على سبيل التنديد من جهة والتدليل على ازديادهم رجسا إلى رجس من جهة أخرى عما إذا كانوا لا يرون أنهم يختبرون ويبتلون في كل عام مرة أو مرتين فتظهر أمارات نفاقهم وجحودهم بالمواقف التي يقفونها والأقوال التي يقولونها ويفتضح أمرهم ويتعرضون نتيجة لذلك للتقريع والخزي ثم هم لا يرعوون ولا يتوبون عن مواقفهم ولا يتذكرون ما وقع لهم فيعودون إلى الارتكاس فيها والتعرض للفضيحة والخزي والتقريع مرة بعد أخرى.
تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
الآيات فصل جديد ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وعبارتها مطلقة تلهم أن المقصودين بالتنديد هم المنافقون وأن الموقف الذي يندد بهم من أجله هو موقف متكرر دائم منهم عند نزول السور والجمل القرآنية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت مكانها للتناسب الظرفي. ولعل بعض المنافقين تساءلوا تساءلهم المستهزئ الجاحد عقب نزول بعض الآيات السابقة فنزلت الآيات تفضحهم وتندد بهم وتنذرهم. ولا يبعدأن تكون الآية [122] التي احتوت تخفيفا بعد التشديد الذي سبقها كانت موضوع التساؤل. وورود الآيات عقبها قد يكون قرينة على ذلك. وإذا صحّ هذا فتكون للآيات صلة موضوعية بما سبقها أيضا. وعلى كل حال فالشدة التي جاءت في الآيات تلهم أن الموقف الذي وقفه المنافقون كان شديد الخبث والأثر.
والآيات من حيث هي تحتوي تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان والتهذيب الديني. فعلى المؤمن المخلص أن يتلقى كل ما أتى ويأتي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم باستبشار وتصديق واعتقاد بأن فيه حكمة وهدى حتى ولو قصر ذهنه(9/566)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
عن إدراك ما فيه من حكمة أو غلق فهمه عن استكناه مداه وأن لا يرتاب فيما لا يدركه ويفهمه فيزداد بذلك يقينا وتسليما لله ورسوله. وكل شك أو تردد في ذلك متناقض مع صدق الإيمان بالله ورسوله. وهو ما لا يصدر إلّا من كافر أو منافق.
والآيات والحالة هذه مستمرة الحكم والتلقين لكل مسلم في كل ظرف بالنسبة لما احتواه كتاب الله عزّ وجلّ ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من سنّة قولية وفعلية.
ولقد تعددت تأويلات أهل التأويل التي أوردها الطبري عن ماهية افتتان المنافقين في السنة مرة أو مرتين. فمنها أن ذلك بالجوع والقحط والجدب. ومنها أن ذلك بالغزو والجهاد. ومنها أن ذلك بما يشيعه المشركون عن رسول الله من أكاذيب فيستبشرون بها ويظهر كذبها فيكون في ذلك فضيحة لهم.
ونرجو أن يكون الصواب في التأويل الذي أوردناه في شرح الآيات إن شاء الله.
[سورة التوبة (9) : آية 127]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
. تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ... وما فيها من صور وتلقين
في الآية صورة أخرى للمنافقين. حيث كانوا حينما يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو سورة قرآنية نزلت عليه من جديد ينظر بعضهم إلى بعض نظر المستهزئ ويتغامزون على الانصراف من مجلسه خلسة دون أن يراهم أحد ثم انصرفوا. وقد انتهت الآية بالدعاء عليهم. فليزد الله قلوبهم عمى وضلالا. فهم قوم لا يفقهون مدى الجمل القرآنية وما فيها من هدى وحكمة.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول هذه الآية أيضا. والمتبادر أنها استمرار(9/567)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
للآيات السابقة في حكاية مواقف المنافقين حين نزول السور القرآنية. وهي متصلة بها سياقا وموضوعا وربما مناسبة أيضا.
والصورة التي تحتويها الآية خبيثة كالأولى. وفيها وفي سابقتها دليل على عمق شك هذا الفريق وجحوده ونفاقه. ولما كان احتمال نزول هذه الآيات بعد غزوة تبوك قويّا وهو ما قد يلهمه ترتيبها واحتمال صدور الصور التي انطوت فيها قويّا كذلك بعد هذه الغزوة ففيها دلالة على أن هذه الفئة الفاسقة ظلت مستمرة في نفاقها وخبثها ومواقفها الجحودية والتشكيكية والتشويشية والاستهزائية إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت أخذت تبالغ في الحذر والرياء والتظاهر في المسايرة والملاينة والتوكيد بإخلاصها بسبب ما صار إليه موقف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من القوة والإسلام من الانتشار والتوطد.
[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
. (1) عزيز عليه: يصعب ويشق على نفسه.
(2) ما عنتّم: ما شق عليكم وسبّب لكم العنت. أو ضلالكم على رأي بعض المفسرين.
وجّه الخطاب في الآية الأولى إلى السامعين والعرب عامة بأن الرسول الذي جاءهم هو منهم يشقّ عليه ضلالهم وما يصيبهم من أذى وعنت ويحرص كل الحرص على خيرهم وصالحهم. وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين المخلصين منهم.
ووجّه الخطاب في الآية الثانية إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتثبيت والاستدراك: فإذا أعرض بعض الناس عنه وعمّا يدعوهم إليه بعد ما بان لهم من شدة إشفاقه عليهم وحرصه على صالحهم وخيرهم وهدايتهم فليهتف بأن حسبي الله الذي لا إله إلا هو فهو كافيني وكاف عني وإني متوكل عليه وحده. فهو ربّ(9/568)
العرش العظيم والملك المتصرف في الأكوان مطلق التصرف.
ومع اختلاف التوجيه في الخطاب فالآيتان وحدة تامة كما هو المتبادر.
تعليق على الآية لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.. والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين وما روي في صددهما من روايات، وتمحيص رواية مكيّتهما ومدنيّتهما ومسألة كونهما آخر القرآن نزولا
لقد كثرت الروايات والأقوال في صدد هاتين الآيتين ومداهما. فالمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أنهما مكيّتان. ولم نر في كتب التفسير تأييدا لهذه الرواية إلا في تفسير المنار عزوا إلى ابن أبي الفرس. وهذا ورد أيضا في كتب الإتقان عزوا إلى ابن الغرس «1» .
ولعل أحد الاسمين مصحّف عن الثاني. ولا يذكر رشيد رضا ولا مؤلف الإتقان قبله صفة كلام ابن أبي الفرس وسنده إن كان لغيره. وقد رجح رشيد رضا مكيّة الآيتين معللا ذلك بأن معناهما لا يظهر إلا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام في مكة في أول البعثة. ومعنى كلام ابن أبي الفرس وترجيح رشيد رضا أن الآيتين وضعتا في آخر سورة براءة دون أن تكونا منها.
وهناك حديث يرويه المفسّرون في صدد وضع الآيتين في موضعهما عن عبد الله بن الزبير قال «2» أتى الحارث بن خزيمة الأنصاري بهاتين الآيتين إلى عمر بن الخطاب فقال: «من معك على هذا «3» قال لا أدري والله إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله ووعيتهما وحفظتهما فقال عمر إني لأشهد أني سمعتهما من
__________
(1) الإتقان ج 1 ص 16.
(2) النص من تفسير ابن كثير.
(3) كان عمر الذي كان يشرف على جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنهما لا يقبل من أحد ما يأتي به من قرآن إلّا إذا كان معه شاهدان على ما ذكرته الروايات.(9/569)
رسول الله. ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدتها. فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة» . وهذا الحديث ليس من الصحاح. ولا يفيد أن الآيتين مكيّتان أم مدنيتان. ويفيد أنهما كانتا منفردتين لم يكن معروفا وقت نزولهما ولا السياق والسورة التي كانتا فيها.
مقابل هذا هناك حديث عن أبي بن كعب أحد علماء وقرّاء القرآن من أصحاب رسول الله يرويه المفسّرون من طرق عديدة وبصيغ متقاربة. جاء في إحداها التي رواها عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير تفيد أن الآيتين مدنيّتان وآخر ما نزل من القرآن بل وقد تفيد بقوة أنهما كانتا في آخر سورة براءة وتقرءان بعد الآية التي قبلها وهذا نصها «1» : «إنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون وأبي يملي عليهم فلما انتهوا إلى الآية ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين- هما الآيتان اللتان نحن في صددهما- ثم قال هذا آخر ما نزل من القرآن» ، وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. وهناك حديث رواه البخاري فيه حكاية لتكليف أبي بكر وعمر إيّاه بجمع القرآن وتتبعه حيث جاء فيه: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة براءة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره» «2» . والمهم في بحثنا هو العبارة الأخيرة التي قد تفيد أن زيدا كان يعرف أن الآيتين هما آخر سورة براءة.
وتعقيبا على ما تقدم نقول:
أولا: إنه ليس من الضروري أن لا يظهر معنى الآيتين إلّا في أوائل عهد مكة كما قال رشيد رضا. فإنه كان في العهد المدني مواقف من المنافقين والمشركين تتحمّل معناهما.
__________
(1) النص من تفسير ابن كثير. [.....]
(2) التاج ج 4 ص 28 و 29.(9/570)
وثانيا: إننا نلمح بكل قوة أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق لهما الذي احتوى صورا لمواقف خبيثة للمنافقين فأوحى الله بهما معقّبتين على هذه المواقف لتذكر أولاهما الناس بالصفات العظيمة التي اتصف بها الرسول الذي جاءهم.
ولتسلي ثانيتهما النبيّ حتى لا يغتمّ ولا يعبأ بمواقف المنافقين والمشركين وأن يقول إذا أصروا عليها وتولّوا (حسبي الله وعليه توكلت) .
وما روي عن أبي من أن النبي أقرأه إياهما بعد الآيتين السابقتين لهما. وما روي عن زيد قوله إنهما آخر سورة براءة يدعمان ذلك. وإذا كان حديث أبي لم يرد في الصحاح فإنه يلتقي مع حديث زيد الذي رواه البخاري. وهذا يسوغ التوقف في الحديث المروي عن عبد الله بن الزبير في صدد وضعهما في آخر سورة براءة ارتجالا. وهناك دلائل قرآنية وأحاديث نبوية وصحابية كثيرة تفيد أن القرآن كان يدون أولا بأول ثم يسجل في قراطيس وتوضع آياته وفصوله التي كانت تنزل لحدة في السور بأمر رسول الله وأن سوره رتبت حسب ما هي الآن في المصحف في أواخر حياة النبي وبأمره. وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف مرتبة حسب المصحف وأن أصحاب رسول الله كانوا يحفظون ويقرأون القرآن حسب ترتيب المصحف أيضا بحيث يقال في صدد ما جاء في حديث البخاري عن زيد إنما أريد تدوين مصحف إمام بعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ليكون محفوظا عند الخليفة ومرجعا وأنه تتبع ما عند الناس في الرقاع وفي الصدور من قرآن زيادة في الحرص على ضبط هذا المصحف وقد لا يكون أحد غير أبي خيثمة كتب الآيتين في رقعة لحدتهما فكان ذلك مما عني في الحديث. والله تعالى أعلم.
ولما كنا نميل إلى اعتبار حديث أبي وصحته لاتساقه مع سياق الآيات ودعم حديث زيد الذي رواه البخاري له فإننا نميل إلى فهم قوله أن الآيتين هما آخر ما نزل من القرآن بكون سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن فيكون آخرها كذلك.
لأن هناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح نذكر آيات أخرى كآخر ما نزل من القرآن ومن ذلك آيات الربا والدين في سورة البقرة على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. والله تعالى أعلم.(9/571)
والآية الأولى من روائع آيات القرآن في الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير ما اتصف به من كريم الصفات وعظيم الأخلاق وكبر القلب الذي امتلأ برّا وخيرا وحلما وإشفاقا ورأفة ورحمة وحرصا بالعرب والمؤمنين. ولعلّها من هذه الناحية أروع ما في القرآن وأدلّ ما فيه على عظمة خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وكمال صفاته وكبر قلبه وعمق إخلاصه وشدة رغبته في هداية العرب وخيرهم وإنقاذهم. ولما كانت هذه الآية على الأرجح من آخر ما نزل من القرآن أو آخره فهي خاتمة رائعة بعيدة المدى والمغزى لكتاب الله المجيد الذي أنزله الله تعالى على رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم.
ومع أن كمال هذه الصفات الكريمة مما يمكن أن يكون مختصا بمن علم الله أنه أهل لرسالته العظمى فإن في الآية تلقينا لما يجب أن يكون عليه أولياء أمور المسلمين من صفات وأخلاق وحثا على الاقتداء بها ما داموا قد تولوا زمام هذه الأمور وقاموا مقام النبي صلى الله عليه وسلم فيها كما أن من شأنها أن تكون مقياسا لأهلية وصلاح وإخلاص أولياء أمور المسلمين ودعاتهم وقادتهم ودليلا عليها.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا عن أبي الدرداء رواه أبو داود أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمّه» «1» . والصيغة بمثابة دعاء والتماس من الله عزّ وجلّ. وقد قال الله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وفيها على كلّ حال بعث لطمأنينة النفس وسكونها.
ولقد وقف المفسرون عند جملة مِنْ أَنْفُسِكُمْ وأوردوا بعض الأحاديث والروايات في صدد شمول الصلات الرحمية والقبلية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومختلف قبائل العرب أو بطون قريش. وما ينطوي في ذلك من شدة الباعث على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية قومه. ولقد كتبنا تعليقا على هذا في سياق الآية [113] من سورة النحل وأوردنا طائفة مما روي من أحاديث وروايات فنكتفي بهذا التنبيه.
__________
(1) التاج ج 5 ص 98 و 99.(9/572)
سورة النصر
فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح بحمد الله واستغفاره إذا ما جاء نصر الله وفتحه ورأى الناس يدخلون في دينه.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة وبكلمة أخرى آخر السور المدنيّة نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنيّة نزولا أو كسادسة عشرة أو كثامنة عشرة «1» بل إن هناك رواية بأنها مكيّة «2» فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة حديث عن ابن عباس جاء فيه «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلّا ليريهم. قال ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم. فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا. فما تقول. قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به قال إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبّح بحمد ربك واستغفر. إنه كان توابا فقال عمر ما أعلم منها إلّا ما تقول» «3» . وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس
__________
(1) انظر جدول ترتيب نزول السور المدنيّة في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.
(2) انظر تفسير النيسابوري.
(3) التاج ج 4 ص 267 والحديث من مرويات الترمذي وأحمد أيضا.(9/573)
جاء فيه «لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إليّ نفسي كأني مقبوض في تلك السنة» . وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري عن الضحاك قوله كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا وأنها نزلت في حجة الوداع في منى وذكر النيسابوري- مع ذكره القول إنها مكيّة- أنها نزلت في أواسط أيام التشريق «1» في منى في حجة الوداع وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعدها إلّا سبعين يوما وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع.
ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر قبل أن يموت من قوله سبحانك اللهمّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. فقلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها قال قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» وعن أم سلمة قالت: «كان رسول الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من سبحان الله وبحمده. لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت سبحان الله وبحمده قال: إني أمرت بها فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» والحديثان يؤيدان إذا صحّا كون السورة نزلت بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو الله تسبيحا وحمدا واستغفارا.
وبناء على ذلك كلّه رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة وآخر السور المدنيّة.
__________
(1) أيام عيد الأضحى.(9/574)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
ونصّ السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه. أما القول إنها مكيّة فهو غريب ينقضه نصّها وروحها والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها.
وما قلناه من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن. وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة. وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا يدعمان بعضهما ويلهمان معجزة قرآنية ربانية. ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن وفي سورة النصر هتاف رباني بما تمّ من نصر الله للدعوة الإسلامية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
. تعليق على آيات السورة ومداها وما روي في صددها
عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما عليه الجمهور بدون خلاف. وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة.
وواجب التسبيح لله وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت. وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتمّ الله على نبيه نعمته ويسّر له الفتح والنصر وأقبل الناس على دين الله أفواجا.
وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب، والآيات(9/575)
بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم الله عزّ وجلّ بالشكر والحمد والاستغفار وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين الله وكلمته. ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية الله وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه.
وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر الله وفتحه ويدخل الناس في دين الله أفواجا. غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب وأن ذلك المجيء قد جاء. والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر.
ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح. ولقد تمّ هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة.
والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة أقل من ثلاثة أشهر وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى قبيل وفاته والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الله أفواجا واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بتوطد سلطان النبي والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة ومما أطنبت به كتب السيرة(9/576)
والتاريخ القديمة «1» ، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام، وحج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس حشد عظيم من المسلمين روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر- وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت- حتى هتف الله تعالى بالمؤمنين أو هتف النبي صلى الله عليه وسلم مرددا هتاف الله- الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة- الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [3] .
نبذة عن حجة الوداع النبوية
وحجة الوداع المشار إليها قد تمّت في أواخر السنة الهجرية العاشرة. فلقد فتح الله تعالى على رسوله مكة في رمضان في السنة الثامنة. ولم يكن الشرك قد اندحر بالمرة عن ربوعها. وكان المشركون ما يزالون يقومون بطقوس حجهم فيها.
فلم تشأ حكمة الله ورسوله أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التامة والمشركون شركاء في حجه. ولما كانت مكة وما جاورها قد دخلت في سلطانه فقد عيّن وزيره الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحجّ في السنة التاسعة وأمره أن يعلن للملأ حظر دخول منطقة المسجد الحرام على المشركين وبراءة الله ورسوله منهم على ما شرحناه في سورة التوبة. فلما كانت السنة العاشرة خرج على رأس حشد عظيم من المسلمين من أهل المدينة وقبائلها ليحج بالناس حجة لا يشهدها إلّا المسلمون وهي التي عرفت بحجة الوداع لأنه مات صلى الله عليه وسلم بعدها بمدة قصيرة ونزلت فيها هذه السورة التي احتوت نعيا له وسميت سورة التوديع بسبب ذلك. وقد وافاه إلى مكة حشود عظيمة أخرى من المسلمين من مختلف أنحاء الجزيرة فكان أعظم حجّ تمّ في عهده بل نعتقد أنه كان أعظم حجّ وقع إلى عهده. وإذا كان عدد الذين اشتركوا في غزوة تبوك بلغ ثلاثين ألفا كما ذكرنا في سياق سورة التوبة فلا مبالغة في تخمين
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 2 ص 25- 121 وج 3 ص 166- 241 وابن هشام ج 4 جميعه وتاريخ الطبري ج 2 ص 315 وما بعدها وملخص ذلك في الجزء السادس من كتابنا تاريخ الجنس العربي.(9/577)
عدد الذين شهدوا هذا الحج بضعف هذا العدد وهو رقم عظيم جدّا في ذلك الوقت.
وخبر حجة الوداع ورد مطولا بطرق مختلفة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ القديمة مرويّا عن التابعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى مسلم وأبو داود حديثا طويلا فيه وصف شائق لموكب الحجّ وكثير من أفعال وأقوال ومواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم التعليمية والتوضيحية والتشريعية والتهذيبية. فرأينا إيراده برمته. وهو مروي عن صاحب رسول الله جابر بن عبد الله في أيام شيخوخته جوابا على سؤال من أحد التابعين. وهذا نصه «1» «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ «2» ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله ويعمل مثل عمله. وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس «3» محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري «4» بثوب وأحرمي. فصلّى رسول الله في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. فأهلّ لبّيك اللهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به فلم يردّ رسول الله عليهم شيئا منه. ولزم رسول الله تلبيته. قال جابر: لسنا ننوي إلّا الحج لسنا نعرف العمرة «5» حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى
__________
(1) التاج ج 2 ص 140- 145.
(2) المحقق أن النبي صلى الله عليه وسلم زار الكعبة في السنة السابعة الهجرية بناء على اتفاقه مع قريش. ولم يكن وقت الزيارة وقت الحج.
(3) زوجة أبي بكر الصديق.
(4) بمعنى تحفظي من وسخ الدم.
(5) هذا غريب لأن العمرة ذكرت في الآيتين [158 و 196] من سورة البقرة. والعمرة هي زيارة الكعبة والطواف حولها والأمر الرئيسي للحج هو الوقوف في عرفة فلعله أراد أن خروج الناس إنما كان للحج في الدرجة الأولى.(9/578)
أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت وكان يقرأ في الركعتين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] ابدأوا بما بدأ الله فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره وقال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا الله وحده. أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال:
«لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله العامنا هذا أم لأبد؟ فشبّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:
دخلت العمرة في الحج، مرتين. لا بل لأبد أبد» «1» . وقدم عليّ من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر عليها فقالت:
إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان عليّ يقول بالعراق «2» فذهبت إلى رسول الله محرّشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قلت: اللهمّ إني أهلّ بما أهلّ به رسولك قال: فإن معي الهدي فلا تحلّ. قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحلّ الناس كلهم
__________
(1) أراد على ما هو المتبادر عدم القرآن بين العمرة والحج حتى يستمتع بينهما على ما شرحناه في سياق آيات البقرة [196، 197] ومع ذلك فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة أن رسول الله أفرد للحج وفي رواية أهلّ بالحجّ مفردا (انظر التاج ج 2 ص 112) .
(2) حينما كان في العراق في أيام خلافته. [.....](9/579)
وقصّروا إلّا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية «1» توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة «2» فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشكّ قريش إلّا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية «3» فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له «4» فأتى بطن الوادي «5» فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم «6» حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن سبيعة بن الحارث «7» كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل «8» . وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلّه.
اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح «9» . ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟ قالوا
__________
(1) هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة.
(2) موضع قبيل عرفات وليس منها.
(3) كان هذا شأن فريق من قريش يسمّون الأحماس على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [199] من سورة البقرة.
(4) وضع رحلها عليها ليركبها.
(5) وادي عرفة على ما ذكره شارح الحديث.
(6) في رواية ابن سعد زيادة وأعراضكم.
(7) من بني عبد المطلب.
(8) قبيلة كانت نازلة بين مكة والطائف.
(9) المتبادر أن المقصد هو إدخال ناس عليهن لا يرضى أزواجهن عن دخولهن عليهن وحسب وليس هو الفاحشة لأن عقاب ذلك الرجم على ما شرحناه في سياق الآيات الأولى من سورة النور.(9/580)
نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها «1» إلى الناس اللهمّ اشهد ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف «2» فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس. وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله «3» ويقول أي يشير بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلّما أتى حبلا من الحبال «4» أرخى لها قليلا حتى تصعد إلى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا.
ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر وصلّاه حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله مرّت به ظعن «5» يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع النبي يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحوّل رسول الله يده إلى الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه حتى أتى بطن محسر «6» فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف «7» رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم
__________
(1) أي يردها إليهم.
(2) هو جوار الصخرات في أسفل جبل الرحمة في عرفات.
(3) مقدمه.
(4) الحبل بمعنى التلّ الخفيف.
(5) جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج. [.....]
(6) موضع قبل منى بعد عرفات.
(7) حب الفول.(9/581)
ركب رسول الله فأفاض إلى البيت وصلّى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم «1» فناولوه دلوا فشرب منه» .
وروى الشيخان وأحمد عن ابن عباس حديثا فيه بعض أقوال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة وداعه جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال يا أيها الناس أيّ يوم هذا قالوا يوم حرام. قال فأيّ بلد هذا قالوا بلد حرام. قال فأيّ شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهمّ هل بلّغت اللهمّ هل بلّغت فليبلّغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. قال ابن عباس فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته» «2» .
وفي رواية «وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في حجّته التي حجّ بها وقال هذا يوم الحجّ الأكبر. وطفق يقول اللهمّ اشهد. وودّع الناس فقالوا هذه حجّة الوداع» «3» .
وفي كل من سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد «4» فصل طويل مسلسل الرواة إلى أحد أصحاب رسول الله أو تابعيهم متطابق مع هذا الحديث مع بعض زيادات مهمة فيها تعليم وتشريع وتهذيب. فمما جاء في فضله في طبقات ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما شاهد الكعبة عند قدومه إلى مكة قال: «اللهمّ زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظّمه ممن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» وأنه وقف بالهضاب في عرفات وقال: «كل عرفة موقف إلا بطن عرفة» . وحينما جاء إلى المزدلفة قال: «كل المزدلفة موقف إلا بطن محسر»
__________
(1) كانت وظيفة السقاية بيد العباس بن عبد المطلب والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يعتبر المسلمون ذلك سنّة لهم أيضا.
(2) التاج ج 2 ص 135 و 136.
(3) المصدر نفسه.
(4) الجزء الرابع من سيرة ابن هشام ص 272- 277 والجزء الثالث من ابن سعد ص 225- 240.(9/582)
وأنه بعد نحر الهدي حلق رأسه وأخذ شاربه وعارضيه وقلّم أظفاره وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن ثم أصاب الطيب ولبس القميص ونادى مناديه «إن أيام منى هي أيام أكل وشرب» ثم أقام ثلاث ليال في مكة وقال: إنما هن ثلاث يقيمهن المهاجر بعد الصدر. ثم ودّع البيت وانصرف راجعا إلى المدينة. وروي في الفصل جواب لأنس بن مالك على سؤال عمّا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ بالعمرة والحجّ معا أم أفرد؟
فقال إنه أهلّ بهما معا. وهذا هو المستفاد من الحديث الطويل السابق. ومما ورد في الفصل أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسلمين الخيار بالإفراد بين العمرة والحجّ أو القران بينهما. وقال لمن سألوه: من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة. وتمتّعوا بالعمرة إلى الحج. وأنه دخل الكعبة بعد أن خلع نعليه ولما عاد إلى أهله قال لعائشة فعلت أمرا ليتني لم أفعله دخلت البيت ولعلّ الرجل من أمتي لا يقدر على أن يدخله فينصرف وفي نفسه حزازة. إنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول. وقال حين وقف في عرفات «الحجّ عرفات أو يوم عرفة. من أدرك ليلة جمع «1» قبل الصبح فقد تمّ حجّه» وقال في موقف آخر «أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. وإنها ليست أيام صيام إنما هي أيام أكل وشرب وذكر» ومما روي من أقواله في خطبة الوداع «إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية. ألا وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر. ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع إذا أقام فيكم كتاب الله. أرقّاءكم أرقّاءكم. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون.
وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم. ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعلّ بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» وقال لبعض المسلمين حين رآه يتشدد في اختيار الجمرات «إيّاكم والغلوّ في الدين إنما أهلك من كان قبلكم. بالغلوّ في الدين» .
__________
(1) ليلة العيد.(9/583)
ومما رواه ابن هشام من زيادة في خطبته: «أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم. فاحذروه على دينكم. أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى ورجب. أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه. أيها الناس لتعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين أخوة. فلا يحلّ لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. فلا تظلمن أنفسكم. ألا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا. أمرا بينا. كتاب الله وسنّة نبيه. وهتف في آخر خطبته اللهمّ هل بلّغت فهتف الناس نعم فقال اللهمّ فاشهد» ومما رواه ابن هشام وفيه تعليم لمناسك الحج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لخمس بقين من ذي القعدة. وأن عائشة رضي الله عنها حاضت وبكت وقالت والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا فقال لا تقولن ذلك فإنك تقضين كلّ ما يقضى الحج. إلا أنك لا تطوفين بالبيت «1» . وإن النبي حلّ كل من كان لا هدي له معه وحل نساءه بعمرة. ولم يحلّ هو معهم وقال إني أهديت ولبّدت فلا أحلّ حتى أنحر هديي وأن هدي رسول الله كان من البقر وقد نحره يوم النحر. وأن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رجع من بعثه الذي بعثه به إلى اليمن أثناء الحجّ فأمره النبي أن يطوف ويحل كما فعل أصحابه. فقال له إني أهللت يا رسول الله كما أهللت فأعاد عليه القول فقال يا رسول الله إني قلت حين أحرمت اللهمّ إني أهلّ بما أهلّ به نبيك وعبدك ورسولك. فقال فهل معك من هدي قال لا فأشركه رسول الله في هديه وثبت على إحرامه. وإن رسول الله قال حين وقف على المرتفع الذي
__________
(1) روى ابن هشام أنها أدت العمرة قضاء بعد طهرها.(9/584)
وقف عليه هذا الموقف ثم قال وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على هضبة صبيحة المزدلفة هذا الموقف ثم قال وكل المزدلفة موقف. ولما نحر بالمنحر بمنى قال هذا المنحر وكل منى منحر.
وهكذا كانت هذه الحجّة المباركة من أعظم مشاهد الرسالة المحمدية وتتويجا رائعا لها.
نبذة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ولحظاته الأخيرة وصفته
وأما وفاته صلى الله عليه وسلم فقد كانت على أشهر الروايات «1» في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة عن ثلاث وستين سنة «2» . ولا تذكر الروايات المرض الذي مات به. وكل ما جاء فيها أنه ألمّت به حمّى رافقها صداع. وأن العباس عمّه رضي الله عنه ظنّ أنها ذات الجنب ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما كان الله ليقذفني بهذا الداء. ولم يطل مرضه إلّا نحو أسبوعين. ولما شعر بثقل وجعه استأذن من نسائه بالانتقال إلى بيت عائشة تحقيقا لفكرة العدل بينهن فأذنّ له حيث مات في بيتها ودفن فيه وهو المكان المدفون فيه إلى اليوم على التحقيق صلوات الله وسلامه عليه.
ومما رواه ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جوف الليل مع أبي مويهبة مولاه
__________
(1) انظر ابن هشام ج 4 ص 319- 345 وتاريخ الطبري ج 2 ص 430- 444 وكل من المؤلفين يسند رواياته إلى راو بعد راو إلى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) هناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «بعث رسول الله لأربعين سنة فمكث في مكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها فأقام عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة» . وحديث رواه مسلم عن أنس قال: «قبض رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن عائشة قالت «توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة» . ومع ذلك فهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: «توفي رسول الله وهو ابن خمس وستين سنة» انظر التاج ج 5 ص 229.(9/585)
وقال له إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه.
أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والآخرة شرّ من الأولى ثم قال يا أبا مويهبة. إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فقال أبو مويهبة بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة قال لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة.
ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه. ولقد خرج في بعض مرضه عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلّى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر من الصلاة عليهم. ثم قال: يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا فإنّ الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنيهم وتجاوزوا عن مسيئيهم. ثم قال أيها الناس: إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وما عنده فاختار ما عنده، ففهمها أبو بكر فبكى وقال بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال على رسلك يا أبا بكر ثم قال انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدّوها إلّا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدا كان أفضل من الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده «1» .
ولما اشتد برسول الله الوجع وجاء بلال يدعوه إلى الصلاة فقال مروا من يصلي بالناس فخرج فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقلت قم يا عمر فصلّ بالناس فقام فلما كبّر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته وكان رجلا مجهرا فقال فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون. يأبى الله ذلك والمسلمون. ثم بعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلّى عمر الصلاة فصلّى بالناس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأ جيشا وعين لقيادته أسامة بن زيد ليذهب إلى مؤتة في البلقاء لينتقم لجيش ذهب بقيادة أبي أسامة في
__________
(1) ورد معظم ما أوردناه من خطبة رسول الله وبكاء أبي بكر وكلامه وردّ النبي عليه في حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وأوردناه في سياق تفسير الآية [40] من سورة التوبة. انظر التاج ج 3 ص 273.(9/586)
السنة السابعة الهجرية واستشهد أبوه مع عدد من المسلمين فاستبطأ حركة سير الجيش وسمع أن بعض الناس ينتقدون قيادة أسامة لأنه لا يزال فتى يافعا. فخرج مرة أخرى عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة. وإن كان أبوه لخليقا بها ووصف له بعضهم دواء يسقونه إياه وهو غائب عن وعيه من الحمّى فقال عمّه لألدنّه (أي لأسقينه الدواء بالقوة) فلدّوه فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك. فقال العباس هذا دواء أتى به نساء جئن من الحبشة. قال ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمّه خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب. فقال إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به. لا يبق في البيت أحد إلّا لدّ إلّا عمي فلدّوا عقوبة لهم بما صنعوا به. وفي يوم الاثنين الذي قبض فيه خرج إلى الناس وهم يصلّون الصبح بإمامة أبي بكر فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم حين رأوه فرحا به فتبسم صلوات الله عليه فرحا من هيئتهم في صلاتهم. وتفرجوا له (أوسعوا له) فأشار أن اثبتوا. وشعر أبو بكر بالحركة فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتأخر له فأشار له أن يبقى ثم صلى جالسا إلى جانبه وقال أنس راوي هذا إنه لم ير رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة وقد أقبل على الناس يكلمهم بصوت مرتفع فقال: «يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. وإني والله ما تمسكون علي بشيء. إني لم أحلّ إلّا ما أحلّ القرآن.
ولم أحرّم إلّا ما حرّم القرآن» وقد اطمأن أبو بكر واستأذنه بالذهاب إلى بيته في محلة السنح قائلا له إني أراك بفضل الله ونعمته قد أصبحت بخير فأذن له. غير أن الضحاء لم يكد يشتد حتى توفاه الله.
ومما رواه ابن هشام متسلسلا إلى عائشة أنها قالت «كان آخر عهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وآخر كلمة سمعتها منه لما حضرته الوفاة قوله «بل الرفيق الأعلى» قالت ففهمت أن الله تعالى خيّره فاختاره لأنه كان يقول إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيّره. وما كان إلّا أن يختار الله علينا. وكان آخر ما فعله أنه رأى عود أراك في يد قريب لعائشة فنظر إليه فعرفت أنه يحبّ أن يستنّ فمضغته(9/587)
له حتى لان ثم أعطته إياه فاستنّ كأشد ما رأته يستنّ بسواك قط «1» . ومما رواه ابن هشام مسلسلا إلى عبد الله بن عباس أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله في وجعه فسأله الناس كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أصبح بحمد الله بارئا فأخذ العباس بيده وقال له: أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب. فانطلق بنا إلى رسول الله فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ولئن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال عليّ إني والله لا أفعل. والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعد. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضّحاء من ذلك اليوم. كان مما رواه ابن هشام أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي. وإن رسول الله ما مات. ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب أربعين ليلة عن قومه ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول
__________
(1) رويت أحاديث صحيحة عديدة عن آخر لحظات النبي صلى الله عليه وسلم. منها حديث رواه مسلم عن عائشة قالت: «سمعت رسول الله يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها اللهمّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى» وحديث رواه مسلم كذلك عن عائشة قالت: «كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحّة يقول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قالت فظننته خيّر حينئذ» . وحديث رواه الشيخان عنها قالت: «كان رسول الله يقول وهو صحيح إنه لم يقبض نبيّ قط حتى يرى مقعده في الجنة ثم يخيّر. قالت فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال اللهمّ الرفيق الأعلى قلت إذا لا يختارنا وعرفت الحديث الذي كان يذكره وهو صحيح فكان آخر كلمة تكلّم بها رسول الله اللهمّ الرفيق الأعلى» وحديث رواه البخاري عنها أيضا قالت: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء ويمسح بها وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده» الأحاديث من التاج ج 3 ص 261.(9/588)
الله وهو مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم قبّله وقال بأبي أنت وأمي. أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم ردّ البردة على وجهه ثم خرج وعمر يكلّم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلّا أن يتكلّم، فأقبل على الناس فلما سمعوا كلامه أقبلوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قول الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران] . فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة: قال عمر: فو الله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى عقرت ووقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. وقد تولى غسل النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل بن عباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم. ولم يجردوه بتاتا بل أبقوا قميصه عليه وغسلوه من تحته. ثم كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين «1» وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا. ثم وضع على سريره. وأدخل الناس عليه للصلاة أرسالا. فصلّى عليه الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ثم الصبيان. ولم يؤمّ الناس أحد. واختلفوا في محل دفنه فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبي إلّا دفن حيث يقبض» فدفن في بيت عائشة وسط الليل ليلة الأربعاء. وقد تولّى دفنه عليّ بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم.
وما تقدم كلّه مقتبس من ابن هشام. وكثير منه وارد في تاريخ الطبري. وفي هذا بعض روايات لم ترد في ابن هشام. وهي مسلسلة الرواة إلى أحد أصحاب رسول الله. من ذلك عن عائشة والفضل بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد به الوجع
__________
(1) نسبة إلى صحار بلدة في اليمن.(9/589)
فقال أهريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد عليهم فأقعدناه في مخضب ثم صببنا عليه الماء حتى قال حسبكم حسبكم ثم خرج وقد عصب رأسه وأخذ الفضل بن العباس بيده حتى جلس على المنبر وأمر بنداء الناس فاجتمعوا فقال أما بعد أيها الناس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني. ألا وإن أحبّكم إليّ من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيّب الناس. وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارا.
ثم نزل فصلى الظهر ورجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فقام رجل فقال يا رسول الله إنّ لي عندك ثلاثة دراهم قال أعطه يا فضل ثم قال يا أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله. قال ولم غللتها؟ قال كنت إليها محتاجا، قال خذها منه يا فضل. ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له فقام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب إني لفاحش وإني لنؤوم فقال اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا أراد. ثم قام رجل فقال والله يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق. وما من شيء إلا قد جنيته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وصيّر أمره إلى خير.
ومن ذلك عن عبد الله بن مسعود أن نبينا وحبيبنا نعى إلينا نفسه قبل موته بشهر فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وشدد فدمعت عينه وقال مرحبا بكم رحمكم الله آواكم الله حفظكم الله رفعكم الله نفعكم الله وفقكم الله نصركم الله سلمكم الله قبلكم الله. أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه. إني لكم نذير وبشير لا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] . وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] .(9/590)
فقلنا: متى أجلك؟ قال: قد دنا الفراق والمنقلب إلى الله إلى سدة المنتهى. قلنا:
فمن يغسلك يا نبي الله؟ قال: أهلي الأدنى فالأدنى. قلنا: ففيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو حلة يمانية. قلنا: فمن يصلي عليك.
قال: مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا، فبكينا وبكى، وقال: إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلّي عليّ جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها. ثم ادخلوا عليّ فوجا فوجا فصلّوا عليّ وسلّموا تسليما ولا تؤذوني بتزكية ولا برنّة ولا صيحة.
وليبدأ بالصلاة عليّ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، اقرأوا أنفسكم السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة.
قلنا: فمن يدخلك في قبرك يا نبي الله؟ قال: أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم. ومن ذلك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي أن يتنازع عند نبي فقالوا: ما شأنه أهجر (يعني هل يهذي من شدة الوجع) استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه.
وأوصى بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمدا أو قال فنسيتها» .
أما صفته صلى الله عليه وسلم فهناك روايات عديدة متقاربة بعضها مقتضب وبعضها مسهب وقد روى ابن سعد عن أبي هالة التميمي وصفا رواه عن ابن أخته الحسن بن علي الذي سأل خاله عن صفته وكان وصّافا فقال: «1» «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. أطول من المربوع وأقصر من المشذب «2» .
عظيم الهامة رجل الشعر إن انفرقت عقيصته «3» فرق وإلّا فلا، يجاوز شعره شحمة
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 183- 188. [.....]
(2) الطويل النحيف.
(3) ضفيرته.(9/591)
أذنيه إذا هو وفّره «1» أزهر اللون. واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن. بينهما عرق يديره الغضب أقنى «2» العرنين. له نور تعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم. كثّ اللحية. ضليع الفهم. مفلج الأسنان دقيق المسربة. كأن عنقه جيد دمية «3» . في صفاء الفضة. معتدل الخلق. بادنا متماسكا سواء البطن والصدر.
عريض الصدر. بعيد ما بين المنكبين. ضخم الكراديس «4» . أنور المتجرد «5» .
موصول ما بين اللبة «6» والسرّة بشعر يجري كالخط. عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر. طويل الزندين. رحب الراحة سبط القصب. شثن الكفين والقدمين. سائل الأطراف. خمصان الأخمصين. مسيح القدمين ينبو عنهما الماء. إذا زال زال قلعا «7» . يخطو تكفؤا ويمشي هونا. ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جميعا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. يعني جلّ نظره الملاحظة. يسبق أصحابه. يبدر من لقي بالسلام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصلا للأحزان. دائم الفكرة. ليست له راحة. لا يتكلم في غير حاجة. طويل السكت يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه. ويتكلم بجوامع الكلم فصل لا فضول ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت. لا يذم منها شيئا.
لا يذم ذواقا. ولا يمدحه. لا تغضبه الدنيا وما كان لها فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها. إذا تعجب قلبها. وإذا تحدث اتصل بها. يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى. وإذا غضب أعرض وأشاح. وإذا فرح غضّ طرفه. جلّ
__________
(1) إذا لم يقصه.
(2) طويل مع رقة الأرنبة وحدب في الوسط.
(3) الصورة المبالغ في صنعها.
(4) رؤوس العظام أو ملتقاها.
(5) مشرق الجسد.
(6) المنحر.
(7) مثبتا.(9/592)
ضحكه التبسم. ويفتر عن مثل حبّ الغمام. وكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءا لله وجزءا لأهله وجزءا لنفسه. ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس فيسرد ذلك على العامة بالخاصة. ولا يدّخر عنهم شيئا. يؤثر أهل الفضل ناديه.
وقسمه على قدر فضلهم في الدين. وكان يقول: «ليبلغ الشاهد الغائب. وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته. فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة» . لا يذكر عنده إلّا ذلك ولا يقبل من أحد غيره. لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. يعطي كل جلسائه بنصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا في الحق عنده سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا تؤبن «1» فيه الحرم ولا تثنّى فلتاته «2» متعادلين. يتفاضلون فيه بالتقوى. متواضعين يوقرون فيه الكبير. ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة. ويحفظون أو يحوطون الغريب. وكان دائم البشر سهل الخلق. ليّن الجانب. ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب يتغافل عما لا يشتهي. ولا يدنس منه ولا يجنب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار ومما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث. لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته. ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه.
إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده. فكان يضحك مما يضحكون ويتعجب مما يتعجبون منه ويصبر للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته ويقول: «إذا رأيتم طالب الحاجة بطلبها فأردفوه» ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام. وكان سكوته على
__________
(1) لا تذكر فيه الحرم بقبيح.
(2) الفلتات: الزلات أي لم تكن في مجلسه زلات فتحكى.(9/593)
أربع: على الحلم والحذر والتقرير والتفكير. فأما تقريره ففي تسوية النظر والاستماع من الناس. وأما تذكره أو تفكره ففيما يبقى ويفنى. وجمع الحلم والصبر وكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى ليقتدى به. وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته. والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة. صلى الله عليه وسلم صلاة وتسليما دائمين متناسبين مع جلالة قدره وعظمة أخلاقه وبالغ جهده في سبيل تبليغ رسالة ربّه ونشر دينه.
هذا، وبانتهاء هذا الجزء تنتهي أجزاء «التفسير الحديث» الاثنا عشر [والمقسمة إلى تسعة أجزاء في هذه الطبعة الجديدة] .
وكان الفراغ منه يوم السبت الموافق الثالث من ذي الحجة لسنة 1382 هجرية وفق تاريخ 27 نيسان سنة 1963 ميلادية مسيحية.
ونرى من واجبنا في هذه المناسبة أن نسجل شكرنا لدار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه) ولسيادة مديرها الأستاذ محمد الحلبي على ما كان من حسن استعدادها وإقبالها على طبع أجزاء التفسير ونشاطها في سرعة إخراجها والعناية بها. كما نسجل شكرنا لفضيلة الأستاذ الشيخ الطاهر الزاوي المشرف على طبع أجزاء التفسير ولمن ساهم في طبعه من عمال المطبعة على ما كان منهم من جد كبير في إتقان الطبع وضبطه وخلو الأجزاء من الأغلاط المطبعية الهامة.
سائلين الله عزّ وجلّ أن يجزيهم عن كتابه المجيد خير الجزاء.
وإننا لنختم هذا الجزء بما بدأنا به الجزء الأول باسم الله عزّ وجلّ وحمده على نعمته وتوفيقه بإتمام ما فتح علينا به وألهمنا إياه. مكررين دعاءنا بأن نكون قد وفقنا فيما كتبناه إلى السداد والصواب. وأن يشملنا بعفوه ورحمته. وأن يتجاوز عما وقعنا فيه من خطأ ونسيان. وأن يتقبل منا هذه الخدمة لكتابه المجيد خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع به. وهو وليّ التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا به.(9/594)
«ورثة المرحوم محمد عزة دروزة المتوفى في دمشق 28 شوال 1404 الموافق 26 تموز 1984 يتوجهون بالشكر لله تعالى سبحانه على نعمته أن شرح صدر المجاهد الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي للنشر، وفتح قلبه لخدمة كتاب الله سبحانه وتعالى متفضلا باستعداده تنفيذ وصية المرحوم الوالد لإعادة طباعة مؤلفه «التفسير الحديث» منقحا حيث كان المرحوم قد أنهى إعادة النظر من الطبعة الأولى وإدخال ما رآه واجب التعديل والتنقيح، كما جاء في مقدمته للطبعة الحالية، وذلك في يوم الخميس الموافق للخامس عشر من شهر محرم الحرام 1386 والسادس من أيار 1966 بحلة قشيبة وعناية فائقة. كما يجزى الشكر لفضيلة الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي على تفضله بالوقوف والإشراف على التصحيح وضبط وتحرير أية أخطاء وبالشكر لصاحب المطبعة السيد صدقي كساسير والعاملين معه سائلين المولى عز وجل أن يجزيهم عن كتابه المجيد خير الجزاء» .
[تم بتوفيق الله تعالى الجزء التاسع من كتاب التفسير الحديث ويليه الجزء العاشر ويضم الفهارس العامة](9/595)
فهرس محتويات الجزء التاسع(9/597)
تفسير سورة المائدة 7 تعليق على الآيتين الأوليين من السورة 12 تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... 38
تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ 38 تعليق على الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا ... 42
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... 55
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ... 69
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... 70
تعليق على الآية وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 73
تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ... 76
تعليق على الآية يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ ... 79
تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ... 83
تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ ... 84
تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ... 86
تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ ... 89
تعليق على الآية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ... 95
تعليق على الآية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ... 101
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... 110
تعليق على الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... 116(9/599)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ... 126
تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ... 132
تعليق على الآية وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... 143
تعليق على الآية وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً ... 147
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ... 154
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... 159
تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ... 168
تعليق على الآية وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ... 172
تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ... 174
تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... 178
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... 180
روايات الشيعة في صدد الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... 184
تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ ... 187
تعليق على الآية لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 190
تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... 191
تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... 194
تعليق على الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 196
تعليق على الآية تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... 199
تعليق على الآية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ... 202
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ... 207
تعليق على الآية لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... 211
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... 219
تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ... 228
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ... 231
تعليق على الآية جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ... 236(9/600)
تعليق على الآية ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ... 238
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ... 239
تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ... 243
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ ... 246
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ... 251
تعليق على الآية إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي ... 258
تفسير سورة الممتحنة 266 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ... 269
تعليق على الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ ... 273
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ... 280
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... 288
تفسير سورة الحديد 296 تعليق على الآية آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ ... 299
استطراد إلى فتح مكة وما جرى في سياقه من أحداث 305 تعليق على الآية يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ ... 314
تعليق على الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ... 317
تعليق على الآية إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ... 321
تعليق على الآية اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... 323
تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ ... 325
تعليق على الآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ ... 328
تعليق على الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ... 329
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ... 334(9/601)
تفسير سورة التوبة 337 تعليق على الآيتين الأوليين من السورة 341 تعليق على الآية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ... 344
تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... 349
تعليق على الآية وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ... 358
استطراد إلى مدى جملة كَلامَ اللَّهِ ومسألة أزلية القرآن وحدوثه 360 تعليق على الآية كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ... 367
تعليق على الآية أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ... 371
تعليق على الآية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ... 374
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ... 379
تعليق على الآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ... 383
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... 392
تعليق على الآية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... 398
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ ... 419
تعليق على الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... 429
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... 438
تعليق على الآية إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ... 443
تعليق على الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً ... 447
تعليق على الآية إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... 452
تعليق على الآية قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ... 454
تعليق على الآية وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ ... 456
تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ... وما روي في مصارف الزكاة 458 تعليق على الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ... 485(9/602)
تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ... 487
تعليق على الآية يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ... 489
تعليق على الآية الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ... 491
تعليق على الآية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ... 494
تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ... 498
تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ... 501
تعليق على الآية الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ... 504
تعليق على الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... 505
تعليق على الآية فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ... 509
تعليق على الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ... 513
تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ ... 516
تعليق على الآية الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ... 518
تعليق على الآية وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ... 520
تعليق على الآية وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... 522
تعليق على الآية وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ... 525
تعليق على الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً ... 529
تعليق على الآية وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ... 530
تعليق على الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ... 533
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ... 538
تعليق على الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا ... 542
تعليق على الآية لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... 547
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا ... 555
تعليق على الآية ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ ... 557
تعليق على الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... 558(9/603)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ... 562
تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ ... 566
تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ ... 567
تعليق على الآية لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... 569
تفسير سورة النصر 573 تعليق على آيات السورة وما روي في صددها 575 نبذة عن حجة الوداع النبوية 577 نبذة في مرض النبي ووفاته ولحظاته الأخيرة وصفاته 585(9/604)
الجزء العاشر
1- نموذج عن خط المؤلف 2- التقاريظ:
- محمد بهجة البيطار- مجلة المعلم العربي- عبد الفتاح أبو غدة- د. مصطفى السباعي (مجلة حضارة الإسلام) - البروفسور إسماعيل بوناولا الهندي.
3- الفتاوى- أبو اليسر عابدين (مفتي دمشق) - عبد الله القلقيلي (مفتي الأردن) 4- ترجمة المؤلف 5- الفهارس العامة(10/5)
تقريظ لمحمد بهجة البيطار «1»
كنت وصفت تفسير العلّامة الجليل محمد عزة دروزة فيما كتبته في مجلة مجمعنا العلمي على كتابه المطبوع (القرآن المجيد) ، وقلت: إنه يفسر القرآن بالقرآن، بحيث تكون آياته في الموضوع الواحد مجموعة في مكان واحد، ومفسّرة تفسيرا يجمع بين معانيها جمعا محكما. ومن أمعن النظر في تفسيره رأى فيه فوائد جمة، ومباحث مهمة، ونظرات ثاقبة، ونقدا بالمنقول والمعقول، لبعض مروياتهم في أسباب النزول، وتفسيرا للآيات الكريمة بالظاهر المتبادر منها. وهو يرى أن السعادة لا تعود لهذه الأمة إلا إذا عادت إلى القرآن علما وعملا، وأدبا وخلقا، وله في ذلك كتاب مستقل سمّاه (الدستور القرآني في شؤون الحياة) وكنت كتبت عنه في مجلة المجمع أيضا.
وأمامي الآن الجزءان الأول والثاني من هذا التفسير الكبير الذي رتبه ترتيب نزول الآيات والسور، على حسب تاريخها في الزمن. فأما الجزء الأول (البالغ 271 صفحة) فقد بدأ فيه- بعد المقدمة الوافية بالموضوع- بسورة الفاتحة التي يتلوها التالي في صلاته وغيرها، ثم شرع بتفسير سورة العلق، وفي آيها الخمس الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة، ولهذه الأمة الأمية التي أصبحت بهذا الوحي المنزل أمة كتاب وحكمة، وهدى ورحمة.
وطريقة الأستاذ المفسر هي أن يفسر السورة كلها، وإن كان بين هذه الآيات الخمس وما بعدها نزول جملة من القرآن تتضمن أمرا بالدعوة، وشيئا من مبادئها
__________
(1) انظر مجلة المجمع العلمي العربي، الجزء الرابع من المجلد السابع والثلاثين، تشرين الأول 1962، جمادى الأولى 1382.(10/8)
وأهدافها (قال) : وإلحاق هذه الآيات بالآيات الخمس الأولى- حيث تكونت شخصية السورة- يدلّ على أن سور القرآن كانت تؤلّف أولا فأولا، وعلى أن المشهد الذي احتوته لم يتأخر كثيرا. وهكذا جرى الأستاذ دروزة في تفسير السور مرتبة على زمن النزول، ولكنه لا يفرق بين أجزاء السورة الواحدة أو آياتها مهما تقدمت في النزول أو تأخرت، حرصا على حفظ وحدة السورة وعدم توزيعها.
فسّر في هذا الجزء الأول ثلاثين سورة (عدا الفاتحة) بدأها بسورة العلق وختمها بالقارعة.
وأما الجزء الثاني (البالغ ما يقرب من ثلاثمائة صفحة) فقد بدأ بسورة القيامة وانتهى بسورة الفرقان، ففسر اثنتي عشرة سورة. وطريقة الأستاذ دروزة في التفسير ما يأتي:
(1) تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق.
(2) شرح الكلمات الغريبة شرحا موجزا.
(3) شرح مضمون الجملة شرحا مجملا.
(4) إشارة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات وما قيل في مدلولها وأحكامها.
(5) بيان ما تحويه الآيات من أحكام وحكم.
(6) إيضاح مشاهد من السيرة النبوية.
(7) قصص القرآن الحكيم.
(8) الاهتمام ببيان ما بين آيات السور وفصولها من ترابط.
(9) تفسير القرآن بالقرآن.
(10) وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء بتفسيرها.
قال الأستاذ المفسّر في المقدمة: ولقد رأينا أن نجعل ترتيب التفسير وفق ترتيب نزول السورة بحيث تكون أولى السور المفسرة سورة العلق، ثم القلم ثم المزّمل، إلى أن تنتهي السور المكية، ثم سورة البقرة، فسورة الأنفال إلى أن تنتهي(10/9)
السور المدنية، لأننا رأينا هذا يتّسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته اهـ. وقد استفتى في هذا بعض الأجلّاء فأفتوه بالجواز كما جاء في مقدمته. وهو يستشهد بكلام المفسرين، من قدماء ومعاصرين، كالطبري والرازي والزمخشري وابن كثير والألوسي وغيرهم، وكتفسيري المنار والقاسمي. أثاب الله تعالى المؤلف خير الثواب، ونفع بتفسيره أولي الألباب ويسّر له طبع الأجزاء كلها، بمنّه سبحانه وتوفيقه.
محمد بهجة البيطار(10/10)
تقريظ مجلّة المعلم العربي بدمشق «1»
إن القرآن الكريم ليس منبتّ الصلة بتاريخ أمتنا العربية، وليس معزولا عن كل ذي فكر، وبوجه خاص عن الباحثين والمؤرخين الذين يهتمون بتوخي الحقائق واعتماد أصدق المصادر في أبحاثهم، ولا غرابة أن أقدم الأستاذ الجليل محمد عزة دروزة على إيجاد مثل هذا التفسير، فقد انصرف الأستاذ الكريم كل الانصراف إلى البحث في تاريخ العرب وأنى له أن يجد معينا ينهل منه ويستقي أحسن وأفضل وأوثق من القرآن الكريم.
لقد عزم المؤلف على كتابة التفسير بعد جهود كبيرة بذلها في مطالعة الكتب والتفاسير العديدة بالإضافة إلى الجهود التي بذلها في تقديم كتبه السابقة، وفيها أداة المادة ونواة المؤلّف الجديد، ونتيجة لذلك فقد انتهج في تفسيره الخطة التالية:
1- تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة، يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق، وقد تكون الجملة آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة من الآيات.
2- شرح الكلمات والتعابير الغريبة وغير الدارجة كثيرا، بإيجاز ودون تعمق لغوي ونحوي وبلاغي، إذا لم تكن هناك ضرورة ماسة.
3- شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا، حسب المقتضى المتبادر بأداء بياني واضح، ودون تعمق كذلك في الشروح اللغوية والتنظيمية. مع الاستغناء عن هذا
__________
(1) انظر العدد الثاني/ شباط- آذار- نيسان 1965 م، السنة الثامنة عشرة، دمشق.(10/11)
الشرح والاكتفاء بعرض الهدف والمدلول، إذا كانت عبارة الجملة واضحة نظما ولغة.
4- إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات أو في صددها، وما قيل في مدلولها وأحكامها، وإيراد ما يقتضي إيراده من الروايات والأقوال، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز.
5- تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام ومبادئ وأهداف وتلقينات وتوجيهات تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية. والاعتماد في ذلك على النظر في الدرجة الأولى، وملاحظة مقتضيات تطور الحياة والمفاهيم البشرية. وهذه نقطة أساسية وجوهرية.
6- تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية لأن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة وسيرها وأطوارها، وجلاء جوّ نزول القرآن الذي ينجلي به كثير من المقاصد القرآنية.
7- التنبيه على الجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية (وهي ما أريد به تدعيم الرسالة القرآنية ومبادئها المحكمة، مثل القصص ومشاهد الحياة الأخروية والمواقف الجدلية والأمثال والتذكير.. إلخ) وما يكون فيها من مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتنديد والتذكير والتنويه، مع إبقاء ذلك ضمن النطاق الذي جاء من أجله وعدم التطويل فيه. والتنبيه بإيجاز إلى ما ورد في صدده إذا اقتضى السياق بما لا يخرج به عن ذلك النطاق.
8- الاهتمام لبيان ما بين آيات وفصول السور من ترابط. وعطف الجمل القرآنية على بعضها سياقا أو موضوعا، كلما كان ذلك مفهوم الدلالة، لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي فيه. لأن هناك من يتوهم أن آيات السور وفصولها مجموعة إلى بعضها بدون ارتباط وانسجام، في حين أن الإمعان فيها يجعلنا على يقين تام بأن أكثرها مترابط ومنسجم.(10/12)
9- الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية في صدد التفسير والشرح والسياق والتأويل والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد.
10- العطف على ما جاء في كتاب «القرآن المجيد» من بحوث حين تفسير الجملة ومقاصدها تفاديا من التكرار والتطويل.
11- عرض المعاني بأسلوب قريب المأخذ سهل التناول والاستساغة، واجتناب الألفاظ الحوشية والخشنة والغريبة والعويصة.
12- شرح الكلمات والمدلولات والموضوعات المهمة المتكررة شرحا وافيا وخاليا من الحشو عند أول مرة ترد فيها، والعطف على الشرح الأول في المرات التالية دون تكرار شرحها في مواطن تكررها.
والجدير بالذكر أن ترتيب هذا التفسير هو وفق ترتيب نزول السورة، إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمنا بعد زمن، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل، وبهذا أو ذاك يندمج القارئ في جو نزول القرآن وجو ظروفه ومناسباته ومداه، ومفهوماته وتتجلى له حكمة التنزيل.
ولا ريب في أن هذا العمل لا يمسّ قدسية المصحف المتداول، لأن التفسير ليس مصحفا للتلاوة من جهة، وهو عمل فني أو علمي من جهة ثانية.
ولقد أثر عن علماء أعلام، قدماء ومحدثين تفسيرات لوحدات وسور قرآنية، دون وحدات وسور.
كما أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كتب مصحفا وفق نزول القرآن ولم نر نقدا أو إنكارا لهذا أو ذاك.
- محمد-(10/13)
تقريظ عبد الفتاح أبو غدة
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين.
أما بعد من عبد الفتاح أبو غدة إلى الأستاذ الفاضل السيد محمد عزة بك دروزة سلّمه المولى، ونفع به وبآثاره آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فأرجو أن تكونوا بخير من الله وعافية، تسلّمت من الأستاذ السيد عمر بك الأميري مؤلفكم العظيم «التفسير الحديث» ، وشرح لي رغبتكم في المشاركة بخدمة القرآن الكريم، وإني لحريص على أن يكون لي هذا الشرف الكبير، ولكن كما حدثت الأستاذ عمر بك: شواغلي وواجباتي كثيرة تحول بيني وبين هذه الأمنية الغالية لدي.
وإني إذ أعتذر بكل أسف لعدم تمكني من القيام بهذه الخدمة الجليلة لكتاب الله تعالى، أذكر لكم أستاذا من كرام إخواني وأحبائي، وهو خير مني لهذا العمل وأجدر به، بما آتاه الله من سعة في الوقت، وبسطة في المعرفة والاطلاع، ومتانة في الأسلوب واللغة، وأناة في حلّ المشكلات وتتبع المعضلات، وهو الأستاذ الشيخ محمد فوزي فيض الله، أخي وزميلي في مراحل التحصيل كلها في حلب والأزهر، ويقوم الآن بتدريس الفقه الحنفي في كلية الشريعة بالجامعة السورية خير قيام، ولديه فوق ما ذكرت من طيب النفس وحسن السيرة ما يزيدكم حبّا به(10/14)
واعتمادا عليه إلى الحدّ المرتضى إن شاء الله.
وقد اتصلت به بعد زيارتكم يوم كنت بدمشق، وحدثته بهذا العمل الجليل فاعتذر أولا بمهام التدريس التي يقوم بها، ثم قبل أن يقوم بالعمل بعد أن يقف على الجهد العلمي الذي يتطلبه الكتاب، وقد اتفقت معه أن نزوركم إذا بقيت في دمشق، ثم أعجلني الوقت فسافرت ولم نتمكن من زيارتكم، وها أنا ذا أرسل هذا الكتاب مع «الجزء الأول» من التفسير إليه ليكون وسيلة طيبة لزيارتكم والالتقاء بكم.
وكان الأستاذ عمر بك سألني في حديثه عن كتابكم هذا عن صنيعكم في ترتيب السور المفسرة إذ بدأتم بها حسب النزول لا حسب تدوينها الآن في المصحف الشريف، فذكرت له أني لا أرى مانعا من ذلك فيما أعلم، وعلى من قال أو رأى غير هذا الرأي أن يدلي بما يستند إليه في المنع فأكون له من الشاكرين.
وحينما سعدت بزيارتكم في دمشق ذكرتم لي أن أحد أصدقائكم العلماء الأفاضل في فلسطين قد رغبتم منه أن يشارككم في خدمة هذا التفسير الكريم، فأبدى لكم أطيب الاستعداد لذلك، غير أنه توقف من أجل طريقتكم في ترتيب السور المفسرة بحسب النزول، فإنه يراها طريقة غير سائغة في رأيه، وليتني وقفت على مستنده في هذا الرأي لأرجع عن رأيي الذي لا أزال أراه صوابا حتى يقوم الدليل على خلافه.
وإني أذكر لكم هنا ما يحضرني الآن مما يؤكد جواز صنيعكم، ولعل فيه مقنعا لمن قد يرى غير الذي أرى، والله ولي التسديد والتوفيق.
إن شبهة المنع لهذه الطريقة آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف اليوم من الترتيب المجمع عليه والمتواتر إلى الأمة نقله جيلا بعد جيل. ودفع هذه الشبهة أن المنع يثبت فيما لو كان هذا الصنيع مسلوكا من أجل أن يكون هذا الترتيب «مصحفا» للتلاوة، أي ليتلو الناس القرآن على هذا(10/15)
النحو الذي سلكتموه، أمّا وإن الغرض للمفسر والقارئ معا غير هذا، فلا مانع من سلوكه إطلاقا.
ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أجلّة من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تآليفهم، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليهم ما صنعوا، ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276 من الهجرة، فقد مشى في تفسير ما فسره في كتابه المطبوع «تأويل مشكل القرآن» على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلو الآن، ويبدو هذا جليا فيه ب ص 240- 339، ولا أشك أن هناك غيره من شاركه في هذه الطريقة من علماء عصره وما بعده، ممن لا يسعني الآن البحث عنهم، لضيق الوقت لديّ.
على أن القول بالمنع تبعا لهذه النظرة الضيقة ينبغي أن يشمل ما سلكه الشيخ جلال الدين المحلّي ثم جلال الدين السيوطي في تفسيرهما المعروف بتفسير الجلالين، إذ قد بدأ الأول بالتفسير من آخر القرآن الكريم وهو صاعدا إلى سورة الكهف، ثم مات فأتم الجلال السيوطي من حيث وقف سلفه إلى أول القرآن الكريم، فهما لم يراعيا في مسلكهما هذا: البدء على ترتيب القرآن من أوله إلى آخره. وكذلك ينبغي أن يشمل ما صنعه الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» والشيخ محمد أحمد العدوي في كتابه «دعوة الرسل إلى الله» ، فهما أيضا لم يراعيا في مواضيع كتابيهما ترتيب القرآن المتلو اليوم، بل راعيا اعتبارا آخر، وكذلك ينبغي أن يتناول المنع كتابكم «الدستور القرآني في شؤون الحياة» ، فقد سلكتم فيه نحو طريقتكم في التفسير من جمع طائفة من الآيات الكريمة في صعيد واحد، ثم تفسيرها وبيان ما تلهمه من المعاني الكريمة، فهل يصح أن يقال: إنكم مع من ذكرنا قد خالفتم ترتيب كتاب الله تعالى، وجافيتم الحق المشروع؟
فإن قيل: هناك فارق بين صنيعكم هناك في «الدستور» وصنيعكم هنا في «التفسير» ، فإن الأول يمكن أن يجعل من باب التأليف على اعتبار وحدة الموضوع(10/16)
التي ينظر فيها إلى مدلول الآيات فحسب، وأما الثاني فإن النظر فيه متجه إلى مراعاة النزول فحسب، فالجواب: فليجعل هذا أيضا من باب وحدة الموضوع بين السورة والسورة من حيث زمن نزولها سابقة أو لاحقة.
ثم إن المنع إنما يتجه القول به لدى قائله إذا كان ترتيب السور توقيفيا لا دخل للاجتهاد فيه، ولكن السيوطي رحمه الله تعالى قد حكى في كتابه «الإتقان» عن جمهور العلماء أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة، لا وليس هو بتوقيف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نص عبارته (1/ 62) :
«وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضا أو هو باجتهاد من الصحابة؟
خلاف، فجمهور العلماء على الثاني، منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه، قال ابن فارس: جمع القرآن على ضربين، أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولته الصحابة، وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، وما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، ومصحف عليّ كان أوله «اقرأ» ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني.
وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة ثم النساء ثم آل عمران، على اختلاف شديد وكذا مصحف أبيّ وغيره، ثم ساق السيوطي رحمه الله بعد نحو صفحتين صورة عن الترتيب الذي في مصحف أبي بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
قلت: وإذا كان الأمر في ترتيب السور في المصحف اجتهاديا، وجمهرة العلماء عليه، فلا يقوم للقول بالمنع وجه في مراعاة النزول في التفسير وفي غير المصحف.
وجاء في كتاب «فرائد فوائد قلائد المرجان، وموارد مقاصد منسوخ القرآن» للشيخ مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي (مخطوط عندي) ما صورته:(10/17)
«ذكر ترتيب السور: وقد وقع فيه خلاف كبير بين العلماء، هل هو بالنص أو بالاجتهاد؟ فمنهم من قال: إن ترتيب السور كان بتوقيف من جبريل عليه السلام، ومنهم من قال: إن زيد بن ثابت هو الذي رتب السور بمشاركة من عثمان ومن معه.
قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: ترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية، فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف زمن عثمان صار هذا مما سنه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها» اه.
وواضح كل الوضوح أن محل اتباع هذه السنة التي يجب اتباعها إنما هو في كتابة المصحف الذي يكون للتلاوة والقراءة، لا في كتابة تفسير وشرح لمعاني الآيات والسور الكريمة، فإن ذلك غير داخل في موضوع اختلاف العلماء أو اتفاقهم إطلاقا، بل هم فيما أرى متفقون على سواغيته وجوازه، والله تعالى أعلم.
هذا ما حضرني الآن كتابته في هذا الصدد كتبته لكم راجيا المولى أن يسددنا إلى الحق والصواب، ويهدينا سواء السبيل. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حلب البياضة الأحد 19/ من ذي القعدة سنة 1376.(10/18)
تقريظ مجلة حضارة الإسلام لصاحبها الدكتور مصطفى السباعي
كنا قد ألمحنا إلى صدور الجزء الأول والثاني من كتاب «التفسير الحديث» للأستاذ محمد عزة دروزة في العدد الثالث من السنة الحالية لهذه المجلة، وبيّنا طرفا مما امتاز به بحث الأستاذ دروزة خصوصا في تفسيره هذا عن بقية الكاتبين من حيث الأسلوب والمعالجة والتحقيق- وإن كان ذلك قد جعله يخرج عن دائرة ما أجمع عليه جماهير العلماء في بعض الأمور الهامة- وقد ظهر اليوم الجزء الثالث من هذا التفسير، وهو كما قد قلنا سابقا قد سلك لأول مرة سبيل ترتيب النزول لا ترتيب الجمع على ما هو عليه، ولا شك أنه ينطوي بذلك على جهد ممتاز مشكور.
إننا نرجو للأستاذ دروزة اضطراد التوفيق ونأمل أن تتكامل أجزاء هذا التفسير عما قريب.(10/19)
ترجمة المؤلف
يطيب لدار الغرب الإسلامي أن تنشر في نهاية التفسير الحديث ترجمة مؤلفه الأستاذ محمد عزة دروزة.
ولد المؤلف ليلة السبت الموافقة للحادي عشر من شهر شوال سنة 1305 هـ وتوافق آخر شهر حزيران- يونيو- من سنة 1887 ميلادية في مدينة نابلس- فلسطين- وأبوه عبد الهادي بن درويش بن إبراهيم بن حسن دروزة. وقد سمع من جده الذي عمّر تسعين عاما أن الأسرة تنتسب إلى عشيرة عربية اسمها الفريحات وموطنها قرية كفرنجة في لواء عجلون- الأردن-. ولا تزال العشيرة مشهورة معروفة. وأنها نزحت في القرن العاشر الهجري إلى نابلس وأن لقبها من الدرازة بمعنى الخياطة حيث كان بعض أجداده خياطا أو درازا. وكان أبوه وجدّه يتعاطيان تجارة الأقمشة في نابلس.
وقد درس في مدارس الحكومة الابتدائية والرشدية والإعدادية في نابلس وتخرج سنة 1321 هـ- 1905 م- وبعد ذلك جرت حياته في ثلاثة مجار:
الوظيفة. والعمل السياسي. والنشاط العلمي.
ففي المجرى الأول: من سنة 1906 إلى سنة 1918 عمل في دائرة البرق والبريد العثمانية متقلبا بين وظائف عديدة مأمورا فمديرا فمفتشا فسكرتيرا لديوان المديرية العامة في بيروت. وبعد انتهاء حكم الدولة العثمانية قضى فترة قصيرة(10/23)
سكرتيرا في ديوان الأمير عبد الله (سنة 1920) ثم رئيسا لمدرسة النجاح الوطنية الابتدائية والثانوية (1922- 1927) فمأمورا لأوقاف نابلس الإسلامية (1927- 1932) فمديرا عاما للأوقاف الإسلامية في فلسطين (1932- 1937) ، وفي سنة 1937 وضع الإنكليز يدهم على الأوقاف الإسلامية والمجلس الإسلامي الأعلى بسبب الثورة العربية التي اندلعت ضدهم في سنة 1936 واستمرت إلى أواخر سنة 1939 فأقالوه. ولم يعمل بعد ذلك موظفا.
في المجرى السياسي: اندمج في هذا المجرى منذ إعلان الدستور العثماني (سنة 1908) فكان عضوا لفترة قصيرة في نادي الاتحاد والترقي وهو الحزب المنقلب عن جمعية (تركية الفتاة) التي كان لها اليد في ذلك الإعلان. ثم عضوا وسكرتيرا لفرع حزب الائتلاف في نابلس المعارض لذلك الحزب الذي ظهرت نواياه المريبة ضد العرب (1909) وعضوا وسكرتيرا للجمعية العلمية العربية في نابلس (1911) وعضوا في جمعية العربية الفتاة السرية (1916) وعضوا وسكرتيرا لهيئتها المركزية في دمشق (1919- 1920) وعضوا وسكرتيرا للجمعية الوطنية في نابلس (1919) ثم (من سنة 1921 إلى 1932) وعضوا وسكرتيرا للمؤتمر العربي الفلسطيني في القدس (1919) وعضوا في المؤتمر السوري العام وسكرتيرا ومقررا للدستور (1919- 1920) وعضوا مؤسسا في حزب الاستقلال العربي في دمشق (1919- 1920) وعضوا مؤسسا للجمعية الفلسطينية العربية في دمشق (1919- 1920) وعضوا في المؤتمرات العربية الفلسطينية خلال (1921- 1927) وعضوا في لجانها التنفيذية لغاية سنة 1933 ورئيسا لجمعية الشبان المسلمين بنابلس (1928) وعضوا في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الإسلامي العام المنعقد في القدس سنة 1930 وعضوا وسكرتيرا للمؤتمر عند انعقاده وعضوا في المؤتمر العربي العام في القدس وعضو لجنته التنفيذية (1931- 1932) ومؤسسا وعضوا لحزب الاستقلال العربي في فلسطين وأمينا لماله (1932- 1936) وممثلا لحزب الاستقلال في اللجنة العربية العليا لفلسطين وسكرتيرا لها (1936) وعضوا في وفد اللجنة إلى ملوك العراق والسعودية (1937) وأحد ممثلي اللجنة والناطقين باسمها(10/24)
أمام لجنة التحقيق الملكية الإنكليزية (1937) ومندوبا للجنة في المؤتمر العربي العام في بلودان بسورية وسكرتيرا عاما للمؤتمر (1937) والعضو المنتدب في دمشق لإدارة وتمويل وتجهيز حركة الثورة العربية في فلسطين (1937- 1939) وقد اعتقل وحوكم أكثر من مرة. وشجّ رأسه في مظاهرات عام 1933 التي قادها ضد الإنكليز في يافا مع زملائه أعضاء اللجنة التنفيذية. وحاكمته السلطات الفرنسية في محكمة عسكرية في دمشق بسبب نشاطه في تغذية وإدارة ثورة فلسطين وحكمت عليه بالسجن خمس سنين قضى منها 16 شهرا في سجني المزة والقلعة في دمشق وأفرج عنه سنة 1940 بعد انهيار فرنسا في الحرب. وفي سنة 1941 نزح عن دمشق ولجأ إلى تركية على أثر الغزوة الإنكليزية لسورية وعاد سنة 1945 إلى دمشق بعد نهاية الحرب العالمية وما زال فيها. وانتدب لعضوية الهيئة العربية العليا ولتمثيلها في دمشق وفي مجلس الجامعة العربية واللجنة السياسية والعسكرية فيها (1946- 1947) . ومرض في سنة 1948 وأجريت له عملية جراحية كبيرة أدت إلى ضعف بنيته وصار النشاط الجسماني متعبا له. واشتد في هذه الأثناء ثقل سمعه الذي بدأ في سنة 1932 فقل نشاطه البدني في المجال السياسي والوطني واقتصر ذلك على ما كان يكتبه ويتلقاه من رسائل وينشره من مقالات وبحوث ويجريه من مقابلات ويوجهه من تذكير وتحذير حسب مجرى الأحداث والمناسبات. وصرف أكثر جهده ووقته إلى النشاط العلمي حيث ظل الله عز وجل مديما نعمته عليه في النشاط الذهني وقوة الحفظ والذاكرة.
النشاط العلمي
: لم يقدر له الاستمرار في الدراسة في مدارس أخرى بعد المدرسة الإعدادية في نابلس ولكنه منذ تخرجه من هذه المدرسة سنة (1905) وكان عمره حينئذ ست عشرة سنة انكب على المطالعة والدراسة الشخصية بدون انقطاع. وقد تسنى له أن يقرأ عددا كبيرا من الكتب العربية في اللغة والأدب والشعر والتاريخ والاجتماع(10/25)
والفلسفة والتفسير والحديث والفقه والكلام وقرأ فيما قرأ من ذلك كتبا كثيرة باللغة التركية التي كان يجيدها كما قرأ كثيرا من كتب مترجمة عن اللغات الأجنبية في مواضيع مختلفة. وكان نتيجة ذلك عدد كبير من المؤلفات والمخطوطات وعشرات المحاضرات في أندية فلسطين وسوريا وعشرات المقالات في جرائد ومجلات فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ومصر وعشرات الأحاديث الإذاعية من محطتي دمشق ومكة. وقد انتخب لسنة 1960 عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية في القاهرة. وعضوا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية للجمهورية العربية المتحدة ومقررا لشعبة التاريخ فيه. وقد اعتذر عن ممارسة هذه الواجبات بسبب حالته الصحية. وانتسب إلى اتحاد الكتاب العرب في سوريا.
ورشحه هذا الاتحاد لجائزة الدولة التقديرية سنة 1969 على مجمل نشاطه العلمي والثقافي والسياسي والوطني.
ولقد حفظ القرآن الكريم في سجنه في دمشق وكتب خلال مدته أصول كتبه القرآنية الثلاثة وهي عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة من القرآن. وسيرة الرسول عليه السلام من القرآن. والدستور القرآني في شؤون الحياة. وفي هجرته إلى تركيا كتب أصول التفسير وكتابه القرآن المجيد الذي جعله بمثابة مقدمة للتفسير بالإضافة إلى أصول كتبه حول الحركة العربية الحديثة وتركية الحديثة وبواعث الحرب العالمية.
وهذه أسماء مؤلفاته المطبوعة مرتبة حسب سني طبعتها الأولى مع مكانها:
1- وفود النعمان على كسرى أنو شروان سنة 1911 بيروت.
2- مختصر تاريخ العرب والإسلام (جزآن) سنة 1925 القاهرة.
3- دروس في فن التربية مترجم عن الإفرنسية سنة 1927 في بغداد.
4- دروس التاريخ العربي سنة 1932 القاهرة.
5- دروس التاريخ المتوسط والحديث سنة 1932 القاهرة.(10/26)
6- دروس التاريخ القديم سنة 1932 القاهرة.
7- تركية الحديثة سنة 1946 بيروت.
8- بواعث الحرب العالمية الأولى. مترجم عن التركية سنة 1946 بيروت.
9- عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل الإسلام. مقتبس من القرآن 507 صفحات سنة 1946 دمشق. وطبع طبعة ثانية موسعة سنة 1965 بلغت صفحاتها 848.
10- سيرة الرسول (جزآن) . مقتبس من القرآن. 718 صفحة سنة 1948 القاهرة.
وطبع طبعة ثانية منقحة في سنة 1965 بلغت صفحاتها 832.
11- القرآن واليهود سنة 1949 دمشق.
12- القرآن والمرأة سنة 1951 صيدا وطبع طبعة ثانية بعنوان المرأة في القرآن والسنة سنة 1967 بلغت صفحاتها 273.
13- القرآن والضمان الاجتماعي سنة 1951 صيدا.
14- القرآن المجيد. مباحث متنوعة في القرآن. وهو بمثابة مقدمة للتفسير سنة 1952 صيدا.
15- حول الحركة العربية الحديثة. ستة أجزاء سنة 1950- 1952 صيدا.
الأول: في انبعاث الحركة في زمن العثمانيين إلى آخر عهد حكومة فيصل في دمشق.
الثاني: في الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان وبلاد المغرب وكفاح العرب ضده وتحرر لبنان وسورية منه.
الثالث والرابع والخامس: في تاريخ الإنكليز والصهيونية في فلسطين وكفاح العرب ضدهما إلى الآن.
السادس: في مشاكل العالم العربي. مجموع صفحاتها 1400.
16- مشاكل العالم العربي. طبعة موسعة. نال جائزة من الجامعة العربية سنة 1952 دمشق.
17- الدستور القرآني في شؤون الحياة. دراسات وقواعد قرآنية في الشؤون السياسية والجهادية والتبشيرية والقضائية والمالية والاجتماعية والأسروية(10/27)
والأخلاقية 608 صفحات، القاهرة. وطبع طبعة ثانية موسعة في سنة 1967- 1970 بعنوان الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة. وصار جزئين صفحات أولهما 584 وثانيهما 498.
18- الوحدة العربية. دراسات تاريخية وجغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية في أصول العرب ووطنهم والعقبات التي تقوم في طريق وحدتهم ومعالجاتها. ومقتبسات تاريخية ودستورية من تجارب الأمم الأخرى 721 صفحة سنة 1958 بيروت.
19- تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم 334 صفحة سنة 1958 القاهرة. وطبع طبعة ثانية شعبية سنة 1961 بواسطة لجنة التأليف القومية في مصر ثم طبع طبعة ثالثة سنة 1969 في المطبعة العصرية في صيدا وألحق به تاريخ وأحوال بني إسرائيل من القرآن وبلغت صفحاته 552.
20- تاريخ الجنس العربي في مختلف الأدوار والأقطار صدر منه ثمانية أجزاء:
الأول: تاريخ الجنس العربي قبل العروبة الصريحة ودوله ومآثره في جزيرة العرب.
الثاني: تاريخ الموجات العربية قبل العروبة الصريحة ودولها ومآثرها في وادي النيل: مصر والسودان.
الثالث: تاريخ الموجات العربية قبل العربية قبل العروبة الصريحة ودولها ومآثرها في العراق.
الرابع: تاريخ الموجات العربية قبل العربية قبل العروبة الصريحة ودولها ومآثرها في بلاد الشام.
الخامس: تاريخ الجنس العربي بعد العروبة الصريحة قبل الإسلام في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق ودوله ومآثره.
السادس: تاريخ الجنس العربي في الإسلام تحت راية النبي صلّى الله عليه وسلم.
السابع: تاريخ الجنس العربي في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين.
الثامن: تاريخ الجنس العربي في الإسلام تحت راية الأمويين.(10/28)
ومجموع صفحات الأجزاء الثمانية نحو (3200) صفحة من عام 1959 وعام 1963 وطبعت في صيدا.
21- مأساة فلسطين سنة 1960 دمشق.
22- جهاد الفلسطينيين سنة 1960 القاهرة.
23- العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي من سنة 250 هجرية إلى سنة 1336، ثلاثة أجزاء:
الأول: تاريخ الدول والإمارات والأسر الإقطاعية الحاكمة في جزيرة الفرات وشمال سورية ولبنان ولمحة في مراحل توطد السيادة العربية الحديثة في لبنان.
الثاني: تاريخ الدول والإمارات والأسر الإقطاعية الحاكمة في سائر أنحاء سورية وفي العراق وفي فلسطين وشرقي الأردن. وحركة القبائل العربية إلى اليوم في بلاد الشام والعراق ولمحة في مراحل توطد السيادة العربية الحديثة في العراق وسورية والأردن.
الثالث: تاريخ الدول والإمارات العربية في وادي النيل مصر والسودان وفي المغرب الأقصى والجزائر وتونس وليبيا. وحركة القبائل العربية في هذه البلاد إلى اليوم. ولمحة في مراحل توطد السيادة العربية الحديثة في مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى. ومجموع صفحاتها 2042 صفحة بين عامي 1959- 1961 دمشق.
24- عروبة مصر في التاريخ وبعد الفتح الإسلامي (رسالتان) سنة 1961 القاهرة.
25- التفسير الحديث (اثنا عشر جزءا) سنة 1961- 1964 القاهرة وعكف بعد ذلك بضع سنين في تنقيح وتصحيح الأجزاء المطبوعة حتى جاءت والحمد لله على الوجه الذي جاءت عليه والذي يرجو أن يكون التفسير صار بها فريدا مستكملا محققا للآمال نافعا للمسلمين وهدية متواضعة خاضعة لكتاب الله المجيد.(10/29)
26- المرأة في القرآن والسنة. طبع في صيدا سنة 1967 وصفحاته نحو 280.
27- الإسلام والاشتراكية. طبع في المطبعة العصرية في صيدا سنة 1968 وصفحاته 255.
28- الجذور القديمة لسلوك وأخلاق وأحداث بني إسرائيل واليهود واستطراد إلى ما نشب من صراع بينهم وبين العرب. طبع في دمشق سنة 1969 وصفحاته 100 بواسطة مكتبة أطلس.
29- قصة الغزوة الفلسطينية. طبع ملحقا لمجلة الوعي الإسلامي في الكويت سنة 1970 وصفحاته 70.
30- نشأة الحركة العربية الحديثة: طبع في المطبعة العصرية في صيدا سنة 1972 وصفحاته 512.
31- القرآن والمبشرون. طبع بواسطة المكتب الإسلامي في دمشق سنة 1972 وصفحاته 468.
32- القرآن والملحدون. طبع بواسطة المكتب الإسلامي في دمشق سنة 1973 وصفحاته 435.
33- الجزء الأول من كتاب (في سبيل قضية فلسطين والوحدة العربية ومن وحي النكبة وفي سبيل معالجتها) . طبع في المطبعة العصرية في صيدا سنة 1973 وصفحاته 510.
34- الجهاد في سبيل الله في القرآن والحديث سنة 1975 في دمشق. وصفحاته 392.
35- مذكرات وتسجيلات محمد عزّة دروزة 97 عاما في الحياة، سجلّ حافل بمسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية، في 6 مجلدات، حوالى 4500 صفحة- دار الغرب الإسلامي- بيروت- 1993.
فيكون عدد كتبه المطبوعة 35 ومفرداتها (70) وعدد صفحاتها بما في ذلك ما زيد على ما تكرر طبعه منها نحو خمسة وعشرين ألفا.(10/30)
وفي خزانة المؤلف المخطوطات الآتية:
1- عبرة من تاريخ فلسطين القديم. وهي مجموعة مقالات نشرت للمؤلف عن أحوال فلسطين وشرق الأردن قبل الغزوة الإسرائيلية القديمة ومراحل الصراع بين أنقرة وأهل البلاد إلى أن انهار كيانهم وبقيت البلاد لأهلها القدماء الذين انضم إليهم أرومات صريحة العروبة قبيل الإسلام وبعده فصار الجميع شعبا عربيا يملأ شرق الأردن وفلسطين.
2- مقالات إسلامية وهي مجموعة مقالات إسلامية نشرت للمؤلف في مجلات الوعي الإسلامي في الكويت وحضارة الإسلام والمجمع العلمي في دمشق منذ سنة 1967.
3- بأقلام الآخرين: وهي مجموعة مقالات ورسائل في صدد كتب المؤلف كتبها كتاب آخرون ونشرت في بعض الصحف والمجلات أو أرسلت كرسائل للمؤلف.
4- مخطوطات قديمة أخرى كتبها المترجم منذ خمسين سنة. ووجدها في كراسات. في بعضها بعض ما كان يلقيه من محاضرات اجتماعية وأدبية وتربوية على الطلاب الثانويين في مدرسة النجاح في اجتماعات عامة كان يعقدها لهم. وفي بعضها تلخيصات لكتب عديدة قرأها وتعليقات عليها وبحوث أخرى كانت لها مناسباتها. وفي بعضها محاضرات ألقاها في بعض أندية فلسطين التي كان يدعى إليها.
ومن الجدير بالذكر أن المقالات التي جمعت في المجموعات المذكورة في الرقمين 1 و 2 وفي مجموعة الكتاب المطبوع المذكور في الرقم (33) ليس كل ما كتبه المترجم ونشر له من مقالات. وربما هو ما كان من ذلك منذ سنة 1948 وبعدها.
ولقد كتب قبل ذلك عشرات المقالات والبحوث ونشرت في صحف ومجلات فلسطين وسورية ولبنان والعراق ومصر. ولقد بدأ بذلك في سنة 1911 حيث كتب في سنتي 1911- 1913 نحو عشرين مقالا نشرتها له جريدة الحقيقة التي كان(10/31)
يصدرها في بيروت كمال عباس في مواضيع اجتماعية ووطنية وأدبية ثم واصل ذلك. وكل ما في الأمر أنه لم يحفظ أصول مقالاته التي كتبها ونشرت له ولا مطبوعاتها قبل سنة 1948 كما بعد سنة 1948.
وهو قوي الإيمان بالله والإسلام والعروبة ومستقبلهما. وهو صلب وصريح في عقائده ومبادئه الدينية والوطنية والقومية والخلقية. لا يماري ولا يداجي ولا يتذبذب. وخطته في الحياة تعظيم والتزام الواجب والحق والإنصاف والصدق ومواجهة الخطوات وأحداث الحياة الخاصة والعامة بالتفاؤل والأناة وعدم التبرم.
وعدم التحرش بأحد بدون موجب أخلاقي أو وطني أو قومي وعدم الانسجام والاندماج في الدسائس والمداورات. والاستمتاع بالحياة مع القصد والاعتدال.
والقناعة وعدم الحرص على المال. وحب الخير للناس والبر بهم ومساعدتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا. والتعلق بحياة الأسرة. والمرونة وعدم التزمت. والسير مع ركب الحياة التقدمي في نطاق المعقول المفيد. وقد تزوج لأول مرة بابنة عمه السيدة فاطمة بنت قاسم دروزة. وكانت له نعم الرفيقة الأمينة البارة وأنجب منها أولادا عاش منهم زهير وسلمى ونجاح وردينة. وتوفاها الله في سنة 1938 في دمشق فتزوج للمرة الثانية سنة 1946 بالسيدة لائقة بنت أنيس التميمي وكانت له كذلك نعم الرفيقة الأمينة البارة ولم ينجب منها وتوفاها الله تعالى في دمشق كذلك سنة 1975.
غفر الله ذنوبه وجعله من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه وشمله برضوانه ورحمته وتوفاه على الإيمان إنه سميع مجيب.(10/32)
الفهارس العامة
- فهرس الأحاديث والأقوال- فهرس الفقه- فهرس الأعلام- فهرس الشعوب والقبائل والطوائف- فهرس الأماكن- فهرس الأصنام- فهرس الأيام والغزوات والوقائع- فهرس الشعر- فهرس الكتب الواردة في التفسير- فهرس المحتويات(10/33)
1- فهرس الأحاديث والأقوال
- أ-
«آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم آية الربا ... » : 6/ 493. 8/ 297
«آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ... » : 9/ 8
«آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت ... » : 8/ 297
«آلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نسائه فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ... » : 6/ 408
«آلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالا وجعل ... » : 6/ 408
«آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل ... » : 6/ 249
«آمين خاتم ربّ العباد على عباده المؤمنين ... » : 1/ 309
«آئبون تائبون إن شاء الله عابدون ... » : 4/ 493
«آئبون تائبون لربنا حامدون ... » : 9/ 540
«آية الإيمان حبّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ... » : 7/ 318
«آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ... » : 5/ 305. 6/ 137
8/ 560. 9/ 503
«ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ... » : 6/ 391
«أبشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور ... » : 6/ 62
«أبشري يا عائشة إن الله قد برأك ... » : 8/ 384
«الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا ... » : 2/ 379
«أبغض الحلال عند الله الطلاق ... » : 6/ 413
«أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم ... » : 4/ 477. 5/ 80
«أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام ... » : 9/ 152
«أتاني آت من ربّي عزّ وجلّ فقال من صلّى عليك من أمتك صلاة ... » : 7/ 415(10/35)
«أتاني آت من عند ربّي فخيّرني بين أن يدخل نصف ... » : 1/ 484
«أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمتك ... » : 4/ 187. 6/ 188
«أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله ... » : 8/ 144، 207
«أتاني ربي في أحسن صورة أحسب يعني في النوم ... » : 2/ 98
«أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسب يعني النوم ... » : 2/ 93
«أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية ... » : 2/ 94
«أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها إن في البيت تمرا أطيب ... » : 3/ 548
«أترون هذه [السخلة الميتة] هانت على أهلها حتى ... » : 4/ 504. 5/ 537
«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا ... » : 6/ 518
«أتزعم أنّا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ... » : 3/ 424
«اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ... » : 2/ 559. 3/ 551. 4/ 422
«اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم ... » : 8/ 57، 58
«اتقوا الشرك فهو أخفى من دبيب النمل ... » : 4/ 30
«اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ... » : 4/ 54
«أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال ماذا عملت لي في الدنيا ... » : 6/ 503
«أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك ... » : 2/ 512
«أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال إن الله تعالى ... » : 9/ 536
«أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب فقال مثل كلمة طيبة كشجرة ... » : 5/ 230
«أتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل ... » : 6/ 281
«أتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه ... » : 8/ 98
«أتى النبي صلّى الله عليه وسلم حبر من اليهود وقال أرأيت إذ يقول الله ... » : 5/ 252
«أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات ... » : 8/ 208
«أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بينة ... » : 6/ 322
8/ 232 «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس مع أصحابه ... » : 8/ 520
«أتي النبي صلّى الله عليه وسلم مالا فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا ... » : 5/ 400
«أتى يهودي على النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فقال السام عليكم فردّ عليه القوم ... » : 8/ 480
«أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة ... » : 6/ 400(10/36)
«أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان ... » : 6/ 405
«أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحاجة فإذا هو يتغذى قال هلمّ إلى الغذاء ... » : 6/ 306
«أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح ... » : 9/ 417
«أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت له إني أسلمت وتحتي أختان فقال اختر أيتهما ... » : 8/ 62
«أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال من ذا ... » : 8/ 396
«أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل ... » : 2/ 262
«أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه ... » : 6/ 376
«اثنتان في الناس هما بهما كفر الطعن بالنسب والنياحة ... » : 8/ 514
«اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي أو ثقفيان ... » : 4/ 412
«اجتمع عيدان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فطر وجمعة فصلّى بهم ... » : 7/ 341
«اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هنّ يا رسول الله قال الشرك بالله ... » : 1/ 542.
6/ 212 «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هنّ ... » : 2/ 108
«اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا ... » : 9/ 226
«اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ... » : 1/ 335
«أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ... » : 2/ 476
«أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبوني ... » : 4/ 460
«احتبس عنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا ... » : 2/ 340
«احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت ... » : 8/ 135
«احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد ... » : 2/ 68
«أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحلّ نساؤهم ... » : 9/ 54
«أحلّت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت ... » : 4/ 174
«احلف بالله الذي لا إله إلا هو ... » : 9/ 255
«أحيانا يأتيني الوحي مثل صلصلة الجرس ... » : 1/ 41
«أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم برجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعا فقال غضبان ... » : 6/ 419
«أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ... » : 5/ 109
«أخبرنا عبد الله أن محمدا صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح ... » : 2/ 76
«أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على ... » : 9/ 477(10/37)
«اختلعت امرأة ثابت بن قيس فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم عدتها حيضة ... » : 6/ 424
«اختلعت الربيع بنت معوّذ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمرها أن تعتدّ ... » : 6/ 423
«اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث ... » : 9/ 330
«اختلف الناس في آخر يوم رمضان فقدم أعرابيان ... » : 6/ 310
«أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان فأخرج من صلبه ... » : 2/ 529
«أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم كخ ... » : 7/ 57. 8/ 487
«أخذ عليهن لا ينحن ولا يخلون بحديث الرجل إلا مع محرم ... » : 9/ 292
«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ... » : 9/ 397
«أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ... » : 6/ 167. 9/ 397
«أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها ... » : 4/ 466
«أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ... » : 5/ 305
«ادرأوا الحدود بالشبهات ادفعوا القتل عن المسلمين ... » : 6/ 399. 8/ 84
«ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج ... » : 6/ 399. 8/ 84
«ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك ... » : 9/ 484
«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ... » : 2/ 412. 6/ 317
«ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا ... » : 6/ 399. 8/ 84
«أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون خادم ... » : 6/ 104
«إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة لا يولّها ... » : 6/ 261
«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد ... » 5/ 281
«إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت ... » : 3/ 184
«إذا أخرج أهل التوحيد من النار وأدخلوا ... » : 4/ 35
«إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ... » : 3/ 538
«إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك ... » : 9/ 420
«إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ... » : 9/ 40
«إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتلهن ... » : 9/ 39
«إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن ... » : 2/ 381
«إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه ... » : 7/ 258(10/38)
«إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرّمت عليه ... » : 9/ 286
«إذا أعطيتم فأغنوا ... » : 9/ 472
«إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ... » : 4/ 315
«إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله حرمه الله ... » : 4/ 316
«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب ... » : 2/ 265
«إذا أمّن الإمام فأمنوا فإنه من وافق ... » : 1/ 308، 334
«إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم ... » : 8/ 191
«إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار ... » : 9/ 100
«إذا توضأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك ... » : 9/ 64
«إذا جاء كم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ... » : 8/ 78
«إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ... » : 8/ 127
«إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة ... » : 6/ 229
«إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها وجب الغسل ... » : 8/ 127
«إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء ... » : 5/ 229
«إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ... » : 5/ 351
«إذا جمع الله الناس يوم القيامة ... » : 2/ 23
«إذا حدّث [المنافق] كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف ... » : 6/ 365
«إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عزّ وجل ... » : 3/ 114
«إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا ... » : 5/ 489
«إذا حركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلا وجهها ... » : 2/ 388
«إذا حرّم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها لقد كان ... » : 6/ 408
«إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر ... » : 8/ 79
«إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ... » : 2/ 379
«إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تعالى ... » : 2/ 199
«إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا ... » : 3/ 462
«إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه ... » : 9/ 42
«إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ... » : 5/ 364
«إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك ... » : 4/ 533(10/39)
«إذا ذكرت أخاك بما يكره فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ... » : 8/ 518
«إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ... » : 4/ 91
«إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ... » : 7/ 275
«إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ... » : 9/ 377
«إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفّت أماناتهم ... » : 9/ 248
«إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها ... » : 1/ 333
«إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربّي العظيم ... » : 1/ 334، 513.
«إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرّب ... » : 8/ 92
«إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر ... » : 2/ 387
«إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة ... » : 5/ 110
«إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك ... » : 8/ 191
«إذا سمعتم [بالوباء] بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض ... » : 6/ 458
«إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين ... » : 5/ 139
«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ ... » : 9/ 114
«إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ... » : 7/ 343
«إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى ... » : 1/ 335
«إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا ... » : 1/ 339
«إذا صليتم عليّ فسلوا لي الوسيلة ... » : 9/ 114
«إذا ضيعت الأمانة فانتظر قيام الساعة ... » : 8/ 149
«إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعذاب من عنده ... » : 7/ 31
«إذا عركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلا ما دون هذا ... » : 8/ 405
«إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ... » : 2/ 475. 9/ 198
«إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ... » : 5/ 535
«إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ... » : 5/ 302
«إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان ... » : 4/ 375
«إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان ... » : 1/ 350
«إذا قرأ الإمام فأنصتوا ... » : 2/ 561
«إذا قرأ الرجل القرآن وتفقّه في الدين ثم أتى باب السلطان ... » : 7/ 289(10/40)
«إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم ... » : 1/ 288
«إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها ... » : 3/ 11. 4/ 281
«إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ... » : 7/ 39
«إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم ... » : 3/ 398
«إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ... » : 4/ 465
«إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه ... » : 8/ 481
«إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلموا ... » : 6/ 452
«إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ... » : 4/ 533. 8/ 191
«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ... » : 2/ 115. 5/ 149.
9/ 562 «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قلت يا رسول الله ... » : 2/ 379. 3/ 548
«إذا وقع على ذات محرم فاقتلوه ... » : 8/ 360
«إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ... » : 7/ 272، 273
«أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي ... » : 7/ 380
«أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله ... » : 4/ 354
«أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش ... » : 4/ 356
«أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه ... » : 1/ 342
«أربع إذا كنّ فيك فلا عليك مما فاتك من الدنيا ... » : 5/ 305
«أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ... » : 1/ 370، 371. 3/ 382. 6/ 138.
8/ 560. 9/ 503
«ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقضي ... » : 6/ 261
«أرسل إليّ ربّي أن أقرأ القرآن على حرف ... » : 1/ 245
«أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال هل تدرون لم أرسلت إليهم ... » : 5/ 251
«أرسل فرعون خلف بني إسرائيل ألف ألف وخمسمائة ألف ملك ... » : 1/ 222
«الأرض كلّها مسجد إلا الحمام والمقبرة ... » : 1/ 337. 8/ 426
«أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم ... » : 5/ 354
«أسبغ الوضوء وخلّل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق ... » : 9/ 64
«أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم يقول ويل ... » : 9/ 61(10/41)
«استأذن رجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 4/ 370
«استأذن رجل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة ... » : 8/ 518
«استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب ... » : 7/ 412
«استبّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم ... » : 6/ 465
«استبّ رجلان عند النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمرّ عيناه ... » : 2/ 555
«استعمل النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا من الأسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة ... » : 7/ 261
«استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل ... » : 2/ 291
«استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك ... » : 9/ 471
«استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت ... » : 6/ 42، 111
«استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله ... » : 3/ 177
«استكرهت امرأة على الزنا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحدّ ... » : 8/ 362
«استيقظ النبي صلّى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول ... » : 5/ 104
«الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها ... » : 7/ 48
«أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله ... » : 9/ 521
«أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها الأول ... » : 9/ 285
«أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم اختر أربعا ... » : 8/ 15
«اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت ... » : 1/ 552
«أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ... » : 8/ 316
«اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء ... » : 8/ 188
«أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل قال له قل أعوذ بربّ الفلق ... » : 2/ 57
«أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إنها ستكون فتنة ... » : 9/ 100
«أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول خمس صلوات ... » : 1/ 342
«أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ... » : 6/ 352
«أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله ... » : 7/ 189.
8/ 46 «أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصلي بنا ... » : 2/ 69
«أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون ... » : 7/ 317
«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ... » : 9/ 523(10/42)
«أصيب رجل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ... » : 9/ 475
«أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود ... » : 5/ 201
«أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ... » : 8/ 119
«اطلع النبي صلّى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ... » : 4/ 195. 5/ 103
«اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام ... » : 4/ 532. 8/ 190
«اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه ... » : 1/ 332
«اعتلّ بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر ... » : 8/ 514
«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب ... » : 6/ 465
«أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ... » : 6/ 124، 522
«أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ومكان الزبور ... » : 1/ 80، 81
«أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرم ... » : 9/ 241
«أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر ... » : 1/ 70
«اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ... » : 2/ 290
«أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف ... » : 8/ 79
«أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر ... » : 5/ 159
«أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم ما كان الله ... » : 1/ 366
«افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت ... » : 7/ 202
«افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ... » : 4/ 199
«افتقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس لعلّ رسول الله أخذها ... » : 7/ 259
«أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر ... » : 9/ 198
«أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ... » : 2/ 474. 4/ 367
«أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ... » : 1/ 308. 3/ 295
«أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الحرام وأفضل الصلاة ... » : 1/ 338
«أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة ... » : 2/ 370
«أقام النبي صلّى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر ... » : 8/ 226
«أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحابه ... » : 8/ 578
«أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل ... » : 6/ 363
«أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلّى الله عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا ... » : 7/ 335(10/43)
«أقبلت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد ... » : 2/ 69
«أقبلت يهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عمّا حرّم إسرائيل ... » : 7/ 192
«أقبلت يهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ... » : 5/ 524
«اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ على نار إبراهيم ... » : 5/ 277
«أقرأ جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فلما ... » : 1/ 309
«أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل ... » : 1/ 245. 4/ 320
«أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى ... » : 8/ 45
«أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي صلّى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا ... » : 3/ 270
«أكبر الكبائر الشرك بالله والفرار يوم الزحف ... » : 7/ 25
«أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ... » : 3/ 178
«أكثروا ذكر النار فإن حرّها شديد ... » : 1/ 419
«أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم ... » : 5/ 421
«أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد وأصحابه أقبل ... » : 9/ 490
«أكل الربا من جملة الموبقات السبع التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلم باجتنابها ... » : 6/ 498
«الآن حمي الوطيس ... » : 9/ 384، 385
«ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة ... » : 4/ 477
«ألا أخبركم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال ... » : 2/ 109. 5/ 401
«ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله ... » : 6/ 429
«ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف ... » : 1/ 371. 2/ 455. 3/ 383
«ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ... » : 5/ 401
«ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفّى ... » : 2/ 112
«ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة ... » : 6/ 302
«ألا أدلّك على تجارة ... » : 8/ 236
«ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات ... » : 9/ 60
«ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ... » : 9/ 113
«ألا إن بعد زمانكم هذا زمان ... » : 4/ 289
«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله ... » : 6/ 46(10/44)
«ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ... » : 5/ 484
7/ 395 «ألا أنبئكم ما العضه هي النميمة ... » : 1/ 370
«ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله ... » : 7/ 214
«ألا إنها ستكون فتنة ... » : 2/ 527
«ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك ... » : 4/ 174. 5/ 123، 139
«ألا فليبلغ الشاهد الغائب ... » : 9/ 248
«ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي ... » : 2/ 310. 8/ 409
«ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ... » : 8/ 512
«ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه ... » : 9/ 198
«ألا هل مشمّر إلى الجنة فإن الجنة لا حظر لها ... » : 9/ 495
«ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أوليائهم ... » : 8/ 426
«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ... » : 8/ 41
«ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى ... » : 7/ 110، 117
«الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في ... » : 4/ 463
«الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ... » : 7/ 317.
8/ 325، 494. 9/ 523
«الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث ... » : 8/ 39
«اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي ... » : 9/ 528
«اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة ... » : 9/ 424
«اللهمّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ... » : 7/ 318
«اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ... » : 7/ 25
«اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ... » : 2/ 287
«اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني ... » : 5/ 25
«اللهمّ زد هذا البيت. تشريفات وتعظيما وتكريما ومهابة ... » : 9/ 582
«اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم ... » : 7/ 414
«اللهمّ لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة ... » : 8/ 495
«اللهمّ لا نبغيها ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم كانوا إذا فعل ... » : 6/ 218(10/45)
«اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه ... » : 2/ 311
«ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار قلت إني أفعل ذلك ... » : 6/ 86
«ألم تر آيات أنزلت عليّ الليلة لم ير ... » : 2/ 45
«أليس قد عرفوا محمدا صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه ... » : 5/ 326
«أم القرآن هي السبع المثاني ... » : 4/ 57
«أما الذي قد مسّ امرأته ثم اعترض عنها فلا يضرب له ... » : 6/ 411
«أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلّا ما لا، إلا ما لا، يعني ... » : 9/ 424
«أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ... » : 4/ 105
«أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب ... » : 9/ 224
«أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة ... » : 8/ 383
«أما تقرأ في سورة إسرائيل وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ... » : 3/ 384
«أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها ... » : 5/ 65
«أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ... » : 2/ 381. 8/ 425
«أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة ... » : 7/ 343
«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... » : 1/ 437
«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله ... » : 1/ 437. 2/ 38. 5/ 49.
9/ 356، 357 «أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ... » : 9/ 353
«أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت ... » : 1/ 75
«أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت إذا بلغت ... » : 6/ 451
«أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي ... » : 6/ 48
«أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود قال إني والله ... » : 6/ 166
«أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود قال والله ما آمن ... » : 6/ 21
«أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة ... » : 2/ 46
«أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين ... » : 1/ 329
«أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة ... » : 8/ 246
«إنّ آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي ربّ ... » : 6/ 210
«إن آدم نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء ... » : 1/ 228(10/46)
«إن آية إِنَّما جَزاءُ.. نزلت في قوم من ... » : 1/ 209
«إن آية إِنَّما جَزاءُ.. نزلت في قوم هلال بن عويمر ... » : 1/ 210
«إن آية المناجاة لم يعمل بها أحد قبلي ولا عمل بها أحد بعدي ... » : 8/ 490
«أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين ... » : 9/ 224
«إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول ... » : 9/ 465
«إن أبا بكر قال بعد أن تمّ جمع القرآن التمسوا ... » : 1/ 68
«إن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلّى الله عليه وسلم فأنزلت هذه الآية إِذا زُلْزِلَتِ فرفع يده من الطعام ... » : 6/ 121
«إن أبا بكر لما قال سمّوه [كتاب الله] قال بعضهم سمّوه إنجيلا ... » : 1/ 68
«إنّ أبا جهل قال للنبي نحن لا نكذبك ولكنّا نكذّب ... » : 4/ 84
«إن أبا ذرّ سأل النبي صلّى الله عليه وسلم أي الرقاب أفضل فقال أغلاها ... » : 2/ 262
«إن أبا طلحة سأل النبي صلّى الله عليه وسلم أن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها ... » : 9/ 225
«إن أبا لهب قال للنبي ماذا أعطى يا محمد إن آمنت ... » : 1/ 496
«إنّ أبا هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الله طيب ... » : 5/ 317
«إن إبراهيم عليه السلام يرى أباه يوم القيامة ... » : 3/ 251
«إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم ... » : 6/ 364
«إن ابن عباس جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 83
«إن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال أناس كانوا ... » : 3/ 504
«أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد ... » : 8/ 226
«إنّ ابن مسعود كان يجني سواكا من أراك وكان دقيق ... » : 2/ 185
«أن ابنة النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها فأتوا ... » : 9/ 137
«أن أبي بن كعب سأل أبا ذرّ كم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين ... » : 7/ 346
«إن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف ... » : 1/ 84
«إن أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام ... » : 2/ 310. 8/ 148
«أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة يا محمد ... » : 4/ 259
«إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه ... » : 1/ 335
«إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة ... » : 4/ 374. 5/ 235
«إن أحسن ما غيّر به هذا الشيب الحناء والكتم ... » : 8/ 246(10/47)
«إن أحقّ الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج ... » : 8/ 77
«أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 137
«إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لو كان عليها دين ... » : 6/ 42
«إنّ إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم ... » : 7/ 320
«إنّ أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط ... » : 2/ 424
«إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ... » : 2/ 23. 4/ 30. 5/ 114. 8/ 121
«إن أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة ... » : 6/ 111، 405
«إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ... » : 2/ 200
«إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه ... » : 6/ 114
«أن أذى بني إسرائيل لموسى هو اتّهامهم إيّاه بقتل هارون فأمر الله ... » : 7/ 427
«إن أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة ... » : 4/ 536
«إن الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ... » : 3/ 546
«إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ... » : 4/ 548
«أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أبصارهم ... » : 5/ 302
«إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى ... » : 4/ 199. 5/ 141
«إن أعرابيا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الجنة فقال فيها عنب ... » : 5/ 546
«إن أعرابيا عرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في مسير له فقال ... » : 5/ 535
«أن أعرابيا قال يا رسول أي الأعمال أفضل ... » : 5/ 485
«إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل ... » : 6/ 220
«إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة ... » : 9/ 424
«إن الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم ... » : 1/ 215
«إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ... » : 5/ 338
«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا ... » : 5/ 194. 6/ 240
«إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المئين ... » : 6/ 126
«إن الله أعطى كلّ ذي حق حقّه وإنه لا وصيّة لوارث ... » : 6/ 294
«إن الله أعظم وأعزّ من أن يظلم ولكن خلطنا ... » : 2/ 517
«إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ ... » : 1/ 73
«إن الله أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ... » : 4/ 555، 556(10/48)
«إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ... » : 9/ 260
«إن الله إنما ذكر ذا القرنين لأن حكمته ... » : 1/ 219
«إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى ... » : 4/ 250
«إن الله بعث أربعة آلاف نبي ... » : 4/ 396
«إن الله بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف ... » : 4/ 397
«إن الله بعثني رحمة مهداة ... » : 5/ 295
«إن الله بعثني لإتمام مكارم الأخلاق ... » : 2/ 558
«إن الله بعد أن استخرج من ظهر آدم ذريته وأشهدهم ... » : 2/ 529
«إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم ... » : 6/ 301
«إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس ... » : 9/ 405
«إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا ... » : 2/ 400. 6/ 86
«إن الله تعالى أبقى سفينة نوح حتى أدركها أوائل ... » : 2/ 284
«إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ... » : 2/ 353
«إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة ... » : 2/ 161
«إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها وحدّ حدودا ... » : 9/ 242
«إن الله تعالى لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ... » : 3/ 115
«إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ... » : 9/ 476
«إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تبرّأ الله منه ... » : 8/ 148
«إن الله تعالى يحب العبد المفتّن ... » : 4/ 339
«إن الله تعالى يقول حرّمت الظلم على نفسي وجعلته ... » : 2/ 239. 3/ 75
«إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ... » : 9/ 495
«إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ... » : 9/ 527
«إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ... » : 2/ 530
«إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ... » : 2/ 540
«إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم ... » : 5/ 194
«إن الله خلق الملائكة من نور وخلق الجان من مارج ... » : 2/ 349
«إن الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ... » : 3/ 394
«إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ... » : 4/ 105. 8/ 440، 567(10/49)
«إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق ... » : 2/ 184
«إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا عجل عقوبة ذنبه في الدنيا ... » : 8/ 209
«إن الله عزّ وجل حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله ... » : 2/ 180
«إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره ... » : 2/ 289
«إن الله عزّ وجلّ قد وكلّ بالرحم ملكا ... » : 1/ 461. 2/ 288
«إن الله عزّ وجلّ يستخلص رجلا من أمتي ... » : 5/ 271
«إن الله قال لا يقولنّ أحدكم يا خيبة الدهر ... » : 4/ 569
«إن الله قال [للشهداء] هل تشتهون شيئا قالوا يا ربّ نريد ... » : 7/ 268
«إن الله قد بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما ... » : 5/ 180. 8/ 355
«إن الله قد عصمني من الجن والإنس ... » : 9/ 181
«إن الله قد وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ... » : 2/ 401
«إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ... » : 5/ 319
«إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية ... » : 9/ 583
«إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق ... » : 6/ 122
«إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر ... » : 7/ 31. 9/ 198
«إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ... » : 4/ 149
«إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ... » : 6/ 523
«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر ... » : 6/ 52
«إن الله لا ينظر إلى من يجرّ إزاره بطرا ... » : 3/ 345
«إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ... » : 9/ 421
«إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء ... » : 1/ 351
«إن الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ... » : 7/ 268
«إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض ... » : 1/ 447
«إن الله لما كلّم موسى كلّمه بالألسنة كلّها ... » : 2/ 454
«إن الله لما كلّم موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام ... » : 2/ 454
«إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه يحتسب في صنعته ... » : 7/ 84
«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ... » : 1/ 388. 3/ 74، 537. 4/ 92.
5/ 545(10/50)
«إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة ... » : 2/ 454
«إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ... » : 4/ 112، 370. 5/ 190. 6/ 86، 523
«إن الله وكلّ بعبده ملكين يكتبان عليه ... » : 2/ 231
«إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ... » : 2/ 157
«إن الله يحبّ الأخفياء والأتقياء والأبرياء الذين إذا غابوا ... » : 8/ 495
«إن الله يحبّ أن تؤتى رخصه ... » : 4/ 173
«إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ... » : 5/ 168
«إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه ... » : 5/ 363
«إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ... » : 2/ 157
«إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي ... » : 5/ 113
«إن الله يقول لعيسى عن محمد هو عبدي المتوكل المختار ... » : 8/ 570
«إن الله يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ... » : 6/ 203، 204
«إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ... » : 9/ 217
«إن الله ينهاكم عن التعرّي فاستحيوا من ملائكة الله ... » : 5/ 421
«إن الله يوحي إلى عيسى بعد أن يقتل الدجال بأنه أخرج عبادا ... » : 5/ 103
«إن الألواح كانت من زبرجد ... » : 1/ 217
«إن ألواح موسى تسعة ... » : 1/ 217
«إن ألواح موسى عشرة ... » : 1/ 217
«إن ألواح موسى كانت وفر سبعين بعيرا ... » : 1/ 217
«إن ألواح موسى من زبرجدة خضراء ... » : 1/ 217
«إن ألواح موسى من ياقوتة حمراء ... » : 1/ 217
«إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال ... » : 2/ 114
«إن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة ... » : 2/ 381
«إنّ أم سليم جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي ... » : 8/ 126
«إن أمتي من يشفع للفئام ... » : 1/ 484
«إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء ... » : 9/ 59
«إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد وبلادنا ... » : 4/ 262
«أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب ... » : 6/ 110(10/51)
«إن امرأة أو مأت من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 8/ 246
«أن امرأة بدوية جاءت في صدر الإسلام إلى المدينة ... » : 6/ 43
«إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت جئت لأهب لك نفسي ... » : 8/ 74
«إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابني به جنون ... » : 6/ 504، 505
«إن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة ... » : 8/ 518
«أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجّاها الله أن تصوم ... » : 6/ 42
«إن امرأة قالت يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه ... » : 2/ 382
«إن امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد كانت تحت رجل ... » : 8/ 505
«إن امرأة من أهل دومة الجندل جاءت إليها عقب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 6/ 211
«إن أناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ... » : 2/ 199
«إن أناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا لو أرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نسأله ... » : 8/ 557
«إنّ أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ... » : 7/ 289
«إن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال ... » : 9/ 387
«إن أنس سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 410
«إن أنسابكم هذه ليست بحسبة على أحد كلّكم بنو آدم ... » : 8/ 524
«إن الأنهار التي أنزلها الله من عين ... » : 1/ 226
«إن أهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض ... » : 4/ 50
«إن أهل الجنة ليتراءون أهل ... » : 1/ 383. 4/ 311
«إن أول الآيات الدجال ونزول عيسى ... » : 4/ 540
«إن أول زمرة يدخلون الجنة ... » : 1/ 383
«إن أول ما تفوّه به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن وصى بالأمهات ... » : 4/ 253
«إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى ... » : 2/ 290
«إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ... » : 1/ 362
«إن أول ما خلق الله القلم والحوت قال للقلم اكتب ... » : 1/ 362. 2/ 292
«إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل ... » : 2/ 473. 9/ 197
«إن أول من جمع مصحفا بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم هو سالم ... » : 1/ 70(10/52)
«إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ... » : 2/ 23. 3/ 514
«إن أيام منى هي أيام أكل وشرب ... » : 9/ 583
«إن الأئمة والأوصياء من آل رسول الله يعلمون تأويله ... » : 7/ 122
«إن بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ومعالمها ... » : 8/ 315
«إن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة ... » : 1/ 507
«إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون ... » : 6/ 236. 7/ 208
«إن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا له إن أهل الكتاب يسلّمون ... » : 8/ 191
«إن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة هل يعلم نبيكم ... » : 1/ 454
«إن بعضهم سأل رسول الله أيّ الناس خير فقال من طال عمره ... » : 7/ 275، 276
«أن [بلالا] كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره ... » : 7/ 343
«أن بلالا لما علا الكعبة ليؤذن عقب فتح مكة ... » : 8/ 521
«إن بلقيس كانت من الجن وإن الجن خشوا ... » : 1/ 222
«إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ... » : 7/ 202
«إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا ... » : 1/ 221
«إن بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هنّ من العتاق الأول ... » : 1/ 81
«إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ... » : 1/ 343. 9/ 356
«إن بين السماء السابعة وبين العرش ... » : 1/ 507
«إن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ... » : 1/ 227
«إن تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها ... » : 1/ 70
«إن تتولوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي ... » : 8/ 332
«إن ترتيب السور في وضع الآيات مواضعها ... » : 1/ 84
«إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألمّا ... »
: 2/ 106
«أن جارا فارسيا للنبي صنع طعاما فدعاه ولم يدع أم المؤمنين عائشة ... » : 8/ 451
«إن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح ... » : 1/ 228
«إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد ... » : 1/ 245
«إن الجعل يكاد أن يهلك في جحره بخطيئة ابن آدم ... » : 5/ 149
«إن جماعات من بني تميم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر ... » : 3/ 507
«إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم ... » : 9/ 202(10/53)
«إن جمع القرآن الثالث هو ترتيب السور ... » : 1/ 70
«إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ثم تلفحهم ... » : 5/ 335
«إن الحارث بن هشام سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ... » : 1/ 467. 4/ 486
«إن حدّ الزنا يوقع على الزاني إذا قامت البينة أو كان الحبل ... » : 8/ 51
«إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة ... » : 7/ 197
«إن حمنة بنت جحش كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها ... » : 6/ 401
«إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص ... » : 1/ 419. 6/ 32
«إن الحواريين قالوا لعيسى يا روح الله هل بعدنا أمة ... » : 8/ 571
«إن الحواميم ديباج القرآن ... » : 4/ 350
«أن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة ... » : 4/ 354
«إنّ الخبيث لا يكفّر الخبيث ولكن الطيب يكفّر الخبيث ... » : 6/ 489
«إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة ... » : 2/ 247
«أن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه ... » : 1/ 223
«أن درجات الجنة سبعون ما بين ... » : 1/ 217
«إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ... » : 2/ 411
«إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم ... » : 2/ 179.
9/ 580 «إن الدنيا كلّها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ... » : 8/ 78، 107
«إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه ... » : 2/ 397، 400. 3/ 546
«إن ذا القرنين دخل الظلمة في طلب عين الحياة ... » : 1/ 219
«إن ذا القرنين كان عبدا صالحا ملكه الله ... » : 1/ 220
«إن ذا القرنين هو الإسكندر الذي ملك الدنيا ... » : 1/ 220
«إن ربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن ... » : 4/ 540
«إن ربّكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا دعاه أن يردّ ... » : 6/ 317
«إن رجالا في العراق يتأولون الآية الأولى ويقولون ... » : 5/ 133
«إن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله إلى الغزو تخلّفوا عنه ... » : 7/ 285
«إن الرجل إذا نزع شجرة من الجنة ... » : 5/ 547
«إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ... » : 6/ 298. 8/ 45(10/54)
«إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى ... » : 8/ 44
«إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عشرها ... » : 5/ 303
«إن الرجل يتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ولا يقبل الله ... » : 6/ 489
«إن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الأعمال أفضل ... » : 8/ 550
«أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد ظاهرت من امرأتي ... » : 8/ 474
«أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت إني أخشى أن أفضح ... » : 8/ 368
«أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ... » : 3/ 548
«أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلّى الله عليه وسلم ومع النبي صلّى الله عليه وسلم مدرى يرجل به ... » : 8/ 396
«إن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم ... » : 6/ 296
«أن رجلا أعرابيا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنشدك بالله ... » : 8/ 355
«أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 61
«إن رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له إن أخي استطلق بطنه ... » : 5/ 156
«إن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت قوله تعالى الطلاق ... » : 6/ 419
«إن رجلا جاء مسلما على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة ... » : 9/ 285
«إن رجلا ذكر للنبي أنه يخدع في البيوع فقال إذا بايعت ... » : 8/ 96
«أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها ... » : 8/ 246
«أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي قال نعم ... » : 8/ 397
«إن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما ... » : 8/ 126
«أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عند المباشرة فرخص له وأن شخصا آخر ... » : 6/ 313
«إن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد ... » : 3/ 196
«أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يردّدها ... » : 2/ 68
«إن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل ... » : 9/ 140
«أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 137
«أن رجلا قال لابن مسعود إني حرّمت أن آكل طعاما ... » : 8/ 389
«إن رجلا قال للنبي إن أمي افتلتت نفسها ولم توص ... » : 2/ 113
«إن رجلا قال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ... » : 8/ 10
«إن رجلا قال يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل ... » : 3/ 96
«إن رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ... » : 8/ 119(10/55)
«إن رجلا قال يا رسول الله كيف صلاة الليل ... » : 1/ 338
«إن رجلا قال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب قال لا يلبس ... » : 9/ 16
«إن رجلا قال يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه ... » : 3/ 81
«إن رجلا قام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا ... » : 8/ 517
«إن رجلا كان يسبّ أبا بكر بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلم فصمت عنه أبو بكر ... » : 8/ 267
«إن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم جلس بين يديه ... » : 5/ 272
«إن رجلا من أهل الصفة مات فوجد في مئزره دينار ... » : 9/ 423
«إن رجلا من أهل اليمن أصابت ابنة أخيه فاحشة فأمرّت ... » : 8/ 368
«إن رجلا من بني النضير أخبر عن رجل من بني هلال ... » : 2/ 402
«أن رجلا نذر ذبح ولده فقال له الشعبي هذا من نزغات ... » : 8/ 390
«إن رجلين أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسألاه فقال اذهبا إلى هذه الشعوب ... » : 9/ 471
«إنّ رجلين تسابّا بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه ... » : 2/ 555
«إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا يا رسول الله ... » : 2/ 140، 289.
«إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله من وصلك وصلته ... » : 8/ 10
«إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي بعدي ... » : 7/ 392
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ألا أعلمك أعظم سورة ... » : 1/ 291
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه ... » : 2/ 91
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال ... » : 9/ 123، 128
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ... » : 6/ 359
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت ... » : 2/ 246
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن ... » : 9/ 292
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرد للحجّ وفي رواية أهلّ بالحج ... » : 9/ 579
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلّقت ... » : 9/ 122
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ... ...» : 1/ 79. 8/ 212
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة ... » : 9/ 293
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس حوله ... » : 8/ 485
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ... » : 9/ 66
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من شيء ... » : 2/ 95(10/56)
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه بالآية أخذ عليا وابنيه وفاطمة ... » : 7/ 380
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ... » : 6/ 307
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم يتنازعون في القرآن ... » : 4/ 517
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج في الاستسقاء متبذّلا متواضعا ... » : 1/ 338
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس ... » : 2/ 277
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال أيها الناس أي يوم هذا ... » : 9/ 582
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه ... » : 7/ 197
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو في الموت فقال له كيف تجدك ... » : 4/ 306
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها غير مسلم ... » : 7/ 339
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر ... » : 7/ 256
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال يا فلان ... » : 8/ 131
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال ... » : 4/ 87
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل وأرفع درجة ... » : 5/ 484
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل أي العمل أحبّ إلى الله ... » : 2/ 401
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عمن استوت حسناته وسيئاته ... » : 2/ 402
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن الحمر فقال لم ينزل عليّ فيها شيء إلا هذه ... » : 6/ 120
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال لا ... » : 9/ 225
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر ... » : 7/ 17
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ البسملة مع سائر ... » : 1/ 289
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد ... » : 1/ 335، 515. 4/ 112
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق زوجته حفصة فأتت أهلها فأنزل الله ... » : 8/ 335
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ ... » : 6/ 361
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ انتظر حتى مالت ... » : 7/ 70
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله أشدّ فرحا بتوبة عبده ... » : 2/ 156
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الجمّاء لتقتصّ من القرناء ... » : 4/ 87
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ... » : 6/ 104
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه ... » : 5/ 236
«إن رسول الله قال أنا فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ... » : 7/ 208(10/57)
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فضلت سورة الحجّ على سائر القرآن ... » : 6/ 8
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع ألا إن أولياء الله ... » : 2/ 109
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في قوله وَيُسْقى مِنْ ماءٍ ... فإذا شربه ... » : 5/ 225
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كلمتان خفيفتان على اللسان ... » : 5/ 436
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة ... » : 8/ 450
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا ... » : 8/ 376
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما ... » : 7/ 256
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعلي يا علي إن القرآن خلف ... » : 1/ 80
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له ألا أدلك على أبواب الخير ... » : 5/ 350
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما من يوم يصبح العباد فيه ... » : 4/ 289
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها ... » : 6/ 104
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال هدايا العمال غلول ... » : 7/ 261
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يا أيها الناس توبوا إلى الله ... » : 2/ 156
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ... » : 9/ 186
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ... » : 4/ 382
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسّرها لنا فدعوا الربا والريبة ... » : 6/ 503
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ يوما وَلِمَنْ خافَ ... فقلت يا رسول الله ... » : 6/ 102
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما ... » : 7/ 52
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم ... » : 9/ 119
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجنّ قيمته دينار ... » : 9/ 119
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه بشيء أتيناه ... » : 1/ 73
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق ... » : 5/ 22
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون ... » : 9/ 539
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا صلى نظر إلى السماء ... » : 5/ 302
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة ذات برد ... » : 1/ 336
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبايع النساء بالكلام دون أن تمسّ يده ... » : 9/ 294
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجانّ وعين الإنسان ... » : 2/ 51
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك ... » : 2/ 49(10/58)
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ولكن ... » : 8/ 484
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء ... » : 1/ 336
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة الليل بقول اللهم ... » : 4/ 333
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ ... كل ليلة ... » : 7/ 293
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقسم إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي ... » : 9/ 458، 459
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول اللهمّ اغفر لي خطيئتي ... » : 4/ 379
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ... » : 8/ 485
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه ... » : 9/ 283
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه فجعل يسلت الدم عنه ... » : 7/ 228
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قدم أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة ... » : 2/ 173
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ بجدي أسكّ ميت فقال ... » : 5/ 537
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ... » : 8/ 486
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ ثم أذّن في الناس ... » : 9/ 578
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يصلّى في سبعة مواطن ... » : 1/ 338، 345
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل الضّبّ ... » : 4/ 75
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ... » : 5/ 123
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشغار والشغار أن يزوّج الرجل ... » : 8/ 21
«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال ... » : 8/ 182
«إن الرضاعة قليلها وكثيرها إذا كانت في الحولين تحرم ... » : 8/ 70، 71
«إن الرقى والتمائم شرك ... » : 4/ 30
«إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك ... » : 9/ 39
«أن روح كل كافر تعرض على النار بكرة وعشيا ... » : 4/ 373
«إن الزبور نزل لثنتي عشرة خلت من رمضان ... » : 2/ 132. 6/ 315
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات ... » : 6/ 336
«إنّ زوج [فاطمة بنت قيس] طلقها ثلاثا ولم يجعل لها نفقة ... » : 6/ 420
«إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة ... » : 1/ 82
«إن زيد بن ثابت قال أمرني أبو بكر فكتبته ... » : 1/ 69(10/59)
«إن سارقا سرق رداء لصفوان بن أمية وهو متوسد ... » : 9/ 124
«أن سائلا سأل علي بن أبي طالب عن الذين قاتلهم وقاتلوه ... » : 8/ 511
«أن سبرة غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في فتح مكة قال فأقمنا بها خمس عشرة ... » : 8/ 81
«إن سدرة المنتهى شجرة نبق في السماء ... » : 1/ 228
«إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ... » : 9/ 122
«إن سرّك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربّك ... » : 3/ 400
«إن سلمان بن عامر جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن أبي كان يصل الرحم ... » : 6/ 122
«إن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس ... » : 2/ 176، 383
«إن سماء الدنيا سوح مكفوف والثانية مرمرة ... » : 1/ 226
«إن السموات والأرض في العرش كالقنديل ... » : 1/ 508
«أن السور الذي ذكر في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ ... هو سور ... » : 1/ 217
«إن سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 72
«أن الشبان يوم بدر تسارعوا إلى الحرب وبقي الشيوخ تحت الرايات ... » : 7/ 11
«إن شرّ الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه ... » : 8/ 518
«إن الشيطان يستحلّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ... » : 9/ 42
«إن الصحابة قد جمعوا بين الدفتين القرآن ... » : 1/ 84
«إنّ صحف إبراهيم نزلت في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ... » : 6/ 315
«إن الصخرة العظيمة لتلقى ... » : 1/ 419
«أن صفوان بن أمية فرّ يوم الفتح فأرسل إليه النبي صلّى الله عليه وسلم أمانا ... » : 9/ 286
«إن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل ... » : 1/ 328
«إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... » : 1/ 336
«أن ضيفا نزل على عبد الله بن رواحة فأخرت امرأته ... » : 9/ 209
«إن عائشة ذكرت النار فبكت فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك ... » : 2/ 184
«أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها ... » : 8/ 69
«إن [عائشة] سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الملائكة تنزل في العنان ... » : 3/ 11
«إن عائشة قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هل أتى عليك ... » : 4/ 99
«أن عائشة قالت لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل ... » : 7/ 128
«إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه ... » : 5/ 510(10/60)