إلى الآن وصاروا به أسوأ البشر من حيث الأخلاق والسلوك نحو سائر البشر.
والآيتان [46 و 55] احتوتا استثناء تكرر في آيات عديدة لفئة قليلة من اليهود ظهر منها نية حسنة فأذعنت للحق وصدقت برسالة النبي ودعوته وآمنت وحسن إسلامها. وقد أشير إلى ذلك في آيات سورة الأعراف [157] وآل عمران [113 و 119] وفي الآية [162] من سورة النساء هذه. وتتجلى في هذا صورة رائعة من الإنصاف لا تدع أية شبهة لأي منصف من غير المسلمين في صدق الحملات والنعوت والوقائع القرآنية بالنسبة لليهود. وإذ نقول هذا بهذا الأسلوب إنما نقوله للمساجلة. ونحن نؤمن به أعمق الإيمان.
ولقد ورد في آيات سورة الأعراف [163- 168] حملة شديدة على اليهود وإشارة إلى الذين اعتدوا منهم في السبت وما حلّ فيهم من نكال الله ولعنته بسبب ذلك كما وردت إشارة إلى ذلك في آيات سورة البقرة [65، 66] . فالإنذار والإشارة الواردان في الآية [47] من الآيات التي نحن في صددها إنما يمتان إلى هذه الحادثة. ولقد علقنا عليها بما فيه الكفاية في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة للإعادة إلّا القول بأن أسلوب الإنذار هنا قارع رهيب. ولعله آخر إنذار يوجه لليهود مع تجديد الدعوة إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم لأن النبي كان قد أجلى بني قينقاع ثم بني النضير ولم يلبث إلا قليلا حتى نكل ببني قريظة وطهر المدينة من رجسهم.
ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها منها أن نجعل وجوههم في أقفيتهم فيمشوا القهقرى ومنها أن نطمس عنهم الهدى فيرتدوا إلى الضلال ولا يكون لهم فلاح أبدا. ومنها أن نطمس على وجوههم ونجعلها مكان إستاتهم. وعلى كل حال فإن فيها إنذارا بمسخ مادي أو معنوي.
وتعددت التأويلات كذلك لجملة كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ منها أن الله يجدد جلودهم كلما احترقت الجلود الأولى ومنها أن(8/142)
الله يزيل من الجلود السابقة أثر الاحتراق ويعيد شعورها السابق بألم العذاب. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الجملة فإن الإنذار الرهيب من حكمته كما هو المتبادر.
ومن التأويلات المروية لجملة أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أنها عنت ما أحلّه الله للنبي من زوجات عديدة. ومن التأويلات المروية لجملة فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً أنها عنت ملك داود وسليمان وما كان لهما من مئات الزوجات. وقد فند الطبري هذين التأويلين وأكد أن الجملة الأولى في صدد حسدهم العرب والنبي وأصحابه على ما آتاهم الله من نبوة وهدى وعزة وفضل. وأن الجملة الثانية في صدد ما كان آل إبراهيم السابقين من مثل ذلك وهو الصواب الأسدّ.
والآية انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً التي جاءت بعد التنديد باليهود لتزكيتهم أنفسهم بليغة المدى حيث انطوى فيها تكذيب لزعمهم أنهم أحباء الله وأصفياؤه والحظوة لديه وتزكيتهم لأنفسهم نتيجة لهذا الزعم. وتقرير لكون ذلك منهم افتراء على الله تعالى.
وفي سورة البقرة حكاية لزعم زعمه اليهود بأنه لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا وتكذيب له. وتقرير للأمر في نصابه الحق بأن الذي يسلم وجهه لله وهو محسن هو الذي ينال حظوة عند الله. ويأمن الخوف والحزن. وذلك في الآيتين [111 و 112] وفي هذا تلقين عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
ومع أن الآية [48] هي في صدد تعظيم جريمة الشرك وتقرير كون الله لا يمكن أن يغفره فإنها تتحمل النظر موضوعيا من حيث ما احتوته من إيذان رباني بغفران غير الشرك من الذنوب ومن أن هذا الغفران يكون لمن يشاء الله. ولقد وقف المفسرون عند الأمر الأول وأوردوا بعض الأحاديث النبوية. منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة آخرون. ومن ذلك حديث رواه الإمام أحمد وأورده ابن كثير عن أنس بن مالك قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم الظلم ثلاثة. ظلم لا يغفره(8/143)
الله وظلم يغفره وظلم لا يترك الله منه شيئا. فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك. وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض» وفي الحديث تساوق مع التلقين القرآني في صدد الشرك. وتأميل للمؤمن بغفران الله في ما يكون بينه وبين ربّه وتشديد على حقوق العباد.. ومن ذلك حديث ورد في فصل التفسير في التاج رواه مسلم والإمام أحمد جاء فيه «من لقي ربّه لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به دخل النار» «1» وهذا الحديث يفيد مع الحديث السابق أن الشرك وحده هو الذي يخلد صاحبه في النار. وقد يعني هذا من ناحية العقيدة الإسلامية الإيمانية أن المؤمن إذا اقترف آثاما وهو مؤمن لا يخلد في النار وكل أمره أن يعذبه الله على آثامه إذا شاء ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة. ومن ذلك حديث مشهور رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذرّ الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت وإن زنى وإن سرق. قال وإن زنى وإن سرق. قلت وإن زنى وإن سرق. قال وإن زنى وإن سرق. ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذرّ» «2» .
والمتبادر أن هذا الحديث يفهم على ضوء ما شرحناه آنفا. أي أن الله يعذب الآثم إذا لم يكن مشركا أو مستحلا لإثمه ما شاء ثم يدخله الجنة. وعلى كل حال ففي الأحاديث تساوق مع مدى الآية من هذه الناحية من حيث تأميل المؤمنين بعفو الله ورحمته وهذا مع تنبيهنا على أن عذاب الله للآثم المؤمن يستحق إذا مات دون توبة وأن غفران الله له متاح إذا مات وأصلح وعمل صالحا على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وللمفسر الخازن كلام سديد فيه توافق لما تقدم أورده في سياق تفسير الآية [116] من هذه السورة المماثلة في عبارتها للآية التي نحن في صددها.
وبالنسبة إلى النقطة الثانية الموضوعية أي (إن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء) نقول إنه مع واجب التسليم لله بمطلق المشيئة. فإن الذي يتبادر لنا أن العبارة
__________
(1) التاج ج 4 ص 83. [.....]
(2) التاج ج 1 ص 26.(8/144)
أسلوبية على ما جرى عليه النظم القرآني. وأن في القرآن ضوابط تجعل غفران الله ورحمته وهدايته للذين علم أنهم يستحقونها بعقائدهم ونياتهم وسلوكهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة «1» وإنه ما دامت حكمة التنزيل اقتضت أن يكون في القرآن مثل هذه الضوابط فمن الواجب الوقوف عندها دون جدل كلامي لا طائل من ورائه ولا ضرورة إليه. وفي كلام المفسر الخازن ما يتوافق كذلك مع هذا. والله تعالى أعلم.
ولقد عقد المفسر القاسمي نبذة طويلة في سياق الآية [48] استقاها من كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم في مدى الشرك الذي لا يغفره الله ويخلد صاحبها في النار، خلاصتها أن الشرك نوعان: شرك بالله في أسمائه وصفاته وأفعاله واتخاذ آلهة أخرى معه. وشرك به في المعاملة. ويدخل في الأول كل أنواع الشرك بما في ذلك إسناد الحوادث والتأثير لغير الله أو عبادة غير الله ولو للشفاعة ونيل الحظوة والقربى عند الله وتعطيل أسماء الله وصفاته. ويدخل في الثاني الحلف بغير الله والتوكل على غير الله والتوسل لغير الله والنذر لغير الله والتوبة لغير الله والخشية والرجاء من غير الله والاستنصار بغير الله إن كان يفعل ذلك باعتقاد تأثير هذا الغير.
وفي هذا وذاك وجاهة متساوقة مع التقريرات القرآنية التي تتميز بها العقيدة الإسلامية على غيرها في توحيد الله جل جلاله توحيدا كلّه صفاء ونقاء وبعد عن كل شائبة وتأويل مهما كان، وبأي اعتبار كان على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
هذا، ومع خصوصية الآيات الموضوعية والظرفية فإن فيها تلقينات أخلاقية مستمرة المدى في تقبيح التبجح والزهو بالنفس وحسد الناس ولا سيما حينما يكون الحاسد متمتعا بفضل الله بالسعة والرخاء. وسوء الأدب في الخطاب وغمز الناس والسخرية منهم والمكابرة في الحق رغم ظهور أعلامه وقيام حجته والارتكاس في شهادة الزور والتخلي عن المبادئ الإيمانية والدينية بسبيل كيد الخصم وأذيته والتآمر عليه.
__________
(1) انظر تعليقنا في تفسير آيات الأعراف [156] والمدثر [33] والإنسان [31] بنوع خاص.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 10(8/145)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
[سورة النساء (4) : آية 58]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
. في الآية خطاب للسامعين الذين تلهم أنهم المسلمون بأن الله تعالى يأمرهم بحفظ الأمانات وردها إلى أصحابها. وبالعدل بين الناس إذا حكّموهم في مشاكلهم وحكموا بينهم. وأعقب الأمرين تعقيب تنويه بهذه الأوامر وخطورة شأنها، وتنبيه على أن الله سميع بصير تجب مراقبته في كل موقف وعمل وحال.
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ... إلخ
روى المفسرون روايات عديدة متفقة المدى مختلفة الصيغة في نزول الآية خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوم فتح مكة مفتاح الكعبة من سادنها عثمان بن طلحة ودخل إلى الكعبة ثم خرج منها فسأله عمّه العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بذلك السقاية والسدانة فأنزل الله الآية فردّ المفتاح إلى عثمان قائلا له خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلّا ظالم وقال له إن الله قد أنزل في شأنه قرآنا وتلا الآية فكان هذا سبب إسلامه. والروايات لم ترد في الصحاح إلّا حديث رواه الخمسة عن ابن عمر ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ المفتاح من عثمان ودخل الكعبة وصلى فيها دون ذكر لنزول الآية وردّ المفتاح إلى عثمان «1» .
ويلحظ أن الآية جاءت في سياق نرجح أنه نزل قبل فتح مكة بمدة غير قصيرة ولقد جاء بعد هذه الآية آية فيها أمر للمسلمين بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمر وردّ ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله ثم آيات بعدها فيها حكاية لموقف وقفه المنافقون فيه صدّ عن التقاضي عند رسول الله حيث يجعل كل هذا صلة وثيقة بين الآية والآيات التي بعدها فضلا عن أنه لا تفهم أية حكمة في وضع آية في شأن وقع يوم
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 387.(8/146)
الفتح المكي في هذا السياق. والذي يتبادر لنا نظرا للروايات العديدة التي تروى في مسألة مفتاح الكعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ هذا المفتاح إلى سادن الكعبة بتلقين هذه الآية التي روي أنه تلاها حينئذ، وأن الأمر التبس مع الرواة فظنوا أن الآية نزلت حينئذ والله أعلم.
والآية وما بعدها فصل جديد كما هو المتبادر ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي والله أعلم.
والآية فصل تام لذاتها، ومن الآيات المحكمة، وهذا ما جعلنا نوردها لحدتها. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أنها في صدد تشريع عام بوجوب رد الأمانات والحقوق إلى أصحابها والحكم بين الناس بالعدل والحق وأن الخطاب فيها موجه لأولي الأمر من المسلمين وهذا سديد وجيه. غير أن إطلاق العبارة في الآية وتوجيه الخطاب بصيغة الجمع أولا وموضوعه العام ثانيا يجعلان الآية عامة التوجيه والشمول للمسلمين جميعهم عامتهم وحكامهم وأولي الأمر منهم في كل ظرف ومكان على ما هو المتبادر ولا سيما إنه يكون أحيانا كثيرة عند الناس أمانات لبعضهم وينتدب أناس أحيانا كمحكمين بين غيرهم حيث يكون في هذا الإطلاق أولا وفي تعبير النَّاسِ ثانيا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث إيجاب العدل وتقريره وحفظ الأمانات والحقوق وردها إلى المسلمين وأولياء أمرهم معا في كل وقت وبقطع النظر عن أي اعتبار وصفة وطبقة ونحلة وملة وجنس. وهذا من طوابع الشرع الإسلامي الخالدة. قد تكرر وروده بهذا الإطلاق في مواضع كثيرة من القرآن منها ما مرّ ومنها ما يأتي ومما يأتي آيتان في سورة المائدة إحداهما تأمر المسلمين بأن لا يمنعهم أي عداء وبغضاء بينهم وبين الغير من العدل وبأن يكونوا قوامين لله شهداء بالقسط في كل حال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8] وثانيتهما تأمر النبي بالحكم بين اليهود بالقسط إذا حكّموه مهما بدا منهم من مواقف الدسّ والتحريض سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ(8/147)
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
[42] حيث ينطوي في الآيتين ما قلناه من انطواء الآية التي نحن في صددها على وجوب العدل بين الناس بقطع النظر عن أي اعتبار.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية في سياق هذه الآية في صدد العدل في القضاء والأئمة العادلين والجائرين منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة. ومن ذلك حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ المقسطين عند الله على منائر من نور عن يمين الرحمن عزّ وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا» «1» . وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إنّ أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر» «2» . وحديث رواه الترمذي كذلك عن رسول الله قال «إنّ الله تعالى مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تبرّأ الله منه وألزمه الشيطان» «3» وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث رواه أبو داود بسند صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله على جوره فله الجنة ومن غلب جوره على عدله فله النار» «4» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحقّ فقضى به. ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» «5» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تعظيم لخطورة مهمة القضاء جاء فيه «من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين» «6» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 45.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 52.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه ص 53.
(6) المصدر نفسه.(8/148)
وينطوي في الأحاديث تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني في واجب العدل بين الناس كما ينطوي في الآية والأحاديث تقرير كون ذلك مبدأ محكما من مبادئ الدين الإسلامي الذي يجب على المسلمين وقضاتهم وأمرائهم الالتزام به.
والآية احتوت أمرا آخر وهو أداء الأمانات إلى أهلها. ولقد علقنا على موضوع الأمانة وخطورتها في كتاب الله وسنة رسوله وأوردنا طائفة من الآيات والأحاديث في ذلك في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) فلا نرى ضرورة للتكرار ويحسن مراجعة ذلك حين قراءة هذا التعليق لتكون الصورة بارزة للقارىء.
على أن بعض الأئمة نبهوا على معان خاصة في الجملة الواردة في الآية في ذلك. وفي تفسير القاسمي نبذة عن الإمام ابن تيمية خلاصتها أن أداء الأمانات نوعان أحدهما تولية أمور المسلمين إلى أهلها الأصلح لها فإن ذلك أمانة في عنق المسلمين وأولياء أمورهم. وأورد حديثا وصفه بالصحيح أخرجه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولّى رجلا يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» وحديثا آخر رواه البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا ضيعت الأمانة فانتظر قيام الساعة. قيل يا رسول الله وما إضاعتها قال إذا وسّد الأمر إلى غير أهله» وأما ثاني نوعي أداء الأمانات فهو أداء المسلم ما اؤتمن عليه من مال وودائع ورهن إلخ. وأورد في صدد ذلك أحاديث أوردناها في تعليقنا على آيات سورة (المؤمنون) .
وفي تفسير رشيد رضا نبذة طويلة أيضا في صدد هذه الجملة جاء فيها فيما جاء أن أداء الأمانة يشمل بالإضافة إلى أداء المسلم ما اؤتمن عليه العلماء الذين يكون العلم فيهم بمثابة أمانة يجب عليهم أداؤها بما يفيد الناس. وبالأسلوب المفيد بحيث يكون مخالفة هذا وذاك خيانة للأمانة. وأورد في صدد ذلك الآية [187] من سورة آل عمران التي تندد بالذين يكتمون ما أوتوا من علم وينبذونه وراء ظهورهم ويشترون به ثمنا قليلا. ويشمل كذلك حفظ الأسرار التي يؤتمن المسلم عليها. ويشمل أمانة المسلم في معاملته مع غيره بصدق وإخلاص وحسن(8/149)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
نية وبعد عن المكر والغش والاحتيال. وكل هذه الأقوال وجيه سديد. وفي الأحاديث النبوية تعليم وتلقين وتحذير واجب الالتزام.
ولم يترك مفسرو الشيعة هذه الآية حيث رووا عن بعض الأئمة أنها تعني أمانة الحكم والولاية للأئمة وأمر الله بتسليمها إليهم لأنهم أهلها. والتكلف والتعسف والهوى يطبع هذه الرواية كما هو ظاهر «1» .
[سورة النساء (4) : آية 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
. (1) تأويلا: هنا بمعنى مخرجا وعاقبة ونتيجة ومصيرا. وهذه المعاني لا تخرج عن نطاق معنى الكلمة اللغوي الذي هو من آل بمعنى صار.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وشرح ما في صددها من مبادئ وأحكام
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم. وبردّ كل خلاف ونزاع بينهم في أي شيء إلى الله ورسوله. وقد جعلت الآية هذا دليلا أو شرطا لصحة إيمان المسلمين بالله واليوم الآخر. وقررت أن في ذلك الخير وأحسن الحلول والمخارج والأحكام.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أميرا على سرية اختلف في اسمه حيث روت رواية أنه عبد الله بن حذافة ورواية أنه خالد بن الوليد وأن أحد رجال السرية أجار شخصا من الذين
__________
(1) انظر الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ص 173 و 189.(8/150)
أرادت السرية الإغارة عليهم أعلن إسلامه بدون الرجوع إلى أميره فاعترض الأمير ورفع الأمر إلى النبي فأجاز الإجارة مع التنبيه على أن لا يتكرر ذلك بدون علم الأمير. فنزلت الآية لتوطيد طاعة الأمير. ومن الروايات أن تمردا وقع من أفراد سرية على أميرها فشكى القائد إلى النبي فنزلت الآية بسبيل ذلك وبعض المفسرين «1» يعزون بعض هذه الروايات باستثناء رواية خالد بن الوليد إلى البخاري ومسلم والترمذي. ولم نجدها في الكتب التي بين أيدينا وخالد بن الوليد لم يكن أسلم في ظروف نزول الآية على ما نرجح ونخشى أن يكون اسمه قد أقحم لغرض دعائي لأن الرواية تذكر أنه اختلف مع عمار وصار بينهما تشاد وتشاتم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أبغض عمارا أبغضه الله ... والذي يتبادر لنا أن الآية في صدد أعم مما جاء في الروايات. وأنها هدفت إلى توطيد طاعة الله ورسوله وأولي الأمر على المسلمين بصورة عامة في مناسبة ما مما كانت حكمة التنزيل تقتضيه في العهد المدني بسبب تركيب المجتمع الإسلامي فيه على ما نبهنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة الأنفال. ونرجح أن المناسبة التي نزلت فيها هي المذكورة في الآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد بحيث يمكن أن يقال إن السياق واحد بل وإنه بدأ بالآية [58] واستمر إلى الآية [65] وهذا يبدو قوي الوضوح إذا ما أنعم النظر فيه. وبقطع النظر عن تعدد الروايات فإن ترجيحنا لا يمنع أن يكون وقع حادث اختلاف بين أمير سرية وأحد أفرادها أو جماعة منهم فرفع الأمر إلى رسول الله فتلا الآية بسبيل توطيد طاعة الأمير فالتبس الأمر على الرواة. والله تعالى أعلم.
والآية على كل حال جملة تشريعية تامة مثل سابقتها. وهذا ما جعلنا نفردها عن السياق أيضا. وإطلاقها يفيد كما هو المتبادر أن ما احتوته هو تشريع مستمر للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والجمهور متفقون على أن طاعة الله تتمثل في طاعة القرآن والتزام ما فيه من
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والقاسمي.(8/151)
حدود وأحكام ومبادئ وأوامر ونواه. وأن طاعة الرسول تتمثل في السير وفق أوامره ونواهيه وتعليماته وإرشاداته في حياته ووفق سننه القولية والفعلية بعد مماته.
وينطوي في الآية في الوقت نفسه تقرير كون القرآن والسنة هما المرجعان الرئيسيان اللذان يجب الرجوع إليهما في كل نزاع بين المسلمين والوقوف عند ما فيهما من حدود ورسوم. وهذا الواجب يترتب على المسلمين وعلى أولي الأمر منهم. وسواء أكان النزاع فيما بين المسلمين أو فيما بينهم وبين أولي الأمر منهم.
ويتبادر لنا أن جملة فَإِنْ تَنازَعْتُمْ تعني أيضا الاختلاف في الاجتهاد والمواقف جدلا نظريا أو مواقف فعلية.
ويلفت النظر بخاصة إلى نقطة هامة. وهي أمر الآية برد الأمور المتنازع فيها إلى الله ورسوله حصرا. حيث ينطوي في هذا أنه ليس للمسلمين أن يردوا ذلك إلى أولي الأمر الذين أمرت الآية بطاعتهم بالإضافة إلى الله ورسوله. بل يكون كتاب الله وسنة رسوله هما الحكم في ذلك وأنه ليس لأولي الأمر أن يصدروا في ذلك أوامر غير ما ورد في كتاب الله وسنّة رسوله وأن يحملوا المسلمين على طاعتهم فيما يصدرون.
على أن هناك ما يمكن قوله ففي القرآن والسنّة تشريعات وأوامر ونواه محددة كما فيهما مبادئ وتلقينات وتوجيهات وخطوط عامة. وهذه بخاصة شاملة واسعة بحيث يسوغ القول إن من الممكن على ضوئها حل كل نزاع أو مشكلة أو مسألة ليس فيها تحديد صريح وقطعي في كتاب الله وسنّة رسوله. وهذا من أسرار ترشح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول فيما يتبادر لنا.
ومرجعية كتاب الله وسنّة رسوله تصدق على هذه كما تصدق على تلك بطبيعة الحال.
والأمور المحددة القطعية في كتاب الله وسنّة رسوله تظل محكمة لا يجوز فيها اجتهاد ولا تحوير ولا تبديل. أما عدا ذلك فيصح أن يجتهد في حله في نطاق(8/152)
المبادئ والتلقينات والتوجيهات والخطوط العامة في كتاب الله وسنّة رسوله التي ذكرنا شمولها وسعتها. وفي هذه السورة هذه الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... [83] التي يمكن على ما يتبادر لنا أن يقال على ضوئها إن حل الأمور المتنازع فيها والتي يحتاج حلّها إلى اجتهاد لعدم ورودها محددة وقطعية في كتاب الله وسنّة رسوله يناط بأولي الأمر من المسلمين وأهل الحل والعقد والعلم منهم الذين يؤهلهم علمهم وعقلهم وتجربتهم وممارستهم لاستنباط الأحكام من مآخذها. واستلهام تلك المبادئ والتوجيهات والتلقينات والخطوط العامة في كتاب الله وسنة رسوله. وقد يصح أن نذكر جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ في الآية [159] من سورة آل عمران وجملة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ في الآية [38] من سورة الشورى في هذا السياق. وهذا شامل لكل ظرف ومكان وشأن كما هو المتبادر.
وننبّه في هذه المناسبة على أن لعلماء الأصول في العصور الإسلامية الأولى تقريرات في الخطة التي ينبغي أن يسار عليها في حل ما ليس فيه في القرآن والسنة شيء صريح ومحدد يقوم على أساس حل ذلك وفقا لإجماع علماء المسلمين.
وما لا يكون وما لا يمكن أن يكون فيه إجماع يسار فيه على مقتضى القياس على أمثال جرت في عهد النبي وخلفائه الراشدين. وما لا يكون فيه أمثال يسار فيه على الاستحسان أو الاستصلاح حسب الترتيب. مع واجب التنبيه على أن هذه التقريرات ليست مجمعا عليها حيث اختلف الأصوليون في إمكانية وواقعية الإجماع وحجيته. وفي الاعتماد على القياس وتعيين مداه أو التوسع فيه. وفي الاستحسان والاستصلاح وظروفهما ومبرراتهما. وهناك من قال بإمكانية وواقعية حجية إجماع صدر الإسلام أو أصحاب رسول الله فقط لأن مجتهدي هذا العهد وعلماءه قليلون والرقعة غير منبسطة في حين أن المسلمين تفرقوا في أبعاد شاسعة.
وصارت واقعية الإجماع وإمكانيته متعذرتين.
وهذا الخلاف من جهة وما هناك من خلافات اجتهادية فما ليس فيه نصّ(8/153)
محدد وقطعي ورتب الأحاديث والأخذ بالاستحسان والقياس والمصالح وعدمه من جهة أخرى من أسباب تعدد المذاهب الفقهية في ذلك.
وهناك خلاف بين العلماء المتأخرين في وجوب الوقوف عند أقوال واجتهادات أئمة الفقه المشهورين وفي جواز الاجتهاد لمن يؤهله علمه وخبرته وممارسته وعقله لاستنباط الأحكام من مآخذها فيما ليس فيه نصّ صريح أو محدد من قرآن وسنة. ونحن مع الجواز. ففضل الله لا يجوز حصره وتحريمه على أحد ولا زمن ولا جيل. وكتاب الله وسنن رسوله موجهة للمؤمنين في كل ظرف ومكان. وفي كتاب الله آيات كثيرة تهتف بالمؤمنين إطلاقا ليتدبروا كتاب الله ويتفكروا فيه ويعقلوه مع واجب القول إن أقوال واجتهادات أئمة الفقه وعلمائه في القرون الإسلامية الأولى كنوز ثمينة يجب أن تكون ملهمات ومآخذ لمن يتصدون للاجتهاد والنظر من المتأخرين.
وبديهي أن الأمر الذي تتضمنه الآية من جهة والإيمان بالله ورسوله من جهة أخرى موجبات لإطاعة الله ورسوله وما يمثلهما من القرآن والسنن بدون قيد وشرط. أما أولو الأمر فقد رويت أحاديث عديدة تفيد أن طاعتهم منوطة بما فيه مصلحة المسلمين وما لا يتناقض مع ما في كتاب الله وسنن رسوله من أوامر ونواه وحدود وأنه لا طاعة لهم في معصية ولا فيما ليس فيه مصلحة للمسلمين ولا فيما يتناقض مع القرآن والسنّة. من ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ قال «أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدّع الأطراف. وفي رواية إن أمّر عليكم عبد مجدّع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» «2» وحديث رواه الشيخان عن عبادة بن الصامت قال «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر
__________
(1) التاج ج 3 ص 40 ومعنى (فيما أحب أو كره) في الحديث الأول هو أن السمع والطاعة واجبة في غير المعصية سواء أحب المسلم ما أمر به أو كرهه.
(2) المصدر نفسه.(8/154)
والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول الحقّ أينما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم وفي رواية أن لا ننازع الأمر أهله إلّا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» «1» وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم سيليكم بعدي ولاة فيليكم البرّ ببرّه والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق الحقّ وصلّوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم وإن أساؤوا فعليهم» وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. وقد ورد في الصحاح أحاديث من بابه. منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية» «2» وحديث رواه مسلم وأبو داود جاء فيه «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن كره فقد برىء. ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع قيل يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما صلّوا» «3» وحديث رواه مسلم عن عرفجة قال «سمعت رسول الله يقول ستكون هناك هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان» «4» وحديث رواه مسلم عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم ويصلّون عليكم وتصلّون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف فقال لا ما أقاموا الصلاة فيكم وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة» » .
وكلمة مِنْكُمْ في الآية تعني أن أولي الأمر الذين تجب على المسلمين طاعتهم هم الذين يكونون منهم أي (مسلمين) وينطوي في هذا عدم جواز طاعة المسلم لحاكم أو سلطان أو أمير غير مسلم كما هو المتبادر.
__________
(1) التاج ج 3 ص 40- 42. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(8/155)
وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى بعدم الرضا لحكم الأجنبي والخضوع والاستسلام له وحفز المسلم على التمرّد عليه والتخلّص من سيطرته وبذل ما يستطيع من جهد في هذا السبيل. وفي هذه السورة آيات مؤيدة لهذا التلقين وهي الآيات [76 و 97- 100] على ما سوف نشرحه بعد.
ولقد روى المفسرون أقوالا عن ابن عباس وبعض التابعين أن وَأُولِي الْأَمْرِ الذين تجب طاعتهم هم أولو العلم والفقه كما رووا عن بعض التابعين أنهم الولاة والحكام. وقد صوب الطبري القول الثاني دون الأول استئناسا بالأحاديث النبوية التي رويناها قبل واستنادا إليها وهو الحقّ والصواب فيما يتبادر لنا مع القول إن المقصود بهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم- لأن الآية تشمل ذلك- هم الذين كان النبي ينتدبهم لقيادة الجيوش والمهمات الأخرى التي يكون لهم فيها حق الأمر على من معهم من المسلمين كما هو المتبادر. وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة فيه تأييد لذلك جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني» «1» . ومن المعروف اليقيني أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده بمدة ما طبقة يمكن أن توصف بأولي العلم والفقه يمكن أن يراجعها الناس أو تتصدى للأمر والنهي فيهم بهذه الصفة وهذا مما يوجه ويقوي ترجيح الطبري والله أعلم.
وننبّه على أننا لا نريد بهذا أن نضعف حق العلماء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى ما فيه الخير والسداد والحقّ من شؤون دينية وغير دينية ولا واجب عامة المسلمين بطاعتهم في ذلك. وفي سورة المائدة آية تندد بالأحبار والربانيين لأنهم لا ينهون عامة اليهود عن قول الإثم وأكل السحت وهي الآية [63] حيث يمكن أن تلهم أن من واجب العلماء أن يأمروا العامة بالمعروف وينهوهم عن المنكر. وهناك آية أخرى في سورة الأنبياء تأمر السامعين بسؤال أهل العلم وهي الآية المنكر. وفي سورتي النحل والأنبياء آيتان تأمران السامعين بسؤال أهل العلم
__________
(1) التاج ج 3 ص 40.(8/156)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
وهما [43] و [7] . وهناك آيات أخرى مرّ شرحها والتعليق عليها فيها تقرير واجب أهل العلم في بيان ما آتاهم الله من العلم والكتاب وتندد بمن يكتمون ذلك وتنذرهم بل وتلعنهم مثل آيات البقرة [159 و 174] وآل عمران [182] وعلى عامة المسلمين بالمقابل إطاعة أوامر العلماء واتباع توضيحاتهم على شرط أن يكونوا ملتزمين بكتاب الله وسنن رسوله وللعامة أن يطلبوا منهم سندا إذا لم يكن الأمر واضحا لهم وليس عليهم طاعتهم طاعة عمياء. والله تعالى أعلم.
ولقد روى الطبرسي الشيعي عن الإمامين الباقر والصادق أن أولي الأمر في الآية هم الأئمة من آل محمد. لأن الأمر بطاعة أولي الأمر مطلق مثل الأمر بطاعة الله ورسوله ولا يصح إيجاب إطاعة أحد بإطلاق إلّا من ثبتت عصمته وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد. وروى الكاشي «1» حديثا طويلا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر له جملة وَأُولِي الْأَمْرِ بأنه هو والأئمة من نسله إلى الثاني عشر المهدي المنتظر وسماهم له واحدا واحدا.
والتعسف ظاهر في هذا. ونحن ننزه عليا رضي الله عنه عن الحديث المنسوب إليه. هذا فضلا عن ما في الأحاديث من مناقضته لتعبير وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الذي يفيد شمولا ولا يمكن أن يفيد حصرا في فرد بعد وفاة فرد من أسرة واحدة ويقف عند الثاني عشر في القرن الثالث الهجري.. ثم فضلا عن ما فيها من تعطيل للحكم القرآني المتصل بمصلحة المجتمع الإسلامي المستمرة الذي ظل وسيظل يقوم على رأسه أولو أمر يحتاج المسلمون إلى ضابط إزاءهم وهذا الضابط هو هذه الآية وما ورد في الأحاديث النبوية من حدود وقيود.
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 65]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) .
__________
(1) انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 150(8/157)
(1) الطاغوت: قال الجمهور إن الكلمة هنا عنت أحد حكام اليهود أو أحد كهان العرب.
(2) شجر بينهم: نشب بينهم.
وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت:
(1) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله على النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدّوا عن ذلك.
(2) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفا- لا إيمانا- ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدّا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلّها بالمعروف والحسنى.(8/158)
(3) وإشارة تقريعية إليهم: فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية.
وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
(4) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلّا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلّا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف، ثم ارتضوا بحكمه رضاء تامّا ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
(5) والتفاتا تأنيبيّا إلى المحكي عنهم: فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [65]
ولقد روى المفسرون «1» في صدد هذه الآيات عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبى المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود: كعب بن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت. ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي
__________
(1) انظر تفسير الطبري والخازن وابن كثير والبغوي.(8/159)
الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير بن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك «1» . ومنها «2» أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما أنتما على ما قضى رسول الله فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله فاشتكى أهله إلى النبي فقال ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة. ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيّا
__________
(1) هذه الرواية وردت في كتابي البخاري والترمذي أيضا. التاج ج 4 ص 82 مروية عن عبد الله ابن الزبير.
(2) هذه الرواية رواها ابن كثير والقاسمي.(8/160)
عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ في الآية [64] ثم الآية [65] من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية [59] والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته. وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسة الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدسّ والتمرد واللحاح التي يقفها مرضى القلوب تجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية [65] وقال إن كل حديث صحّ عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديد وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله إن العلماء استدلوا بالآية على أن النصّ لا يعارض ولا يخصص بالقياس وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نصّ الآية. ثم قال والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله. وإذا كان للعامي أن يتبع الجزء الثامن من التفسير الحديث 11(8/161)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنصّ.
والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران [21 و 22] والنساء [80] والحشر [7] وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإنّ اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 70]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
. في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلّا قليل منهم. أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثّا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به:(8/162)
(1) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك.
(2) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم، ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم. ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم. لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ونعمت هذه الرفقة. وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون.
تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ... إلخ والآيات الثلاث بعدها
وقد روى المفسرون «1» أن مسلما ويهوديّا تفاخرا فقال اليهودي: لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا، فقال المسلم: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريّا محزونا فسأله عن سبب حزنه فقال له: نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره. وهناك رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله. وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات.
والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يبدو وحدة منسجمة. وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة. وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول
__________
(1) انظر الطبري وابن كثير والخازن.(8/163)
والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه.
وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق. والله أعلم.
هذا، والتنويه بالذين يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله. وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حدّ وكل حثّ وكل نهي. وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو بن مرة قال «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله شهدت أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس. وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا- ونصب أصبعيه- ما لم يعقّ والديه» .
ولقد وقف المفسرون عند كلمة وَالشُّهَداءِ في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله» «1» . ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى. ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحضّ على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح. والله أعلم.
ولقد وقفوا عند كلمة وَالصِّدِّيقِينَ وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم.
__________
(1) التاج ج 4 ص 296 والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح.(8/164)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين. وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله.
ونحن نرجح القول الأول. ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ وإن البرّ يهدي إلى الجنّة. وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا» «1» . ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق. وقد علل ذلك بأنه كان شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله. فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة. وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم. وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة.
والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم.
ولمفسري الشيعة تفسير يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه «إن كلمتي الصدّيق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد. وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة» وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر.
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 76]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) .
__________
(1) التاج ج 5 ص 50.(8/165)
(1) ثبات: جماعة بعد جماعة أو سرية بعد سرية.
(2) ليبطئن: بمعنى التثبيط والتعويق عن القتال والتخويف منه.
(3) يشرون: هنا بمعنى يبيعون على ما قاله المؤولون. وليس من مانع أن تكون في معناها اللغوي المعروف فيكون معنى الجملة (الذين يشترون الحياة الآخرة بالدنيا) ولقد كان الخوارج يسمون أنفسهم (الشراة) على هذا المعنى على الأرجح واقتباسا من الكلمة ومداها على كل حال.
(4) والمستضعفين: الذين استضعفهم الكفار فتسلطوا عليهم أو ضعفوا عن نضالهم. والجملة معطوفة على سبيل الله أي وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل إنقاذ المستضعفين ونصرتهم.
(5) القرية الظالم أهلها: جمهور المفسرين على أن الجملة تعني مكة.
(6- 7) الطاغوت والشيطان: هنا مترادفان بمعنى الشيطان.
وفي هذه الآيات:
(1) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا.
(2) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.(8/166)
(3) وتحريض للمؤمنين المخلصين، فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند الله سواء اقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء.
(4) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحثّ عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيىء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقيض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم.
(5) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقاتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً وما بعدها لآخر الآية [76]
والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة.
وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقاتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.(8/167)
ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات.
والذي يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخذ يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي، وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا «1» ، فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر- وهو ما يلهمه مضمون الآيات- أن فريقا من المسلمين والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآيات داعية حاثة مهونة منددة. وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني.
وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة. وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان. وهذه
__________
(1) مثل عياش بن ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد وأبو جندب بن سهيل. انظر تفسير الطبرسي لهذه الآيات وانظر تفسير ابن كثير للآيات [97- 100] من هذه السورة.(8/168)
القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا.
يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية.
والآية [74] بخاصة جديرة بالتنويه والتنبيه من حيث انطواؤها على أمر رباني حاسم لكل مسلم بأن يقاتل في سبيل الله دون حساب للعاقبة والنتيجة في الدنيا ودون أن يكون قلة المقاتلين وكثرة الأعداء مانعتين لهم من القتال ودون مبالاة بالتثبيط والتبطيء اللذين يحاولهما مرضى القلوب إذا كان هذا القتال هو السبيل الوحيد للدفاع عن الإسلام والمسلمين ولمكافحة الظلم والظالمين. ولقد أورد الخازن في سياق هذه الآية حديثا ورد في صحيحي البخاري ومسلم بصيغة أوفى وهي «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة حين كلم لونه لون دم وريحه مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل. ولفظ البخاري لوددت أني أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل» «1» حيث ينطوي في الحديث تلقين متساوق مع التلقين القرآني من
__________
(1) التاج ج 4 ص 327. [.....](8/169)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
حثّ وتشويق وترغيب بأسلوب نافذ. وهناك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم يحسن أن يورد في هذا المقام جاء فيه «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. ولفظ أبي داود ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال. وفي لفظ مسلم لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» «1» حيث ينطوي في الحديث بشرى وتطمين نبويان رائعان في مداهما بأن أمر الله تعالى وهتافه في الآية سوف يظل متحققا مطاعا.
[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 80]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
. (1) بروج مشيّدة: البروج هنا بمعنى الحصون العالية. وهناك من قرأ (مشيدة) بضم الميم وتشديد الياء بمعنى المبنية بالجصّ الأبيض الذي كان من أسباب متانة البناء. وهناك من قرأها بفتح الميم وكسر الشين بمعنى مزينة أو حصينة.
في هذه الآيات:
(1) تساؤل إنكاري وتعجبي في مقام التنديد بفريق من المسلمين بسبب
__________
(1) التاج ج 4 ص 304 و 305.(8/170)
ارتياعهم من فرض الله القتال عليهم وإظهارهم الخوف من الناس كخوفهم من الله أو أشدّ وتساؤلهم تساؤل الفزع المستنكر عن سبب فرض ربهم القتال عليهم وتمنيهم أن لو أخره مدة أخرى مع أن منهم من كانوا يستعجلونه ولم يؤذن لهم به، واكتفى منهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأمروا بكفّ أيديهم عن القتال.
(2) وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم مطمئنا مهونا: فمدة الدنيا قصيرة ومتاعها تافه ضئيل.
والآخرة خير وأبقى لمن يتقي الله ويستجيب لأوامره. ولن ينقص من أجرهم عنده شيء إذا ساروا في طريق واجبهم وماتوا قبل إتمامه. والموت عليهم محتم حينما يأتي أجلهم وهو مدركهم سواء أكانوا في ساحات القتال أم في حصون عالية منيعة.
(3) وحكاية تنطوي على التقريع لما كان يقوله هذا الفريق فإذا أصابتهم حسنة قالوا إنها من الله وإذا أصابتهم سيئة قالوا إنها من النبي بسبب أوامره وحركته. وأمر للنبي بالردّ عليهم بأن كل ذلك من الله وأن قولهم هذا لا يصدر إلا عن أناس لا يكادون يفهمون معنى الكلام ومرماه ومداه.
(4) وتقرير قرآني مباشر وجّه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما أصابه من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه، وبأن الله تعالى إنما أرسله رسولا مبلغا والله شهيد على كل شيء وكفى به شهيدا. وبأن الرسول إنما يبلغ أمر الله فمن أطاعه فإنما يطيع الله ومن أعرض عن الاستجابة إلى ما يدعو إليه ويأمر به فليس عليه تبعة فإن الله لم يرسله ليكون مسؤولا عن أعمال الناس ومكلفا بحفظهم من الانحراف والإعراض.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ.. إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [80]
ولقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل من التابعين «1» في صدد الآية
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.(8/171)
الأولى رواية تفيد أن بعض كبار المسلمين وأقويائهم مثل عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بمقابلة أذية المشركين لهم وللمسلمين بالمثل وقالوا له لقد كنّا ونحن مشركون في عزّ ونكون الآن في ذلّ إذا رضينا بما يفعله فينا المشركون ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم لأن الله لم يكن قد أذن بذلك وأمرهم بالصبر والمثابرة على ما كتب الله عليهم من صلاة وزكاة. فلما فرض القتال على المسلمين بعد الهجرة وأذن لهم بقتال أعدائهم وأخذ النبي يدعوهم إلى ذلك ارتاع بعض المستأذنين وبدا منهم ما حكته الآيات. ومن الذين رووا هذه الرواية من روى أن الاستئذان وقع من أصحاب رسول الله الأولين وأن الاعتراض بدا من المنافقين. ومنهم من روى أن الاعتراض وقع حين نزول فرض الجهاد ثم تاب المعترضون وصاروا يستجيبون لدعوة النبي إلى الجهاد بإخلاص باستثناء المنافقين. وهناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآية نزلت في اليهود الذين فعلوا في سابق تاريخهم ما حكته الآيات تحذيرا للمسلمين من أن يصنعوا صنيعهم. وقد رووا «1» في صدد الآية الثانية أن الفقرة الأولى منها نزلت ردا على المنافقين الذين قالوا إنه لو لم يخرج الذين قتلوا في وقعة أحد إلى القتال لما قتلوا وأن الفقرة الثانية منها حكاية لقول اليهود والمنافقين بأن النبي منذ قدم إلى المدينة جلب عليها وعلى أهلها المصائب لما كان من سوء المواسم وقلة الخصب ثم حكاية لقولهم إن نصر بدر كان من تيسير الله وفضله وإن هزيمة أحد كانت بسبب سوء تدبير النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس شيئا من هذه الروايات واردا في الصحاح. والذي يتبادر لنا وتلهمه الآيات مضمونا وروحا أنها وحدة منسجمة لا تتحمل هذا التقطيع والتفاوت في الفترات الذي يفيده تعدد الروايات وتباعد ظروفها وأن الآيات مع سابقاتها ولا حقاتها سياق واحد. وأن ما فيها من حكاية الفزع والارتياع من فرض الجهاد متصلة بالدعوة الواردة في الآيات السابقة. وأن ذلك إنما كان من المنافقين
__________
(1) انظر الشرح السابق.(8/172)
ومرضى القلوب الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وأقوالهم. وأن الآيات استهدفت فيما استهدفته توكيد الحث على الجهاد وتوكيد واجب طاعة النبي وتسليته في هذا الموقف الممض الذي يقفه بعض المتظاهرين بالإسلام من الدعوة إلى الجهاد ومن التبرم به والتشاؤم منه. ولقد روت الروايات أن الحركات الجهادية الأولى بعد الهجرة وقبل وقعة بدر كانت من قبل المهاجرين فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ عهدا من الأنصار بالدفاع عنه ومن أجل هذا استشارهم قبل نشوب القتال في وقعة بدر فكان منهم ذلك الموقف الرائع على ما شرحناه في سياق تفسير آيات البقرة [190- 194 و 215- 218] وفي سياق تفسير سورة الأنفال. وعلى ضوء هذا يمكن القول إن المعنيين في الفقرة الأولى هم أهل المدينة الذين لم يكلفوا في بدء الأمر بحرب وقتال هجومي واكتفى منهم بالدفاع والقيام بواجب الصلاة والزكاة. فلما كتب القتال وقف المنافقون هذا الموقف الذي حكته الآيات فنزلت الآيات تندد بهم. وفي سورة محمد آية تؤيد كون المنافقين هم أصحاب هذا الموقف وهي وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ ... [20- 21] حيث تفيد أن المؤمنين المخلصين كانوا ينتظرون منذ أوائل عهد المدينة أن يأذن الله لهم بالقتال وأن المنافقين وقفوا نفس الموقف الذي حكته الآيات التي نحن في صددها حينما أنزلت آية محكمة فرض فيها القتال أو ذكر فيها القتال وظهر عليهم الفزع الشديد كالذين يغشى عليهم من الموت..
وبناء على هذا نستطيع القول بشيء من الجزم إن ما تفيده الرواية من كون بعض المسلمين الأولين الذين كانوا يستأذنون النبي بمقابلة المشركين على أذاهم وعدوانهم في مكة فلا يؤذن لهم أو بعضهم والذين حكت الروايات ذلك عنهم في سياق تفسير بعض الآيات المكية ومنها آية سورة الجاثية [14] على ما شرحناه في سياقها هم أو بعضهم الذين خافوا واعترضوا حينما كتب الله على المسلمين الجهاد لا يمكن أن يكون صحيحا لا سيما والروايات مجمعة على أن السرايا والحركات الجهادية التي جرت قبل وقعة بدر إنما كانت منهم ومن أمثالهم حالما أذن الله لهم(8/173)
بمقابلة العدوان بمثله وبمقابلة أعدائهم المشركين الذين كانوا يقاتلونهم ويؤذونهم في آيات سورة الحج [39- 41] وسورة البقرة [215] على ما شرحناه في سياق تفسيرها.
ويمكن القول والحالة هذه إن هذه الآيات قد نزلت كذلك مبكرة كسابقاتها.
وربما نزلت بعد وقعة بدر أو وقعة أحد. ولعل هذا من أسباب جعل هذه السورة في ترتيبها المتقدم بعض الشيء. وهذا الفصل مثل آخر مما قلناه في مقدمة السورة من وجود فصول فيها متقدمة في النزول على فصول في سور أخرى متقدمة عليها في الترتيب.
تعليق على جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وعلى جملة ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
ولقد كانت هاتان الجملتان موضوع بحوث كلامية «1» وقد توهم بعضهم أن بينهما تناقضا وقد تصدى المفسر الخازن للتوفيق بينهما فقال إن إضافة كل شيء إلى الله هي على الحقيقة وإن إضافة السيئة للإنسان هي على المجاز لبيان كون ذلك بسبب ذنب اقترفه أو تقصير وقع فيه ومن قبيل وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ في الآية [80] من سورة الشعراء حيث احتوت الجملة حكاية قول إبراهيم الذي نسب المرض وأسبابه لنفسه والشفاء لله تعالى. ولقد تصدى السيد رشيد رضا في تفسيره للمسألة فقال إن فيها حقيقتين الأولى كون الله تعالى خالق الأشياء التي هي مواد المنافع والمضار وواضع النظام والسنن لأسباب الوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان. والثانية كون الإنسان لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه في استبانة الأسباب وتعرف السنن. ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا من سياق الآيات وروحها أنها لا تتحمل حيرة ولا جدلا. ولم تستهدف تقرير أصول كلامية. وأن التقريرات التي احتوتها هي ما اقتضاه سياق الكلام وظروفه. ففي الجملة الأولى
__________
(1) انظر الآيات في تفسير الكشاف للزمخشري وذيله لابن المنير.(8/174)
حكاية لأقوال المنافقين الذين كانوا ينكرون أن ما نالهم من خير هو من بركة هجرة النبي إليهم وينسبونه إلى الله حتى لا يعترفوا بفضل هذه الهجرة وليس عن إيمان صادق. وكانوا في نفس الوقت ينسبون ما يصيبهم من كوارث حربية وغير حربية إلى النبي وهجرته إليهم. فنددت الآية الأولى بأقوالهم وردت عليهم. ثم احتوت الآية الثانية تقريرا توضيحيّا وتعقيبيّا على ذلك. فما يصيب النبي أو الإنسان من خير وتوفيق فهو من فضل الله حيث يكون قد سار وفق توجيهه. وما يصيبه من شرّ فهو من نفسه حيث يكون انحرف عن هذا التوجه. وعلى هذا فلا يكون في الجملتين ما يفيد عدم مسؤولية الإنسان عن عمله وعدم تأثير تقصير الإنسان فيما يقع عليه أحيانا من مصائب ونوائب. وهذه النقطة بخاصة أكثر ما دار حولها الجدل. مع أن في القرآن المكي والمدني تقريرات عديدة صريحة ومحكمة في ذلك. وهي التي ينبغي أن تكون الضابط في ما تحتويه العبارة القرآنية في بعض الآيات من إطلاق وعدم حسم مما تكون اقتضته حكمة التنزيل وسياق الكلام وظروفه على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة.
ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن كلمة حَسَنَةٍ في الجملة الأولى عنت ما كان يناله المقاتلون من غنائم ونصر ورخاء وأن كلمة سَيِّئَةٍ فيما عنت ما كان ينالهم من شظف وهزيمة وجراح. وكانوا يقولون إن ما ينالهم من هذا هو من سوء تدبير النبي ومن ذاك هو من فضل الله ولا أثر للنبي فيه. وأن الآية بسبيل الرد عليهم وتسفيههم. كما روى قولهم أن الجملة الثانية إما أن تكون موجهة للسامع مطلقا أو للنبي صلى الله عليه وسلم لتؤذنه بأن ما يصيبه من خير هو من فضل الله وما يصيبه من شرّ هو عقوبة على ما اجترحت يداه.
وهذا التأويل يدعم ما قلناه من أنه ليس في الآيات تناقض ولا تتحمل في مقامها جدلا مع التنبيه على أن جملة وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تجعل الخطاب للنبي في الجملة الثانية هو الوارد.
وقد جاء في آية آتية بعد هذه الآيات بيان تنديدي بالمنافقين فيه تنبيه على أنه(8/175)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
لو كان القرآن من عند غير الله لكان فيه اختلاف كثير حيث ينطوي في هذا تقرير لكون ما في الآيات لا يمكن أن يتناقض.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية من حيث احتواؤها على صورة من السيرة النبوية في العهد المدني فهي كسابقاتها تحتوي تلقينا عاما مستمر المدى والمدد بوجوب القتال في سبيل الله والإقدام عليه دون حساب للموت المحتوم على جميع الناس. والمحدد الأجل وإسلام الأمور إلى الله عز وجل الذي هو وحده مرجع جميع الأمور ونتائجها. وبتقبيح الصورة التي ترسمها الآيات لمرضى القلوب والتي تظهر في كل ظروف القتال ووجوب اجتنابها أيضا.
والآية الأخيرة جديرة بالتنويه لما فيها من تقرير حاسم لكون طاعة الرسول هي عنوان أو دليل على طاعة الله الذي أرسله حيث ينطوي فيها أولا توكيد سلطان النبي على المسلمين وواجب طاعتهم له مما فتئت الآيات المدنية تكرره. وثانيا تقرير لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربّه. فلا يمكن أن يؤذن الله المسلمين بأن طاعة رسوله عنوان ودليل على طاعته إلّا وهو يعلم أنه معصوم فيما يبلغه عن الله وفيما يأمرهم به بأمر الله وإلهامه. وأنه معصوم عن الأمر بما فيه شرّ وضرر على الإطلاق. وواضح أن طاعة الرسول التي هي عنوان طاعة الله بعد وفاته هي في اتباع ما صحّ عنه من سنن قولية وفعلية على ما شرحناه في مناسبة قريبة سابقة.
[سورة النساء (4) : الآيات 81 الى 82]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
. (1) ويقولون طاعة: ويقولون سمعا وطاعة لما تقول.
(2) فإذا برزوا: فإذا خرجوا.(8/176)
(3) بيّت: نوى في نفسه. وأصل التبييت ما يقرر في الليل من أمور وهجوم العدو على عدوّه ليلا مفاجأة وهو غار في ليله ونومه وبيوته. ومنه جملة أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً في آية سورة يونس [50] .
وفي الآيتين:
(1) إشارة تنطوي على التنديد بالفريق الذي هو موضوع التقريع في الكلام السابق حيث كانوا يقولون سمعا وطاعة لما كان النبي يأمرهم به ثم لا يلبثون حينما يخرجون عنده أن يقرروا فيما بينهم خطة مخالفة لما أبرموه ووافقوا عليه.
(2) وتنديد رباني لهم فالله مراقبهم ومحص عليهم أعمالهم ونياتهم ومجزيهم بما يستحقون.
(3) وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهوين لأمرهم: فلا ينبغي أن يعبأ أو ينزعج من مواقفهم وليجعل اتكاله على الله ونعم هو الوكيل والمعتمد.
(4) وتساؤل إنكاري ينطوي على التقريع لهم والتعجب من أمرهم: فالنبي إنما يتلو عليهم القرآن الذي يوحي به الله إليه. وإنما يأمرهم بالسير بمقتضى أمر الله فيه. ولو تدبروا فيه لما وجدوا فيما يتلوه عليهم ويأمرهم به أي اختلاف وتناقض.
وهذا دليل على أنه من عند الله عز وجل. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا واستمرارا لها. وفيها صورة أخرى من صور مواقف المنافقين الذين هم موضوع الكلام والتنديد في الآيات السابقة. وهي صورة خبيثة ممضة. ولذلك انطوى في الآيتين جواب وتحدّ قويان وتسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وقد تلهم الآية الثانية أن المنافقين كانوا يظنون أن ما كان يأمر به النبي هو من عنده أو أنهم كانوا يشكون فيما يتلو من الفصول القرآنية بسبب ما كانوا يرونه من تنوع الأساليب. وقد نددت الآية بهم لأنهم يظنون أو يشكون بغير نظر وتدبر. وقررت أنهم لو نظروا فيه وتدبروا لما وجدوا أي اختلاف الجزء الثامن من التفسير الحديث 12(8/177)
في حين لو كان من عند غير الله لوجدوا من ذلك الشيء الكثير.
تعليق على الآية أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً
ولقد تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل في صدد الاختلاف الذي كان يمكن أن يجدوه في القرآن لو كان من عند غير الله. من ذلك: الخلط والتناقض فيما هو حق وما هو باطل، وما هو خير وما هو شرّ، وما هو صواب وما هو خطأ. ومن ذلك أنه التفاوت البياني حيث لا يأتي القرآن على وتيرة واحدة أو طبقة واحدة من البلاغة والفصاحة. ومن ذلك أنه التناقض في الأخبار والتقريرات الغيبية والكونية. ومن ذلك أنه التناقض في التحليل والتحريم والحل والإباحة. ومن ذلك أنه التناقض في المبادئ والمقاصد. وأكثر هذه الأقوال معزوة إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم.
ومع أن جميع هذه الأقوال واردة في صدد مدى الآية العام فإن الذي يتبادر لنا ونراه متسقا مع سياق الآيات السابقة- والآيتان جزء من السياق كما قلنا- أن المنافقين اتخذوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفّ الأيدي عن القتال ثم فرضه والدعوة إليه- وهذا ما أشير إليه في بعض الآيات السابقة- حجة للقول بأن النبي متناقض في أوامره ونواهيه. فاحتوت الآية ما احتوته من ردّ وتحدّ على النحو الذي شرحناه بأسلوب قوي التقرير بأن ذلك هو الحقّ الذي لا يتحمل مراء.
ومع أن المتبادر أن ذلك التقرير متصل مباشرة بموضوع الكلام السابق على ما نبهنا عليه فإنّ الردّ والتحدي جاءا بأسلوب عام ومطلق ينطبقان ويشملان كل ما جاء في القرآن المكي والمدني على السواء إذا ما نظر فيه بتدبر وتفكر مرتفعين إلى مستوى سموّ الهدف القرآني ومجردين عن الغرض والتعنت والرغبة في المراء واللعب بالألفاظ والتمحل في المسائل الوسائلية والمتشابهات حيث يجد المتدبر فيه بهذه الروح أن الأسس والمبادئ والأهداف والتقريرات والآيات المحكمات(8/178)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية متساوقة متطابقة تامة الانسجام والأحكام، ليس بينها اختلاف وتناقض. وما قد يراه من تنوع وتبدل لا يعدو أن يكون أسلوبيا وصورا تطورية وخطوات تشريعية اقتضتها ظروف الدعوة وسيرها وظروف المجتمع الذي نزلت فيه لأول مرة واقتضتها كذلك أهداف التدعيم. وليست هذه مع ذلك متناقضة أو جامدة لتكون محل تطبيق في الظرف الذي نزلت فيه فقط، وهي في الوقت نفسه متساوقة مع الأسس والأهداف والمبادئ.
ومن الأمور الهامة في هذا الأمر وجوب اعتبار القرآن كلا متكاملا يوضح بعضه بعضا ويتمم بعضه بعضا ويعطف بعضه على بعض. والناظر فيه إذا استوعب كل ما فيه واجد لكل ما قد يبدو له موهما تفسيرا ولكل ما قد يبدو له ناقصا تتمة ولكل ما قد يثير الحيرة تأويلا ويلمس بالتالي المعجزة الكبرى التي فيها مصداق الآية الكريمة ولقد اهتممنا بهذه المسألة في مناسبات كثيرة مرّت في السور التي سبق تفسيرها ففسرنا بعض الآيات ببعض وعطفنا بعضها على بعض وأتممنا بعضها ببعض فأثبتنا بالنصوص ما قررته الآية. ومن واجب المسلم على كل حال أن يؤمن بالآية. فإذا لم يستطع أن يستوعب القرآن ولم يتبين له تأويل لما قد يتوهمه أو ما يظنه مشكلا في إحدى الآيات فعليه أن يسأل أهل العلم المستوعبين أو يكل الأمر إلى الله تعالى ولا يجوز له أن يظن أن في القرآن اختلافا وتناقضا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة أوردناها في سياق تفسير آية المحكمات والمتشابهات في سورة آل عمران تذكر غضب رسول الله من الجدل في القرآن وتنهى عن ضرب بعضه ببعض وتقرر أن الله إنما أنزله ليصدق بعضه بعضا وتأمر بإيكال ما لم يتبين لناظره الوجه الحق لتأويله وحكمته إلى الله تعالى. حيث ينطوي فيها تلقين نبوي يجب الالتزام به وتأييد لما قررناه آنفا.
[سورة النساء (4) : آية 83]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
.(8/179)
(1) أذاعوا به: أفشوه بين الناس.
(2) الذين يستنبطونه: الذين يستطيعون معرفة الحقيقة فيه. والاستنباط في اللغة استخراج ما في الباطن وأكثر ما كان يطلق على استخراج الماء من جوف الأرض.
في هذه الآية:
(1) تنديد بالمنافقين الذين هم موضوع الكلام في السياق السابق لأنهم كانوا مما يفعلونه حينما يصل إليهم خبر من أخبار الحرب والسياسة وسواء أكان سارّا أو مسيئا ومطمئنا أو مثيرا للخوف أن يذيعوه بين الناس.
(2) وبيان لما كان يوجبه عليهم الإخلاص والطاعة والإيمان وهو إبلاغه لرسول الله ولأولي الأمر منهم والوقوف عند هذا الحدّ حيث ينظر النبي وأولو الأمر في الأمر ويستعينوا بأهل الخبرة في معرفة الحقيقة ويتم التصرف في الأمر وفقا لما تقضي به المصلحة.
(3) وتذكير للمسلمين بفضل الله تعالى ورحمته وعنايته وهدايته. وأنهم لولا ذلك لكان أكثرهم متبعين للشيطان.
تعليق على الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ...
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية.
والمتبادر أنها متصلة سياقا وموضوعا بالآيات السابقة أيضا. وفيها صورة خبيثة ممضة أخرى من مواقف المنافقين. وتوطيد لسلطان النبي صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر والعلم.(8/180)
وتأديب للمسلمين فيما يجب أن يسيروا عليه في مثل هذا الموقف وتقريع للذين يخالفون ذلك.
والمقصد من ذكر أولي الأمر مع الرسول يحتمل أن يكون كما هو المتبادر إيجاب ردّ الأمر إلى أولي الأمر أو الرؤساء في حال غيبة الرسول عنهم أو غيبتهم عنه أو في حالة وجودهم في سرية جهادية حيث كان قواد السرايا يلقبون بالأمراء وبأمراء المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم «1» .
ومع خصوصية الآية الزمنية فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي صدد ما يجب على أفراد المسلمين أم على أولي الأمر منهم: فليس للأفراد أن يقوموا بأعمال منفردة مما هو متصل بشؤون الدولة وأمنها وسلامتها. وعليهم حينما يتصل بعلمهم خبر متعلق بمثل ذلك أن يرفعوه إلى أولي الأمر فيهم. وعلى أولي الأمر أن يوكلوا أمور الدولة ومسائل سلامتها وأمنها إلى الخبراء المختصين أو يستشيروا فيها الخبراء المختصين أو يفعلوا الأمرين معا لأنهم هم القادرون على فهم الأمور واستنباط الحقائق من الوقائع وتحديد ما هو الأفضل والأصلح والأقوم. وقد يتفرع عن هذا أنه ليس للأفراد أن ينفردوا في تنفيذ ما قد يتراءى لهم من أعمال متصلة بشؤون الدولة. فهذا من شأن أولي الأمر والحل والعقد والعلم والخبرة. وعلى الأفراد أن يرفعوا ما يتراءى لهم أن فيه مصلحة إلى هؤلاء وأن يسمعوا ويطيعوا لهم. فإن الانفراد في ذلك مؤدّ إلى الفتنة والفوضى فضلا عن أنه غير مضمون الصواب.
والآية وإن كانت للتنديد بمن يتسرع في إذاعة ما يبلغه من أمر متصل بالأمن والخوف فإنه يتبادر لنا أن تلقينها شامل لكل من يتسرع في الكلام على عواهنه ويندمج في إشاعة الشائعات بغير تثبت وبكثير من الخوض فيما ليس فيه خير ومصلحة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية بعض الأحاديث النبوية التي تنهى عن ذلك حيث يكون هذا المفسر قد استلهم منها ما استلهمناه من التلقين العام. ومما
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 48- 49.(8/181)
أورده حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» «1» وحديث رواه الشيخان عن المغيرة بن شعبة قال «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه: «بئس مطية الرجل زعموا» . وهناك أحاديث أخرى يمكن أن تساق في هذا المساق منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبيّن ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب وفي رواية إنّ العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار» «2» وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» «3» وحديث رواه الترمذي والحاكم وأحمد عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «4» .
وفي الأحاديث تلقين وتأديب نبويان رائعان استلهمناهما من الآية من الشمول والله أعلم.
وكما أوّل بعض المفسرين جملة وَأُولِي الْأَمْرِ في الآية [59] من هذه السورة بعلماء الدين وفقهائه أوّلوا الجملة هنا بذلك أيضا. وقالوا إن على الأفراد أن يردوا كل أمر من أمور الدين إليهم ويسيروا وفق ما يستنبطونه من قواعد وأحكام «5» . ولقد علقنا على ذلك ورجحنا أن المقصود بأولي الأمر هم أولو الأمر السياسيون والعسكريون في الدرجة الأولى.
والعبارة القرآنية هنا أكثر صراحة ودلالة على كون المقصود بأولي الأمر هم
__________
(1) التاج ج 5 ص 42.
(2) المصدر نفسه ص 183.
(3) المصدر نفسه ص 186.
(4) المصدر نفسه ص 186.
(5) انظر تفسير الآية في المنار حيث عزي القول إلى الرازي وردّ السيد رشيد رضا عليه ردا قويا محكما.(8/182)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
أصحاب الحكم والسلطان والقيادة لأن الأمر الذي يجب على الناس ردّه إليهم هو مسائل الأمن والخوف وبعبارة ثانية مسائل الحرب والسياسة.
على أن محتوى الآية يمكن أن يكون موضع قياس من حيث إيجاب ردّ كل شيء إلى أولي العلم والخبرة والشأن فيه والسير فيه وفق ما يستنبطونه من مآخذه القرآنية والنبوية والأمثلة والعرف والمصلحة وحيث يدخل في ذلك الشؤون الفقهية والشؤون الاجتماعية والسياسية والحربية.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن ذلك منوط بقدرة هؤلاء على الاستنباط علما وعقلا وخبرة وأنه شامل لكل ظرف ودور.
ولقد روى الطبري أقوالا عديدة في مدى جملة إِلَّا قَلِيلًا منها أنهم أكابر أصحاب رسول الله. ومنها أنهم القادرون على الاستنباط ومعرفة الحقائق منهم.
ومنها أنهم الذين لا يذيعون ما يصل إليهم ويرفعونه إلى الرسول وأولي الأمر والعلم.
وجميع هذه الأقوال واردة. مع القول إن روح العبارة تسوغ القول بأنها هدفت إلى تحذير الجمهور من التصرف الفردي الاعتباطي ورفعها إلى القادرين على التصرف فيها وهم عادة الأقل. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
. الخطاب في الآية موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتضمن:
(1) تقرير ما يجب عليه: فعليه أن يقاتل في سبيل الله. وهو في هذا الأمر مسؤول عن نفسه غير ملزم بإجبار غيره. وعليه كذلك أن يحرّض المؤمنين على القتال.
(2) وتأميلا للنبي والمؤمنين فعسى الله إذا ما وقفوا من الأعداء موقف الاستعداد والجهاد والتضامن أن يكفّ عنهم بأسهم وضررهم ويعينهم. وهو القادر على ذلك لأنه الأشدّ بأسا والأشدّ تنكيلا.(8/183)
تعليق على الآية فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ومسألة الإجبار على الجهاد والجندية
وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة دعوة النبي المسلمين إلى الخروج إلى موعد أبي سفيان الذي واعده بعد وقعة أحد من سنتها القابلة، حيث تثاقل الناس. فأعلن النبي بناء على هذه الآية أنه ذاهب إلى الموعد ولو بنفسه فانضمّ إليه من أصحابه سبعون ووصلوا المكان المتفق عليه وهو بدر فلم يجدوا أعداءهم لأن أبا سفيان أخلف الوعد بحجة الجدب «1» .
والرواية لم ترد في كتب الصحاح. ولم يروها الطبري. ولكنّا نرى صحتها محتملة بل إنه يرد على الخاطر أن السياق السابق منذ الآية [71] قد نزل والله أعلم في هذه المناسبة. فمن المحتمل أن يكون فريق من المسلمين المستجدين أو الذين في قلوبهم مرض ولم يرسخ إيمانهم قد ترددوا في الاستجابة إلى دعوة النبي إلى الخروج للقاء المشركين القرشيين بناء على موعد أبي سفيان وتذمروا بعد أن وقع عليهم ما وقع من هزيمة وخسائر في وقعة أحد فنزلت الآيات منددة مذكرة منذرة واعظة ثم جاءت الأخيرة التي نحن في صددها لحسم الموقف فأوجبت على النبي القتال بنفسه على كل حال وأعفته من المسئولية عن غيره والاكتفاء بتحريض المسلمين على القتال.
وفي الآية ثم في الآيات السابقة لها من الآية [70] وما بعد صورة لما كان عليه الحال حين نزولها في أمر الجهاد كما هو المتبادر. حيث كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوطد توطيدا يجعله قادرا على التجنيد الإجباري إن صح التعبير. وقد استمر هذا طيلة حياته أيضا على ما تفيده آيات عديدة منها فصل طويل في سورة التوبة، نزل في مناسبة غزوة تبوك التي كانت في السنة التاسعة للهجرة. ولعل ذلك متصل بحياة العرب الاجتماعية والمعاشية. غير أن المنافقين وبعض المسلمين في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الخازن والطبرسي وانظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 100- 102.(8/184)
المدينة والبادية كانوا يقفون نتيجة لذلك مواقف سلبية من دعوة النبي إلى الجهاد ويتثاقلون ويترددون فكان ذلك مما يؤلم النبي ويحزنه ويثيره وقد نزل في ذلك آيات قوية منددة منذرة، ومن أقوى ما نزل في هذا الباب آيات التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) وآيات سورة الصف هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) .
وفي الآية معنى قوي حيث تأمر النبي بقتال من يجب قتاله في سبيل الله ولو كان وحده. لأن عليه أن يقوم بهذا الواجب على كل حال. والفرق بين هذه الآية والآية [74] هو أن الآية [74] هتفت بكل من يشري الحياة الدنيا بالآخرة أن يقاتل ويدخل في الهتاف النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وجماعات المسلمين وأفرادهم بعده في حين أن هذه الآية توجب ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم شخصيا ولو كان لوحده ولقد قال بعضهم «1» إن الله لم يأمره بذلك إلّا لما عرف من شجاعته وقدرته على مواجهة أعدائه مهما كثروا. ويتبادر لنا أن ما ذكرناه هو الأكثر وجاهة وورودا. وفي الآية [74] دعم لذلك حيث تأمر كل مسلم ولو كان فردا بالقيام بهذا الواجب.
ولقد أورد ابن كثير «2» حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال «سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. قال لا. لقد قال الله تعالى لنبيه فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ» . والحديث ليس من الصحاح، ولكن صحته محتملة. وهو تفسير لأحد كبار أصحاب رسول الله للآية متطابق مع مداها نصا
__________
(1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الخازن ورشيد رضا.
(2) أورد ابن كثير صيغة أخرى مقاربة برواية للإمام أحمد أيضا.(8/185)
وروحا وفي النطاق الذي تبادر لنا أنه الأوجه والله تعالى أعلم.
ونستطرد إلى القول إنه ليس في هذا- فيما نعتقد- ما يمنع السلطان في الإسلام على إجبار القادرين من المسلمين على التجنيد والقتال ضدّ البغي والعدوان إذا قدر على ذلك. فالجهاد فرض من فروض الإسلام كالزكاة. وكونه فرض كفاية لا يضعف من فرضيته. ولقد ظلت أساليب الدعوة إلى أداء الزكاة هي الأخرى في نطاق الترغيب والترهيب والتشويق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان هذا هو المتسق مع الحياة الاجتماعية والمعاشية القائمة، ثم صار السلطان الإسلامي آمرا مجبرا عليها وصار هذا الإجبار نظاما محكما من أنظمة الدولة في عهد أبي بكر ومن بعده حتى إن أبا بكر قاتل الممتنعين عن أداء الزكاة واعتبرهم مرتدين عن الإسلام. فليس ما يمنع أن يقاس الجهاد على الزكاة وأن يكون للسلطان الإسلامي حق إجبار القادرين عليه في نطاق ما تتطلبه المصلحة من ضمان سلامة المسلمين وكيانهم وحريتهم ودفع الأذى والبغي عنهم. وفي سورة التوبة آية تأمر بالمناوبة في النفرة إلى الجهاد وتجعل ذلك كفرض على مختلف فئات المسلمين وهي هذه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا، ومع خصوصية الآية الزمنية من حيث صلتها بالسيرة النبوية وبشخص النبي الكريم فإنّ فيها تلقينا جليلا شاملا وهو أن على كل مسلم أن يعتبر نفسه مخاطبا بالآية لأن له الأسوة الحسنة برسول الله. وأن على كل مسلم حينما يدعو داعي القتال في سبيل الله والقيام بواجب من الواجبات التي تتصل بمصلحة المسلمين العامة وأمنهم وسلامتهم أن يسارع إلى ذلك ويقدم عليه دون أن يعتذر بغيره أو يبالي بكثرة عدوه وصعوبة العمل المدعو إليه. وأن هذا مما يجب كذلك ومن باب أولى على أولي الأمر وأصحاب الشأن في المسلمين مع واجب آخر هو أن يكونوا في الطليعة في الإقدام على القيام بذلك الواجب ليكونوا الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة لغيرهم.(8/186)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
ولقد ضرب الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه المثل العظيم في ذلك بعد رسول الله حينما نشبت حركة الردة، واتسع نطاقها حيث أبى أن يتراجع أو يتساهل حينما طلب إليه بعض كبار أصحابه ذلك بسبب الظروف الصعبة وخوفا من تفاقم الخطب فقال قولته الشهيرة بأنه لو لم يبق إلّا وحده لقاتلهم «1» .
[سورة النساء (4) : آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
. (1) من يشفع: قيل في تأويلها في مقامها إنها من شفاعة الناس بعضهم ببعض أو بعضهم لبعض وقيل إنها بمعنى التأييد والمساندة والموالاة. ولعل هذا المعنى أكثر ورودا في مقامها مع سياق الآيات.
(2) كفل: هنا بمعنى نصيب أو قسم أو تبعة.
(3) مقيتا: قادرا أو مراقبا أو حسيبا.
في الآية تقرير عام يتضمن كون الذي يدعو إلى الخير ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه الحسنة. وكون الذي يدعو إلى شرّ ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه السيئة والله قادر على كل شيء مجز كلا بما يستحق.
تعليق على الآية مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ... إلخ
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآية. ولكنهم رووا عن بعض التابعين أنها نزلت في شفاعات الناس في بعضهم أو لبعضهم «2» . وقد صرف
__________
(1) انظر تاريخ الطبري ج 2 ص 476 وبعدها. [.....]
(2) انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.(8/187)
الطبري الشفاعة الحسنة إلى الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ضد الكفار الأعداء، والشفاعة السيئة إلى موالاة الكفار ضد المسلمين. والذي يتبادر لنا أن الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة. وأن القصد من الشفاعة الحسنة هو الدعوة إلى الجهاد وتعضيده والإقدام عليه، ومن الشفاعة السيئة التثبيط عنه والمعارضة فيه.
وهذا وذاك كان من متناول الآيات السابقة تنويها وتنديدا. ويأتي بعد الآية التالية لهذه الآية آيات فيها حملة وتحريض على المنافقين موضوع الكلام السابق حيث يؤيد هذا ما قلناه من صلة الآية بالسياق السابق وكونها استمرارا له.
ولقد رأينا رشيد رضا يذكر وجها آخر لتأويل الآية وهو أن من المحتمل أن يكون بعضهم اعتذر عن المنافقين الذين يقفون من الدعوة إلى الجهاد موقف المثبط والمتثاقل. أو يكون بعضهم تشفعوا فيهم فنزلت الآية لتنبههم إلى أن لكل صاحب شفاعة نصيبا من مدى شفاعته. من يشفع في مقام فيه خير ومصلحة يكن مصيبا وله الحسنى. ومن يشفع في مقام فيه شرّ وضرر لمصلحة المسلمين يكن مخطئا وعليه وزر ذلك. ولا يخلو هذا من وجاهة. وهو متصل بمدى الآية وشرحنا لها. ويجعل الاتصال بينها وبين ما قبلها قائما أيضا.
وينطوي في الآية تلقين مستمر المدى بتجنيد كل دعوة إلى الخير والسعي فيه وتقبيح كل دعوة إلى الضرر والسعي فيه، وتبشير لفاعلي الخير والساعين فيه والداعين إليه وإنذار لفاعلي الضرر والساعين فيه والداعين إليه.
ولقد اعتبر المفسرون الآية كما قلنا في صدد الشفاعة أي الوساطة بين الناس في قضاء مصالحهم وتجنيبهم ضرر بعضهم. والعبارة القرآنية بإطلاقها تتحمل هذا أيضا. ولقد أوردوا في سياق ذلك حديثا نبويا فيه حثّ على الشفاعة بين الناس جاء فيه عن أبي موسى قال «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فأقبل علينا بوجهه وقال:
اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» «1» .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الخازن وابن كثير وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي بزيادة مهمة وهذا هو نصه «عن أبي موسى عن النبي قال المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ثم شبك بين أصابعه، وكان جالسا إذ جاء رجل يسأل، أو صاحب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال: اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء» انظر التاج ج 5 ص 49- 50.(8/188)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
[سورة النساء (4) : آية 86]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
. في الآية خطاب موجّه للمسلمين فيه تنبيه على أنهم إذا ما حيّاهم أحد بتحية فواجبهم أن يجيبوا عليها بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وأن الله محص على الناس أعمالهم ومحاسبهم عليها.
تعليق على الآية وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ... إلخ
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية.
وكلام المفسرين فيها كلام عن آية مستقلة فيها تأديب وتعليم للمسلمين في صدد السلام. والذي يتبادر لنا أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة كسابقاتها اتصال تعقيب وعظة وتأديب وتمثيل. فالمسلمون قد دعوا إلى الجهاد وهي دعوة إلى الخير. والمنافقون يقفون من هذه الدعوة موقف المعارضة والتثبيط. وواجب المسلمين الإجابة على الدعوة وأن لا يقصروا في ذلك أو يثبطوا عنها كما هو الأمر في حالة ما إذا حيّوا بتحية. حيث يجب عليهم أن يقابلوها بما هو أحسن منها أو بمثلها.
والآية بحدّ ذاتها فصل تام المعنى تحتوي تلقينا تأديبيا رفيعا للمسلمين في كل ظرف بوجوب مقابلة التحية بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وروحها تلهم أن التلقين التأديبي شامل للتحية أو الكلمة الطيبة أو الدعوة الطيبة أو العمل الطيب على السواء. وتوجب على المسلم حسن المقابلة على أي قول وعمل فيه خير وأدب وعطف وبرّ ونفع.(8/189)
وإطلاق الجملة القرآنية، وصيغة المجهول في جملة وَإِذا حُيِّيتُمْ تسوغان القول إن الأمر فيها عام يشمل كل فئة من الناس بقطع النظر عن الجنس والدين والعمر.
ولقد روى المفسرون أحاديث نبوية عديدة في السلام وآدابه، ومنها ما رواه أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة. وفيها تأييد للشمول الذي ذكرناه آنفا.
من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. أفلا أدلّكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» «1» ، وحديث عن أبي هريرة رواه الترمذي «قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام» «2» وحديث عن أبي هريرة رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن النبي «يسلّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» وحديث عن أنس رواه الترمذي قال «قال لي النبيّ: يا بني إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك» «3» وحديث عن سيار رواه الخمسة قال «كنت أمشي مع ثابت البناني فمرّ بصبيان فسلّم عليهم وقال كنت أمشي مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم، وحدّث أنس أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم» «4» وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أنس جاء فيه «انتهى إلينا رسول الله وأنا غلام في الغلمان فسلّم علينا» «5» وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت زيد قالت «مرّ علينا النبي في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم» »
وحديث رواه البخاري والترمذي عن أسامة بن زيد جاء
__________
(1) التاج ج 5 ص 223.
(2) المصدر نفسه ص 222- 228.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(8/190)
فيه «إن النبيّ مرّ بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلّم عليهم» «1» وحديث رواه أبو داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم» «2» وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة قال «قال النبي إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلّم فليست الأولى بأحقّ من الآخرة» «3» وحديث رواه الترمذي عن أبي جريّ أن النبي قال «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله» «4» وحديث عن جابر أن النبي قال «السلام قبل الكلام» «5» وعنه قال «لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلّم» . وكلا الحديثين رواهما الترمذي بسند واحد.
وحديث رواه الترمذي وأبو داود جاء فيه «قيل يا رسول الله: الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال أولاهما بالله» «6» . ولقد أثر عن ابن عباس أنه قال «من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا» «7» .
وجمهور العلماء متفقون على أن البدء بالسلام سنة مستحبة والردّ عليه واجب والممتنع عن الردّ آثم «8» . وهذا متسق مع روح الآية ومضمونها.
ولقد روى مسلم وأبو داود حديثا جاء فيه «إنّ بعض أصحاب رسول الله قالوا له إنّ أهل الكتاب يسلّمون علينا فكيف نردّ عليهم فقال: قولوا وعليكم» «9» . ومع هذا الحديث أحاديث مفسّرة ومعلّلة منها حديث عن ابن عمر عن النبي رواه البخاري ومسلم وأبو داود جاء فيه «إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام
__________
(1) التاج ج 5 ص 222- 228.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) انظر تفسير الخازن وابن كثير. [.....]
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه.
(9) انظر التاج ج 5 ص 227.(8/191)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
عليك فقولوا وعليك» «1» ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليك، ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله، مهلا يا عائشة فإنّ الله يحبّ الرفق في الأمر كله.
فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟! قال فقد قلت وعليكم» وفي رواية لمسلم «فسمعت عائشة فسبّتهم فقال رسول الله: مه يا عائشة فإنّ الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش» «2» . وواضح من هذا أن التعليم النبوي متصل بما كان من مواقف اليهود الكيدية والعدائية والمؤذية، بحيث يسوغ القول إنه ليس من شأنه أن يمنع المسلم من ردّ التحية على غير المسلم بأحسن منها أو بمثلها إذا كانت بريئة من الكيد واللمز صادرة عن رغبة المسالمة والموادة عملا بنصّ الآية وبنص آية سورة الممتحنة هذه لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) بل وليس من شأنه أن يمنع المسلم من التسليم على جماعة من أهل الكتاب أو فيهم أهل كتاب استنادا إلى الحديث الذي رواه البخاري والترمذي الذي أوردناه آنفا. والله أعلم.
ويلحظ أن بعض الأحاديث لا تقتصر في تلقينها على التساوق مع الآية في إيجاب ردّ التحية بالأحسن أو بالمثل بل احتوت تأديبا ببدء الغير بالتحية أيضا.
وليس في هذا تناقض مع الآية وإنما هو توضيح وتتمة نبويان واجب الالتزام بهما أيضا.
ولقد علقنا في سورة الزخرف على موضوع السلام في القرآن والحديث ومداه فننبّه على ذلك في هذه المناسبة.
[سورة النساء (4) : آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) .
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 227. وقد فسّر الشراح كلمة السام بالموت.
(2) انظر المصدر نفسه.(8/192)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
في الآية خطاب موجّه إلى السامعين يؤكد لهم بأن الله تعالى جامعهم إلى يوم القيامة وأن هذا أمر حتم لا يحتمل أي شكّ. فالله متنزه عن الإخلاف بوعده ووعيده ولا يمكن أن يقول إلّا صدقا.
ولم يرو المفسرون كذلك في ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآية. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق اتصالا تعقيبيا كسابقاتها. فقد احتوت الآيات السابقة وعدا ووعيدا وتقرير كون الله تعالى حسيبا وقادرا على كل شيء ومحصيا أعمال الناس ومجزيا عليها بما تستحق فجاءت هذه الآية لتؤكد هذا بتوكيد جمع الناس إلى القيامة الذي يكون فيه الحساب والجزاء.
[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 89]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89)
. (1) أركسهم: أخزاهم وردّهم وأهلكهم.
(2) من أضلّ الله: في بعض الأقوال أنها هنا في معنى من خذله الله وأخزاه وأشقاه. وعلى كل حال فجملة بِما كَسَبُوا تجعل جملة مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من باب وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ
[البقرة: 26] .
في هاتين الآيتين:
(1) سؤال موجّه إلى المؤمنين على سبيل الإنكار والتعجب عن سبب انقسامهم فرقتين في أمر المنافقين في حين أن أمرهم لا يتحمل ذلك لأن ما بدا منهم من نفاق ومواقف أظهر حالتهم التي ارتدوا بها إلى الكفر واستحقوا بها خزي الله وخذلانه وإضلاله.
(2) وسؤال استنكاري عما إذا كان المؤمنون يريدون أو يظنون أنهم الجزء الثامن من التفسير الحديث 13(8/193)
يستطيعون أن يهدوا من أضلّه الله وأخزاه في حين أن من يخذله الله ويخزيه لن يكون له سبيل للخلاص من خزيه وخذلانه.
(3) وتقرير لواقع نية المنافقين نحو المؤمنين. فهم يودون أن يكفروا كما كفروا ويرتكسوا في الخزي والضلال والكفر كما ارتكسوا حتى يكونوا وإياهم سواء.
(4) ونهي للمؤمنين عن اتخاذ أولياء ونصراء منهم إلّا إذا هاجروا في سبيل الله وأخلصوا وقاموا بما عليهم من واجبات.
(5) وإهدار لدمائهم إذا لم يرجعوا عن غيّهم ولم يتعظوا من هذا الإنذار حيث يجب على المسلمين في هذه الحالة أن يقتلوهم حيث وجدوهم وأن لا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا في أي حال.
تعليق على الآية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ إلخ والآية التالية لها
وقد روى المفسرون «1» في سبب نزول هذه الآيات ثلاث روايات: منها أنها نزلت بحق أناس أسلموا وهاجروا إلى المدينة ثم احتالوا ولحقوا بدار الكفر زاعمين أنهم استوبؤوا المدينة واستثقلوا المقام فيها. ومنها أنها بحق أناس أسلموا ولم يهاجروا إلى المدينة مع قدرتهم على الهجرة. ومنها أنها بحق منافقي المدينة الذين خذلوا المسلمين في وقعة أحد حيث اختلف المخلصون في أمرهم فقالت فرقة بقتلهم وقالت فرقة بعدم قتلهم. والروايتان الأوليان لم تردا في الصحاح وقد ورد في معنى الرواية الثالثة حديث رواه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت جاء فيه «رجع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أحد. وكان الناس فيهم فرقتين. فريق يقول اقتلهم وفريق يقول لا فنزلت فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» «2» .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن.
(2) التاج ج 4 ص 93..(8/194)
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لمعنى جملة حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ منها «1» أنها بمعنى الهجرة والانتقال إل المدينة والالتحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أنها تعني طاعة الله ورسوله والإخلاص لهما. والتضامن مع النبي والمسلمين. وروح الآية تتحمل هذه التأويلات. غير أن ظروف السيرة النبوية وانصباب الكلام والتنديد على المنافقين يجعل المعنى الأخير هو الأكثر ورودا، والله أعلم.
وبدء الآيات بحرف الفاء الذي فيه معنى التعقيب على ما سبق وذكر مواقف التثبيط والتبطيء والمراوغة والاعتراض على القتال في السياق السابق يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة. وأصحاب تلك المواقف هم منافقو المدينة بحيث يمكن أن يكون في هذا تأييد لحديث زيد. غير أننا مع ذلك نتوقف أن تكون الآيات نزلت في أمر وقعة أحد لأننا لا نرى مناسبة لذلك في هذا السياق. وقد ورد تفصيل ما جرى في هذه الوقعة في سورة آل عمران وندد فيها بالمنافقين تنديدا شديدا. ونرجح أنها في صدد مواقفهم المحكية في السياق السابق، وإن في الحديث التباسا أو تطبيقا والله أعلم.
ولقد رأينا القاسمي يستشكل أن يكون المقصودون منافقي المدينة من ناحية أنهم كانوا بين المسلمين فلا يكون محل للقول فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ولسنا نرى إشكالا ونرى أن العبارة يمكن أن تصدق على منافقي المدينة ولا سيما إذا أخذ بتأويل جملة حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمعنى حتى يطيعوا الله ورسوله ويتضامنوا مع المسلمين. والله تعالى أعلم.
لقد جاءت الآيات حاسمة لاختلاف المسلمين في منافقي المدينة حيث أمرتهم إذا ظلوا على موقفهم وإعراضهم عن الجهاد في سبيل الله والإخلاص في طاعة الله ورسوله بأن يقتلوهم حيث وجدوهم ولا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا.
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة.(8/195)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
وهذه هي المرة الثانية التي يأمر القرآن المسلمين فيها بقتل المنافقين حيث وجدوهم. والمرة الأولى جاءت في آية سورة الأحزاب [60] باختلاف في الشرط والتعبير حيث ذكر في آية الأحزاب جملة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ... وذكر في هذه الآيات جملة فَإِنْ تَوَلَّوْا....
ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق آية الأحزاب بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة.
هذا، ولقد انطوى في الآيات تلقين جليل المدى بتحريم كل من يدعي الإسلام ثم لا يتضامن مع المسلمين في الأزمات والمواقف العصيبة التي تلمّ بهم ولا يقيم البرهان بذلك على صحة إسلامه وإخلاصه بل ويرتكس في الخزي أكثر فيودّ أن يكون المسلمون مثله في التخاذل. وهذه الصورة تظهر في كل ظرف ومكان في الأزمات والمواقف العصيبة والنضالية. وقد أمرت الآيات هنا وهناك بوجوب الوقوف منهم موقف الشدة والمطاردة والتنكيل. فضلا عن عدم التناصر والتضامن والتسامح معهم.
[سورة النساء (4) : آية 90]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
. (1) حصرت صدورهم: بمعنى ضاق عليهم الأمر أو تضايقوا من قتالكم أو قتال قومهم.
(2) السلم: بمعنى الانقياد أو المسالمة.
في الآية استدراك استثنائي من حكم الآيتين السابقتين لمن ينتسبون إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق سلم ولمن جاءوا إلى المسلمين يعتذرون عن قتالهم(8/196)
وقتال قومهم ويعلنون لهم أنهم لا يريدون أن يقاتلوهم مع قومهم ولا يريدون أن يقاتلوا قومهم معهم. فهؤلاء وأولئك إذا وقفوا فعلا موقف الكافّ عن قتال المسلمين وأظهروا لهم المسالمة الصادقة فليس للمسلمين عليهم سبيل لعداء وقتال. وجملة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ جاءت معترضة لبيان فضل الله على المسلمين بإلهام هؤلاء المسالمة وتعليل أو تدعيم عدم جعل الله للمسلمين عليهم سبيلا.
تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ... إلخ وحكم علاقة المسالمين بالمسلمين
وقد روى المفسرون «1» أن المعني بالفريق الأول إما هو هلال بن عويمر السلمي الذي واثق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه على أن لا يحيف على من أتاه منهم ولا يحيفون على من أتاهم منه، وإما سراقة بن مالك المدلجي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ منه ميثاقا بأن لا يغزو قومه فإن أسلمت قريش أسلموا لأنهم كانوا في عقد مع قريش. ورووا أن المعنّى بالفريق الثاني هم قبيلة أشجع التي قدم منها إلى المدينة نحو سبعمائة فحلوا في ضواحيها فأرسل النبي إليهم أحمالا من التمر ضيافة ثم سألهم ما الذي جاء بكم قالوا قرب دارنا منك وكراهيتنا حربك وحرب قومنا يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد فجئنا لنوادعك فقبل النبي ووادعهم.
وإلى هذه الروايات رووا أيضا أن الآية في صدد بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش وبني خزاعة الذين دخلوا في عهد النبي- وهما قبيلتان في ناحية مكة متعاديتان- حينما عقد النبي مع قريش الصلح المعروف بصلح الحديبية حيث خيروا القبيلتين فاختار بنو بكر أن يكونوا مع قريش واختار بنو خزاعة أن يكونوا مع النبي. فصار بين بني خزاعة وبين النبي والمسلمين ميثاق وصار بنو بكر يصلون إلى قريش الذين صار بينهم وبين النبي والمسلمين ميثاق. وليس شيء من هذه
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.(8/197)
الروايات واردا في الصحاح. والآية متصلة بالآيات السابقة وقد رجحنا نزول هذه الآيات في وقت مبكر. ولهذا فإننا نستبعد احتمال كون الآية في صدد بني بكر وبني خزاعة لأن صلح الحديبية كان متأخرا نوعا أي في السنة الهجرية السادسة. وروح الآية تلهم أن الاستثناء عائد إلى أناس معاهدين وإلى أناس يريدون الموادعة والوقوف موقف الحياد. وهذا وذاك ينطبقان على الروايات الأولى والثانية أكثر.
غير أن الذي يشكل علينا في الآية هو ما إذا كان المستثنون فيها ممن يدعي الإسلام أو ممن يصح عليه نعت المنافقين أو من الكفار. فصيغة الاستثناء تفيد أن المستثنين من نوع الفريق الذي هو موضوع الحديث في الآيات السابقة وهم المنافقون أو الذين اعتبروا كذلك لأنهم لم يقيموا الدليل على إيمانهم بالتضامن والقتال مع المسلمين والإخلاص في الطاعة لله ولرسوله. غير أن فحوى الآية يحتمل كثيرا معنى كون المستثنين غير مسلمين. فالمعاهدون والذين تنقبض صدورهم عن قتال المسلمين والذين لو شاء الله لسلطهم على المسلمين فقاتلوهم لا يكونون مسلمين بطبيعة الحال. وتعبير أَوْ جاؤُكُمْ مما يزيد الإشكال أيضا.
فإنه قد يفيد أن يكونوا جاءوا مسلمين وأرادوا أن يقفوا في قتال المسلمين مع قومهم موقف الحياد. كما يفيد أنهم جاءوا معتذرين معلنين حيادهم. وفحوى الآية يفيد أن حكمة التنزيل تعذرهم على هذا الموقف. ولم يشف صدرنا ما اطلعنا عليه من أقوال المفسرين في هذا الصدد.
على أننا مع كل هذا نرى النفس تطمئن إلى ترجيح كون الفريقين موضوع الحديث غير مسلمين. وهو ما تفيده الروايات أيضا. ولعل الاستثناء عائد إلى الفقرة الأخيرة من الآية السابقة التي تنهى عن الأمر بالقتل. وإذا صحّ هذا كما نرجو، تكون الآية استطرادية ويزول الإشكال.
ومهما يكن من أمر فالآية تنهى المسلمين عن قتال وقتل من ينتسب إلى معاهديهم، أو من يدخل في عهد معاهديهم، أو من يقف منهم موقف الحياد والسلم ولو كان منتسبا إلى قوم محاربين للمسلمين. وهكذا تكون قد احتوت(8/198)
تنظيما للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين. ووصفا لثلاث فئات من غير المسلمين وهي:
(1) المعاهدون. (2) ومن يدخل في جوارهم وميثاقهم. (3) والحياديون الذين يعلنون موقفا مسالما نحو المسلمين ويعتزلون قتالهم مع قومهم المحاربين للمسلمين. وقد قررت أنه ليس للمسلمين أن يقاتلوا أية فئة من هذه الفئات. وفي هذا من الحكمة ما يظل في أعلى مرتبة من أصول تنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين على مدى الدهر. ويقوم على أسمى أسس الحق والعدل والإنصاف.
ولقد روى المفسرون «1» أن هذه الآية قد نسخت بآية في سورة التوبة تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا عن الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهي الآية [5] ونصّها فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ والآيات التي جاءت قبل آية سورة التوبة هذه وبعدها تستثني الذين بينهم وبين المسلمين عهد وتأمر بإتمام عهدهم إلى مدته بالنسبة لمن بينهم وبين المسلمين مدة محددة وبالاستقامة معهم على العهد ما استقاموا لمن لم يكن بينهم مدة محددة. وبالتالي تجعل القول بنسخها وبخاصة بالنسبة للمعاهدين غريبا بل في غير محله. وقد لا حظ ذلك بعضهم «2» وتساءل تساؤل المستنكر عما إذا كان يصح أن تكون منسوخة بشأن المعاهدين لأن ذلك يعني نقضا للعهد. وهي ملاحظة حق.
ولقد علقنا على هذه المسألة بما فيه الكفاية في مناسبات سابقة «3» . وإن كان
__________
(1) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي. ويعزو المفسرون الأقوال إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم.
(2) انظر تفسير الخازن.
(3) انظر تفسيرنا لسورة (الكافرون) ولآيات البقرة [190- 194] .(8/199)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو كون ما تقدم هنا وفي المناسبات السابقة يسوغ التوكيد بمحكمية الآية. وهناك آثار نبوية وراشدية يستند إليها أئمة الفقه في إيجاب الدية على قاتل الذمي خطأ وفي إيجاب الدية المغلظة أي المضاعفة في قول وإيجاب القصاص في قول على قاتل الذمي عمدا «1» . وفي هذا توكيد بمحكمية حكم الآية. وتعبير الذمي مرادف للمعاهد. والتسمية آتية من كون المعاهدين يعطون العهد على ذمة الله ورسوله والمؤمنين أي كفالتهم وضمانهم. ولقد روى البخاري والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» «2» حيث ينطوي في هذا توثيق لما قررناه. وليس في الآثار ما يمنع أن يقاس على هذا المسالم والحيادي بحيث يصح أن يقال إن حكم الآية شامل للمعاهدين والمسالمين والحياديين والله أعلم.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن حكم الآية ينطبق على الفئات الثلاث المستثناة سواء أكانوا أفرادا أم جماعة. فلا يجوز قتال أحد منهم ولا قتله. وهذا مثلهم من الآية بالإضافة إلى أنه المتسق مع المبدأ القرآني العام وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] .
[سورة النساء (4) : آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
. في هذه الآية إشارة إلى فريق آخر ينتسبون إلى قوم أعداء للمسلمين يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين وجانب قومهم معا. ولكنهم مذبذبون لا يستقرون على
__________
(1) انظر تفسير الآية التي نحن في صددها والآية [92] من سورة النساء في تفسير الخازن والطبرسي وانظر التاج ج 3 ص 9- 10.
(2) انظر التاج ج 3 ص 6. [.....](8/200)
حال ولا يمتنعون من الانسياق مع الفتنة إذا واجهوها. فهؤلاء لا يصحّ الاطمئنان بدعواهم الحياد وبتظاهرهم بالمودة إلّا إذا أقاموا الدليل على ذلك فعلا باعتزال المسلمين وإعلان المسالمة لهم بصراحة وكفّ أيديهم عنهم بصدق وإخلاص. فإذا لم يفعلوا هذا فحكمهم حكم قومهم. وللمسلمين أن يقاتلوهم ويقتلوهم أنّى وجدوهم. وقد جعل الله لهم عليهم الحجة البالغة.
تعليق على الآية سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ... إلخ وحكم المذبذبين في علاقاتهم بالمسلمين
وقد روى المفسرون أن الفريق المعني في الآية هو بعض جماعات من قبيلتي أسد وغطفان حيث كانوا يأتون إلى المدينة فيتظاهرون بالإسلام والولاء ليأمنوا المسلمين، فإذا ما رجعوا إلى قومهم أظهروا الشرك والعداء للمسلمين مثلهم بحجة أنهم يريدون بذلك أن يأمنوا قومهم وهناك روايات تذكر أنهم جماعة من قريش أو من قبائل أخرى كانوا يفعلون ذلك «1» .
والروايات لم ترد في الصحاح وفحوى الآية وروحها يسوغان القول إنها متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا. وهذا لا يمنع صحة ما روي في الروايات وأن يكون الوصف الذي وصفت به الفريق الموصوف فيها متحققا في جماعة من أسد وغطفان أو جماعة من مشركي قريش أو غيرهم فكان ذلك مناسبة لنزولها محتوية للحكم التشريعي في حق هذه الفئة لتتم بذلك السلسلة التشريعية في حق المنافقين والمعاهدين والمسالمين والمذبذبين.
والحجة التي يقوم عليها الحكم في الآية قوية مستقيمة متمشية مع الحق والإنصاف كما هو واضح. ويظل تلقينها قائما مستمرا ينطبق على كل حالة
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.(8/201)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
مماثلة بطبيعة الحال. والأساس الذي تلقنه هو أن يدع المسلمون من يطمئنون بصدق حياده وكفّ يده وبموقفه السلمي وشأنه ولا يبادئوه بعداء وقتال. ولو كان من قوم عدوّ محارب. وأن لا يقاتلوا إلّا الذين لا يثبتون لهم صدق دعواهم بالحياد والمسالمة فعلا باعتزال قتالهم وكفّ أيديهم ويرون فيهم تذبذبا ودورانا مع الظروف سواء أكانت مع المسلمين أو مع أعدائهم من قومهم لنجاة أنفسهم وأمنهم وحسب.
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
. تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ... إلخ والآية التالية لها وأحكام القتل الخطأ والعمد بالنسبة للمسلمين والمعاهدين
عبارة الآيتين واضحة. وفيها:
(1) تقرير بعدم جواز قتل مؤمن لمؤمن البتة بأسلوب فيه استبعاد احتمال وقوع ذلك إلّا أن يكون خطأ.
(2) وإنذار قاصم لمن يقتل مؤمنا عمدا.
(3) وتشريع في صدد قتل المؤمن خطأ في نطاق الأسس التالية:(8/202)
(1) إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل مؤمنين فعلى القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة عن عمله وتوبة لله. وأن يدفع الدية لأهله إلّا إذا عفوا وتنازلوا عنها صدقة لوجه الله تعالى.
(2) إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا وأعداء للمسلمين فعلى القاتل أن يعتق رقبة كفارة عن عمله وتوبة لله وكفى.
(3) إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا ومعاهدين للمسلمين فالحكم في ذلك حكم الأول. أي تحرير رقبة مؤمنة ودية مؤداة إلى أهله.
(4) إذا لم يمكن للقاتل أن يجد أو يعتق رقبة مؤمنة فتكون الكفارة والتوبة بدلا من ذلك صيام شهرين متتابعين.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول كل من الآيتين. فرووا في نزول الأولى أنها نزلت في مسلم اسمه عياش بن أبي ربيعة قتل شخصا اسمه الحرث بن يزيد العامري كان احتال عليه وخطفه من المدينة ثم عذبه وجلده فحلف أن يقتله إذا تمكن منه ثم لقيه في حرة المدينة وكان جاء من مكة مسلما مهاجرا فقتله دون أن يعلم أنه أسلم. كما رووا أنها نزلت في أبي الدرداء وكان في سرية جهاد فلقي رجلا معه غنم فبادره هذا بكلمة التوحيد فلم يصدقه وقتله وسلب الغنم. فلما رجعوا إلى النبي أنّبه وغضب لعدم تصديقه وقال له فيما قال «هلّا شققت قلبه» . ورووا في نزول الآية الثانية أنها نزلت في شخص مسلم اسمه مقبس وجد أخاه مقتولا في محلة بني النجار في المدينة فراجع النبي فأرسل معه رجلا من بني النجار يبلغهم عن لسانه أن يسلموا القاتل للقصاص منه إذا كانوا يعرفونه أو يدفعوا الدية لأخيه إذا لم يكونوا يعرفونه فأنكروا معرفة القاتل ودفعوا الدية ولكن الأخ بعد قبضه الدية غدر بالنجاري الذي أرسله معه رسول الله فقتله بدم أخيه ثم رحل إلى مكة حيث كان قومه مرتدا كافرا. وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال «لن أؤمنه في حل أو حرم ولا سلم ولا حرب» فقتل يوم الفتح.
ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح. وقد رويت رواية مماثلة(8/203)
للرواية التي ذكر فيها أبو الدرداء في مناسبة نزول الآية التي تأتي بعد هذه الآيات.
ويلحظ أن الروايات تجعل الآيتين منفصلتين وتفيد نزول كل منهما في مناسبة وظرف غير مناسبة وظرف نزول الأخرى. في حين أنهما كما يبدو من أسلوبهما وحدة منسجمة تسوغ القول إنهما نزلتا معا. ولقد بينت الآيات السابقة حكم غير المسلمين في مواقفهم من المسلمين ومواقف المسلمين منهم، وبينت هاتان الآيتان حكم قتل المؤمن للمؤمن مما فيه تناسب ما. وقد تكون الآيتان نزلتا بعد سابقاتهما فوضعتا في مكانهما بسبب التناسب الموضوعي والظرفي أو تكونان نزلتا في ظرف آخر فوضعتا مكانهما بسبب التناسب الموضوعي. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن يكون وقع أحداث مماثلة لبعض ما روي في الروايات فتليت الآيات لبيان الحكم، فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الآية [92] اقتصرت على الإنذار القاصم الأخروي للمؤمن الذي يقتل مؤمنا عمدا دون تعيين عقاب دنيوي. ويمكن أن يقال إن روح الآيتين تلهم أن هدفهما الرئيسي هو تعظيم دم المؤمن على المؤمن والتشديد فيه حتى ولو كان خطأ ثم تغليظ إثمه وجريمته بالإنذار الرهيب إذا كان عمدا والذي هو على سمع المؤمن ونفسه أشدّ وقعا وأكثر هولا فاقتضت حكمة التنزيل الاقتصار عليه في هذا المقام توكيدا لذلك الهدف والاكتفاء بتشريع قتل الخطأ الذي يعفو الله عنه إذا أدى فاعله الدية وتقدم إلى الله بالتوبة والكفارة.
وواضح أن هذا يظل تلقينا مستمر المدى بوجوب احترام المؤمن لدم أخيه وشدة احترازه من سفكه ولو خطأ فضلا عن العمد.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في تعظيم دم المؤمن على المؤمن وعظم إثم قتله. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء وفي رواية أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء» «1» . وحديث ثان
__________
(1) التاج ج 3 ص 3.(8/204)
رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» «1» . وحديث ثالث رواه أبو داود والنسائي جاء فيه «كلّ ذنب عسى الله أن يغفره إلّا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا» «2» . وحديث رابع رواه الترمذي والنسائي جاء فيه «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» «3» وحديث خامس رواه الترمذي جاء فيه «لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النار» «4» ، حيث يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي في هذا الأمر شأنهما في كل أمر.
ولقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عياش عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه «من قتل في عميّا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل» «5» . والمتبادر من روح الحديث وفحواه أنه لم يرد به حصر قتل الخطأ في الكيفية التي ذكرت فيه. فمن السائغ توسيع النطاق ليشمل كل قتل لم يكن القتل فيه مقصودا بأية آلة وفي أية حالة. ومن تحصيل الحاصل أن يعدّ من قبيل الخطأ قتل مؤمن لشخص يظنّه المؤمن خطأ أنه كافر محارب مما ذكرته الروايات كسبب لنزول الآيات.
ولقد روى المفسرون عن بعض المؤولين القدماء أن جملة وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ تعني أن يكون القتيل غير مؤمن من قوم معاهدين كما رووا عن بعض آخر أنها تعني مؤمنا من معاهدين غير مؤمنين. وحجة الأولين ومنهم ابن عباس أن الجملة لم تقل وَهُوَ مُؤْمِنٌ كما قالت عن الذي ذكر قبلها. والآية في صدد قتل المؤمن للمؤمن خطأ. وهذا يجعل القول الثاني هو
__________
(1) التاج ج 3 ص 4.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) التاج ج 3 ص 11 و 12 والعميّا تعني حالة الهياج والشجار العامة التي تؤدي إلى المضاربة والتقاتل بين جماعتين.(8/205)
الوارد. والمتبادر أن حكمة التنزيل اكتفت بالوصف الأول ولم تكرره والله أعلم.
ولقد وقف المؤولون الذين يروي المفسرون أقوالهم عند صفة رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فقال بعضهم إن هذه الصفة لا يمكن أن تتحقق إلّا في مملوك راشد مؤمن يقوم بواجباته. وقال آخرون إن كل من يولد من أبوين مسلمين يصح أن يكون ممن عنتهم الآية ولو لم يكن بالغا إذا كان في حالة رقّ. وروى الطبري القول الثاني. ونرى في ذلك وجاهة وسدادا.
ولقد نبّه المفسرون على أن التتابع في صيام شهرين شرط في صحة الكفارة بحيث لو تعمد الإفطار في آخر يوم وجب إعادة الصوم كله. وهذا مستلهم من نصّ الآية. ولم نر أحدا ذكر الحالات التي يسوغ لصائم رمضان أن يفطر فيها ويقضي ما أفطره أو التي ينسى فيها الصائم أنه صائم فيأكل ويشرب. وقد يكون من السائغ أن يقاس ذاك على هذا. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات طائفة من الأحاديث في مقادير دية قتلى الرجال والنساء والعبيد والكفار. ولقد أوردناها في سياق تفسير آية البقرة [178] فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبّه على أن القتل العمد لم يبق بدون عقوبة دنيوية وقاصرا على الإنذار الأخروي الرهيب كما يبدو من الآية الثانية حيث رويت أحاديث نبوية عديدة فيها بيان لذلك. ولقد شرحنا هذه النقطة وأوردنا ما ورد فيها من أحاديث مع بيان ما هو القتل العمد وما هو شبه العمد وما هي عقوبة كل منهما في سياق تفسير الآية [178] من سورة البقرة. فنكتفي كذلك بهذا التنبيه دون التكرار.
ولقد كان الأسلوب القاصم الذي جاءت به الآية الثانية موضوع بحوث من ناحية إمكان قبول توبة القاتل العمد وعدمه ومن ناحية خلوده في النار مع كونه مؤمنا حيث قال بعضهم «1» استنادا إلى أحاديث نبوية وصحابية إن الآية محكمة وإن
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.(8/206)
القاتل العمد مخلّد في النار ولا توبة له. وحيث قال بعضهم «1» استنادا إلى أحاديث نبوية وآيات قرآنية إن الله يقبل توبته إذا شاء وإنه لا يخلد في النار إذا مات وهو يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله.
ومما يورد في صدد القول الأول حديث رواه أبو داود والنسائي جاء فيه «كلّ ذنب عسى الله أن يغفره إلّا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا» «2» . وحديث رواه الشيخان عن سعيد بن جبير قال «قلت لابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة. قال لا. فقرأت عليه آية الفرقان إلى إِلَّا مَنْ تابَ [70] قال هذه مكية نسختها آية مدنية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» «3» .
ومما يورد في صدد القول الثاني إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ... ويا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ... [الزمر: 53] وحديث رواه الشيخان ولترمذي عن أبي ذرّ قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق وكررتها فكررها ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر» »
وحديث ثان رواه كذلك الشيخان والترمذي عن معاذ عن النبي «ما من أحد يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلّا حرّمه الله على النار» «5» . وحديث ثالث رواه مسلم عن أنس عن النبي قال «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن برّة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن ذرّة من إيمان» «6»
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.
(2) انظر التاج ج 3 ص 4- 6.
(3) المصدر نفسه.
(4) التاج ج 1 ص 26.
(5) المصدر نفسه ص 26- 28.
(6) المصدر نفسه. [.....](8/207)
وحديث رابع رواه مسلم عن جابر قال «أتى النبيّ رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار» «1» ولقد أورد الشيخان تتمة للحديث الذي روياه عن سعيد بن جبير جاء فيه أن هذا ذكر لمجاهد وهو من كبار التابعين ومفسريهم ما سمعه من ابن عباس فقال «إلّا من ندم» «2» .
ومع ما لكل من القولين من وجاهة على ضوء الأحاديث التي يستند إليها أصحابها فإنه يتبادر لنا على ضوء ما أوردناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج أن القول الثاني أكثر وجاهة. وبخاصة إذا تاب القاتل ونفذت فيه عقوبة القصاص أو عفى عنه أولياء القتيل أو قبلوا الدية منه. وهذا نراه أمرا جوهريا وأساسيا لأن آيات عديدة من آيات التوبة شرطت الإصلاح مع التوبة. وهذا من هذا الباب. مع التنبيه إلى ما قلناه قبل من أن هدف الآية الرئيسي هو تغليظ جريمة قتل المؤمن عمدا وإثمها عند الله. ولقد روى أصحاب المساند الخمسة حديثا نبويا عن ابن عباس جاء فيه «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن» وزاد أبو هريرة في روايته لهذا الحديث «والتوبة معروضة بعد» «3» فلعلّ في هذا الحديث وتتمته المروية عن أبي هريرة توفيقا بين القولين. فمن استحلّ القتل صار كافرا وخلّد في النار. ومن لم يستحلّه ثم ندم وتاب وأصلح فلا يخلّد في النار. والله أعلم.
بل ولعل الله لا يعاقبه بالنار إذا نفذ فيه القصاص أو عفى عنه ولي القتيل أو قبل منه الدية وتاب إلى الله. ولقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والدارقطني حديثا عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء عفا
__________
(1) التاج ج 1 ص 26- 28.
(2) التاج ج 4 ص 84.
(3) التاج ج 1 ص 5.(8/208)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
عنه» «1» وأخرج البزار حديثا بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير واحد وهو ثقة عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما عبد أصاب ذنبا ما نهى الله عنه ثم أقيم عليه حده كفر عنه ذلك الذنب» «2» .
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
. (1) إذا ضربتم في سبيل الله: هنا بمعنى إذا خرجتم للجهاد في سبيل الله.
(2) تبينوا: بمعنى تثبتوا. وقد قرئت (تثبتوا) أيضا.
(3) السلام: قرئت (السلم) أيضا واختلفت الأقوال في معناها حيث قيل إنها المسالمة. وقيل إنها تحية الإسلام. وقيل إنها إعلان الإسلام.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا إلخ
وجّه الخطاب في الآية للمسلمين. وقد تضمنت:
(1) أمرا لهم بالتثبت من حقائق الناس الذين يلقونهم إذا ما خرجوا للجهاد في سبيل الله فلا يقاتلون ولا يقتلون إلّا العدو الكافر ولا يقولون لمن ألقى إليهم السلام أو أعلن المسالمة أو الإسلام لست مؤمنا اجتهادا منهم بأنه غير
__________
(1) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق الآية [39] من سورة المائدة. وروى الطبراني حديثا من بابه عن أبي تميمة الهيثمي عن رسول الله قال «إنّ الله عزّ وجلّ إذا أراد بعبد خيرا عجل عقوبة ذنبه في الدنيا وربّنا تبارك وتعالى أكرم من أن يعاقب على ذنب مرتين» مجمع الزوائد ج 6 ص 265.
(2) المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 14(8/209)
صادق فيما ألقاه وطمعا في المغانم التي ينالونها منه.
(2) وتنبيها تأديبيا وتذكيريا لهم: فعند الله مغانم كثيرة دنيوية وأخروية للمخلصين فلا ينبغي أن يكون عرض الحياة الدنيا باعثا فيهم الطمع ومذهلا لهم عن الحق وصارفا إياهم عن التثبت. وعليهم أن يذكروا أنهم كانوا غير مسلمين فمنّ الله عليهم بفضله وهداهم وأن من الممكن أن يمنّ على غيرهم ويهديهم أيضا.
(3) وتوكيدا ثانيا بوجوب التثبت وتنبيها فيه معنى الإنذار بأن الله خبير بما يعملون وبنواياهم التي يضمرونها وراء أعمالهم.
ولقد أوّل بعض المؤولين «1» جملة: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بمعنى أنكم كنتم أيضا تخفون إسلامكم في مكة فمنّ الله عليكم بالنصر والعزة ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كنا نرى التأويل أوّلنا به الجملة والذي روي عن مؤولين آخرين «2» هو الأوجه والله أعلم.
وقد روى المفسرون «3» في سبب نزول الآية روايات متعددة ومختلفة الأشخاص والوقائع متحدة الموضوع ملخصها أن بعض المسلمين خرجوا في سرية جهادية فلقوا شخصا معه غنم أو عنده مال فحياهم بالسلام أو بادرهم بكلمة التوحيد فلم يصدقوه وظنوا أن ذلك منه تقية وخداع فقتلوه واستولوا على غنمه أو ماله. وبعض الروايات تذكر أنه كان بين القتيل والقاتل إحنة في الجاهلية. وقد كان الحادث باعثا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولاتهامه إياهم بالطمع في ماله حتى قال لهم على سبيل التثريب «هلّا شققتم عن قلبه» حينما اعتذروا له فلم تلبث أن نزلت الآية فأمر النبي بأداء ديّة القتيل وردّ ماله أو غنمه إلى أهله واعتبر القتل من نوع الخطأ وأمر القاتل بعتق رقبة. ومن جملة الروايات المروية الرواية التي أوردناها عن أبي الدرداء في سياق الآيات السابقة. ومن جملة أسماء قواد السرية الذين ذكروا في الروايات أسامة بن زيد والمقداد بن الأسود ومحلم بن جثامة وهذا هو الذي روى
__________
(1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(8/210)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
أنه كان بينه وبين القتيل إحنة في الجاهلية. وإحدى الروايات فقط رواها الشيخان والترمذي وأبو داود عن ابن عباس بهذا النصّ «مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم فسلّم عليهم فقالوا ما سلّم عليكم إلّا ليتعوّذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله فنزلت الآية» «1» .
وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود عن أسامة فيه حادث مشابه ولكن لا يذكر أن الآية نزلت فيه جاء فيه «قال أسامة بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلّا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرت ذلك للنبي فقال من لك بلا إله إلّا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح. قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا. من لك بلا إله إلّا الله يوم القيامة. فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلّا يومئذ «2» » وبقطع النظر عن التعدد والتباين في الروايات فإن الآية متسقة مع ما جاء فيها بحيث يسوغ القول إن حادثا مما ذكر فيها كان سبب نزول الآية.
ويبدو شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الآيات السابقة لها. فإما أن تكون نزلت بعدها فوصفت في ترتيبها وإما أن تكون نزلت لحدتها فوصفت في ترتيبها للتناسب الموضوعي.
والآية في حدّ ذاتها جملة تشريعية تامة. وقد احتوت حكما محكما رائعا وتلقينا جليلا ودرسا وتوجيها بليغين مستمري المدى في كل ظرف ومكان من مداهما أنه لا ينبغي أن تكون الغنائم هدفا جوهريا من أهداف الجهاد أولا ويجب أن يقبل من الناس ثانيا ظواهرهم إذا لم يكن هناك ما يكذبها فعلا وبخاصة دعوى السلام والإسلام والمسالمة. وإيذان بأن الإسلام أو المسالمة ثالثا هما المطلوبان من كل كافر فإن تحققا امتنع سواغ القتل والقتال. ويظل كل هذا متلألئا في غرة الشريعة الإسلامية على مدى الدهر.
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) .
__________
(1) التاج ج 4 ص 84 و 85.
(2) انظر المصدر نفسه ص 321.(8/211)
(1) غير أولي الضرر: غير ذوي الضرر أي الذين فيهم ضرر يمنعهم من الجهاد كالمرضى وذوي العاهات. وهناك أحاديث تفيد أن ذوي الأعذار المشروعة يدخلون في الجملة.
تعليق على الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... إلخ والتي بعدها
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها عظيما بزيادة فضل وأجر المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد من المؤمنين من غير ذوي الضرر والأعذار المشروعة مع استحقاقهم الحسنى الموعودة للمؤمنين جميعا مجاهدين وقاعدين.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود من القاعدين والمجاهدين هم الذين خرجوا مع رسول الله إلى بدر والذين قعدوا عنها. فإنه لما نزل الأمر بغزوة بدر قال عبد الله بن أمّ مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي يا رسول الله إننا أعميان فهل لنا رخصة فنزلت الآية. وهناك حديث يرويه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ فقال يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي ثم سرّي عنه فأنزل الله(8/212)
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» «1» وليس في الحديث الصحيح هذا ذكر لغزوة بدر بل وليس فيه أن الآيات نزلت في صدد ابن أم مكتوم وكل ما فيه أن حكمة التنزيل استجابت لهتافه فأنزلت الجملة الاستثنائية ليدخل هو ومن في بابه في الاستثناء وليكون ذلك تشريعا عاما. ووقائع غزوة بدر نزلت متصلة في سورة الأنفال وقد نزلت بعد الغزوة وليس قبلها. وليس من حكمة لوضع آية يقال إنها نزلت في ظرف وقعة بدر في هذه السورة.
ولما كانت الآيات [71- 89] قد احتوت حملة على مرضى القلوب والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد ويخلفون وعدهم بذلك وأهدرت دم المنافقين إذا ظلوا على موقفهم ولم يتضامنوا في الجهاد مع المؤمنين على ما شرحناه في سياقها فالذي يتبادر لنا أن فريقا من المخلصين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الذي يقعد عن الجهاد أحيانا لسبب ما وهو مخلص في إيمانه عقب نزول الآيات المذكورة فأوحي بالآيتين جوابا على ذلك مؤذنين بتسامح الله عزّ وجلّ للمخلصين الذين لا يعتذرون كذبا ولا تهربا ولو لم تكن أعذارهم قوية ظاهرة. هذا، وما جاء في النص باستثناء ذوي الضرر فالحكمة فيه جلية. وقد تكرر هذا في آيات سورة الفتح في سياق الحضّ على الجهاد حيث جاء فيه لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [17] وفي سياق آيات تندد بالممترين في سورة التوبة حيث جاء فيه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [91] .
ولا يبعد أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات التي سبقتها فوضعتا مكانهما للتناسب الظرفي والموضوعي وإلا فتكونان قد وضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي.
ويلفت النظر إلى ما في جملة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى من لفتة ربانية كريمة
__________
(1) التاج ج 4 ص 85.(8/213)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
إلى القاعدين من المؤمنين لأسباب مقبولة فيها تطمين لهم بسبب ما يعرف من إخلاصهم. وفي هذا كذلك تلقين مستمر المدى في صدد من يعرف منه الإخلاص وحسن النية وصدق الطوية ولو لم يشترك اشتراكا فعليا في الحركات الجهادية لأسباب مقبولة.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس حديثا جاء فيه «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال إنّ أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلّا وهم معنا فيه حبسهم العذر» «1» حيث ينطوي في الحديث توضيح وتدعيم.
ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أنه يصحّ أن يضاف إلى ما قلناه أن تكون الآيتان احتوتا أيضا بيانا في حالة المؤمنين المخلصين إزاء الجهاد إذا كان الظرف لا يقتضي أن ينفروا جميعهم فيندب بعضهم أو ينفر بعضهم دون بعض فغير المنتدبين أو غير النافرين في هذه الحالة ليسوا موضع تثريب وسخط ربانيين بل هم والمنتدبون أو النافرون معا موضع وعد الله الحسنى الذي وعد به كل مؤمن مخلص. غير أن المنتدبين والنافرين يظلون على كل حال أفضل عند الله وأعظم أجرا، وفي هذا ما فيه من حثّ قوي على النفرة إلى الجهاد والتسابق إليه.
هذا ونرى أن نلفت النظر إلى حديث ابن أم مكتوم من حيث انطواؤه على مشهد من مشاهد التنزيل القرآني من جهة وعلى دليل على تدوين القرآن فورا حين نزوله من جهة أخرى.
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) .
__________
(1) التاج ج 4 ص 305.(8/214)
(1) توفّاهم: تتوفاهم.
(2) يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة: قيل إن معناها يجد في الأرض التي يهاجر إليها مضطربا فسيحا ومتحولا عما يكره. وراغم قومه مراغمة قاطعهم ونابذهم. ويرد بالبال أن يكون للكلمة صلة بالإرغام وهو الإذلال والقهر وأن يكون معنى الجملة (يجد في الأرض وسائل كثيرة لمراغمة ظالمه وقهره أو جعل أنفه في الرغام وهو التراب)
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وواجب المسلمين في مكافحة الظلم والظالمين والهجرة من بلادهم بسبيل ذلك
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) تنديدا بفريق من المسلمين آثروا الرضوخ في دار العدو وكانوا يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين. وكان اعتذارهم غير صادق. وإفحاما لهم وإنذارا بسوء المصير الأخروي لأنهم بذلك ظلموا أنفسهم.
(2) واستثناء من هذا التنديد والإنذار لفريق آخر من رجال ونساء وولدان كانوا حقا مستضعفين مغلوبين على أمرهم ولم يكن لهم سبيل حقا. وتطمينا بأن الله قد يشملهم بعفوه وغفرانه.
(3) وتنويها بفائدة الهجرة في سبيل الله وإيجابا لها وحثّا عليها: فالذين يهاجرون في سبيل الله يجدون أسبابا كثيرة لمراغمة عدوهم وقهره وإزعاجه.
وأبوابا واسعة للرزق. والذي يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله فيموت في هذا(8/215)
السبيل فيكون قد حقّ على الله أجره وهو الغفور الرحيم.
ومع واجب الإيمان بما حكته الآية الأولى مما سوف يكون من حوار بين الملائكة والمتخلفين عن الهجرة بدون عذر فإن قصد التثريب والإنذار من الحكمة الملموحة فيها.
والآيات فصل جديد. والتناسب مع ذلك ملموح بينها وبين السياق السابق.
فإما أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي وإلّا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
وقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في صدد الآيات. فرووا أن الآية الأولى نزلت في حق أشخاص كانوا أسلموا وبقوا في مكة وكانوا يكتمون إسلامهم وقد اشتركوا مع المشركين في وقعة بدر ومنهم من قتل ومنهم من أسر في هذه الوقعة. ورووا في سياق ذلك أن العباس عمّ النبي وعقيلا ابن عمه كانوا ممن خرجوا مع المشركين وأسروا، ولم يقبل الله عذرهم حين اعتذروا بأنهم مستضعفون ومغلوبون على أمرهم. وأن العباس قال لرسول الله لما طلب منه الفداء عنه وعن عقيل: كيف ذلك ونحن نصلي قبلتك ونشهد بشهادتك، فقال له:
إنكم خاصمتم فخصمتم ثم تلا الآية. وهذا يعني أن الآية نزلت قبل وقعة بدر، وهو في اعتقادنا بعيد الاحتمال. وهناك رواية أخرى يرويها المفسرون في صدد الآية وهي أنها في حق الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة من مكة بدون عذر وبقوا وماتوا فيها. وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عباس جاء فيه «إن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية. ثم خفف الله تعالى عن الضعفاء، الذين مع المشركين فقال إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.(8/216)
المستضعفين، وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذر الله» «1» .
وروى المفسرون «2» كذلك أن الآية الثانية نزلت في حق جماعة كانوا فعلا مغلوبين على أمرهم ومنهم الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة. وأن جملة وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى آخر الآية الثالثة نزلت في مسلم طاعن في السن كان يقيم في مكة بادر إلى الهجرة حينما بلغته الآية الأولى رغم ممانعة أهله وسخرية قومه به فمات في الطريق. وقد اختلفت الروايات فيه فمنها من ذكر أنه جندب بن ضمرة أو رجل من بني الليث أو رجل من بني كنانة أو من خزاعة. وهناك رواية تذكر أن الجملة في صدد جماعة من المسلمين كانوا في مكة فكتب إليهم المهاجرون حينما نزلت الآية الأولى بأنهم لم يبق لهم عذر فخرجوا فلحق بهم المشركون فقتلوا من قدروا عليه ونجا من نجا. ورواية تذكر أنها نزلت في خالد بن حرام حين هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فمات في الطريق.
وباستثناء حديث البخاري عن ابن عباس فإنه ليس شيء من الروايات الأخرى واردا في الصحاح. وبعض الروايات يقتضي أن تكون بعض الآيات أو جملة منها مكية لأن الهجرة إلى الحبشة إنما كانت أثناء العهد المكي. وبعضها يقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة بل أن يكون بعض جمل من الآيات نزلت لحدتها في حين أنها وحدة تامة منسجمة، ويلحظ- بالإضافة إلى هذا ثم بالإضافة إلى ما لحظناه من بعد احتمال نزول الآيات قبل أو عقب وقعة بدر- أنه ليس فيها ما يساعد على التسليم بصحة ما جاء في الروايات من اشتراك المسلمين المتخلفين في وقعة بدر إلى جانب المشركين. وكل ما تفيده أنهم كانوا يعتذرون بكونهم مستضعفين فقط. ولقد أهدرت الآيات [88- 89] من هذه السورة دم المنافقين لأنهم لم يتضامنوا في الجهاد مع المسلمين واعتبرتهم كفارا على ما شرحناه قبل.
وما روته الروايات عن المسلمين المتخلفين أشد وأبشع من ذلك. ولو كان هذا صحيحا لما كان أي معنى للاحتجاج الذي حكته الآيات عن لسانهم.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 85. [.....]
(2) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.(8/217)
يضاف إلى هذا كله أن أسلوب الآيات التي هي كما قلنا وحدة تامة منسجمة مطلق وشامل. والذي يتبادر لنا أن بعض أصحاب رسول الله من المهاجرين ذكروا الذين تخلفوا من المسلمين في مكة أو تذاكروا في أمرهم ومصيرهم في مناسبة ما.
ولعلها كانت الآيات [88- 89] من السورة التي تهدر دم المنافقين لعدم هجرتهم في سبيل الله وتضامنهم مع المسلمين في الجهاد في هذا السبيل فاقتضت حكمة التنزيل وحي الآيات بالأسلوب الذي جاءت به. ونميل إلى القول بأن الروايات التي قد يكون بعض ما جاء فيها صحيحا من حيث الوقائع قد سيقت على هامش الآيات على سبيل التطبيق وفيها صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقولنا ينطبق على حديث البخاري عن ابن عباس. وأسلوبه وفحواه يدلان بقوة على أن كلامه كان من قبيل التطبيق والاجتهاد. والله أعلم.
وعلى كل حال فالآية الأولى تدل على رضوخ أناس من المسلمين وعدم هجرتهم والالتحاق بالنبي والمسلمين مع قدرتهم على ذلك إما جبنا أو تكاسلا أو إيثارا للاستمتاع بما لهم من أموال وهنيء العيش. والآية الثانية تدل على أنه كان إلى جانب هؤلاء فريق من رجال ونساء وولدان مسلمين- وهذا يعني أسر إسلامية- مغلوبين على أمرهم فعلا ولا يستطيعون عمل شيء ما. وهناك آيات أخرى تؤيد ذلك منها آية سورة الأنفال [72] التي جاء فيها هذه الجملة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. ومنها آية سورة الفتح هذه هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... ومنها آية سورة الممتحنة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [10] وآية الفتح بخاصة صريحة بأن الذين أشير إليهم فيها هم في مكة.
والآيات تنطوي كما قلنا على ما كان من واقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى(8/218)
تنديد بالمسلمين الذين آثروا الرضوخ والبقاء في كنف الأعداء وعدم الهجرة مع قدرتهم عليها. بل إيجاب وتأثيم لمن لا يناضل العدو أو يهاجر لأجل التوسل لمناضلته. ولقد روى أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنا بريء من كلّ مسلم مقيم بين أظهر المشركين» «1» وفي هذا تطور تشريعي بالنسبة لظروف السيرة النبوية لأن آية الأنفال التي أوردنا نصّها آنفا والتي أشارت إلى هذا الفريق لم تتضمن التأثيم والإنذار والإلزام والإيجاب بل تضمنت إيجاب نصرتهم على المسلمين إذا استنصروهم في الدين. وكل ما تضمنته تقرير كون المهاجرين لا يتحملون تبعتهم. ولقد ظل ما انطوى في الآية الأولى محكما إلى فتح مكة الذي تمّ في السنة الثامنة للهجرة حيث روى الخمسة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا» «2» فغدت الهجرة بعد ذلك اختيارية. وظاهر أن رفع واجب الهجرة عن المسلمين بعد الفتح متصل بظروف السيرة النبوية. لأن مكة أيضا بل معظم جزيرة العرب غدت دار إسلام خاضعة لسلطان النبي والمسلمين «3» .
ويلحظ أن آيات سورة النساء [74 و 75] التي مرّ تفسيرها احتوت أمرا المتبادر أنه للمؤمنين الذين هم خارج بلد الظالمين بالقتال في سبيل الله والمستضعفين من جهة أن هذه الآيات التي نحن في صددها هي في الذين هم في بلد الظالمين. وكلتا الصورتين مما كان واقعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح.
__________
(1) التاج ج 4 ص 309.
(2) المصدر نفسه ص 304.
(3) ننبه على أن هناك أحاديث قد توهم التناقض مع هذا الحديث منها حديثان يرويهما أبو داود أحدهما عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» وثانيهما عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم. ويبقى في الأرض شرارها» ومنها حديث يرويه النسائي عن النبي جاء فيه «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» التاج ج 4 ص 308 ولا نرى تعارضا بين هذه الأحاديث وحديث الخمسة فهي بالنسبة لمستقبل يعقد وظروف قاهرة أخرى كما هو واضح من فحواها.(8/219)
ومحتوى الآيتين الثانية والثالثة متسق مع المبادئ القرآنية من عدم تحميل المسلم ما لا طاقة له به وعذره وعدم مسؤوليته وإثمه فيما لا حيلة له فيه ولا حول له عليه. ومع ذلك فإن كلمة عَسَى في مقامها ذات دلالة هامة حيث يمكن أن تفيد أن عفو الله عن المقيم في أرض الكفر والظلم بعذر ليس أكيدا وأنّ على هذا المقيم أن يبذل جهده في الخروج منها وعدم الاحتماء وراء الأعذار الخفيفة.
وصيغة الآيات تشريعيّة مطلقة مثل صيغة الآيات [74 و 75] وهي مثلها مستمرة المدى والتلقين لكل ظرف مماثل بحيث توجب على المسلمين المستطيعين أن لا يقيموا في دار عدو وتحت ظلمه مستكينين إذا عجزوا عن مكافحته وإرغامه وأن يهجروها إلى دار إسلام وعدل ليتوسلوا بأسباب مكافحته وإرغامه مهما تحملوا في سبيل ذلك من مشاق وأخطار مطمئنين بوعد الله لهم بالنصر والمغفرة والأجر العظيم. وحديث أبي داود والترمذي عن جرير بصيغته المطلقة يحتوي تلقينا مستمر المدى. والأحاديث الثلاثة التي أوردناها في الذيل السابق تجعل احتمالات ذلك وواجباته مستمرة.
وهناك حالات قد تحدث مما يتصل بمدى الآيات وتلقيناتها:
(1) فقد يغزو عدو بلاد المسلمين ويسيطر عليها.
(2) وقد يقوم ظالم طاغية يزعم الإسلام ويتصرف بما يخالفه مخالفة صريحة وشديدة فيكون ظلمه على الناس قويا ويكون حكم الإسلام وطابعه منتفيين.
(3) وهناك بلاد غير مسلمة وليس بينها وبين المسلمين حالة حرب وعداء ويكون فيها مسلمون مقيمون دائما أو مؤقتا من أهلها أو طارئون. والمتبادر بالنسبة للحالة الأولى أن من واجب المسلمين أهل البلاد النضال والمقاومة بكل استطاعتهم ومهما تحملوا وعدم الهجرة منها إلّا في حالة العجز والخطر التامين ولأجل التوسل بأسباب النضال والمقاومة ضد الغزاة. وهذا كذلك يكون بالنسبة للحالة الثانية أيضا «1» . أما الحالة الثالثة فلسنا نراها مما تشمله الآيات وتلقينها من
__________
(1) في تفسير القاسمي فرضت هذه الحالة وكلام للعلماء في صددها مفاده أن على المسلمين واجب الهجرة إذا لم يتمكنوا من إقامة شعائر دينهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إذا أراد الحاكم الظالم حمل الناس على المعاصي وترك الواجبات.(8/220)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
حيث إن روح الآيات وفحواها هما في صدد الإقامة في دار كفار أعداء وظالمين بغاة. ولا سيما إذا كان المسلمون في هذه الحالة قادرين على ممارسة شعائرهم وغير راضخين لأنظمة وحالات تخالف دينهم. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
. (1) أن تقصروا: بمعنى أن تختصروا.
(2) إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا: قيل في تأويلها: إن خفتم أن يأخذكم الكافرون على غرة أو يلهوكم عنهم أو يأسروكم ويردوكم عن دينكم. والجملة تتحمل كل ذلك.
(3) وليأخذوا أسلحتهم: بمعنى وليحملوا أسلحتهم وهم يصلون.
(4) فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلّوا فليصلّوا معك:
فليتأخروا إلى الوراء حتى تأتي الطائفة التي كانت وراءكم للحراسة فتأخذ مكانهم وتصلي بدورها.(8/221)
(5) أن تضعوا أسلحتكم: أن لا تحملوها.
(6) فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة: إذا ذهب الخوف وأمنتم فأقيموا الصلاة تامة بدون اختصار.
(7) كتابا موقوتا: مكتوبة عليكم في أوقات معينة.
تعليق على الآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ... إلخ والآيتين اللتين بعدها وسنّة قصر الصلاة في حالة السفر بدون خوف
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) إباحة اختصار الصلاة للمسلمين إذا خرجوا إلى قتال أعدائهم الكفار وخافوا أن يتعرضوا لكيدهم وعدوانهم حين انشغالهم بالصلاة.
(2) وتعليما للنبي لبعض كيفيات الصلاة في حالة الخوف.
(3) وتنبيها للمسلمين إلى وجوب الاحتفاظ بأسلحتهم وهم في الصلاة مع رفع الحرج عنهم في حالة المطر والمرض وإلى وجوب أخذ الحذر على كل حال حتى لا يميل عليهم الكفار ويأخذوا أسلحتهم وأمتعتهم.
(4) وأمرا لهم بذكر الله على كل حال وبإقامة الصلاة في أوقاتها تامة حين الاطمئنان والأمن.
والآيات فصل جديد. ولكن التناسب ملموح بينها وبين الآيات السابقة. فإما أن تكون نزلت بعدها فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي وإلّا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
ولقد روى المفسرون في سبب نزول الآيات عدة روايات منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأس المسلمين في عسفان وأمامهم المشركون وعليهم خالد بن الوليد، فصلى بهم الظهر فقال المشركون: لقد أصبنا غرة أو غفلة فلو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت الآيات بين الظهر والعصر فصلى النبي بالمسلمين العصر صلاة(8/222)
الخوف على النحو الذي علّمته الآية الثانية. ومنها أن سليمان اليشكري سأل جابرا عن أي يوم نزل فيه قصر الصلاة فقال له كنّا مع رسول الله وراء عير لقريش فنزل بنخل فجاءه رجل فقال يا محمد ألا تخاف مني؟ قال: لا. قال: ما يمنعك مني؟
قال الله يمنعني منك. قال: فسلّ السيف فهدده وأوعده، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة فصلّى النبي بالناس صلاة الخوف. وقد روى الترمذي الرواية الأولى بخلاف يسير عن أبي هريرة دون أن يذكر بصراحة أنه سبب نزول الآيات حيث قال «نزل النبي بين ضجنان وعسفان فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، فأتى جبريل النبي فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ثم يأتي الآخرون ويصلّون معه ركعة واحدة ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم فتكون لهم ركعة ركعة ولرسول الله ركعتان» «1» وهناك رواية أخرى تذكر أن قوما من التجار سألوا النبي كيف يصلّون وهم يضربون في الأرض فأنزل الله وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ فقط وانقطع الوحي حتى مرّت سنة على ذلك فغزا النبي غزوة فصلى بالمسلمين الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم فشدوا عليهم فقالوا إن لهم صلاة أخرى بعدها فأنزل الله بقية الآية بين الصلاتين فصلى العصر ركعتين. وقد صف المسلمين صفين فوقف جميعهم معه وسجد الصف الأول معه وظل الثاني حارسا ثم تأخر الصف الأول وحل محله الثاني وسجد مع النبي في الركعة الثانية ولما جلس جلسوا جميعا معه وأتموا الصلاة.
ورواية سؤال التجار غريبة لأنها تقسم الآية الأولى إلى فترتين مع أنها هي والآيتين التاليتين لها وحدة تامة منسجمة. ورواية عسفان متصلة بوقعة الحديبية ونرجح أن الآيات نزلت قبلها. وقد ذكرت هذه الوقعة في سور متأخرة عن هذه السورة.
ولقد كانت الغزوات بقيادة النبي والسرايا بقيادة أصحابه متواصلة في العهد
__________
(1) التاج فصل التفسير ج 4 ص 86.(8/223)
المدني. فالمتبادر أن حادثا ما وقع في وقت مبكر نوعا ما فكان سببا لنزول الآيات جملة تامة لتكون تشريعا مستمرا.
وينطوي في مضمون الآيات وروحها توكيد على عدم التهاون في أداء الصلاة في أوقاتها حتى في ظروف الخوف والخطر مع إباحة اختصارها في هذه الظروف.
وفي هذا ما فيه من تلقين عظيم بما للصلاة عند الله من خطورة عظمى مما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة العلق. ولقد روى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه فيما جاء «فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصلّ راكبا أو قائما تومىء إيماء» «1» .
وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال «بعثني رسول الله في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» «2» حيث ينطوي في الحديثين توكيد واجب أداء الصلاة في أوقاتها على كل حال.
ولقد روى المفسرون «3» بدون عزو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الصلاة لوقت آخر إذا كان في حالة حرب أو خوف ويسمح للمسلمين بذلك إلى أن نزلت هذه الآيات. وفي هذا إن صحّ ولا مانع من صحته توكيد لخطورة ذلك الواجب.
وهناك أحاديث صحيحة في كيفية صلاة الخوف التي صلاها النبي بأصحابه.
منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال «صلّى رسول الله صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلّى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلّى بهم ركعة. ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» «4» . ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بكرة قال «صلّى النبي في خوف الظهر فصفّ بعضهم خلفه وبعضهم إزاء العدو فصلّى بمن خلفه ركعتين ثم سلّم فانطلق الذين صلّوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلّوا خلفه فصلّى بهم ركعتين ثم سلّم.
__________
(1) التاج ج 1 ص 263 و 237.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر ابن كثير وغيره.
(4) التاج ج 1 ص 263 و 264.(8/224)
فكانت لرسول الله أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين» «1» والجمهور والتواتر على الكيفية الأولى وعلى أن صلاة الخوف مقصورة على ركعتين. ولقد قال بعض العلماء إن جملة وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ تفيد أن صلاة الخوف خاصة بالنبي وحياته.
غير أن الجمهور والتواتر على أنها مستمرة الحكم بعده.
وكلام المفسرين والأحاديث في صدد صلاة الخوف جماعة. وفي ظروف مواجهة عدو محارب. وهو المستفاد من الآيات أيضا. غير أنه يرد على البال أمران الأول أن يكون الذي يواجه الخطر واحدا وأن يكون الخطر غير خطر عدو محارب مثل لصوص وقطاع طرق إلخ ويتبادر لنا أن للمسلم أن يقصر ويصلي صلاة الخوف منفردا في أي حالات الخطر والخوف والله تعالى أعلم.
ومع أن نصّ الآيات صريح بأن قصر الصلاة قاصر على ظروف الخوف من الأعداء فإن هناك آثارا تفيد أن السنة النبوية جعلته شاملا للسفر في حالة الأمن أيضا. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن يعلى بن أمية قال «قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. وقد أمن الناس. فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «2» . والحديث يفيد أن تعميم القصر على السفر في حالة الأمن إلهام رباني وهذا هو المتواتر الذي عليه الجمهور. وهناك أحاديث نبوية تؤيد ذلك يأتي بعضها بعد هذا.
وفي مدة السفر التي يصح قصر الصلاة فيها روى الخمسة عن أنس قال «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلّي ركعتين ركعتين حتى رجعنا قال راوي الحديث عن أنس قلت ماذا أقمتم في مكة قال أقمنا عشرا» «3» وروى
__________
(1) التاج ج 1 ص 263 و 264.
(2) المصدر نفسه ص 265.
(3) المصدر نفسه ص 265 و 266. وهناك أحاديث أخرى فيها خبر قصر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في السفر الأمن فاكتفينا بما أوردناه. وقد قال الشارح إن الفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف باع.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 15(8/225)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر.
فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا» «1» وفي مسافة السفر روى البخاري «أنّ ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا» «2» وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن يحيى بن يزيد قال «سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلّى ركعتين» »
وبسبب التباين في المسافة في الأحاديث اختلف الفقهاء في المسافة التي يصحّ القصر فيها فمنهم من أخذ بالمسافة الطويلة ومنهم من أخذ بالمسافة القصيرة. ويرد لبالنا أن نقول إن ما ورد في الأحاديث اختلاف وفرق كبير قد يكون كلّه صحيحا ووقع في ظروف اختلفت فيها درجة الجهد والمشقة والتعب وحالة الطريق والموسم والماء والطعام إلخ. وقد يتبادر أن هذا يظل المقياس في الأمر. وإن المسلم يوكل فيه إلى إيمانه وتقواه. فإذا شق عليه السفر وجهد في المسافة القصيرة جاز له أن يقصر والله تعالى أعلم.
وهناك حديث يرويه الإمام مالك عن عائشة أنها قالت «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر» . وجملة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ تفيد كما هو المتبادر أن القصر طارئ وليس أصيلا حيث يسوغ ذلك التوقف في الحديث.
هذا والجمهور على أن القصر هو للصلوات الرباعية فقط. أي الظهر والعصر والعشاء. فتقصر على ركعتين. وإن صلاتي الفجر والمغرب تبقيان على حالهما.
وهذا مستفاد من الأحاديث التي اقتصر الكلام فيها على الركعتين بدلا من الأربع.
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) .
__________
(1) المصدر السابق نفسه. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(8/226)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
عبارة الآية واضحة. وهي تأمر المسلمين بعدم التهاون والضعف في طلب أعدائهم وملاحقتهم وقتالهم. وتبثّ فيهم بسبيل ذلك الروح: فإذا كان ينالهم نصب وألم من ذلك فأعداؤهم ينالهم مثل ذلك مع فارق عظيم هو أنهم يرجون من نصر الله وتأييده وأجره ما لا رجاء لأعدائهم فيه. والله عليم حكيم يعلم مقتضيات كل أمر ويأمر بما فيه الحكمة والسداد.
وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة انتداب النبي للمسلمين عقب وقعة أحد وحينما بلغة أن قريشا تفكر في الكرة عليهم للخروج إليهم ليثبتوا لهم أنهم غير هائبين منهم أو في مناسبة انتداب النبي المسلمين للخروج إلى بدر حيث واعدهم أبو سفيان باللقاء في العام القابل بعد الوقعة المذكورة. وقد تلكأ بعض المسلمين بسبب ما كان يشعر به من ألم وتعب «1» .
وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولسنا نرى لها مناسبة في مقام الآية.
ويتبادر لنا أنها ليست منقطعة عن السياق السابق الذي فيه دعوة إلى الجهاد والهجرة ومراغمة العدو والحذر منه وتنديد بالمثبطين والمترددين وأنها جاءت معقبة وداعمة لذلك. والله أعلم. ومع اتصال الآية بظروف السيرة النبوية فإنّ فيها تلقينا مستمر المدى في إطلاق عبارتها حيث تظل تهتف بالمؤمنين في كل ظرف ومكان بأن لا يتوانوا في مكافحة أعدائهم الذين يظل التفوق لهم عليهم بإيمانهم بنصر الله وأعداؤهم يفقدون هذا الإيمان الذي يمدّ صاحبه بقوة عظمى.
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والطبرسي.(8/227)
(1) خصيما: مخاصما ومدافعا ومجادلا عنهم.
(2) يختانون أنفسهم: يخونون أنفسهم ويضرونها بما يفعلون من أفعال سيئة.
(3) خطيئة أو إثما: قال بعضهم إن الأولى تعني السيئة الصغيرة، والثاني يعني السيئة الكبيرة. وهو وجيه لأنه لا بدّ من أن يكون بينهما فرق.
في هذه الآيات:
(1) خطاب موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ليحكم بين الناس بما علمه الله وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحبّ الخوان الأثيم. وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
(2) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسرّ في الطريقة التي يخفون بها جرائمهم وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.(8/228)
(3) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب:
فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
(4) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى:
(1) فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
(2) ومن يرتكب إثما فإنه لا يضرّ به في الحقيقة إلّا نفسه. لأن الله عليم بكل شيء حكيم، لا يمكن أن يكون منه إلّا الحق والحكمة.
(3) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصّره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلّا أنفسهم ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ... إلخ والتي بعدها لآخر الآية [113]
والآيات فصل جديد. ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين(8/229)
بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات. وإذا لم تكن قد نزلت بعد الآيات السابقة ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة بن النعمان وهذا نصّها «قال قتادة سرق طعام وسلاح لعمّي رفاعة بن زيد فأخبرني بذلك فسألنا وتحسّسنا في الدار فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشّر وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبيّ بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه ردّ السلاح فقط فقال سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد بن عروة فقال يا رسول الله بنو أبيرق منّا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بيّنة.
قال قتادة فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بيّنة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلّم رسول الله فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح. قال قتادة وكنت أشكّ في إسلام عمّي رفاعة لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا» «1» . وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة بن أبيرق وكان هو سارقها فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه فجاؤوا إلى النبي وقالوا له إن صاحبنا بريء وطلبوا أن يجادل عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض وجاء اليهودي فطلبها فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار
__________
(1) التاج ج 4 ص 86- 87(8/230)
أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي فجاء قوم طعمة يبرئونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة. وإن كان ينبغي القول إن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا.
وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني، وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته وتقواه في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلّت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك:
(1) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه وأن يدقق فيما يعرض عليه فلا يأخذ بظواهر الأمور ولا ينخدع بتزويق الخصوم وعليه أن يحذر تلبيسهم ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق وتبرئته والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
(2) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عليه خافية. وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين يدي الله موقفا لا يستطيع أحد أن يجادل عنه فيه.(8/231)
(3) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضرّ به نفسه.
(4) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
(5) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
(6) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحقّ مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها» «1» وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه «أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا وقال كلّ منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخّيا الحقّ بينكما ثم استهما ثم ليحلل كلّ منكما صاحبه» «2» . وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة
__________
(1) ورد هذا الحديث في التاج برواية الخمسة عن أم سلمة بهذه الصيغة «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن من بعض فأقضي له على ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» التاج ج 3 ص 61.
(2) في التاج حديث رواه أبو داود عن أم سلمة مقارب لهذا الحديث وهذا نصّه «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بينة إلّا دعواهما فقال النبي من قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فبكى الرجلان وقال كل منهما حقي لك. فقال لهما النبي أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخّيا الحق ثم استهما ثم تحالّا وفي رواية إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه» التاج ج 3 ص 59.(8/232)
من صور أخلاق أصحاب رسول الله ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية [106] وقالوا بجواز وقوع الذنب منه. لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا إن النبي لم يقع منه ذنب وإن موقفه في الحادث إنما كان موقف القاضي الذي قد يخدع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرىء المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا «1» . وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مرّ من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر [55] التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونصّ الآية [110] جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام وهو استغفار الإنسان وصلاحه.
وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزّمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفسرين والأصوليين عند الفقرة الأولى من الآية الأولى لأنه ليس في القرآن شيء صريح محدد في الحادث الذي نزلت فيه الآيات. فهناك
__________
(1) انظر تفسير الخازن.(8/233)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
من قال إن فيها تفويضا للنبي بالاجتهاد بعد أن صار أهلا لذلك بنزول كتاب الله عليه. وإن هذا أمر خاص به. وإن للنبي أن يجتهد فيما يعرض له من أحكام ويحكم بما يلهمه الله بناء على ذلك. وهناك من رأى فيها دليلا على جواز الرأي والقياس والاجتهاد مطلقا «1» .
والذي يتبادر لنا أن الآية بسبيل أمر النبي بالحكم بما يلهمه الله في نطاق الكتاب المنزل عليه الذي يأمر بالحق والعدل وتحرّيهما. ويمكن أن يفسر هذا بمعنى التفويض في الاجتهاد في هذا النطاق. وأن الخطاب وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فلسنا نرى أئمة المسلمين وحكامهم وقضاتهم خارجين عن شموله.
حيث يكون لهم الاجتهاد فيها يعرض عليهم من قضايا ليس فيها نصوص صريحة قطعية ومحددة. وحيث يكونون ملزمين بأن يكون اجتهادهم في نطاق ميادين كتاب الله وسنة رسوله وتلقيناتهما. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
. (1) النجوى: التسارر والاجتماعات السرية وأصلها الاجتماع والكلام بين اثنين أو أكثر في نجوة عن الناس.
(2) معروف: هنا بمعنى كل ما تعارف عليه جمهور المسلمين أنه خير ونافع وليس فيه معصية ومنكر.
(3) سبيل المؤمنين: يمكن أن يكون القصد من التعبير الإيمان بالله ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما ويمكن أن يكون القصد هو ما يكون عليه جمهور
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير رشيد رضا والقاسمي.(8/234)
المسلمين من أمور موافقة لكتاب الله وسنّة رسوله.
في الآيتين بيان على سبيل التحذير والعظة بأنه لا خير في كثير مما يدور في الاجتماعات السرية التي يجتمع فيها الناس بعيدين عن أعين الرقباء إلا إذا كان الهدف صدقة تعطى. أو معونة تبذل. أو معروفا يؤمر به. أو إصلاحا بين الناس.
وبأن الذين يستهدفون مثل هذه الأهداف في اجتماعاتهم ابتغاء وجه الله ورضائه لهم الأجر العظيم عند الله. أما الذين يستهدفون مكايدة النبي ومشاققته بعد ما ظهر لهم ما ظهر من الحق والهدى ويسيرون في غير الطريق القويم الذي يسير فيه المؤمنون الصالحون والذي هو التزام ما أمر الله ورسوله به واجتناب ما نهيا عنه فإن الله يجعل أعمالهم السيئة ونياتهم الخبيثة تحيق بهم كما يجعل مصيرهم في الآخرة جهنّم وساءت هي من مصير.
تعليق على الآية لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ... إلخ والآية التالية لها واستطراد إلى مسألة إجماع المسلمين وسبيلهم
قال بعض المفسرين «1» إن الآيتين تتمة للسياق السابق ولقد جاء في حديث الترمذي الذي أشرنا إليه قبل هذه العبارة «فلما نزلت الآيات لحق بشير بن أبيرق بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فنزلت وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى الآية فرمى حسان بن ثابت سلافة بأبيات من الشعر فلما بلغتها أخذت رحل بشير ورمت به وقالت أهديت لي شعر حسان. ما كنت تأتيني بخير» .
وعلى هذا فتكون الآيتان متصلتين بالآيات السابقة ومنطويتين على تعقيب على الحادث.
غير أننا نلمح من الآية الثانية أن الآيتين في صدد أمر أعمّ من الحادث. وقد
__________
(1) انظر تفسير الخازن والطبرسي والطبري.(8/235)
يكونان فصلا جديدا متصلا بالآيات التالية لهما. وفيهما على كل حال صورة من صور العهد النبوي في المدينة من حيث إنه كان هناك مرضى نفوس ومخامرون يعقدون المجالس السرية للمكايدة والمشاقّة. ومن هنا يكون بين الآيتين والآيات السابقة تناسب قد يكون سبب وضعهما في مكانهما إذا لم يصح ما ذكره المفسرون من صلتهما بحادث ابن أبيرق وصحّ ما ذكرناه من صلتهما بالآيات التالية.
وفي الآيتين تلقينات جليلة مستمرة المدى حيث انطوى فيهما قصد تهذيب أخلاق المسلمين وتنقية قلوبهم وتوجيههم في وجهة الحق والبرّ والمعروف والإصلاح في سرّهم وعلنهم وفي اجتماعاتهم الخاصة والعامة. وتجنيبهم مواقف المكايدة والانشقاق والانحراف التي لا يجوز للمسلم أن يتورط فيها. وتنبيههم إلى ما في الاجتماعات السرية من شبهة التآمر والكيد ووجوب مراقبة الله فيها. وتقبيح الشذوذ عن السبيل القويم والرأي الحقّ الذي يكون عليه المسلمون والذي يكون في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وتلقيناتهما.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى بعض أحاديث نبوية. منها حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن محمد بن يزيد قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردّده عليّ فقال حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام ابن آدم كلّه عليه إلّا ذكر الله عزّ وجلّ أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فقال سفيان أو ما سمعت الله في كتابه يقول لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فهذا هو» «1» ومنها حديث أخرجه الحافظ البزار عن أنس قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب ألا أدلّك على تجارة قال بلى يا رسول الله قال تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا» وفي الأحاديث تساوق تلقيني مع الآية كما هو واضح.
وهناك أحاديث يصحّ أن تساق أيضا في صدد ما انطوى في الآية الثانية من
__________
(1) الشطر الأول من الحديث ورد في التاج برواية الترمذي، انظر ج 5 ص 167.(8/236)
لزوم سبيل المسلمين وعدم الشذوذ عنها. من ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» «1» ومن ذلك ثلاثة أحاديث رواها الطبراني أحدها عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة فإنّ يد الله على الجماعة» «2» وثانيها عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يد الله على الجماعة فإذا شذّ الشاذّ منهم اختطفه الشيطان كما تختطف الذئب الشاة من الغنم» وثالثها عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عليك بتقوى الله والجماعة وإياك والفرقة فإنها هي الضلالة وإنّ الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة» «3» .
والآية الثانية جديرة بالتأمل من وجهة أخرى أي من وجهة كون الإنذار فيها موجها إلى الذين يشاقون الرسول ويشذون عن سبيل المسلمين عن عمد وبينة.
بحيث يرد على البال أنه لا يشمل من يفعل عن جهالة وعماء. على أن من الحق أن يقال إن على الذين لا يعرفون وجه الحق والهدى في أمر ما يجب عليهم للنجاة من الإنذار أن يسألوا أهل العلم فيه. ولهم أن يطلبوا البرهان على ما يقولونه لهم وإن الذين لا يفعلون ذلك ويفضلون البقاء على ما هم عليه من جهالة وعماء وعدم تبين وجه الحق والهدى يدخلون في شمول الإنذار أيضا.
ولقد أوّل بعضهم تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ في الآية الثانية بأنه الإيمان بالله ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما. وأوله بعضهم بأنه ما اتفق عليه جمهور المسلمين من حق ومصلحة. والتعبير يتحمل التأويلين بل ليس بينهما تعارض.
والآية التي جاء فيها التعبير وإن كانت متصلة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنها مستمرة التلقين للمسلمين بعده، شأن أمثالها الكثيرة بحيث تكون قد انطوت على الإنذار الرهيب لمن يشذ ويسير في طريق غير طريق كتاب الله وسنة رسوله وصالح المسلمين.
__________
(1) التاج ج 5 ص 280.
(2) مجمع الزوائد ج 5 ص 218 و 219.
(3) المصدر نفسه.(8/237)
ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية حجة لوجوب اتباع (الإجماع) وعدم جواز مخالفته. وعزا بعضهم ذلك إلى الإمام الشافعي. وليس المقصود بهذا الإجماع معناه اللغوي. بل ذلك الاصطلاح الفقهي الذي يجعله الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي. فالأصل الأول هو القرآن والثاني هو سنّة رسول الله والثالث هو إجماع علماء المسلمين أو مجتهديهم أو من وصفوا (بالقادرين على استنباط الأحكام من مآخذها) على ما ليس فيه نصوص محكمة ومحددة في القرآن والسنّة من مختلف الشؤون حيث تكون مخالفة ما يجمعون عليه حراما ويدخل في نطاق الإنذار الذي احتوته الآية.
وهذا وجيه من دون ريب لأنه يصحّ أن يدخل في متناول تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حسب التأويل الثاني لهذا التعبير مع التنبيه إلى أن هذا التعبير بالتأويل المذكور واسع الشمول ويتناول فيما يتناوله ما يتفق عليه علماء المسلمين ومجتهدوهم من شؤون سياسية وعسكرية وتنظيمية فيها مصلحتهم.
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن المستفاد من بحوث العلماء أنه ليس هناك اتفاق على شروط الإجماع وعلى أوصاف الجماعة التي يحصل الإجماع باتفاقها. وأن الإجماع الاصطلاحي المذكور ظلّ وسيظل نظريا وأنه لم يتحقق عمليا وليس من سبيل إلى ذلك وأنه لم يكد يوجد مسألة فقهية إلّا وفيها خلاف وأنه نتيجة لذلك انقسم المسلمون في عباداتهم وفي معاملاتهم إلى مذاهب عديدة منها ما يجمعه جامعة السنيّة ومنها ما يجمعه جامعة الشيعية بل ومنها ما يجمعه جامعة الخوارج الذين لا يزال منهم فرقة إلى اليوم تعمل به، وبعضها يوجب ما لا يوجبه بعضها وبعضها يجيز ما لا يجيزه بعضها، وبعضها يستكره ما يستحبه بعضها، وبعضها يحرّم ما يحلّه بعضها، وبعضها يحلّ ما يحرّمه بعضها، وبعضها يفسق بعضها بل يكفره «1» .
__________
(1) انظر رسالة الإجماع في الشريعة الإسلامية لعلي عبد الرزاق وننبه على أننا لا نقول ما قلناه على سبيل التجريح والتثريب إطلاقا. فنحن نعرف ونعترف أن اختلافات أئمة الفقه ومجتهديه مستندة إلى النصوص القرآنية والنبوية والراشدية والصحابية التي ليست صريحة قطعية وقياسا على الأمثال والأعراف واستنباطا منها. وهذا مما يؤجر عليه المصيب والمخطئ منهم إذا كان مقصده الحق وخدمة الشريعة الإسلامية دون الهوى ونصرته، وقد تكون نتيجة ذلك علم الفقه الإسلامي الذي يصح أن يكون مثلا جليلا عالميا بما نبغ فيه من علماء وبما احتواه من بحوث واستنباطات دقيقة وفروض وحلول لمختلف المشاكل. وإنما نقوله تقريرا للواقع. [.....](8/238)
ومن جهة أخرى فإن الباحثين لا يدخلون أهل الحلّ والعقد والعلم الدنيوي في عداد الجماعة التي ينيطون بها ملكة القدرة على استنباط الأحكام من مأخذها ويجعلون إجماعها أصلا من أصول التشريع حيث يحصرون ذلك في المشتغلين بالعلوم الدينية مع أن تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يتناول كما قلنا قبل الشؤون السياسية والعسكرية والتنظيمية التي يكون لرأي أهل الحل والعقد والعلم الدنيوي أثر مهم فيها.
وبناء على ذلك كلّه تظل ضرورة تعيين السبيل التي يجب على المسلمين اتباعها والتي تنذر الآية الشاذين عنها ملحة في كل وقت وقطر بالنسبة لما لم يرد فيه شيء صريح أو قطعي أو محدد في القرآن والسنن النبوية من مختلف الشؤون التعاملية والسياسية والعسكرية والتنظيمية. ولما كان الإجماع على ذلك غير ممكن، وبقاء المسلمين مختلفين مذاهب وشيعا في ذلك على النحو الذي ذكرناه ضارا كل الضرر ومخالفا لتقريرات القرآن والسنّة النبوية ومعطلا لتعيين سبيل المسلمين الواجب على المسلمين اتباعها فلا بدّ من الأخذ بما يتفق عليه الأكثرية.
وسبيل ذلك الشورى التي وصف الله المسلمين بأنها من خصائصهم في آية سورة الشورى [38] حيث جاء فيها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ. وهذا المقام هو أوسع المقامات لتحقيق هذا الوصف حيث يجتمع ممثلو المذاهب الفقهية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الخلافية في العبادات والمعاملات فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه مناقضة لصريح القرآن والسنّة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل(8/239)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
ووجب اتباعه وحيث يجتمع ممثلو العلوم والشؤون الدنيوية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الدنيوية السياسية والعسكرية والتنظيمية فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه كذلك مناقضة لصريح القرآن والسنة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل ووجب اتباعه.
وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى الفقهاء بعض ذوي العلم الدنيوي وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى العلماء الدنيويين بعض ذوي العلم الديني لأنّ الإسلام دين متكامل يجمع بين الشؤون الدينية والدنيوية. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
. (1) إناثا: قيل إنها تعني الأوثان عامة حيث كان العرب يسمون أوثانهم إناثا. وقيل إنها تعني أوثانهم المؤنثة الأسماء بخاصة كاللات والعزى ومناة ونائلة. وقيل إنها تعني الأموات لأن العرب كانوا يسمون الأموات وما لا روح فيه من حجر وخشب ومعدن إناثا. وقيل إنها كناية عن الملائكة الذين كانوا يشركونهم مع الله لأنهم بنات الله في زعمهم سبحانه وتعالى عن ذلك. والعبارة في(8/240)
مقامها تتحمل كل هذا «1» .
(2) مريدا: متمردا.
(3) فليبتكن: من البتك وهو الشقّ أو الخرق.
(4) فليغيرن خلق الله: القصد من الجملة ما كان يفعله العرب في الحيوانات والأرقاء من خصي وكي ووشم إلخ. وقيل إن القصد منها تغيير فطرة الله ودينه.
والقول الأول هو الأوجه في مقام الجملة وهو متناسب مع البتك.
(5) محيصا: مهربا ومخلصا.
(6) قيلا: قولا.
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... إلخ. والآيات التالية لها إلى آخر الآية [122] ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه. لأنه إنما يدعو من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضلّ من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة. وأن يجعلهم- فيما يجعلهم- أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنّم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها
__________
(1) انظر تفسير الطبري الذي ورد فيه جميع هذه الأقوال وقد أوردها مفسرون آخرون بعده انظر ابن كثير والطبرسي والخازن مثلا.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 16(8/241)
نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة والذي ارتدّ ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول إني منهمك في ذنوب كثيرة ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة وإني تائب فما حالي فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كلّ ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنّع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين.
والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي الآية [48] حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية [48] في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة. وجاءت هنا في حقّ مشركي العرب. ولقد علّقنا على الآية [48] وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك فلم يعد محلّ للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة إِناثاً التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام من حيث إنه(8/242)
كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة وهم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد.
مثل آيات الزخرف هذه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) [16- 18] .
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين [118 و 119] التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم قد تكررت في آيات سابقة وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبّهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأنّ ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحقّ والهدى فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان:
نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام [135- 144] التي مرّ تفسيرها إلى بعض عادات متصلة بالأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى(8/243)
للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله ومنها البحيرة التي تعنيها جملة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ في الآية التي نحن في صددها حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سنّ هذه العادات ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو بن عامر وأن رسول الله قال إنه يجر قصبته في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [30] ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال «لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمّى أمّ يعقوب فجاءت فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول الله. ومن هو في كتاب الله. فقالت لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . قالت بلى. قال فإنه قد نهى عنه. قالت فإني أرى أهلك يفعلونه قال فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا» «1» . ومنها أنه التخنّث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي
__________
(1) التاج ج 4 ص 230 و 231.(8/244)
منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال «نهى رسول الله عن الإخصاء وفي رواية عن خصاء الخيل والبهائم» وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم» وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم» ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت «لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة» .
ومما أورده الطبري حديث عبد الله جاء فيه «لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات» . وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها.
وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول إن الحكمة فيه ظاهرة لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزين من وشم وتنمّص ووصل شعر وتطويله وتفلّج «1» فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة.
والتنمّص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت «كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك
__________
(1) التنمّص: هو نتف شعر اليدين والساق. والتفلّج: هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.(8/245)
ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا» «1» وهناك أحاديث نبوية تحثّ المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت «إنّ امرأة أومأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال ما أدري أيد رجل أم امرأة.
قالت بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيّرت أظفارك بالحنّاء» «2» وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحدّ المغيبة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا» «3» . وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلّجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري «أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال مالها لعنها الله غيّرت خلق الله» حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النساء يفعلن في وجوههن بالتنمص أو غيره حتى يقشرنها قشرا.
وهناك أحاديث تبيح خضاب اللحية بل تستحبه. منها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال «كان النبي يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران» «4» وحديث رواه أصحاب السنن جاء فيه «قال أبو رميثة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وكان قد لطخ لحيته بالحناء» «5» وحديث رواه هؤلاء أيضا عن أبي ذر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إن أحسن ما غيّر به هذا الشيب الحناء والكتم» «6» وبعضهم يرى حلق اللحية الحديث الشائع هو من تغيير خلق الله. ونحن لا نرى ذلك من ناحيتين: من ناحية الآية التي تربط الشرك وتغيير خلق الله برباط واحد بحيث لا يجوز أن يوصم مسلم يؤمن بالله وحده بالشرك بسبب حلق ذقنه. ومن ناحية الأحاديث لأنها تذكر
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 330 والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
(2) التاج ج 3 ص 157.
(3) التاج ج 2 ص 288 و 289 أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد. والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.
(4) التاج ج 3 ص 157.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(8/246)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
أشياء بأعيانها وليس لأحد أن يتجاوز ذلك. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
. في الآيات:
(1) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزى عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء.
(2) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحثّ والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملّة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا.
(3) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السموات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء. ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد.
تعليق على الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ والآيات الثلاث التي بعدها
روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من(8/247)
المسلمين حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين حيث قال الكتابيّون كتبنا وأنبياؤنا أسبق وقال المسلمون نبيّنا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أو فى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبيّنا فنحن الأقرب والأولى. وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الردّ على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء. والآية [125] احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم.
وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول إنها جزء منها. ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملّة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران [65- 68] التي مرّ تفسيرها. ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملّة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملّة حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات. وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة.
ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي. وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرىء أن يركن على الدعوى والأمانيّ والانتساب والظواهر.(8/248)
وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا.
وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عز وجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملّة الإسلام المستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه السلام. وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سوءا مما تكرر في القرآن كثيرا بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته. وكل دعوى خلاف ذلك باطلة. وهذا المعنى مما تضمنه وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم هدّأ روعهم وطمأنهم وبشّرهم. ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «لما نزل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شقّ ذلك على المسلمين فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قاربوا وسدّدوا. ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها. حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» «1» ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم ما في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) وآية سورة فصلت مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) . ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم وجعلتهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة
__________
(1) التاج ج 4 ص 88.(8/249)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
التي تكون في ما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية [31] من هذه السورة والله أعلم.
وبمناسبة جملة وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في كتب الصحاح.
ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة فوجد عند أهله خبزا فقالوا له هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك. ومنها أن جبريل أو الملائكة بشّروه بأن الله اتخذه خليلا لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم. ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه السلام.
ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده توحيدا لا شائبة فيه. وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل [130- 132] التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة. وفي الاجتباء معنى من معاني الخلّة التي منها الخليل. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
. (1) وأحضرت الأنفس الشحّ: الجملة استطرادية معترضة تشير في معرض(8/250)
الكلام عن الصلح إلى ما انطبعت عليه نفوس الناس من الشح والضنّ وعدم التسامح ويصدق ذلك على الزوج والزوجة معا.
تعليق على الآية وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين
في الآية الأولى:
(1) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء.
(2) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن. ثم في الأولاد المستضعفين.
(3) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط فلا يظلموهم على أي حال.
(4) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم.
في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على مايلي:
(1) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشحّ وعدم التسامح مع تنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير.
(2) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست مطلقة. وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل.
(3) وإذا لم يمكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان فخير للزوجين أن يتفرقا(8/251)
عن بعضهما والله الواسع الحكيم ييسّر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر.
والآيات فصل جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي.
روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة. منها أنه لما نزلت آيات المواريث شقّ على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت. ومنها أنه كان لجابر بن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها فسأل النبي في الأمر فنزلت. ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها فأنزل الله الآية. ومنها أنّ الآية توضيح للآية الثالثة من السورة وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى النساء [3] حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال وكانوا لا يؤتونهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية «1» .
ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حلّ. أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز. أو في رافع بن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة فأراد أن يتزوج ثانية جميلة ويؤثرها على القديمة فقال لها إن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك «2» وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. وهناك روايات أخرى من باب المروي مع اختلاف في الصيغ والأسماء.
(2) انظر كتب التفسير السابقة التي فيها روايات أخرى من باب الروايات.(8/252)
التالية للأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي «1» فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر. وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات [2 و 3 و 6 و 11- 14 و 19- 21] فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة.
ولقد قال بعضهم إن جملة ما كُتِبَ لَهُنَّ تشمل الصداق والإرث معا حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق ولا يؤتونهن إرثهن وهذا وجيه سديد.
ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح. ولقد احتوت آيات السورة [34 و 35] معالجة حالة نشوز الزوجة فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج. وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلّب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلّا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما. وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة [224- 232] والنساء [19- 21 و 35] .
ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثالثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا ثم حذرته من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره. ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح
__________
(1) الرواية الأولى رواها الشيخان عن عائشة كما جاء في التاج ج 4 ص 88 والثانية رواها الترمذي كما جاء في نفس المصدر.(8/253)
آية النساء الثالثة. وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين.
وفي الروايات وبخاصة رواية رافع بن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة ولم ير بدّا من التزوج بأخرى صغيرة. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذه على تلك. فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق. ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى وهي أن رجلا أتى إلى علي بن أبي طالب يستفتيه في جملة وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبو عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته فإن وضعت له من مهرها شيئا حلّ. وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج. وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما.
وعبارة الآيات الثلاث وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه. فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا. وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن.
ويلفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حثّ على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه. وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت. وعدم حلها إلّا إذا استنفدت كل وسيلة. حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين. وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة بأسلوبها البليغ النافذ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته. وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها منها حديث رواه(8/254)
أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل» «1» وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» «2» وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضّل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قلّ يوم إلّا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كلّ امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها» «3» .
وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر. وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات. وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه. وليس في الأحاديث تبرير للتعدد. وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه. ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير مستطاع مهما حرص المرء عليه.
ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة فإن كانت حسناء فتية قال له زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة لا مال لها قال له تزوجها فأنت أحق بها. وروي عن علي بن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي فقال له إن كنت خيرا لها فتزوجها وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير. حيث يصح أن يستأنس بذلك فيقال إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتدخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في أمورهم. والله أعلم.
__________
(1) التاج ج 2 ص 294- 295. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(8/255)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
. عبارة الآيات واضحة. وليس فيها موضوع خاص. ولم يرو المفسرون شيئا في نزولها. ولقد تكرر في الآيات السابقة تنبيه السامعين المؤمنين إلى وجوب التقوى. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ردفها بهذه الآيات وتعقيبا لها لتؤكد ذلك عليهم وتقول لهم إن الله وصّاهم بتقوى الله كما وصّى الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ولتنبههم في الوقت نفسه إلى أن هذا لمصلحتهم وخيرهم. لأن الله غني عن الناس إذا لم يتقوه وكفروا. وهو في الوقت نفسه حميد لهم إذا أمنوا وأخلصوا.
وله ما في السموات وما في الأرض وهو يستطيع إذا شاء أن يذهب بالموجودين من الناس ويأتي بغيرهم. وإنه إذا كان من الناس من يهتم لمنافع الدنيا ومتاعها فإنهم إذا اتقوه وأخلصوا له يسّر ذلك لهم بالإضافة إلى ثواب الآخرة فهو مالك الدنيا والآخرة، وعنده ثوابهما وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء.
والآيات قوية في ردفها وتعقيبها وهدفها وقد جاءت مطلقة لتوكيد وجوب تقوى الله في جميع الأعمال والمواقف وتطمين من يفعل ذلك بفضل الله وثوابه في الدنيا والآخرة. مما هو متسق مع الأسلوب القرآني البليغ النافذ.
ولقد أورد رشيد رضا في سياقها حديثا قدسيا رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «يقول الله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فأعطيت كل واحد مسألته(8/256)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلّا نفسه» .
وفي الحديث حقائق عن ذات الله تعالى نؤمن بها. وقد تكرر تقريرها في القرآن بأساليب متنوعة والحكمة الملموحة في الحديث تنبه الناس والمسلمين بخاصة أن أعمالهم هي العائدة لهم حسب ما تكون من خير وشر وأن عليهم إذا أرادوا لأنفسهم الخير أن يتقوا الله فيها.
[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
. (1) وإن تلووا: قال المؤولون إنها بمعنى محاباة الحكام لأحد الخصمين، كما قالوا إنها بمعنى ليّ اللسان بتحريف الشهادة والدعاوى وقد يكون هذا هو الأوجه، وهو ما عليه الجمهور.
في الآية أمر موجه إلى المؤمنين:
(1) بأن يكونوا شديدي الاهتمام للعدل والحق والتزامهما في كل حال وفيما يطلب من شهادة وقول في صددهما.
(2) وبأن لا يراقبوا في ذلك إلّا الله تعالى وحده ولو كانت الشهادة وقول الحقّ على نفس الواحد منهم أو على أبويه أو ذوي قرباه. وبقطع النظر عن أي اعتبار. وعن كون الذي يشهد بالحق عليه ويقال كلمة العدل في حقه غنيا يخشى منه أو فقيرا يشفق عليه فالله أولى بهما منه.
(3) وبأنّ عليهم في أي حال التزام هذا النهج وعدم اتباع الهوى والعاطفة وجعلهما مؤثرين فيما يجب عليهم من الحق والعدل. فالله سبحانه يعلم حقائق الجزء الثامن من التفسير الحديث 17(8/257)
الأمور والنوايا وعليهم أن يتقوه ويحذروه ولا يغيروا أو يبدلوا أو يكتموا الشهادة أو يحرفوها أو يعرضوا عن القول الحق والعمل العدل وتوطيدها في أي حال.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ... إلخ
ولقد روى الطبري عن السدي أن الآية نزلت تأديبا للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تخاصم عنده غني وفقير فكان ميله نحو الفقير باجتهاد أن الفقير لا يمكن أن يكون ظالما للغني وروى الطبري إلى هذا أنها في صدد قضية بني أبيرق وما كان من اتجاه النبي إلى تبرئتهم بسبب تزويقهم الكلام مما أوردنا تفصيله قبل. والروايات لم ترد في الصحاح.
ويلحظ في صدد القول بصلة الآية بحادث بني أبيرق أن سياق هذا الحادث قد انتهى وجاءت بعده فصول لا علاقة لها به. ويلحظ في صدد رواية السدي أنه لو كانت الآية في موقف النبي من الخصومة بين الغني والفقير لكان الخطاب فيها موجها له كما كان الأمر في حادث بني أبيرق على ما جاء في الآية [105] وما بعدها.
والذي يتبادر لنا أن الآية جاءت هي الأخرى معقبة كسابقاتها على فصل الاستفتاء في النساء ويتاماهن حيث احتوت بدورها توكيدا بوجوب تقوى الله ومراقبته في حقوق الناس وعدم التلاعب فيها بأي سبب واعتبار.
وفي التلقينات التي احتوتها الآية من الجلالة والروعة ما يجعلها من أمهات الآيات القرآنية المحكمة في بابها. وغرة وهاجة السناء في جبهة الشريعة الإسلامية حيث تأمر بأسلوب قوي نافذ وحاسم وموجه إلى العقل والقلب معا بما يجب على المسلمين في كل ظرف ومكان وسواء في ذلك أفرادهم وجماعاتهم وحكامهم من قول الحق والشهادة بالحق وتسويد الحق على كل اعتبار وعاطفة ومصلحة خاصة ولو على أنفسهم أو والديهم أو أقربائهم ودون خوف من أحد أو شفقة على أحد.
والتضامن في ذلك أشد تضامن وأقواه. على اعتبار أن قوة البنيان الاجتماعي(8/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
والطمأنينة الاجتماعية ومصلحة الأفراد والجماعات منوطة به وقائمة عليه. وعلى اعتبار أن استشعار كل فرد بواجب الإنصاف في كل موقف وحال هو أقوى عماد لصلاح المجتمع وقوته وسعادته.
[سورة النساء (4) : الآيات 136 الى 147]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
. (1) ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين: قال الزمخشري في تأويلها:(8/259)
ألم نتمكن من أمركم أو قتلكم فأبقينا عليكم ولم نساعد المسلمين عليكم وثبطناهم عنكم! والاستحواذ بمعنى الإحاطة والحيازة. وروى الطبري عن أهل التأويل أنها بمعنى (ألم نكن نثبط عنكم المسلمين أو ألم نكن أعلناكم أنا معكم عليهم) . ومما يرد في البال أن يكون معنى الجملة (ألم نحل دونكم ودون المسلمين الذين كانوا قادرين عليكم ونمنعكم بذلك منهم) .
(2) يخادعون الله وهو خادعهم: تعبير وهو خادعهم أسلوبي للمشاكلة وللمقابلة على الجملة السابقة. من قبيل ومكروا ومكر الله.
(3) مذبذبين: حائرين، أو متموجين، أو مترددين.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [147] وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد. ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين. وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عند تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي. لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات: فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله بن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية [140](8/260)
نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة (الكافرين) في الآيات [139 و 141 و 144] المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها أنها وحدة تامة ولم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد وأنها في حقّ المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة (الكافرين) في الآيات باليهود هو الأوجه. وأن المخاطبين في الآية [140] هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية [144] قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تمّ قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية [141] تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة. حيث كان شأنهم التربّص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود وحيث كانوا للأولين يقولون إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.(8/261)
والآية [139] تدلّ على أن المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيها عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية [144] .
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية [140] إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء هذا في آية سورة الأنعام هذه وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) .
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية [142] تفيد أن المنافقين كانوا يصلّون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم. والله جامعهم مع الكافرين. ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه.
وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الله الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله(8/262)
تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها. وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه، وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا عفو الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرّين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية [141] تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقرّ في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر بطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية [144] . وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصحّ أن يعدّ من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا إنّ المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود(8/263)
والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة [100] وسورة الأنفال [55 و 56] التي مرّ تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا. حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نقضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سور الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلّا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى:
(1) فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
(2) والكفر بشيء من ذلك هو انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
(3) ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
(4) ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
(5) ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في مواقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
(6) والمؤمنون المخلصون مضمونو النصر والتأييد من الله على الكافرين والمنافقين في كل ظرف لأنهم يستمدون قوتهم وصبرهم من إيمانهم في حين يكون هذا المدد مقطوعا عن الكافرين والمنافقين.
(7) والقرآن يستهدف دائما إصلاح الناس ويجعل الباب مفتوحا للآثمين بما فيهم المنافقون والكفار ليرتدعوا ويتوبوا ويصلحوا ويخلصوا.
(8) وحاشا أن يكون من مقاصد الله عز وجل تعذيب الناس إذا آمنوا(8/264)
وشكروا. وإنه ليريد لهم هذا ويرضاه ويثيبهم عليه.
وفي كل هذا ما هو ظاهر من روعة وجلال. ومن اتساق مع وصايا القرآن وتلقيناته المتكررة في المناسبات العديدة.
ولقد أورد المفسرون «1» بعض الأحاديث والاستنباطات في سياق هذه الآيات نلمّ بها فيما يلي:
1- لقد استدلوا بالآية [136] على جواز قبول توبة المرتدّ مرة بعد مرة إلى ثلاث مرات. ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب. ومما قالوه إنه من يفعل ذلك أكثر من ثلاث مرات فلا يقبل منه لأنه يكون مستهزئا مخادعا ويطبق عليه عقوبة المرتدّ وهي القتل على ما جاء في حديث نبوي رواه الخمسة وأوردناه في مناسبة سابقة «2» .
2- لقد أورد في سياق الآية [139] حديثا رواه الإمام مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «من انتسب إلى تسعة آباء كفّار يريد بهم عزّا وكرما فهو عاشرهم في النار» حيث ينطوي في الحديث نهي عن الاعتزاز بالآباء الكفار وتلقين بأنه أجدر بالمؤمنين أن يبتغوا العزة من الله بالإسلام لأنّ العزة لله جميعا.
3- لقد استدل بعضهم من الآية [140] على حرمة مجالسة من يعصون الله بارتكابهم الأفعال المحرمة أو أهل الأهواء والبدع المنحرفة. ومع أن النهي منصب على مجالسة الكفار المستهزئين بالقرآن فإن الاستدلال والقياس لا يخلوان من وجاهة على أن الامتناع عن مجالستهم في حالة ارتكابهم المعاصي أو خوضهم في الأهواء والبدع. والله أعلم.
4- لقد قال بعضهم إن جملة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا في الآية [141] هي أيضا بالنسبة ليوم القيامة. غير أن هناك من قال إن فيها بشرى للمؤمنين بالنسبة للدنيا وأن الكفار إذا استعلوا وغلبوا المؤمنين فإنه يكون من قبيل
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والقاسمي.
(2) أحاديث عقوبة المرتدّ في التاج ج 3 ص 17.(8/265)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
الامتحان وإن النصر النهائي سيكون للمؤمنين عليهم. وهذا وجيه مؤيد بآيات كثيرة وعد الله فيها المؤمنين والرسل بالنصر والتأييد غير أن من الحق أن نذكر أنه شرط ذلك بالإخلاص وصدق الإيمان.
5- لقد استنبط بعضهم من الآية [141] أيضا عدم جواز ولاية الكافر وحكمه على المسلمين وعدم جواز الرضاء بهما وعدم جواز ولاية الكافر في نكاح مؤمنة ولا في سفرها. وعدم جواز شفاعة الكافر في مؤمن. وعدم جواز بيع مملوك مسلم ذكرا كان أو أنثى لكافر. وكل هذا سديد وجيه في ذاته. وإن كنا نرى في استنباطه من الآية تكلفا.
6- ولم يمنع عقل ولا دين بعض مفسري الشيعة من القول إن الآية [136] نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لأنهم آمنوا بالنبي أولا ثم كفروا حين عرضت عليهم ولاية علي، ثم آمنوا بها في حياة النبي وكفروا بها بعده وازدادوا كفرا بأخذهم البيعة لأنفسهم «1» .
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
. تعليق على ما في الآية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ... إلخ من تلقين وعظة
عبارة الآيتين واضحة. وهما فصل جديد. ويلمح شيء من التناسب الموضوعي بينهما وبين الآية السابقة لهما مباشرة. فإذا لم تكونا نزلتا بعدها فيكون وضعهما في مكانهما بسبب ذلك على ما يتبادر.
__________
(1) انظر كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي ج 1 ص 434 عزوا إلى كتاب تفسير الكليني المسمى بالكافي.(8/266)
روى الخازن رواية في نزول الآية الأولى ورد صيغة مقاربة لها في سنن أبي داود عن أبي هريرة بهذا النص «إن رجلا كان يسبّ أبا بكر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية فصمت عنه ثم آذاه الثالثة فانتصر منه فقام رسول الله فقال أبو بكر أوجدت عليّ يا رسول الله. قال نزل ملك من السماء يكذّبه بما قال لك فلما انتصرت وقع الشيطان فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان» » .
ويلحظ أن في الآية تبريرا لانتصار أبي بكر لنفسه في حين أن الحديث يذكر عدم رضاء النبي عن ذلك وأن الآية الثانية هي متممة للأولى ومنسجمة معها وهذا يسوغ الترجيح نزولهما معا. فإذا فرضنا أن حادث أبي بكر كان سبب نزولهما وليس نزول الآية الأولى فقط فإن الملاحظة الأولى تبقى واردة. إلا أن يقال إن حكمة التنزيل اقتضت تبرير موقف أبي بكر ثم اقتضت ردف ذلك التبرير بالحث على العفو. ومهما يكن من أمر فيصح القول إن الآيتين نزلتا في حادث سوء جهر به شخص ما. ولا ينفي هذا أن يكون هو الحادث الذي ذكر في الحديث والله أعلم.
وقد جاءت الآيات بأسلوب مطلق عام لتكون عامة مستمرة المدى في ما احتوته من تعليم وتأديب وعظة وتلقين بما مفاده:
(1) إن الجهر بالسوء مهما كان. وسواء أكان بذاءة أو شتيمة أم تعريضا أم تحريضا أم تقريعا أم سخرية أم استهتارا أم إشاعة فاحشة وشيوع ذلك بين المسلمين شيء قبيح لا يحبه الله تعالى.
(2) ويستثنى من ذلك المظلوم الذي يقول ما يقول ردا على المعتدي عليه بدءا.
(3) ومع ذلك فعفو المسلمين عن بعضهم خير مستحب وفيه اقتداء بالله عزّ وجل الذي يعفو عن الناس ويسع حلمه ما يبدو منهم من مواقف فيها سوء أدب وجحود مع قدرته على البطش والانتقام. وليعلموا أن الله يعلم كل ما يصدر منهم
__________
(1) التاج ج 5 ص 47 ومعنى فانتصر منه أي ردّ على مؤذيه بالمثل مدافعا عن نفسه.(8/267)
من خير سواء أأبدوه أو أخفوه. وعليهم أن يفعلوا الخير على كل حال والعفو خير.
وبعض هذه التلقينات ورد في آيات سورة الشورى [39- 43] على ما شرحناه في مناسبتها حيث يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذا الأمر كما هو في الأمور الأخرى. وقد يكون استثناء المظلوم وتبرير ردّه على ظالمه قد استهدف به عدم استشراء البذاءة والعدوان في المجتمع الإسلامي. وروح الآيات تلهم أن هذا لا ينبغي أن يكون إلّا في نطاق هذا الهدف من جهة وأن العفو هو الأفضل إذا كان لا يؤدي إلى ذلك الاستشراء من جهة أخرى. وفي هذا تتمة للتلقين الذي انطوى في الآيتين.
ومما قاله المفسرون لأنفسهم أو لعلماء آخرين إن من الواجب أن يكون ردّ المظلوم على الظالم بما ليس فيه عدوان وفحش وافتراء وهذا وجيه سديد.
هذا. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن تعبير لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ هو أسلوبي يستهدف التأديب بالنص على قبح الجهر بالسوء وإنه لا يمكن أن يكون بمعنى أن الله عز وجل يرضى عن السوء إذا كان في مجلس خاص أو إذا كان صدر خفية من دون جهر علني. فالله سبحانه قد حرم الإثم والفواحش مطلقا ما ظهر منها وما بطن على السواء وآذن أنه لا يرضى ما بيت من سوء قولا وفعلا في آيات عديدة مكية ومدنية ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات الأنعام [130 و 151] والأعراف [33] والآيات [108 و 123] من هذه السورة. ومنها ما جاء في سور يأتي تفسيرها بعد.
وهناك أحاديث نبوية ساق بعضها بعض المفسرين في سياق الآيتين متساوقة في التلقين معهما. من ذلك حديثان رواهما أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما «قال النبي أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم قال رجل فيمن كان قبلكم كان إذا أصبح قال اللهم إني جعلت عرضي لمن شتمني» «1»
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 24 و 26.(8/268)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
وجاء في ثانيهما «إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ. ومن الكبائر السّبتان بالسّبة» «1» وحديث رواه البخاري جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل ألّا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته. وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» «2» وحديث رواه الترمذي جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» «3» وحديث رواه الترمذي أيضا جاء فيه «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى إنهم يجعلون له ندّا وولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم» «4» وحديث رواه مسلم جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» «5» وحديث رواه الأربعة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» «6» .
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) .
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 26 و 24.
(2) التاج ج 5 ص 19 و 34 و 45 و 46 و 167 وهناك أحاديث عديدة من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(8/269)
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بكون الكافرين حقا المستحقين لعذاب الله هم الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا في الإيمان بهم فيقولون نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم وبكون الذين يؤمنون بالله ورسله جميعا بدون تفريق هم المؤمنون حقا الذين يستحقون أجرهم عند الله الغفور الرحيم.
والآيات فصل جديد. وقد يلمح شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الفصل السابق لها وبخاصة الآية الأولى منه أي [136] وقد يكون هذا سبب وضعها في مكانها إن لم تكن نزلت بعد الآيات السابقة.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات وكل ما هناك أن الخازن قال «قيل إنها نزلت في اليهود لأنهم يؤمنون بموسى وأنبيائهم وكتبهم ولا يؤمنون بعيسى وإنجيله ومحمد وقرآنه وقيل إنها نزلت في النصارى الذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن» وإن الطبري وابن كثير قالا إنها في اليهود والنصارى معا لأن كلا منهم يؤمن ببعض الأنبياء والكتب ويكفر ببعض.
والآيات من حيث المدى تتحمل هذه الأقوال جميعها. غير أن الآيات التالية احتوت حملة على اليهود خاصة لجحودهم رسالة النبي وتحديهم إياه وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء حيث يبدو من ذلك أن بين هذه الآيات وبينها صلة موضوعية وأنها جاءت كمقدمة وتمهيد لها.
والآيات مع خصوصية الموقف الذي نزلت بمناسبته تتضمن تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان عامة ومبدأ من مبادئ الدين الإسلامي خاصة: فالإيمان بموسى وغيره من الأنبياء دون الإيمان برسالة عيسى بالنسبة لمن عاش في عهد عيسى وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من رسل الله دون الإيمان بمحمد لمن عاش في عهد محمد وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان(8/270)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
بمحمد لا يجزي إلّا مع الإيمان بمن قبله من رسل الله. والدين الحق هو الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم وسلامه دون تفريق بين أحد منهم. ومن يكونون على ذلك فهم المؤمنون حقا. وهم المسلمون الذين يؤمنون بجميع أنبياء الله- صلوات الله عليهم- ورسله وكتبه. وما عداهم فهم عند الله كافرون. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة خاص بحالة اليهود والنصارى وإيجاب إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير النار مصيرا لغير المؤمنين به يمكن أن يساق في هذا المقام ونصه «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «1» والحديث غير محصور باليهود والنصارى وإنما المناسبة هي التي جعلت النبي يذكرهما بخاصة في الحديث على ما هو المتبادر. فالنبي رسول الله إلى الناس جميعا فكل من سمع به ولم يؤمن به كافر من أصحاب النار وقد جاء هذا في آيات أخرى منها آية سورة البينة هذه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) .
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 161]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) .
__________
(1) التاج ج 5 ص 30 والمتبادر أن معنى (هذه الأمة) في الحديث الناس الذين وجدوا في عهده وبعده إلى آخر الزمن. [.....](8/271)
تعليق على الآية يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية [161] وما فيها من حملة على اليهود لمواقفهم الجحودية. واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء
عبارة الآيات واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحدّ وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدو منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه.
وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعدّ للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون «1» أن كعب بن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.(8/272)
اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك فنزلت الآيات بالردّ عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد.
والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجلّ ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية حيث قالوا إنه ابن جندي روماني اسمه تيريو جوليو «1» وواجب المسلم أن ينكر ذلك وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مسّ من رجل كما جاء ذلك في آيات في سور آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
__________
(1) قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق. وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 18(8/273)
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح.
ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبّه لهم وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك. وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا:
إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا: إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم. وجوابا على هذا التمحل نقول إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا: إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس وهم من حواريي المسيح ورسله وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني(8/274)
اسمه ايبون فكان مما يقوله (إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق وهو ينكر الصلب ويقرر جلّ الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص [52- 55] والإسراء [107- 108] والرعد [35] والأنعام [20 و 114] والعنكبوت [47] وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة عن وهب بن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه وقتله فأحاطوا بالبيت ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم لتقرّن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم فقال عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم(8/275)
جرجس أنا ثم قال أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول فقال جرجس أنا فقال له اخرج إليهم فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هو نفسه شبّه بعيسى فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية [157] من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك.
وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثيرا من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله: إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه- سبحانه- مشكل منذ عصى آدم وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة فلم يهتد إلى ذلك إلّا منذ ألفي سنة- سبحانه- وذلك بأن يحل ابنه تعالى الذي هو هو نفسه في بطن امرأة من ذرية آدم ويتجسد جنينا في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث هو ابنها وإلها كاملا من حيث هو ابن الله الذي هو الله نفسه ويكون معصوما من جميع معاصي بني آدم. ثم بعد أن يعيش زمنا معهم يأكل ويشرب مما يأكلون ويشربون ويتلذذ ويتألم كما يتلذذون ويتألمون يسخر أعداء لقتله أفظع قتلة وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر(8/276)
وخلاصهم من خطاياهم كما قال يوحنا في رسالته الأولى وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] .
وقد عقب السيد رشيد رضا على ذلك بردود عديدة قوية الإفحام من الناحية العقلية والناحية الجدلية والناحية الفعلية. ثم أورد مقتبسات من كتب عديدة لإثبات أن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدا في البلاد الهندية والوثنية فنكتفي من ذلك بهذه اللمعة ونحيل من أراد التوسع إلى الجزء المذكور من تفسير هذا الإمام الجليل «1» .
وفي الأناجيل الأربعة التي يعترف بها النصارى عبارات وردت على لسان عيسى عليه السلام في سياق حكاية ما وقع عليه من أذى وصلب واحتضار وإسلام روح تعبر عن جزعه. وفيها استغاثة لله بأن يصرف عنه ذلك وفيها هتاف له بمعنى العقاب عن تركه إياه ليفعلوا به ما فعلوه مما فيه تناقض مع العقيدة النصرانية وتوكيد للعقيدة التي يقررها القرآن ببشرية المسيح وعبوديته لله ولما حكاه من أقوال لبني إسرائيل على ما أوردناه في سياق تفسير سورة مريم. ومن ذلك في إنجيل متى (إلهي إلهي لماذا تركتني) و (فرّ على وجهه يصلي قائلا يا أبت إن كان يستطاع فلتعبر عني هذه الكأس لكن ليس كمشيئتي بل كمشيئتك) وفي إنجيل مرقص حينما احتضر (إلهي إلهي لماذا تركتني) وفي إنجيل لوقا (صلى قائلا إن شئت فأجز عني هذه الكأس) و (لما صلبوه قال يسوع يا أبت اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون) و (يا رب اذكرني متى جئت في ملكوتك. يا أبت في يديك أستودع روحي) .
والنصارى يسوقون التواتر في الأناجيل المتداولة اليوم كحجة على صلب المسيح. وما دام القرآن ينكر ذلك فيكون هذا هو عقيدة المسلم. وجملة (وإن
__________
(1) انظر تفسير القاسمي أيضا ففيه فصل مماثل جيد.(8/277)
الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلّا اتباع الظن) تفيد أن هذا الأمر لم يكن من المسلمات في زمن نزول القرآن بل كان مثار جدل وشك بين الناس وبين النصارى في الجملة. والمدونات القديمة مؤيدة لذلك. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها المتداولة مجمعة على ذلك فلا يعني هذا أنه لم يكن أناجيل وأسفار مناقضة لذلك فبادت أو أبيدت. والقرآن بعد لا ينفي الصلب والقتل وإنما ينفيهما عن شخص المسيح مع إلهامه بإيقاعهما على شبيه له. وقد يكون هذا هو أصل التواتر المسيحي ولا يصح أن يكون حجة ضد تقرير القرآن كما هو المتبادر.
والروايات تذكر مسألة التشبيه للمسيح على ما شرحناه قبل.
وقد حاول مبشر نصراني سمّى نفسه الأستاذ حداد في كتاب له عنوانه (القرآن والكتاب) تأويل العبارة القرآنية وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بما يتفق مع العقيدة النصرانية فقال إنها إنما تنفي كون اليهود قتلوه بمعنى أماتوه وأعدموا وجوده بالمرة وإن هذا هو الذي شبّه لهم أنهم فعلوه ولم يفعلوه. وفي هذا تمحل وتعسف. فالمؤولون والمفسرون بدون خلاف أولوا وفسروا الجملة القرآنية بالصلب والقتل فعلا اللذين ينفيهما القرآن وأولوا جملة شُبِّهَ لَهُمْ بأن المقصود منها المسيح. والمدونات والروايات القديمة تؤيد هذا التفسير والتأويل على ما شرحناه آنفا.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون «1» عن أهل التأويل من الصدر الأول كابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وغيرهم لجملة وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ للتوفيق بينها وبين آية آل عمران [55] التي تذكر أن الله رافعه إليه بعد توفّيه يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ ولقد علقنا على هذه المسألة في تفسير آية آل عمران. وإذا كان من شيء نقوله هنا فهو أن العبارة القرآنية في آية النساء التي نحن في صددها لا تتناقض مع آية آل عمران كما هو المتبادر لنا.
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والخازن وغيرهم.(8/278)
كذلك تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من الصدر الإسلامي الأول المذكورين آنفا لجملة وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ من ذلك أن الضمير بِهِ عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى أن كل كتابي يهوديا كان أم نصرانيا سيدرك عند موته صدق رسالته ويؤمن بها مع قولهم إن هذا لا ينفعهم لأن التوبة لا تنفع عند الموت. ولقد فنّد الطبري هذا القول لأن النبي لم يذكر في السياق حتى يصح عودة الضمير إليه. ورجح أن يكون الضمير عائدا إلى عيسى وهو الأوجه الذي ذهب إليه جمهور المؤولين. وقد فرعوا على هذا القول بأنه يحتمل أن يكون في معنيين الأول أن كل كتابي يهوديا كان أم نصرانيا لا بدّ من أن يؤمن عند موته بحقيقة عيسى المقررة في القرآن بأنه عبد الله ورسوله مع القول إن هذا لا ينفعهم. والثاني أن كل كتابي لا بد من أن يؤمن بحقيقة عيسى قبل موت عيسى نفسه. ولحظ بعضهم أن موت عيسى إنما سيكون بعد مجيئه في آخر الزمن مرة أخرى والذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة أوردناها وعلقنا عليها في سياق الآية [56] من سورة غافر وأن جمهورا كبيرا من الكتابيين يكونون قد ماتوا قبل ذلك خلال الأحقاب الطويلة فقال إن المقصود هم الباقون أحياء من اليهود والنصارى عند مجيئه آخر الزمان. ونصّ الآية قوي في شموله لكل كتابي بحيث يكون هذا الاستدراك غير شاف وبحيث يبقى الأكثر ورودا هو المعنى الأول. وهو إيمان كل كتابي بحقيقة عيسى قبل موته وهذا ما عليه الجمهور. وما دامت الآية تلهم أن هذا هو الأقوى فيجب التسليم به مع القول إنه يدخل في نطاق الأمور الإيمانية الغيبية وإذا لم يمكن ماديا وفعلا فلا يمكن إثبات بطلانه كذلك. ومع واجب الإيمان بذلك فقد يمكن أن يكون من حكمة تقريره بالأسلوب القوي الذي جاء به توكيد صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعمومها وتثبيت معتنقيها والله تعالى أعلم.
والأناجيل المتداولة تذكر أن حاكم الرومان في القدس هو الذي أمر بالقبض على المسيح وصلبه حتى الموت وتذكر أن ذلك كان بتحريض وإصرار اليهود(8/279)
وقولهم له دمه علينا وعلى أبنائنا «1» والآية [159] تنفي قتل اليهود لعيسى وصلبه ولكنها تلهم أنهم أقدموا على الجريمة ونفذوها في شبيهه. ولسنا نرى تناقضا لأن الحاكم الروماني فعل ما فعله بطلبهم وتحريضهم فكأنهم هم الذين فعلوه. ومع ذلك فنحن نعتقد أن اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ممتدا إلى ما قبله كانوا يقولون إنهم صلبوه وقتلوه وإن القرآن حكى قولهم هذا. وإذا كان القرآن نفى صلب اليهود لعيسى وقتله فإنهم يظلون مدموغين بالجريمة لأنم حاولوا ذلك ونفذوه ولو في شبيه له فضلا عن ما دمغهم به القرآن بما كانوا يرمون مريم به من بهتان عظيم الذي كان يعني الزنا.
ولقد قال بعض المفسرين «2» في صدد ما جاء في الآية [160] من تحريم بعض الطيبات على اليهود إنها المذكورة في آية سورة الأنعام هذه وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) والقول في محله. وبعض الآية يؤيده لأنها تقرر أن التحريم كان عقوبة لهم على ظلمهم. وهو ما ذكرته الآية [160] . وقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة الأنعام فلا نرى حاجة إلى التكرار «3» .
وروح الآيتين [160- 161] تلهم أن ما جاء فيهما من أخذ اليهود الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وصدهم كثيرا عن سبيل الله عائد إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي المدينة. ولقد حكت آيات عديدة مرت في سورتي البقرة وآل عمران وفي هذه السورة شدة صدهم عن سبيل الله. وحكت آية آل عمران [75] قولهم بأنهم ليس عليهم في الأميين سبيل. وكان هذا يجعلهم
__________
(1) انظر الإصحاح السابع والعشرين من إنجيل متى والإصحاح الخامس عشر من إنجيل مرقص والإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل لوقا والإصحاح التاسع عشر من إنجيل يوحنا.
(2) انظر تفسير ابن كثير والخازن مثلا.
(3) انظر الإصحاح 7 من سفر الأحبار أو اللاويين والإصحاح 14 من سفر التثنية ففيهما المحرمات المذكورة في آية سورة الأنعام.(8/280)
يستحلون أموال غيرهم وخيانتهم والاحتيال عليهم. وهو ما تفيده جملة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ولقد حكت بعض أسفارهم أن الله وصّاهم بعدم هضم الغريب وظلمه ومضايقته «1» ولذلك استحكمت فيهم الفقرة الأخيرة من الآية [75] من سورة آل عمران وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وقد يرد أن اليهود إنما نهوا في أسفارهم عن أخذ الربا من أقاربهم دون الأجانب «2» . وما دام القرآن يحكي عنهم أنهم كانوا يأخذون الربا الذي نهوا عنه فيكونون إما أنهم تجاوزوا ما أمروا به فصاروا يأخذون الربا من أقاربهم وإما أن وصية الله لهم هي عدم أخذ الربا من أحد ما فحرفوا كتبهم ليستحلوا أخذ الربا من غيرهم. وهناك نصوص عديدة في أسفار العهد القديم فيها ذمّ مطلق للربا والمرابين حيث يكون في ذلك تأييد لكون الربا كان محرما عليهم مطلقا فاستحلّوه «3» .
وجملتا وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ووَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يمكن أن تكونا بالنسبة لسابق تاريخ اليهود على ما حكته عنهم أسفار عديدة من أسفارهم ويمكن أن تكونا بالنسبة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث حكت ذلك عنهم آيات قرآنية عديدة منها ما جاء في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرّ تفسيرهما. ومنها في ما جاء في آيات في سورتي المائدة والتوبة مثل الآيات [42 و 62] في المائدة و [34] في التوبة.
هذا، والآيات في جملتها تدل على أنها نزلت في ظرف كان فريق من اليهود فيه ما زال موجودا في المدينة وكان على شيء من القوة والاعتداد حتى يستطيع أن يجادل ويتحدى. وبعبارة ثانية تدل على أنها نزلت في وقت مبكر. وقبل التنكيل ببني قريظة الذي مرت حكايته في سورة الأحزاب على كل حال كما هو الأمر بالنسبة للآيات [44- 56] والآيات [139- 143] من هذه السورة على ما نبهنا عليه من قبل.
__________
(1) انظر الإصحاحات 22 و 23 من سفر الخروج و 19 من سفر الأحبار و 10 من سفر التثنية.
(2) انظر الإصحاحات 22 من سفر الخروج و 23 من سفر التثنية.
(3) انظر الإصحاح 14 من المزامير و 28 من الأمثال و 18 من حزقيل.(8/281)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
. (1) المقيمين الصلاة: تعددت الأقوال في سبب مجيء وَالْمُقِيمِينَ منصوبة مع أن الكلمات المعطوفة عليها قبلها وبعدها مرفوعة أي الرَّاسِخُونَ ووَ الْمُؤْمِنُونَ ووَ الْمُؤْتُونَ. فهناك قول إنها قرئت هي الأخرى على الرفع والمقيمون وإنها في مصحف أبي بن كعب كذلك. وهناك قول إنها على سبيل الاختصاص وتقديرها أخصّ بالذكر المقيمين للصلاة. وهناك قول إنها معطوفة على مِنْهُمْ بمعنى لكن الراسخين في العلم منهم ومن المقيمين للصلاة. وقول إنها معطوفة على بِما بمعنى إنهم يؤمنون بما أنزل من قبلك وبالمقيمين للصلاة. وقول إنها من غلط الكتاب. وجمهور المفسرين يستبعدون الغلط ويرجحون الاختصاص «1» .
احتوت الآية استدراكا استثنائيا فيه تنويه وبشرى بشأن الراسخين في العلم من اليهود وغيرهم الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر. فهؤلاء يؤمنون بما أنزل إلى النبي وما أنزل إلى الأنبياء السابقين قبله. وسوف يؤتيهم الله الأجر العظيم.
وقد روي «2» عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسد بن سعية وأسد بن عبيد من مسلمة اليهود. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح. والآية متصلة كما هو واضح بالسياق السابق اتصالا وثيقا. وإذا صحت الرواية فتكون الآية في صدد الإشارة إلى إيمان هؤلاء وأمثالهم من مسلمة اليهود
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
(2) انظر تفسير ابن كثير.(8/282)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
على سبيل الاستثناء من الجملة التي حملت في الآيات السابقة على اليهود.
ويتبادر لنا أنها استهدفت بالإضافة إلى الاستثناء التنويهي تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته وتدعيم موقفه. وقد يكون ضمير المخاطب في إِلَيْكَ قرينة على ذلك:
فليس من موجب لانزعاجه واغتمامه. وإذا كان جمهور اليهود يقفون منه موقف الجحود ويطلبون منه ما يطلبون بقصد تعجيزه وتحديه فالراسخون في العلم وذوو النيات الحسنة منهم قد أدركوا حقيقة الأمر فصدقوا برسالته وآمنوا. وفي هذا ما فيه من البرهان والكفاية بالنسبة للموقف القائم بينه وبين اليهود.
وننبه على أن مثل هذا الاستدراك والاستثناء قد تكرر في سياق حكاية مواقف اليهود وتعجيزاتهم والحملة عليهم مما مرت منه أمثلة عديدة في سورتي البقرة وآل عمران مستهدفا نفس الهدف أيضا. وفي كل هذا صور تتكرر عن إيمان ذوي النيات الحسنة من علماء اليهود وغيرهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم دون مكابرة وعناد فيها دلالة على ما تحتويه الرسالة المحمدية من عناصر الاستجابة القوية التي لا يمتنع عنها إلا ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
والمفسرون يروون دائما في المناسبات المماثلة أسماء معدودة قليلة ممن أسلموا بل ويروون نفس الأسماء في كل مناسبة. في حين أن العبارة هنا قد تفيد أن الذين آمنوا من الراسخين في العلم وغيرهم من اليهود ليسوا بهذه القلة وإن كانت الروايات لا تساعد على إثبات ذلك.
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
.(8/283)
في الآيات خطاب موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت تقريرا:
(1) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قصّ ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص.
(2) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال.
(3) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا.
تعليق على الآية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها
روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء. فأنزل الله الآيات لتكذيبهم. ومنها أن النبي لمّا تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا. ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين آية الأنعام وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [91] .
والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي. وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له. وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم(8/284)
تكن دعوته أو دعواه شاذة. وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم. وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته. وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلّا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها هم وآباؤهم من قبل. والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا.
والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته من مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح. ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية. وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار. وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب. وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى.
وجملة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال الله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جميع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة.
حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها.
وقد يقال إن الله جلّ عن أن يكون للناس عليه حجة ما- وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه. وهذا حق من دون ريب- ولكن لمّا اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعد ما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري.
وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور(8/285)
سبق تفسيرها وعرفنا بهم بما يغني عن التكرار. وجملة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ في الآية [164] قد ورد ما يماثلها في الآية [78] من سورة غافر. وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية بما يغني عن التكرار كذلك.
ولقد وقف المفسرون عند جملة وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً من الآية [164] فقال الطبرسي إن الله كلّم موسى بلا واسطة. ولم يعز قوله إلى أحد.
وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلّم موسى مشافهة. وعن جزء بن جابر أنه قال سمعت كعبا يقول إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلّمه بلسانه فقال له يا رب هكذا كلامك قال لا ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق» . وقال الزمخشري إن معنى الجملة «جرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن» والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام لله خارجة عن ذاته تعالى. والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب الاعتزال. ولقد فنّد ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [143] كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه السلام.
وتعليقا على ذلك نقول:
أولا: إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروى عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه.
وثانيا: إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في مجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها.
وثالثا: إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه [11- 24] والنمل [8- 12] والقصص [29- 35] .(8/286)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
ورابعا: إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك.
وخامسا: إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسرّ الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [11] وآية الأنعام لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [103] ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده. وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسرّ واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
. عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وإنذار وأنها بناء على ذلك في صدد اليهود.
وتدل على ما كان لمواقفهم ودسائسهم وتشكيكاتهم من أثر في عرقلة الدعوة الإسلامية.
وتعبير كَفَرُوا وَظَلَمُوا مع سبق تعبير الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يدل على أن اليهود لم يكتفوا بالكفر برسالة النبي ومنع الناس عنها منعا هادئا بل تجاوزوا ذلك إلى البغي والعدوان أيضا. وفي هذا قرينة على ما قلنا من أن الفصل نزل في وقت كان اليهود فيه على شيء من القوة.
وأسلوب الآيات المطلق يجعل فيها إنذارا وتعنيفا عاما مستمرا لكل من يقف نفس المواقف بطبيعة الحال. وهذا مما جرى عليه النظم القرآني.(8/287)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
[سورة النساء (4) : آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
. عبارة الآية واضحة هي الأخرى. ولم نطلع على رواية ما في سبب نزولها أيضا. ومن المحتمل أن تكون معقبة على الآية السابقة ومتصلة بها. ومن المحتمل كذلك أن تكون متصلة بالآيات اللاحقة لها اتصال تقديم وتمهيد. وهي على كل حال قوية نافذة موجهة إلى العقول والقلوب معا. وعامة التوجيه لكل نحلة وملة وجنس. فرسالة الرسول الذي جاءهم بالحقّ من ربهم هي دعوة لجميع الناس إلى الله وسبل الخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. والإيمان بها هو لمصلحة المؤمنين بها وخيرهم. لأن الله غني عن الذين يكفرون بها وهو الذي له ما في السموات والأرض وهو العليم بكل شيء الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة والسداد.
[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
. (1) الاستنكاف: بمعنى الأنفة.
وجّه الخطاب في الآيات إلى أهل الكتاب. وعبارتها واضحة. وهي تلهم أنها تقصد النصارى. وقد تضمنت:(8/288)
(1) دعوة إلى عدم الغلوّ في عقيدتهم في المسيح والكفّ عن القول إن الله ثلاثة.
(2) وتقريرا لحقيقة ولادة المسيح وكونها معجزة ربانية بكلمة ألقاها الله إلى مريم وروح منه.
(3) وتقريرا للعقيدة الصحيحة في الله وهي أن الله واحد جلّ وتنزه عن أن يكون له ولد وله ما في السموات وما في الأرض.
(4) وتقريرا لحقيقة موقف المسيح من الله. فهو لن يأنف من أن يكون عبدا له ولن يستكبر كما أن الملائكة المقربين لن يأنفوا من ذلك ولن يستكبروا.
(5) وإنذار للمستنكفين والمستكبرين وبشرى للمؤمنين. فالله سبحانه سوف يحشر الناس جميعا إليه فيوفي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجورهم ويزيد عليها من فضله. ويعذب الذين استكبروا واستنكفوا عذابا أليما لا ينقذهم منه وليّ ولا نصير.
تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها واستطراد إلى عقيدة التثليث
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات إلّا ما جاء في تفسير الخازن في صدد الآية [172] حيث قال: وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد: إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله فقال لهم ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله فنزلت الآية.
ولسنا نرى هذه الرواية في محلها. وقد مرت الإشارة إلى وفد نجران وما جرى بينه وبين النبي في سورة آل عمران. والآيات بعد وحدة تامة منسجمة.
والمتبادر منها أنها جاءت استطرادية لبيان حقيقة الأمر في عيسى عليه السلام الجزء الثامن من التفسير الحديث 19(8/289)
والإهابة بالنصارى إلى الانتهاء هم الآخرون من غلوهم وتطرفهم وقولهم غير الحق على الله وعيسى. والإيمان بالله إلها واحدا منزها عن التعدد بأي تأويل كان.
والاستجابة إلى دعوة رسوله الذي جاء منه بالحق بعد ما سبق من حملة التقريع على اليهود من الإشارة إلى عقيدتهم في عيسى وأمه وموقفهم منه. واختلاف الناس في شأنه وفي صلبه اختلافا قائما على الظنون، وبعد ما أشير إلى طبيعة الرسالة المحمدية واتساقها مع سنّة الله في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة وتوكيد صحتها وإيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بها.
ومثل هذه الاستطرادات مألوف في النظم القرآني مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وأسلوب الآيات قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول معا. وفيه إنذار وبشرى وتنديد وعظة وبرهان في آن واحد.
والعبارات الواردة في الآيات في صدد معجزة ولادة المسيح مقاربة لما ورد في آيات أخرى. فقد وردت جملة إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ في آية سورة آل عمران [45] والكلمة هنا وهناك في معنى أمر الله وإرادته المتمثلة في جملة كُنْ فَيَكُونُ الواردة في الآية [47] من السورة نفسها على ما عليه الجمهور.
وهذه الجملة وردت في الآية كجواب لمريم التي استغربت أن تلد دون أن يمسها رجل على ما حكته الآية [46] وقد ورد في سورة الأنبياء هذه الآية وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) وكلمة فنفخنا فيها من روحنا في معنى (وروح منه) على ما عليه الجمهور لذلك.
ولقد علقنا على مدى هذه العبارات في المناسبات المذكورة فلا نرى حاجة لتعليق جديد.(8/290)
والإشارة إلى عقيدة التثليث القرآنية التي تضمنتها جملة وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ في الآيات تأتي هنا لأول مرة. والمعروف أن جمهور النصارى اليوم يعتقدون بإله واحد في ثلاثة أقانيم متساوية بما يعرف بالأب والابن وروح القدس. غير أن العبارة القرآنية هنا تفيد أن النصارى الموجه إليهم الخطاب كانوا يقولون إن الآلهة ثلاثة. ولقد ذكرت المدونات المسيحية القديمة أن من النصارى من كان لا يعتقد بالمساواة التامة بين الأقانيم الثلاثة مع اعتبار الثلاثة واحدا. وإن أكثر النصارى في الشام والعراق ومصر أو كثيرا منهم كان على ذلك «1» بحيث يصح القول إن الخطاب القرآني قد وجه إليهم في الدرجة الأولى والمباشرة لأنهم الذين لهم صلة بالبيئة النبوية. وفي سورة المائدة آيتان هما [72 و 73] واحدة تذكر عقيدة نصارى بأن المسيح ابن مريم هو الله وأخرى تذكر عقيدة نصارى كون الله ثالث ثلاثة. ومما لا يتحمل مراء أن القرآن يقرر واقعا سواء أفي الآيات التي نحن في صددها أم في آيات سورة المائدة.
ومهما يكن من أمر فالآيات هي بسبيل تسفيه عقيدة التثليث ونسبة الولد إلى الله التي كانت عقيدة النصارى. وتقرير كون ذلك مجافيا لأي عقل ومنطق. وتقرير وحدانية الله عز وجل بدون أي شائبة أو تأويل سواء أكان ذلك حقيقة أم مجازا.
وهذه هي العقيدة الصافية الخالية من التعقيد التي جاء بها نبي الإسلام بلسان كتاب الله القرآن لتصحيح الانحراف وتقرير كون الله واحدا أحدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. ثم لتبرئة المسيح عليه السلام من دعوى تلك العقيدة ولتقرير عبوديته لله واستحالة استنطاقه أو استكباره عن ذلك.
وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن كل هذا مما قاله المسيح للناس منها في سور مرّ تفسيرها ومنها في سور يأتي تفسيرها ونكتفي بالإشارة إلى أرقامها وهي آيات الزخرف [63 و 64] ومريم [30- 36] والصف [6] والمائدة [72 و 116 و 117]
__________
(1) انظر تاريخ سورية للدبس المجلد 3 ج 2 والمجلد 4 ج 2 وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج 2 ص 326 وما بعدها وج 4 ص 316 وما بعدها وج 5 ص 373 وما بعدها.(8/291)
ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم طائفة من نصوص الأناجيل المتداولة التي فيها تطابق وتساوق مع ما قررته الآيات القرآنية عن شخصية عيسى ودعوته مع تعليقات وافية على هذا الأمر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن الأناجيل الأربعة المتداولة التي يعترف بها النصارى والتي تروي أقوالا عن عيسى عليه السلام لا تنسب عقيدة التثليث إليه بل وليست هذه العقيدة واردة فيها بصراحة وحبك. وكل ما فيها ألفاظ الأب والابن وروح القدس بدون جمع وحبك. وإن العقيدة حبكت بشكلها الذي يدين به النصارى اليوم في المجامع الدينية التي كانت تنعقد في زمن الدولة الرومانية بسبب الاختلافات التي كانت تنشب بين رجال الدين النصراني حول مدى هذه الألفاظ. وفي تفسير المنار لرشيد رضا فصل في عقيدة التثليث في سياق تفسير الآيات أورد فيها أقوالا عديدة لعدد من الباحثين في تقرير كون عقيدة التثليث ليست جديدة ونتيجة لما كان من تأويلات لأقوال عيسى المروية في الأناجيل بل هي قديمة تداولتها الأمم قبل النصرانية بقرون كثيرة حيث كانت عند المصريين والفرس والبراهمة والبوذيين «1» . وقد تسربت إلى المسيحية من طريق الرومان الذين كان لهم الحكم في بلاد الشام في وقت ظهور المسيح وبعده إلى أمد طويل فنكتفي بالإشارة إلى ذلك.
وفي كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لطاهر التنير فصول عديدة مستندة إلى مدونات قديمة وحديثة غريبة كتابها ممن ينتسبون إلى النصرانية أصلا في قدم عقيدة التثليث والفداء والقيامة من الموت وتجسد الإله في ناسوت والصلب ومعجزة الولادة بدون مسّ إلخ بسبيل تقرير كون هذه العقائد مما تسرّب إلى النصرانية من العقائد القديمة فنكتفي بالإشارة إلى ذلك كذلك.
ومن العجيب أن يتخطى المبشرون النصارى كل هذه الحقائق ويتجاهلونها
__________
(1) نضيف إلى هذا أن في عقائد الآراميين والآشوريين والبابليين والكنعانيين في بلاد الشام والسبئيين والمعنيين في اليمن شيئا من ذلك حيث كان عندهم ثالوث مؤلف من القمر كزوج والشمس كزوجة وعشتار كابن لهما انظر الأجزاء 1 و 2 و 3 و 4 من كتابنا تاريخ الجنس العربي. [.....](8/292)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
وتصل بهم الجرأة والصفاقة إلى القول إن عقيدة التوحيد الإسلامية الصافية الخالية من كل تعقيد وشائبة هي بدائية تتناسب مع العرب البدائيين الذين جاء الإسلام إليهم «1» . في حين أن عقيدة التثليث فيها معان فلسفية رفيعة تتناسب مع الأمم المتحضرة المثقفة التي انبعثت فيها النصرانية على ما قرأناه في رسالة نشرها مبشر اسمه موفق سعيد وفي كتب كتبها مبشر سمّى نفسه الأستاذ حداد اللذان قالا فيما قالاه إن الذين نعتهم القرآن بالكفر من النصارى هم نصارى العرب الذين حرفوا العقيدة النصرانية الفلسفية السامية ولم يفهموها. ولقد وقع كلاهما في تناقض مضحك حيث أرادوا تشبيه التثليث النصراني بمدى الآية القرآنية اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ على اعتبار أن تعدد الأقانيم هو تعدد صفات لإله واحد وهذه الجملة هي عنوان من عناوين التوحيد الإسلامي الذي نعتوه بالبدائية.
وهذه المزاعم متهافتة لا تكاد تتحمل تفنيدا. وقد تكفل القرآن بالرد على كل ذلك. وقد ألممنا بهذه المسألة في كتابنا (القرآن والمبشرون) ووضعناها في نصابها الحق بتوفيق الله فنكتفي بهذه الإشارة أيضا.
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
. عبارة الآيتين واضحة وفيها هتاف للمرة الثانية موجّه للناس أن قد جاءهم برهان من الله ونور واضح على لسان رسوله. فلم يبق شيء غامض من حقائق ما يجب عليهم أن يسيروا فيه من سبيل الحق. وفيها بشرى للذين آمنوا بالله
__________
(1) في هذا تجاهل وغباء آخر لأن في القرآن آيات كثيرة صريحة وقطعية بأن الإسلام جاء إلى الناس كافة من مختلف الأجناس والأديان وإلى أهل الكتاب نصا. وفيه آيات بأن الله سيظهره على الدين كله وقد اعتنقه ناس من مختلف الأجناس والألوان والأديان في حياة النبي واستمر بعده كذلك ومن جملتهم أهل كتاب فسقطت حجة كل مكابر.(8/293)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
واعتصموا به وحده استجابة لله ورسوله فهم الذين يدخلهم الله في رحمته ويهديهم إلى طريقه المستقيم.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزولهما والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصالا موضوعيا وتعقيبيا. وأسلوبها قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول.
ولعل حكمة عدم ذكر الذين لم يؤمنوا ولم يعتصموا هي في كون المهم في الأمر هو التنويه بالمؤمنين المستجيبين المعتصمين والحثّ على الاستجابة والاعتصام.
هذا، ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن هذه الآيات وما قبلها مما هو موجّه للنصارى واليهود وللناس انطوت على دلالة نصّية حاسمة بأن الدعوة المحمدية موجهة للناس جميعهم على اختلاف نحلهم وأجناسهم. وهذه العمومية موطدة في النصوص المكية وفي غير هذه الآيات من السور المدنية أيضا على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. وفي هذا وذاك ردّ حاسم على بعض المستشرقين الذين يحلو لهم أن يزعموا أن فكرة العمومية في الرسالة المحمدية لم تكن صريحة أو على الأقل كانت طارئة ومتأخرة.
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
. (1) أن تضلوا: بمعنى لئلا تضلوا.
تعليق على الآية يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... إلخ.
في الآية حكاية استفتاء أورد على النبي صلى الله عليه وسلم في شأن إرث الكلالة، أي الذي(8/294)
يموت ولم يكن له ورثة أصليون أو فرعيون أي آباء وأولاد، وجواب بفتوى الله في ذلك ينطوي على القواعد التالية:
1- إذا كان الميت كلالة رجلا وله أخت واحدة فلها نصف تركته. وإذا كان له أختان فلهما ثلثاها.
2- إذا كان الميت امرأة ولها أخ واحد فله جميع تركتها.
3- إذا كان للميت- رجلا كان أو امرأة- إخوة وأخوات عديدة فالتركة تقسم عليهم على أساس أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى.
وقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآية. منها أنها نزلت بناء على سؤال من عمر بن الخطاب أو أنها نزلت في أمر جابر بن عبد الله الذي مرض وعنده مال ولم يكن له إلّا شقائق. أو أنها نزلت لأن المسلمين لم يكتفوا بالآية [12] من السورة التي فيها تشريع في صدد الكلالة فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم في وجوه أخرى عنها. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. والمجمع عليه أن حكم الآية [12] هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات من أمه. وأن حكم الآية التي نحن في صددها هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات أشقاء أو من أبيه. وهذا مستلهم من نص الآيتين. فالأولى تعطي الأخوة والأخوات الثلث وهذه تعطيهم جميع التركة إن كان فيهم ذكور وثلثيها إذا كان شقيقتان أو أكثر. بحيث يصح القول إن المسلمين استعظموا أن يكون نصيب الذي يموت أخوهم كلالة واحدا سواء أكانوا من أمه أم أشقاءه فاستفتوا النبي فأنزل الله الآية.
ويلحظ أنه يبقى بواق في حالة إرث الأخت والأختين لأخيهما الشقيق.
ومثل هذه البواقي ملموح في آيات المواريث الواردة في أول هذه السورة ... وقد تكفلت السنّة النبوية إيضاح ذلك على ما شرحناه سابقا وهذا ينسحب على هذه الآية.
ولم نطلع على أثر نبوي أو صحابي في أمر الذي يموت كلالة إذا لم يكن له أشقاء وله أخوة من أبيه فقط. أو إذا كان له أشقاء وله في نفس الوقت أخوة من أبيه(8/295)
أيضا. وفي موطأ مالك ما يفيد أن من كان له أخوة أشقاء ثم أخوة لأبيه فقط.
فالأشقاء يحجبون الأخوة للأب فقط. وقد قال مالك إنه لا يعرف خلافا لذلك عند أهل العلم. أيضا وفي صدد حديث الكلالة عن أخوة للأب فقط جاء في الموطأ أيضا: إن مما لا خلاف عليه عند أهل العلم أن الأخ للأب أولى من بني الأخ لأم وأب. وهذا يعني أن الوارث هو الأخوة من أب إذا لم يكن للميت أشقاء من أم وأب وأنهم يحجبون أبناء الأخوة الأشقاء. والسداد والحق واضحان في هذا القول الذي يتفق فيه أهل العلم والذي يحتمل أن يكون مستندا إلى آثار نبوية وصحابية.
وفي الموطإ أولويات مستندة كذلك إلى اتفاق أهل العلم. رأينا من المفيد إيرادها وفيها حق وسداد كما هو المتبادر وهي: إن بني الأخ للأب والأم أولى من بني الأخ للأب. وبني الأخ للأب أولى من أبناء بني الأخ للأب والأم. وبني الأخ للأب أولى من العم أخي الأب للأب والأم. والعم أخو الأب والأم أولى من العم أخي الأب للأب. والعم أخو العم للأب أولى من بني العم أخي الأب للأم والأب.
وبني العم للأب والأم أولى من عم الأب أخي أبي الأب للأب والأم «1» .
وهناك مسألة أخرى وهي ما إذا كانت الآية التي نحن في صددها والتي تعطي جميع التركة للأشقاء إذا كانوا أكثر من رجل وامرأة وتعطي جميع تركة الأخت لشقيقها وثلثي تركة الشقيق لشقيقتيه ونصفها لشقيقته. نسخت حكم الآية [12] التي تعطي سدس التركة للأخ أو الأخت لأم وثلثها إذا كانوا أكثر. والجاري المتفق عليه أنها لم تنسخها فالآية [12] قد فرضت للأخوة للأم فرضا فيبقى وما بقي بعد ذلك يعطى للأشقاء أو الأخوة من أب على الوجه المشروح بالنسبة للآية التي نحن في صددها.
والمتفق والجاري أن نصيب الزوجة من زوجها الذي يموت كلالة يبقى قائما مع الآية التي نحن في صددها لأنه مفروض في القرآن فرضا. وهذا مثل ذاك. والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر كل ما تقدم في الموطأ ج 2 ص 13.(8/296)
هذا ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة من طرق مختلفة في صيغ متقاربة تفيد أن الآية التي نحن في صددها آخر آية نزلت من القرآن. وقد روى الشيخان والترمذي صيغة من هذه الرواية عن البراء قال «آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» «1» هذا مع التنبيه على أن هناك حديثا يرويه البخاري عن ابن عباس جاء فيه «آخر آية نزلت على النبي آية الربا» «2» ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية التي نحن في صددها من أواخر ما نزل من آيات القرآن إن لم تكن آخرها. وقد يكون وضعها في آخر سورة النساء دون أن يكون لها أي صلة بالآيات السابقة لها دليلا قويا على ذلك. ثم على أن الآية نزلت بعد أن تمّ ترتيب وتأليف هذه السورة وعلى أن ذلك كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي على صحة ما ورد من آثار وأقوال بأن آيات السور القرآنية قد رتبت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره. لأنه لو كان جرى ذلك بعده اجتهادا من أصحاب رسول الله كما يقول بعضهم لكان من المعقول أن توضع الآية في سياق آيات المواريث أو بعدها بقليل.
وننبه على أن هناك أحاديث صحيحة تذكر أن آخر سورة نزلت هي سورة براءة أو سورة النصر ولا نرى تعارضا. فالأحاديث السابقة هي في صدد نزول آيات وهذه في صدد نزول سور وسوف نزيد هذا شرحا في مناسباته إن شاء الله.
__________
(1) التاج ج 4 ص 89.
(2) المصدر نفسه ص 62 والمقصود من آية الربا هي على الأرجح آيات سورة البقرة [275- 280] وقد نبهنا على ذلك في مناسباته السابقة.(8/297)
سورة محمد صلى الله عليه وسلم
في هذه السورة تنديد بالكفار وكفرهم وصدهم عن سبيل الله. وحض للمؤمنين على قتالهم على أن لا يكون قتل إبادة. وتشريع بحق أسراهم.
ومقايسات بين المسلمين والكفار ومصائر كل من الفريقين. وتنديد بمرضى القلوب، وصور عن مواقفهم وتآمرهم مع اليهود. وحث للمسلمين على طاعة الله ورسوله والجهاد والبذل في سبيله، وتنديد بمن يبخل أو يتهاون مع الأعداء. وقد روى بعض المفسرين «1» اسما آخر لها هو (سورة القتال) لما فيها من حض على قتال الكفار كما هو المتبادر.
وأسلوب السورة النظمي فريد. ويسوغ القول بوحدة نزولها أو تتابع فصولها حتى تمت. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [13] نزلت لحدتها في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وانسجامها مع الآيات يحمل على التوقف في الرواية.
وترتيب هذه السورة في روايات ترتيب النزول التي يرويها المصحف الذي اعتمدنا عليه وغيره «2» بعد سورة الحديد التي جاء ترتيبها في الروايات المذكورة بعد سورة النساء، ولما كان محتوى سورة الحديد يدل على أنها نزلت بعد الفتح المكي فقد أخرنا تفسيرها فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة النساء مباشرة. وبين بعض فصول سورة النساء وفصول هذه السورة تماثل غير يسير.
__________
(1) انظر تفسير الطبري والزمخشري وابن كثير.
(2) انظر الجزء الثاني من كتابنا سيرة الرسول ص 9.(8/298)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
. (1) أضل أعمالهم: أحبطها أو لم يوفقهم فيها إلى الرشاد، أو أبطل كيدهم.
(2) أصلح بالهم: أصلح أمورهم أو سكن روعهم.
في الآيات:
(1) تنديد بالكافرين الذين يصدون عن سبيل الله بالإضافة إلى كفرهم وإيذان بأن الله أبطل كيدهم وأحبط أعمالهم.
(2) وتنويه بالمؤمنين الصالحي الأعمال المصدقين برسالة النبي وما أنزل عليه وإيذان بتكفير الله عنهم سيئاتهم وبإصلاحه لأمورهم وتهدئته لروعهم.
(3) وتعليل للتنديد والتوبة والإيذان. فالكفار ضالون متبعون للباطل.
والمؤمنون مهتدون متبعون للحق. وكل ينال ما يطابق خطته وعمله. وهذا جريا على عادة الله في ضربه الأمثال للناس للتذكير والموعظة.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات.
وإنما رووا عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في كفار مكة والثانية في الأنصار.
ووصف الكفار بأنهم الذين صدوا عن سبيل الله قد يجعل صرف الآية الأولى إلى كفار مكة صوابا ووجيها. غير أن الآية الثانية من شأنها أن تكون شاملة لمؤمني الأنصار والمهاجرين معا. ومهما يكن من أمر فالمتبادر المستلهم من روحها وروح الآيات التالية أن الآيات مقدمة لما بعدها.
ولقد قال المفسرون «1» إن جملة أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ تعني أنه أذهب فضل
__________
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.(8/299)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
وثواب ما كان الكفار يفعلونه من المكرمات هباء بسبب كفرهم، وعزوا ذلك إلى بعض التابعين. وإلى هذا فإن البغوي عزا إلى الضحاك تأويلا آخر وهو أن معناها (أبطل الله كيدهم ومكرهم بالنبي وجعل الدائرة تدور عليهم) «1» . وهذا أوجه وأرجح فيما هو المتبادر.
هذا، وعبارة الآيات المطلقة تشمل في الوقت ذاته كل كافر حاد عن سبيل الله وكل مؤمن صالح العمل في كل ظرف. وعلى هذا الاعتبار ينطوي فيها أولا تعليل لما يحل بالكافرين من سخط الله ولما يناله المؤمنون من عفوه ورضائه. وهو تعليل متسق مع ما جاء من ذلك في مناسبات كثيرة سابقة ومع المبدأ القرآني المحكم المتكرر بأن كل فئة تنال من الجزاء حسب ما تختاره وتسير فيه من طريقي الضلال والهدى. وثانيا تلقين مستمر المدى بتقبيح الباطل وأهله وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من شرّ وضرر عليهم وتحسين الحق ومتبعيه وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من خير وفائدة. وهو ما تكرر في القرآن بأساليب عديدة.
ومع ما قلناه فإننا نكرر هنا ما ذكرناه في مناسبات سابقة أن ما ذكر من أمر الكافرين بالنسبة لظروف الآيات هو من قبيل تسجيل الواقع وليس هو على التأبيد.
إلّا بالنسبة لمن يستمر على كفره وصده عن سبيل الله.
وكالعادة وقف مفسرو الشيعة عند الآية الثالثة وفسروا الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ بأنهم أعداء علي وآل الرسول رغم الصراحة القطعية على أنها في صدد الكافرين بالله مقابل الذين آمنوا ... «2» .
[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) .
__________
(1) روى هذا الخازن أيضا.
(2) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 71.(8/300)
(1) أثخنتموهم: أكثرتم فيهم القتل وقهرتموهم وانتصرتم عليهم.
(2) فشدوا الوثاق: ائسروهم وقيدوهم بالقيود.
(3) فإما منّا بعد وإما فداء: فإما أن تمنوا عليهم فتطلقوهم بدون فداء وإما أن تطلقوهم بفداء بعد ذلك.
(4) حتى تضع الحرب أوزارها: حتى تنتهي حالة الحرب ويخلص الناس من أثقالها.
(5) عرّفها لهم: وصفها لهم أو أخبرهم بمنازلهم فيها.
الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين كما هو المتبادر. وقد تضمنت:
(1) أمرا لهم بأن عليهم إذا لقوا الكافرين في الحرب أن يصدقوا في قتالهم حتى إذا أكثروا فيهم القتل وقهروهم وضمنوا لأنفسهم الغلبة عليهم جنحوا إلى أسر ما بقي منهم، ويظل أمرهم معهم على هذا المنوال حتى تنتهي حالة الحرب ويتخلص الناس من أعبائها.
(2) وتشريعا في حق الأسرى. فالمسلمون مخيرون فيهم بعد ذلك: فإما أن يمنوا ويتفضلوا عليهم فيطلقوهم بدون فداء وإما أن يطلقوهم بفداء.
(3) واستطرادا تنبيهيا بأن الله قادر على التنكيل بالكفار والانتصار للمسلمين منهم بدون حاجة إلى قتالهم. ولكن حكمته شاءت أن يبلو بعضهم ببعض.
(4) وبشارة وتطمينا بأن الله تعالى لن يضيع أجر الذين قتلوا في سبيله. وأنه سيهدىء روعهم ويقرّ عيونهم ويدخلهم الجنة التي وصفها لهم.
وقد أول الزمخشري جملة وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ بمعنى أن الله شاءت حكمته بدلا من الانتقام منهم بدون قتال أن يبلو المؤمنين بالكافرين فيجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب. والكافرين بالمؤمنين ليعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقال غيره في(8/301)
تأويلها ليصير المؤمنون إلى الثواب والكافرون إلى العذاب. وكلا القولين وارد ووجيه.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الجملة انطوت على تقرير كون قتال المسلمين للكفار هو الأكثر اتساقا مع طبائع الأشياء والأدعى إلى إيقاع هيبة المسلمين في قلوب الكفار أو أنها رمت إلى معالجة جوابية لما يمكن أن يقوم في أذهان بعض المسلمين من تساؤل عما إذا لم يكن الأولى أن يبطش الله بالكفار وينتقم منهم دون تعريض المسلمين لشدة الحرب وخسارة الأرواح. ومثل هذه المعالجة سبق في سورتي الأنفال وآل عمران.
ولقد أورد ابن كثير على هامش الآيات [4- 6] أحاديث نبوية عديدة في فضل الشهيد وثوابه عند الله عز وجل. ولقد أوردناها مع طائفة أخرى من الأحاديث من بابها في سياق آية سورة البقرة [154] فنكتفي بهذه الإشارة.
تعليق على الآية فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ.. إلخ والآيتين التاليتين لها ومسألة أسرى الحرب والرقّ
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. والمتبادر المستلهم من مضمونها وروحها أنها خطاب عام في معرض الحضّ على قتال الكفار مطلقا.
وإضافة تعبير وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلى جملة الَّذِينَ كَفَرُوا في الآية الأولى من السورة تدل على أن الأمر الذي احتوته الآية الأولى من الآيات التي نحن بصددها أي الآية الرابعة بقتال الكفار وضرب رقابهم حينما يلقاهم المسلمون هو صدّ الكفار الناس عن سبيل الله مع كفرهم. والصدّ يتناول تعطيل الدعوة والكيد لها والعدوان على المسلمين. وتعبير لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ مما يؤيد ذلك، لأن الانتصار هو ردّ العدوان ومقابلته بالمثل. وهكذا يكون الأمر بالقتال هنا متسقا مع المبادئ الجهادية التي انطوت عليها الآيات القرآنية وهي قتال المعتدي وليس قتال الكافر(8/302)
إطلاقا على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار.
وينطوي في جملة إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ حكم قرآني في هدف القتال وهو أنه ليس للإبادة وإنما هو للتأديب والتنكيل والقهر. فحينما تتحقق هذه الغاية وجب الكفّ عن القتل والجنوح إلى الأسر.
وليس من تعارض بين هذا الحكم وبين ما ورد في جملة ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الواردة في آية الأنفال [67] بل وبينهما توافق. فهذه الجملة لم تمنع الأسر وإنما نبهت إلى أنه لا ينبغي أن يكون إلا بعد أن تكون هيبة النبي وقوته قد توطدتا في قلوب الأعداء ولم يبق من حرج في الأسر منهم بدلا من إبادتهم بالقتل، وحكم الجملة التي نحن في صددها قد سمحت بالأسر إذا ما أثخن المسلمون في أعدائهم وقهروهم وتحققت لهم الغلبة عليهم.
وقد أورد المفسرون»
أقوالا معزوة إلى ابن عباس وعلماء التابعين في صدد تأويل جملة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها منها أنها بمعنى حتى تنتهي الحرب القائمة مع الكفار بتوبتهم وإسلامهم والانتهاء عن الشرك. ومنها أنها بمعنى الاستمرار في حرب الكفار إلى أن لا يكون في الأرض شرك أو حتى ينزل عيسى عليه السلام ويدخل الناس في دين الإسلام. وقد أورد البغوي في تأييد هذا القول حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال» .
ونحن نتوقف في التسليم بهذا التأويل على إطلاق. لأن هناك أحداثا يقينية الوقوع في العهد المدني تعارضه. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفداء من أسرى بدر وأطلقهم وهم كفار وعادوا إلى مكة. وهذا ما انطوى في آيات سورة الأنفال [67- 69] التي مرّ شرحها ومنها مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم المشركين مع بقائهم على شركهم في صلح الحديبية الذي انطوى خبره في سورة الفتح المتأخرة كثيرا عن هذه السورة. وقد دخل نتيجة لذلك بنو بكر في صلح قريش وبنو خزاعة في صلح النبي
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والنسفي والخازن وابن كثير والطبرسي.(8/303)
مع بقائهم على شركهم. وهذا يسوغ القول إن الجملة المذكورة تعني (حتى تنتهي حالة الحرب بإسلام الكفار الذين كانت بينهم وبين المسلمين حالة عداء وحرب أو التصالح معهم ووقوف حالة الحرب بينهم وبين المسلمين ولو بقوا مشركين.
وقياسا على هذا القول الذي نرجو أن يكون هو الصواب فيمكن القول إنه يشمل كل حالة حرب تكون بين المسلمين والأعداء المستحقين للقتال من الكفار كما هو المتبادر. ولقد أورد البغوي قولا للكلبي لجملة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها إنها بمعنى حتى يسلموا أو يسالموا وقولا للفراء إنها بمعنى حتى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم. والتأويلان يدعمان تأويلنا كما هو واضح.
وجملة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً صريحة في أنها تجعل للمسلمين الخيار في الأسرى الذين يأسرونهم من الكفار بعد أن تنتهي حالة الحرب بأحد الشكلين السابقين بين المنّ والتسريح بدون فداء، والتسريح بالفداء. وصاحب الخيار هو ولي أمر المسلمين بطبيعة الحال.
وهذه هي المرة الثالثة التي يرد فيها حكم قرآني في صدد أسرى الأعداء.
وكانت المرة الأولى في آيات الأنفال [67- 69] أما آية سورة الأحزاب [26] فإنها لم تحتو على حكم قرآني وإنما احتوت على حكاية ما فعله المسلمون ببني قريظة حكاية قد تنطوي على إقرار ذلك. ولسنا نرى تناقضا أو تعارضا بين آيات الأنفال والآية الرابعة التي نحن في صددها فآيات الأنفال تنبه على أنه لم يكن من مصلحة الإسلام والمسلمين أخذ أسرى من الأعداء قبل أن يثخن فيهم ويوقع الرعب في قلوبهم. وهذه الآيات تجيز ذلك في حال تحقق الإثخان والرعب. ويكون كل من آيات السورتين مستمر المدى والتلقين حسب ظروف الأحداث ومصلحة المسلمين العامة وحالة المسلمين والعدو المادية والمعنوية.
ولقد كانت جملة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً مما تعددت الأقوال في حكمها ومداها في كتب المفسرين «1» عزوا إلى ابن عباس ومجاهد والضحاك والشافعي
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.(8/304)
وأبي يوسف وغيرهم. منها أن حكم هذه الجملة منسوخ بآية التوبة هذه فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وأنه لا يجوز المنّ على الأسير الكافر ولا الفداء، بل القتل أو الاسترقاق. ومنها أن الآية محكمة وأنها جعلت الخيار للإمام في المنّ والفداء.
وأن له أن يقتل أيضا لأن ذلك أبيح له في آية التوبة المذكورة آنفا. ومنها أن الآية لا تبيح القتل وحكمها هذا محكم، وللإمام أن يمنّ أو يفادي أو يسترقّ. ويلحظ أن هذه التأويلات هي اجتهادية. وغير متسقة مع فحوى الجملة التي تحصر الحكم بين المنّ والفداء حيث يكون قائلوها قد مزجوا بينها وبين أحكام قرآنية ونبوية أخرى. ولقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم أربع طرق مع الأسرى. وهي المنّ والفداء والاسترقاق والقتل على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة الأنفال والأحزاب في أسرى بدر وبني قريظة. ومن صور المفاداة التي مارسها مفاداة مسلم بابن أبي سفيان وإيجاب تعليم بعض أبناء المسلمين على أسرى قريش الذين لم يكن معهم ما يفتدون به أنفسهم على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات الأنفال. ولقد روى الترمذي عن عمران بن الحصين «أن النبي صلى الله عليه وسلم فدّى رجلين من المسلمين برجلين من المشركين» «1» ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة حديثا فيه حادث منّ نبوي مع غير أسرى بدر وقريظة في سياق طريف رأينا إيراده جاء فيه قال أبو هريرة «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيّد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه النبي حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة قال ما قلت لك فتركه رسول الله حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي ما قلت لك فقال رسول الله أطلقوا ثمامة فذهب إلى
__________
(1) التاج ج 4 ص 354.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 20(8/305)
نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلّها إليّ. والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحبّ الدين كلّه إليّ والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحبّ البلاد كلّها إليّ. وإنّ خيلك قد أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشّره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت قال لا ولكني أسلمت مع رسول الله. ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» «1» .
وروى البخاري وأبو داود عن مروان حديثا فيه حادث منّ آخر لسبي هوازن بعد أن تقرر استرقاقه وقسم على المسلمين. وفيه صورة رائعة من صور مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين واسترضائه إياهم جاء فيه «جاء وفد هوازن مسلمين إلى النبي وسألوه أن يردّ إليهم أموالهم وسبيهم (وكان المسلمون استولوا عليها في يوم حنين) فقال لهم أحبّ الحديث إليّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت بهم فكان النبي انتظر آخرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنّ إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني رأيت أن أردّ إليهم سبيهم. من أحبّ أن يطيّب فليفعل ومن أحبّ منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس طيّبنا ذلك لهم يا رسول الله. فقال لهم رسول الله إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلّمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا» «2» وشيء من هذا روي في صدد سبي بني المصطلق حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وقتل بعضهم وسبى سبيا منهم وكانت جويرية بنت الحارث زعيمهم من السبي وقسم السبي على أصحابه فوقعت
__________
(1) التاج ج 4 ص 352- 354.
(2) المصدر نفسه ص 355. [.....](8/306)
في سهم واحد من الأنصار فعرضت عليه أن يكاتبها أي تشتري نفسها منه فقبل وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه فعرض عليها أن يقضي عنها ثم يتزوجها فرضيت.
فلما عرف الناس قالوا إنهم صاروا أصهار رسول الله فأطلقوا ما في أيديهم من السبي فكانت أعظم امرأة بركة على قومها «1» .
وتلخيصا لما مرّ وتعليقا عليه نقول أولا: إن القول بأن آية سورة التوبة الخامسة نسخت حكم آية سورة محمد فصار لا يصح للأسير الكافر إلّا القتل محل نظر. لأن الآية وإن كانت تأمر بقتل المشركين أنّى وجدوا فإن ذلك لا يتحمل أن يدخل فيه قتلهم بعد الأسر أيضا. وثانيا: إن الأحداث المروية تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم مارس مع الأسرى أربع طرق حسب ما كان يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين وهي المنّ والفداء (ويدخل مبادلة أسرى الكفار بأسرى من المسلمين في باب الفداء) والقتل والاسترقاق. منهما طريقتان نصّت عليهما آية سورة محمد وهما المنّ أو الفداء. وطريقتان حكت آية سورة الأحزاب [26] أن النبي صلى الله عليه وسلم مارسهما حكاية قد تفيد إقرارهما وهما القتل والأسر أي الاسترقاق. وقد جازت آيات سورة الأنفال [67- 69] الفداء أيضا.
وفي كتب التاريخ القديمة روايات كثيرة تذكر أن خلفاء رسول الله الراشدين وكبار أصحابه الذين تولوا حركة قمع الارتداد والفتوح كانوا يمارسون هذه الطرق حسب ما يرون فيه مصلحة الإسلام والمسلمين بحيث يصح القول إن هذه الطرق هي السنن الإسلامية القرآنية النبوية في صدد أسرى الكفار الأعداء الذين لا يسلمون قبل استرقاقهم وإن أولي الأمر مخيرون في ممارسة واحدة أو أكثر من هذه الطرق حسب ما تمليه مصلحة الإسلام والمسلمين. أما الذين يسلمون قبل تقرير استرقاقهم فيكونون قد تحرروا بالإسلام على ما يستفاد من حادث سبي هوازن الذي يتضمن أن النبي استرقهم قبل إسلامهم وإسلام ذويهم.
__________
(1) التاج ج 4 ص 381 وابن هشام ج 3 ص 339- 340.(8/307)
ومن الجدير بالذكر أن الأحداث المروية عن ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الأسرى تفيد أنه كان أكثر ما يمارس المنّ والفداء وأنه لم يمارس القتل إلّا في النّضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط لشدة أذاهما وأنه لم يمارس القتل والاسترقاق إلّا في بني قريظة لشدة خطورة موقف الغدر والخيانة الذي وقفوه على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأنفال والأحزاب وأن استرقاق سبي بني المصطلق وهوازن لم يستمر واستبدل بالمنّ. ولقد روى الإمام أبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مناديا يوم الفتح ينادي (ألّا يقتلنّ أسير ولا يتبع هارب ولا يجهز على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن) . بحيث يسوغ القول إن المنّ والفداء هما الأكثر رعاية في سنن النبي وأن القتل والاسترقاق وبخاصة القتل لم يطبقا إلّا في ظروف خاصة اقتضتهما.
وإذا لوحظ أن عادة استرقاق أسرى الحرب التي كانت عامة في جميع الأمم والبلاد كانت المصدر الرئيسي لعادة الاسترقاق الإنساني التي ظلت جارية في كثير من البلاد الإسلامية مدة طويلة إلى عهد قريب حتى أن كلمة (الأسير) جاءت في آية قرآنية مرادفة للمملوك وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً الإنسان [8] ثم إذا لوحظ أن آية سورة محمد هي التي احتوت تشريعا مطلقا في ما ينبغي عمله في الأسرى وأن هذا التشريع هو المنّ أو الفداء ظهرت لنا روعة هذا التشريع بتوجيهه ضربة حاسمة إلى هذه العادة. ولا يخفف من شدة الضربة طريقتا القتل والاسترقاق الجائزتان في الإسلام من حيث إنهما ليستا إلزاميتين وإنهما إنما طبقتا في ظروف خاصة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما احتواه القرآن من وسائل عديدة لتحرير الرقيق والحث عليه كما مرّ شرحه في تفسير سورة البلد والبقرة والنساء وغيرها ظهر واضحا أن القرآن قد هدف إلى إلغاء الرقّ بالمرة في كل ذلك حيث تزداد روعة الهدف القرآني قوة وسطوعا. وما جاء في القرآن من أحكام متصلة بالرق لم يكن من قبيل الإنشاء وإنما كان من قبيل تنظيم أمر واقع في نطاق الحق والبرّ والإحسان مع الحث على تحريره وتشريع وسائل ذلك على ما شرحناه في تفسير سورة البلد.(8/308)
ولقد قال الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال «1» إنه لا رقّ على أسرى العرب وبذلك مضت سنّة رسول الله. وكذلك حكم عمر فيهم أيضا حتى إنه ردّ سبي أهل الجاهلية وأولاد الإماء منهم أحرارا إلى عشائرهم على فدية يؤدونها وقال كلمته المشهورة (ليس على عربي ملك) حيث ينطوي في هذا خطة أو تلقين خاص بالنسبة للعرب الذين هم مادة الإسلام كما وصفهم عمر كما هو مشهور.
وأخيرا نقول إنه لا أسر ولا استرقاق ولا منّ ولا فداء بين المسلمين في حالة وقوع قتال بينهم. لأن هذا القتال لا يدخل في مفهوم الجهاد في الإسلام ولا يستتبع آثاره وتظل صفة الطائفتين هي صفة (الأخوة) كما جاء في آيات سورة الحجرات وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ويطلق سراح الأسير المسلم الذي يقع في يد المسلم بدون معنى منّ وفداء. كذلك فإنه لا أسر ولا استرقاق للمسالمين من الكفار ولا أسر ولا استرقاق لمن صالحوا المسلمين من الكفار الأعداء إذا تمّ الصلح قبل الاسترقاق أي قبل أن يقرر ولي أمر المسلمين استرقاقهم وإذا أسلم قبل ذلك يتحرر. وإذا جاء عبد مالكه كافر إلى المسلمين وأسلم يتحرر كذلك. وقد روي في صدد هذا حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي قال «خرج عبدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرقّ فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. وأبى أن يردّهم وقال هم عتقاء الله عزّ وجل» «2» .
__________
(1) كتاب الأموال ص 133.
(2) التاج ج 4 ص 355- 356.(8/309)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
[سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) وعدا من الله للمسلمين بالنصر والتثبيت إذا نصروه أي نصروا دينه، وإيذانا بأن الله يكون مولاهم ويدخلهم الجنة.
(2) وتنديدا بالكفار لكرههم لما أنزل الله وجحودهم فضله. وإيذانا بأنه قد أحبط بسبب ذلك مكائدهم وجعل الضلال والخسران حليفي أعمالهم. وإنذارا لهم بتدمير الله كما دمر الذين من قبلهم ممن رأوا آثارهم في أثناء طوافهم في الأرض ثم بالنار التي تكون مصيرهم في الآخرة. وتمثيلا لهم بالأنعام حيث كان تمتعهم في الدنيا لا يعدو تمتع الأنعام التي لا تشعر بمتعة والتي ليس لها من همّ إلّا إملاء بطونها وإشباع غرائزها.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتنوّه بالمؤمنين وتندد بالكافرين موضوع الكلام فيها. وأسلوبها قوي في حضّ المؤمنين وتثبيتهم وتبشيرهم وفي تقريع الكافرين وإنذارهم. وهو مما استهدفته الآيات بالنسبة لظروف نزولها كما هو المتبادر وهذا فضلا عما انطوى فيها من تلقين جليل مستمر المدى بالنسبة للمؤمنين والكافرين على السواء. وننبه هنا إلى ما نبهنا عليه مرارا من أن ما احتوته الآيات من دعاء على الكفار بالتعس وبإضلال أعمالهم وبأنه لا مولى لهم وأن النار مثواهم إنما هو تسجيل لواقع الأمر حين نزولها، وإنه إنما يظل واردا في حق من يموت كافرا وحسب. وقد جاء هذا المعنى صريحا في آية من آيات هذه السورة على ما يأتي بعد قليل.(8/310)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
[سورة محمد (47) : آية 13]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13)
. وجّه الخطاب في الآية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت تقرير كون مدن كثيرة كان أهلها أشد قوة من أهل مدينته الذين اضطروه إلى الخروج منها قد أهلكهم الله ولم يجدوا لهم ناصرا منه.
وقد انطوى في هذا التقرير تقرير كون الله قادرا من باب أولى على إهلاك أهل مدينته والتنكيل بهم. واستهدفت الآية بذلك تسلية النبي وتطمينه وتثبيته كما هو المتبادر.
وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال: أنت أحبّ بلاد الله إلى الله وأنت أحبّ بلاد الله إليّ ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية. فأنزل الله الآية. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت في طريق هجرة النبي إلى المدينة أيضا.
غير أننا نلاحظ أن الآية متصلة بما سبقها من إنذار ووعيد للكفار ومنسجمة في السياق انسجاما وثيقا في حين أن الروايات تفيد أنها نزلت منفصلة عنها وفي ظرف غير ظروف نزولها مما يسوغ الشك فيها. وهذا لا يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ظل يذكر مرارة موقف مشركي قريش منه واضطراره بسبب ذلك إلى الخروج من بلده، فاقتضت حكمة التنزيل الالتفات في الخطاب إليه في سياق إنذار الكفار وتثبيته وتطمينه بأن الله سوف ينتقم منهم كما انتقم ممن هم أشد منهم قوة.
[سورة محمد (47) : آية 14]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
. في الآية تساؤل إنكاري عما إذا كان الذين هم على بينة من ربّهم سائرون
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. وننبه على أن رواية البغوي للنص ليس فيها جملة (فأعدى الأعداء) إلخ وهذه الجملة من مرويات الطبري. والخازن عادة ينقل عن البغوي وابن كثير عن الطبري.(8/311)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
على طريق الحق والهدى يصح أن يكونوا سواء مع الذين اتبعوا الهوى وانقلبت الحقائق في عقولهم وزينت لهم أعمالهم السيئة.
وتضمنت الآية نفي إمكان التسوية بين الفريقين على ما تلهمه روحها.
وقد رأينا الخازن ينفرد في القول إن الآية في صدد المقايسة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وغيره من مشركي قريش. ولم يسند قوله إلى رواية ما. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها معنى التعقيب على الآيات السابقة مع التنويه بالصالحين المهتدين والتنديد بالضالين المسيئين.
[سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
. (1) غير آسن: غير منتن أو غير متغير الرائحة والطعم نتيجة للفساد والركود.
والآية استمرار في السياق أيضا كما هو المتبادر. وقد استهدفت تقرير عدم إمكان التسوية في المصائر الأخروية بين الصالحين المهتدين والضالين المسيئين لعدم إمكان التسوية بينهم بسبب مسلك كل منهم. فالمتقون موعودون بجنة فيها الأنهار من الماء النقي السائغ واللبن الطيب والخمر اللذيذ والعسل المصفى وكل الثمرات بالإضافة إلى رضاء الله ومغفرته في حين أن الكافرين الضالين المسيئين مقدر عليهم الخلود في النار، يشربون فيها الماء الشديد الغليان الذي يقطع الأمعاء.
والتعبيرات الوصفية عما في الجنة والعذاب في الآخرة مستمدة من مألوفات الدنيا في أصلها. وقد جاءت بأسلوب التفخيم والتعظيم لحظ الناجين والتهويل لحظ الأشقياء للتشويق والإرهاب مما جرى عليه النظم القرآني واستهدفه على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. مع التنبيه إلى أن ما فيها ليس خارجا عن نطاق قدرة الله تعالى ووجوب الإيمان بحقيقتها المغيبة التي أخبر عنها القرآن(8/312)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
والوقوف عند ذلك مع الإيمان بأن لا بد من حكمة سامية في ذكر ذلك لعل منها ما ذكرناه من تشويق وترهيب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقّق الأنهار منها بعد» . وحديثا رواه أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن قيس عن أبيه قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدّع بعد أنهارا» وحديثا رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني عن لقيط بن عامر قال «قلت يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة قال على أنهار عسل مصفّى وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله، وأزواج مطهّرة قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج مصلحات قال الصالحات للصالحين تلذّونهن مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذّونكم غير أن لا توالد» .
وينطوي في الأحاديث توضيحات نبوية للآيات وترغيب وتبشير متسقان مع ما استهدفته كما هو المتبادر.
[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 17]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
. (1) ماذا قال آنفا: ماذا قال الآن من جديد.
في الآيتين حكاية لحالة من حالات بعض فئات الكفار والمنافقين وحالة المؤمنين حينما كانوا يحضرون مجالس النبي ويستمعون إلى ما يقوله ويبلغه، حيث كان الأولون يحضرون هذه المجالس لاهية أذهانهم وقلوبهم مستخفّين بما يسمعون وحينما يخرجون يسألون بعض ذوي العلم والفهم من أصحاب رسول الله(8/313)
الذين شهدوا المجلس عما قال النبي من شيء جديد فهؤلاء قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ونفاقهم وخبث طواياهم ففقدوا السداد والرشاد والإدراك وانساقوا وراء الأهواء بخلاف المؤمنين المخلصين الذين كان الله يزيدهم هدى وفهما لما ينبغي أن يتقوا به الله كلما شهدوا مجالس النبي وسمعوا كلامه ومواعظه.
وسؤال ماذا قالَ آنِفاً يحتمل أن يكون استخفافا وسخرية كما يحتمل أن يكون بقصد التأكد لأنهم لم ينتبهوا إلى ما كان يقوله النبي أو لم يعوه ويفهموه، وقد ذكر المفسرون الاحتمالين. وفي سورة التوبة آيتان قد تكونان من هذا الباب وتفيدان أن السؤال على سبيل السخرية والاستخفاف وهما هاتان وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) حيث يصح الاستئناس بالآيتين لترجيح احتمال الاستخفاف والسخرية في السؤال الذي نحن في صدده.
وجملة وَمِنْهُمْ التي بدئت بها الآيتان تدلّ على أنهما معطوفتان على موضوع الكلام السابق أي الكافرين. حيث يفيد هذا أولا: أن الآيتين استمرار للسياق السابق. وثانيا: أن الكفار كانوا يجلسون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مع غيرهم.
ويستمعون إليه في العهد المدني أيضا.
وإذا صح هذا الاستنتاج فيكون هؤلاء الكفار من المعاهدين أو المسالمين وليسوا على كل حال من أعداء محاربين. ويكون في ذلك صورة من صور هذا العهد.
على أن هناك احتمالا بأن يكون هؤلاء من المنافقين أيضا. وفي آيات تأتي بعد قليل إشارات إلى مواقف المنافقين ومرضى القلوب وحملة عليهم وفضح لأخلاقهم ومكائدهم حيث يستأنس بذلك على هذا الاحتمال.
وهذا الاحتمال لا يقطع الصلة الموضوعية بين هاتين الآيتين والسياق(8/314)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
السابق. وكل ما هناك أن الكلام يكون قد نقل من قبيل الاستطراد إلى ذكر مواقف المنافقين.
وننبه على أن المفسرين لم يرووا مناسبة ما لهاتين الآيتين أيضا كما هو الأمر بالنسبة للآيات السابقة. حيث يصحّ أن يقال إن السياق جميعه من أول السورة عرض عام لمواقف المؤمنين والكفار والمنافقين وما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الكفار الصادين عن سبيل الله. والله أعلم.
[سورة محمد (47) : آية 18]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
. (1) أشراطها: علاماتها. والكلمة جمع شرط بمعنى العلامة والأمارة.
في الآية: سؤال استنكاري عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام السابق أي الكافرين أو الكافرين والمنافقين. ينتظرون قيام الساعة حتى يخافوا ويؤمنوا مع أنها لا تأتي إلّا بغتة وقد جاءت أشراطها. وحينما تأتي لا ينفعهم التذكر والارعواء.
تعليق على الآية فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ... إلخ
والآية متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وقد أورد المفسرون قولا لابن عباس «1» جاء فيه إن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ومعالمها. وحديثا رواه الشيخان والترمذي أيضا جاء فيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت أنا والساعة هكذا،
__________
(1) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير. والنصوص منقولة من الخازن. وهناك أحاديث عديدة أخرى واردة في كتب الأحاديث الصحيحة منها ما يقارب بعض هذه النصوص في علامات الساعة لم نر إيرادها لأن الآية مصبوبة على ما جاء من أشراطها.
انظر إذا شئت التاج ج 5 ص 273 وما بعدها.(8/315)
ويشير بأصبعيه فيمدّهما، وفي رواية أنه ضمّ السبابة والوسطى، بقصد بيان تقارب بعثته وقيام الساعة «1» .
ولقد أوردوا بالإضافة إلى ذلك أحاديث أخرى عن أشراط الساعة منها حديث عن أنس رواه قرب وفاته قال «ألا أحدّثكم حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله يقول: لا تقوم الساعة أو قال من أشراط الساعة:
أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنا ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيّم واحد» «2» وثان عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشحّ ويكثر الهرج قالوا: وما الهرج؟ قال القتل» «3» وثالث عن أبي هريرة جاء فيه «أن أعرابيا جاء إلى النبي فقال له متى الساعة وكان يتكلّم فمضى حتى أتمّ كلامه ثم سأل عن السائل، فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة. قال وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» «4» ولما كان ما جاء في هذه الأحاديث لم يكن قد تحقق حين نزول الآية، فالأولى أن يكون هدفها على ضوء قول ابن عباس والحديث النبوي الأول ما هو متحقق من الأشراط حين نزولها، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال فإن الآية بسبيل التنديد بالمنافقين والكافرين لارتكاسهم في الضلال والغواية وعدم استجابتهم إلى دعوة الله قبل فوات الفرصة لأنها إذا فاتتهم ندموا حيث لا ينفع الندم. وبعبارة أخرى بسبيل الحثّ على الارعواء والاستجابة بدون إبطاء وإضاعة وقت. وهذا المعنى قد تكرر في آيات كثيرة مرت أمثلة عديدة منها لنفس الغاية والهدف.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(8/316)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
[سورة محمد (47) : آية 19]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
. (1) متقلبكم: تنقلكم وحركاتكم.
(2) مثواكم: إقامتكم وسكناتكم.
عبارة الآية واضحة. وفيها التفات إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعقيب على الآيات السابقة. كأنما أريد أن يقال له فيها والله أعلم بقصد التسلية والتثبيت: إنه لا ينبغي أن يغتم كثيرا لتصامم أولئك الكفار والمنافقين عن الدعوة واندفاعهم في الغواية والضلالة فالله كاف لهم. وليس عليه إلّا الاستمرار في توحيد الله والدعوة إليه والتقرب إليه بالعبادة وطلب الغفران لذنبه وذنوب المؤمنين والمؤمنات. والله هو العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم وحلّهم وترحالهم وبيده مصائرهم.
ومثل هذه الآية كثير في مقام التعقيب والتطمين في مثل هذه المواقف مما مرّ منه أمثلة عديدة.
ومقطع وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ورد لأول مرة في سورة غافر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. أما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فإنه يأتي لأول مرة بصيغته. وقد قال البغوي إن فيه إكراما للمؤمنين والمؤمنات لأن النبي هو الشفيع المجاب فيهم. وهذا تأويل وجيه. وقد يصح أن يضاف إليه أن الجملة جميعها تتضمن تلقينا بأن على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب دائما من الله تعالى الغفران لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات حتى يظلوا قيد رحمته وهو يعرف كل ما يكون منهم في مختلف ظروفهم ويعرف أنهم بطبيعتهم البشرية لا يمكن أن يخلوا من هفوات ومواقف تقتضي الاعتذار منها إليه. ثم تطمينا بأن الله تعالى وقد شاءت حكمة التنزيل أن يأمر نبيه بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات قد شاءت حكمته كذلك الاستجابة لهذا الاستغفار وغدوّ الجميع قيد رحمته. وقد يدعم هذا ما رويناه في سياق أواخر سورة البقرة من حديث يفيد أن الله عز وجل حينما أوحى(8/317)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
بالآيات التي فيها تعليم للمؤمنين بما يدعونه به أوحى إلى النبي بواسطة ملك الله أنه قد استجاب إليهم. والله تعالى أعلم.
[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 24]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
. (1) لولا: هنا للتمني.
(2) محكمة: هنا بمعنى صريحة حاسمة.
(3) فأولى لهم: بعض المفسرين قالوا إنها دعاء في مقام التنديد والوعيد، وبمعنى ويل لهم أو جاءهم ما يكرهون «1» . ومنها ما جاء في سورة القيامة أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) وبعضهم ربطها بالجملة التي بعدها ليكون معناها أولى لهم أن يقولوا طاعة «2» . والقول الأول هو الأوجه المتسق مع روح الآيات كما يتبادر لنا.
في الآيات:
(1) حكاية لما كان يتمناه المخلصون من المؤمنين من نزول سورة قرآنية حاسمة تأمر بالجهاد حتى يجاهدوا في سبيل الله.
(2) وحكاية لحالة ذوي القلوب المريضة حينما ينزل الله سورة محكمة
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وفي أكثر هذه الكتب القولان معا.
(2) المصدر نفسه.(8/318)
وحاسمة بذلك حيث يستولي عليهم الرعب وينظرون إلى النبي نظر الذي في حالة الاحتضار المملوء بالرعب والفزع واليأس.
(3) ودعاء عليهم وتنديد بهم من أجل هذه الحالة التي تعتريهم.
(4) وتعقيب على هذا الموقف الكئيب الكريه. فلقد كان الأولى بهم والأفضل أن يعلنوا السمع والطاعة ويظهروا الاستعداد لاستجابة أمر الله بالقول الحسن ثم يصدقوا الله إذا ما جاء وقت التنفيذ والعزيمة وندبوا إلى القتال.
(5) وتساؤل تنديدي موجّه إلى هذه الفئة عما يتوقع منهم إذا تولوا حيث يفسدون في الأرض ويقطعون ما بينهم بذلك من الأرحام في حين أن الذين يفعلون ذلك يستحقون لعنة الله ويكونون كمن أعمى الله أبصارهم وأصمّ آذانهم.
(6) وتساؤل استنكاري ينطوي على التنديد والتعقيب أيضا عما إذا كانت هذه الفئة لا تتدبر ما في القرآن من مواعظ وآيات بينات ولا تتأثر بها، أم هل على قلوبهم أقفال فلا ينفذ إليها شيء من ذلك.
تعليق على الآية وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ.. والآيات الأربع التي بعدها
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها فصل ملحق بالفصل السابق احتوى ذكر حالة أخرى من حالات المنافقين في المدينة والتنديد بهم عليها. وهي وقوفهم من الدعوة إلى الجهاد وقوف الخائف المثبط المتخاذل.
وقد تكرر ذكر هذه الحالة عنهم في مناسبات عديدة سابقة ولا حقة. وفي سورة النساء فصل فيه مماثلة لهذا الفصل. وقد رويت في سياق ذلك رواية ذكرناها هناك عن مراجعة بعض كبار المسلمين وأقويائهم ومخلصيهم للنبي صلى الله عليه وسلم بشأن الإذن لهم بالجهاد ومقابلة عدوان الكفار بالمثل، ثم اعتراض المنافقين وتذمرهم من فرض الجهاد وتمنّيهم أن يكون هذا الفرض قد تأخر مدة أخرى. والأولى أن تكون(8/319)
الرواية في مناسبة هذه الآيات لأن في أولاها إشارة صريحة إلى تلك المراجعة في حين أنه ليس في آيات النساء مثل هذه الإشارة.
ولقد تعددت روايات وأقوال المفسرين «1» في تخريج الآية [22] فقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن أعرضتم وتوليتم عن سماع القرآن وتنفيذ أوامره عدتم إلى جاهليتكم فأفسدتم في الأرض وقطعتم بذلك أرحام بعضكم» وقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن نكلتم عن الجهاد عدتم إلى ما كنتم عليه من الفساد وتقطيع الأرحام» وقال بعضهم إنها بمعنى «إذا توليتم الأمور أفسدتم في الأرض وقطعتم أرحام بعضكم» بل وقال بعضهم. إنها في صدد ما فعله بنو أمية حينما تولوا الأمر حيث قتلوا بني هاشم وبذلك أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم.
وأثر التشيع بارز في القول الأخير وليس له أي محل في مدى الآية.
والقولان الأول والثاني هما أوجه من القول الثالث. وقد تبادر لنا تخريج نرجو أن يكون فيه الصواب وهو «إنكم إذا لم تنفذوا أمر الله وتصدقوا النية في الجهاد وتقابلوا فرضه بالرضا والطاعة تكونوا بذلك قد أطمعتم العدو وجعلتموه يفسد في الأرض ويعتدي عليكم ويقطع ما بينكم من الأرحام» والله أعلم.
وأسلوب الآيات قوي لاذع. يلهم ما كان لموقف مرضى القلوب والمنافقين في نفس النبي والمخلصين من أثر، وما كان يتوقع منه من شر وخطر ومفسدة.
وفيها تلقين قوي مستمر المدى بتقبيح وقوف أية فئة من الأمة موقف الجبن والفزع والإحجام والتخاذل وعدم التضامن مع المجموع في دفع البغي والعدوان وبيان ما ينجم عن ذلك من أخطار ومفاسد لا تسلم منها هذه الفئة نفسها لا في وطنها ولا في دمها ولا في ذويها.
ولفظ سُورَةٌ هنا قد يفيد أمرا قرآنيا أو جملة قرآنية على الإطلاق أكثر منه
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر وفي أكثرها الأقوال المتعددة.(8/320)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
سورة مستقلة المطلع والختام. وهذا المعنى مما يمكن أن يستفاد من هذا اللفظ في بعض المواضع التي ورد فيها كما أن من الممكن أن يستلهم منه أن هذا المعنى هو المعنى الأصلي للكلمة.
هذا، ولقد أورد المفسرون «1» أحاديث عديدة في سياق الآيتين [22 و 23] أوردنا ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة منها في سياق الآية الأولى من سورة النساء السابقة لهذه السورة ونبهنا بما تضمنته من تعظيم لشأن الأرحام وتلقين بوجوب حفظها وتوطيد الصلة بين ذوي الأرحام وإنذار لمن يقدم على قطعها.
فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة محمد (47) : الآيات 25 الى 28]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
. (1) سوّل لهم وأملى لهم: زيّن لهم ومنّاهم وغرّهم.
(2) إسرارهم: ما يفعلونه سرّا أو ما يكنونه في أنفسهم.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين ارتدوا عن الهدى بعد أن ظهرت لهم أعلامه واتبعوا ما يسخط الله وكرهوا ما يرضيه وكانوا يتآمرون مع الكفار ويعدونهم بطاعتهم والسير وفق رغبتهم. وإنذارا لهم، فقد فعلوا ما فعلوا بتزيين الشيطان وتغريره. وسيحبط الله مكائدهم وأعمالهم في الدنيا. ولسوف يكون استقبال الملائكة لهم حين يتوفونهم أسوأ استقبال حيث يضربونهم على وجوههم وأقفيتهم.
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 21(8/321)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي أيضا فصل آخر ملحق بالفصلين السابقين. وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس وعلماء التابعين قولين في من عنتهم جملة إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ... إلخ أحدهما أنهم أهل الكتاب أو اليهود الذين عرفوا الحق وارتدوا عنه وثانيهما أنهم المنافقون الذين ارتدوا عن الإسلام. وقد رجح الطبري القول الثاني. وهو الأوجه على ما يلهمه فحوى السياق السابق الذي ذكر فيه مرضى القلوب.
كذلك رووا «2» قولين في من عنتهم جملة لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أحدهما أنهم اليهود وثانيهما أنهم مشركو العرب وكفارهم. والجملة تتحمل القولين. فهناك آيات وصف اليهود فيها بهذا الوصف وآيات وصف كفار العرب به. ولقد وصف كفار العرب به في إحدى آيات السورة نفسها وهي الآية [9] حيث يمكن أن يرجح ذلك الاحتمال الأول. ولا سيما أنه ليس من دليل على أن هذه السورة نزلت قبل وقعة يهود بني قريظة لأنه لم يعد بعدهم في المدينة كتلة يهودية يمكن أن يتواطأ معها المنافقون.
وعلى كل حال ففي الآية [26] التي فيها هذه الجملة إشارة إلى ما كان من تواطؤ المنافقون وانسجامهم مع أعداء الرسالة المحمدية سواء أكانوا اليهود أم المشركين. وقد تكررت هذه الإشارة في آيات عديدة مرّت أمثلة منها.
والآيات قوية التنديد والإنذار والتشنيع من جهة وفيها تلقين مستمر المدى كالفصلين السابقين من جهة أخرى بتقبيح النفاق والارتداد إلى الضلال والباطل بعد ظهور الحق والهدى والتواطؤ مع أعداء الإسلام والمسلمين.
[سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 30]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) .
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. [.....]
(2) المصدر نفسه.(8/322)
(1) أضغانهم: ما يضمرونه في قلوبهم من حقد.
(2) لحن القول: لهجة الكلام وأسلوبه.
في هذه الآيات:
(1) تساؤل إنكاري فيه معنى التسفيه والإنذار عما إذا كان ذوو القلوب المريضة المنافقون يظنون أن أمرهم خاف على الله وأنه عاجز عن فضيحتهم وإظهار ما في قلوبهم من حقد ونوايا سيئة للمسلمين.
(2) وتنبيه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الله لو أراد لأراه كل واحد منهم بعينه وعرفهم له بأشكالهم وأسمائهم. ومع ذلك فإنه يستطيع أن يعرفهم ويميزهم من لهجة كلامهم وأسلوب حديثهم بما فيه من المواربة والكذب والنفاق وأمارات الكيد والعناد والتشويش.
(3) وتوكيد تقريري بأن الله يعلم أعمال جميع الناس ومحيط بها.
تعليق على الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ والآية التالية لها
الآيتان متصلتان بالفصول السابقة ومعقبتان عليها كما هو ظاهر. والمتبادر المستلهم من روح الآية الثانية ومضمونها أنها انطوت أولا: على تقرير كون الأصلح للجميع ما اقتضته مشيئة الله من عدم تعريف جميع المنافقين للنبي والمسلمين تعريفا حاسما وصريحا. ولا سيما أنهم لا يخفون في لهجة الكلام وأسلوب التصرف على النبي ذي النظر الناقد والذهن الثاقب والمتصل بوحي الله وإلهامه. وثانيا: على تهديد المنافقين في الوقت نفسه بالفضيحة من جهة ورغبة(8/323)
إثارة الخوف في نفوسهم منها حتى يرعووا عن موقفهم قبل دمغهم دمغا لا يبقى بعده لهم مخلص من جهة أخرى.
وهذا وذاك يلهمان أولا أن من المنافقين من استطاع أن يخفي حقيقة أمره على بعض المسلمين على الأقل. وفي سورة التوبة آية صريحة بذلك بل وبكون بعض المنافقين استطاعوا إخفاء حقيقة أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهي وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وثانيا أن المنافقين كانوا يحذرون أن يعرف نفاقهم ويتحاشون الفضيحة به ويحاولون تأويل مواقفهم. وقد حكت ذلك آيات عديدة منها آية سورة المنافقون هذه إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) ومنها آية سورة التوبة هذه وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) وآية سورة التوبة هذه يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [74] .
والنفاق في حد ذاته يتضمن هذا القصد. فالمنافق كافر وغير مخلص ولو لم يخش الفضيحة والأذى لظهر على حقيقته بدون مواربة. ومع ذلك فلعل من الصواب أن يقال إن الحذر في المنافقين قد اشتد بعد توطد مركز النبي في المدينة وبخاصة بعد تطهيرها من اليهود إجلاء وتنكيلا.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس والضحاك في سياق الآية الثانية أن الله سبحانه عرفه إياهم في سورة التوبة حيث أوحى له وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [الآية: 84] ولَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [الآية: 83] .
غير أن الآية [101] من سورة التوبة التي أوردناها والتي يلهم سياقها أنها نزلت بعد هاتين الآيتين صريحة النصّ كما قلنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف بعضهم.
ومع ذلك فإن الآية التي نحن في صددها تلهم أن المنافقين مهما حاولوا التستر فإن(8/324)
تصرفاتهم ومواقفهم وأقوالهم تظل تفضحهم وتعريهم وتجعل النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين يعرفونهم منها.
هذا، ومما لا شك فيه أن الآيات قد احتوت درسا وموعظة بليغة مستمرة التلقين وبخاصة للزعماء والحكام الذين يسوسون الناس ويتولون توجيههم في كيفية التصرف معهم مخلصهم ومترددهم ومنافقهم.
ولقد روى الطبرسي وهو مفسر شيعي في سياق الآية الثانية أن أبا سعيد الخدري قال «لَحْنِ الْقَوْلِ هو بغض عليّ بن أبي طالب. وقد كنّا نعرف المنافقين في عهد رسول الله ببغضهم له» وقال المفسر إن مثل هذا روي عن جابر ابن عبد الله وعبادة بن الصامت. ولا يوثّق المفسر رواياته بسند وثيق. ولم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والهوى الشيعي واضح في هذا. وقد يكون حقّا أن بغض عليّ رضي الله عنه من علامات النفاق. ولكن ليس من محل للاختصاص بحيث يصح أن يكون من علامات النفاق بغض كل واحد من الرعيل الأول من أصحاب رسول الله ومن أقران عليّ أيضا وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم.
وإذا كان هناك حقا حديث رواه الترمذي عن أم سلمة جاء فيه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحبّ عليا منافق ولا يبغضه مؤمن» «1» فهناك أحاديث أخرى من هذا الباب عن أصحاب رسول الله عامة وعن الأنصار خاصة منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «2» وحديث رواه الشيخان ومسلم عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق فمن أحبّهم أحبّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» «3» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 297.
(2) المصدر نفسه ص 272.
(3) المصدر نفسه ص 341.(8/325)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
[سورة محمد (47) : آية 31]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
. المتبادر أن الخطاب في الآية موجّه إلى المؤمنين إطلاقا من قبيل الالتفات والتعقيب على ما حكته الآيات السابقة من مواقف وحالات المنافقين: حيث نبهوا فيها إلى أن الله إنما يختبرهم بالجهاد والأمر به حتى يمتاز المجاهدون والصابرون والمخلصون من غيرهم. وتظهر أعمال ومواقف كل منهم.
وقد احتوت بيان حكمة الله فيما فرض وأمر من شأنها بعث الطمأنينة والبشرى والصبر والرغبة في التضحية في نفوس المخلصين وإثارة الحافز والارعواء في المنافقين والمترددين.
[سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 34]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
. عبارة الآيات واضحة واتصالها بالسياق السابق ظاهر. وفيها عود على بدء في الإيذان بأن الله سيحبط مكائد وأعمال الكفار الصادين عن سبيل الله والمشاقين لرسوله برغم ما ظهر لهم من أعلام الهدى. وبأنهم لن يضروا الله شيئا بأعمالهم وبأنه لن يغفر لمن يموت منهم على حاله هذه، وفيها في الوقت نفسه هتاف بالمؤمنين بإطاعة الله ورسوله وعدم إبطال ثمرة إيمانهم بالانحراف عن ذلك بأي شكل.
وفي الآيات توطيد لأوامر الله ورسوله وبخاصة في أمر الجهاد الذي كان موضوع الكلام في الفصل السابق. وتحذير للمخلصين من الانحراف وحفز للكفار على الارعواء قبل الموت.
وقد قال بعض المفسرين إن الكفار المعنيين هنا هم أهل الكتاب «1» .
__________
(1) الطبرسي.(8/326)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
وليس في السياق ما يلهم صحة هذا الاختصاص. والتعبير يتناول كل من وقف موقف الصّدّ والعداء والأذى من المسلمين والدعوة الإسلامية. ولقد ذكرت الآيات الأولى من السورة الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وأذنت بإحباط أعمالهم وأمرت المؤمنين بقتالهم. وروح هذه الآيات تلهم أن المقصودين هم كفار العرب. وما دام الوصف واحدا فيكون المقصودون هنا هم المقصودون هناك.
وفي الآية الأخيرة تقرير أو توكيد جديد لما نبهنا عليه مرة أخرى من أن الحملات القرآنية على الكفار وتقرير عذابهم الأخروي وكون الله لن يهديهم ولن يصلح بالهم وسيحبط أعمالهم إنما هي بالنسبة لمن يبقى على حاله كافرا صادا عن سبيل الله إلى أن يموت.
[سورة محمد (47) : آية 35]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
. (1) لن يتركم: لن ينقصكم، أو لن يحرمكم، أو لن يفجعكم فيها.
تعليق على الآية فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ... إلخ
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. والمتبادر أنها استمرار للسياق. ومعطوفة بخاصة على الآيات السابقة لها مباشرة والتي وجّه الخطاب فيها إلى المسلمين.
وقد اختلفت التأويلات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين للفقرة الأولى منها «1» . فمنهم من قال إنها تأمر المسلمين بعدم دعوة
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والنسفي والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري وابن كثير.
وأكثرهم رووا أكثر من تأويل من التأويلات المذكورة.(8/327)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
الكفار إلى الصلح والمسالمة وتوجب عليهم عدم التهاون في قتالهم إلى أن يسلموا. ومنهم من قال إنها تأمر المسلمين بذلك في حال تفوقهم وعلوّهم على الكفار ولا تمنعهم من مصالحتهم وموادعتهم إذا كانوا متفوقين عليهم، واستدل على ذلك بصلح النبي لقريش في الحديبية. ومنهم من قال إنها تأمر بأن لا يضعفوا ويتهاونوا في حرب الكفار ولا يكونوا بادئين في طلب الموادعة والمسالمة.
والذي يتبادر لنا أنها تأمرهم بعدم الضعف والتراخي في الجهاد والجنوح إلى موادعة الكفار المعطلين المشاقين أو إهمال شأنهم تفاديا من تضحيات الجهاد ونتائجه. وتطمئنهم بأنهم هم الأعلون المفضلون المنصورون وأن الله معهم. ولن يخذلهم ويضيع أعمالهم. ومن كان هذا شأنه فلا يليق به أن يضعف ويتراخى في مكافحة المعتدين الصادين عن سبيل الله. وهذا التأويل هو المتسق مع روح الآيات القرآنية الجهادية عامة ومع روح الآيات وروح آيات السورة معا مع التنبيه على أنه ليس في الفقرة نهي عن الجنوح إلى السلم إذا جنح لها الأعداء من الكفار وكانوا صادقي الرغبة في الانتهاء من موقف العداء والبغي. وآية سورة الأنفال هذه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [61] مما يؤيد ذلك.
والآية بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون هو الصواب تحتوي تلقينا مستمر المدى سواء أفي تهوين شأن الأعداء أم في الحثّ على عدم التهاون معهم والغفلة عنهم أم في حظر بثّ روح التراخي والضعف في ظروف النضال وواجباته. أم في تلقين كون المسلمين هم الأعلون لأنهم أولياء الله المجاهدون في سبيل دينه وأن من واجبهم أن يدركوا ذلك وأن يحتفظوا بهذه الكرامة التي كرّمهم الله بها وجعلهم أهلا لها بالإضافة إلى ما فيها من وعد الله لهم. بمكافأتهم على أعمالهم مهما كانت النتائج وما يبثّه هذا الوعد من ثقة فيهم.
[سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
.(8/328)
(1) فيحفكم: من الإحفاء وهو الإلحاح والإبرام.
تعليق على الآية إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
في الآيات خطاب للمسلمين يتضمن:
(1) تقرير كون الحياة لعبا ولهوا ومتاعها وأمدها قصيران زائلان.
(2) وتقرير كون أجر المسلمين عند الله مضمونا إذا ما أخلصوا في الإيمان وتقوى الله.
(3) وتقرير كون الله لا يطلب منهم الخروج عن جميع أموالهم ولا يلحّ عليهم في ذلك لأنه يعلم طبيعة البشر إزاء مثل هذا الطلب من شحّ وضنّ وتجهّم وإعراض ولا يريد لهم أن تظهر عليهم أعراض تلك الطبيعة. وكل ما في الأمر أنه يسألهم إنفاق بعضها. وهذا أمر هين كان يجب عليهم أن يفعلوه بدون تردد. ومع ذلك فإن منهم من يبخل به. ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه لأن خطر البخل في هذا المقام عائد عليه. والله تعالى غني عن الناس. والناس فقراء إليه على كل حال. والإنفاق الذي يدعوهم إليه إنما هو لمصلحتهم فإذا أعرضوا عن الاستجابة إلى ما يدعون والإخلاص لله فإن الله لا يعزّ عليه أن يستبدل بهم قوما آخرين لا يكونون مثلهم في البخل والإعراض وضعف الإخلاص والتقوى. وروح الآيات ومضمونها جعل من المتبادر لنا أن المقصود من جملة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أنه لا يسألكم أموالكم جميعها. ونرجو أن يكون هو الصواب.
وأسلوب الآيات قوي رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومتسق مع(8/329)
أسلوب القرآن في معالجة مثل الأغراض التي استهدفتها معالجة حكيمة متمشية مع طبائع الأشياء.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في مناسبة نزول الآيات.
والمتبادر أنها استمرار للسياق السابق واستطراد إلى ذكر مسألة الإنفاق لأن مجاهدة العدو تتطلب ذلك. ولعل ما احتوته الآية السابقة من الأمر بعدم التراخي عن العدو متصل بهذه المسألة حيث كان بعض المسلمين يقصّر فيها فيكون ذلك مظهرا من مظاهر التهاون والتراخي فاقتضت الحكمة الاستطراد إليها.
ويبدو من روحها أن المقصرين في هذه المسألة هم فئة أخرى غير المنافقين. وإذا صح هذا فيكون في الآيات صورة لما كانت تقابل به الدعوة إلى التضحية بالمال في سبيل الله من فتور وتردد من قبل بعض المسلمين الذين هم غير مدموغين بالنفاق والذين هم في الغالب من المستجدين الذين أسلموا رغبة أو رهبة أو مسايرة للظروف، ثم لم يخامروا ولم ينافقوا. وفي آيات أخرى في سور البقرة وآل عمران والنساء إشارات إلى مقابلة هذه الفئة الدعوة إلى الجهاد بالنفس بالفتور والتردد أيضا. وفي سورة الصف آيات صريحة في ذلك وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) ويلفت النظر إلى أنها خاطبت المخاطبين بخطاب الذين آمنوا.
وهذه الفئة هي غير الذين وصفهم الله في آية التوبة [100] بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وقال عنهم فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ثم عناهم بوصف الصادقين في آية التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) .
وما جاء في الآيات في صدد البخل والإنفاق في سبيل الله جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على التنبيه على تعظيم أمر الإنفاق في سبيل الله وشدة ضرورته وخطر(8/330)
التقصير فيه. ودلالة ذلك على ضعف إيمان وعقول المقصرين مما أكدته آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها.
ولعل ما احتوته الفقرة الأولى من وصف للحياة الدنيا وتقرير لكون الإيمان والتقوى هما اللذان يجب أن يتصف بهما المسلم الصادق، وهما اللذان يمكن أن يعودا عليه من هذه الحياة بالنفع والأجر متصل بذلك. وفي كل هذا تلقينات مستمرة المدى كما هو المتبادر. ويلفت النظر بخاصة إلى الإنذار الرهيب المستمر المدى كذلك للمسلمين الذين يسمعون القرآن وقت نزوله وجلّهم من العرب إذا هم قصروا وبخلوا في الإنفاق في سبيل الله تعالى ينطوي فيه إنذار بزوالهم أو زوال عزهم واستعلاء غيرهم عليهم.
وواضح من هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن ما جاء في الآية الأولى من وصف للحياة إنما هو بسبيل حفز المسلمين على التزام الأفضل والأكرم والأبقى والمؤدي إلى رضاء الله فيها وهو الإيمان والتقوى.
ولقد روى الطبري بطرقه على هامش الآية الأخيرة حديثا عن أبي هريرة قال «نزلت هذه الآية وسلمان الفارسي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكّ ركبته ركبته فقالوا يا رسول الله ومن الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا فضرب فخذ سلمان ثم قال هذا وقومه» وقد روى هذا الحديث البغوي أيضا ورواه الترمذي وهذا نصّ الترمذي عن أبي هريرة قال «قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا قال وكان سلمان بجنب النبي فضرب على فخذه وقال هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس» «1» ومع ذلك فإن الطبري يروي عن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير من التابعين أن المقصود بهم أهل اليمن.
كما أن البغوي يروي عن الكلبي أنهم كنده والنخع «2» . ولقد أورد ابن كثير نصّ
__________
(1) التاج ج 4 ص 210- 211.
(2) قبيلتان يمانيتان.(8/331)
الترمذي وعقب عليه قائلا تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ورواه عنه غير واحد.
وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم. ولقد أورده كذلك الطبرسي ثم روى عن أبي عبد الله أحد الأئمة أنه قال في معنى الآية «إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي وقد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي» .
ونحن نتوقف في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأهل فارس ليسوا الوحيدين الذين دخلوا الإسلام من الأمم الأعجمية وليسوا الوحيدين الذين صار لهم سلطان في ظل الإسلام على أنقاض السلطان العربي. وهناك من كان أكثر وأقوى وأدوم وأوسع سلطانا وهم الترك. والقول المروي عن الإمام أبي عبد الله يرويه مفسر شيعي. ونحن نخشى أن يكون ذلك متأثرا بما كان من التعاون بين الهاشميين ثم العلويين وأهل فارس في سياق المنافسة على السلطان في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. ويلحظ أن بعض علماء التابعين قالوا إن المقصودين هم أهل اليمن الذين لم يكونوا أسلموا بعد حين نزول الآيات والذين كانوا من أقوى الأركان التي قامت عليها الدول العربية الإسلامية الأولى حيث قد يفيد هذا أن الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عند هؤلاء العلماء.
ومن الجدير بالذكر أن الموضوع الجوهري المتصل بأهل فارس الذي جاء في هذا الحديث قد ورد في حديث آخر رواه البخاري ومسلم في سياق تفسير جملة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ من سورة الجمعة على ما أوردناه وعلقنا عليه في سياق تفسير هذه السورة في الجزء السابق. وبصرف النظر عما علقنا به على هذا الحديث في سياق تفسير سورة الجمعة فإن الفرق مهم في مناسبة الروايتين فضلا عن أن الحديث الوارد في مناسبة آية سورة الجمعة أقوى اعتبارا في مراتب الحديث. حيث نرى في هذا دعما وتصويبا لموقفنا في الحديث المروي في مناسبة آية سورة محمد التي نحن في صددها. والله تعالى أعلم.(8/332)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
سورة الطلاق
في السورة تشريعات تكميلية وإيضاحية لأحكام الطلاق والعدة والرضاع.
وتوكيد وتشديد بالتزام الحدود التي رسمها القرآن في هذا الموضوع والتي تهدف إلى الرفق بالمرأة ورعاية الحياة الزوجية. والفصل الآخر منها وإن لم يكن متصلا بموضوع فصلها الأول المذكور آنفا اتصالا مباشرا فإن فيه تدعيما له على ما سوف يأتي شرحه. وهو مقفى بعض الشيء مثله مما يسوغ القول إنه نزل معه أو بعده كتعقيب عليه. وقد روي «1» عن ابن مسعود اسم آخر للسورة وهو (سورة النساء الصغرى) والراجح أن هذا الاسم مقتبس من موضوع السورة أيضا كما هو شأن اسمها المشهور.
وترتيب هذه السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الإنسان التي تأتي بعد سورة الرحمن التي تأتي بعد سورة الرعد التي تأتي بعد سورة محمد.
والسور الثلاث المذكورة قد فسرناها في سلسلة السور المكية لرجحان مكيتها على ما شرحناه قبل، فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة. وهي السورة الثانية التي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأولى هي سورة الأحزاب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) .
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي.(8/333)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وتلقينات
وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصفته رئيس المسلمين كما هو المتبادر. مع توجيهه إلى المسلمين في الوقت نفسه. وقد تضمنت ما يلي:
(1) على الأزواج الذين يريدون تطليق زوجاتهم أن يطلقوهنّ في الوقت الذي يصحّ أن يكون بداية حساب العدة مع الاهتمام بإحصاء العدة.
(2) ولا يصح للأزواج أن يخرجوا زوجاتهم من بيوتهن التي هنّ فيها قبل انتهاء عدتهن. كما لا يجوز لهن أن يخرجن منها. باستثناء حالة صدور فاحشة مبينة منهن، وفي جملة لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ينطوي تعليل ذلك وهو- كما يستلهم من روحها- احتمال انبعاث رغبة المراجعة عند الزوجين والعدول عن الطلاق حيث يكون بقاء الزوجة في بيتها ميسرا لذلك.
(3) وعلى الأزواج حينما تنتهي عدة الطلاق إما أن يعدلوا عن الطلاق ويبقوا على الرابطة الزوجية وإما أن يصمموا على الفراق فإذا عدلوا فيجب عليهم أن يكون إمساكهم لزوجاتهم بقصد الرغبة الصادقة في حسن المعاشرة على الوجه المتعارف عليه أنه الحق. أما إذا صمموا على الفراق فعليهم أن يسرحوا زوجاتهم بالحسنى وعلى الوجه المتعارف عليه أنه الحق كذلك.
(4) ويجب استشهاد شاهدين عدلين من المسلمين على الطلاق والعدة والمراجعة.
ويجب على الشهود أن يؤدوا شهادتهم بدون محاباة. وأن يراقبوا الله وحده فيها.(8/334)
(5) وقد نبهت الآيات إلى أن ما رسم فيها هو حدود الله التي لا تجوز مخالفتها. وأن من يتعداها يكون قد ظلم نفسه بما يعرضها له من الضرر في حياته ومن غضب الله وسخطه. وأن من يتقيه ويتوكل عليه ييسر له المخارج من المأزق ويرزقه من حيث لا يتوقع. وأن الله قد جعل لكل شيء حدّا مقدرا وأن في ذلك تحقيق الأمر الذي اقتضته حكمته.
وواضح أن التنبيهات التي شرحناها في الفقرة الخامسة هي بسبيل تدعيم ما احتوته الآيات من حدود وأحكام. وهي قوية نافذة إلى القلوب والعقول معا.
ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآيات عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق زوجته حفصة فأتت أهلها فأنزل الله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية، فقيل له راجعها فإنما هي صوامة قوامة وهي من نسائك في الجنة فراجعها» . وهذا النصّ لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن الخبر ورد فيها حيث روى أبو داود والنسائي عن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة ثم راجعها» «1» وليس في هذا النص إشارة إلى أن ذلك كان مناسبة لنزول الآيات.
وهذه الآية مع الآيات الست التالية لها في صدد واحد. وفيها توضيح لمسائل عديدة مما قد يسوغ القول إن الأمر أعمّ من طلاق عادي صدر من رسول الله لبعض زوجاته. وأنه قد وقعت أحداث متنوعة لم تكن آيات سورة البقرة في الطلاق كافية لبيان الحكم فيها فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات. والله أعلم.
ولقد شرحنا كيفية الطلاق الرجعي ومسألة الطلاق الباتّ مرة واحدة. وأوردنا الأحاديث الواردة في ذلك في سياق شرح آيات الطلاق في سورة البقرة فلا نرى حاجة إلى الإعادة. وإنما نقول في مناسبة الآيات التي نحن في صددها إن فيها وبنوع خاص في الأولى منها دليلا قرآنيا ثانيا على أن التطليق الشرعي هو تطليق رجعي طهرا بعد طهر. وإن التطليق الباتّ مرة واحدة ليس تطليقا شرعيا قرآنيا. أما
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 312.(8/335)
الدليل الأول فهو في آية البقرة [229] في جملة الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي مرة بعد مرة.
وقد جعلت الآية [227] من آيات البقرة عدة المطلقة ثلاثة قروء ليستطيع الزوجان المطلقان أن يتراجعا خلالها إذا تراضيا في حين أن عدة المبتوتة قرء واحد لاستبراء الرحم. وفي هذا تدعيم قرآني آخر. وفي جملة لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها تعليل بليغ من حيث احتمال طروء ما يغير رغبة الفراق خلال مدة العدة. وما جاء في الآيات من الأمر بإشهاد الشهود وإحصاء المعدة وأداء الشهادة على وجهها الحق. والتنبيه على أن ذلك حدود الله التي لا يجوز تعديها مما يدعم ما قلناه. أيضا فضلا عما ينطوي فيه من قصد التدقيق في الحساب وتجنيب الناس الوقوع في المحظور.
ولقد محصنا في سياق تفسير آيات سورة البقرة ما ورد من آثار في صدد نفاذ الطلاق الباتّ أو الطلاق الثلاث فنكتفي هنا بهذا التنبيه.
وجملة إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ تتحمل أن تكون بمعنى الزنا أو البذاءة على الزوج وأهله أو أذيتهم وسوء الخلق والسلوك معهم أو النشوز والتمرد على الزوج على ما ذكره المفسرون «1» عزوا إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين. وهذا حقّ لأن فيه تعطيلا للغاية المستهدفة التي نبهنا عليها من بقاء المطلقة في بيت الزوجية فيصبح خروجها أو إخراجها منه أمرا لا مندوحة عنه.
وفي الآيات تكرار للمبدأ القرآني المقرر في آيات سورة البقرة [229 و 231] وهو الإمساك بالمعروف أو المفارقة بالمعروف حيث ينطوي في ذلك عناية حكمة التنزيل في توكيد التزام هذا المبدأ في العلاقة الزوجية القائم على الحق والعدل وحفظ كرامة الزوجة في حالتي الإمساك والفراق.
ولقد روى المفسرون في صدد الفقرة وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواية تذكر أنها نزلت في مناسبة وقوع شاب مسلم في أسر
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن.(8/336)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
الأعداء ومراجعة أبيه للنبي صلى الله عليه وسلم شاكيا أمره وفاقته فكان ينصحه بالصبر والإكثار من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله) فاتبع النصيحة النبوية فما عتم ابنه أن نجا من أسره وتمكن من استياق ماشية آسريه والعودة إلى أبيه سالما غانما فبادر الأب إلى النبي فأخبره الخبر فنزلت «1» .
والفقرة جزء من آية، والآية جزء من آيات. والمتبادر من الآيات أن المعنى المنطوي في الفقرة متصل بها من حيث إن فيها أمرا بتقوى الله في معاملة الزوجات وطلاقهن وعدّتهن وإمساكهن بالمعروف أو مفارقتهن بالمعروف فاقتضت حكمة التنزيل أن ينبه المسلمون في سياق ذلك إلى ما في تقوى الله والتوكل عليه وتنفيذ أوامره والتزام حدوده من فوائد عظمى.
وهذا ليس من شأنه أن ينفي تلك الرواية. فمن المحتمل أن تكون صحيحة وإن لم ترد في كتب الصحاح. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلافى مناسبة الموقف في الآية فالتبس الأمر على الرواة. والآية على كل حال قد انطوت على تطمين ربّاني لمن يكون تقوى الله والتوكل عليه ديدنه وشعاره في كل شيء ومن الجملة سلوكه مع زوجته.
هذا، وهناك حالة خطرت لنا. وهي أن يعرض للمطلقة حاجات تقتضيها الخروج أثناء عدتها من بيت زوجها مؤقتا إذا ما كانت تنوي العودة وعادت فعلا.
والذي يتبادر لنا أن الأمر بعدم إخراجها وبعدم خروجها هو في صدد الخروج النهائي الذي يفوت به فرصة سهولة المراجعة أثناء العدة على ما تلهمه الآيات.
وأن الخروج الموقت لحاجة طارئة والعودة بعد قضائها ليس من شأنه أن يتعارض مع ذلك وإن لها أن تفعله والله تعالى أعلم.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والخازن والبغوي.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 22(8/337)
تعليق على الآية وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام وتلقين
في الآية الأولى:
(1) تعيين مدة ثلاثة أشهر عدة للائي انقطع حيضهن إذا كان هناك ارتياب.
(2) وتعيين نفس المدة للائي انقطع حيضهن أو لم يحضن بالمرة بسبب بنيوي.
(3) وتعيين وضع الحمل عدة للحاملات.
وقد احتوت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية توكيدا مكررا بوجوب تقوى الله وبيان ما يعود على المتقي من فوائد كبيرة حيث يجعل الله اليسر في أموره ويكفر سيئاته ويعظم له الأجر. وواضح أن هذا بسبيل تدعيم أوامر الله والتزام حدوده المرسومة في الآيات. وفيه ما هو ظاهر من توكيد العناية الربانية بالمرأة.
واليأس من المحيض في أصله هو وصول المرأة إلى السنّ التي ينقطع عنها الحيض فيها عادة وتنتهي فيها قابليتها للحمل أي تيأس بعدها من الحمل. ولهذا سمّى هذا السنّ بسنّ اليأس. غير أن المتبادر من فحوى العبارة القرآنية أنها بسبيل بيان لكون مدة الأشهر الثلاثة قد عنيت لحالة الارتياب فيما إذا كان انقطاع الحيض لغير سبب سنّ اليأس بالنسبة للمتقدمات في السنّ نوعا ما. أو بسبب بنيوي أو لسبب صغر السن بالنسبة لغير المتقدمات في السن نوعا ما. ولقد روى الطبري عن بعض التابعين قولا في مدى الارتياب وهو أن يكون فيها إذا كان الدم دم حيض أو دم استحاضة. والاستحاضة هي نوع من النزيف الدموي يكون في غير أوقات العادة الشهرية وقد يستمر على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة.
والقول وجيه ولا يتعارض مع الشرح السابق.
والمتبادر أن الكلام عائد للمطلقات اللائي انقطع حيضهن أو كنّ حاملات.(8/338)
ويلحظ أن عدة المطلقات اللائي يحضن لم تذكر هنا. وذلك لأنها ذكرت في آية سورة البقرة [227] وهي ثلاثة قروء. ومدة الأشهر الثلاثة المعينة هنا تعدل مدة القروء الثلاثة. وقد روى البغوي أن خلاد بن النعمان قال «يا رسول الله ما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى فأنزل الله الآية» وروى ابن كثير أن أبيّ بن كعب قال «يا رسول الله إنّ عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله الآية» .
والآيتان معطوفتان على ما قبلهما. واستمرار للسياق السابق في موضوع واحد. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع سؤال عن الأمور التي احتوتها الآية الأولى في جملة ما وقع من ذلك في صدد ما احتوته الآيات السابقة. وهذا مألوف في التنزيل القرآني مما مرّ منه أمثلة كثيرة.
والأمر بتطليق النساء لعدتهن هو بسبيل منح الزوج فرصة لمراجعة زوجته أثناء العدة. ولما كانت عدة الحامل هي وضع حملها فتكون هذه الفرصة للزوج ممتدة إلى هذا الوقت طال أو قصر كما هو المتبادر. فإذا لم يراجع الزوج زوجته قبل وضعها فيكون قد أضاع الفرصة وتكون قد طلقت منه طلقة بائنة أسوة بمن لا يراجع زوجته غير الحامل والتي يأتيها الحيض أثناء عدتها التي هي ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر. وحينئذ تتوقف مراجعة الزوج لزوجته على عقد جديد ومهر جديد وتراض بين الزوجين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجا آخر إذا لم تكن التطليقة هي الثالثة على ما شرحناه في سياق تفسير آية البقرة [227] شرحا يغني عن التكرار.
ومع أن الكلام هو في صدد عدة الزوجات المطلقات فقد روى المفسرون أحاديث نبوية تجعل عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع حملها أيضا، وأحد هذه الأحاديث رواه البخاري عن أبي سلمة قال «جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس آخر الأجلين قلت أنا وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال أبو هريرة أنا مع أبي سلمة فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت(8/339)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو السنابل فيمن خطبها» «1» وقول ابن عباس «آخر الأجلين» يعني أبعدهما. أي إذا كان الوضع قبل انقضاء عدة الحداد وهي أربعة أشهر وعشرة أيام تكون عدتها لتمام هذه المدة. فكانت رواية أم سلمة ناقضة لهذا القول. وقد روي هذا الحديث بطرق أخرى. ومنها ما جاء عن لسان سبيعة نفسها جوابا على سؤال عن فتيا النبي صلى الله عليه وسلم لها «2» . ومما جاء في رواية أوردها البغوي وهو من علماء الحديث أن أبا السنابل دخل على سبيعة فقال لها «قد تصنعت للأزواج؟ إنها أربعة أشهر وعشر» فذكرت ذلك لرسول الله فقال «كذب أبو السنابل- أو ليس كما قال أبو السنابل- قد حللت فتزوجي» . وقد روى الطبري بطرقه إلى هذا حديثا عن أبي بن كعب قال «لما نزلت هذه الآية وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قلت يا رسول الله المتوفى عنها زوجها والمطلقة قال نعم» .
وقد استند أئمة الفقه إلى هذا فأجازوا زواج الحامل المتوفى عنها زوجها عقب وضعها وإن كان ذلك بعد وفاته بمدة قصيرة. والمتبادر أن التشريع النبوي توضيح لما سكت عنه القرآن. لأن الآية [234] من سورة البقرة التي جعلت عدة الزوجة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام جاءت مطلقة بحيث تصح على الحامل وعلى غير الحامل، وأنه استهدف التخفيف عن المرأة مما هو متسق مع روح الآيات القرآنية وتلقينها بصورة عامة.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) .
__________
(1) التاج ج 4 ص 239.
(2) تفسير ابن كثير والخازن والبغوي. [.....](8/340)
(1) من وجدكم: بمعنى حسب قدرتكم وإمكانكم.
(2) ائتمروا: تشاوروا واتفقوا.
(3) تعاسرتم: اختلفتم أو عسر عليكم الاتفاق.
(4) قدر عليه رزقه: كان رزقه ضيقا، أو حالته المالية ضعيفة.
تعليق على الآية أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام
تضمنت الآيتان:
(1) أمرا يوجب على الأزواج إسكان مطلقاتهم في زمن العدة حيث يسكنون وحسب الإمكان الذي يكون لهم.
(2) ونهيا عن مضارّتهن قولا وفعلا بقصد التضييق عليهن.
(3) وأمرا بالإنفاق عليهن إن كنّ حاملات إلى أن يضعن حملهن وبإعطائهن أجر الرضاعة إذا أرضعن المولود بمقدار يقدر بالتشاور والتراضي وحسب ما هو معروف أنه الحق، فإن تعسر الاتفاق عليه فترضعه غيرها.
(4) وتنبيها على أن تكون النفقة متناسبة مع حالة الزوج المالية سعة وضيقا.
فذو السعة ينفق عن سعة. والذي حالته ضيقة ينفق بقدر ما يقدر عليه. فإن الله لا يكلّف إلّا بمقدار ما ييسره له. وهو القادر على أن يأتي باليسر بعد العسر.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيتين. والمتبادر أنها استمرار للسياق. وتتمة لما جاء في الآيات السابقة من أحكام وحدود. وهي صريحة بأنه ليس على الأم المطلقة أن ترضع مولودها إلّا بأجر ولها على زوجها(8/341)
حق السكن مدة عدتها إن كانت غير حامل وحق السكن والنفقة إلى أن تضع حملها إن كانت حاملا بالمقدار الذي تتسع له حالة زوجها المالية وإمكانياته. وما جاء في صدد إرضاع المولود واحتمال عدم الاتفاق عليه بين الوالد والوالدة يدل- كما هو المتبادر- على أن الزوج قد أضاع فرصة المراجعة أثناء الحمل وأصبحت زوجته طالقة منه. إما طلاقا بائنا أو طلاقا باتا إن كانت التطليقة هي الثالثة.
ومسألة إلزام الزوج بنفقة المطلقة رجعيا مدة العدة إذا لم تكن حاملا من المسائل المختلف فيها باستثناء حق السكن الذي نصّت عليه الآيات. فقد أوجبها بعض الفقهاء قائلين إن الله وقد أمر بعدم إخراجهن من بيوتهن وأوجب لهن السكنى قد أوجب لهن النفقة بالتبعية. ولم يوجبها بعضهم لأن النص القرآني لم يذكر هذا الحق صراحة إلّا للمطلقة الحامل. ولم نطلع على أثر نبوي. ولعل هذا هو سبب الخلاف.
وقد أسهب البغوي وابن كثير والخازن في هذه المسألة. ومما أوردوه من تدعيمات القائلين بالرأي الأول أن الآية إنما اختصت الحامل بالذكر لأن هناك احتمالا لطول مدة الحمل أكثر من مدة العدة. ونحن نرى القول الأول هو الأوجه.
فمن حكمة إبقاء المطلقة الرجعية في بيت الزوجية وهو ما انطوى في الآية الأولى والآية السادسة من السورة معا تيسير مراجعة زوجها لها أثناء العدة فصار من الحق والعدل أن تكون نفقتها عليه أسوة بسكنها وتبعا له طول مدة العدة. وليس في الآيات ما يمنع ذلك ونستطرد إلى مسألة أخرى وهي حق السكن والنفقة للمطلقة بائنا أو باتّا طول مدة العدة. وقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يوجبان ذلك.
ولقد روى مسلم وأبو داود عن فاطمة بنت قيس قالت «طلّقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله سكنى ولا نفقة» «1» غير أنه روي مع هذا الحديث حديث آخر مهم رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي إسحاق قال «كنت
__________
(1) التاج ج 2 ص 332.(8/342)
جالسا مع الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس فأخذ الأسود كفّا من حصى وحصبه به وقال ويلك تحدث بمثل هذا. قال عمر لا نترك كتاب الله وسنّة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة. قال الله عز وجل لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» وفي هذا حق وصواب. فالآية لا تذكر صفة الطلاق إن كان رجعيا أو بائنا أو باتا. والمطلقة البائنة أو المبتوتة تكون ممنوعة من الزواج ومحرومة من النفقة مدة عدتها. ومطلقها هو سبب ذلك فمن الحق والعدل أن يتحمل نفقتها تبعا لما ذكر القرآن من واجبه بتحمل سكنها. وهذه المدة قصيرة. فهي حيضة واحدة أو شهر واحد وهي عدة لاستبراء الرحم على ما ذكرناه وأوردنا في صدده وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يكون هذا الحق واردا بالنسبة لمن يكون أمرها بيدها وطلقت نفسها كما هو المتبادر.
وقد يكون حديث أبي إسحاق مؤيدا لقول من قال إن للمطلقة الرجعية حق النفقة بالإضافة إلى السكن. بل هو كذلك من باب أولى. وللحديث مغزى فقهي عظيم. وهو أن أصحاب رسول الله كانوا يتوقفون فيما يرويه البعض من أحاديث معزوة إلى النبي إذا ما رأوها متعارضة مع نصّ قرآني أو سنّة نبوية أخرى. ويوردون احتمال الغلط أو النسيان فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن هذا الحديث وأمثاله هو الذي جعل أئمة الحديث يضعون قاعدة لصحة الأحاديث النبوية وهي عدم تعارضها مع النصوص القرآنية. والحديث الذي توقف عمر فيه من مرويات مسلم وأبي داود. وهذه نقطة مهمة في بابها والله تعالى أعلم.
هذا، وتوجيه الخطاب في أول السورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد ينطوي على تقرير لكونه هو ومن يتولى أمر المؤمنين من بعده ذا حقّ الإشراف على تنفيذ ما احتوته الآيات من حدود ورسوم. وهو ما انطوى في آيات البقرة والنساء العائدة إلى الشؤون الأسروية واستلهمنا منه صلاحية وحق القضاء الإسلامي في الإشراف على هذه الشؤون ومراقبتها وتنظيمها ومن ذلك الطلاق.(8/343)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
. (1) عتت: تمردت.
عبارة الآيات واضحة. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الفصل السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت معه أو نزلت عقبه. وقافيتها قد تدل على قوة الانسجام بينها وبين ما قبلها أيضا. وقد استهدفت التوكيد والتشديد في وجوب تقوى الله والتزام الحدود التي بلغها رسوله للمؤمنين في مسائل الطلاق والعدة والرضاع والرفق بالمرأة ورعاية حقوقها والحرص على الرابطة الزوجية حيث قررت أن الله إنما أرسل رسوله إليهم ليخرجهم بما يتلوه عليهم من الآيات المنزلة عليه من الظلمات إلى النور ومن الفوضى إلى النظام، وأهابت بهم إلى تقوى الله.
ووعدت من يلتزم أوامره نعيم الجنات وكريم الأجر والرزق، وأوعدت من يتمرد عليها بالعذاب الشديد الذي حلّ بكثير من القرى والأمم التي تمردت على الله وأوامره.
والآيات قوية الأسلوب موجهة إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنها أن تنفذ إلى نفس المؤمن نفوذا قويا. وفيها دلالة مؤيدة للدلالات السابقة الكثيرة على ما أعاره القرآن لموضوع المرأة والحياة الزوجية من عناية كبرى. وتلقين بأن يكون القرآن أسوة المؤمن ونبراسه في هذا الموضوع الخطير.(8/344)
تعليق على الآية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ
وجملة وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ تأتي لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن. وقد ذكرت الأرض في الآيات التي ورد ذكرها فيها في غير هذه الآية في صيغة المفرد.
وقد استنبط أهل التأويل من ذلك أن الأرض سبع كالسموات. وساقوا في تأييد ذلك أحاديث نبوية وصحابية وتابعته على ما جاء في كتب التفسير «1» . ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما لم يرد. من ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله هل تدرون ما هذا. قالوا الله ورسوله أعلم. قال هذا العنان.
هذا روايا الأرض. يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال هل تدرون ما فوقكم. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال هل تدرون كم بينكم وبينها. قالوا الله ورسوله أعلم. قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع سموات ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين. ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «2» وحديث أورده ابن كثير عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في
__________
(1) انظر تفسير الآية وتفسير آية سورة الحديد [3] في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.
(2) التاج ج 4 كتاب التفسير ص 226 و 227.(8/345)
الكرسي إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة» .
وهناك حديث رواه الشيخان فيه عبارة سبع أرضين هذا نصّه «من أخذ من الأرض شيئا بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين وفي رواية من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» «1» على أن هناك على ما ذكره المفسرون من قال إن الآية لا تفيد ذلك. وإنه ليس في القرآن أي دليل على أن الأرض سبع. وخرّج العبارة القرآنية تخريجين أحدهما أن يكون تقديرها اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وثانيهما أن تكون مِنَ زائدة ويكون تقدير العبارة «الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن» «2» والظاهر أن أصحاب هذا التأويل لم يثبت عندهم ما ورد من الأحاديث التي تذكر سبع أرضين.
وعلى كل حال فالملحوظ أن العبارة القرآنية جاءت عابرة وبسبيل بيان عظمة قدرة الله ومطلق تصرفه أي ليست بسبيل تقرير كون الأرض سبعا بل ولا تقرير كون السموات سبعا بصورة مباشرة مقصودة. وإذا صح حديثا أبي هريرة وابن مسعود فإنهما بسبيل التنويه بعظمة ملكوت الله تعالى ووجوده وإحاطته. وحديث ابن عمر هو من باب الإنذار والوعيد من جهة ومن مشاهد يوم القيامة وعلى سبيل التمثيل والترهيب من جهة أخرى كما هو المتبادر. وأن الأولى أن يقف المؤمن في صدد السموات والأرض ومشاهد الكون والمغيبات المتنوعة الأخرى التي أخبر بها القرآن أو جاءت فيه عرضا أو قصدا عند ما وقف عنده القرآن، والثابت من الحديث النبوي دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف الحكمة من ذلك التي منها على ما هو المتبادر بيان عظمة ملكوت الله وقدرته وإحاطته بكل شيء، ومع ملاحظة كون هذه الآيات وأمثالها من المتشابهات التي يجب أن يترك تأويلها ما لم يعه عقل الإنسان إلى الله وأنها ليست من المحكمات التي يكون فهم كنهها من الضرورات الدينية على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج ج 5 ص 18. وعلّق الشارح على هذا الحديث بقوله: السند غريب.
(2) انظر تفسير القاسمي محاسن التأويل.(8/346)
سورة البينة
في السورة تقرير لحالة أهل الكتاب والمشركين قبل البعثة وإشارة إلى ما كانوا ينتظرونه من رسول وكتاب من الله. ونعي على أهل الكتاب لأنهم قد جاءهم ذلك ثم تنازعوا واختلفوا وبيان لدعوة الله وتقرير بأنها لا تتحمل مكابرة ولا اختلافا. وتنديد بالكفار وإنذار لهم وتنويه وبشرى للمؤمنين.
وأسلوبها وانسجامها وتوازنها مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها مدنية نزلت بعد سورة الطلاق. وقد ذكر هذا في معظم روايات ترتيب النزول أيضا «1» . وقد روى بعض المفسرين أنها مكية أو أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها «2» . وفي مضامينها ما يرجح مدنيتها، حيث احتوت نعيا على أهل الكتاب لأنهم كفروا بالرسالة المحمدية. وجل الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ووقفوا من هذه الرسالة موقف المناوأة هم اليهود الذين كانوا في المدينة وكان ذلك منهم في العهد المدني. وهناك آيات مدنية عديدة تلهم أن فئات من النصارى ناظروا النبي ولم يؤمنوا. وإن منهم من كان يصدّ عن سبيل الله. وقد مرّ بعضها في سور البقرة وآل عمران والنساء وبعضها في سورتي المائدة والتوبة.
وقد روى المفسرون للسورة أسماء أخرى وهي (لم يكن) و (البرية) و (القيّمة) «3» .
__________
(1) انظر كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.
(2) انظر تفسير الزمخشري والخازن والطبرسي.
(3) انظر تفسير البغوي والزمخشري والقاسمي.(8/347)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
. (1) قيمة والقيّمة: المستقيمة على الطريق القويم.
تضمنت الآيات:
(1) تقريرا لحال أهل الكتاب والمشركين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان كل منهم متمسكا بما هو عليه لا ينفك عنه حتى تأتيهم بيّنة جديدة من الله في صورة رسول يتلو عليهم كتابا طاهرا مقدسا فيه شرح للطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسيروا فيه.
(2) نعيا عليهم لأنهم إنما تفرقوا وشذّوا بعد أن جاءتهم البينة التي هي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي أنزله الله عليه في حين أن ما جاءهم لم يكن ليتحمل خلافا ولا شذوذا لأنه إنما أمرهم بعبادة الله وحده مخلصين وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذا هو الدين المستقيم والطريق القويم.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. وكل ما قاله المفسرون في صددها أنها في صدد موقف أهل الكتاب والمشركين من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما هو واضح في الآيات.
ويلحظ أن النعي الأقوى فيها موجه إلى أهل الكتاب. وننبه إلى أن القرآن المكي خلا من وصف أهل الكتاب بالكفر أولا واحتوى آيات عديدة فيها تقرير كونهم يعرفون صدق القرآن ورسالة الرسول كما يعرفون أبناءهم. واعترافهم بأن القرآن منزل من الله وكونهم فرحوا به وبالرسالة المحمدية واعتبروهما مصداقا لوعد الله الذي في كتبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وأعلنوا إيمانهم وانضواءهم للإسلام(8/348)
وخشعوا وسجدوا وبكوا دون مبالاة بما كان من تثريب المشركين لهم على ما ورد في آيات من سور الأنعام والأعراف والإسراء والقصص والعنكبوت والأحقاف وشرحناه في سياق تفسيرها بحيث يقال إنه لم يبق كتابي في مكة إلا انضوى للإسلام وكان فيهم أولو علم وثقافة فكان ذلك شاهدا عيانا داحضا لكل موقف كتابي مناوىء للقرآن والرسالة المحمدية بعد العهد المكي إلى آخر الزمان وردا ساحقا صاعقا لأنه كان في وقت قلة الإسلام وضعفه. وكان هذا من مؤيدات مدنية السورة على ما ذكرناه في تعريفها.
ولقد اختلف الأمر في العهد المدني والقرآن المدني. حيث كان من اليهود في يثرب والحجاز ومن النصارى في مشارق الشام وما بعدها كتل كبيرة لها مصالح أعمتها عن رؤية الحق والنور اللذين رآهما أهل الكتاب في العهد المكي فوقف معظمهم مواقف المناوأة مما مرّ شرحه في سور البقرة وآل عمران والأنفال وكان لرجال دينهم أثر كبير في ذلك عبرت عنه آية سورة التوبة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [34] . فكانت حملات القرآن المدني شديدة قاصمة فاضحة ضدهم ومن جملتها آيات هذه السورة.
ويتبادر لنا أن الآيات نزلت بمناسبة مشهد جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين فريق منهم أو تعقيبا عليه. ولعل بعض المشركين كانوا طرفا في المشهد. أو لعلّ ذكرهم جاء استطراديا ليكون الكلام جامعا للكافرين بالرسالة المحمدية ولا سيما إن المشركين العرب كانوا يقولون بأنه لو جاء نذير أو لو نزل لهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى من أهل الكتاب على ما حكته عنهم آية سورة فاطر [42] وآية الأنعام [157] فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم بالنعي لأنهم شذوا وكفروا بما كانوا يتمنون مجيئه من عند الله من نذير وكتاب.
ولا يمنع ما نقول أن يكون بعض النصارى الذين جحدوا رسالة النبي في العهد المدني ممن شهد المشهد وأن تكون عنتهم فيما عنته أيضا والله تعالى أعلم.(8/349)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
وهكذا تكون الآيات احتوت تقريرا واضحا للدعوة النبوية. وحجة جدلية دامغة على الذين يطلبون البرهان من النبي على صحة دعوته. فدعوته هي إلى عبادة الله وحده والإخلاص له والصلاة إليه ومساعدة المحتاجين بالزكاة. ولا يطلب البرهان على صحة هذه الدعوة ويكفر بها إلا سيء النية خبيث الطوية.
[سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
. الآيات معقبة على الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد تضمنت تنديدا لاذعا بالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وتنويها وبشرى عظيمة للذين آمنوا ووصفا لهم بأنهم خير خلق الله مقابل وصف الأولين بأنهم شرّ خلق الله. وتنبيها بأن ما احتوته الآيات هو لتذكير الذين يخافون الله ويحسبون حسابه. ووصف الأولين مستمد من موقفهم الجحودي الذي كشفوا به عن سوء نيتهم وخبث طويتهم لأنهم جحدوا بما جاءهم وكانوا يتمنونه.
وفي الآية الأولى دليل آخر جديد على أن الذين يكفرون برسالة النبي محمد من أهل الكتاب لا ينجيهم يوم القيامة لكونهم مؤمنين بكتبهم ورسالات أنبيائهم حتى ولو لم يكونوا منحرفين ومحرفين وهو ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» «1» مما فيه مصداق لهذا من وجهة النظر الإسلامية.
__________
(1) التاج ج 1 ص 30.(8/350)
تعليق على روايات الشيعة في صدد الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.
ورغم أن نصّ الآيات صريح بأن الآية [7] قد جاءت مقابلة للآية [6] لتكون شاملة لجميع الذين آمنوا وعملوا الصالحات مقابل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن مفسري الشيعة لم يمنعوا أنفسهم من رواية روايتين في صدد الآية السابقة متسقتين مع هواهم لم يردا في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة. ونعتقد أنهما منحولتان أولاهما عن ابن عباس جاء فيها «أن جملة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ نزلت في علي بن أبي طالب وأهل بيته» . وثانيتهما عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي بن أبي طالب مرفوعة جاء فيها: «سمعت عليا يقول قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال يا علي ألم تسمع قول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرّا محجلين» «1» . ومما يبرز الهوى الحزبي قويا تعبير «شيعتك» إذ لم يكن لعلي في زمن النبي ما يصحّ أن يدعى شيعته!.
__________
(1) انظر تفسير الآيات للطبرسي.(8/351)
سورة النّور
في السورة فصول عديدة في التشريع والتأديب: حيث تتضمن تشريعات بشأن جريمة الزنا والقذف. وإشارة إلى حادث الإفك الذي قذفت به أم المؤمنين عائشة وآثاره ومواعظ وتنديدات وتنبيهات في سياقه. ودعوة إلى التعفف وتجنب أسباب الفتنة. وتعليمات في آداب الدخول على البيوت. واحتشام النساء في اللباس والتزين وتوقي أسباب الإغراء. وحثّا على تزويج العزاب من الرجال والنساء والمماليك. وتقريرات لعظمة الله وآثاره ونوره وهداه. وتنويها بالمخلصين المهتدين وتنديدا بالكافرين وما يرتكسون فيه من الظلمات التي تحبط أعمالهم.
وتنديدا بمواقف مرضى القلوب في التحاكم إلى النبي والدعوة إلى الجهاد والاستخفاف بمجالسه ودعوته وإنذارا لهم. وتوطيدا لسلطان النبي السياسي والقضائي. ووعدا بنصر الله وتمكينه في الأرض لمن آمن وأخلص وأحسن العمل.
وتعليمات في آداب الأكل وتيسيرا للناس فيها.
وفصول السورة على تعددها مترابطة ترابطا موضوعيا أو زمنيا. وهذا يسوغ القول إنها نزلت في ظروف متقاربة ورتبت على الوجه الذي جاءت عليه في السورة بسبب ذلك. هذا مع احتمال أن يكون بعض فصولها نزلت قبل بعض فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب، حيث روي أن وقعة المريسيع مع بني المصطلق التي كان حديث الإفك في مناسبتها وقعت قبل وقعة الخندق مع أن وقعة الخندق أو الأحزاب ذكرت في سورة الأحزاب «1» وحيث يمكن أن يقال إذا صحت تواريخ
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 104 و 108 وما بعدهما.(8/352)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
الوقائع أن فصول السورة قد رتبت متأخرة نوعا ما. والله أعلم.
وترتيب السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الحشر. ولما كنا رجحنا نزول سورة الحشر قبل سورة الأحزاب وقدمناها عليها فقد صار ترتيبها بعد سورة البيّنة مباشرة على أننا نقول مع ذلك كله إنه ليس هناك قرينة قوية تسمح بترجيح كون أي فصل من فصول السيرة نزل بعد وقعة الخندق أو الأحزاب. وإن هذا قد يسيغ احتمال أن تكون فصول السيرة كلها نزلت قبل سورة الأحزاب وفي ظروف وقعة المريسيع وبني المصطلق وبعدها أيضا. والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
. (1) فرضناها: فرضنا أحكامها أو أوجبناها.
مطلع السورة فريد، وقد احتوت الآية الأولى تنويها بالسورة وما فيها من أحكام فرضها الله استهدافا لتذكير المخاطبين الذين هم المسلمون على ما هو المتبادر وتبصيرهم. أما الآية الثانية فقد احتوت تشريعا في حدّ الزنا فأوجبت جلد الزانية والزاني مائة جلدة في مشهد علني يشهده فريق من المؤمنين. وشددت في عدم التهاون في إقامة هذا الحد وفي طريقة تنفيذه وعدم الرأفة بالمجرمين.
وجعلت ذلك دليلا على إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر بسبيل توكيده.
تعليق على حد الزنا الوارد في الآية الثانية وما ورد في ذلك مع تمحيص موضوع الرجم
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات. ولقد ورد في الآيتين الجزء الثامن من التفسير الحديث 23(8/353)
[15/ 16] من سورة النساء خطوة أولى في صدد الزناة على ما مرّ شرحه.
والمتبادر أن حكمة التنزيل التي اقتضت أن تكون الخطوة الأولى ما ورد في تلك السورة رأت الوقت قد حان للخطوة الثانية التي احتوتها الآية الثانية. ولعل أحداثا وقعت فكان ذلك المناسبة. ولقد كان النساء اللاتي يأتين الفاحشة يحبسن في بيوتهن وقتا للخطوة الأولى إلى أن يتوفاهنّ الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا بناء على ما جاء في آيتي سورة النساء. ومن المحتمل أنه صار شيء من الحرج في صدد ذلك. وقد روى حديث نبوي سنورد نصه بعد قليل جاء فيه «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا ... » مما قد يكون فيه تفسير أو تأييد لما نقول.
وجمهور المفسرين «1» وأئمة الفقه مجمعون على أن الحد المذكور في الآية الثانية على العزاب غير المتزوجين مع زيادة مختلف عليها وهي «نفي سنة» حيث يأخذ بها بعضهم دون بعض. وأن الحد الشرعي على المحصنين المتزوجين هو الرجم حتى الموت مع زيادة مختلف عليها كذلك وهي مائة جلدة قبل الرجم.
ويستندون في ذلك إلى أحاديث عديدة. ومن جملتها أحاديث مروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفيد أن الرجم حكم قرآني نسخ تلاوة وبقي حكما.
من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم- وهو الذي أشرنا إليه قبل قليل قال «خذوا عنّي. قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» «2» . وحديث ثان رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «3» . وحديث ثالث رواه البخاري والنسائي عن زيد بن خالد قال «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في من زنى ولم
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنيسابوري والنسفي.
(2) التاج ج 3 ص 17 و 22.
(3) المصدر نفسه. [.....](8/354)
يحصن جلد مائة وتغريب عام» «1» . وحديث رابع رواه الخمسة جاء فيه «إن ما عزا الأسلمي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقّه الآخر فقال إنه زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقّه الآخر فقال إنه قد زنى فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرّة فرجم بالحجارة. فلمّا وجد مسّ الحجارة فرّ يشتدّ فلقيه رجل معه لحي جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك للنبي فقال: هلّا تركتموه وفي رواية قال له: أبك جنون؟ قال: لا. وفي أخرى لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت قال: لا. قال: أأحصنت؟ قال: نعم فأمر برجمه. وفي رواية فاختلفت فيه الصحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» «2» .
وحديث خامس رواه الخمسة جاء فيه «أن رجلا أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال الخصم وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فأذن له فقال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة وسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجل الرجم، فقال رسول الله لأقضينّ بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم ردّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها» «3» . ومن الأحاديث المروية عن عمر حديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال «قال عمر وهو على منبر رسول الله: إنّ الله قد بعث محمدا بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم قرأناها وو عيناها وعقلناها ورجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو
__________
(1) التاج ج 3 ص 17 و 22.
(2) المصدر نفسه ص 23.
(3) المصدر نفسه ص 22.(8/355)
كان الحبل أو الاعتراف» «1» . وحديث ثان رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال «خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال إنا لا نجد من الرجم بدا، فإنه حدّ من حدود الله، ألا وإنّ رسول الله قد رجم ورجمنا بعده ولولا أن يقول قائلون إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف» «2» . وحديث ثالث رواه الإمام أحمد عن عمر أنه قال «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم» «3» . وحديث رابع رواه الحافظ أبو يعلى عن ابن عمر قال نبئت عن كثير بن الصلت قال كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت كنا نقرأ «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» قال مروان ألا كتبتها في المصحف. قال ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب فقال أنا أشفيكم من ذلك قال قلنا كيف؟ قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كذا وكذا وذكر الرجم فقال يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال لا أستطيع الآن أو نحو ذلك» «4» . وقد روى الإمام أحمد في صدد نص آية الرجم حديثا آخر عن أبي ذر قال «قال لي أبي بن كعب كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قال قلت ثلاثا وسبعين آية. فقال قط قد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيه «الشيخ والشيخة. إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» «5» . وقد روى السيوطي في الإتقان عن الليث بن سعد في سياق رواياته عن تدوين القرآن في خلافة أبي بكر أن زيد بن ثابت كان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده وأن أبا خزيمة بن ثابت جاء بآخر سورة براءة ولم يكن معه شاهد فقبلها منه وقال إن رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين «6» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 23.
(2) عن ابن كثير في تفسير الآيات.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) عن ابن كثير في مطلع تفسير سورة الأحزاب وقد روى ذلك المفسر النسفي واسم القائل أبو ذر والراجح أن هذا هو الصحيح وأن ما جاء في ابن كثير تصحيف. انظر أيضا الإتقان للسيوطي ج 2 ص 26.
(6) الإتقان ج 1 ص 62.(8/356)
والذي نلحظ في صدد كون الرجم حكما قرآنيا نسخ تلاوة وبقي حكما وما ورد في ذلك:
أولا: إن نسخ حكم قرآني تلاوة مع بقائه حكما لا يمكن أن يفهم له حكمة وبخاصة في حد تشريعي خطير مثل حدّ الرجم.
ثانيا: إن النص المروي للآية مختلف فيه من جهة والرجم فيه خاص بالشيخ والشيخة ودون توضيح كونهما محصنين أو غير محصنين من جهة أخرى في حين أن أحاديث عمر تفيد أن الرجم عام على المحصن وأن الأحاديث المروية عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم بعض الزناة المحصنين لا تخصص الشيوخ فقط بل وليس فيها شيوخ.
ثالثا: إن عمر أعدل من أن ترفض شهادته في صدد تدوين آية. وأقوى من أن يسكت عن ذلك. إذا كان متأكدا من قرآنيتها ومن كون النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم تنسخ تلاوة وحكما. وهو الذي اقترح كتابة المصحف من جديد على أبي بكر وكان المشرف على ذلك على ما روته الروايات «1» .
وكل هذا يجعلنا نتوقف عن الأخذ بأن الرجم تشريع قرآني قائم الحكم بهذه الصفة كما قد تفيد الأحاديث المروية عن عمر رضي الله عنه إلّا أن يقال إن قرآنا نزل بالرجم ثم نسخ ثم بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرعه للجميع على المحصنين فلا يقتصر على الشيخ والشيخة ولا يبقى مطلقا بحيث يكون للمحصنين وغير المحصنين.
ويكون والحكمة هذه تشريعا نبويا. ويكون ما روي عن عمر هو باعتبار ما كان أصلا وثبته النبي بعد نسخ قرآنيته لأن هذا لم يكن واضحا وعاما لا باعتبار الحال الراهن الذي هو تشريع نبوي. وقد يصح الاستئناس بحديث الحافظ أبي يعلى الذي فيه خبر عدم استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لطلب كتابة آية الرجم في مجلس فيه عمر نفسه وهو راويه حيث يكون في ذلك قرينة على أن آية الرجم بصيغتها المروية قد نسخت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 60- 63.(8/357)
ومع ذلك فهناك ما يمكن أن يقال أيضا: فإن آية النساء [25] ذكرت أن حدّ الأمة إذا زنت بعد إحصانها هو نصف حدّ المحصنة. وعبر عن الحدّ في هذه الآية (بالعذاب) ولما لم يرد في القرآن حدّ قابل للتنصيف إلّا ما ذكر في آية النور فالمعقول أن تكون آية النساء قد نزلت بعد هذه الآية وعطفت عليها. والجمهور على أن حدّ الأمة المحصنة هو خمسون جلدة. وهذا ثابت في أحاديث أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة. وهذا يقتضي أن يكون (الجلد مائة) هو المحكم القرآني للزانية المحصنة الحرة. وما يجدر بالذكر أن الذين أجمعوا على صحة حكم الرجم وجدوا إشكالا في هذا الأمر فقالوا إن حد الأمة المحصنة هو نصف الحد الوارد في آية النور وهو خمسون جلدة وعلّلوا ذلك بأن حدّ الرجم لا يتنصف. والتعليل وإن كان معقولا فإن النقطة التي تلفت النظر في الأمر هي أن حد الأمة مستند في أصله إلى تشريع قرآني قائم في آيتي النساء والنور. ومن ناحية ثانية فإن المتبادر المعقول أن يكون حديث عبادة بن الصامت قد صدر قبل نزول آية النور بإلهام رباني للإجابة على سؤال أو رفع الحرج وإنهائه عن إمساك النساء في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا لأنه لا تفهم حكمة صدوره في نفس الوقت الذي نزلت فيه الآية لأنها احتوت الحكم الموعود. ولا تفهم حكمة الزيادة على ما احتوته. ولا تفهم حكمة صدوره بعبارته المروية بعد نزولها لأن ما أريد التنبيه إليه قد نزل قرآنا. فإذا صحّ ما نقول تكون الآية قد نسخت من التشريع النبوي السابق عليها ما زاد على ما احتوته من تشريع عام للزناة إطلاقا بدون تفريق بين محصنين وأبكار وهو جلد مائة جلدة. دون تغريب سنة لغير المحصن والرجم للمحصن. وهذا ما قد يحمل على الظن بأن الأحاديث الأخرى التي تعين الرجم للزناة المحصنين والتي ذكرت بعض وقائع رجمهم هي الأخرى قد صدرت قبل آية النور. وفي حديث رجم- ماعز- نقطة هامة وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بما كان من فراره وملاحقته وضربه حتى مات: «هلا تركتموه» حيث يفيد هذا أنه كان يودّ لو اكتفي بما وقع عليه من رجم وتركه حينما فرّ دون أن يموت.(8/358)
غير أن ما روته الروايات العديدة من أن خلفاء النبي رجموا الزناة المحصنين، ومن ذلك حديث عمر الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه «رجم رسول الله ورجمنا بعده» ثم ما أجمع عليه أئمة الفقه بناء على ذلك من أن عقوبة الزناة المحصنين هي الرجم يجعلنا نقول إن خلفاء رسول الله لا يمكن أن يكونوا فعلوا ذلك لو لم يكونوا على يقين بأن النبي قد سنّ سنة الرجم وأمر بتنفيذها بعد نزول سورة النور ومات دون أن ينسخها وهي بعد لا تتناقض مع النص القرآني الذي جاء مطلقا، شأن سائر التشريعات النبوية في صدد ما سكت عنه القرآن أو ذكره مطلقا. والله أعلم.
هذا، وبين المذاهب خلاف في جمع الجلد والتغريب لغير المحصنين والجلد والرجم للمحصن حيث يقول بعضهم بالجمع ولا يقول بذلك بعضهم.
وفي حديث ما عز لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلده وإنما أمر برجمه وهذا أيضا وارد في حديث رجم المرأة. وقد استند الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى ذلك في حق المحصن فقالوا بالرجم دون الجلد «1» . وشذّ عنهم الحنبلي لأن الجلد حكم قرآني والرجم سنّة نبوية والجمع بينهما واجب وقد ثبت عنده أن علي بن أبي طالب جلد زانيا محصنا ثم رجمه وقال: جلدت بأمر القرآن ورجمت بالسّنة النبوية «2» .
أما النفي سنة للعزاب بعد الجلد فقد أخذ به الشافعي والحنبلي دون أبي حنيفة الذي اعتبره على سبيل التعزير والتأديب من غير وجوب. وذهب المالكي إلى أن النفي للرجال دون النساء «3» .
وعلى كل حال فليس فيما ورد من النفي للعزاب بعد الجلد والجلد ثم الرجم للمحصنين في الأحاديث النبوية مناقضة للحكم القرآني من حيث المبدأ لأنه كما
__________
(1) انظر تفسير الآية في ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) تفسير الزمخشري للآية وتفسير ابن كثير للآيات [15- 16] من سورة النساء.(8/359)
قلنا من قبل من باب التشريع النبوي في ما سكت عنه القرآن أو تركه مطلقا. مع ترجيحنا لما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي ومالك استنادا إلى حديث ما عز من عدم جمع الجلد مع الرجم للمحصن.
والحديث الذي رواه الخمسة الذي ذكر فيه حادث ابن الأعرابي هو في حالة المرأة المتزوجة إذا زنى فيها أعزب. ولم نقع على أثر يذكر حادثا لامرأة بكر إذا زنى فيها متزوج. والمتبادر أن هذه الحالة تقاس على الحالة السابقة فتجلد المرأة ويرجم الرجل.
وهناك حالات أخرى لم نقع على أثر فيها. وهي حالة المرأة الأرملة والمطلقة التي لم يكن لها زوج في وقت الزنا وحالة الرجل الأرمل والمطلق الذي لم يكن له زوجة في وقت الزنا. حيث يرد سؤال عما إذا كانا يعدان محصنين أم لا. ولما كان المتبادر من حكمة التشريع النبوي في تشديد عقوبة الزنا على المحصنين أي المتزوجين هي كونهم غير مضطرين إلى السفاح حيث تكون حاجتهم الجنسية مقضية بالزواج فقد يصح أن يقال إنهما يعدان غير محصنين، والله تعالى أعلم.
وفي نهاية هذا البحث يحسن أن ننبّه على أمر، وهو أن الرجم للمحصن هو ما عليه معظم المذاهب. وأن هناك من لا يأخذ به ويتمسك بالنص القرآني فقط وهو الجلد مائة للزناة عامة. لا فرق بين محصن وأعزب. ولا تغريب بعد الجلد.
وقد ذكر السيوطي هذا عن الخوارج «1» .
وهناك أحاديث تذكر حالات أخرى رأينا أن نلم بها لأنها متناسبة مع البحث. من ذلك حالة الرجل الذي يقع على امرأة محرّمة عليه كأخته أو ابنته أو كنته. فقد روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع على ذات محرم فاقتلوه» «2» وروى أصحاب السنن حديثا عن البراء قال «لقيت عمّي ومعه راية
__________
(1) ذكر هذا القاسمي في تفسيره محاسن التأويل. [.....]
(2) التاج ج 3 ص 26 و 27.(8/360)
فقلت أين تريد؟ قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» «1» .
والمتبادر أن هذا الحكم خاص بالحالة سواء أكان الزاني محصنا أم غير محصن. وروى الشارح عن الترمذي أنه قال وأصحابنا على هذا الرأي.
ولم نقع على حديث فيه حكم المرأة المحرمة التي زنى بها محرمها برضائها فيصح أن يقاس أمرها على الزاني فيكون حدها القتل، والله أعلم.
ومن ذلك زنا الرجل بأمة زوجته. وقد روى أصحاب السنن حديثا جاء فيه «وقع رجل على جارية امرأته فرفع إلى النّعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضينّ بقضاء رسول الله. إن كانت أحلّتها لك جلدتك مائة جلدة وإن لم تكن أحلّتها لك رجمتك بالحجارة. فوجدوه قد أحلّتها له فجلدوه مائة جلدة» «2» . ويفيد هذا أنه لا ينجي الرجل إذن زوجته له بإتيان جاريتها لأنها ليست ملك يمينه على كل حال، أما لو وهبتها له وصارت ملكه فالأمر يختلف وتكون حلالا له كما هو المتبادر.
جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن والآيات في صدد زنا الرجال بالنساء
وهناك جريمة فاحشة أخرى هي اللواط. وقد ألممنا بهذه الجريمة وأوردنا الأحاديث الواردة في شأنها والأقوال المروية عن أهل التأويل والفقه في صددها في سياق تفسير آيات سورة الأعراف [80 و 81] التي وردت فيها لأول مرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وشبيه بهذه الجريمة جريمة إتيان النساء من أدبارهن. وقد ألممنا بهذه الجريمة في سياق تفسير الآية [223] من سورة البقرة وأوردنا هناك من أحاديث
__________
(1) التاج ج 3 ص 26 و 27.
(2) المصدر نفسه.(8/361)
فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار أيضا.
حالة الإكراه والغصب
روى أصحاب السنن عن علقمة بن وائل عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة أكرهت على الزنا فاذهبي فقد غفر الله لك» «1» وروى الترمذي حديثا جاء فيه «استكرهت امرأة على الزنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد وأقامه على الذي أصابها ولم يذكر أنه جعل لها مهرا» «2» . وروى مالك «أن عبدا زنى بأمة بالإكراه في زمن عمر فأمر بجلد العبد دون الأمة لأنها مستكرهة» «3» .
وليس في الأحاديث توضيح للاستكراه، ويتبادر لنا أنه لا يبرر سقوط الحدّ إلّا منع المدخول به عن المقاومة بصورة ما.
أما إذا هدّد بالقتل أو بما دون القتل فلا يبرّر ذلك موافقته والرضاء بما يفعل به، لأن عقوبة ذلك هي القتل إذا كانت الجريمة لواطا أو إذا كانت المزني بها محصنة ولا يصحّ لامرىء أن يوافق ويرضى بأمر بالتهديد فقط إذا كانت عقوبة ما يطلب منه بالتهديد مثل عقوبة الفعل. وإذا كان الإكراه أكثر احتمالا بالنسبة للمفعول به، فليس من المستحيل أن يكون حادث الإكراه على الفاعل أيضا. غير أن هذه الحالة تختلف عن الحالة السابقة. فالزاني واللائط هو المباشر للجريمة على كل حال وليس هنا محل لفرض التقييد «4» ومنع المقاومة، والخضوع للتهديد والإكراه لا يعفي والحالة هذه من العقوبة لأنه لا يصح أن يتفادى القتل أو ما دون القتل بجريمة عقوبتها مثل ذلك، والله تعالى أعلم.
ومن قبيل الاستطراد نذكر أن هناك حديثين متناقضين في صدد إتيان البهيمة رواهما أبو داود والترمذي عن ابن عباس جاء في أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من
__________
(1) التاج ج 3 ص 32.
(2) المصدر نفسه.
(3) الموطأ ج 2.
(4) من القيد.(8/362)
أتى البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه. قلت لابن عباس ما شأن البهيمة؟ قال ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها هذا العمل» «1» . وجاء في ثانيهما عن ابن عباس «ليس على الذي يأتي البهيمة حدّ» «2» ولقد علّق الشارح على الحديث الأول قائلا إنه مرفوع وموقوف ويكون ضعيفا ولم يأخذ به أحد من الأئمة الأربعة فلا تقتل البهيمة ولا الفاعل بل يعزّر بما يراه الحاكم. ويبدو هذا وجيها والله تعالى أعلم.
ويلحظ أنه ليس في الآية طريقة لإثبات الزنا. والحوادث التي روت الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على أصحابها ثبتت بالاعتراف. والمتبادر أن الأمر ظل على ما ذكرته آية النساء [15] وهو شهادة أربعة شهود من المسلمين أو الحبل أو الاعتراف على ما ورد في الحديث الذي رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب وأوردناه قبل قليل. وفي آيات تالية تأييد بخاصة لشهادة الشهود الأربعة بحيث يصح القول إن آية النور التي نحن في صددها عدلت حكم الزناة في آيتي سورة النساء [15 و 16] مع بقاء عدد الشهود محكما. ولقد ذكرنا في سياق تفسير آيتي النساء هاتين ما عنّ لنا من ملاحظات في صدد مدى الشهادات وحكمة تعليق ثبوت هذه الجريمة على أربع شهادات فلا حاجة إلى الإعادة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ثبوت جرم اللواط منوط بما نيط به ثبوت جرم الزنا ما عدا الحبل الذي ليس واردا في هذا الحال.
والحدود المذكورة في الآية والأحاديث مطلقة بحيث تتناول الأحرار والمماليك. وقد احتوت آية النساء [25] استثناء للأمة المتزوجة على ما فصلناه في سياق تفسير الآية المذكورة. أما المملوك الذكر فلم نطلع على أثر نبوي فيه وإطلاق الآية والأحاديث قد يفيد أن شأنه شأن الحر في مختلف الحالات. ويظهر من قول أورده القاسمي أن هناك من يقول إن المملوك يرجم إذا زنى بحرّة ويجلد
__________
(1) التاج ج 3 ص 25 و 26.
(2) المصدر نفسه.(8/363)
إذا زنى بأمة. وقد عزا المفسر المذكور إلى السيوطي تفنيدا لهذا القول لأنه لا يتفق مع نص الآية. والتفنيد في محله. ولقد كانت حالة الإماء وتعرضهن للبغاء هي السبب الذي جعل حكمة التنزيل تخفف عنها الحد على ما شرحناه قبل. وهذا ليس واردا بالنسبة للمماليك الذكور.
ولقد وقف بعضهم عند جملة وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فقالوا إن ذلك بسبيل تنفيذ الحد وأنه لا يعني القسوة في الجلد. وأن هذا يجب أن يكون غير مبرح. وقد روى ابن كثير- الذي هو من جملة من ذكر ذلك- أن ابن عمر ضرب جارية له زنت ضربا غير مبرح، فقال له ابنه كيف تفعل ذلك والله يقول وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فقال له يا بني إنّ الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها. ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [25] من سورة النساء حديثا رواه الخمسة جاء فيه «أن النبي أمر بجلد الأمة إذا زنت دون تثريب أي دون قسوة» .
بحيث يمكن القول إن ابن عمر أخذ بالسنّة النبوية. والحديث وإن كان في صدد الإماء فإن الأخذ به بالنسبة لكل من يقام عليه حدّ الجلد يكون شذوذا، والله تعالى أعلم.
هذا ويلحظ أن الزانية قدّمت على الزاني في الآية الثانية في معرض عقوبة الجلد، مع أن القرآن جرى على تقديم الرجل والذكر على المرأة والأنثى بصورة عامة الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ [البقرة: 71] والْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الفتح: 6] ولا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران:
195] ووَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... إلخ [غافر:
40] . وفي عقوبة السرقة وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] ويتبادر لنا في ذلك حكمة، وهي أن الزنا المستحق للحد لا يمكن أن يتم إلا بموافقة المرأة، إذا لم يكن بإكراه الرجل لها. فتكون والحالة هذه سبب الإثم فاستحقت أن تذكر قبل الرجل. وفي حالة الإكراه لا تكون مستحقة للعقوبة على ما مرّ بيانه، والله تعالى أعلم.(8/364)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
والآية وإن كانت بصيغة الجمع المخاطب وتبدو أنها موجهة إلى المسلمين فالمتبادر الذي تلهمه روحها أنها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالزنا جريمة لا بد من ثبوتها أمام القضاء ولا بدّ من السلطان لإقامة الحد الشرعي. وكان هذا وذاك موطدين في شخص النبي صلى الله عليه وسلم. والآية بعد احتوت تشريعا مستمرا. وهذا يعني أن الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في تمثيل القضاء والسلطان هو المكلف بتنفيذ هذا التشريع.
هذا، ومن الجدير بالتنويه أن التشريع القرآني والنبوي معا قد سوّى بين الرجل والمرأة. وفي هذا ما فيه من عدل وحق من جهة ومن تقرير مساواة الرجل والمرأة في تبعة العمل الواحد والتكاليف المتشابهة من جهة ثانية. ومما لا ريب فيه أن التشديد على المرأة دون الرجل في جريمة الزنا واعتباراتها مما هو جار في الأوساط الإسلامية اليوم غير متمشّ مع قاعدة القرآن القائمة على الحق والعدل والمساواة.
واستثناء الأمة من حيث كون القرآن جعل حدها نصف حدّ الحرة على ما شرحناه في سياق تفسير آية النساء [25] ليس من شأنه أن يخلّ بهذه المساواة.
فالأحرار هم الأكثرية العظمى في المجتمع الإسلامي. وعليهم يقوم بنيان هذا المجتمع. وهذا الاستثناء هو بسبب اعتبارات وجيهة. ولم يشمل المماليك الذكور. ومع ذلك فإنه استثناء تخفيفي وليس تشديديّا.
[سورة النور (24) : آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
. (1) لا ينكح: لا يتزوج. وقد ورد هذا التعبير بهذا المعنى في آيات كثيرة مثل آية سورة البقرة [221] وآية سورة النساء [22] وآية سورة الأحزاب [49] بل ولم ترد في القرآن بغير معنى الزواج.(8/365)
تعليق على الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في صدد الإجابة على استئذان بعض المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج بنسوة كن معروفات بالزنا من أهل الشرك وكنّ أصحاب رايات يكرين أنفسهن في مكة وفي المدينة. ومنهنّ من كنّ يتعهدن بالإنفاق على من يتزوجهنّ. وذكروا بعض الأسماء. منها امرأة اسمها أم مهزول ولم يذكروا اسم من أراد أن ينكحها. ومنها رجل اسمه مرثد كان له صديقة في الجاهلية اسمها عناق. وقصة مرثد وعناق رواها الترمذي عن مرثد نفسه قال «كانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق. وكانت صديقة لي فقابلتني بمكة ليلة فقالت: هلمّ، فبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق حرّم الله الزنا. فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك ولم يرد عليّ شيئا حتى نزلت الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) فقال رسول الله يا مرثد لا تنكحها» «2» .
وقد روى الطبري الروايتين مع الأسماء وروى أن الآية نزلت إجابة على سؤال السائلين.
والمتبادر أن الآية من السياق السابق وبمثابة تعقيب على الآية التي قبلها.
وبسبيل التشديد في كراهية جريمة الزنا ومقترفيها. وإن كان هذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج من بعض من عرفن بالبغاء في الجاهلية فمنعوا من ذلك بهذه الآية. وحديث الترمذي يفيد أن الآية لم تنزل جوابا على استئذان مرثد.
__________
(1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) التاج ج 4 ص 164.(8/366)
ومع ما يبدو في الآية من صراحة بتحريم نكاح الزانية وإنكاح الزاني على المؤمنين فقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في مدى حكمها «1» . فمن ذلك أن التحريم منصبّ على الزنا من قبيل تشنيعه ومن باب الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النور: 26] . وبسبيل تقرير كون الزنا لا يمكن أن يقع إلّا بين زان وزانية إن كانا مسلمين أو بين زانية ومشرك أو زان ومشركة. ومنها قول معزو إلى عائشة وهو أن الرجل إذا زنى بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية.
ومنها قول لابن مسعود أنه كان يحرم نكاح الزانية ويقول إذا نكح الزاني الزانية أي تزوجها فهما زانيان أبدا. ومنها قول معزو إلى ابن عباس أنه كان يجيز التزوج بالزانية وتزويج الزاني. وقد أورد الزمخشري حديثا نبويا مؤيدا لهذا القول لم يرد في كتب الصحاح جاء فيه «أن النبيّ سئل عن ذلك فقال أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال» ومنها قول معزو إلى سعيد بن المسيب مفاده أن الآية منسوخة بآية أخرى في سورة النور وهي وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [32] والبغايا من أيامى المسلمين. والنفس تطمئن بالقول الأول في صدد تأويل الآية ومفهومها العام. ووجاهة القول المعزو إلى ابن عباس ظاهرة ولا سيما إذا صحّ الحديث الذي يورده الزمخشري والذي لا يتناقض مع التقريرات القرآنية العامة. فقد يتوب الزاني والزانية المسلمان ويصلحان. فلا يصحّ أن يحول ما حدث منهما قبل التوبة دون زواجهما زواجا شرعيا كما هو المتبادر. والتوبة الصادقة التي تفتح باب عفو الله ورحمته للكافر والمنافق والمحارب لله ورسوله والمفسد في الأرض والقاتل العمد على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج ونبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة تفتح بدون ريب هذا الباب أمام الزاني والزانية بدورهما. وهناك أحداث وأحاديث مؤيدة لذلك. فقد روى الطبري عن الحسن «أن عمر بن الخطاب قال لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة فقال له أبي بن كعب يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد
__________
(1) انظر تفسير الطبري والزمخشري والبغوي والخازن وابن كثير.(8/367)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
يقبل الله التوبة من المشرك إذا تاب» . وروى المفسّر نفسه عن ثابت بن عامر قال «إن رجلا من أهل اليمن أصابت ابنة أخيه فاحشة فأمرّت الشفرة على أوداجها فأدركت وعولج جرحها حتى برئت ثم إن عمّها انتقل بأهله حتى قدم المدينة فقرأت القرآن ونسكت حتى كانت من أنسك نسائهم فخطبت إلى عمها وكان يكره أن يدلسها ويكره أن يغشى على ابنة أخيه فأتى عمر فذكر ذلك له فقال له لو أغشيت عليها لعاقبتك وإذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه» وروى المفسّر أيضا عن طارق بن شهاب «أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت إني أخشى أن أفضح أي فقد بغيت فأتى عمر فقال أليس قد تابت قال بلى قال فزوّجها» . وفي الطبري أحداث وأحاديث أخرى من هذا الباب لم نر حاجة إلى إيرادها اكتفاء بما تقدم. وإذا كانت هذه الأحداث والأحاديث ذكرت حالات نساء زنين فتبن فشجع عمر على تزويجهن فإن ذلك ينطبق بطبيعة الحال على الرجال إذا زنوا ثم تابوا.
ومع ذلك كلّه فإننا نقول إن الآية على أخفّ التأويلات انطوت على كراهية شديدة للتزوج بالزانية وتزويج الزاني وتشنيع على ذلك. وأن هذا ينبغي أن يكون واردا ولا سيما إذا كان أمر الزاني أو الزانية مشهورا. وأنه يحسن أن يلاحظ ذلك ويؤخذ بالتلقين السامي القرآني ما أمكن لمنع تسهيل الغواية ولتأديب الغاوين معا إلّا إذا كان في الحادث إنقاذ لرجل أو امرأة وحصل التأكد من توبتهما. أما القول إن الآية منسوخة بآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] فلا نرى مناسبة له في هذا المقام وإن كان يصح أن يقال إن حكم هذه الآية يشمل كل أعزب وعزباء ومن جملتهم من كان اقترف جريمة الزنا ثم تاب وأصلح، والله تعالى أعلم.
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
. (1) يرمون: هنا بمعنى يتهمون بالزنا.(8/368)
(2) المحصنات: من المفسرين من أوّلها بالمتزوجات ومنهم من أولها بالعفيفات.
احتوت الآيتان تشريعا بحقّ من يقذف المحصنات بالزنا. ولم يثبتوا قولهم بأربعة شهداء حيث أوجبت عليهم حدّا هو أن يجلدوا ثمانين جلدة ثم منعت قبول شهادتهم ووسمتهم بالفسق. مع استثناء الذين يندمون ويتوبون ويتلافون أمرهم بالإصلاح والصلاح فقد ينالون عفو الله الغفور الرحيم.
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) والآية التالية لها
وقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا في صدد ما كان من اتهام عائشة أمّ المؤمنين بما عرف في السيرة النبوية بحديث الإفك وما يأتي تفصيله بعد قليل.
وقد يكون هذا صحيحا. ومع ذلك فالمناسبة الموضوعية قائمة بين الآيتين وما سبقهما وما لحقهما. وهما في الوقت نفسه فصل تشريعي عام مستقل بذاته.
وظاهر النص هو إيجاب إقامة الحدّ على من يوجه تهمة الزنا إلى النساء ولم يثبتها بأربعة شهداء. غير أن الجمهور على أن هذا يشمل من يوجه هذه التهمة إلى الرجال ولم يثبتها كذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقام حدّ القذف على جماعة اتهموا رجلا بالزنا ولم يشهد أربعة على ذلك «1» .
ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إنه لا فرق في جريمة القذف بين أن يكون
__________
(1) انظر ابن كثير والطبرسي والقاسمي. وقال ابن كثير إن هذا هو إجماع العلماء. والحادث رواه الطبرسي والقاسمي وتفصيله أن جماعة اتهموا المغيرة بن شعبة بالزنا فشهد ثلاثة وهم شبل بن معبد وأبو بكرة ونافع أنهم رأوه متبطنا المرأة. وكان ممن تقدم للشهادة زياد فلم يشهد شهادة مثل شهادتهم. فاعتبر عمر الثلاثة قاذفين وأقام عليهم الحد.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 24(8/369)
مرتكبها رجلا أو امرأة. فالقرآن لا يفرق بين الرجل والمرأة في هذه المسائل على ما نبهنا عليه في مختلف المناسبات «1» .
وقد اختلفت الأقوال في حدّ القاذف إذا كان مملوكا، فهناك من ذهب إلى أن الحد عليه هو نفس الحدّ على الحرّ. وهناك من ذهب إلى أن عليه نصف الحدّ «2» .
ولم يورد القائلون أثرا نبويا أو راشديا ولم نطلع على ذلك. ونحن مع القول الأول. لأن أثر الجريمة لا يتغير بتغير صفة مقترفها وهذا غير متناقض مع آية سورة النساء [25] ، التي تجعل حدّ الأمة المحصنة نصف حدّ الحرة. فهذه حالة أخرى كما هو المتبادر.
وبعض المفسرين قالوا: إن الحدّ إنما يجب على قاذف المحصن (أي المتزوج) وإن قاذف غير المحصن يعزر تعزيرا «3» . والظاهر أن القائلين أوّلوا كلمة الْمُحْصَناتِ في الآية بمعنى المتزوجات. وقد فسّر بعضهم الكلمة بالعفيفات «4» فيكون الحدّ بذلك واجبا على القاذف سواء أكان المقذوف متزوجا أم أعزب. والكلمة تتحمل المعنيين. فيكون القولان وجيهين وإن كنا نرجح وجاهة القول الأول لأن القذف في المتزوجين أشد وقعا في حياة المقذوف الأسرية والاجتماعية كما هو المتبادر مع استثناء المرأة إذا كانت هي المقذوفة. ولا سيما إذا كانت بكرا.
ولقد قال بعضهم إن قذف المشهورة بالزنا لا يستوجب حدّا «5» . وقد يكون هذا متسقا مع قول من قال إن كلمة المحصنات بمعنى العفيفات فيكون القول وجيها. وقال بعضهم إن المقذوف إذا اعترف بالتهمة سقط الحدّ عن القاذف «6» .
__________
(1) انظر أيضا تفسير الطبرسي. [.....]
(2) الطبرسي والخازن.
(3) البغوي والخازن.
(4) الخازن وابن كثير.
(5) القاسمي عزوا إلى السيوطي.
(6) القاسمي عزوا إلى ابن تيمية.(8/370)
وهذا ظاهر الوجاهة أيضا.
والمستفاد من أقوال المفسرين «1» أن جرم القذف يتحقق سواء أبتوجيه التهمة قضائيا أي برفعها إلى ولي الأمر والحاكم أم بتوجيه الكلام في معرض الشتيمة في حضور المقذوف به أو في غيابه. أم في معرض الإخبار. وبكلمات صريحة أو بكلمات لا تفسر إلّا بتهمة الزنا وكل هذا وجيه ومتسق مع مضمون الآية وروحها.
والوقعة التي وقعت في عهد عمر والتي ذكرناها في ذيل الصفحة (369) تدل على أنه إذا شهد واحد أو اثنان أو ثلاثة فقط ولم يشهد رابع عدّ الثلاثة قاذفين أيضا ووجب عليهم الحد. وهو ما عليه الجمهور. وهو حق وصواب. ويظهر من أقوال المفسرين أن الشاكي أو المتهم أو القاذف يصحّ أن يكون شاهدا من أربعة. وهذا وجيه أيضا. لأن القضية ليست خصومة بين مدّع ومدعى عليه.
وحكمة إيجاب الحد على القاذف ظاهرة كما أن حكمة إناطة التهمة بأربعة شهداء متصلة بحكمة تعليق ثبوت الزنا على أربع شهادات كما هو المتبادر.
فأعراض الناس وكراماتهم من الأمور الجوهرية في الحياة الاجتماعية. ويترتب على القذف فيها نتائج خطيرة شخصية وأسرية واجتماعية. وفي إيجاب الحدّ على القاذف ردع عن التهجم على الأعراض والاستهانة بها. وفي إناطة ثبوت التهمة بأربعة شهداء وسيلة قوية لمنع الإرجاف وشيوع أخبار الفاحشة والسوء في الأوساط الاجتماعية. أما إذا استطاع القاذف أن يقيم البينة بأربع شهادات فتكون حالة المقذوف حالة استهتار بشع. ويكون موقف القاذف محقا ووسيلة للتنكيل بمن يرتكب الفاحشة بمثل هذا الاستهتار البشع.
وقد اختلفت الأقوال في مدى الاستثناء الذي احتوته الآية الثانية. فمنها أن التوبة لا تسقط الحدّ عن القاذف إن كانت قبل إيقاعه ولا تجعل شهادته مقبولة.
وكل أمرها أنها تسقط عنه صفة الفسق. ومنها أنها تجعل شهادته مقبولة أيضا.
وقال القائلون بهذا إن كلمة (أبدا) هي في حالة عدم التوبة وإصرار القاذف على ما
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير والزمخشري إلخ.(8/371)
قال في حقّ المقذوف، ومنها أن قبول شهادته بعد التوبة منوط بالاعتراف بأنه قال بهتانا. وهذه الأقوال معزوة إلى بعض علماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية «1» .
وهناك قول معزو إلى الشعبي- أحد علماء التابعين- وهو أن القاذف إذا تاب قبل الحدّ سقط عنه الحد أيضا «2» . وهناك قول معدل لهذا القول وهو أن سقوط الحد عن القاذف التائب قبل تنفيذه منوط بعفو المقذوف، قياسا على سقوط القصاص بعفو أهل القتيل «3» . وهو ما نراه وجيها دون قول الشعبي المطلق. لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط، وإنما فيه حق المقذوف أيضا. ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الصور.
والمتبادر الذي يلهمه نصّ الآية فيما نرى أن الرأي القائل إن التوبة تجعل شهادة القاذف مقبولة بالإضافة إلى رفعها صفة الفسق عنه هو الأوجه. ولا سيما إذا لوحظ أنه قد تكون حالة زنا صحيحة يعلمها شخص أو اثنان أو ثلاثة غير متهمين بعدالتهم وصدقهم وأنه قد يكون من المتعذر دائما الإتيان بأربعة شهود. وأن الرأي القائل بأن التوبة قبل إيقاع الحدّ إذا اقترنت بعفو المقذوف تسقط الحدّ قياسا على سقوط القصاص عن القاتل بعفو أهل القتيل وهو وجيه أيضا. لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط وإنما فيه حقّ المقذوف أيضا.
ومن العلماء من جعل صحة توبة التائب منوطة بإعلانه ندمه ورجوعه عن القذف وكذبه فيما قال. ومنهم من لم يربطها بمثل هذا الإعلان مكتفيا بما يظهر من صلاحه واستقامته «4» . وكلا القولين وجيه وإن كنّا نميل إلى ترجيح القول الأول لأن ذلك أدعى إلى حفظ كرامة المقذوف من جهة ووسيلة إلى معرفة التوبة لإفساح المجال للقاذف بأن تقبل شهادته ولا يظل موسوما بسمة الفسق.
__________
(1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي.
(2) انظر القاسمي عزوا إلى ابن حجر والبغوي.
(3) انظر البغوي.
(4) البغوي والخازن والقاسمي.(8/372)
ويلحظ أن الآية لم تقيد الشهداء بصفة ما. حيث استنتج بعضهم من ذلك جواز قبول الشهادة من أي كان. غير أن بعضهم منع قبول شهادة المعروف بالفسق استئناسا بآية سورة الحجرات هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وبعضهم جعل قيد الإسلام شرطا استئناسا بآية سورة النساء (15) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وهذا وذاك وجيهان كما هو ظاهر. والجمهور على أن شهادة الزنا والقذف محصورة بالرجال دون النساء على ما ذكرناه في سياق تفسير آية النساء المذكورة آنفا. ونكرر ما قلناه في سياق تفسير هذه الآية. وهو أن الآية لا تفيد هذا الحصر. وفرصة مشاهدة النساء لهذه الجريمة أكثر سنوحا منها بالنسبة للرجال. ولم نطلع على حديث نبوي وثيق بردّ شهادة النساء مطلقا في أي نوع من القضايا. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عيّن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تردّ شهادتهم وهم «الخائن والخائنة وذو الغمر على أخيه وشهادة التابع لأهل البيت وجوازها لغيرهم» . وفي رواية «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» «1» . ولم نر أحدا من المفسرين ذكر شيئا بشأن شهادة العبد. وليس في القرآن ما يمنع قبول شهادة العبد المسلم في كل ما تقبل به شهادة الحرّ المسلم.
ولم نطلع على حديث صحيح يمنع ذلك. ولقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة وفنّد قول من يقول بعكس ذلك «2» .
ولم نر المفسرين ذكروا حالة ما إذا كان المقذوف عبدا أو أمة. وكل ما هناك أنهم قالوا في سياق تعريف الْمُحْصَناتِ أنهن الحرائر العفيفات. وقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة بما يفيد أنه ليس على قاذف العبد حدّ، وعلل ذلك بأن الله لم يجعل العبد كالحرّ لا قدرا ولا شرعا، وأن هذا لا يتناقض مع تسويته في الثواب
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 56 ومعنى ذو الغمر ذو العداوة. والتابع هو الخادم.
(2) إعلام الموقعين ج 2 ص 49.(8/373)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
والعقاب في الآخرة، لأنه لا يكون هناك إلا الإنسان وعمله «1» . ونحن نتوقف في هذا بعض الشيء. فما دام الزاني والزانية من العبيد والإماء يوقع عليهما حدّ الزنا فلا يصحّ أن يعفى قاذفهما إذا لم يثبت التهمة عليهما من العقاب. وهذا متسق مع نص الآية وإطلاقها. وبخاصة مع التأويل الأكثر وجاهة لكلمة المحصنات. وهو العفيفات. والله تعالى أعلم.
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
. (1) ويدرأ عنها العذاب: بمعنى: ويسقط عنها الحدّ.
في الآيات الثلاث الأولى تشريع لحالة تهمة زوج لزوجته بالزنا ولم يكن لديه شهود إلّا نفسه. فشهادته خمس مرات على الوارد في الآيتين الأولى والثانية تقوم مقام الشهود وتوجب حدّ الزنا على الزوجة. غير أن هذا الحد يسقط عنها إذا شهدت هي الأخرى بعده خمس شهادات على الوجه الوارد في الآيتين الثالثة والرابعة.
أما الآية الخامسة فإنها تنطوي على تلقين لما في هذا التشريع من حكمة سامية. وحل حكيم لموقف محرج وإشكال مزعج. فلولا فضل الله على المسلمين ورحمته ولولا أنه توّاب عليم حكيم بهم لكان في الموقف إزعاج وإحراج شديدان لهم.
__________
(1) إعلام الموقعين ج 2 ص 36.(8/374)
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) والآيات الأربع التي بعدها
ولقد رويت في نزول هذه الآيات روايات. منها ما رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سمحاء، فقال النبي: البيّنة أو حدّ في ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي يقول: البيّنة وإلّا حدّ في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إني لصادق ولينزلنّ الله ما يبرىء ظهري من الحدّ فنزل جبريل بالآيات. فأرسل النبي إليهما فشهد هلال والنبي يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلمّا كانت عند الخامسة وقّفوها وقالوا إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننّا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك. فقال النبيّ: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. زاد في رواية: ثم قضى بالولد للمرأة وفرّق بين المتلاعنين. ثم جرت السنّة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها» «1» . وهناك رواية أخرى تذكر أن سعد بن عبادة زعيم الأنصار قال لرسول الله حينما نزلت الآية السابقة «يا رسول الله لو أتيت لكاعا قد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ الرجل من حاجته. فقال النبيّ يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيّدكم. قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوجها. قال سعد بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حقّ ولكني عجبت، فما لبثوا قليلا حتى جاء هلال
__________
(1) التاج فصل التفسير ج 4 ص 164- 165. [.....](8/375)
يروي قصته لرسول الله فنزل الوحي بالآيات» . وهناك روايات أخرى فيها أسماء وأحداث أخرى. يرويها المفسرون كسبب لنزول الآيات. منها صيغة حديث يرويه الإمام أحمد عن عبد الله قال «كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه. وإن سكت سكت على غيظ. والله لئن أصبحت صحيحا لأسألنّ رسول الله فسأله وأعاد عليه ما قال ثم قال اللهم احكم فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول ما ابتلي بها. ومنها رواية رواها الإمام أحمد كحديث مماثل للرواية السابقة مع ذكر اسم السائل وهو عويمر. ومنها كحديث رواه الحافظ البزار جاء فيه «إن رسول الله قال لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به قال كنت والله فاعلا به شرا.
قال فأنت يا عمر؟ قال كنت والله قاتله. كنت أقول لعن الله الأعجز فإنه خبيث فنزلت الآيات» «1» .
والروايات تقضي أن تكون الآيات نزلت مستقلة عن سابقاتها في حين أنها تبدو معطوفة عليها وحلقة من سلسلة مشتركة في الموضوع. وليس ما يمنع أن تكون نزلت مستقلة وألحقت بالسياق للتناسب الموضوعي كما أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون نزلت بعد سابقتها بناء على استفسار أو حادث كما روي فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي. غير أنا نميل إلى القول إن السلسلة نزلت دفعة واحدة بناء على استفسارات وحوادث وقعت قبلها، لأننا نلمس في الآيات العشر وحدة وانسجاما في النظم مع التشارك في الموضوع.
وهذه الشهادات المتقابلة بين الزوجين تسمى في الاصطلاح الفقهي بالملاعنة أو اللعان. ويترتب عليها التفريق بين الزوجين على ما جاء في حديث البخاري والترمذي. وقد اختلف الفقهاء في صفة الفرقة. فذهب أبو حنيفة إلى أنها فرقة طلاق بائن وإن الزوج إذا كذب نفسه جاز له أن ينكحها ثانية، وذهب الشافعي إلى أنها فرقة أبدية، بل يستفاد من أقوال المفسرين أن هذا هو رأي أكثر
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.(8/376)
العلماء «1» . ومنهم الإمام مالك الذي زاد على ذلك فأوجب إقامة الحدّ على الزوج إذا كذب نفسه وإلحاق الولد له مع الفرقة الأبدية «2» .
ومع أن المتبادر لنا أن التفريق الأبدي هو الأوجه والمستفاد من حديث ملاعنة هلال فإن رأي أبي حنيفة لا يتناقض معه لأنه ليس فيه صراحة قطعية. ولا يخلو من جهة أخرى من وجاهة أيضا إذا تحقق شرطه وهو تكذيب الزوج لنفسه حيث يكون في ذلك ردّ لكرامة الزوجة وسمعتها. غير أن الرأي الأول هو الأوجه.
ولا سيما إذا أخذ برأي الإمام مالك الوجيه فأقيم حدّ القذف على الزوج وألحق به الولد. فإن في ذلك ردّا أقوى لكرامة الزوجة. والله تعالى أعلم.
واللعان كما هو واضح إجراء قضائي. وقد جرى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره وفي مشهد علني. وينبغي أن يكون كذلك على يد ولي الأمر من بعده أو من ينوب عنه بطبيعة الحال.
وواضح من فحوى الآيات أن اللعان إنما يكون في حالة تعذر إقامة البينة على الزوجة. وأنه ليس له محل في حالة إمكان ذلك حيث يقام عليها الحدّ.
والجمهور «3» على أن الزوجة إذا لم تشهد الشهادات الخمس بكذب زوجها أقيم عليها الحد. وهذا متسق مع فحوى الآيات.
ولقد اختلفت الأقوال في صدد الزوج الذي يتهم زوجته ثم ينكل عن الشهادة. فهناك من قال: إنه يعتبر قاذفا ويستوجب حدّ القذف. وهناك من قال:
إنه لا يحدّ وإنما يحبس حتى يلاعن «4» . والرأي الأول هو الأوجه فيما هو المتبادر. ومن الغريب أن هناك من قال «5» هذا في صدد الزوجة التي تمتنع عن
__________
(1) انظر الطبري والخازن والطبرسي والزمخشري.
(2) الموطأ ج 2 ص 46.
(3) انظر تفسير الخازن والبغوي.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(8/377)
الشهادة أيضا مع ما في الآيات من دلالة قطعية على أن نجاتها من العذاب أي الحدّ منوطة بشهاداتها الخمس.
وقد فرض الفقهاء حالة محتملة الوقوع. وهي أن تكون الزوجة المتهمة حاملا وأن تكون تهمة الزوج شاملة لنفي الحمل عنه. فقالوا إن عليه- والحالة هذه- أن يذكر في شهاداته نفيه للولد عنه، وحينئذ تذكر الزوجة في شهاداتها إثبات الولد إليه. ويترتب على ذلك عدم نسبة الولد إلى الزوج ونسبته إلى أمه دون أن يعتبر ولد زنا لما هناك من شبهة. ويحق له أن يرثها وترثه. وهذا مستمد من حديث هلال ومن زيادة وردت في رواية الطبري للحديث مفادها أن ابنها يرثها وأن الولد يدعى لها ولا يرمى أي لا يقال له ولد زنا. وفي الموطأ قول للإمام مالك وهو أن ولد اللعان يرث إخوته لأمه أيضا «1» . وهذا يتبع ذاك.
هذا وظاهر من الآيات أن التشريع الذي احتوته خاص بتوجيه التهمة من الزوج إلى زوجته. وهنا محل تساؤل عن الحكم في حالة تهمة الزوجة لزوجها بالزنا. ولم نطلع على حديث أو قول في ذلك. ومما لا ريب فيه أن هناك فرقا واضحا يترتب عليه نتائج مختلفة بين الحالتين ومن ذلك مسألة الأولاد الذين تلدهم المرأة حيث يكونون قد نسبوا زورا لغير أبيهم الحقيقي وورثوا إرثا لا يستحقونه عند الله. ولعل الحكمة في تخصيص التشريع هي بسبب هذا الفرق.
والمتبادر أن تهمة الزوجة لزوجها تكون في حكم القذف العادي. فإذا أثبتت الزوجة الزنا على زوجها بشهود أربعة استوجب حدّ الزنا وهو الرجم وإذا لم تثبته استوجبت هي حدّ القذف.
وفي صدد شمول اللعان للعبيد والذميين روى البغوي اجتهادين: واحدا معزوا إلى سعيد بن المسيب والشافعي ومالك والثوري وقال إن أكثر أهل العلم أخذوا به وهو أن كل من صحّ يمينه صحّ لعانه حرّا كان أم عبدا ومسلما أم ذمّيا.
وواحدا معزوا إلى الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أن اللعان لا يجري إلّا
__________
(1) الموطأ ج 2 ص 47.(8/378)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
بين مسلمين حرّين غير محدودين فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما. وقد عقب البغوي على ذلك فقال إن ظاهر الآية حجة لمن قال يجري اللعان بينهما لأن الله لم يفصل بين الحرّ والعبد والمحدود وغيره. ويتسق هذا مع القول الأول. وهو ما نراه الأوجه الأسد، والله تعالى أعلم.
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 18]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
. (1) الإفك: الخبر الكاذب المفترى.
(2) عصبة منكم: جماعة منكم.
(3) تولّى كبره: بمعنى تزعّم حركة الخبر المفترى أو قاد حملته.
(4) لولا: الأولى والثانية والرابعة بمعنى (هلّا) وقد تكررت في القرآن بهذا المعنى. أما الثالثة فهي الشرطية المعتادة.
(5) أفضتم فيه: أوسعتم مجال الحديث فيه بينكم.
(6) تلقونه: بمعنى تتناقلونه أو يتلقاه بعضكم عن بعض.(8/379)
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) والآيات التي بعدها إلى آخر الآية (18) وخبر حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما في ذلك من صور وتلقينات
هذه الآيات تتضمن الإشارة إلى حادث قذف كاذب اتفق المفسرون والرواة على أنه في شأن عائشة أم المؤمنين وعرف في تاريخ السيرة النبوية باسم حديث الإفك اقتباسا من الآية الأولى فيما هو المتبادر. وقد تضمنت تقرير ما يلي:
(1) إن الذين أثاروا الحديث هم جماعة من المسلمين.
(2) وهم آثمون. كل بحسب ما كان منه من أثر فيه. والإثم الأكبر والعذاب الأعظم هو لمن تزعم الحركة وقاد الحملة.
(3) وعلى الذين لهم صلة به أن لا يحزنوا ولا يظنوا حينما سمعوا خبره أنه شرّ في حقهم بل إنه خير لهم في النتيجة.
(4) ولقد كان من الواجب على مثيريه أن يقيموا البيّنة على صحة ما قالوا فيأتوا بأربعة شهداء ولكنهم إذا لم يفعلوا ذلك فهم كاذبون عند الله.
(5) ولقد كان الأولى بالمؤمنين حينما سمعوا الحديث أن يغلبوا حسن الظنّ بالمؤمنين والمؤمنات ويستنكروه ويقرروا أنه كذب واضح.
(6) ولولا أن الله قد رحمهم وشملهم بفضله في الدنيا والآخرة لنالهم عذاب عظيم فيهما عقوبة على ما كان منهم من الإفاضة في هذا الحديث والاشتغال به، حيث أخذوا يتناقلونه ويتلقاه بعضهم عن بعض ويخوضون فيه بدون علم ويقين ولا ينتبهون إلى ما وقعوا فيه من الإثم وظنوه أمرا هيّنا مع أنه عظيم عند الله.
(7) ولقد كان الأجدر بهم أن يدركوا حينما سمعوه أنه افتراء عظيم وأنه(8/380)
لا يجوز أن يخوضوا فيه وأن يحولوا دون ذيوعه وتوسع الكلام عنه.
(8) وإن الله لينهاهم عن العودة إلى مثله أبدا إذا كانوا مؤمنين حقا. وإنه ليبين لهم الآيات ليتذكروا. وإنه لهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الحق والخير والمصلحة.
وهذا الحادث من الحوادث المهمة في تاريخ السيرة النبوية كان موضوع بحث وتمحيص وقيل وقال. ورويت فيه روايات عديدة وطويلة. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري ومسلم والترمذي حديث طويل مروي عن عائشة أم المؤمنين احتوى تفصيل المسألة تفصيلا وافيا رأينا إيراده لما فيه من صور وفوائد. قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين زوجاته فأيّتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما نزل الحجاب. فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع أظفار «1» قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني «2» ابتغاؤه فأقبل الرهط الذين كانوا يرحّلون لي فاحتملوا هودجي فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه.
وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه «3» حين عرفني. فخمرت وجهي بجلبابي والله
__________
(1) أظفار: مدينة في اليمن، والجزع: حجر كريم.
(2) حبسني: أخّرني.
(3) قوله إنا لله وإنا إليه راجعون.(8/381)
ما كلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني.
وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة فاشتكيت «1» شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك. ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل عليّ فيسلّم ثم يقول كيف تيكم ثم ينصرف ولا أشعر بالشرّ. حتى خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنّا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا.
وأمرنا أمر العرب في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح بن أثاثة وهي بنت أبي رهم بن عبد مناف وأمها خالة أبي بكر الصديق فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أتسبّين رجلا شهد بدرا قالت أي هنتاه (يا هذه) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله ثم قال كيف تيكم. قلت أتأذن لي أن آتي أبوي- قالت وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما- فأذن لي رسول الله. فجئت أبوي فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس. قالت يا بنية هوّني عليك فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها لها ضرائر إلّا كثّرن عليها، فقلت سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا.
قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي. فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله (طلاقها) . فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال يا رسول الله أهلك وما نعلم إلّا
__________
(1) مرضت.(8/382)
خيرا. وأما علي فقال يا رسول الله لم يضيّق الله عليك. والنساء سواها كثير. وإن تسأل الجارية تصدقك: قالت فدعا رسول الله بريرة فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك. قالت لا والذي بعثك بالحقّ إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ فقال يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة (زعيم الخزرج) وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير (من زعماء الأوس) فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما وهما يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت فبينا نحن كذلك دخل علينا رسول الله فسلّم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني فتشهّد ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب عليه. فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة فقلت لأبي أجب رسول الله فيما قال. قال والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي أجيبي رسول الله قالت ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت. لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به. فلئن قلت لكم إني بريئة والله(8/383)
يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. وأنا أعلم أني بريئة ولكن والله ما كنت أظنّ أن الله منزل في شأني وحيا يتلى. ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت فو الله ما رام رسول الله ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «1» حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان «2» من العرق في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه فلما سرّي عن رسول الله وهو يضحك فكان أول كلمة تكلّم بها: يا عائشة أمّا الله عز وجل فقد برّأك فقالت أمي قومي إليه «3» . فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزّ وجلّ.
فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال في عائشة. وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره فأنزل الله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) قال أبو بكر بلى والله إني أحبّ أن يغفر الله لي فرجّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة وكان رسول الله يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال يا زينب ماذا علمت أو رأيت قالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا. قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك» «4» . وقد روى الترمذي تتمة للقصة عن عائشة قالت «لما نزل عذري قام
__________
(1) من الشدة والجهد.
(2) الدرّ.
(3) في رواية الطبري أول كلمة تكلم بها رسول الله أبشري يا عائشة إن الله قد برأك. [.....]
(4) التاج ج 4 ص 166- 171 ولقد أورد الحديث المفسرون بفروق قليلة غير جوهرية. انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(8/384)
رسول الله على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم» «1» .
والحديث كما هو واضح قد صدر من عائشة بعد مدة طويلة من الحادث.
غير أن هذا ليس من شأنه أن يضعف من صحة جميع ما جاء فيه. وفي الروايات بعض تفصيلات لم ترد فيه، منها أن الغزوة التي وقع الحادث أثناءها هي غزوة بني المصطلق أو المريسيع «2» وأن الذين خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم وأوقع النبي عليهم الحدّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وهناك رواية تذكر أن الذي تولّى كبره هو حسان بينما هناك رواية تذكر أنه عبد الله بن أبي بن سلول «3» . ومن العجيب أن الروايات لم تذكر أن النبي أقام الحدّ على عبد الله بن أبي بن سلول. وحديث عائشة الذي رواه الترمذي يذكر أن الذين أقيم عليهم الحد رجلان وامرأة. فالظاهر أن عبد الله بن أبي بن سلول لعب دوره بمهارة وأن الذين تورّطوا في الحديث هم الثلاثة المذكورون. ولقد روى المفسرون أن ابن سلول كان يجمع الكلام ويستوشيه حتى دخل في أذهان الناس فتكلموا به وجوزه آخرون منهم وأن هذا المسلك كان مما درأ عنه الحد لأنه لم يصدر منه قذف صريح «4» .
ولقد روي «5» أنه وقعت ملاحاة ومشادة بين بعض المهاجرين والأنصار من الخزرج من أقارب ابن سلول في أثناء غزوة المريسيع وجعلت هذا يظهر ما في صدره من حنق وغيظ ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين ويهدد ويتوعد وكان لذلك أثر
__________
(1) التاج ج 4 ص 171.
(2) طبقات ابن سعد ج 3 ص 104- 106 وبنو المصطلق قبيلة عربية. والمريسيع اسم ماء.
والوقعة سميت بكلا الاسمين ولا تناقض في ذلك.
(3) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير والزمخشري والقاسمي.
(4) المصدر نفسه.
(5) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 104- 107 والتاج ج 4 ص 235- 237.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 25(8/385)
مرير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين على ما سوف نشرحه في سورة (المنافقون) بعد هذه السورة. ومما يخطر في البال أن يكون ابن أبي بن سلول قد أراد في ما أثاره من حديث الإفك شفاء نفسه من النبي بهذه الإثارة.
ومع أن الآيات ليست بسبيل حكاية القصة كما هو واضح. وشأنها شأن ما ورد في القرآن من قصص وإشارات إلى حوادث السيرة أي أنها استهدفت التنديد والإنذار والعتاب والتذكير والعظة والتبرئة والتسلية على ما جاء في الشرح فإنها احتوت بعض الدلالات المتسقة مع المروي إجمالا كما أن فيها دلالة على ما كان للحادث وظروفه من آثار مؤذية ومزعجة. هذا مع توقفنا فيما روي من موقف النبي من عائشة وجفائه وما يوهمه هذا من احتمال شكه فيها. فإن الآيات لا تساعد على التسليم به نصا وروحا. وفي نفسنا كذلك شيء مما ورد عن موقف علي بن أبي طالب. فهو يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الجارية وهي تصدقه مما يدل على أنه كان يعلم منها ما يريب في حين أنه لم يكن شيء من ذلك. ولا نود أن نصدق أن عليا رضي الله عنه يبيح لنفسه أن يشك في عائشة رضي الله عنها ويحرض النبي صلى الله عليه وسلم على طلاقها بدون برهان وليس هناك برهان. ولقد أثير هذا حين نشبت الفتنة بين المسلمين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وكان من صفحاتها الوقعة المعروفة بحرب الجمل التي كان في طرفها الأول علي بن أبي طالب وفي طرفها الثاني عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين حيث قيل فيما قيل على هامشها إن عائشة ظلت ناقمة على عليّ بسبب موقفه المذكور. ومعظم ما جاء في الروايات حول هذه الفتنة مشوب بالهوى الحزبي «1» .
وأسلوب الآيات قوي في التنديد والإنذار والعتاب والتطمين والتسلية. ومن شأنه أن يثير الرهبة والخجل والندم في الذين تورطوا في حديث الإفك بأي شكل أو سكتوا عنه من جهة. وأن يبعث القناعة التامة في نزاهة أم المؤمنين ويهدىء
__________
(1) اقرأ تمحيصا لأخبار هذه الوقعة في الجزء السابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي الفصل الرابع.(8/386)
روعها ويطيب نفسها من جهة. وأن يعظم إثم الذين قادوا حملة الإفك أو خاضوا فيه أكثر من غيرهم من جهة.
ويتبادر لنا أن التنديد بالساكتين عن شيوع الخبر والمتورطين فيه من غير الذين قادوا الحملة أو خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم وبخاصة ما جاء في الآيتين [15 و 16] ينطوي على قصد بيان ما في الحادث من إفك بديهي. وكونه مما لا يصح في العقل أن تقترف زوجة النبي إثما فاحشا وهي بنت أول بيت في الإسلام بعد بيت النبي وفي مرتبة سامية من الكرامة عند الله والنبي والمسلمين وزوجة النبي الذي كانت تعتقد أن وحي الله متصل به أولا، وأن يجرأ مسلم على التعرض لزوجة النبي وهي أمه المعنوية بنص القرآن، وفيه ذرة من الإيمان بالله ورسوله ثانيا. ومن العجيب الذي يبعث الاشمئزاز أن تحتوي الآيات كل هذه القوة والإحاطة في التنزيه والتنديد والتنبيه إلى ما لا يعقل ولا ينبغي ولا يصح، ثم يظل أعداء الإسلام يخوضون في هذه القصة خوضا ليس له من قصد غير التجريح والتشنيع.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فقد احتوت تلقينات أخلاقية واجتماعية بليغة مستمرة المدى: في تقبيح التعرض لأعراض الناس وخاصة بالكذب والافتراء والخوض فيها بدون علم وبينة. وفي عدم جواز سكوت الجمهور على مثل هذا التصرف أو الانسياق في تياره بدون تروّ وتدبر. وفي وجوب الوقوف في مثل هذه الحوادث موقفا حاسما قويا فلا يسمح بذيوع الإفك والبهتان ومسّ أعراض الناس، وفي تطمين الأبرياء حتى لا ينزعجوا بمثل هذه الحوادث التي كثيرا ما تثيرها الأغراض والنوايا الخبيثة وحبّ الكيد والغفلة- وهذه كلها تجمعت في إثارة حديث الإفك كما يفهم من تفاصيل الروايات وقرائن الآيات- وحتى يقابلوها برباطة جأش وطمأنينة قلب فيكون ذلك عاملا على قتل الإفك وإحباط الكيد.(8/387)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
[سورة النور (24) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
. (1) الفاحشة: هنا بمعنى الأمور القبيحة أو أخبار السوء.
الآيتان متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا ومعقبتان عليها كما هو المتبادر. وقد احتوت أولاهما تنديدا بالذين يحبون أن تنتشر أخبار السوء وأفعال القبح والفواحش في أوساط المؤمنين وإنذارا لهم. وإيعازا بوجوب تأديبهم في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون لهم من عذاب أليم في الآخرة. وإيذانا بأن الله يعلم كل شيء ومقتضيات الأمور، دون السامعين المخاطبين وهم المسلمون.
واحتوت ثانيتهما تذكيرا بما شملهم الله به من فضله ورحمته بحيث كانت العواقب تسوء لولا هما. ولكن الله الرؤوف الرحيم قد تداركهم. فانقضى الحادث على خير وسلام. كأنما تؤكد عليهم مرة أخرى بوجوب الحذر من التورّط في مثله مرة أخرى.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن عائشة وأوردناه قبل خبر إقامة النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين وامرأة حد القذف حيث يتبادر أن ذلك تنفيذ للإيعاز الذي احتوته الآية الأولى.
وأسلوب الآيتين تقريري عام ينطوي فيه تلقين قوي عام الشمول والاستمرار بوجوب الوقوف من مثل تلك الفئة التي تحب أن تشيع الفاحشة في أوساط المسلمين موقف الشدة والتأديب والتنكيل في كل ظرف ومكان. وفي هذا ما فيه من الحقّ والحكمة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن ثوبان أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من طلب عورة(8/388)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» «1» . حيث ينطوي فيه تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني وفيه تأديب وتحذير قويان لكل مسلم بل لكل إنسان.
[سورة النور (24) : آية 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
. (1) ما زكى: ما طهرت سريرته وصفت نيته.
والآية متصلة أيضا بسابقاتها سياقا وموضوعا اتصال تعقيب وعظة وتنبيه على ما هو المتبادر. والخطاب فيها موجه للمؤمنين يحذرون فيه من اتباع خطوات الشيطان ووساوسه وهو إنما يأمر بالفحشاء والمنكر. ويذكرون فيه مرة أخرى بفضل الله ورحمته بهم اللذين لولا هما لما اهتدى وزكى أحد منهم أبدا وهو السميع لكل شيء، العليم بكل شيء، الذي يزكي من يشاء ممن علم صلاحهم وطيب سرائرهم وأهليتهم لتزكيته وفضله ورحمته. كأنما يهتف بهم بوجوب التمسك بأوامر الله والتزام حدوده والبعد عن المزالق والفتن والفحشاء والمنكر حتى يضمنوا لأنفسهم دوام فضله ورحمته.
ومع اتصال الآية بموضوع حديث الإفك فإن أسلوبها هي الأخرى تقريري عام. وما احتوته من نهي وتنبيه وتذكير وهتاف موجه للمسلمين في كل ظرف ومكان كما هو واضح.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية بعض الأحاديث منها عن أبي مجلز «أن رجلا قال لابن مسعود إني حرّمت أن آكل طعاما وسمّاه فقال له هذا من نزغات
__________
(1) روى صيغة مقاربة لهذه الصيغة أبو داود أيضا وهذه هي (لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) انظر التاج ج 5 ص 28.(8/389)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
الشيطان. كفّر عن يمينك وكل» ومنها «أن رجلا نذر ذبح ولده فقال له الشعبي هذا من نزغات الشيطان» ومنها عن أبي رافع قال «غضبت أمي على امرأتي فقالت هي يوم يهودية ويوم نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال إنما هذه من نزغات الشيطان» وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة «وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك» وينطوي في هذه الأخبار صور لفهم أصحاب رسول الله وتابعيهم للآية وتطبيقاتها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذه الصور ليست كل ما يمكن أن يكون من نزغات الشيطان. وإن كل انحراف ديني أو خلقي أو اجتماعي أو سلوكي وكل إثم وفحش وبغي يصبح ويمكن أن يكون من ذلك.
[سورة النور (24) : آية 22]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
. (1) ولا يأتل: ولا يحلف، من الإيلاء.
تنهى الآية الذين وسع الله عليهم الرزق والفضل عن الحلف بعدم الإنفاق على المحتاجين من ذوي قرباهم والمساكين والمهاجرين في سبيل الله. وتأمرهم بالعفو والصفح. وتسألهم سؤال حثّ وتحريض عما إذا لم يحبوا أن يغفر الله لهم.
وتنبههم إلى صفتي الله الغفور الرحيم. كأنما تهيب بهم إلى التخلّق بهما.
والمفسرون متفقون «1» على أن الآية في صدد يمين حلفها أبو بكر الصديق بأن لا ينفق على قريبه مسطح الذي كان من العصبة التي جاءت بالإفك ولا ينفعه بشيء وقد ورد هذا في حديث عائشة الذي ذكرت فيه أنه كان سبب نزول الآية.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(8/390)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
وهكذا تكون الآية متصلة بموضوع السياق السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت لحدتها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع السلسلة التي نزلت كما يبدو واضحا من مضمونها وروحها بعد انتهاء قضية حديث الإفك على سبيل الإنذار والتنديد والتنويه والتبرئة والتهدئة. وهو ما نرجحه. والله أعلم.
ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن مسطحا كان من جملة الذين أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حدّ القذف. وروح الآية تفيد أنه ندم وتاب فتاب الله عليه.
واقتضت حكمة التنزيل بعد ذلك معالجة أمر قسم أبي بكر بالامتناع عن النفقة عليه فجاءت الآية بأسلوبها الرائع مما جرى عليه النظم القرآني في معالجة مثل هذه الحوادث وتهذيب نفوس أصحاب رسول الله في ظروفها وبثّ التسامح بينهم.
وقد روى المفسرون «1» أن أبا بكر رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية إني والله لأحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه حيث ينطوي في هذا صورة لأخلاق أصحاب رسول الله وإذعانهم لأوامر الله وتوجهاتهم وكبت غيظهم بسبيل ذلك.
وفي الآية وبخاصة في أسلوبها المطلق الذي جاءت به تلقين جليل عام الشمول والاستمرار بوجوب تغليب عاطفة الرأفة والجنوح إلى العفو والصفح وكظم الغيظ وعدم منع المعونة عن المحتاج إليها إذا ما بدا منه بعض الهفوات والتصرفات الشاذة. فالله لا يمنع رحمته ويقفل باب غفرانه عن أحد، وفي هذه لعباده الأسوة الحسنة.
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(8/391)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
(1) الغافلات: اللاتي لم يخطر الإثم في بالهن. أو سليمات النية والسريرة لسن داهيات ولا ماكرات.
(2) : دينهم: هنا بمعنى جزائهم.
إن الله هو الحق المبين: إنه ذو الحق المبين. أو ذو العدل المبين. أو الذي يتجسم في أعماله الحق المبين.
وهذه الآيات كسابقاتها معقبة على حادث الإفك ومتصلة بالسياق كما هو ظاهر. وقد احتوت إنذارا قاصما بلعنة الله في الدنيا والآخرة، وعذابه العظيم لمن يقذف المؤمنات العفيفات اللاتي تنزهن عن الفواحش والآثام ولم تخطر ببالهن وهنّ سليمات النية والسريرة. ولسوف تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كان منهم بسبيل ذلك فيوفيهم الله جزاءهم العادل وهو الذي يتجسم العدل في كل ما يأمر ويقضي ويريد.
وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الزجر والردع عن التعرض لأعراض النساء والتشديد فيه تعقيبا على ما كان من حادث قذف أم المؤمنين. وفيها توكيد ضمني بنزاهتها وبراءتها. وهي في ذات الوقت جاءت عامة التوجيه ليكون تلقينها الإنذاري والتأديبي مستمر المدى.
[سورة النور (24) : آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
. وهذه الآية أيضا كالآيات السابقة متصلة بحادث الإفك اتصال تعقيب وبسبيل توكيد براءة أم المؤمنين والتسرية عنها مما نالها من أذى كما هو المتبادر.
فلا يمكن أن تكون إلّا بريئة طيبة لأنها زوجة النبي البريء الطيب ولا يمكن أن تكون زوجة النبي البريء الطيب إلّا بريئة طيبة.(8/392)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
وقد جاءت الآية بأسلوب مطلق ليكون تلقينها التهذيبي والأخلاقي شاملا مستمر المدى كذلك.
وهذه الآية هي آخر سلسلة الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل إنزالها في مناسبة حديث الإفك. ولما كانت الصلة وثيقة بين آيات هذه السلسلة فإننا نرجح أن هذه الآية والآيات الثلاث التي سبقتها قد نزلت هي الأخرى مع السلسلة مثل الآية [22] بعد انتهاء قضية هذا الحديث إما دفعة واحدة وإما متتابعة.
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
. (1) حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها: أوّل بعضهم الجملة بمعنى حتى تعرفوا أن أهلها موجودون وتسلموا عليهم قبل الدخول ليأذنوا لكم بالدخول إذا شاؤوا. وروى الطبري مع ذلك أن ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش كانوا يقرأون كلمة تَسْتَأْنِسُوا بلفظ (تستأذنوا) ويقولون إنها غلط من الكاتب.
(2) فيها متاع لكم: لكم في دخولها فائدة ومصلحة وحاجة.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) والآيتين التاليتين لها ومدى ما فيها من آداب سلوكية للرجال والنساء وما ورد في صدد ذلك
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تشريعا في آداب الدخول على بيوت الغير في النطاق التالي:(8/393)
أولا: لا يصح للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب في الآيات أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلّا بعد الاستئذان والاستئناس بأن أهلها فيها، وبعد أن يأذنوا بدخولهم عليهم. وعليهم أن يحيوهم بالسلام قبل كل شيء. وإذا قيل لهم ارجعوا فليرجعوا، فهذا هو الأطهر لهم المبعد عنهم قالة السوء.
وثانيا: لا يصح لهم أن يدخلوا كذلك بيوتا غير بيوتهم إذا لم يجدوا فيها أحدا من أصحابها إلا بإذن منهم باستثناء البيوت غير المسكونة إذا كان لهم في ذلك مصلحة وحاجة.
وقد نبهت مقاطع الآيات الثلاث الأخيرة إلى أن ما في ذلك من تذكير وتعليم. وإلى كون الله تعالى يعلم كل ما يفعلونه وكل ما يبدونه أو يكتمونه على سبيل التدعيم لما احتوته الآيات من تشريع، والتشديد على وجوب اتباعه وعدم مخالفته.
وقد روى الطبري عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت:
يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحبّ أن يراني أحد لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فنزلت الآية الأولى. وروى الزمخشري أن أبا بكر قال: يا رسول الله إنه قد أنزل عليك آية بالاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلّا بإذن؟
فنزلت الآية الثانية. وقال الخازن: لما نزلت آية الاستئذان قالوا: كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن يريدون المنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم، فأنزل الله الآية الثالثة.
والرواية الأولى محتملة جدّا دون الروايتين الثانيتين فيما يتبادران لنا. لأن منازل السابلة في طريق مكة والمدينة والشام قد أنشئت في الدولة الإسلامية وكان العرب يحملون خيامهم من الشعر أو الجلد فيأوون إليها حينما ينزلون منزلا في رحلاتهم الطويلة. وهذا لا يمنع أن يكون بعضهم استفتى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية الأولى عن أمر البيوت غير المسكونة فرفع الله في الآية الثالثة الحرج عن(8/394)
الناس. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل تشريعي يتمم بعضه بعضا.
ونلمح صلة ما بين هذه الآيات وبين موضوع السلسلة السابقة عند إنعام النظر. فالدخول إلى بيوت الناس بدون إذن مما يفسح المجال للقيل والقال وإشاعة أخبار السوء، وهذا مما حذرت منه الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد تلك السلسلة فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، أما إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة فيكون ترتيبها للتناسب الموضوعي الملموح.
ويظهر من فحوى الآيات وروحها أن الناس كانوا يدخلون بيوت بعضهم بدون استعلام واستئذان. وهذا مستفاد أيضا من آية سورة الأحزاب [53] التي جاء فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ...
ومن الأحاديث والروايات العديدة التي أوردها المفسرون. منها ما أورده الطبري وأوردناه قبل عن عدي بن ثابت كسبب لنزول الآية الأولى، ومنها حديث أورده الخازن جاء فيه «قال كند بن حنبل دخلت على النبيّ ولم أسلّم ولم أستأذن، فقال لي: ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل؟» . فاحتوت الآيات كما هو ظاهر تأديبا رفيعا في هذا الشأن توخى فيه تنظيم السلوك الشخصي بين المسلمين تنظيما يجنبهم دواعي الريبة وأخبار السوء وما يكون فيه للغير من أذى وتثقيل.
والخطاب في الآية عام للمسلمين. وليس فيه قرينة تخصص أنه خطاب للرجال دون النساء. وحكمه يتناولهم في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال. والروعة فيما احتوته أنه آداب من طبيعتها الخلود والاتساق مع الخلق الفاضل والذوق السليم في كل وقت ومكان.
والمتبادر أن الاستئناس والاستئذان والسلام هو بسبيل تنبيه أهل البيت حتى يتهيأوا لقبول الزائر إذا لم يكن عندهم مانع ويأذنوا له. وأن فحوى الآيات وروحها(8/395)
يلهمان أن هذا التنبيه والتأديب عام للنساء والرجال على السواء وأنه ليس من جناح من دخول النساء على الرجال والرجال على النساء بعد صدور الإذن.
والحديث الذي رواه الطبري مما يؤيد ذلك وقد روى مجاهد أن ابن عمر جاء من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟
قالت ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه، قال قولي: ادخل.
قالت: ادخل فدخل» «1» ، مما فيه تأييد لذلك. والآيات التالية لهذه الآيات ثم آيات أخرى في آخر هذه السورة مما يؤيده أيضا. وكل ما يجب استلهاما من الآيات التزام العفة وطهارة النية وستر المرأة زينتها ومفاتن جسدها أمام غير محارمها.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة فيها تتمة للأدب القرآني منها حديث رواه الخمسة عن جابر قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال:
من ذا فقلت: أنا، فقال أنا أنا- كأنه كرهها-» «2» . وروى أبو داود عن عبد الله بن بشر قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر» «3» . وروى الأربعة عن سهل بن سعد «أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدرى يرجل به رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك. إنما جعل الله الإذن من أجل البصر» «4» .
وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه» «5» وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت
__________
(1) تفسير الطبري.
(2) التاج ج 5 ص 218- 219. وكراهية الجواب أنا أنا تعني وجوب ذكر الاسم حتى يعرفه صاحب البيت.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه، والمدرى بمثابة المشط. [.....]
(5) التاج ج 5 ص 218- 219.(8/396)
عينه ما كان عليك من جناح» «1» . وروى الترمذي عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى عورة أهله فقد أتى حدّا لا يحلّ له أن يأتيه، لو أنه حين أدخل بصره استقبله رجل ففقأ عينه ما غيّرت عليه وإن مرّ الرجل على باب لا ستر له غير مغلق فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت» «2» . وقد روى مالك في موطئه حديثا عن عطاء بن يسار «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمّي؟ قال: نعم. فقال الرجل إني معها في البيت، فقال له أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال فاستأذن عليها» «3» .
والالتزام ما احتوته الأحاديث من أدب رفيع واجب بدون ريب. وقد يتحمل الحديث الآخر استدراكا وتوضيحا. فهو أولا حديث مرفوع. وثانيا إن الاستئذان واجب على المرء بالنسبة لغير بيته. إلا أن تكون الأم في بيت خاص أو تكون في مخدعها فيكون من المحتمل أن تكون متبذلة أو عريانة فيكون إيجاب الاستئذان عليها من ابنها في محلّه.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في صدد عدم دخول الرجال على النساء وعدم الخلوة بهن نوردها ونعلق عليها بما يلي:
1- روى الشيخان عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إيّاكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو. قال الحمو الموت» «4» . ويتبادر لنا على ضوء الآية التي نحن في صددها أن النهي هو في صدد الدخول بدون استئذان وإذن. ولو كان الرجل قريبا للزوج أو الزوجة حيث يمكن أن يرى هذا بخاصة لنفسه في الدخول بدون استئذان وإذن. وأنه إذا وقع الاستئذان والإذن فلا يبقى
__________
(1) التاج ج 5 ص 218- 219.
(2) المصدر نفسه ص 220.
(3) تفسير الخازن.
(4) التاج ج 2 ص 300 والمقصود أن الحمو هو غير المحرم من أقارب الزوج.(8/397)
مانع وبذلك يمكن التوفيق بين الحديث وبين الآية. وفي الحديث الذي رواه مجاهد عن ابن عمر وأوردناه قبل تأييد ما لذلك. وابن عمر من كبار أصحاب رسول الله وعلمائهم فلا يمكن أن يدخل على امرأة ما لم يكن يعرف أنه جائز إذا ما استأذن وأذنت له.
2- روى الترمذي عن جابر «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة إلّا كان ثالثهم الشيطان» «1» والحديث يحذر من خلوة رجل بامرأة على انفراد. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به ويمنع الغواية والإغراء عن الاثنين كما يمنع منهما سوء القالة.
والمتبادر أن التحذير ليس واردا إذا كان الاجتماع علنا أمام الناس وليس في خلوة أو كان المجتمعون مع بعضهم نساء ورجالا عديدين إذا ما تقيدوا بأدب العفة والطهارة وكان النساء ساترات لزينتهن ومفاتنهن. ويقال هذا أيضا بالنسبة لدخول عديد الرجال والنساء على بعضهم بعد الاستئذان والإذن.
3- روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» «2» . والحديث في مدى سابقه مع زيادة وهي إجازة خلوة رجل بامرأة إذا كان معها محرم. وما قلناه في سياق الحديث السابق يورد هنا بتمامه.
4- روى الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» «3» . والمغيبات هنّ اللاتي يكون أزواجهن في غيبة طويلة على ما هو المتبادر، وهدف الحديث درء الفتنة والوقوع في الإثم.
وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به. ومع ذلك فالمتبادر أنه ليس في الحديث ما يمنع الدخول إطلاقا وفق القيود والتلقينات المشروحة سابقا.
__________
(1) التاج ج 2 ص 301.
(2) المصدر نفسه ص 300.
(3) المصدر نفسه ص 287.(8/398)
ولقد روى الطبري حديثا ذا مغزى مهم جاء فيه «إن عبد الرحمن بن عوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن خلوة الرجال بالنساء إلا مع محرم وعن دخول الرجال في غيبة أزواجهن يا رسول الله إنا نغيب ويكون أضياف فقال له ليس أولئك عنيت ليس أولئك عنيت» حيث يستفاد من هذا أن النهي يستهدف المتهمين ودرء الفتنة والريب كما قلنا قبل.
5- روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلّا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» «1» والشاهد في الحديث الفقرة الأخيرة. وهذا حق فالبيت مشترك والحياة الزوجية شركة. والوفاق والتفاهم واجبان فيها. ومخالفة هذا الأدب يثير الريب والشقاق.
ومع ذلك فليس في الحديث ما يمنع استقبال الزوجة للرجال وفق التقريرات المشروحة إذا ما حصلت على إذن زوجها. وقد علل الشراح الشطر الأول من الحديث بأن الصوم المنهي عنه صوم تطوعي والرجل قد يحتاج إلى زوجته في النهار فيجب أن يكون صومها هذا بإذنه. وليس هذا واردا بالنسبة لصوم رمضان.
6- روى الترمذي حديثا عن الأحوص جاء فيه «إن من حقّكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون» «2» . والحظر هو إذن الزوجة لمن يكرهه زوجها وإجلاسه على فرشه. وليس مطلقا كما هو واضح.
وهذا مثل سابقه أدب رفيع يجب الالتزام به وهو مرتب على الشراكة الزوجية المتوافقة. وما قلناه في صدد السابق يقال هنا أيضا.
ونعلق تعليقا إجماليا فنقول إنه ليس في الآيات والأحاديث ما يمنع دخول النساء والرجال على بعضهم واجتماعهم ببعضهم في نطاق التلقينات والرسوم والآداب المشروحة. وهناك أحاديث كثيرة وردت في الكتب الخمسة وغيرها تفيد أن الرجال والنساء كانوا يدخلون على بعضهم ويجتمعون ببعضهم في مجالس النبي
__________
(1) التاج ج 2 ص 287.
(2) المصدر نفسه ص 286.(8/399)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
وفي المساجد وفي البيوت وفي الولائم وفي الحرب والجهاد. وأن النساء كن يأتين النبي وخلفاءه من بعده فيعرضن أمورهن أمام الرجال. واجتماع الرجال والنساء واختلاطهم يقع على أوسع نطاق في موسم الحج وفي مختلف مناسك هذا الركن الإسلامي من طواف وسعي ووقوف وإفاضة ورمي جمار والنساء في كل ذلك كتفا بكتف مع الرجال وهنّ سافرات الوجوه والأيدي. وهذه الحالة الأخيرة خاصة هي حالة إحرامهن حيث روى أصحاب السنن وأحمد عن ابن عمر قال «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وماس الورس والزعفران من الثياب» «1» .
ولقد روى الخمسة عن سهل بن سعد «أن امرأة باءت إلى رسول الله فقالت يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال هل عندك من شيء قال لا والله يا رسول الله قال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب فرجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه.
قال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء. فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله موليا فأمر به، فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال أتقرؤهن عن ظهر قلبك قال نعم قال فاذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن» «2» .
[سورة النور (24) : آية 30]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
. (1) يغضّوا: يخفضوا أو يصرفوا أبصارهم أو لا يطيلوا النظر.
__________
(1) التاج ج 2 ص 271 و 272 ونكتفي بهذا الحديث. ليرجع من شاء إلى كتب الحديث فيجد عشرات الأحاديث التي تسند ما قلناه.
(2) المصدر نفسه.(8/400)
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإيعاز للمؤمنين من الرجال بغض أبصارهم وحفظ فروجهم لأن ذلك أدعى إلى الطهارة والصيانة. وتنبيه إلى أن الله خبير بما يفعلونه وهو مراقبهم وذلك بسبيل توطيد الأمر وتنفيذه.
تعليق على الآية قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ
ولم نطلع على مناسبة خاصة لهذه الآية. ومع أنها فصل جديد أو بداية فصل جديد فإن الصلة الموضوعية ملموحة بينها وبين الفصل السابق. فإذا لم تكن نزلت بعده فيكون ترتيبها في مكانها بسبب هذه الصلة كما هو المتبادر.
ومما قاله المفسرون في صدد ما احتوته الآية من الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج أنه عدم التعمد في النظر إلى النساء وصرف البصر عنهن إذا وقع عليهن بدون عمد. والتعفف عن الزنا وعدم التبذل في الثياب بحيث تظهر من ذلك العورات. وعدم النظر إلى العورات في الوقت نفسه. وقد أوردوا أحاديث عديدة في ذلك منها حديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رواه الترمذي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ، يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنّ لك الأولى وليس لك الآخرة» «1» . ومنها حديث رواه البغوي عن جرير بن عبد الله قال «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظرة الفجأة فقال اصرف بعدها بصرك» . ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» «2» .
__________
(1) ابن كثير.
(2) البغوي. وبديهي أن النهي يكون أولى وأشدّ عن نظر الرجل إلى عورة المرأة وعن نظر المرأة إلى عورة الرجل وعن إفضاء الرجل بثوب إلى المرأة وإفضاء المرأة بثوب إلى الرجل وعورة الرجل هي ما دون السرة وفوق الركبة كما جاء في حديث نبوي رواه أبو داود والبيهقي. وعورة المرأة جميع جسدها عدا وجهها ويديها. انظر تفسير الآية والآيات التالية في ابن كثير والخازن وانظر التاج ج 1 ص 139. [.....]
الجزء الثامن من التفسير الحديث 26(8/401)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
والذي يتبادر لنا أن جمع الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج في جملة واحدة قرينة قرآنية على أن القصد من الأمر بالغضّ هو عدم النظر إلى المرأة الأجنبية نظرة جنسية شهوانية. وأن الأحاديث هي في صدد ذلك من حيث الجوهر. ويلفت النظر إلى الحديث الذي ينهى عن إتباع النظرة بالنظرة فالنظرة الأولى تكون صدفة ومعفوا عنها، فإذا أتبعت بأخرى صارت نظرة مريبة آثمة. وفي الآية التالية التي تأتي بعد هذه الآية تسويغ لإسفار المرأة عن وجهها أمام الأجانب. هذا سواغ تبادل الكلام والنظر. وهذا ما كان جاريا من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن. وورد ذلك في أحاديث وروايات كثيرة وهو المعقول التعامل بدون انقطاع، وهو سائغ ما دام ليس شهوانيا آثما والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فالآية هي بسبيل حثّ المؤمنين على التمسك بأهداب العفة وتوقي أسباب الفتنة والفاحشة وعلى عدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع الحياء من أجسادهم وعوراتهم. وكل هذا أدب رفيع متسق مع الذوق السليم والخلق الكريم في كل ظرف ومكان.
[سورة النور (24) : آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
. (1) زينتهن: المتبادر أنها الحليّ: ويجوز أن يكون من مقاصد الكلمة.(8/402)
(مفاتن المرأة) أي نحورهن وظهورهن وصدورهن وسيقانهن وأذرعهن إلخ وهذا يتبادر أكثر من جملة وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إلخ.
(2) خمرهن: جمع خمار وهو غطاء كان النساء يتشحن أو يتقنعن به.
(3) جيوبهن: جمع جيب. وهو شق الثوب الذي يظهر منه عادة بعض أجزاء البدن كالصدر والظهر.
(4) نسائهن: النساء عامة في قول والنساء المسلمات خاصة في قول آخر.
(5) غير أولي الإربة من الرجال: غير القادرين على المباشرة الجنسية.
(6) الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء: بمعنى الأطفال الذين لم يبلغوا سنّ الشهوة والرغبة الجنسية.
(7) ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن: المتبادر أن المقصد هو الخلخال الذي يوضع في الرّجل للزينة حيث يرن صوته إذا ضربت المرأة برجلها.
تعليق على الآية وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... إلخ ومدى ما فيها من آداب وبحث في سفور المرأة ونشاطها في مختلف الميادين
عبارة الآية واضحة. وهي والآية السابقة لها تؤلفان فصلا واحدا كما هو المتبادر. وقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوعز إلى النساء أيضا بما أوعز به إلى الرجال من غضّ الأبصار وحفظ الفروج مضافا إلى ذلك ما هو متصل بطبيعتهن الجنسية من عدم إبداء ما يمكن إخفاؤه من الزينة. وستر شقوق ثيابهن التي تظهر منها مفاتن أجسادهن بأوشحتهن أو خمرهن. ومن إخفاء ما يجب إخفاؤه من زينتهن ومفاتنهن عن غير المذكور في الآية. ومن عدم تحريك أرجلهن بقصد إظهار ما هو خاف من زينتهن وحليهن فيها. وانتهت الآية بالهتاف بالمؤمنين جميعا بالتوبة إلى الله وطاعته لضمان الفوز والفلاح لأنفسهم.(8/403)
وواضح أن هدف الآية هو تنبيه النساء المسلمات إلى وجوب الغضّ من أبصارهن نحو الرجال بسبيل تجنب الإغراء والتورط في الإثم. وإلى الاحتشام في اللباس وعدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع واجب الحياء وفيه إغراء للرجال وتوريط أمام غير المحارم.
وهكذا تكون الآية قد احتوت تقرير كون المرأة في الخطاب القرآني التشريعي الاجتماعي والتأديبي أيضا طرفا مسؤولا مثل الرجل كما هو شأنها في الخطاب التشريعي المالي والسياسي والتعبدي والقضائي والشخصي. وما قلناه في سياق الآية السابقة من سواغ تبادل النظر والكلام وكون القصد من جميع الأمر بالغض وحفظ الفروج هو النهي عن النظرة الأثيمة الشهوانية قال هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار.
وجملة إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها تعني كما هو المتبادر ما جرت العادة على ظهوره مثل الوجه والكفين على ما قاله بعض المفسرين ومثل الخاتم والخضاب والكحل والثياب وظهر الكفين بالإضافة إلى الوجه والكفين على ما قاله بعض آخر عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله والتابعين.
وليس بين هذا وبين ما جاء في سورة الأحزاب من تناقض سواء منه ما كان في حقّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بما في ذلك تعبير مِنْ وَراءِ حِجابٍ أم ما كان في حقّ جميع نساء المسلمين من الأمر بإدناء الجلابيب على ما شرحناه في سياق السورة المذكورة.
ولعلّ في أمر الرجال في الآية السابقة بالغض من أبصارهم دلالة قوية على ما كان جاريا سائغا وعلى ما في الآية من مفهوم وتسويغ ببروز المرأة سافرة الوجه واليدين أمام الناس زائرة ومزورة وساعية في أسباب الرزق والعمل والتصرفات المباحة لها والواجبات المطلوبة منها. والعلماء متفقون على أن وجه المرأة ويديها ليست عورة استدلالا من هذه الآية. وليس هناك أي أثر نبوي بستر المرأة لوجهها ويديها في الصلاة أو غيرها. وهناك نهي نبوي عن ذلك في إحرامها على ما جاء في حديث ابن عمر الذي أوردناه قبل.(8/404)
وهناك بعض أحاديث مؤيدة لذلك منها حديث رواه الطبري عن عائشة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلّا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكفّ مثل قبضة أخرى» ومنها حديث آخر رواه الطبري كذلك جاء فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف» بالإضافة إلى وجهها وكفيها.
والمحارم المذكورون في الآية الذين أذن للمرأة إبداء زينتها أمامهم قد ذكروا في آية سورة الأحزاب [55] بزيادة آباء الأزواج وأبنائهم والتابعين غير أولي الإربة من الرجال. ولم يذكر الأعمام والأخوال هنا أيضا. ومهما تكن الحكمة خافية في عدم ذكرهم هنا أيضا فإن نصّ آية سورة النساء [24] صريحة بأنهم من محارم المرأة المحرمة عليهم على ما ذكرناه أيضا في سياق آية الأحزاب المذكورة.
ووصف الرجال غير ذوي الإربة بالتابعين هو على ما يبدو لإخراج غير التابعين من النطاق حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك حتى لا تتبذل المرأة أمام غير محرم لا صلة لها به ولو كان غير ذي إربة.
ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن المقصود بهؤلاء الناس رجال كانوا يتبعون الناس للأكل ولا يكون لهم أرب في النساء فيأمنّ جانبهم ولا يتهربنّ منهم كما رووا عن بعض المؤولين سواغ دخول الحمقى والمغفلين والعنّينين إطلاقا، في نطاق الإباحة التي تضمنتها العبارة القرآنية. ونرى هذا وذاك مخالفين لتحديد الآية وهو (التابعون) الذي نعتقد أنهم الخدم وأن ما عداهم محظور عليهم الدخول على النساء في حالة تبذلهن ولو كانوا غير أولي قدرة جنسية. وهذا ينطبق على المغفلين والحمقى والعنّينين. ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمنع دخول المخنثين على النساء كما جاء في حديث رواه الشيخان عن أم سلمة قالت «إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وفي البيت مخنّث فقال المخنّث لأخي أم سلمة إن فتح الله لكم الطائف غدا أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال(8/405)
النبي لا يدخل عليكم» «1» .
ولقد قلنا إن هناك من يؤول نِسائِهِنَّ بعموم النساء ومن يؤولها بالنساء المسلمات. وهذا التعبير جاء في آية سورة الأحزاب المذكورة أيضا وقد رجحنا أنها تعني عموم النساء والله تعالى أعلم. أما إباحة ظهور المرأة بزينتها أمام ملك يمينها من الرجال فهي بسبب كونها محرمة عليهم فيعدون من محارمها. وفي هذه السورة استدراك في شأن الأطفال وملك اليمين في أوقات التبذل في المخادع سنشرح مداه في مناسبته.
وفي صدد الأمر بضرب الخمر على الجيوب نقول إن المتبادر أن الخمار مما كانت المرأة تستعمله في التقنع وتغطية الرأس والعنق فأمرت الآية بضربه على شقوق ثوبها لإخفاء مفاتن جسدها. وإن الأمر على كل حال بسبيل فرض إخفاء هذه المفاتن وليس بسبيل فرض زي خاص. فإذا أخفيت هذه المفاتن بزي آخر حصل المقصود. وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار» «2» وقد يفيد هذا أن خمار الرأس واجب ديني في الصلاة وليس كذلك في غيرها، والله أعلم.
وبمناسبة هذه الآية نقول إنه كما أنه ليس في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع النساء والرجال من الدخول على بعضهم في نطاق التلقينات والرسوم المشروحة سابقا فإنه ليس فيهما ما يمنع المرأة من أن تكون سافرة الوجه واليدين أمام الرجال غير المحارم إذا ما كانت ساترة لمفاتنها وغير مبدية لزينتها ومن أن تخرج من بيتها كذلك لقضاء حاجاتها وممارسة شؤونها على اختلاف أنواعها مما يدخل فيه تلقي العلم وغشيان المدارس والمساجد وشهود الاجتماعات العامة والاتجار والتكسب والعمل والمشاركة في الأعمال والواجبات الرسمية وغير
__________
(1) التاج ج 2 ص 301 ونرجح أن النبي قصد بالنهي دخول المخنث على النساء في حالة تبذلهن. وإنه لا حرج في غير هذه الحالة إذا ما كان وفق التلقينات القرآنية والنبوية المشروحة سابقا.
(2) التاج ج 1 ص 140.(8/406)
الرسمية والاستمتاع بنعم الطبيعة وهو ما قرره لها القرآن حين قرر لها الأهلية السياسية والشخصية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتكافل والتضامن وخاطبها بكل ما خاطب به الرجل من تفكر وتعقل وتدبّر في كتاب الله وآياته وكونه وكلفها بكل ما كلف به الرجل من واجبات وتكاليف إيمانية وتعبدية واقتصادية وسياسية وعقلية واجتماعية وشخصية ورتب لها وعليها كل ما رتب للرجل وعليه من النتائج الدنيوية والأخروية على قدم المساواة مما مرت مؤيداته وشرحه في مناسبات كثيرة سابقة ومما يأتي أيضا في مناسبات آتية.
وكل هذا في نطاق مدى هذه الآية وروحها وما احتوته من فكرة وهدف وتلقين من احتشام وبعد عن مواقف الريبة ودواعي الإغراء والفتنة والإثم والأمور والأعمال والمظاهر والأماكن غير المباحة في الشرع والأخلاق الكريمة مما هو محظور على الرجل والمرأة على السواء.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي عن ميمونة بنت سعد قالت «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها» . وفي الحديث تأييد ما لإباحة بروز المرأة في غير أهلها في نطاق الاحتشام وكون المحظور عليها هو إبداء زينتها ومفاتنها على غير محارمها. وأورد حديثا آخر رواه أبو داود والترمذي جاء فيه «كلّ عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية» وهذا الحديث كسابقه لا يمنع المرأة من الخروج.
والترائي للناس وإنما الذي يمنعه هو دواعي الفتنة والإغراء.
ويسوق بعضهم آية سورة الأحزاب وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى [33] . وهذه الآية من آيات موجهة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بدون أي لبس ولا تعميم. ومع ذلك فهناك أحاديث عديدة تفيد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن لحاجاتهن بإذن النبي ويخرجن في صحبته للغزوات والحج وينشطن في ميدان المعركة ويشهدن المساجد والمجالس. وظل أمرهن على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم(8/407)
حيث يمكن القول إن الأمر في الآية هو في صدد عدم الإكثار في الخروج والتبرّج لضرورة وغير ضرورة. ويصح أن يكون في هذا للمسلمات أسوة وتلقين ولا يتعارض مع ما قررناه آنفا.
ونستطرد إلى ما يقال ويثار حول اشتراك المرأة في الانتخابات والمجالس النيابية وما يدخل في بابها فنقول إن هذا مما يتسق مع ما ذكرناه من أهليتها وحقوقها السياسية والاجتماعية واستقلال شخصيتها وشركتها مع الرجل في الإنسانية وواجباتها وأمانتها التي قررها لها القرآن. وهي نصف المجتمع وكل ما يتقرر في هذه المجالس يتناولها كما يتناول الرجل على السواء. فمن حقها أن يكون لها فيه رأي مثله. والقول إن هذا يشغلها عن طبيعتها الجنسية والاجتماعية قول فارغ لا يقف أمام الوقائع والحقائق. فالانتخابات تقع عادة في فترات متباعدة وتشغل من أوقات الناس أياما قليلة والمرشحون للمجالس أفراد قليلون فليس في كل هذا ما يصرف جمهور النساء بل ولا جمهور الرجال عن أعمالهم المعتادة.
ويحتج البعض بأن المرأة في الصدر الإسلامي لم تشترك في شؤون الدولة والحياة الاجتماعية بمقياس واسع. ومردّ هذا إلى طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك الزمن وليس من شأنه أن يعطل الأحكام والتلقينات والمباحات القرآنية كما هو ظاهر. وحكمة الله التي شاءت أن تمنح المرأة ما منحتها من أهلية وحقوق وشخصية لا يمكن أن تكون فعلت ذلك عبثا وليبقى معطلا. ومع ذلك ففي ثنايا التاريخ الإسلامي أحداث ومشاهد كثيرة علمية وسياسية واجتماعية كان للمرأة فيها بروز حسب ما كان ممكنا ومتسقا مع العصر.
ويحتج بعضهم بآية سورة النساء الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [34] وقد علقنا على هذه الآية بما يزيل الوهم الذي يتبادر منها ويجعل الاحتجاج في غير محله. ويحتج البعض بجهل المرأة وغفلتها. وهذا كذلك كلام فارغ فالسواد الأعظم من الرجال في البلاد الإسلامية جاهلون غافلون. ولم يقل أحد إنهم يجب أن يحرموا من حقوقهم السياسية والاجتماعية بسبب ذلك، وهو إلى هذا في سبيل(8/408)
الزوال لأن المرأة كالرجل سائرة في طلب العلم والمعرفة في كل الميادين. ويورد البعض الحديث الذي يذكر فيه «إن المرأة ناقصة عقل ودين» . وقد أوردناه في مناسبات سابقة وعلقنا عليه بما يزيل الوهم من كونه عاما لجميع النساء. ويورد البعض الحديث الذي يندد بالقوم الذين يولون أمرهم امرأة. وليس هذا المقام هو محل إيراد هذا الحديث عند إنعام النظر والفكر. ويورد بعضهم الحديث الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فيه المتشبهين بالرجال من النساء والمتشبهين بالنساء من الرجال، ولسنا نرى في هذا نقصا لما نقرره لأننا لسنا قائلين بأن تضيع المرأة أنوثتها وطبيعتها وتتشبه في أطوارها وحركاتها وأزيائها بالرجال تشبها يذهب بتلك المعالم والطبيعة أو يعطلها. وما نراه يصح للمرأة المسلمة عمله إنّما يصح ويكون له معناه في حالة احتفاظ المرأة بهذه المعالم والطبيعة وفي سبيل ذلك.
ونريد أن نستدرك أمرا، وهو أن ما قلناه في صدد حق المرأة المسلمة أن تباشر وتمارس وتشهد كل عمل واجتماع مشروع ليس فيه ريبة شخصيا كان أم اجتماعيا أم سياسيا أم تكسبيا وأنه ليس هناك نصّ من كتاب وسنّة يمنع ذلك ما دام في نطاق التلقينات والحدود والرسوم القرآنية والنبوية، إنما نقوله لنقرر هذا الأمر من حيث المبدأ. وإننا لا نعني أن لا يكون لطبيعة المرأة الأسرية والاجتماعية ولا لطبيعة المجتمع الإسلامي من اعتبار. فنحن نعتقد أن مكان المرأة وعملها الطبيعيين والرئيسيين هما البيت والزوجية والأمومة ومشاغلها. وهذا مما يقرره كتاب الله وسنة رسوله صراحة وضمنا وهما مكان وعمل خطيران ومهمتان حيويتان في الحياة الإنسانية من مختلف الاعتبارات وليس فيهما أي حطّ لقيمة المرأة وشأنها أو تعطيل لقواها ومواهبها. والمرأة فيهما تقوم بما يماثل قيمة ومدى ما يقوم به الرجل من أعمال. وكل ما هناك من فرق هو اختلاف في النوع متأتّ عن اختلاف في الطبيعة الجنسية. ولقد اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم ربة البيت والمسئولة عنه وراعية في الحديث الصحيح المشهور الذي رواه الخمسة عن ابن عمر «ألا كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته» حيث جاء فيه «والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم» . وهذا ما تشعر به المرأة ظاهرا وخفيا وتسلّم به وتسعى في سبيله،(8/409)
ولو سئلت النساء عما يفضلنه لكان جواب سوادهن الأعظم الزواج والأمومة والبيت. ويستوي في ذلك كلهن على اختلاف الظروف والحالات والأدوار والأطوار. لأنه الأمر الطبيعي الذي أعدهن الله تعالى له. وعلى هذا كله فكل عمل يمكن أن يخل إخلالا جوهريا بذلك يخرج عن صفة (المشروع) ولو كان في حد ذاته مشروعا. وكل عمل مشروع يصح أن تمارسه المرأة في نطاق الاحتشام يجب أن يكون متسقا مع ذلك.
فالمرأة التي تسمح لها مشاغل البيت والزوجية والأمومة، أو المرأة التي لم يتيسر لها أن تشتغل بهذه المشاغل هي التي يصح أن تمارس ذلك العمل المشروع الذي لا تمنع الشريعة الإسلامية ممارسته.
وهناك أمران آخران. الأول: هو ملاحظة كون الرجل في الشريعة الإسلامية هو المكلف بالإنفاق على المرأة. وهو المرشح الأول والطبيعي نتيجة لذلك للأعمال التكسبية التي يجني منها ما يحتاج إليه من النفقة المكلف بها. فإذا اندفعت المرأة نحو الأعمال التكسبية من وظائف ومهن اندفاعا واسعا فيه احتمال لمزاحمة الرجل وتضييق مجال وفرص تكسبه، مكانا أو مقدارا أو قيمة، أصبح ذلك غير مشروع لأنه يعطل أو يعسّر واجب الرجل الذي أناطت الشريعة الإسلامية به الإنفاق في حين أنه لا يكون في الأعم الأغلب بديلا عنه، فضلا عن أنه لا يصح أن يكون بديلا عنه لأن ذلك يكون قلبا للأوضاع الطبيعية والجنسية والشرعية.
فالحق عندنا والحالة هذه هو أن يكون اضطلاع المرأة بالأعمال التكسبية في النطاق الذي لا يضار به الرجل من جهة، ومنوطا بالدرجة الأولى بالحاجة والضرورة من جهة أخرى.
أما الأمر الثاني: فهو مراعاة وجوب انطباق الأعمال التكسبية التي تضطلع بها المرأة في النطاق المذكور على طبيعتها الجنسية وأن لا تكون مما يرهقها ويذهب بأنوثتها سواء أكان ذلك مما تؤهلها له ثقافتها ودراستها أم بنيتها وخبرتها ومرانها.
فالطبابة والصيدلة والتعليم والمحاسبة والكتابة مثلا أكثر انطباقا على المرأة الجامعية من هندسة الطرق والميكانيكيات المتنوعة. والغزل والزخرف والخياطة والتطريز(8/410)
والرسم والتجارة والعمل الديواني والهاتف مثلا أكثر انطباقا على غير الجامعية من الحدادة والنجارة والنحاتة والطباعة إلخ. والله أعلم.
وقبل أن ننتهي من هذا البحث نريد أن نستدرك أمرا مستلهما من حديث أوردناه في تفسير سورة الروم رواه أصحاب السنن جاء فيه جواب على سؤال أي النساء خير فقال النبي «الذي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» ولقد علقنا على هذا الحديث سابقا بما فيه الكفاية. ولكن نقول هنا إنه يحسن على ضوئه أن يكون نشاط المرأة المتزوجة خارج البيت سياسيا كان أم اجتماعيا أم تكسبيا مقترنا برضاء الزوج. لأن عدم رضاه قد يؤدي إلى النزاع والشقاق. وعلى الزوج العاقل الذي لا بد من أن يدرك من نصوص كتاب الله وأحاديث النبي أن المرأة مؤهلة لذلك النشاط وأنه غير مخالف للكتاب والسنة وإن فيه مصلحة وفائدة عامة وخاصة أن يرضى عنه ويباركه ولا يضع العراقيل في طريقه إذا لم يكن حقا شاغلا للزوجة عن واجباتها الزوجية الأساسية. أما إذا لم يفعل رغم ذلك ورأت الزوجة أن معارضة زوجها ضارة بها فلها إذا أحبت أن تدافع عن نفسها وحقها إذا كانت ترى أن نشاطها مشروعا لا بد منه لمصلحتها ومصلحة زوجيتها ومجتمعها اقتداء بالمرأة التي فعلت ذلك وأقرها الله ورسوله عليه على ما جاء في أول سورة المجادلة قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ... [1] وأن ترفع الأمر إلى الحاكم ليحل الخلاف ويقر الأمر في نصابه الحق في نطاق ومدى آية سورة النساء وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ... [35] التي شرحناها سابقا. والله أعلم.
وكلمة أخرى نقولها في صدد واجب الزوجة بطاعة زوجها أن يكون ذلك في معروف وفي غير معصية ومنكر وفيه خير ومصلحة. وهذا مستلهم من آية سورة الممتحنة التي أمر النبي فيها بقبول بيعة النساء بعدم عصيانه في معروف يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ(8/411)
فَبايِعْهُنَّ ...
[12] ومن حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . فإذا أمر زوج زوجته بأمر فيه منكر وليس فيه خير ومصلحة فلا طاعة له عليها وإن أصرّ فلها أن تدافع عن نفسها وترفع أمرها إلى الحاكم ليضع الأمر في نصابه الحق.
هذا، وواضح من كل ما تقدم في سياق الآيات التي نحن في صددها والتي قبلها أن الآداب والتلقينات والحدود القرآنية والنبوية ترسم لحياة المرأة وعلاقتها بالمجتمع نطاقا تدور فيه من غير إفراط ولا تفريط. وتكفل لها جميع حاجاتها وتسمح لها بكل ما يأتلف مع الحق والمنطق والأدب والخلق الكريم والذوق السليم والعفة والطهارة من حرية وتعليم ومن تصرف وكسب واستمتاع بريء ومشاركة في الواجبات العامة الرسمية وغير الرسمية والاجتماعية وغير الاجتماعية. وكل ما تشدد عليه هو عدم تبذلها وتهتكها. وإذا كان لها أن تختلط في الناس والمجتمع في هذا النطاق فإن الاختلاط المريب الذي فيه تورط في الفتنة وإغراء بها وتشجيع على الإثم والخفة في الظهور بدون ضرورة وغشيان الأماكن العامة غير البريئة من مراقص وملاه ومقاه وملاعب وأندية ومسابح وتعاطي المحرمات والمغريات فيها هو حرام وخارج عن ذلك النطاق من دون ريب. هذا بالإضافة إلى وجوب التزامها نطاق وظيفتها الطبيعية الرئيسية وهي البيت والزوجية والأمومة في الدرجة الأولى وعدم استغراقها خارج ذلك استغراقا يعطلها عن هذه الوظيفة.
وليس من ريب في أن التعاليم القرآنية والنبوية تهيء لأولي الأمر في الدولة وسيلة عقيدية لتنظيم الأمر وجعله في دائرة الحق والآداب من جهة والحيلولة دون ما يتنافى مع ذلك من جهة وضمانة تمتع المرأة بحريتها وحقوقها وتعليمها ومشاركتها في مختلف الشؤون السياسية والاجتماعية في النطاق المرسوم من جهة ومواجهة وضد التيارات الغربية الجارفة الهدامة التي تهدد المجتمع الإسلامي من جهة، والله أعلم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 40.(8/412)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
[سورة النور (24) : آية 32]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)
. (1) الأيامى: غير المتزوجين وتشمل الكلمة الذكور والإناث والأبكار والثيبات.
(2) الصالحين: المتبادر أنها هنا بمعنى الصالحين للزواج، القادرين على القيام بحقوقه.
(3) عبادكم: الرجال من الرقيق.
في الآية حثّ للمسلمين على تزويج الذين لا أزواج ولا زوجات لهم من الرجال والنساء. وعلى تزويج الصالحين للزواج من رقيقهم رجالا كانوا أم نساء.
وفيها وصية ضمنية بأن لا يكون الفقر مانعا من ذلك. فإذا كانوا فقراء فإن الله قادر على إغنائهم من فضله. وهو ذو الفضل الواسع العليم بمقتضيات الأمور.
تعليق على الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وما فيها من أحكام وتلقين
والآية تحتوي موضوعا مستقلا عن الفصل السابق كما يبدو. غير أن التناسب الموضوعي غير مفقود. ولم نطلع على رواية في نزول الآية. وقد أورد المفسرون في سياقها حديثا نبويا عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» «1» . وهذا الحديث يجعل بين هذه الآية والفصل السابق صلة تعقيبية على اعتبار أن المتزوجين أبعد عن الافتتان وأقدر على العفة واجتناب مزالق الفاحشة وهذا مما استهدفه الفصل السابق كما لا يخفى. ولفظ الحديث
__________
(1) البغوي والخازن وابن كثير. والباءة هنا: بمعنى الزواج أو النكاح، وكلمة (وجاء) بمعنى وقاء. والحديث رواه الخمسة (انظر التاج ج 2 ص 253- 254) .(8/413)
متصل بما جاء في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت مع الفصل السابق أو عقبه فوضعت في ترتيبها، وإلّا فيكون ذلك بسبب التناسب الموضوعي.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر على سبيل الندب والحثّ والاستحباب «1» . كما ذهب بعضهم إلى أنه على الوجوب على كل قادر «2» .
وأسلوب الآية ينطوي على تلقين قوي بوجوب الزواج بصورة عامة حتى ليشمل الرقيق وحتى لينهى عن أن يكون الفقر أو ضيق الرزق عثرة في سبيله أمام الراغبين في الزواج والصالحين له من النساء والرجال بما فيهم العبيد والإماء. ولا سيما أن أكثر حالات الفقر ليست انعدام القدرة بالمرة، وإنما هي ضيق رزق مع القدرة على المهر والنفقة في نطاق الاعتدال أو الكفاف والكسب وهذا منطو في مضمون الآية ويؤيده أن الآية التالية ذكرت عدم الاستطاعة بالمرة. وفي كل هذا حكم اجتماعية وأخلاقية وإنسانية رائعة.
والمتبادر أن الأمر موجه بنوع خاص إلى أولياء الفتيات ومالكي الرقيق لأنهم هم الذين قد يكون المنع من جانبهم. ولعل مما ينطوي فيها إيجاب الاعتدال في المهور وعدم الشطط أمام حالة ضيق الرزق التي هي حالة الجمهور الأعظم من الناس. ولا تخلو في الوقت نفسه من حثّ جمهور المسلمين على المساعدة على تحقيق ما أمرت به الآية. وبخاصة الفقرة الأخيرة المشجعة التي جاءت في آخرها.
وهذا وذاك من جملة تلك الحكم البليغة السامية.
ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا نبويا مشهورا على ألسنة المسلمين جاء فيه «تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم» . وحديثا آخر ورد في حديث طويل رواه الشيخان والنسائي جاء فيه «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالّوا فقالوا وأين نحن من رسول الله فقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فقال أحدهم أما أنا فإني أصلّي الليل أبدا. وقال
__________
(1) البغوي.
(2) ابن كثير.(8/414)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
آخر أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «ثلاثة حقّ على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله» «2» وفي الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني في الحثّ على الزواج وعلى المساعدة فيه كما هو المتبادر.
[سورة النور (24) : آية 33]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
. (1) نكاحا: هنا بمعنى قدرة مادية على الزواج.
(2) الكتاب: بمعنى المكاتبة. وهي اصطلاح يراد به افتداء العبد نفسه بمال يتعهد بأدائه لسيده، فإذا أداه أصبح حرا. ولعلها تنطوي على معنى التعاقد بين السيد وعبده.
(3) خيرا: هنا بمعنى الصلاح والقابلية وحسن الخلق والقصد والصدق والوفاء.. إلخ.
هذه الآية احتوت ثلاثة أمور:
الأول: تنبيه للذين لا يقدرون ماديا على التزوج إلى واجب التزام العفة حتى
__________
(1) التاج ج 2 ص 254. وتقالّوا تعني أنهم رأوا ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قليلا ...
(2) المصدر نفسه. والمكاتب هو الرقيق الذي يتفق مع مالكه على شراء نفسه بنفسه. وهذا مما سيأتي الكلام عنه في آية تأتي بعد هذه الآية.(8/415)
يغنيهم الله من فضله وتجنب الإثم ومزالقه.
الثاني: أمر لمالكي الرقيق بمكاتبة رقيقهم إذا طلبوا ذلك، وكانوا صالحين له مع حثّ المالكين وغيرهم على التصدق عليهم من مال الله الذي آتاهم.
الثالث: نهي عن إكراه الفتيات على البغاء إذا أردن التحصن ابتغاء المال وعرض الدنيا مع الإنذار للمكرهين والوعد بالمغفرة للمكرهات.
تعليق على الآية وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً إلخ وما فيها من أحكام وتلقين
روى المفسرون أن الأمر الثاني في الآية نزل في حقّ عبد لحويطب بن عبد العزى طلب من سيده المكاتبة. فأباها فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أمر الله بذلك أمره النبي بمكاتبة فكاتبه على مائة دينار. وأن الأمر الثالث نزل في حقّ عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان يجبر أمتين له على التكسب من البغاء وإعطائه ما تكسبان فشكتا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فمنع بالأمر القرآني. وهذه الرواية رويت بطرق عديدة وفي حديث رواه مسلم عن جابر قال «كان لعبد الله بن أبي بن سلول جاريتان إحداهما تسمّى مسيكة وأخرى تسمّى أميمة فكان يكرههما على الزنا فشكتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية..» «1» ولم يرو المفسرون رواية عن نزول الفقرة الأولى. والروايات قد تقتضي أن تكون الآية نزلت مجزأة وفي أوقات متباعدة فيما يبدو غريبا.
ونلاحظ:
(1) أن الفقرة الأولى من الآية متصلة اتصالا تاما بموضوع الآية السابقة.
(2) أن الموضوع الثالث يحتمل معنى آخر غير معنى التكسب بالبغاء. وهو
__________
(1) التاج ج 4 ص 171 و 172 وانظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي.(8/416)
النهي عن عدم تزويج الفتيات أو الامتناع عن تزويجهن لأسباب مادية إذا ما أظهرن رغبة في الزواج توكيدا لاتباع فحوى الآية السابقة وتفاديا من التورّط في الإثم.
وقد عبّر عن الرغبة في الزواج بجملة إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وقد جاء في هذا المعنى في آيات عديدة من ذلك آية سورة النساء [24] التي فيها تحريم وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ بمعنى المتزوجات وآية سورة النساء [25] التي فيها جملة فَإِذا أُحْصِنَّ بمعنى إذا تزوجن بل نحن نرى أن هذا المعنى هو الذي يستقيم أكثر من معنى الإجبار على البغاء لأخذ أجرته.
(3) أنه ليس من المستبعد أن تكون المكاتبة التي يحثّ عليها الأمر الثاني متصلة بتزوج العبيد الذي حثت عليه الآية السابقة. لأن من المعقول أن يرى العبد حرصا من الزواج مع العبودية أو مانعا بسببها فيطلب التحرر قبل الإقدام عليه.
فإذا صحّت هذه الملاحظات فتكون الآية كلها متصلة بالآية السابقة سياقا وموضوعا وتكون فقراتها الثلاث وحدة متوافقة. وهذا لا يمنع من أن يكون واحد من العبيد أبى سيده عليه المكاتبة فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن بعض الفتيات راجعن النبي صلى الله عليه وسلم بسبب امتناع ذويهن أو مالكيهن من تزويجهن وإكراههن على البغاء نتيجة لذلك فاقتضت حكمة التنزيل التنبيه على ما يجب في الأمرين في سياق التعقيب على الآية السابقة ليكون الحكم عامّا. والله تعالى أعلم.
ويبدو أن حثّ غير القادرين على الزواج على التعفف متصل بما يبرره الأعزب لنفسه وبما تبرره له الطبيعة وبسبيل التنبيه على ما في الزنا من إثم عظيم على كل حال. وواضح أنه ليس من تناقض بين الفقرة الأولى من الآية وبين ما في الآية السابقة من الحثّ على الزواج وعدم جعل الفقر عثرة في سبيله. فمما لا ريب فيه أنه قد يكون حالات من الفقر والعسر تحول دون الزواج. والمتبادر أن حكمة التنزيل قد لحظت هذه الحالات فأمرت في الفقرة الأولى بالتزام العفة فيها. ولقد لحظت حكمة التنزيل في آية سورة النساء [25] حالة عجز الحرّ عن التزوج بالحرة لأسباب مادية، فأذنت له بالتزوج من أمة لأن ذلك أقل كلفة حيث يبدو أن الحالة الجزء الثامن من التفسير الحديث 27(8/417)
الملحوظة هنا هي خاصة بمن لا يستطيع ماديا التزوج مطلقا من حرة أو أمة على السواء.
والجملة الأخيرة من الآية متسقة مع التلقينات القرآنية والنبوية في شأن عفو الله وغفرانه لمن يكره على اقتراف إثم ما على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
ولعلّها في مقامها تنطوي على تلقين بعدم التزمت في التزوج من المكرهات على البغاء أو المعتدى على أعراضهن من الفتيات إذا ما تبن وأظهرن الصلاح وأردن التحصن والتعفف.
مدى حثّ القرآن على مكاتبة المماليك وكونها وسيلة من وسائل تحريرهم وما ورد في ذلك
والمكاتبة وسيلة من وسائل تحرير الرقيق. وصيغة الآية قد تلهم أنها كانت جارية قبل نزولها أيضا كما هو شأن عتق الرقاب فأكدها القرآن لأنها مما يتسق مع ما حثّ عليه في مختلف المواضيع والمناسبات. وما تضمنته الآية من الحثّ على التصدق على المكاتبين ينطوي على توكيد وجوب تسهيل تحريرهم وعتقهم كما هو المتبادر. وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة وأوردناه قبل تدعيم حيث جاء فيه أن المكاتب الذي يريد الأداء من الذين حقّ على الله عونهم.
وفي كتب التفسير «1» أحاديث وأقوال في أحكام المكاتبة صارت مستندات لمذاهب فقهية بالإضافة إلى محتوى الجملة.
فأولا: هناك خلاف فيما إذا كان الأمر بالمكاتبة هو على سبيل الإيجاب أم الاستحباب. وقد استند الذين قالوا بالإيجاب إلى ظاهر الآية التي تأمر بالمكاتبة إذا ما طلبها المملوك وإلى حديث رواه قتادة عن أنس بن مالك مفاده أن مملوكه سيرين طلب المكاتبة فتلكأ فشكاه إلى عمر بن الخطاب فأمره بمكاتبته وفي رواية
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي في صدد جميع ما جاء في هذه النبذة.(8/418)
علاه بالدرة على تلكؤه. وقد يكون هذا الرأي هو الأوجه المتسق مع روح التلقين القرآني العام بتحرير الرقاب إطلاقا. وإن كان يرد أن جملة إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً في الجملة تجعل الأمر منوطا بتقدير المالك وتضعف قوة الإيجاب. على أن ما روي في سبب نزولها ومداخلة النبي بعد نزولها وما روي من مداخلة عمر قد يسوغ القول إن ولي الأمر يمكن أن يكون مرجعا في هذا التقدير ونافذ الأمر في القضية. والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً حديثا مرسلا رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تفسير لها ونصه «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلابا على الناس» . وروى الطبري أقوالا لعلماء تابعين تفيد أنها تعني القوة على الأداء وقوة الاحتراف والاكتساب أو الصدق والوفاء والأمانة والصلاح. وكل هذا أيضا مما تتحمله الجملة.
وثانيا: هناك توسيع وتضييق في هوية المخاطب بجملة وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ حيث قيل إنهم مالكو العبيد كما قيل إنهم الميسورون عامة.
والقول الثاني هو الأوجه على ما هو المتبادر لأن به مساعدة على تحقيق أمر الله أكثر. والأمر على كل حال في الجملة قوي اللهجة في صدد مساعدة المكاتب على أداء بدل كتابته. ومن الجدير بالذكر أن تحرير الرقاب من جملة المصارف التي عيّنها القرآن للزكاة على ما سوف نشرحه في سياق الآية [60] من سورة التوبة.
وثالثا: لقد استنبط المؤولون والفقهاء من الجملة القرآنية وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أن المملوك بمجرد أن يكاتب أي يتفق مع مالكه على شراء نفسه يصبح صاحب حق في كسبه وأهلا للزكاة من مالكه وغيره والتصرف فيهما نتيجة لذلك. والجمهور على أن مولى المكاتب بعد الاتفاق يفقد حق العودة عن مكاتبته والتصرف في مملوكه وأولاده تصرفه الأول من هبة وبيع واستغلال إلّا إذا نكث ولم يف بما تعهد من أداء الأقساط حيث ينفسخ الاتفاق ويعود حق المالك على المملوك وأولاده كما كان. وتظل صفة المملوكية نتيجة لذلك قائمة إلى أن(8/419)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
يتم أداء بدل المكاتبة. وحينما يتم يتحرر المملوك هو وأولاده.
ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه «أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» «1» . وليس من تناقض بين هذا وبين ما تقدم كما هو ظاهر. ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا آخر عن أم سلمة قالت «قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكنّ مكاتب عنده ما يؤديه فلتحتجب منه» «2» . حيث ينطوي في هذا أن المكاتبة تخرج المملوك من صفة العبودية المطلقة بمجرد الاتفاق عليها فلا تعود مالكة المكاتب محرمة عليه ويكون عليها أن لا تبدي زينتها ومفاتنها أمامه لأن آية النور [31] أباحت لها ذلك أمام مملوكها.
ورابعا: هناك اختلاف في المكاتب المتوفى قبل أداء جميع ما عليه. وكان له مال. فقد قال بعضهم إن المكاتبة تنفسخ ويكون ما تركه من مال وأولاد ملكا لسيده. وقال بعضهم إنها لا تنفسخ وإنه ليس للمالك إلا استيفاء ما بقي له من ماله ويكون أولاده أحرارا ويرثون ما فضل من مال أبيهم. والحق والوجاهة والاتساق مع هدف التشريع القرآني في جانب القول الثاني كما هو المتبادر ولقد أصبح المكاتب أهلا لكسبه وللزكاة والتصرف فيهما على ما شرحناه في الفقرة الثالثة.
[سورة النور (24) : آية 34]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
. عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية ما في مناسبتها. ويتبادر لنا أنها معقبة على الآيات السابقة جميعها أو القريبة منها. وبسبيل تنبيه المسلمين إلى ما يجب عليهم من التزام أحكام الله وتعاليمه وأوامره ونواهيه المبينة في الآيات السابقة. فالله قد أنزل إليهم آيات واضحات، فيها بيان ما يجب عليهم من الأحكام وواجبات السلوك، كما أنزل إليهم أخبارا من الأمم السابقة وما حل في الذين
__________
(1) التاج ج 2 ص 249.
(2) المصدر نفسه.(8/420)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
خالفوا أحكام الله وانحرفوا عن حدوده، ليكون ذلك مثلا وعظة يتمثل ويتعظ بها الذين يخافون الله ويتقونه ويراقبونه.
وهذا النوع من الآيات كثير في النظم القرآني وقد مرّت منه أمثلة كثيرة.
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
. (1) مشكاة: قيل إنها الكوّة غير النافذة في الجدار، التي يوضع فيها السراج.
وقيل هي القنديل الذي يوضع فيه السراج والمادة الدهنية التي يغمس فيها الفتيل أو الحدائد التي يعلق بها القنديل. وقيل إنها معربة. وقيل إن لها أصلا في الفصحى وهو الشكوة بمعنى القربة. ومقامها يلهم أنها آنية صافية أو أنها القنديل الذي يعلق في السقف. وهذا هو الذي تعرف به الآن.
(2) مصباح: قيل إنه السراج وقيل إنه القنديل. وقيل إنه الفتيلة المضيئة ونرجح القول الأخير، استلهاما من روح العبارة ومداها.
(3) درّيّ: نسبة إلى الدرّ. وهو اللؤلؤ، بقصد تشبيه اللون والصفاء واللمعان. وكان العرب يسمون النجم الشديد اللمعان والسطوع كوكبا دريّا وجمعه دراري.
قد تكون هذه الآية بدء فصل جديد لا صلة له بالسابق. وقد تكون متصلة بالآية السابقة بسبيل التنويه بنور الله الساطع فيما أنزله من الآيات. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني استلهاما من المناسبة.
وقد احتوت كما يتبادر لنا:
(1) تقريرا بأن الله هو نور السموات والأرض جميعا، أي منورهما بنوره.(8/421)
(2) وتمثيلا لنوره بما يمكن أن يفهمه الناس من مشاهد الدنيا وأمثلتها تقريبا لأذهانهم: فنوره مثل نور زيت شجرة الزيتون المباركة التي نبتت في أحسن البقاع وأكثرها اعتدالا، فليست في أقصى الشرق فتشتد عليها حرارة الشمس ولا في أقصى الغرب فتشتد عليها البرودة، فجاء زيتها نقيا صافيا وقد وضع في زجاجة صافية بيضاء لامعة كأنها كوكب دري. وقد وضع المصباح في الزجاجة ووضعت الزجاجة في مشكاة. والمصباح يوقد من ذلك الزيت النقي الصافي الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار ويكون نورا لغيره الموضوع في تلك الزجاجة التي كأنها كوكب دريّ بلمعانها وصفائها. وهذا مثل نور الله الذي هو نور في ذاته ونور لغيره.
(3) وتعقيبا على هذا التمثيل بأن الله إنما يهدي لنوره من يشاء وأنه يضرب الأمثال للناس ليتدبروها وأنه العليم بكل شيء ومقتضيات كل شيء.
والمتبادر لنا كذلك أن الآية من حيث الإجمال أسلوب من أساليب تقريرات القرآن لعظمة ذات الله وآثاره الباهرة الظاهرة في السموات والأرض.
وقد استهدفت تقرير كون نور الله وهداه في آياته قد بلغا من الظهور والسطوع والصفاء والسناء أقصى الغايات، فإذا لم يهتد بهما أحد ما فلن يكون ذلك بسبب غموض أو خفاء أو ضعف نور وجلاء فيهما، وإنما يكون بسبب قصور فيه. فالله إنما يهدي لنوره من يشاء ممن حسنت نياتهم وطابت سرائرهم ولم يتعمدوا الضلال والغواية. أما خبثاء النية والطوية المعاندون المكابرون فهم عمي لا يبصرون نور الله فلا يهتدون به. ولعلّ في الآيات التالية قرائن مؤيدة لهذا التوجيه إن شاء الله.
ولقد صرف بعض المؤولين من التابعين على ما ورد في بعض كتب التفسير الضمير الغائب في نُورِهِ إلى المؤمن. وقالوا إن الآية مثل ضربه الله للمؤمن. ولكن الجمهور على أنه نور الله تعالى. وهذا هو الأوجه المتسق مع نصّ الآية.(8/422)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
ولقد أورد المفسرون تأويلات عديدة للآية منها أنها مثل ضربه الله لتبيين هدى نور الله وأثره. ومنها أنها مثل ضربه الله لنبيه. فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح النبوة والشجرة المباركة هي شجرة إبراهيم الحنيف المسلم، لا شرقية ولا غربية أي لا يهودية ولا نصرانية. ومنها أنها مثل ضربه الله لطاعته فسماها نورا وأضاف هذا النور إلى نفسه تفضلا. ونلمح في هذه التأويلات شيئا من التكلّف ونرجو أن يكون كما تبادر لنا هو الصواب «1» .
وفي كتب تفسير الشيعة روايات معزوة إلى أئمتهم في تأويل الآية فعن الرضا قوله «نحن المشكاة والمصباح فيها محمد يهدي لو لايتنا من أحبّ» وعن أبي جعفر قوله «نور العلم في صدر النبي المصباح في زجاجة. والزجاجة صدر علي. فصار علم النبي إلى صدر علي. ومعنى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أي يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل. ومعنى نور على نور أي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد مثله. فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه وحجته على خلقه لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم كما لا تخلو السماوات والأرض من نور الله» «2» . والتكلف والهوى الحزبي ظاهران في هذه الروايات.
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) .
__________
(1) انظر الأقوال والتأويلات في كتب الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. وهناك أقوال وتأويلات أخرى من بابها لم نر ضرورة لإيرادها.
(2) انظر تفسير الطبرسي وهو من معتدليهم. [.....](8/423)
تعليق على الآية فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) والآيتين التاليتين لها وما ورد في صدد فضل المساجد وآدابها
قال بعض المفسرين: إن فِي متعلقة بمحذوف تقديره (سبحوا) أي سبحوا الله في بيوت أذن الله أن ترفع «1» . وهذا يجعل الآيات فصلا جديدا متصلا بما بعده، غير أن معظم المفسرين قالوا إنها متعلقة بالمشكاة التي مثل الله نوره في الآية السابقة بنورها، على اعتبار أن مشاكي بيوت العبادة أكبر المشاكي ونورها أقوى الأنوار «2» . ونحن نرجح هذا على القول الأول لأنه متسق مع معنى الآيات ومداها. وبذلك تكون هذه الآيات بمثابة استطراد وانتقال لتقرر أن نور الله قوي هاد كنور المشكاة الكبيرة ذات النور الساطع التي تكون في بيوت العبادة التي أمر الله برفع أركانها وتكريمها بذكر اسمه والتي يسبح له فيها عباده المهتدون بنوره الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، حاسبين حساب اليوم الآخر الذي تضطرب فيه القلوب وتزيغ الأبصار. ولسوف يجزيهم الله جزاء يتكافأ مع أحسن أعمالهم ويزيدهم من فضله أيضا. وهو الواسع الفضل، إذا أعطى أحدا فإنه يعطيه بدون حساب.
والمعنى مستقيم بهذا الشرح كما هو واضح. ومع أن ذكر بيوت الله جاء إتماما لمدى تمثيل نور الله بالمشكاة فالمتبادر أن ذكر عباد الله قد جاء بمثابة استطراد. وليس هذا غريبا في النظم القرآني. وقد تضمن الاستطراد في الوقت نفسه تنويها ببيوت العبادة وإيجاب تكريمها وتطهيرها. وبعباد الله المخلصين واهتدائهم بنور الله وما يسّره لهم هذا النور من السير في الطريق القويم الذي نجحوا به وسعدوا.
__________
(1) انظر الزمخشري والنسفي.
(2) انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والخازن وابن كثير. والزمخشري والنسفي قد أوردا القول الثاني أيضا.(8/424)
ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن نصّ الآيات وروحها يلهمان أن المقصود من البيوت هي التي يذكر فيها اسم الله عز وجل ويعبد دون غيره ودون ما شائبة واختصاص أو تأويل أو غموض. وهذه الأوصاف عدت بعد البعثة المحمدية منحصرة في مساجد المسلمين التي يذكر فيها ويعبد ربّ العالمين جميعا، المتصف بجميع صفات الكمال الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
هذا ويحسن أن ننبه على أمر في هذا المقام وهو أن ما احتوته الآيات من التنويه بعباد الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله لا ينفي أن يؤخذ على أنه تنويه بالذين هم ينقطعون لذكر الله ولا يتعاطون تجارة ولا بيعا. ولا على أنه تنديد بالمشتغلين بالتجارة والبيع وأمور الدنيا. ففي العبارة القرآنية نفسها ما يفيد أن التنديد يكون لمن يشغله ذلك عن واجباته نحو الله والناس وحسب وأنه لا يتوجه إلى من يشتغل بأمور الدنيا دون أن يشغله ذلك عن هذه الواجبات. وفي القرآن آيات كثيرة مرّت أمثلة منها مكية ومدنية فيها تسويغ لابتغاء فضل الله وحثّ على السعي في مناكب الأرض. مما هو بديهي وفيه قوام الحياة. ومتسق مع مقاصد القرآن. وفي آية سورة الجمعة هذه فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) تفسير صريح للمراد من هذا الشرح والتنبيه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث عديدة في فضل بناء المساجد وآدابها منها ما ورد في الكتب الخمسة. فمن ذلك حديث رواه الخمسة إلّا أبا داود عن عثمان بن عفان قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنّة وفي رواية بيتا في الجنة» «1» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظّف وتطيّب» «2»
__________
(1) التاج ج 1 ص 205 و 213.
(2) المصدر نفسه، وحديث عائشة يفيد أنه يحسن بالمسلم أن يكون في بيته ركن خاص يكون بمثابة مسجد له ويعنى بنظافته وتطييبه.(8/425)
وروى الشيخان وأبو داود عن أنس «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكّها بيده ورؤي منه كراهية وقال إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربّه فلا يبزقنّ في قبلته ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال يفعل هكذا» «1» وروى مسلم عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا» «2» . وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربنّ مسجدا وفي رواية فلا يقربنّ مساجدنا، حتى يذهب ريحها» «3» وروى الترمذي والنسائي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء فيه وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة» «4» . وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أمرت بتشييد المساجد» . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» «5» . وروى مسلم والنسائي عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك» «6» وروى الترمذي عن ابن عمر قال «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلّى في سبع مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام» «7» وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام والمقبرة» «8» . وروى الخمسة إلا أبا داود عن
__________
(1) التاج ج 1 ص 205 و 213.
(2) المصدر نفسه ص 215- 219.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه، وننبه على أن النهي هو عن أن يكون مكان ما قبرا لصالح أو نبي ثم يتخذ مسجدا وفرق بين هذا وبين أن يكون المكان في الأصل مسجدا ثم يدفن في طرف منه صالح أو نبي. وقبر النبي وصاحبيه من هذا الباب لا من الأول.
(7) المصدر نفسه ص 220.
(8) التاج ج 1 ص 219.(8/426)
أبي هريرة حديثا عن النبي جاء فيه «وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا» «1» .
وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. وزاد ولكن ليخرجن وهنّ تفلات» «2» . وروى الخمسة عن عباد بن تميم عن عمه «أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى» «3» . وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال «بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد» «4» وروى ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تتخذ المساجد طريقا ولا يشهر فيها سلاح ولا ينبض فيها بقوس ولا ينثر فيها نبل ولا يضرب فيها حدّ ولا تتخذ سوقا» «5» وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنّة نزلا كلّما غدا أو راح» «6» وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا عن سبعة يظلّهم الله في ظلّه منهم «رجل قلبه معلّق في المساجد» «7» وروى مسلم والنسائي والترمذي عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من تطهّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» «8» .
وليس ما أوردناه هو كل ما هناك من أحاديث في المساجد فاكتفينا بما تقدم.
__________
(1) التاج ج 1 ص 205 وكلمة مسجد في هذا الحديث تعني مكان سجود حيث يجوز للمسلم أن يصلي في أي مكان طاهر.
(2) المصدر نفسه ص 211 ومعنى تفلات أي غير متعطرات. [.....]
(3) المصدر نفسه ص 214.
(4) المصدر نفسه.
(5) من تفسير ابن كثير.
(6) التاج ج 1 ص 206 و 207.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه.(8/427)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
وهناك أحاديث كثيرة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود في مسجده ويتناظر معهم ويتبادل معهم العهود، ويراجعه الناس في مسجده بمشاكلهم المتنوعة ويقضي بينهم. ويعقد لقواده الرايات. ولقد أصيب سعد بن معاذ بسهم في واقعة الخندق فضرب النبي عليه خيمة في مسجده يعوده من قريب «1» ، وجعل له امرأة تعالجه. هذا فضلا عن مجالسه الوعظية التي كان يتحلق فيها حوله أصحابه يسمعون منه ويسألونه. حيث يفيد كل هذا ما كان مسجد رسول الله يتسع له من نشاط ديني ودنيوي معا. وفي سورة المائدة هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) حيث ينطوي فيها صورة مجلس قضائي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده. ولقد سار خلفاء النبي الراشدون على هذا. فكان المسجد دار خلافة ونشاط سياسي وديني معا. وإذا كان أولو أمر المسلمين أخذوا يتخذون دورا غير المسجد للحكم فإن المساجد كانت وظلّت منذ الصدر الإسلامي مكان علم وتعليم لطلاب العلم بالإضافة إلى كونها مكان وعظ ودرس علم لسواد المسلمين. وبالتالي ظلت تتسع لشؤون عامة غير الصلاة أيضا.
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
. (1) سراب. هو الظاهرة التي تظهر في القيعان في ظروف طبيعية خاصة بمظهر الماء والبحيرات.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 377.(8/428)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
(2) قيعة: قاع. وهي السهل الذي فيه شيء من الانخفاض.
(3) لجّي: عميق.
في الآيات تنديد بالكفار مقابل التنويه بعباد الله الصالحين في الآيات السابقة جريا على الأسلوب القرآني في المناسبات المماثلة. وقد تضمنت تقرير ما يلي: أن الذين كفروا ولم يهتدوا بنور الله الساطع لن يكون لهم نور آخر يهتدون به. وأن أعمالهم لخاسرة حابطة مهما خيّل لهم غير ذلك. وأن مثلهم كمثل ذلك الظمآن الذي رأى سرابا في قيعة فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئا فوقع في الخيبة المريرة. أو كمثل الذي هو فوق بحر عميق تلاطمت حوله الأمواج الصاخبة فسدت عنه أفق الساحل وادلهمّ وجه السماء بالسحب القاتمة، وكان الوقت ليلا مظلما فاكتنفته هذه الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، حتى لا يكاد يرى يده لو رفعها- فضلا عن الطريق أو الأمل بالنجاة. ولسوف يوفيهم الله هم الآخرون حسابهم الحقّ فليس عنده مطل ولا تسويف في توفية الحساب.
والتنديد والتمثيل قويان رهيبان. مستمدان من مشاهد الطبيعة الرهيبة. ومن شأنهما إثارة الخوف والارعواء في السامعين من الكفار، وهذا مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر.
ولقد روى البغوي عن مجاهد أن الآيات نزلت في عتبة بن عتبة بن أمية الذي كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر. ويلحظ أن الآية معطوفة على ما قبلها عطف تعقيب وتمثيل ومقابلة. وقد قال البغوي راوي الرواية إن الأكثر على أنها عامة في جميع الكفار وهو ما قاله جمهور المفسرين.
ولعل بعضهم لما سمعها اعتبرها منطبقة على حالة عتبة فكان ذلك سبب الرواية.
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 45]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
.(8/429)
(1) والطير صافات: باسطة أجنحتها في السماء.
(2) يزجي: يسوق.
(3) ركاما: متكاثفا أو متراكما بعضه على بعض.
(4) الودق: قطرات المطر.
(5) وينزل من السماء من جبال فيها من برد: أوجه تأويلات الجملة هو (ينزل من السماء بردا قدر الجبال) .
(6) سنا: سناء وهو الضوء أو لمعان الجسم المضيء.
عبارة الآيات واضحة. وفيها تنبيه وتقرير بصيغة السؤال ولفت النظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وملكوته ونواميس كونه وخضوع خلقه له. وتقرير كونه هو الذي يخلق كل شيء، والقادر على كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء، وإليه مرجع كل شيء.
ولم يرو المفسرون رواية ما في نزولها. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها وبخاصة بآية النور اتصال تعقيب واستطراد. ففي ما جاء في الآيات من مظاهر قدرة الله ونواميسه الكونية وإحاطته بكل شيء في السموات والأرض عبرة لأولي البصائر النيرة والعقول السليمة خليقة بأن تكون دافعة لهم إلى ذكر الله والاستشعار بعظمته وهيبته والاستمساك بحبله والدأب على القيام بواجبهم نحوه.
والمتبادر كذلك أن ما احتوته الآيات من نواميس كونية وتكوينية هو مما يقع تحت مشاهدات الناس ومداركهم وأن القصد من ذلك هو إثارة الاعتبار فيهم وجعلهم يعترفون بعظمة الله وقدرته ويخضعون له. وليس بسبيل شرح تلك(8/430)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
النواميس شرحا فنيا إن صح التعبير. ومن الواجب أن يبقى هدف الآيات في هذا النطاق على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة الكثيرة.
[سورة النور (24) : آية 46]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
. يحتمل أن تكون هذه الآية معقبة على الآيات السابقة. ويحتمل أن تكون مقدمة للآيات التالية. والاحتمال الأول هو الأرجح. ففي الآيات السابقة طائفة من البراهين على عظمة الله وقدرته سيقت ليعتبر بها أولو الأبصار ويهتدي بها من شاء الله له الهداية إلى الصراط المستقيم. وقد تكرر ما جاء في الآية كثيرا في المناسبات المماثلة. وإطلاق الهداية لمن يشاء الله يفسر بما جاء في آيات عديدة أخرى مثل جملة وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ في آية سورة الرعد (27) وجملة يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ في آية المائدة (16) أي أن الله يهدي من علم برغبته في الهداية وحسنت نيته على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة.
[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 52]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)
. (1) مذعنين: خاضعين طائعين.
(2) يحيف: يجور.
الآيات احتوت:
(1) حكاية حال فريق من المسلمين كانوا يدّعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله(8/431)
مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إلا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين.
(2) وتنديدا بهم، فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشكّ أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم.
(3) وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد ويقولون سمعنا وأطعنا.
(4) وتنويها بهؤلاء وأمثالهم، فهم المفلحون حقا. وأن من يطيع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا.
تعليق على الآية وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
والآيات فصل جديد. وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيّا على الآية السابقة التي تكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير.
وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين منافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي بن أبي طالب والمغيرة بن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا: إنه يبغضني وأخاف أن يحيف عليّ. أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عمّ عثمان له: لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه «1» .
__________
(1) انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي.(8/432)
ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء [60- 65] وأن كعب بن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة «1» بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعليّ، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه. والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلّا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة «2» الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات. على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا، أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلّا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ (المنافقين) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم وبخاصة إن تعبير أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مرّ منه أمثلة عديدة.
والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 70- 73.
(2) راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 28(8/433)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحقّ ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يتظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم، مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السرّ والعلن.
[سورة النور (24) : الآيات 53 الى 54]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
. (1) فإن تولوا: هي الأرجح في مقام فإن تتولوا أي صيغة الجمع المخاطب وهو ما عليه الجمهور.
المتبادر من واو العطف الذي بدأت به الآية الأولى أن المقصود بالكلام هم الذين حكيت مواقفهم وندد فيهم في الآيات السابقة أي مرضى القلوب والمنافقين وقد احتوت الآيات:
(1) حكاية لما كانوا يحلفون به للنبي من أوثق الأيمان على استعدادهم لتنفيذ أمره لو أمرهم بالخروج.(8/434)
(2) وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن لا يحلفوا، وأن المطلوب منهم هو الإذعان والطاعة في ما هو خير ومصلحة ومعروف، وأن الله خبير بأعمالهم ونياتهم.
(3) وأمرا آخر للنبي بأن يؤكد عليهم وجوب الإخلاص في طاعة الله ورسوله وعدم الاكتفاء بالقول، ففي إخلاصهم هدى وخير ومصلحة لهم وإذا أعرضوا فكل مسؤول عن واجبه وعمله، فالرسول مسؤول عما أوجب الله عليه وحمّله إياه وهو التبليغ والإرشاد. وهم مسؤولون عما أوجب عليهم وحملهم إياه من الإخلاص والسمع والطاعة، وضرر تقصيرهم وعدم إخلاصهم عائد إليهم.
تعليق على الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
قال المفسرون: إن المنافقين لما صار القرآن يندد بإخلاصهم ويفضحهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلفون له بأنهم مخلصون وأنهم مستعدون لتنفيذ كل ما يأمرهم به حتى لو أمرهم بالجلاء. أو يحلفون له على استعدادهم للجهاد حالما يدعوهم إليه «1» .
ولم يسند المفسرون أقوالهم بسند. والآيات تؤيد الأقوال. غير أن أسلوبها لا يدل على أنها نزلت مباشرة بسبب ذلك. ففيها حكاية لأقوالهم. وهي معطوفة على ما قبلها، وضمائر الجمع الغائب والجمع المخاطب فيها عائدة إلى الذين ندد بهم في الآيات السابقة، بحيث يمكن القول إنها متصلة بها سياقا وموضوعا.
والذي يتبادر هو أنها والآيات السابقة نزلت معا لتحكي مواقف المنافقين المذكورة فيها وتندد بهم. وقد انطوت هذه الآيات كذلك على معنى عدم الثقة فيما يتظاهرون به ويحلفون عليه، واستهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من توطيد الطاعة والإخلاص لله ورسوله.
__________
(1) انظر الطبرسي والخازن والبغوي.(8/435)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
ويلمح في الآيات طبيعة المنافقين في التظاهر والمواربة ومحاولة الإقناع بإخلاصهم. وهو ما يلمح في آيات كثيرة بعد هذه السورة أيضا. والسورة على الأرجح قد نزلت بعد قطع دابر اليهود في المدينة على ما مرّ ذكره في سور سابقة.
وهذا ما يسوغ القول إن موقف المنافقين قد أخذ يتطور وحالتهم أخذت تضعف بعد ذلك فصار يبدو منهم ما حكته هذه الآيات وغيرها من التظاهر والانصياع.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينا عاما في تقبيح موقف مرضى القلوب في التظاهر بالإخلاص مع خلوهم منه والادعاء كذبا باستعدادهم للتضامن مع المسلمين ولا سيما في ظروف النضال التي يكون التضامن فيها واجبا عاما يصيبهم نفعه إذا قاموا به وينالهم ضرره إذا قصروا فيه.
[سورة النور (24) : الآيات 55 الى 57]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
. تعليق على الآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من دلالة على قيام الدولة الإسلامية ومن تلقينات وحقائق اجتماعية خالدة ومن معجزة تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
(1) إيذان بوعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم في الأرض(8/436)
وجعلهم أصحاب السلطان والبسطة فيها كما استخلف أمثالهم من قبلهم. وبتوطيد دينهم الذي ارتضاه لهم والذي هو دين الله القويم وتمكينه ونشره وبإبدالهم بالأمن والطمأنينة بعد الخوف، على شرط أن يلتزموا الإخلاص في إيمانهم وأعمالهم فيعبدون الله وحده لا يشركون معه أحدا. وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويطيعوا الرسول حيث يستحقون بذلك رحمة الله وفضله.
(2) وإنذار للكافرين، فالذين يكفرون بعد ذلك هم الفاسقون المتمردون على الله. ولا يظنن أحد أنهم معجزون الله في الدنيا. فهو محيط بهم قادر على البطش بهم. ومأواهم في الآخرة عذاب النار وبئس هي من مصير.
وقد روى المفسرون أن بعض المسلمين- وقد أمروا بالهجرة والجهاد وكانوا لا يفارقون سلاحهم- قالوا: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال لهم رسول الله لن تصبروا إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة. ثم أنزل الله الآية الأولى «1» .
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين السابقتين مباشرة لها سياقا وموضوعا اتصالا وثيقا وأنها جاءت معقبة عليهما. فقد نددتا بمرضى القلوب، ودعتا إلى الإخلاص في السمع والطاعة والإيمان، وقررتا أن هذا هو لخير الناس ومصلحتهم فجاءت هذه الآيات تعد المخلصين بما تعدهم وتؤكد واجب الطاعة للرسول وما في ذلك من ضمان رحمة الله.
وهذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين تساءلوا في موقف ما مثل ما روته الرواية فاقتضت حكمة التنزيل تضمين الآيات جوابا لهم فيه البشرى المشروطة بالشروط التي احتوتها.
وإذا كان الخطاب في الآيات هو لسامعي القرآن مباشرة من المؤمنين الأولين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تفيده كلمة مِنْكُمْ أيضا فضلا عن ظروف نزولها فإن
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.(8/437)
مداها عام لجميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما هو المتبادر. فكل خطاب مثل هذا الخطاب في القرآن هو عام شامل لكل المسلمين في كل ظرف على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن الآية الأولى- وهي تعد المؤمنين الصالحين من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف في الأرض- تنطوي على تقرير أن ذلك يكون في نطاق دولة ذات سلطان. وبمعنى آخر قد انطوى فيها فكرة قيام الدولة في الإسلام. مع التنبيه على أن هذا كان أمرا متحققا برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومما انطوى في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي أمرت بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر من المسلمين ورد الأمور إليهم، ووطدت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي والجهادي والتشريعي واحتوت فكرة الجهاد والدفاع وضمان حرية الدعوة وحماية المسلمين ودينهم والشورى ومسالمة المسالمين وعقد المواثيق بدون حرب أو بعد حرب وأخذ الجزية وإقامة الحدود وتنظيم شؤون الأسرة وتخصيص الزكاة والفيء وخمس الغنائم لبيت مال المسلمين ليتولى ولي أمرهم إنفاقها على مصالح المسلمين العامة والطبقات المعوزة إلخ إلخ مما مرّ كثير منه ونبهنا عليه في سياق شرحه. ويضاف إليه الأحاديث النبوية الصحيحة والكثيرة جدا في كل شأن من هذه الشؤون التي أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة.
ويحسن أن نقف عند تعبير وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لنقول: إن عمل الصالحات الذي هو من شروط تحقيق البشرى والوعد الربانيين يشمل كما قلنا في المناسبات السابقة كل أنواع الخير والبرّ والواجب تعبديّا كان أم غير تعبدي من عبادة الله وحده وإسلام النفس إليه والإحسان والبرّ بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين والتضحية بالنفس والمال في ذلك والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة والتعاون على البرّ والتقوى والتواصي بالحق والصبر والرحمة والأعمال العامة التي فيها مصلحة المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وبني ملّته وقومه ومعاملة الناس بالحسنى.(8/438)
وهكذا يبدو هذا الشرط الذي يتحقق به الوعد والبشرى الربانيان رائعا جليل المعنى والمدى. وفي الوقت نفسه ينطوي على حقيقة اجتماعية خالدة وهي أن السلطان والتمكن والفوز في الدنيا مضمون دائما للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولدينهم ومنهجهم في كل وقت وزمان.
ولقد تحققت هذه البشرى والوعد المزدوجان، أي الاستخلاف في الأرض وتمكين دين الإسلام، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه لأن شروطهما كانت متحققة في رجال العهدين رضي الله عنهم، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن حيث تبدل خوف المسلمين أمنا وضعفهم قوة، ومكّن الله دينهم فلم يتوفّ نبيه إلا وهو منتشر في جميع أرجاء الجزيرة العربية، وأخذ يطرق أبواب الأقطار المجاورة، وصار للإسلام دولة نافذة الأمر والسلطان في الشؤون القضائية والتشريعية والجهادية والاقتصادية والتنظيمية تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحت راية خلفائه الراشدين الذين ساروا على طريقته، فظلت المعجزة مستمرة في عهدهم فانتشر الإسلام في جميع الأقطار المجاورة لجزيرة العرب من الشمال والجنوب وقام السلطان الإسلامي النافذ في تلك الشؤون قويّا منصورا واندحرت أمامه قوى الظلم والطغيان. ثم ظلّ هذا مستمرّا ما استمر حكام المسلمين ورجالهم على الطريقة حتى صار السلطان الإسلامي والدين الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى شاملين لمعظم ما كان معروفا من أرجاء المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها من حدود الصين والهند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا مع امتداد عظيم في الشمال والجنوب من هذه الساحة الشاسعة على اختلاف أجناس سكانها وألوانهم وأديانهم.
ونحن مؤمنون بأن وعد الله المطلق يظل يتحقق للمؤمنين وللدين الإسلامي في كل زمان ومكان إذا ما تحققت فيهم الشروط التي احتوتها هذه الآيات. وساروا على ما رسمه الله ورسوله في الكتاب والسنّة وأوجباه عليهم من خطط وأخلاق اجتماعية وسياسية وشخصية وجهادية وتضامنية وأسرية وتبشيرية وسلوكية وتنظيمية بكل إخلاص وجدّ.(8/439)
الإيمان بهذا واجب على كل مسلم لأن الله لن يخلف ما وعده من النصر والتمكين في هذه الآيات وفي آيات كثيرة أخرى في سور عديدة مكيّة ومدنية.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية التي فيها أخبار بما سيكون من فتح للمسلمين والعرب وقوة وسلطان، منها حديث جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» «1» ، ومنها حديث روي عن عدي بن حاتم جاء فيه «قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه:
أتعرف الحيرة؟ قال: لم أعرفها ولكن قد سمعت بها، قال فو الذي نفسي بيده ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد.
ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز قال قلت له كنوز كسرى بن هرمز!؟ قال نعم كسرى ابن هرمز وليذلن المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد وقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز. والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها» «2» .
__________
(1) النصّ منقول من ابن كثير. وقد وصف الحديث الأول بأنه صحيح ثابت، وقد روى البخاري الحديث الثاني بنص آخر جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها وقد أنبئت بها، قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد. ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز!؟ قال نعم. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول له ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى، فيقول ألم أعطك مالا وولدا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم. فاتقوا النار ولو بشق تمرة.
فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم» التاج ج 3 ص 256. وهناك أحاديث عديدة من هذا الباب منها حديث رواه مسلم عن نافع بن عقبة جاء فيه أنه سمع رسول الله يقول تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله وتغزون فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله ... التاج ج 3 ص 256 و 257.
(2) المصدر نفسه. [.....](8/440)
ولقد قال المفسرون في تأويل جملة وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إنها تعني من كفر بنعمة الله من المسلمين وانحرف عن طاعة الله ورسوله «1» . وهو وجيه متسق مع روح الجملة. وفي الجملة على ضوء هذا التأويل حقيقة اجتماعية خالدة أخرى وهي أن ما يمكن أن يحلّ بالمسلمين من ذلّ وضعف واندحار وخذلان بعد أن يكونوا قد صاروا إلى ما صاروا إليه من ثروة وعزة وسؤدد وانتشار سلطان ودين- إنما يكون بسبب انحرافهم عن الطريقة المثلى التي تحققت بها المعجزة القرآنية. وهذا مما كان وظل يتحقق في المسلمين وبلادهم حينما كانوا ينحرفون عن دينهم ويقصرون في ما أوجبه الله عليهم من عمل الصالحات على مداها الواسع الذي شرحناه.
ومع ذلك فهناك حديث يحسن أن يساق في هذا المساق أورده ابن كثير وهو من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تزال طائفة من أمتي على الحقّ ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله» «2» .
وينطوي في الحديث بشرى عظيمة حتى في حال عدم تحقق الشرط في جمع المسلمين حيث يبشر رسول الله بأن هذا الشرط سيكون متحققا ولو في فئة منهم وسيجعلهم أعزاء ظاهرين على الحق. وهو ما كان وما يزال يتحقق في مختلف البقاع والأزمان من لدن العهد النبوي كنتيجة لتحقق ذلك الشرط الرائع في فئة من المسلمين.
تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه
ولقد وقف مفسرو «3» الشيعة عند جملة وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فرووا عن أئمتهم: علي بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها في
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
(2) التاج ج 5 ص 313.
(3) انظر تفسير الطبرسي. وننبه على أن هذا المفسر أورد في الوقت نفسه تأويلات للآية متسقة مع تأويلات المفسرين السنيين ومع روح الآيات وفحواها.(8/441)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
الذين وقفوا من أهل بيت النبي وشيعتهم موقف المناوأة والعداء ثم رووا عن أئمتهم أن الآية الأولى تضمنت البشارة بظهور المهدي واستخلافه في الأرض، ورووا في صدده حديثا جاء فيه «لو لم يبق في الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا» «1» .
والهوى الشيعي ظاهر في تأويل الآيات وصرفها عن روعة مفهومها الشامل للمسلمين باستخلافهم في الأرض وتمكّن دينهم إذا آمنوا وأخلصوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الرسول. وليس فيها أي شيء يبرر ذلك الصرف والتأويل.
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
. (1) وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة: حين تخلعون ثيابكم المعتادة للتخفف والتبذل وقت الظهر.
(2) ثلاث عورات لكم: ثلاث أوقات هي لكم عورات. والعورة في أصلها الخلل والعيب في الشيء وفي المكان الذي يخشى دخول العدو منه. وهذا المعنى
__________
(1) روى هذا الحديث بخلاف يسير أبو داود والترمذي (التاج ج 5 ص 311، 312) ونحن نقف منه موقف التحفظ ونرجح أن للهوى الشيعي أثرا ما فيه. ومع ذلك فإنه لا يساعد في أي حال على تأويل الآيات بما أولها به أئمة الشيعة أو مفسروهم.(8/442)
في جملة إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ في آية سورة الأحزاب [13] وأكثر ما تطلق على الشيء الذي لا ينبغي أن تقع عليه الأبصار من جسم الإنسان، وهي هنا بهذا المعنى.
(3) جملة فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: هي هنا بمعنى كما استأذن الذين بلغوا الحلم قبلهم.
في الآيتين:
(1) أمر للمسلمين بأن لا يدخل عليهم الأولاد الذين هم دون سنّ الاحتلام ولا عبيدهم في ثلاثة أوقات إلّا بعد الاستئذان والإذن. وهي وقت ما قبل الفجر، ووقت الظهر الذي يتخفف الناس فيه من ثيابهم، وبعد صلاة العشاء، وإباحة دخولهم عليهم بدون استئذان في غيرها.
(2) وأمر آخر بعدم دخول الأولاد عليهم حينما يبلغون الحلم بدون استئذان في غير هذه الأوقات كما هو شأن سائر الرجال.
(3) وتعقيب على هذا التأديب: فالله سبحانه حكيم عليم يأمر بما فيه الحكمة والصواب، ويعلم مقتضيات الأمور ويبين آياته للناس متسقة مع ذلك.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... إلخ والتي بعدها وما فيهما من آداب وأحكام
والآيتان فصل جديد لا صلة له بالآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكونا نزلتا بعدها فوضعتا في ترتيبهما.
وقد روى المفسرون أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دخول غلام أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة، فرأى عمر في حالة كره رؤيته فيها رووا أنها نزلت في مناسبة دخول غلام لأسماء بنت مرثد عليها في وقت كرهته،(8/443)
فأتت رسول الله، فقال: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها «1» .
والروايات محتملة الصحة. لأن التشريع والتأديب القرآني كان ينزل في كثير من الظروف جوابا على الأسئلة والاستفتاءات والمراجعات على ما مرّ في مناسبات كثيرة. وعلى كل حال فالآيتان فصل تشريعي واحد احتوى ما شكي للنبي صلى الله عليه وسلم منه، واحتوى تتمة له.
ولقد أباحت الآية [31] من هذه السورة للمرأة إبداء زينتها ومفاتنها للأطفال الذين لم يبلغوا سنّ الشهوة وللعبيد. فالظاهر أن هذه الإباحة استتبعت السماح باستمرار دخول هؤلاء على النساء في أي وقت وبدون استئذان، فكانت المراجعة، فنزلت الآيات للاستدراك. وجاءت عبارتها مطلقة ليشمل التأديب الذي احتوته الرجال والنساء معا. وهو تأديب رفيع في التزام واجب الحشمة والحياء حتى أمام الأطفال والخدم.
والمتبادر من روح الآيات وفحواها أن إناطة الدخول في الأوقات الثلاثة بالاستئذان بالنسبة للمماليك والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم شاملة لأطفال المستأذن عليهم ومماليكهم وأطفال ومماليك غيرهم أيضا. وإن كلمة مِنْكُمْ الواردة بعد جملة لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ في الآية الأولى وبعد كلمة الْأَطْفالُ في الآية الثانية هما أسلوبيتان. لأنه لا يصح أن تؤخذ الكلمة على أن المقصود هم أطفال ومماليك المستأذن عليهم فقط. فإذا كان هؤلاء يطلب منهم الاستئذان قبل الدخول فيكون هذا بالنسبة للغرباء أولى.
وجملة وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ متساوقة مع الآية [27] من السورة التي توجب الاستئناس والاستئذان على كل من يريد أن يدخل بيتا غير بيته والتي شرحناها قبل. وجملة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تعني الذين بلغوا الحلم قبلهم، وهم الذين أوجبت الآية [27] عليهم
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الزمخشري والبغوي والخازن.(8/444)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
الاستئذان سواء أكانوا رجالا أم نساء ومحارم وغير محارم على ما شرحناه قبل أيضا.
وقد يتبادر لأول وهلة أن جملة وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ وجملة وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ تعنيان ذكور الأطفال. غير أن التمعن في الموضوع يظهر أنهما تشملان ذكور الأطفال وإناثهم. فتعبير بلوغ الحلم يصحّ أن يستعمل لكلا الجنسين وإيجاب الاستئذان على إناث الأطفال في العورات الثلاث أمر بديهي بل أولى. وإيجاب الاستئذان على البالغات منهن في غير العورات الثلاث إذا أردن الدخول لغير بيوتهن داخل في متناول الآية [27] التي أوجبت الاستئذان والاستئناس والإذن على من يريد الدخول على بيت غير بيته.
والمتبادر أن جملة الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ تعني المماليك فقط وليس الخدم إطلاقا. والمرأة الحرة محرمة على مملوكها. ولذلك سمح لها في الآية [31] بإبداء زينتها أمامه على ما شرحناه قبل. ولقد سمح في هذه الآية أيضا للمرأة بإبداء زينتها أمام خدمها من الرجال إذا كانوا غير ذوي إربة فيكون شأنهم شأن المماليك أي يجب عليهم الاستئذان في العورات الثلاث. أما الخدم والتابعون ذوو الإربة فليس للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم في الأوقات العادية أيضا. ومن باب أولى في العورات الثلاث. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مماليك الغير وخدمهم هم أجانب وغير محارم للمرأة التي ليسوا هم لها وإن شأنهم في كل موقف شأن الأجانب وغير المحارم ولو كان خدم الغير غير ذوي إربة. وإذا كنا خصصنا المرأة بالذكر فذلك بسبب حالتها الجنسية. والآيتان اللتان نحن في صددهما واللتان أوجبتا الاستئذان قبل الدخول على المماليك والأطفال في العورات الثلاث جاءتا بصيغة مطلقة بحيث يتناول حكمهما الرجال والنساء معا على ما ذكرناه قبل.
[سورة النور (24) : آية 60]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
.(8/445)
(1) أن يضعن: أن يخلعن. وهنا بمعنى أن يطرحن الزائد من ثيابهن.
(2) التبرج: هو البروز والظهور. والجملة في الآية بمعنى النهي عن تعمد إظهار الزينة والمفاتن.
تعليق على الآية وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ... إلخ وما فيها من أحكام وآداب
في هذه الآية تجويز للنساء اللاتي قعدن في بيوتهن ولم يكن لهن رجاء في زواج أو لا يرغب في نكاحهن، بطرح ثيابهن الزائدة وعدم التشدد في التستر، على شرط أن لا يكون ذلك بقصد إبراز الزينة وأماكنها. وتقرير بأن احتشامهن في اللباس على كل حال هو خير لهن وأفضل. والله عليم بكل شيء، سميع لكل ما يقال.
ولم نطلع على رواية خاصة لنزول الآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيتين السابقتين. وبسبيل الاستدراك وبيان ما بقي غير واضح من الآداب التي أوجبتها الآية [31] ، فهذه الآية أمرت المرأة بتغطية أجزاء البدن التي ليس من العادة والطبيعة كشفها، والتي تظهر من شقوق الثوب. وعدم إظهار الزينة وأماكنها لغير المحارم، فجاءت هذه الآية تستدرك بشأن النساء اللاتي لا يخاف من فتنتهن استدراك إجازة وتيسير. مع التنبيه على وجوب الاحتشام وعدم التظاهر بالزينة على كل حال. والمقطع الأخير الذي انتهت به الآية يلهم أن هذا التنبيه لتفادي ما يمكن أن يجلبه التخفف من الثياب أكثر من المعقول على هؤلاء أيضا من النقد والتثريب.(8/446)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
وجمهور المفسرين على أن هذا الفريق من النساء هن اللاتي تقدمن في السن وتجاوزن حدّ الشهوة الجنسية. ولقد روى البغوي عن ربيعة الرأي أحد قدماء علماء الحديث أنهن العجّز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن. وإن التي فيها بقية من جمال وهي محل شهوة فلا تدخل في مدى هذه الآية. وليس بين القولين تعارض كما هو ظاهر. والمعنى المشترك هو أن لا يكنّ محل شهوة سنّا وشكلا وبنية. وقد يصح أن يضاف إلى هؤلاء فريق المشوهات والدميمات أو المبتليات بعاهات وأمراض تجعلهن غير مرغوبات فيهن جنسيا ولو لم يكنّ متقدمات في السن. وعلى كل حال فالآية متسقة في روحها ونصها مع الآيات الأخرى، ومع ما استهدفته من إيجاب الحشمة على المرأة وعدم التورط في أسباب الفتنة والتعرض لأذى الألسنة. وهي من جهة أخرى مؤيدة لما استلهمناه من الآية [31] من أنها ليست بسبيل إيجاب التنقب على المرأة وعدم بروزها وسفورها. فالنساء فريقان: فريق مثار فتنة فهو مأمور بستر مفاتنه وزينته التي ليس من العادة والطبيعة ظهورها، وفريق ليس كذلك فهو غير مأمور بالتشدد ولكنه مدعو على كل حال إلى الاحتشام والاعتدال.
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
. (1) أو ما ملكتم مفاتحه: ما يكون في تصرفكم وملككم. وجمهور(8/447)
المفسرين على أن ذلك يعني بيوت المماليك ومساكنهم. وقيل أيضا إنهم وكلاء أصحاب المزارع والضياع والبساتين في مزارعهم وضياعهم وبساتينهم.
(2) جميعا: مجتمعين.
(3) أشتاتا: متفرقين.
(4) على أنفسكم: على بعضكم.
هذه الآية ترفع الحرج والاستشعار بالضيق عن الأعمى والأعرج والمريض.
وعن المرء في أن يأكل من بيته أو بيت أبيه أو بيت أمه أو أخيه أو أخته أو عمّه أو عمته أو خاله أو خالته أو صديقه أو مملوكه أو بيوت من هم تحت تصرفه من خدم وعمال في بساتينه وضياعه ومعامله. وترفع الحرج عن الناس في أن يأكلوا كما يريدون متفرقين أو مجتمعين. وتحثهم على تبادل السلام والدعاء لبعضهم بالحياة الطيبة المباركة. وتنبه المخاطبين الذين هم المسلمون بأن الله يبين آياته لهم، لعلهم يعقلون ما فيها من الحكمة والصواب.
تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ... إلخ وما فيها من أحكام وآداب
روى البغوي عن ابن عباس قال «كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير فنزلت الآية» . كما روي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في الحارث بن عمر خرج غازيا مع رسول الله وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك.
فنزلت الآية بالسماح. وروى المفسر نفسه عن قتادة ومجاهد أنها نزلت في بني ليث بن بكر وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح. وربما كانت معه(8/448)
الإبل الحفل (أي المملوءة باللبن) فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أيس ولم يجد أكل.
وإلى هذه الروايات روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أقوالا في مدى الفترة الأولى من الآية بنوع خاص. منها أن الأصحاء كانوا يتعززون أو يتقززون من الأكل مع المرضى والعميان والعرج. ومنها أن هؤلاء كانوا يتحرجون من الأكل مع الأصحاء تفاديا من التعزز والتقزز. ومنها أن الأصحاء حينما كانوا يخرجون إلى الجهاد يتركون مفاتيح بيوتهم مع هؤلاء الذين يتخلفون عادة عن الجهاد ويبيحون لهم الأكل مما في البيوت ولكنهم كانوا يتحرجون من ذلك فأنزل الله الآية يرفع الحرج.
والروايات لا تتسق تماما مع مفهوم ومدى الآية كلها وإن كان بعض الأقوال تتسق مع بعض فقراتها.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وهي بسبيل تعليم آداب السلوك مثلها. ومن المحتمل أن يكون بعض المسلمين وقعوا في حرج ما بشؤون متصلة بما احتوته الآية فاستفتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث السابقة التي قبلها لأنها من موضوعها كما أن من المحتمل أن تكون نزلت عقبها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي.
أو تكون نزلت في ظرف آخر فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي.
ولقد انطوى في الآية مبدأ قرآني جليل وهو رفع الحرج عن المسلمين في هذه الأمور وأمثالها. وترك التصرف فيها إليهم وقعا لما تمليه الظروف وتطيب به النفوس بدون تقيد بأشكال وصور معينة مع التنبيه على حسن المعاشرة وتبادل السلام والتمنيات الطيبة لما في ذلك من توطيد المودّة والإلفة بينهم، ومع التنبيه كذلك على الرفق بالضعفاء والفقراء وأصحاب العاهات والأعذار وتطييب نفوسهم وتطييب النفوس إزاءهم. وكل هذا متسق مع التشريع القرآني العام.
والخطاب في الآية مطلق. وليس فيه ما يفيد تخصيص الرجال به بحيث الجزء الثامن من التفسير الحديث 29(8/449)
يسوغ القول إن ما احتوته من أدب وتأديب وتنبيه موجّه إلى الجنسين معا.
واستتباعا لذلك يسوغ القول إنه ليس من حرج في أن يتشارك الرجال والنساء معا في الأكل من مائدة واحدة سواء أكانوا أقارب ومحارم وتابعين أم أصدقاء أباعد إذا ما لزمت المرأة الاحتشام في اللباس على النحو الذي شرحناه قبل.
وهناك أحاديث نبوية فيها توضيح وتساوق مع الآية. من ذلك حديث رواه أبو داود جاء فيه «قال جماعة يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال فلعلّكم تفترقون.
قالوا نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» «1» . وحديث رواه ابن ماجه عن عمر بن الخطاب «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة» «2» . حيث ينطوي في الحديثين تشجيع على التآلف والتجمع في مناسبات الطعام لما في ذلك من توثيق المودة والمحبة وأول ما ينصرف هذا التشجيع النبوي إلى تجمع الأسرة الواحدة على الطعام. وهناك أحاديث نبوية تفيد أن النساء كن يحضرن الطعام مع الرجال. منها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن حذيفة قال «كنّا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع يدنا حتى يبدأ رسول الله وإنّا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع لتضع يدها في الطعام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنه يدفع فأخذ بيده.
فقال إن الشيطان يستحلّ الطعام إلّا بذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحلّ به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها» . وفي الحديث ما يفيد أن الإناث كن يحضرن الطعام مع الرجال. مع إفادته وجوب تسمية الله قبل الأكل. وقد أخذ النبي بيد الجارية والأعرابي لأنهما لم يسميا أي لم يذكرا اسم الله قبل الأكل.
وروى الشيخان عن أبي سعيد الساعدي «إنه دعا رسول الله في عرسه وكانت امرأته يؤمئذ خادمتهم وهي العروس فلما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم سقته نقيع تمر كانت
__________
(1) التاج ج 3 ص 118.
(2) أورد هذا الحديث ابن كثير في تفسير الآية وهناك أحاديث أخرى من بابها أوردها آخرون في مجمع الزوائد.(8/450)
نقعته من الليل» ، والحديث يفيد أن العروس كانت شاهدة الوليمة وخادمتها.
وحديث رواه مسلم والنسائي عن أنس جاء فيه «أن جارا فارسيا للنبي صلى الله عليه وسلم صنع طعاما فدعاه ولم يدع أم المؤمنين عائشة معه فلم يلبّ ثم دعاه مرة ثانية فسأله أن يدعوها معه فدعاها فذهبا معا إلى بيت الجار وأكلا طعامهما معه» .
وجملة فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً تنطوي على تأديب رفيع حيث توجب على الداخلين على غيرهم أن يبادروهم بالتحية والسلام سواء أكانوا أهلهم أم غرباء عنهم.
هذا وقد يكون ذكر بيوت الآباء والأمهات والأخوات والإخوان والأعمام والعمات والأخوال والخالات متصلا بما كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يتفرقون في المساكن غير أنه لا يخلو من تلقين مستمر المدى بهذا أيضا حيث يكون الولد المتزوج في بيت ووالده في بيت وإن كانت أمه أرملة في بيت وإن كانت أخواته عوانس أو أرامل في بيت ... إلخ وحيث يكون في ذلك الراحة والهدوء والبعد عن أسباب الخلاف والقيل والقال التي كثيرا ما تؤدي إلى تصدّع بنيان الأسرة وتعكير صفوها. والله تعالى أعلم.
تعليق على مدى كلمة صَدِيقِكُمْ في الآية
فرّقت الآية فذكرت الصديق لحده، وذوي الأرحام والمماليك لحده.
والمتبادر أن هذا طبيعي فإن علاقة ذوي الأرحام ببعضهم وعلاقة مالكي المماليك بمماليكم أشد من علاقة صداقة فهي علاقة اقتصادية واجتماعية وإنسانية لا يمكن أن يستغنى عنها في حين أن كثيرا من الناس تكون علاقتهم ببعضهم عادية أو عابرة لا ترقى إلى درجة لاحمة.
والمتبادر أن كلمة صَدِيقِكُمْ تشمل جميع الناس بل ولا أرى مانعا من القول إنها تشمل غير المسلمين أيضا. فكلمة (صديق) هي مضادة أو ضد كلمة (عدو) وكلمة عدو تطلق في الإسلام على من يعتدي على الإسلام والمسلمين(8/451)
بأسلوب ما. والمتبادر الواقع أن جمهورا عظيما من غير المسلمين ممن يعيشون في بلاد الإسلام أو بعيدا عنها لا يعتدون على الإسلام والمسلمين واقعيا ومنهم من يكون مسالما وموادا. وفي القرآن آيات تشير إلى ذلك وفيها توقع بانقلاب العداء بين المسلمين وغيرهم إلى مودة وفيها أمر للمسلمين بالبرّ والإقساط والتعايش مع المسلمين وغيرهم الكافّين يدهم ولسانهم عن المسلمين. انظر آية سورة النساء [89] وآيتي سورة الممتحنة [6- 7] .
وفي صدد الصداقات بين المسلمين فيما بينهم نقول: إن القرآن وصف المسلمين بأنهم أخوة وهذا الوصف قد يكون معنويا ولكنه يفيد أن اللّحمة بين المسلمين من غير ذوي الأرحام قوية إلى درجة تصل إلى شيء من قوة الأرحام.
والمسلمون يتشاركون في عقيدة الحلال والحرام في كل أنواع الطعام. ووصف الأخوة يجعل المسلمين أصدقاء بالتبعية ولا يفرض أن يكون عداء بينهم بالتبعية يقال إن كل مسلم يستطيع أن يعتبر أن كل مسلم صديقا له أيضا ويتناول الطعام في بيته مجتمعا أو منفردا وأما غير المسلم فقد قلنا إن احتمال الصداقات بين المسلمين وغير المسلمين واردة وقائمة ومحرض عليها. فيقال بالتبعية إن للأصدقاء من المسلمين وغير المسلمين يمكن أن يتناولوا طعاما في بيوت بعضهم أيضا.
وهنا محل للاستدراك فقد حرّم الله ورسوله على المسلمين محرّمات معينة في المأكولات والمشروبات وأباح لهم ما عداها. فيقال إنه لا حرج على المسلم أن يأكل في بيت غير المسلم إذا قدم له هذا مأكولات غير محرمة عليه في القرآن الكريم والأحاديث النبوية. وهناك مأكولات لا تحصى مباحة مثل الحبوبات على أصنافها والخضروات والفواكه ومنتجات الحيوان كاللبن والحليب والزبدة والسمن وحيوانات الأنهار والبحار فيستطيع المسلم أن يأكل ما يقدمه غير المسلم من ذلك وما يطبخه بدون لحم مشتبه في طريقة ذبحه التي حرمتها الآيات والأحاديث. وإذا قدم غير المسلم لحما مذبوحا بيد المسلمين فليس عليه مانع من أكله إذا تيقن من ذلك. وننبه على أن في سورة المائدة هذه الآية: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ(8/452)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
[5] .
ويتبادر لنا والله أعلم أن هذه الآية ليست على سبيل الحصر بدليل أو قرينة سبحانه وتعالى حرّم النساء المشركات على المؤمنين بنص قرآني. ولم يحرم طعام المشركين على المسلمين بنصّ قرآني وإن كان لم يحلّه بحيث يمكن أن يقال إن غير المسلمين الكتابيين إذا قدموا لأصدقائهم المسلمين مأكولات مباحة وغير محرمة عليهم في القرآن والأحاديث ساغ لهم أن يأكلوها. أما طعام المسلمين للمشركين فلم نر أي تحريم لذلك. ولقد روى ابن هشام أن المسلمين أسروا أمير اليمامة ثمامة بن أثال وكان مشركا فنصب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في مسجده وكان يرسل إليه طعاما من بيوته. والله تعالى أعلم.
وكلمة أخيرة في صدد ما يقدمه الكتابيون من طعام للمسلمين، فقد قال جمهور من المفسرين والفقهاء إن نصّ الآية مطلق وليس من ضرورة بتردد المسلم وتكلفه وسؤاله فالله تعالى أحلّ له طعامهم ويعنون بذلك اللحوم البريّة فليأكلوا على الإباحة وهذا سبيل. ومنهم من قال هذا مع زيادة إذا تيقن المسلم فيما يقدمه الكتابيون من طعام محرمات أساسيّة على المسلمين في القرآن والأحاديث فلا يأكله وهذا سبيل أيضا والله تعالى أعلم. انظر تفصيلات أخرى في تفسير الآيات [4- 6] من سورة المائدة في الجزء التالي.
[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
.(8/453)
(1) أمر جامع: أمر ذو خطورة يستدعي اجتماع الناس وشهودهم إياه.
(2) يتسللون: يخرجون خفية ومسارقة. والسلة هي السرقة.
(3) لواذا: متسترين ببعض حتى لا يروا وهم يخرجون، ولاذ به، بمعنى:
استتر به، أو لجأ إليه أو انتحى نحوه.
تعليق على الآية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من آداب وتلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وفيها تأديب للمؤمنين إزاء مجالس الرسول ودعائه.
وتنويه بالذين يتصرفون في ذلك بما يليق بمركزه ومقامه، فلا يتركون مجالسه إلّا لعذر وبعد الاستئذان منه وإذنه. فهم المؤمنون حقا بالله ورسوله. وتنديد بالذين يتصرفون في ذلك تصرفا غير لائق فيتسللون من مجالسه. وإنذار دنيوي وأخروي لهم.
روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في ظروف حفر الخندق ووقعة الأحزاب حيث كان المنافقون ينسحبون تسللا وخفية من المعسكر. ولا ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري أنها نزلت في المنافقين الذين كان يثقل عليهم حديث النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحاب رسول ويخرجون من المسجد متسللين.
بدون إذن من النبي، في حين كان المخلصون يستأذنون بالإشارة إذا كان لهم حاجة في الخروج فيأذن لهم بالإشارة. غير أن أكثر المفسرين قالوا إن الآيات عامة في صدد مجالس النبي واجتماعاته واجتماعات يوم الجمعة معا. ويبدو لنا هذا القول أوجه لأن سورة الأحزاب قد احتوت ما اقتضت حكمة التنزيل ذكره من مشاهد وقعة الأحزاب والخندق ومواقف المنافقين. ولأن فحوى الآيات يلهم أنها أعمّ من اجتماعات يوم الجمعة وخطبتها.(8/454)
وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس ومجاهد أن جملة لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً في صدد الأمر بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ التوقير والتعظيم لا بالاسم والكنية فقط كما يخاطبون بعضهم. كما رووا أنها في صدد النهي عن عمل ما يستوجب دعاء النبي عليهم ودعاؤه موجب مستجاب.
وروى بعضهم «2» أن الجملة في صدد التنبيه على ما يجب عليهم من تلقي دعوة النبي بالاهتمام حين ما يدعوهم إلى اجتماع لأن دعوته ليست من قبل دعوة بعضهم لبعض.
وقد تكون رواية الزمخشري الأخيرة هي الأكثر اتساقا مع موضوع الآية الأولى ومع الفقرة التي جاءت بعد الجملة التي نحن في صددها. وبهذا فقط يظهر الانسجام بين أجزاء الآيات.
والذي يتبادر لنا أن بعض المسلمين أو مرضى القلوب تلكأوا عن تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع عام دعا إليه وأن بعضهم تسللوا من مثل هذا الاجتماع فاقتضت الحكمة الإيحاء بالآيات بأسلوبها المطلق ليكون من تأديب عام للمؤمنين في صدد ذلك على النحو الذي شرحناه.
والآيات تبدو فصلا جديدا. ولكن ما احتوته من تأديب للمسلمين وتعليم لآداب السلوك في مجالس النبي قد يجعلها متصلة موضوعا بالفصول السابقة فإذا لم تكن قد نزلت بعدها مباشرة فيكون وضعها في ترتيبها بسبب التناسب الموضوعي. والإنذار المنطوي في جملة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قوي رهيب، وقد جاء مطلقا هو الآخر ليكون مستمر المدى والشمول للذين يخالفون أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسنته الثابتة في كل وقت. وفي الجملة تأييد زجري للآيات العديدة التي أكدت وجوب طاعة رسول الله والوقوف عند ما يأمر به وينهى عنه، وقررت أن اتباعه من وسائل رضاء الله ومحبته على ما جاء في آيات
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبري وابن كثير والخازن.
(2) انظر تفسير الزمخشري.(8/455)
الأنفال [1 و 20 و 46] وآل عمران [31 و 32] والنساء [80] والحشر [7] وقد علقنا على الموضوع ونبهنا على دواعيه المباشرة في العهد المدني. وقد أوردنا بعض الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الحشر أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة التي نحن في صددها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فكلّما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحّمن فيها. قال فذلك مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار فتغلبوني وتتقحمون فيها» «1» .
والآيات مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية تنطوي على تلقين تأديبي مستمر المدى بوجوب احترام المجالس العامة والاجتماعات العامة التي قد يعقدها أو يدعو إليها الرؤساء والأمراء وذوو الشأن في المسلمين وعدم الاستخفاف بها وعدم تركها بدون استئذان وبدون معذرة صحيحة بالإضافة إلى ما فيها من توكيد التزام سنّة رسول الله وعدم مخالفتها على ما ذكرناه قبل.
__________
(1) روى الشيخان هذا الحديث عن أبي هريرة بهذه الصيغة «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها» انظر التاج ج 1 ص 37.(8/456)
سورة المنافقون
في السورة حملة شديدة على المنافقين. وحكاية لأقوال ومواقف خطيرة صدرت منهم فيها كيد وعداء وتحريض على النبي والمهاجرين وردود تسفيه عليهم. وتثبيت وتطمين للنبي والمؤمنين. وفيها تحذير للمؤمنين عن الاستغراق في حبّ المال والولد عن ذكر الله وحثّ لهم على الإنفاق وهم في سعة من الوقت والعمر. وآيات السورة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو أن فصل المنافقين جميعه نزل دفعة واحدة ثم تبعه الفصل التحذيري الأخير.
ولقد روي أن الأقوال التي حكتها بعض آيات السورة صدرت من زعيم المنافقين أثناء غزوة المريسيع التي أثير فيها حديث الإفك ضد أم المؤمنين عائشة الذي تضمنت سورة النور الإشارة إليه حيث يبدو من ذلك صحة رواية ترتيب نزول السورة بعد سورة النور.
وفي سورة النور مقاطع عديدة فيها حملات تنديدية على المنافقين. وصور من مواقفهم على ما مرّ شرحه فيها. وفي هذه السورة حملة أخرى فيها مواقف أخرى.
حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة أخرى على صحة رواية نزول هذه السورة بعد سورة النور. على أن هناك ما يحسن التنبيه عليه أيضا. فالروايات تذكر أن وقعة المريسيع كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق التي أشير إليها في سورة الأحزاب.
مع أن الروايات تذكر أن سورة الأحزاب في الترتيب سابقة لسورتي النور والمنافقون.
فإما أن يكون في روايات تواريخ الوقائع الجهادية النبوية شيء من الخطأ وإما أن تكون هذه السورة نزلت قبل سورة الأحزاب. ولقد أوردنا في مقدمة سورة النور احتمال أن تكون هذه السورة أيضا قد نزلت قبل سورة الأحزاب. وتظل قوة قرينة نزول سورة (المنافقون) بعد سورة النور على كل حال قائمة. والله تعالى أعلم.(8/457)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
. (1) جنة: سترا ووقاء.
(2) كأنهم خشب مسندة: تعبير تنديدي يراد به وصفهم بفقد العقل والروح رغم ما هم عليه من الجسامة والوسامة اللتين تعجب الناظر فكأنهم أخشاب مسندة بالدعائم.
(3) يصدون: هنا بمعنى يمتنعون ويرفضون.
(4) حتى ينفضوا: حتى يتفرقوا.
تعليق على آية إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ والآيات السبع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين، وما ورد في صددها من أخبار
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت:(8/458)
(1) حكاية لما كان المنافقون يؤكدونه للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءوا إليه من إيمانهم برسالته.
(2) وتكذيبا لهم وتقريرا بأنهم إنما يتخذون أيمانهم سترا ووقاء من الفضيحة والنكال وذريعة إلى الصدّ عن سبيل الله. وبأنهم كفروا بعد إيمانهم فكان ذلك مظهرا لخبث سريرتهم وسوء نيتهم وانطباع قلوبهم على الكفر.
(3) وصفا تنديديا لهم، فهم رغم ما هم عليه من جسامة ووسامة تروقان للناظر إليهم وما يقولونه من أقوال تعجب السامع لها كالخشب المسندة فاقدون كل روح وعقل وقلب وإيمان.
(4) حكاية لما كانوا يقابلون به الدعوة إلى المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للاعتذار والاستغفار حيث يلوون رؤوسهم ويرفضون استكبارا.
(5) حكاية لأقوال صدرت منهم حيث كانوا يحرضون على عدم الإنفاق على أصحاب رسول الله ومساعدتهم حتى ينفضوا من حوله. وحيث قالوا في سفرة من السفرات إنهم إن رجعوا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وكانوا يعنون بالقول أنهم هم الأعزّ وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الأذلّ.
(6) وردودا تنديدية عليهم فيها تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه المخلصين: فسواء استغفر لهم النبي أم لم يستغفر، فلن يغفر الله لهم، لأنه لا يمكن أن يوفق الفاسقين أمثالهم ويرضى عنهم. وهم حينما يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله غاب عنهم ولم يدركوا أن خزائن السموات والأرض هي لله. وهم حينما يقولون ليخرجن الأعز منها الأذل غاب عنهم ولم يعلموا أن العزة إنما هي لله ورسوله والمؤمنين.
(7) ودعاء عليهم: قاتلهم الله، فكيف وأنّى ينصرفون عن الحق الواضح الساطع.
(8) هتافا للنبي صلى الله عليه وسلم: فهم العدوّ وعليه الحذر منهم.(8/459)
ولقد روى الشيخان والترمذي في سبب نزول الآيات حديثا عن زيد بن أرقم قال «كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول، يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمي، فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه، فحلفوا ما قالوا فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني فأصابني همّ لم يصبني مثله، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلى قوله لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليّ، ثم قال: «إن الله قد صدقك يا زيد» «1» . حيث يفيد هذا الحديث أن هذا الفصل نزل دفعة واحدة. وهو في الحق منسجم ومترابط.
وعلى هذا فتكون الآيات الست الأولى بمثابة تمهيد للآيتين التاليتين لها اللتين فيهما حكاية أقوال المنافقين. وقد عرضنا الفصل كلّا واحدا بسبب هذا الانسجام.
ولقد أورد المفسرون ورواة الحديث وكتّاب السيرة القدماء في صدد نزول هذه الآيات وما فيها، سياقا طويلا نرى من المفيد إيراده لما فيه من صور. فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس حملة لغزو بني المصطلق الذين بلغه أنهم يتجمعون لغزو المدينة. وكان المنافقون مشتركين بالحملة بمقياس واسع. وقد التقى المسلمون بالأعداء عند ماء اسمه المريسيع وانتصروا عليهم وسبوا وغنموا منهم. وقبيل أن يرتحلوا ويعودوا، تلاحى شخص تابع لعمر بن الخطاب وآخر تابع لبني عوف رهط ابن سلول على الماء فاقتتلا وصرخ تابع عمر: يا معشر المهاجرين، وصرخ تابع بني عوف: يا معشر الأنصار، وكاد الاشتباك يقع بين الحيين ثم تمكن النبي وكبار أصحابه من التهدئة. وأثار ذلك ابن سلول، فقال في مجلس من قومه: لقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا- يقصد المهاجرين- والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله وصحبه. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال:
__________
(1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 235.(8/460)
هذا ما فعلتم بأنفسكم. أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولنحوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. وكان في المجلس فتى اسمه زيد بن أرقم من الأنصار فقال له: أنت- والله- الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن عز وجل ومودة من المسلمين، فقال له: اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد إلى رسول الله فأخبره الخبر- وعنده عمر بن الخطاب- فقال له: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له: كيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. ثم آذن بالرحيل في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها، فارتحل الناس وأرسل رسول الله إلى ابن سلول فلما جاءه قال له: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال له: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب. فقال من حضر من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام وهم في حديثه، فعذر النبي ابن سلول وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه.
وكان له عمّ فقال له: ما أردت إلّا أن كذبك رسول الله والناس كلهم يقولون إن عبد الله شيخنا وكبيرنا ولا يصدق عليه كلام غلام مفتون. فاستحيا الفتى وصار يبتعد عن رسول الله. وجاء أسيد بن حضير أحد زعماء الأوس إلى النبي فقال له:
رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال له: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟
قال وما قال؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو الذليل وأنت العزيز. ثم قال يا رسول الله أرفق به فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه وإنه ليرى أنك استلبته ملكا. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه مني وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتله يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. وعاد النبي إلى المدينة وجلس زيد بن أرقم(8/461)
في بيته لما به من الهمّ والحياء، فأنزل الله سورة المنافقون في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبي. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد، وقال له: إن الله قد صدقك وأوفى بأذنك. وجاء قوم إلى عبد الله فقالوا له: قد نزل فيك آي شديد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد. فأنزل الله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ. ولما بلغوا المدينة منع عبد الله بن عبد الله بن أبي أباه من دخولها، وقال له والله لن تدخلها إلّا بإذن رسول الله، ولتعلمن اليوم من الأعزّ من الأذلّ فجاء إلى رسول الله شاكيا ابنه فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن عبد الله: أن خلّ عنه حتى يدخل «1» .
ولسنا نرى في هذا السياق مهما كان طويلا ما لا يتسق إجمالا مع الواقع ومع روح الآيات. وقد روته المصادر القديمة. ومنها ما رواه رواة عدول، فسجل بعضه البخاري ومسلم والترمذي في مساندهم. وكل ما يمكن أن يلحظ فيه ما جاء من أن آية وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ قد نزلت بناء على رفض ابن سلول حينما نزلت الآيات الأخرى أن يذهب إلى رسول الله يستغفر له.
والمعقول أن يكون بعض الناس اقترحوا عليه قبل نزول الآيات أن يذهب إلى النبي معتذرا مستغفرا فأبى، فحكت الآيات هذا الموقف فيما حكته واحتوت
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن والزمخشري والتاج ج 4 ص 235- 236. رواية البخاري ومسلم والترمذي وطبقات ابن سعد ج 3 ص 104- 107 وابن هشام ج 3 ص 334- 337 وتاريخ الطبري ج 2 ص 260- 264 ومعظم النص منقول عن تاريخ الطبري وتفسير البغوي. وهذا نصّ الحديث الذي رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «كنّا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري يا للأنصار. وقال المهاجر يا للمهاجرين فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال ما بال دعوى الجاهلية. قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال دعوها فإنها فتنة فسمع بذلك ابن أبي فقال فعلوها. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» .(8/462)
بالإضافة إلى ذلك استطرادا إلى تقرير واقع المنافقين جميعهم والتنديد بهم وإنذارهم والتحذير منهم وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه على النحو الذي شرحناه، وبالأسلوب القوي الرائع الذي جاءت به.
ولقد كانت الأقوال الصادرة من زعيم المنافقين خطيرة جدا، بل لعلها أشد ما صدر عن المنافقين خطورة وقحة وكيدا وصراحة على ملأ من الناس. ولذلك كانت الحملة عليهم متناسبة في شدتها مع هذه الخطورة، واقتضت حكمة التنزيل أن تفرد من أجل ذلك سورة خاصة.
ومن الممكن أن يلمح في الآيات أن المنافقين كانوا معتدّين بأنفسهم وشاعرين بقوتهم نوعا ما برغم ما حكته عنهم من توكيد للنبي بإيمانهم برسالته.
وهو ما كانوا يفعلونه في مختلف المناسبات والمواقف على ما مرت منه أمثلة عديدة وبخاصة في سورة النور السابقة لهذه السورة. ومثل هذا ملموح في الفصول التي احتوتها سور النور والنساء والأحزاب.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن جملة وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ التي جاءت مطلقة تظلّ مستمرة التلقين بما يوجده الإيمان في نفس المؤمن من القوة وتظل كذلك مستمرة فيض يستمد منه المسلمون شعور العزة ويحفزهم إلى إباء كل ضيم وهوان واعتبارهما متنافيين مع ما قرره لهم القرآن من عزة وكرامة واستعلاء.
هذا، ولقد احتوت الآية [3] تعليلا صريحا لطبع قلوب المنافقين وهو كونهم كفروا بعد إيمانهم نتيجة لسوء نيتهم وخبث طويتهم. وهذا متسق مع ما جاء في المناسبات المماثلة بالنسبة للكفار والمتكبرين مثل وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] وكَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ...
[الأعراف: 100] وكَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35] بحيث يزول بذلك ما قد يتبادر من وهم بسبب ما جاء في بعض الآيات من إطلاق مثل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] .(8/463)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
أما جملة لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فإن من الأولى أن يلحظ تقرير كون ذلك إذا ماتوا وهم على كفرهم ونفاقهم. لأن هناك آيات تذكر أن الله يقبل توبتهم إذا تابوا مثل آيات سورة النساء هذه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) . وقد جاءت هاتان الآيتان عقب سلسلة فيها حملة شديدة على المنافقين، وفيها جملة من الجملة المذكورة هنا كما ترى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) والذي نرجحه أن كثيرا من المنافقين أخلصوا في إيمانهم بدليل أنهم كانوا عددا غير قليل وأقوياء في أوائل العهد المدني فأصبحوا عددا قليلا خائفين حذرين على ما ذكرته آيات في سورة التوبة.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
. (1) لولا: هنا بمعنا هلّا
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
(1) تحذير للمؤمنين من إلهاء أموالهم وأولادهم لهم عن ذكر الله، لأن من يكن هذا شأنه فإنه من الخاسرين.(8/464)
(2) وحثّ لهم على الإنفاق في سبيله وهم في سعة من الوقت والعمر. وقبل أن يداهمهم الموت فيندموا ويتمنوا على الله أن يؤخر أجلهم حتى يتصدقوا ويكونوا من الصالحين.
(3) وتنبيه لهم بأن الندم والتمني لن يجدياهم شيئا لأن الله لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنه لخبير بنواياهم وأعمالهم.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. ومع أن عبارتها مطلقة. وتبدو أنها فصل جديد. فإننا نرجح أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب والتفات، لتلقين المؤمنين المخلصين ما هو الأمثل لهم، والأحرى بهم في مناسبة ذكر مواقف المنافقين البغيضة، وزجرهم وتقريعهم ولا سيما أن دعوة المنافقين إلى عدم الإنفاق على من عند رسول الله التي حكتها تلك الآيات هي دعوة إلى أقاربهم وذوي رحمهم وعشيرتهم من الأنصار. ومعظمهم كانوا مخلصين في إيمانهم بالله ورسوله.
والآيات في حدّ ذاتها جملة تامة. وأسلوبها قوي نافذ إلى القلوب والعقول.
وهي مطلقة التوجيه فيكون ما فيها من أمر ونهي وتحذير شاملا لكل المسلمين في كل مكان ليكون ذلك خطتهم المثلى التي يسيرون عليها.
وأسلوب الآيات وفحواها يجعلاننا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة وبخاصة في سياق الآية [37] من السورة السابقة التي فيها تنويه بالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهو أن ما فيها من تحذير ونهي منصبان على الاستغراق في حبّ الأموال والأولاد استغراقا يؤدي إلى التقصير في واجب ذكر الله والإنفاق في سبيله. وليس على الاشتغال بالتجارة وكسب المال والاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا والأولاد. فهذا مما أباحه القرآن للمسلمين في مواضع كثيرة صراحة وضمنا على ما نبهنا عليه في نطاق الاعتدال والقصد وعدم التقصير في الواجبات.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات رواية عن ابن عباس تفيد أن هذه الجزء الثامن من تفسير الحديث 30(8/465)
الآيات هي في صدد الحج والزكاة وإيجاب فعلهما على المؤمنين في فسحة من العمر والوقت «1» .
ولقد روى هذا الترمذي بهذه الصيغة «من كان له مال يبلغه حجّ بيت ربّه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله إنما يسأل الرجعة الكفار. قال سأتلو عليك بذلك قرآنا، ثم تلا الآيات.
فسأله الرجل فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدا. فسأله فما يوجب الحج؟ قال الزاد والبعير» «2» .
وليس في هذه الصيغة ما يفيد أن الآيات في صدد أداء فريضتي الحج والزكاة كما هو ظاهر. وإنما أورد ابن عباس الآيات جوابا على سؤال في صدد تمني المسلمين المقصرين في واجبات الزكاة والحج الرجعة «3» .
وعلى هذا فإن ما ذكرناه في صدد صلة الآيات بسابقاتها واحتوائها خطة شاملة لكل المسلمين يظل في محلّه إن شاء الله.
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والقاسمي.
(2) انظر التاج ج 4 ص 237 فصل التفسير. [.....]
(3) ننبه على أن ابن كثير أورد حديث ابن عباس هذا ثم قال «ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع. وأبو جناب الذي هو من رواة الحديث ضعيف» . وابن كثير من أئمة الحديث.(8/466)
سورة المجادلة
في السورة تسفيه لعادة الظهار وتشريع فيها. وحكاية لشكوى وجدال امرأة مسلمة في سياق ذلك. وتنديد بفريق كان يتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان، ونهي للمسلمين عن مثل هذا الخلق، وتعليم لهم بما هو الأمثل بهم. وتعليم للمسلمين كذلك آداب المجالس. وتلقينهم الاهتمام بالأخلاق والعلم وأهلهما. ومشهد فيه حثّ للمسلمين على تقديم صدقات عند اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اجتماعا خاصا، وحكاية لاستثقالهم ذلك وعتاب لهم ونسخ للتكليف بسبب ذلك. وحملة شديدة على المنافقين لموادتهم لمن غضب الله عليهم الذين تتفق الروايات والأقوال على أنهم اليهود. وتنزيه للمخلصين عن مثل هذا الموقف.
وبعض عبارات الحملة على المنافقين مشابهة لما ورد فيهم في السورة السابقة، مما قد يكون قرينة على صحة ترتيب السورة بعد تلك.
ولقد احتوت السورة فصولا متنوعة: منها ما لا يلمح بينه وبين سابقه ولا حقه صلة موضوعية أو ظرفية. ومنها ما يمكن أن يلمح فيه مثل هذه الصلة.
وقد تكون هذه الفصول نزلت متعاقبة فوضع بعضها بعد بعض. وإلا فتكون السورة قد جمعت في وقت متأخر نوعا ما بعد أن تمّ نزول ما اقتضت الحكمة نزوله وجمعه في سورة واحدة من فصولها.
وجمهور المفسرين على أن الذين حكت بعض آيات السورة موالاة المنافقين لهم هم من اليهود. وفحوى الآيات قد يؤيد ذلك. وكذلك فإن هناك رواية يرويها معظم المفسرين تفيد أن اليهود كانوا من الفريق المتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان.(8/467)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
ولما كان من بقي من اليهود في المدينة وهم بنو قريظة قد نكل بهم عقب وقعة الخندق على ما حكته بعض آيات سورة الأحزاب فيكون ذلك قرينة على أن بعض آيات السورة قد نزل قبل سورة الأحزاب أو على الأقل قبل فصلها الذي يشير إلى التنكيل بيهود بني قريظة.
وهناك مسألة مشتركة أخرى بين هذه السورة وسورة الأحزاب وهي عادة الظهار الجاهلية. فقد احتوى مطلع سورة الأحزاب تنديدا بهذه العادة ولكنه مترافق مع التنديد بعادة التبني الجاهلية. ثم احتوى تشريعا في إلغاء التبني دون الظهار.
في حين أن التنديد بالظهار في هذه السورة رافقه تشريع. بحيث يحتمل أن يكون تنديد سورة الأحزاب هو السابق كخطوة أولى ثم جاء التشريع في هذه السورة كخطوة ثانية وبحيث قد يصح أن يكون في هذا قرينة على سبق فصل سورة الأحزاب على فصل الظهار في هذه السورة: والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
. في الآيات:
(1) إشارة إلى حادث شكوى امرأة إلى الله ورسوله من زوجها ومجادلتها في حالتها وإيذان بأن الله قد سمع قولها وسمع المحاورة التي دارت بينها وبين النبي.
(2) والتفات تعنيفي إلى الذين يظاهرون من زوجاتهم. ووضع للأمر في(8/468)
نصابه الحق: فهن لسن بأمهاتهم وليست أمهاتهم إلّا اللائي ولدنهم. وإن تشبيه الزوجة بالأم وتحريم وطئها بهذا التشبيه- وهذا هو مفهوم الظهار «1» - هو منكر وزور يجب التوبة عنه. وحينئذ يعفو الله عن التائبين ويغفر لهم وهو العفو الغفور.
(3) وتعقيب تشريعي في حالة الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، فيجب عليهم أن يعتقوا رقبة كفارة، توبة قبل أن يتماس الزوجان جنسيا وحينئذ يحل لهم ذلك. فإذا لم يجدوا رقبة يعتقونها أو لم يستطيعوا شراء عبد وعتقه فعليهم أن يصوموا بدلا من ذلك شهرين متتابعين. فإذا لم يستطيعوا فعليهم أن يطعموا ستين مكسينا وقد انتهت الآيات بالتنبيه إلى وجوب الوقوف عند أوامر الله وحدوده وبإنذار الجاحدين بعذاب الله الأليم توخيا للتشديد في تسفيه هذا التقليد كما هو المتبادر.
تعليق على الآية قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) والآيات الثلاث التالية لها وما ورد فيها من أحاديث وتعلق بها من أحكام وما فيها من تلقين ودلالة على قوة شخصية المرأة العربية
لقد روى المفسرون «2» سبب نزول هذه الآيات في خبر طويل، رأينا من المفيد إيراده لما فيه من فوائد وطرائف وتلقين وأحكام، حيث روي عن ابن عباس أن امرأة أنصارية اسمها خولة رآها زوجها أوس بن الصامت ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال ولكنه قال لها ما أظنك إلّا حرمت عليّ فقالت لا تقل ذلك. وأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله. فقال إني أستحي منه فقالت دعني أسأله. فقال سليه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي تزوجني وأنا شابة غانية ذات مال وأهل. حتى إذا أكل
__________
(1) كان الزوج يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، وبذلك يصبح وطؤها محرما عليه.
(2) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.(8/469)
مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني. وقد ندم. فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به؟ فقال لها ما أراك إلّا حرمت عليه فقالت يا رسول الله والله الذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا. وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ فقال ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ قال لها حرمت عليه هتفت قائلة إني أشكو إلى الله فاقتي وحاجتي وشدة حالي اللهمّ فأنزل على لسان نبيك. وكان هذا أول ظهار في الإسلام فقامت عائشة تغسل شقّ رأس رسول الله فقالت المرأة: انظر في أمري جعلني الله فداك يا نبي الله فقالت عائشة اقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله وكان إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي زوجك فتلا عليه الآيات قالت عائشة تبارك الله الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المحاورة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليّ بعضه. إذ أنزل الله الآيات. فلما تلاها على الرجل قال له هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال إذا يذهب مالي كله والرقبة غالية وإني قليل المال. قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال والله يا رسول الله إني إذا لم آكل ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشى عيني قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال لا والله إلّا أن تعينني على ذلك يا رسول الله فقال إني معينك بخمسة عشر صاعا وأنا داع لك بالبركة فأعانه رسول الله ودعا له بالبركة.
وقد روى الخبر أصحاب السنن باختصار ليس فيه ما قد يلمح في هذا النصّ الطويل من تناقض حيث رووا عن خولة بنت مالك بن ثعلبة «قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه فجادلني فيه وقال اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... إلخ فقال يعتق رقبة قالت: لا يجد. قال يصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله: إنه شيخ كبير. قال فليطعم ستين مسكينا. قالت ما عنده شيء يتصدق به. قالت فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال: قد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه بها ستين مسكينا وارجعي إلى(8/470)
ابن عمك» «1» .
ولقد جاء في أوائل سورة الأحزاب آية احتوت تسفيها لعادة الظهار. وقد ذكرنا في سياق تفسيرها مدلول هذه العادة وأسبابها وأثرها في الجاهلية فلا نرى حاجة إلى التكرار. والمتبادر أن آية الأحزاب نزلت قبل هذه الآيات، فكانت خطوة أولى في تسفيه هذه العادة ثم جاءت هذه الآيات لتكون حاسمة في تشريع إبطالها.
ولقد تعددت الأقوال في تخريج جملة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا صرفيّا وفقهيّا ونحويّا حتى اعتبرها بعضهم من مشكلات القرآن. ومن هذه الأقوال أنها بمعنى العودة إلى الوطء أو بمعنى الندم والعودة عما قالوا أو فيما قالوا أو بمعنى العودة إلى عادة الجاهلية فيعتبرون الظهار طلاقا أو بمعنى العودة إلى لفظ الظهار ثانية.
أو بمعنى العودة إلى تحليل ما حرّموه ونقض ما أبرموه «2» .
ويبدو على ضوء الروايات الواردة أن أوجه الأقوال وأكثرها اتساقا مع فحوى الآيات كون الجملة بمعنى الندم والرغبة في العودة عما قالوا وتحليل ما حرموا ونقض ما أبرموا حيث جعل الله لهم فرصة لذلك بالكفارة قبل التماسّ.
وجملة وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تكون في مقامها بمعنى إن الله تعالى حينئذ يعفو عمن ظاهر من امرأته فارتكب منكرا من القول وزورا.
نقول هذا ونحن غير مطمئنين تماما إلى كون معنى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا هو (ثم يعودون عما قالوا) لأن في السورة آية تأتي بعد قليل فيها تعبير مماثل ولا يمكن أن يؤول بهذا التأويل، فضلا عن كون هذا التأويل غير مستقيم لغويّا.
وهي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ [المجادلة: 8] .
وقد كان الأوجه أن تؤول تأويلا يتسق مع ذلك فيكون معنى الجملة (ثم
__________
(1) التاج ج 4 ص 288 فصل التفسير، وأصحاب السنن هم: أبو داود والترمذي والنسائي.
وفي تفسير ابن كثير صيغ أخرى لرواية هذا الحادث مختلفة في التفصيل متفقة في النتائج فاكتفينا بما أوردناه.
(2) انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري.(8/471)
يعودون إلى المظاهرة مرة أخرى) وتكون جملة وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ في صدد عفو الله عن الذين صدر منهم المظاهرة قبل نزول الآيات لو لم ترد الروايات التي روى جوهرها أصحاب السنن بالأسلوب الذي وردت به. والله أعلم.
والمستفاد من أقوال المفسرين أنه لا يترتب كفارة على من لا يريد أن يعود إلى معاشرة زوجته جنسيا. وقد يكون هذا متسقا مع فحوى الآية. غير أن المتبادر أن الزوج في مثل هذه الحالة يظل موضع سخط الله المنطوي في الآيات لأنه قال منكرا من القول وزورا ولم يرجع عنه ليستحق عفو الله وغفرانه.
ولقد قال الزمخشري إن المظاهر إذا امتنع عن الكفارة فلا مرأته أن تراجع القاضي وعلى القاضي أن يجبره على الكفارة وأن يحبسه حتى يكفر. لأن في امتناعه ضررا بحق زوجته. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن فيه حماية للمرأة التي استهدفها القرآن والسنة في مختلف المناسبات على ما مرّ التنبيه عليه. لولا أن تكون مسألة حبس المظاهر حتى يكفر تتحمل التوقف. فقد لا يكون في استطاعته التكفير وقد يظل مصرا على عدم التكفير ولا يعقل أن يظل محبوسا إلى آخر العمر.
ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه فرض حالة إصرار الزوج المظاهر على الامتناع عن الكفارة. ولم نطلع في ذلك على أثر نبوي أو راشدي. ولما كان من أهداف الظهار في الجاهلية تعليق الزوجة حتى لا تكون زوجة ولا مطلقة كالإيلاء على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [226- 227] وآية سورة الأحزاب [4] فالذي يتبادر لنا أن هذه الحالة تقاس على حالة الإيلاء. وآيات الإيلاء في البقرة جعلت لهذه الحالة مدة أربعة أشهر فإما أن يراجع الزوج زوجته وإما أن تعد طالقة منه طلقة بائنة على ما شرحناه أيضا في سياق شرحها. فيصح والحالة هذه أن يقال إن على المظاهر إما أن يكفر ويعود إلى معاشرة زوجته وإما أن تطلق منه طلقة بائنة. ولما لم يكن للكفارة مدة فإن للحاكم أن يعين مدة لها فإذا لم يكفر المظاهر خلالها ويعود إلى زوجته طلق الزوجة منه طلقة بائنة حماية لها من بقائها معلقة لا زوجة ولا مطلقة. وقد يصح أن تجعل المدة القصوى للإيلاء(8/472)
مدة قصوى للظهار بحيث يطلق القاضي عليه إذا لم يكفر المظاهر خلالها أو تطلق منه طلقة بائنة تلقائيا. والله أعلم.
وفي كتب التفسير تعليقات وتفريعات أخرى حول هذه المسألة كثير منها معزوّ إلى ابن عباس ولبعض التابعين وإلى الأئمة أبي حنيفة والشافعي والحنبلي والمالكي وأبي يوسف. وبينها خلاف. نوجز أهمها مما يتصل بفحوى الآيات فيما يلي مع التعليق عليها بما يعنّ لنا «1» :
1- من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي أو كبطن أمي أو كفخذ أمي، أي دون أن يقتصر على الظهر.
وقد لا يخلو هذا من وجاهة من حيث القياس والهدف. مع التنبيه على أن الظهار الجاهلي الذي هو المقصود كان يستعمل فيه الظهر. ومنه جاءت التسمية.
2- من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أختي أو بنتي أو عمتي أو خالتي، أي ما هو محرم عليه نكاحه من النساء. ومنهم من قال إن الظهار لا يتحقق إلّا بتشبيه الزوجة بالأم أخذا بنصّ الآية. وهذا القول هو الأوجه المتسق مع النصّ. وإن كان القول الأول قد يكون صحيحا من حيث القياس والهدف أيضا.
3- ومنهم من قال إن الظهار لا يجعل الوطء فقط محرما قبل الكفارة بل يجعل كل نوع من الاستمتاع ببدن المرأة أيضا حراما. ومنهم من قال لا يحرم إلّا الوطء فقط. وكلا القولين وجيه، وإن كنا نرجح الثاني لأن الآية إنما نهت عن التماس قبل الكفارة. والتماس هو الوطء على ما يستفاد من آيات في سورتي البقرة والأحزاب عبر بها عن الوطء بالمسّ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 236] ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49] .
__________
(1) انظر الخازن بخاصة لأنه استوعب أكثر المسائل.(8/473)
ولقد روى المفسرون حادثة بصيغ عديدة جاء في إحداها «أن سلمة بن صخر البياضي قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت لهم: امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
لا والله فانطلقت إلى رسول الله فأخبرته فقال: أنت بذاك يا سلمة قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به، قال: حرّر رقبة قلت: والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال:
فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أصبت بالذي أصبت إلّا من الصيام، قال: فاطعم وسقا من تمر ستين مسكينا، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاما. قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق (أي الموظف) فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم» «1» وقد روى هذا النص أبو داود والترمذي أيضا «2» وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي حديثا آخر من هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: وما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال؟ رأيت خلخالها في ضوء القمر قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» «3» . والحديثان من الأحاديث المعتبرة حيث يمكن أن يقال في هذه الحالة إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من الحكمة أن يهون على الرجل في أمر جرى وانقضى ولا سيما أن التشريع القرآني جاء لإلغاء تقليد الظهار الجاهلي وما يترتب عليه من تحريم وطء الزوجة. وإن الكفارة قد شرعت
__________
(1) النص منقول عن الخازن وقد أورده البغوي بخلاف يسير.
(2) التاج ج 2 ص 323.
(3) المصدر نفسه ص 322 وأورد هذا الحديث بخلاف يسير ابن كثير والزمخشري أيضا. وفي نصّ الزمخشري ورد اسم سلمة بن صخر حيث قد يفيد هذا أن الحادث واحد.(8/474)
كعقوبة على من يظاهر امرأته ويحرم على نفسه وطئها تبعا لذلك.
ومع ذلك فالواضح من نصّ الحديثين وروحهما أنهما لا يبيحان الوطء قبل الكفارة، حيث تظل القاعدة الحكمية وهي حرمة الوطء قبل الكفارة محكمة. والله أعلم.
وفي ما جرى من حوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وسلمة الوارد في الحديث الأول ومساعدة النبي صلى الله عليه وسلم له على الكفارة من بيت المال ما يفيد إيجاب تنفيذ أمر الله بالكفارة بأية وسيلة كانت وعدم جواز تركها واستحلال وطء الزوجة بدونها. وإيجاب مساعدة بيت المال لغير القادرين على الصوم على الكفارة المالية ولو بإطعام ستين مسكينا. والله أعلم.
4- من الأئمة من أجاز عتق رقبة كافرة أو ذمية لأن العبارة القرآنية مطلقة.
ومنهم من لم يجز ذلك قياسا على كفارة قتل الخطأ المشابهة بعض الشيء لكفارة الظهار باستثناء إطعام ستين مسكينا والتي قيدت الرقبة في الآية التي وردت فيها بقيد مؤمنة فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ... [النساء: 92] والقول الثاني هو الأوجه فيما نرى إلا في حالة عدم وجود رقبة مؤمنة.
5- اتفق الأئمة على أن كفارة الظهار تتكرر كلما تكرر صدوره إلّا إذا كان التكرار في مجلس واحد. وهذا وجيه وصواب. وقد يكون من الصواب أيضا أن التكرار لو لم يكن في مجلس واحد وكان قبل الكفارة كفت كفارة واحدة والله أعلم.
6- أكثر الأئمة على أن ترتيب أنواع الكفارة واجب المراعاة فالأوجب هو تحرير رقبة أولا فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وهذا حق متسق مع نص الآيات وروحها.
غير أن هناك من أجاز الإخلال بالترتيب لمعذرة. فأجاز الصيام دون عتق الرقبة لمن عنده رقبة إذا كان لا يستغني عنها أو لمن عنده ما يشتري به رقبة إذا كان لا يستغني عن ثمنها لنفقة عياله. وأجاز الانتقال من الصيام إلى إطعام الطعام لمن اشتد به الشبق ولم يستطع الصبر إلى الانتهاء من صيام الشهرين. ولسنا نرى في(8/475)
هذا بأسا أيضا عملا بالمبادىء القرآنية التي أباحت المحظور للمضطر. ولم تكلف نفس إلّا وسعها على ما مرّ شرحه في مناسبات عديدة سابقة.
7- وهناك من أجاز لمن لم يقدر على عتق الرقبة وصيام شهرين متتابعين وأراد إطعام المساكين الستين أن يطأ زوجته قبل الإطعام أيضا استنباطا من تأخير هذا عن العملين الأولين في ترتيب النصّ القرآني. ونرى في هذا بعدا عن روح الآيات لأن جملة إطعام الطعام تابعة للكلام الأول ومعطوفة عليه وتتمة له.
8- وهناك من أساغ وطء زوجته في ليالي صيامه الشهرين لأنه باشر القيام بواجب الكفارة. ونقول هنا ما قلناه في صدد القول الأول.
9- والمستفاد من أقوال المفسرين المعزوة إلى أئمة الفقه أو الواجب هو إطعام ستين مسكينا طعام يوم كامل من الطعام الذي يقتات به أهل البلد. وهو صواب. ومنهم من أجاز إطعام مسكين واحد ستين يوما ومنهم من أوجب مراعاة النصّ القرآني وهو الأوجه فيما نرى.
هذا، وفي الآيات أمور جديرة بالتنبيه والتعليق:
فأولا: إنها توخت رفع الحيف والظلم عن المرأة وكانت مظهرا آخر من مظاهر عناية القرآن بها.
وثانيا: إن في الكفارة المفروضة وسيلة إلى تحرير العبيد والبرّ بالمساكين.
وهذا وذاك مما حثّ عليهما القرآن في مواضع عديدة.
وثالثا: إن الآية الأولى بخاصة احتوت صورة قوية لشخصية المرأة العربية المسلمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مجادلتها عن حقها ومحاولة دفع الضيم عنها وفي ما انتهى الموقف إليه من سماع الله لقولها وإنزاله قرآنا بإنصافها وحمايتها. وفي هذا سند يسند حق المرأة المسلمة في الدفاع عن نفسها، واحترام هذا الحق وما يترتب عليه من التسليم لها به من قبل أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه أسوة حسنة دائمة للمرأة المسلمة تتأسى به في كل ظرف ومكان في الجرأة والدفاع عن حقها أمام أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه دليل على أن المرأة العربية(8/476)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
المسلمة كانت في حالة عقلية وشخصية تجعلها تقف مثل هذا الموقف. وفي القرآن والآثار أدلة كثيرة مؤيدة. وقد مرّت أمثلة منها في المناسبات السابقة.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
. (1) يحادّون: يشاقّون ويعادون.
(2) كبتوا: ذلوا وخزوا وأهلكوا.
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تقرير إنذاري وتنديدي بالذين يشاقون الله ورسوله: فهؤلاء مصيرهم إلى الذل والخزي والهلاك كما كان مصير أمثالهم من قبلهم. والله إنما ينزل آياته واضحات ليتعظ الناس بها والكافرون هم الذين لا يتعظون بها. فلهم عند الله العذاب الأليم. ولسوف يبعثهم جميعا إليه وينبئهم بأعمالهم فيرونها محصاة عليهم في حين قد يكونون هم أنفسهم نسوها وذهلوا عنها. لأن الله لا يخفى عليه شيء. وهو شهيد ومطلع على كل شيء.
ولم نطلع على رواية في صدد نزول الآيتين. وهناك احتمالان: الأول أن تكونا معقبتين على السياق السابق الذي انتهى بتقرير كون ما جاء فيه هو حدود الله وبإنذار الكافرين بعذاب أليم. والثاني أن تكونا بداية ومقدمة للسياق الآتي الذي احتوى تنديدا بفريق من المتظاهرين بالإسلام كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول.
وكلا الاحتمالين وارد بنفس القوة. فإذا صح الاحتمال الأول تكون الصلة قائمة بين الآيتين وما سبقها. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني فمن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها في السورة. وإلّا فتكون وضعت بعدها لما يجمع بينها وبين سابقها من إنذار الكافرين. والله أعلم.(8/477)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
[سورة المجادلة (58) : الآيات 7 الى 10]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
. (1) نجوى: اجتماع سرّي أو مساررة حديث.
(2) يتناجون: يتسارّون أو يتحدثون في مجالسهم السرّية.
(3) لولا: هنا بمعنى هلّا للتحدي.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور خبيثة عن اليهود والمنافقين وما فيها من تحذير وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) تقريرا وتوكيدا بعلم الله تعالى لكل ما يعمله الناس بالسرّ والعلن مهما بالغوا بالتخفي والمساررة وكونهم تحت رقابته الدائمة الشاملة.
(2) وتنديدا بفريق من الناس نهوا عن الاجتماعات السرّية فلم ينتهوا وظلوا يعقدون هذه الاجتماعات ويتحدثون فيها بما فيه الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
ثم بلغ من تحديهم وسوء أدبهم أنهم كانوا إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بغير تحية الله وقالوا في أنفسهم هلّا عذبنا الله على ما نقول ونفعل.(8/478)
(3) وتحذيرا للمؤمنين المخلصين من مثل ذلك وحثّا على عمل ما هو الأمثل بهم وهو التناجي بما فيه البرّ والتقوى إذا اجتمعوا في مجالس خاصة وتقوى الله الذي سوف يحشرون إليه.
(4) وتنبيها تطمينيا لهم: فإذا تسارر فريق من الناس بما فيه إثم وكيد فالشيطان هو الذي يوسوس لهم بذلك ليحزنهم. غير أنهم لن يضروهم بشيء إلّا بإذن الله وعليهم أن يتكلوا عليه فهو وحده الذي يتوكّل عليه المؤمنون.
والآيات فصل جديد كما هو المتبادر إلّا احتمال كون الآيتين السابقتين مقدمة له. والمتبادر أن الآية الأولى منها في مثابة تمهيد أو مقدمة للآيات الثلاث التالية لها.
وقد روى المفسرون «1» أن الآية الثانية نزلت في جماعة من المنافقين واليهود كانوا يعقدون مجالس خاصة يتحدثون فيها بما فيه كيد وتآمر على النبي والمؤمنين وكانوا يفعلون هذا في ظروف الأعمال الجهادية والأزمات، وإذا مرّ بهم فريق من المؤمنين المخلصين غمزوا نحوهم فكان ذلك يثير الهمّ والقلق فيهم فشكوا إلى رسول الله. كما رووا أنها عنت أيضا اليهود الذين كانوا يستعملون جملة (السام عليكم) بدلا من السلام عليكم إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة أم المؤمنين قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة فقال رسول الله مهلا يا عائشة فإن الله يحبّ الرفق في الأمر كلّه فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال فقد قلت وعليكم» وفي رواية لمسلم «فسمعت عائشة فسبّتهم فقال رسول الله مه يا عائشة فإن الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش فأنزل الله عزّ وجل وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» «2» .
وهكذا تكون الروايات والحديث قد قسمت الآية الثانية إلى قسمين وجعلت
__________
(1) انظر البغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.
(2) التاج ج 5 ص 227.(8/479)
لنزول كل قسم مناسبة خاصة، هذا في حين أن قوة الانسجام ظاهرة بين الآيات الأربع بحيث تسوغ ترجيح نزولها دفعة واحدة.
وهذا لا ينقض صحة الحديث والرواية حيث يصح القول إن ما روي جميعه قد وقع قبل نزول الآيات مع شيء آخر هو ما تفيده الآية الثانية من نهي الفريق المعني فيها عن التناجي الآثم فلم يرتدع فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات الأربع منبهة منددة منذرة مرشدة ومطمئنة.
ولقد روى الترمذي في فصل التفسير حديثا عن أنس قال «أتى يهوديّ على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال السام عليكم فردّ عليه القوم فقال نبي الله هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. سلّم يا نبي الله. قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه عليّ فردوه فقال قلت السام عليكم. قال نعم. قال صلى الله عليه وسلم عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت قال وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» «1» .
ومع أن الرواية والأحاديث تذكر أن اليهود هم الذين كانوا يحيون النبي بما لم يحيّه به الله فإن الجملة القرآنية شاملة للذين حكت تناجيهم بالإثم والعدوان وروت الرواية أنهم كانوا فريقا خليطا من المنافقين واليهود فإما أن تكون الآية احتوت الإشارة إلى هذا في مناسبة التنديد بتناجي هذا الفريق الخليط الآثم. أو أن المنافقين أيضا صاروا يقلدون اليهود في تحيتهم الخبيثة.
وإذا صحّ أن المنافقين كانوا فريقا من المتناجين مع اليهود فيكون هذا قرينة على أن هذا الفصل قد نزل قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق والتنكيل ببني قريظة الواردة في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكور نزل بعده على ما نبهنا عليه في مقدمة السورة.
وعلى كل حال ففي الآية الثانية بخاصة صورة للمواقف الخبيثة التي كان
__________
(1) التاج ج 4 ص 228- 229.(8/480)
يقفها اليهود والمنافقون ضد النبي والمخلصين والتي حكت مثلها آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها.
ومع خصوصية الآيات فإنها تحتوي تلقينات وتأديبات اجتماعية عامة وعظات بليغة مستمرة المدى:
(1) بوجوب مراقبة الله والإيقان بأنه شاهد على كل شيء.
(2) وبوجوب الحذر نتيجة لذلك من الكيد والأذى والتآمر بالسوء سرّا وجهرا.
(3) وبوجوب اجتناب ما من شأنه إثارة القلق في المجتمع بالاجتماعات والمجالس السرية المريبة.
(4) وبوجوب مراعاة عواطف الناس وشعورهم وبخاصة في أوقات أزماتهم.
(5) وبحظر التآمر في المجالس والاجتماعات السرية على ما فيه بغي وإثم ومعصية، وبتقبيحه.
(6) وبوجوب تجنب الألفاظ المريبة في التحية والمعاشرة والآداب السلوكية مع الناس.
(7) وبحق الحاكم وولي الأمر في النهي عن كل ذلك وزجر الذين يفعلونه.
(8) وبتقرير كون الأمثل للمؤمنين ألا يتناجوا ولا يتحدثوا في مجالسهم إلّا بما فيه خير وبرّ ونفع وتقوى وأن ينزهوها عن كل ما فيه إثم وعدوان.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن ابن عمر قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلّا بإذنه فإن ذلك يحزنه» «1» حيث ينطوي في الحديث تأديب سلوكي نبوي رفيع للمسلمين مستمر المدى.
__________
(1) أورد هذا النص ابن كثير من رواية الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود كما أورده عن ابن عمر برواية مسلم.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 31(8/481)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
. (1) تفسّحوا: بمعنى افسحوا ووسعوا لبعضكم.
(2) انشزوا: انهضوا.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ... وما فيها من تأديب وتلقين وما ورد في ذلك وفي فضل العلماء من أحاديث
عبارة الآية واضحة. وفيها:
(1) أمر للمسلمين بالتوسيع والتفسح لبعضهم في المجالس حتى ولو اقتضى ذلك النهوض منها إذا طلب منهم.
(2) وتنويه وتطييب بالذين يفعلون ذلك.
والآية فصل جديد. وقد روى المفسرون أن المسلمين كانوا يتحلقون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويتزاحمون على التقرب منه فكان يأتي آخرون فلا يجدون مكانا فيظلون وقوفا وكان النبي يرغب في تكريم بعض كبار أصحابه أو رجال بدر في مجالسه فيطلب من أحد الجالسين إعطاء مجلسه لغيره فيستثقل ويكره فأنزل الله الآية ليكون فيها تأديب وتطييب «1» .
والرواية وجيهة ومتسقة مع روح الآية كما يبدو. ولعل بعض الناس كانوا إذ لا يجدون مكانا يجلسون لحدتهم فيكون ذلك وسيلة للتسارر والتناجي أو لعل المنافقين بخاصة كانوا يفعلون ذلك فتوخت الآية إفساح المجالس حتى لا يكون ضيقها عذرا لهؤلاء. وإذا صح هذا فتكون المناسبة قائمة بشكل ما بين الآية
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. [.....](8/482)
وسابقاتها ويكون وضعها بعدها بسبب ذلك إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة.
وعلى كل حال فإن هناك تناسبا موضوعيّا بين الآية وسابقاتها من حيث احتواؤها تأديبا وتعليما للمسلمين. ويصح أن يكون ذلك سبب وضعها بعده أيضا. والله أعلم.
وإطلاق الخطاب في الآية يجعل التأديب والتنويه والتطييب الذي احتوته عام الشمول في المواقف والمناسبات المماثلة كما هو واضح.
ويمكن أن يلمح في الفقرة الثانية بالإضافة إلى معنى التطييب معنى الإشادة بطبقتي العلماء والورعين وإيجاب تقديمهما على غيرهما، كما يمكن أن يلمح فيها تلقين روحي بليغ المدى بكون رفعة القدر إنما يجب أن تلتمس بالخلق الكريم والذوق السليم والأدب في المجالس وبالعقل والعلم وليس بالمظاهر والبروز في المجالس.
ولقد أورد المفسرون «1» أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآية وما فيها من تأديب وتلقين. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما ورد في غيرها. وما ورد في غيرها لا يبعد عمّا ورد فيها. منها حديث عن ابن عمر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» «2» . وحديث عن عبد الله بن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا» «3» . وحديث عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه. ولكن افسحوا يفسح الله لكم» «4» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلّ لرجل أن يفرّق بين اثنين إلّا بإذنهما» «5» . وقد روى الإمام أبو عبيد بن القاسم بن سلام عن
__________
(1) الطبري والخازن وابن كثير والبغوي والزمخشري.
(2) النص من ابن كثير.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(8/483)
ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يخلف الرجل الرجل في مجلسه إذا قام وإذا رجع فهو أحق به» «1» .
وليس من تناقض بين النهي عن أن يقيم الرجل من مجلسه والأمر بالنشوز إذا قيل للجالسين انشزوا. فهذا على الأغلب قد منح للنبي صلى الله عليه وسلم لإجلاس الناس في مراتبهم ويظل منوطا بمن يكون في مقامه بعده على ما هو المتبادر. أما حديث ابن عمر فالمتبادر منه هو النهي عن الجلوس في مجلس شخص قام لضرورة على أن يعود.
ولقد تطرق المفسرون إلى القيام للقادم احتراما وترتيب الناس في مجالسهم فرووا روايات عديدة أخرى، منها ما يفيد ترخيص القيام حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأوس حينما استدعى زعيمهم سعد بن معاذ ليحكم في قضية بني قريظة «قوموا لسيّدكم» «2» ومنها ما يفيد منع القيام حيث روي «أن معاوية خرج على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر:
اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحبّ أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار، وفي رواية من سرّه بدلا من أحبّ» «3» . وقد روى أبو داود وابن ماجه حديثا عن أبي أمامة قال «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضا» «4» . وروى الترمذي عن أنس قال «لم يكن شخص أحبّ إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» «5» وجاء في السنن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ولكن حيث يجلس يكون صدر المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم فالصدّيق عن يمينه وعمر عن يساره وبين يديه
__________
(1) كتاب الأموال ص 86.
(2) أورده ابن كثير. وهذا النص مما رواه الشيخان وأبو داود عن أبي سعيد الخدري انظر التاج ج 5 ص 231.
(3) من ابن كثير. والنص مما رواه أبو داود والترمذي انظر التاج ج 5 ص 223 أيضا.
(4) التاج ج 5 ص 232.
(5) المصدر نفسه ص 232.(8/484)
عثمان وعليّ لأنهما كانا يكتبان الوحي» «1» . وقد روي حديث عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «2» . وقد روى الشيخان والترمذي والنسائي حديثا عن أبي واقد قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس حوله إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان فوقفا على رسول الله فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» «3» .
ولقد أراد بعضهم التوفيق بين الحديث الأول والحديثين الثاني والثالث من جواز القيام للقادم وعدمه، فقالوا إن السنّة هي كراهية القيام وإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام لسعد بن معاذ قد كان لحكمة اقتضاها الظرف الخاص. ولقد أورد المفسر القاسمي فتوى للإمام ابن تيمية فيها كثير من الوجاهة. فقد قرر الإمام ما تقدم من جهة وحسّن القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له من جهة. وقال من جهة ثالثة: إذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له لأن ذلك إصلاح لذات البين وإزالة للتباغض والشحناء. فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
ولقد تطرق المفسرون كذلك إلى فضل الذين أوتوا العلم بمناسبة ورود العبارة في الآية فرووا أحاديث متعددة منها حديث عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن السموات والأرض والحوت في الماء لتدعو له. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر
__________
(1) من ابن كثير عن مسلم.
(2) من ابن كثير.
(3) من ابن كثير انظر أيضا التاج ج 1 ص 53.(8/485)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء. لم يورثوا دينارا ولا درهما. وإنما ورثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظّ وافر» «1» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو جاء فيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلّمونه فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه. أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وأما هؤلاء فيتعلّمون الفقه ويعلّمون الجاهل فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلّما» «2» . ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها. وفي رواية من طلب العلم كان كفّارة لما مضى» «3» . وروي عن ابن أبي أمامة قال «ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» «4» .
وفي كل ما تقدم عبر وحكم ومواعظ وتلقين للمسلمين في كل زمان ومكان.
[سورة المجادلة (58) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً
عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للمسلمين بأن يعطوا صدقة ما حينما يريدون
__________
(1) النص من تفسير البغوي. وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي بخلاف يسير انظر التاج ج 1 ص 54- 55. [.....]
(2) من البغوي أيضا.
(3) التاج ج 1 ص 55- 56.
(4) المصدر نفسه.(8/486)
أن يجتمعوا مع النبي اجتماعا خاصا ويتحدثوا معه في أمر ما. ففي ذلك خير وثواب لهم وتطهير لأنفسهم مع استثناء الفقراء الذين ليس معهم ما يعطونه. فإن الله غفور رحيم.
ولقد روى المفسرون «1» أن الناس سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأكثروا حتى شقّ عليه وثقل فأراد الله أن يخفف عنه فأمرهم بتقديم صدقة بين يدي أسئلتهم واستفتاءاتهم كما رووا أن الأغنياء كانوا يغلبون الفقراء على مجالس النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية ليكون فيها إفساح وتفريج للفقراء.
ولسنا نرى الروايات معقولة ولا مما يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أننا لا نراها متسقة مع مضمون الآية. وليست واردة بعد في كتب الحديث المعتبرة.
ويتبادر لنا أن حكمة فرض هذه الصدقة بين يدي مناجاة أحد من المسلمين لرسول الله هو جعل مراجعات الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في قضاياهم ومشاكلهم الخاصة وسيلة من وسائل أخذ بعض المال من ميسوريهم لإنفاقه على المحتاجين والمصالح العامة. أو بتعبير آخر وضع رسم قضاء وفتوى على نحو ما كان مألوفا ومعتادا عليه في القضاء العربي قبل الإسلام. وقد سمته الآية صدقة لأنه لم يكن لشخص النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم تحل له الصدقة «2» ، وإنما أريد لمصلحة المسلمين العامة وفقرائهم. وقد كانت الزكاة تسمى صدقة أيضا وهي شريعة مفروضة. وتعبير إِذا ناجَيْتُمُ يفيد معنى الاجتماع الخاص من أجل عرض قضية أو مشكلة خاصة للاستفتاء أو التقاضي. ويجوز أن تكون حكمة التنزيل اقتضت ذلك حينما أخذت استفتاءات الناس الخاصة تكثر على النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك الوسيلة. ويجوز أن يكون ذلك انبثق في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أولا فأيدته حكمة التنزيل قرآنا. وفي القرآن
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.
(2) روى الشيخان عن أبي هريرة قال «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي كخ كخ ليطرحها ثم قال أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة، ولمسلم أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة» التاج ج 3 ص 30.(8/487)
أمثلة لذلك على ما شرحناه في سياق آية البقرة التي فيها قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ... [144] والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون حديثا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ما ترى دينارا.
قلت لا يطيقونه. قال فنصف دينار. قلت لا يطيقونه قال: فكم، قلت حبة أو شعرة. قال إنك لزهيد» «1» وقد يكون في هذا الحديث الذي رواه الترمذي أيضا دعم لما تبادر لنا من حكمة التكليف. والله أعلم.
وإتماما للحديث نذكر أن في كتب الحديث الصحيحة أي كتب صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي أحاديث عديدة تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لا تحلّ له ولا لآله. ومصداقه ذلك في القرآن الكريم أيضا حيث لم يجعل لرسول الله نصيب في الصدقات كما جاء في آية سورة التوبة هذه:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [60] بينما جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيب خمس الغنائم كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [41] .
وجعل له نصيب في الفيء أيضا وهو ما عاد على المسلمين من الأعداء بدون حرب كما جاء في آية سورة الحشر هذه: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [7] فتكون الصدقة التي أمر الله المسلمين بتقديمها بين يدي نجواه قد أريد بها مورد لبيت المال لإنفاقه على مصالح المسلمين وفقرائهم كما ذكرنا، والله أعلم.
__________
(1) انظر ابن كثير والبغوي وهذا الحديث ورد في التاج بدون حبة. انظر ج 4 ص 229 والشعرة وزن من أوزان الذهب.(8/488)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
[سورة المجادلة (58) : آية 13]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
. تعليق على الآية أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ودلالتها على النسخ في القرآن وما فيها من صور متصلة بالعهد النبوي في المدينة
عبارة الآية أيضا واضحة. وقد تضمنت:
(1) سؤالا إنكاريا منطويا على عتاب موجه للمسلمين على ما كان من إشفاقهم أو استثقالهم للصدقة التي فرضتها الآية السابقة لها على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم من عدم تنفيذهم الأمر.
(2) وإيذانا بالتخفيف عنهم: فقد تاب الله عليهم وأعفاهم من ذلك. وعليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله.
وقد روى المفسرون أن فرض الصدقة على المناجاة كان شديد الوقع والأثر على المسلمين فتكلموا في ذلك فأنزل الله الآية «1» .
والرواية متسقة مع فحوى الآية وروحها. ومضمون الآية وأسلوبها يسند وجاهة حكمة التكليف التي ألمعنا إليها قبل فلو كان لتقليل مراجعة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم أو لإفساح مجال المراجعة للفقراء لما كان وجه للعتاب والعدول لأن المقصود قد حصل.
وواضح أن الآية قد نسخت حكم الآية السابقة وهو ما عليه الجمهور «2» .
ولقد روي عن مقاتل أن حكم الآية السابقة استمر عشر ليال ثم نسخ، وروي عن
__________
(1) انظر البغوي والخازن.
(2) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.(8/489)
علي بن أبي طالب وقتادة والكلبي أن هذا الحكم لم يكن إلّا ساعة من نهار ثم نسخ «1» . ومما روي أنه لم يعمل بالآية إلا علي بن أبي طالب نفسه حيث ناجى النبي صلى الله عليه وسلم وتصدق بدينار. وأن عليا قال إن آية المناجاة لم يعمل بها أحد قبلي ولا عمل بها أحد بعدي «2» . وهذا من أمثلة ما عليه الجمهور من وقوع نسخ في الأحكام القرآنية بأحكام قرآنية مع بقاء المنسوخ تلاوة على ما شرحناه في سياق آيات سورة النحل [100- 101] والبقرة [106] . على أن هناك من قال بعدم النسخ وإنما خفف في الآية التكليف عمن لا يريده وجعل على التخيير «3» . عبارة الآية تؤيد القول الأول كما هو المتبادر. والله أعلم.
ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت عقب نزول الآية الثانية بدون فاصل قرآني فوضعت بعدها. وإلّا فيكون ترتيبها للمناسبة الموضوعية.
وفي الآية صورة لما كان يظهر من المسلمين من مواقف اللجاج والتلكؤ إزاء بعض التشريعات والتكليفات المالية والجهادية مما نبهنا عليه في سياق تشريع الأنفال- الغنائم الحربية- والفيء والجهاد في سور الأنفال والحشر والنساء.
ونقول هنا ما قلناه في تلك المناسبات من أننا نرجح أن الذين استثقلوا التكليف الجديد وأشفقوا منه هم من المستجدين الذين كانوا يؤلفون أكثرية المسلمين وليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة [100] وسجلت آيات عديدة مكية ومدنية استغراقهم في دين الله وطاعته وطاعة رسوله ورويت أحاديث عديدة بفضلهم وإخلاصهم أوردناها في مناسبات سابقة وتواترت الأخبار بأنهم كانوا يبادرون إلى تلقي كل أمر رباني ونبوي بالإذعان والقبول. والتشريعات إنما تقوم على الأكثرية وهذه صورة اجتماعية عامة تظهر في مثل هذه المناسبات في كل وقت ومكان. وقد اقتضت الحكمة العدول عن التكليف بسبب ذلك.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير القاسمي.(8/490)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
وفي المبادرة القرآنية أسوة حسنة لأولياء أمور المسلمين وحكامهم وزعمائهم فيما ليس فيه قرآن صريح أو معصية ومفسدة، حيث ينبغي عليهم مسايرة ظروف ورغبات أكثرية المسلمين في العدول عما يكونون طلبوه أو أوجبوه من تكاليف وأعمال.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 21]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا واستنكارا وحملة شديدة وإنذارا لفريق كانوا يتولون ويتحالفون مع قوم ليسوا منهم ولا من المسلمين. وكانوا إذا ما عوتبوا حلفوا الأيمان الكاذبة بسبيل نفي ما عرف عنهم. وقد قررت الآيات واقع أمرهم بكونهم كاذبين قد استحوذ عليهم الشيطان وغدوا من حزبه وصاروا من الخاسرين وانتهت بتقرير كون الله قد حكم على كل من يشاققه ويحادده الذل. وأن الغلبة ستكون لله ورسله حتما.
والآيات فصل جديد. وقد روي أنها نزلت في منافق اسمه عبد الله بن نبتل(8/491)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
كان يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقل ما يجري فيها إلى اليهود ويشترك معهم في الغمز والسبّ والكيد. وقد جابهه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأخذ يحلف أنه لم يفعل «1» .
والرواية متسقة إجمالا مع مضمون الآيات. غير أن الآيات تفيد أن الفريق المندد به أكثر من شخص واحد. وهذا لا ينفي احتمال صحة رواية مناسبة النزول ولكن يلهم أنه كان لهذا المنافق أمثال. فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم جميعا بالحملة الشديدة التي احتوتها الآيات مع تطمين قوي للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر والغلبة.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت صورة من المواقف الخبيثة التي كان يقفها المنافقون في الكيد والأذى والتضامن والتآمر مع اليهود.
والراجح أن هذه الصورة غير الصورة التي احتوتها الآية الثامنة من هذه السورة وإن كان بينهما شيء من المماثلة.
ومن المحتمل أن تكون الآيات قد نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها.
والآيات قرينة أخرى على أنها نزلت قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق وبني قريظة الوارد في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكورة قد نزل بعدها. والله أعلم.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا أخلاقيا واجتماعيا مستمر المدى بتقبيح وتشنيع وحظر التناصر والتضامن مع أعداء الأمة والملة وعدم التساهل مع من يفعل ذلك والوقوف منهم موقف الشدة والصرامة.
[سورة المجادلة (58) : آية 22]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) .
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والاسم في تفسير البغوي.(8/492)
تعليق على الآية لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وما فيها من قوة تلقين وصورة واقعية وتطورية
عبارة الآية واضحة. وفيها تنزيه قوي لصادقي الإيمان: فإنه لا يمكن أن يقف قوم مؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا موقف الموالاة والموادة لمن يشاقّ الله ورسوله ويحاددهم ويناصبهم العداء. ولو جمعت بينهم أشد روابط القربى كالأبوة أو النبوة أو الأخوة أو العصبية الرحمية. وفيها تنويه قوي بهم وبشرى لهم فالله قد كافأهم على إخلاصهم فملأ قلوبهم بالإيمان وأيدهم بروح وقوة منه ورضي عنهم ورضوا عنه. ولسوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار فتكون مثواهم الخالد. وإنهم حزب الله وإن حزب الله هم المفلحون.
ولقد ذكر المفسرون «1» أنها نزلت بسبيل التنويه بأبي بكر أو أبي عبيدة أو بمصعب بن عمير أو بعلي وحمزة رضي الله عنهم جميعا على اختلاف الروايات بسبب ما بدا منهم من موقف قوي شديد ضد آبائهم وذوي أرحامهم الكفار.
ونحن نتوقف في هذه الرواية التي لم ترد في كتب الحديث المعتبرة ونلحظ أن للآية اتصالا قويا بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها بسبيل توكيد كون المخلصين في إيمانهم منزهين عن فعل ما يفعله المنافقون الذين حكت الآيات السابقة صورة من مواقفهم.
ومهما يكن من أمر فأسلوب الآية قوي أخّاذ نافذ إلى أعماق النفس. وأن
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن.(8/493)
روحها ومضمونها يلهمان أنها بالإضافة إلى ما هي بسبيل تقريره- من قبيل المقابلة والتساوق مع الآيات السابقة على ما رجحناه- تعني تلك الفئة الراسخة في إيمانها المخلصة في نصرتها لله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم وساروا على سيرتهم والذين لم يعد يؤثر في إيمانهم وإخلاصهم أي اعتبار من قربى ودم ومصلحة دنيوية ومادية لأنها فنيت في الله ودينه وتأييد رسوله. وإنها بالتالي احتوت صورة قوية ساطعة النور لهذه الفئة الكريمة الطاهرة التي التفت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وناصرته والتي قام الإسلام وتوطد على أكتافها بالدرجة الأولى بعد الله ورسوله. وهم الذين عنتهم آية التوبة هذه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [100] وآية التوبة هذه في اعتبار الصادقين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [119] وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا «الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «1» . وهذا الحديث «لا تسبّوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» «2» .
وهذا الحديث «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» «3» .
ومع أن أسلوب الآية يلهم أن ما احتوته هو التشديد في النهي عن موادة من حادّ الله ورسوله مطلقا فإن من الممكن أن يلمح فيها شيء من التطور. فالآيات المكية رددت أكثر من مرة وجوب الاستمرار في احترام الوالدين ومعاشرتهما في الدنيا بالمعروف ولو كانا كافرين وعدم إطاعتهما في مسألة الشرك فقط «4» وفي هذه
__________
(1) روى الأول والثالث الترمذي وروى الثاني الأربعة انظر التاج ج 3 ص 272. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) آيات سورة لقمان [14، 15] والعنكبوت [8] .(8/494)
الآية نهي شديد عن موادة من حادّ الله ورسوله ولو كان والدا. وواضح أن هذا التطور يعلل بالموقف العدائي الحربي الذي انتهى إليه الأمر بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمهاجرين من جهة وكفار مكة من جهة أخرى وهو موقف لا يتحمل ملاينة ولا مهاودة ولا أي تساهل واتصال يضرّ بمصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآية يمكن أن تكون احتوت إيعازا للأنصار في صدد صلاتهم بأقاربهم من المنافقين الذين يصحّ عليهم وصف مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
هذا، وروح الآية ومضمونها يمدان المسلم في كل وقت بروح وعظة قويتين بوجوب الإخلاص لله ورسوله وبمنافاة موادة المسلم المؤمن للأعداء وموالاتهم منافاة تامة لأي اعتبار كان. وهي ميزان دقيق خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لمبادئهم وعقائدهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إنّ الله يحبّ الأخفياء، والأتقياء، والأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كلّ فتنة سوداء مظلمة. فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ، وحديثا آخر أخرجه نعيم بن حماد جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو قائلا اللهمّ لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة. فإني وجدت فيما أوحيته لي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . حيث ينطوي في الحديثين صورة من التعليقات والتعقيبات النبوية على بعض الآيات وأهدافها ومضمونها وحيث ينطوي في ذلك في الوقت نفسه تلقين وحكمة وموعظة للمسلمين في كل زمان ومكان.(8/495)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
سورة الحجرات
في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية.
والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوّغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها.
وليس في السورة ما يساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد سورة المجادلة. ومعظم الترتيبات المروية مقاربة لذلك «1» . فجارينا رواية المصحف الذي اعتمدناه. والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) .
__________
(1) انظر ترتيبات نزول السورة المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.(8/496)
(1) يغضون: هنا بمعنى يخفضون.
(2) الحجرات: جمع حجرة وهي الغرفة، والمقصود هنا مساكن النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت في جانب مسجده.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين
في الآية الأولى: نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدوا رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وعمل ورأي والوقوف عنده. مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه.
وفي الآية الثانية: نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته. وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض. وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة.
وفي الآية الثالثة: تنويه (على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي) بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر.
وفي الآيتين الرابعة والخامسة: تنديد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد. فأكثرهم جاهلون لا يعقلون. ولو أنهم الجزء الثامن من التفسير الحديث 32(8/497)
انتظروا وصبروا حتى يخرج إليهم حين يحين وقت خروجه لكان خيرا وأفضل.
ومع ذلك فالله غفور رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته.
والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح. وقد روى المفسرون «1» لكل موضوع مناسبة خاصة. بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة. فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول:
(1) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلّا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما وكان ذلك في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية. وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله بن الزبير «2» .
(2) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الصوم.
(3) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم. ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت بن قيس كان جهير الصوت فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك؟ قال شرّ، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله فحبط عملي وصرت من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة «3» .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري. ومنهم من روى بعض الروايات ومنهم من رواها جميعها أو معظمها.
(2) التاج فصل التفسير ج 4 ص 213- 214.
(3) التاج ج 4 ص 214. وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل وإنما تختلف في الصورة فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى.(8/498)
ورووا لمناسبة الآيتين الرابعة والخامسة:
(1) أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا. فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت. والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك.
(2) وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته.
ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات أو ما كان من بابها. والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة. وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها، استهدافا لذلك التأديب والتعليم. بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة.
والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل: أولا: على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الندّ للندّ وبدون احتشام كبير. وثانيا: على أن(8/499)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
الفريق المخلص من المؤمنين قد امتلأت نفسه بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وحقه من التكريم فكان يراعي نحوه ما يجب عليه من الأدب قبل نزول الآيات.
هذا، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي.
كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحلّ مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود إلخ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر. وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه ثم أخذ ينشىء إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته. وقد توفي صلى الله عليه وسلم في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
. (1) عنتم: شقّ عليكم.
في الآيات:
(1) أمر للمسلمين بالتثبت فيما يأتيهم من الأخبار وبخاصة من طريق(8/500)
الفاسقين المتهمين بصدقهم وإخلاصهم. فلا يستعجلوا في التصديق والحكم فيتهموا أناسا أبرياء من غير يقين. ويصيبوهم بالأذى فيصبحوا نادمين حينما تظهر براءتهم.
(2) وتنبيه تعقيبي على هذا الأمر، فعلى المسلمين أن يعتبروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الموجود بينهم فلو أنه يصدق كثيرا مما يقال له ويأخذ به لنالهم شدائد ومشاق كثيرة. وأن الله قد منّ عليهم أيضا بفضله ونعمته فحبب إليهم الإيمان وزينه وكره إليهم الكفر والعصيان لأوامر الله ورسوله والانحراف عن ذلك. ومن يتحقق فيه ذلك فهم الراشدون. والله عليم بكل شيء حكيم في ما يأمر به ويقرره.
تعليق على الآيات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... إلى نهاية الآية الثامنة وما فيها من تلقين
لقد روى المفسرون «1» روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى للمناسبة التي نزلت فيها الآيات. منها رواية يرويها الطبري عن أم سلمة قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قليل من عودته من غزوة بني المصطلق التي كان من نتائجها المباركة تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم ببنت زعيمهم ودخولهم في الإسلام أن بعث رجلا لجباية صدقاتهم فهرعوا إلى مقابلته تعظيما لرسول الله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم منعوا الصدقات وأرادوا قتله فغضب رسول الله واعتزم على إرسال بعث عليهم وبلغ القوم فأتوه ووجدوه يصلّي الظهر فتصافوا أمامه وصاروا يقولون نعوذ بالله من سخط الله ورسوله بعثت إلينا مصدّقا فسررنا وقرّت أعيننا ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ورسوله فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال وأذّن لصلاة العصر فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ... إلخ وروى الطبري وغيره صيغا أخرى فيها اسم الرجل الذي بعثه رسول الله وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وإنه قال لرسول الله إن بني المصطلق
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.(8/501)
ارتدوا عن الإسلام وأرادوا قتلي مع أنهم رجعوا، وسلموه صدقاتهم وإن كان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية فأراد أن يضربهم بما قاله عنهم. وإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالد بن الوليد ينظر في أمرهم وينكل بهم وأوصاه بالتثبيت وعدم التعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فرجعوا فأخبروه أن الجماعة متمسكون بالإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي أعجبه فرجع إلى رسول الله فأخبره الخبر فأنزل الله الآية.
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة والذي نلحظه أن الآيات نعتت المخبر بالفاسق. ويصعب أن يصدق هذا على رسول وثق به النبي صلى الله عليه وسلم. ولا سيما أنه من المهاجرين وابن رجل كان شديد المناوأة للنبي فانفصل عن أبيه والتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنها نزلت في حادث ما أخبر به مخبر غير موثوق به لو صدّقه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون لترتب عليه ظلم أناس أبرياء. على أن الإطلاق في الآية الأولى أولا ومجيئها بعد الآيات التأديبية والتعليمية السابقة ثانيا يجعل من المحتمل أن يكون بينها وبين سابقاتها صلة نزول ووحدة سياق، ويسوّغ التخمين أن الحادث قد وقع قبل نزول السورة فكان وسيلة للتنبيه والتحذير في سياق فصول التعليم والتأديب التي احتوتها السورة.
والآيات تحتوي بطبيعة الحال تعليما وتأديبا عامين مستمري التلقين والشمول وذوي خطورة عظيمة أخلاقية واجتماعية لا تخفى. ولعل في الآيتين الثانية والثالثة توكيدا لهذه الخطورة وتلقينها. لأن التثبت يكون أوجب وأوكد في الظروف التي لا يكون فيها نبي مشمول برعاية الله تعالى وتسديده وإلهامه ووحيه، وذو نفوذ روحي عظيم على أتباعه. ولقد روى الترمذي «أن أبا سعيد الخدري قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ثم قال هذا نبيكم يوحى إليه وأخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتم فكيف بكم اليوم» «1» مما فيه تدعيم
__________
(1) التاج ج 4 ص 215.(8/502)
للتلقين الذي نوهنا به آنفا. ولقد روى المفسر القاسمي أن قتادة قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التثبّت من الله والعجلة من الشّيطان» مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني.
والجملة الأخيرة من الآية الثانية جديرة بالتنويه حيث انطوى فيها تنويه بالذين تتحقق فيهم الصفات المذكورة قبلها والتي تمنع صاحبها من الفسق والكفر والعصيان. وحيث ينطوي في هذا التنويه حثّ على هذه الصفات والتزامها.
ولقد أورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي رفاعة الزرقي قال «لما انكفأ المشركون يوم أحد قال رسول الله استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفا فقال اللهمّ لك الحمد كلّه. اللهمّ لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت. ولا هادي لمن أضللت ولا مضلّ لمن هديت.
ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت ولا مباعد لما قرّبت اللهمّ ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهمّ إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهمّ إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شرّ ما أعطيتنا ومن شرّ ما منعتنا. اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهمّ توفّنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين. غير خزايا ولا مفتونين. اللهمّ قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدّون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهمّ قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحقّ» ، حيث ينطوي في الحديث موقف دعائي جامع من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تعليم وأسوة للمسلمين فيما تمناه وسأله وعاذ منه. ومن جملة ذلك الاتصاف بالصفات التي احتوتها الجملة المذكورة.
هذا وجملة إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا مستند قرآني لاشتراط العدالة في المخبر والراوي والشاهد ووجوب ردّ من عرف بفسقه. والفسق كلمة عامة تعني الانحراف أو التمرّد عن كلّ ما أمر الله ورسوله به ونهيا عنه ورسماه من حدود إيمانية وتعبدية وأخلاقية واجتماعية.(8/503)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
وبين العلماء خلاف في أمر مجهول الحال «1» . أي الذي لم يعرف فسقه ولا صلاحه فقال بعضهم برده لاحتمال فسقه وقال آخرون بقبوله لأن القرآن إنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق. والمجهول ليس محقق الفسق. ويتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه. والله أعلم.
ولقد درج القضاة الشرعيون على استشهاد عدول على عدالة الشاهد بحيث يوجبون شهادة عدلين متحققة عدالتهما عندهم على عدالة الشاهد. ومن المعتاد أن يفعلوا ذلك سرّا ثم يقرر القاضي في أمر الشاهد حسب ما سمعه من العدلين. وهذا سديد مستلهم من روح الآية. وإذا لم يشهد عدلان بعدالته ردّه القاضي، وبعض القضاة يردون مجهول الحال. والقوانين تمنح للمدعى عليه حقّ الطعن بالشاهد وتحميه في الوقت نفسه، فعلى الطاعن أن يثبت صدق طعنه وإن لم يثبت عدّ قاذفا عليه العقاب وهذا عدل وسديد ومتسق مع التلقين القرآني.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
. (1) حتى تفيء إلى أمر الله: حتى ترجع عن بغيها وتقبل حكم الله وما رسمه من حدود.
تعليق على الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما والآية التالية لها وما فيها من أحكام وتلقين وما ورد في صددها وفي صدد الأخوة بين المسلمين من أحاديث ومدى هذه الأخوة والخطة الرائعة المرسومة فيها لما يجب أن يكون عليه الأمر بين الدول الإسلامية
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تعليم للمسلمين بما يجب عليهم إذا اقتتلت
__________
(1) انظر تفسير القاسمي.(8/504)
طائفتان منهم حيث يجب عليهم أن يبادروا إلى الإصلاح بينهما. فإن لم تكف إحداهما وتجنح إلى الصلح وظهر منها بغي وظلم للأخرى فعليهم أن ينصروا المبغى عليها ويقاتلوا الباغية إلى أن ترتدع وتقبل حكم الله وتقف عند حدوده. فإذا ما أذعنت فعليهم أن يصلحوا بين المتنازعين بالحق والعدل فينال كلّ حقه والله يحب المقسطين. وفي الآية الثانية تعقيب تدعيمي قوي: فالمؤمنون إخوة ويجب أن يكون السلم والصلح موطدين بينهم. فإذا ما شجر بين بعضهم خلاف ونزاع فيجب على الآخرين المسارعة إلى الإصلاح بين المتنازعين مع مراقبة الله وتقواه حتى ينالوا رحمته.
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها رواية رواها مسلم في صحيحه عن أنس قال «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي.
فركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وانطلق إليه مع بعض المسلمين. وكانت الأرض سبخة.
فلما أتاه قال له إليك عني فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فكان بينهم ضرب بالأيدي والجريد والنعال. قال فبلغنا أنه نزلت فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ... » «2» ومنها رواية رواها الطبري الذي روى أيضا الرواية السابقة جاء فيها «إن امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد كانت تحت رجل فكان بينها وبينه شيء فضربها فجاء قومها وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ فنزلت الآية وجاء النبيّ فأصلح بينهم» . ومنها رواية رواها الطبري كذلك جاء فيها أن الآية نزلت في رجلين من الأنصار وكانت بينهما مشادة على حقّ لأحدهما على الآخر فقال صاحبه لآخذنّه عنوة لكثرة عشيرته فدعاه الآخر إلى نبيّ الله ليحاكمه فأبى واشتدّ الأمر بينهم فتدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال فأنزل الله الآية.
ويلحظ أن في الآية ما يفيد أن القتال على أمور وحقوق خاصة يجب إقرارها
__________
(1) انظر الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.
(2) التاج ج 4 ص 215 والروايات رواها غير الطبري أيضا.(8/505)
بالعدل. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الرواية الأولى ولو كان يرويها مسلم. ولا سيما أنها لا تجزم أن الآية نزلت في الحادث الذي ذكر فيها. وإيراد المفسرين لروايات أخرى قد يفيد أنهم لم يأخذوا بها كسبب لنزول الآية. ونرجح أنها نزلت في مناسبة حادث من باب الرواية الثانية. وإلى هذا فإننا نرجح استلهاما من تجانس المواضيع التأديبية في السورة أن الحادث الذي قد تكون الآيتان نزلت في صدده كان سابقا لنزول السورة فكان وسيلة لتضمنها فصلا تعليميّا في ما يجب على المسلمين عند حدوث حادث مماثل.
والآيتان احتوتا تعليما تام الأركان رائع المدى في شأن ما يقوم من نزاع وقتال بين فريقين من المسلمين. وموجها إلى الفريق الذي ليس طرفا في النزاع بين المسلمين. وموجبا عليه بأن لا يقف موقف الساكت المتفرج بل يسارع إلى التدخل والإصلاح بين الفريقين المتنازعين وإحقاق الحق لصاحبه بدون محاباة. ونصرة المظلوم المبغى عليه بالسلاح إذا لم يرتدع الظالم ويقف عند ما رسمه الله ورسوله من حدود الحق والعدل.
وإطلاق العبارة في الآيتين يجعل ما تحتويانه من تعليم عامّا مستمر التلقين.
ويجعل واجب المسلمين المذكور فيهما لازما عليهم في كل وقت ومكان. وفيهما توطيد للأخوة والسلم بين المسلمين. وتقرير لمنافاة النزاع والبغي والظلم بينهم لمعنى الأخوة الإسلامية. وفي هذا من الروعة والجلال ما هو واضح.
وقد يصح أن يقال إن طائفتي المسلمين يمكن أن تكونا قبيلتين أو أسرتين أو مدينتين في نطاق دولة واحدة ويمكن أن تكونا جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو دولتين كل منهما ذات سلطان مستقل.
وفي صدد التطبيق قد يكون الأمر بالنسبة للنزاع والقتال بين جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو بين دولتين كل منهما مستقل السلطان هو الأكثر تواردا. لأنه لا يبدو ضرورة لقتال الفريق الباغي من طرف ثالث لو كان الأمر يظل دائما في نطاق خصومة عائلية في بلد ما أو قبيلة ما أو بين قبيلتين أو مدينتين في(8/506)
نطاق سلطان دولة واحدة لأن سلطان هذه الدولة يكون قادرا على الاقتصاص من الباغي وإلزامه حدود الله وصيانة حقوق الناس وحقن دمائهم وحماية أرواحهم.
ولا تعدّ حكومة هذه الدولة طرفا ثالثا بطبيعة الحال. وحتى لو كانت ظروف الدولة تتحمل مثل ذلك فإن تناول حكم الآيتين لدولتين إسلاميتين أو لجماعتين إسلاميتين لا ترضخ إحداهما لسلطان الأخرى في نطاق دولة واحدة يظل قويّ الورود.
ولعل ما كان من حوادث أليمة بين المسلمين بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وما كان من تكتلهم كتلا بعضهم ينصر فريقا أو إماما وبعضهم ينصر فريقا أو إماما آخر ولا يخضع بعضهم لسلطان الآخر في نطاق دولة واحدة كان من هذا الباب ومن قبيل الاجتهاد في من هو الباغي وفي من هو المبغى عليه أو من قبيل فرض السلطان مما لا يتحمل منهج التفسير تفصيله.
ونريد أن نستدرك أمرا في صدد احتمال قيام دول إسلامية عديدة. وهو أن القرآن قرر ضمنا واقع الأمر من أن رئاسة النبي صلى الله عليه وسلم للدولة كانت شاملة لجميع المسلمين ومصالحهم وكما قررت ذلك الأحاديث النبوية. وأن هذا استمر في عهد الخلفاء الراشدين وبعدهم إلى أمد غير قصير بحيث يسوغ القول إن الأصل في الإسلام هو وحدة الدولة. وإن كان ذلك تقريرا لواقع ما كان دون أن يكون فيه شيء صريح وقطعي من قرآن وسنّة.
ولقد روت الروايات أن فريقا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلوا جهودهم أولا في وقف ما كان من شقاق وحروب بين علي من جهة وعائشة وطلحة والزبير بعد مقتل عثمان رضي الله عنهم أجمعين. ثم بين علي من جهة ومعاوية من جهة رضي الله عنهما. وإن صلحا تمّ بين علي ومعاوية نتيجة لهذه الجهود على أساس استقلال علي بحكم العراق وبعض البلاد واستقلال معاوية بحكم الشام وبعض البلاد «1»
__________
(1) خبر الصلح بين علي ومعاوية رضي الله عنهما واستقلال كل منهما في دولة وبلاد مذكور في تاريخ الطبري ج 3 ص 107- 108 وقيام الدول الإسلامية الأخرى واستقلالها عن بعضها في وقت واحد منذ القرن الهجري الثاني إلى الآن معروف مشهور ومستساغ.(8/507)
حيث كان هذا ظاهرة لتعدد الدول الإسلامية في الصدر الإسلامي الأول مستساغة من أصحاب رسول الله وعلى علم ومسمع ورضا من عدد كبير منهم كانوا ما يزالون أحياء.
ولقد كان في أواخر القرن الهجري الثاني ثلاث دول إسلامية كل منها مستقلة عن الأخرى كل الاستقلال وهي العباسية في المشرق والإدريسية في المغرب والأموية في الأندلس. وفي أواخر القرن الثالث قامت الفاطمية في شمال إفريقية ثم امتدت إلى مصر والشام. وكانت كل من الأموية في الأندلس والفاطمية والعباسية تتسم بسمة الخلافة وينعت رؤساؤها بنعت أمير المؤمنين. وكان القرآن والسنة مصدري حكمهم وشرائعهم. وساغ ذلك في نظر جمهور المسلمين. ثم استمرت ظاهرة قيام دول إسلامية مستقلة بعضها عن بعض والقرآن والسنّة مصدرا تشريعها وحكمها وما تزال.
ونخلص من هذا إلى القول إن حكم الآيتين وتلقينهما واجدان مجالهما الأوسع والألزم في حالة وجود دول إسلامية عديدة بحيث يكون هو الضابط للعلاقات بينهما. ويكون الانحراف عنه إثما دينيا فضلا عن خطره عليها جميعا وبحيث يقوم بينها تضامن تام في المنافع والمصالح والدفاع والتعاون في مختلف المجالات. وإذا نشب خلاف ونزاع وقتال بين دولتين أو أكثر منهما وجب على سائر الدول الإسراع إلى المداخلة وحل المشكل في نطاق ذلك الأساس والتضامن في فرض قبول الحل على المبطل ولو أدى الأمر إلى الاجتماع على قتاله إلى أن يفيء لأمر الله ويخضع للحق. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. وخاصة إذا لا حظنا أن مثل هذا النظام هو أسمى ما يتوق إلى تحقيقه العالم، ويرى أساطينه أن لا سبيل إلى توطيد العدل والسلم والحق بين أمم الأرض ودولها إلّا به حيث تبدو بذلك روعة الهدى القرآني ومعجزته الخالدة.
ومسألة تعيين الباغي في هذا الموقف مسألة دقيقة من دون ريب. ولا سيما إذا كانت الأسباب مختلفا فيها. وهذا ما يوجب على الطرف الثالث سواء أكان دولة(8/508)
أم جماعة التحري الشديد قبل الانتصار لمن يكون مبغيا عليه حقا. وقد يكون والله أعلم ما جاء في الآية الثانية من حثّ المؤمنين على تقوى الله هو بسبيل ذلك. ولقد كان هذا مما جعل كثيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم يتحرجون على ما يتبادر لنا من الاندماج مع طرف من أطراف النزاع بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه على ما تواترت فيه الروايات.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات وبخاصة في صدد الإقساط والأخوة الإسلامية وواجباتها والتضامن الإسلامي أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة.
منها حديث عن عبد الله بن عمرو جاء فيه «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عزّ وجل بما أقسطوا في الدنيا» «1» وروي لهذا الحديث صيغة أخرى بطريق آخر وهي «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» «2» . ومنها حديث عن النعمان بن بشير رواه الشيخان جاء فيه «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» «3» . ومنها حديث عن أبي موسى رواه الشيخان والترمذي جاء فيه «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا وشبّك بين أصابعه» «4» . وهناك أحاديث صحيحة أخرى في هذا الباب منها حديث عن أبي هريرة رواه الأربعة جاء فيه «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.
التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» «5» .
__________
(1) انظر ابن كثير والخازن والبغوي وانظر التاج ج 5 ص 17. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) التاج ج 5 ص 35.(8/509)
وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم وأبو داود والترمذي جاء فيه «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا إلّا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا» «1» وحديث عن أبي أيوب رواه الأربعة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» «2» .
وينطوي في تقرير الأخوة بين المسلمين في الآية والأحاديث تقرير المساواة بينهم كما هو المتبادر. فكما أن كل مسلم أخ لسائر المسلمين فإن كل مسلم متساو مع سائر المسلمين في الحقوق والواجبات العامة. وبكلمة أخرى ليس بين المسلمين طبقات متفاوتة يكون لإحداها على الأخرى حق التميز والتفوق والتعالي بسبب الأحساب والكثرة والمال. وتكون الفرص بينهم متكافئة. وما يكون ويصح أن يكون بينهم من تفاوت في المركز الاجتماعي والسياسي ونطاق الحكم والثروة مما هو نتيجة للتفاوت في المواهب والنشاط والمطامح وحسن اقتناص الفرص ليس من شأنه أن يسبغ لأحد على أحد ذلك الحق.
وليس هذا طبقية أيضا. لأنه مقبول متحول دائما. ولقد روى أبو داود عن علي بن أبي طالب حديثا عن رسول الله جاء فيه «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم» «3» ويأتي بعد قليل آية رائعة تقرر التساوي بين الناس وتقرر أن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم.
والمتبادر من إطلاق جملة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ومن الإطلاق في الأحاديث أن الرجال والنساء سواء في هذه الأخوة. وفي القرآن آيات مؤيدة لذلك
__________
(1) التاج ج 5 ص 35- 36 وقد روي هذا الحديث بصيغة أخرى وطريق آخر أيضا. انظر المصدر نفسه.
(2) التاج ج 5 ص 36 وكذلك روي هذا الحديث بصيغة أخرى وطريق آخر أيضا. انظر المصدر نفسه.
(3) تفسير القاسمي للآيات [178 و 179] من سورة البقرة والتاج ج 2 ص 168.(8/510)
منها آية سورة التوبة هذه وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... [71] وإذا كان لمالكي الرقيق على رقيقهم حقوق تجعل المماليك وما يملكون ملكا لمالكيهم فإن ذلك لا ينزع عنهم الأخوة الإسلامية. مع الأحرار وهم متساوون أمام الله في الحقوق والواجبات الدينية. وفي سورة النساء آية تقرر أن المماليك المؤمنين والأحرار بعضهم من بعض وهي هذه وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [25] ، وفي كل هذا ما فيه من روعة وجلال وتلقين. ولقد كان نظام الرق قائما عامّا قبل نزول القرآن فعالجه هو والأحاديث النبوية خير معالجة وحثّا على تحريره بل وضعا أسسا لتحريره وإلغائه وانحصر في دائرة ضيّقة ظلّت تضيق حتى زال أو كاد في الإسلام.
هذا، ولقد قال المفسرون «1» إن في الآيتين دليلا على أن القتال بين المسلمين لا يزيل اسم الإيمان عنهم حتى ولا عن الباغي منهم لأن الله سماهم إخوة ومؤمنين. وفي هذا وجاهة ظاهرة. ولقد روى البغوي «أن سائلا سأل عليّ بن أبي طالب عن الذين قاتلهم وقاتلوه في وقعتي الجمل وصفين «2» هل هم مشركون؟ قال لا إنهم من الشرك فرّوا. فسأله هل هم منافقون؟ قال لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلّا قليلا. فسأله فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا» .
ومع أن قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله مستند إلى أمر الله في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فالمتبادر أن هذا لا يدخل ذلك في مدى ومفهوم الجهاد في سبيل الله وموجباته ومقتضياته وحدوده وآثاره. لأن هذا إنما شرع بالنسبة لأعداء المسلمين من غيرهم. ويستتبع هذا أن لا يكون استرقاق للأسرى المسلمين الذين تأسرهم الفئة الثانية ولا جواز قتلهم ولا يكونوا تابعين للفداء لأن كل هذا إنما جاء كذلك بالنسبة لأسرى غير المسلمين من الأعداء. ولقد
__________
(1) انظر البغوي وابن كثير والخازن.
(2) الواقعة الأولى بين علي وأنصاره من جهة وعائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعا من جهة. والثاني بين علي وأنصاره من جهة ومعاوية وأنصاره من جهة.(8/511)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
روى البغوي أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أرسل مناديا ينادي يوم الجمل ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح وأنه جيء يوم صفين بأسير فقال لا أقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين.
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
. (1) قوم: هنا بمعنى الرجال على ما عليه الجمهور.
(2) لا تلمزوا: لا تعيبوا ولا تغمزوا ولا تطعنوا.
(3) ولا تنابزوا بالألقاب: ولا تنعتوا بعضكم بأسماء وألقاب مكروهة.
في الآية:
(1) نهي للمسلمين رجالهم ونسائهم عن سخرية بعضهم من بعض. وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أنه قد يكون المسخور به خيرا من الساخر.
(2) ونهي كذلك عن غمز بعضهم بعضا بما يسيئه أو تلقيب بعضهم بعضا بأسماء وألقاب مكروهة. وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أن في ذلك فسقا.
ولبئس الإنسان أن يفسق بعد الإيمان.
(3) وإنذار للذين لا يرتدعون ولا يتوبون فهم ظالمون باغون.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وما فيها من تلقين وتأديب
ولقد احتوت الآية أربعة نواه. وروى المفسرون «1» لكل نهي مناسبة خاصة.
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن والطبري وابن كثير.(8/512)
فالأول بسبب سخرية بعض الأغنياء أو الزعماء ببعض فقراء المسلمين ورثاثتهم.
والثاني بسبب سخرية بعض زوجات النبي ببعض آخر منهن بسبب قصر قامتها وهي أم سلمة أو بسبب يهوديتها وهي صفية. والثالث بسبب غمز مسلم لمسلم آخر بأمه لأنه لم يفسح له مكانا للجلوس فيه قرب النبي صلى الله عليه وسلم. أو بسبب تسمية أشخاص بأسماء لهم غير مستحبة عندهم فيثيرون بذلك غضبهم. والرابع بسبب نعت بعض المسلمين بعض من أسلم من اليهود والنصارى باليهودي والنصراني. والآية منسجمة الأجزاء والأسلوب متماثلة المواضيع إجمالا. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أنها غير منقطعة وغير منفصلة عن مواضيع ما قبلها وما بعدها. فإذا كانت الحوادث المروية صحيحة وهو محتمل فالراجح أنها وقعت قبل نزول الآية بل قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول الآية في جملة آيات السورة التأديبية.
وعبارة الآية مطلقة من شأنها أن يكون ما احتوته تعليما وتأديبا عامين للمسلمين في كل وقت ومكان. وقد استهدفت توطيد الأخوة والمودة بينهم.
فالمنهيات مما يتنافى مع آداب السلوك الرفيعة. ومن شأنها إثارة العداء والبغضاء والأحقاد بين المسلمين بعد أن جمعت بينهم أخوة الإسلام العامة.
ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وبعض علماء التابعين أن النهي يتناول كل ما فيه نبز وسخرية وانتقاص وتحقير وإساءة ومن ذلك نعت المرء لآخر بالفسق والكفر والنفاق وبالكلب والحمار. وهذا سديد، ويمكن أن يقاس على هذا كل ما يكون من هذا الباب بطبيعة الحال غير ما ذكر.
ولسنا نرى محلا للاستشكال بسبب نهي الرجال عن السخرية من الرجال فقط والنساء عن السخرية من النساء. وبسبب تعليل النهي باحتمال أن يكون المسخور به خيرا من الساخر. فالتقريرات والمبادئ القرآنية عامة تمنع أن يفرض إجازة سخرية الرجال من النساء والنساء من الرجال وإجازة السخرية من أحد ما إطلاقا سواء أكان الساخر خيرا منه أم كان المسخور منه غير خير من الساخر. وروح الآية وهدفها بالذات يلهمان أنها بسبيل تأديب المسلمين رجالهم ونسائهم جميعا، ويلهمان بالتالي أن كل ما نهي عنه فيها وارد بالنسبة للرجال والنساء على السواء الجزء الثامن من التفسير الحديث 33(8/513)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
وبصورة مطلقة. وعبارتها إنما جاءت كما جاءت للمناسبات وحسب.
ولقد أثرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة متساوقة في التلقين مع تلقين الآية مع شيء من التوضيح نكتفي منها بما ورد في الكتب الخمسة، منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان قال وإلّا رجعت عليه» . وحديث رواه الشيخان عن أبي ذرّ قال «سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلّا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» .
وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اثنتان في الناس هما بهما كفر الطعن بالنسب والنياحة على الميّت» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء» وحديث رواه أبو داود عن عائشة قالت «اعتلّ بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب أعطها بعيرا فقالت أنا أعطي تلك اليهودية. فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر» وفي بعض الأحاديث التي أوردناها في الفقرة السابقة شيء متصل بهذه الآية ومنها الذي جاء فيه «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره» .
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
. (1) ولا تجسّسوا: ولا تبحثوا سرا عن عورات الناس وشؤونهم الخاصة لتطّلعوا على مخفياتهم.(8/514)
عبارة الآية واضحة وفيها:
(1) أمر للمسلمين باجتناب الظنون والتخمينات والأخذ بها والحكم على الأمور بموجبها. فإنّ من الظنون ما هو خطأ يجرّ صاحبه إلى الإثم.
(2) ونهي لهم عن البحث عن عورات بعضهم ومخفيات أمورهم وكشفها عن اغتياب بعضهم بعضا وذكره بالسوء في غيابه. وسؤال إنكاري على سبيل توكيد النهي عن الغيبة بخاصة عما إذا كان يحبّ أحدهم أن يأكل لحم أخيه ميتا. وتقرير لما هو طبيعي من كراهية ذلك.
(3) وحثّ على تقوى الله ومراقبته والتوبة عن مثل هذه الأعمال البغيضة المكروهة المؤذية مع التنبيه على أن الله تعالى تواب يقبل توبة التائب ويشمله برحمته.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ إلخ وما فيها من تلقين وما روي في صددها من أحاديث
وقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت أثناء غزوة غزاها النبي. حيث ضمّ سلمان الفارسي إلى شخصين موسرين- وهذا من عادة النبي حينما يخرج إلى غزاة- ليخدمهما ويأكل معهما. فغلبته عيناه مرة فلم يجهز لهما طعاما فأرسلاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسله إلى أسامة بن زيد خازن المئونة فقال له ليس عندي شيء فأرسلاه إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فقالوا له لو أرسلناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان على أسامة ليعلما إن كان عنده طعام ومنعه وأخذا يغمزان سلمان ويغتابان أسامة فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا لحما قال بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فأنزل الله الآية.
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.(8/515)
ومع احتمال حدوث مناسبة مثل المناسبة المروية فإن الاتصال والتساوق والتجانس بينها وبين آيات السورة قائم. وما قلناه في صدد سابقاتها من كون المناسبات قد حدثت قبل نزول السورة، فكانت وسيلة لما احتوته من تأديب وتعليم يقال هنا أيضا.
ولقد استهدفت الآية تنبيه المسلمين إلى وجوب رعاية حقوق بعضهم وأعراضهم في الغياب وتغليب حسن الظن في بعضهم وكبت غريزة الاستطلاع والتجسس على أسرار بعضهم ومخفياتهم. وتلقينها عام مستمر المدى كسابقاتها.
وتعبير أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تعبير قوي لاذع بسبيل تعظيم إثم غيبة الناس واستنكارها.
وهكذا تتكامل سلسلة التأديبات الرفيعة ليكون المسلمون بها مثال مكارم الأخلاق منزهين عن سيئاتها ومكروهاتها الخاصة والعامة.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة في صدد منهياتها. منها حديث أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه وأن يظنّ به إلّا خيرا» «1» وحديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه «إيّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» «2» . وحديث رواه أبو داود عن معاوية قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس
__________
(1) النصوص من تفسير ابن كثير وقد أورد المفسر الحديث الأخير بصيغ أخرى ومن طرق أخرى مع خلاف يسير عن البراء بن عازب وعن نافع وابن عمر والمرجح أن الظن الذي وصفه الحديث الثاني بأكذب الحديث هو سوء الظن بالناس وليس الظن إطلاقا. والحديث الثاني رواه البخاري وأبو داود (انظر التاج/ 5 ص 25) والحديثان الثالث والرابع رواهما أبو داود والترمذي (انظر المصدر نفسه ص 28) .
(2) المصدر نفسه.(8/516)
أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أبي برزة الأسلمي جاء فيه «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنّه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته» «2» . وحديث أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال «كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة فقال رسول الله أتدرون ما هذه الريح. هذه ريح الذين يغتابون الناس» «3» . وحديث أخرجه الإمام أحمد كذلك عن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنّم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبّه حبسه الله تعالى على جسر جهنّم حتى يخرج مما قال» «4» وحديث رواه أبو داود عن جابر ابن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري قال «سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلّا خذله الله تعالى في مواطن يحبّ فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلّا نصره الله عزّ وجلّ في مواطن يحبّ فيها نصرته» «5» وفي الحديثين الأخيرين إيجاب على كل مسلم أن يدافع عن أخيه المسلم إذا ما ذكر في مجلس سوء.
وهذه طائفة من أحاديث نبوية أخرى في صور من الاغتياب المكروهة التي نبّه رسول الله عليها وندّد بها ونهى عنها. منها أحاديث رواها الطبري بطرقه وهو من أئمة الحديث ومن ذلك حديث عن أبي هريرة جاء فيه «إنّ رجلا قام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا ما أعجز فلانا فقال رسول الله أكلتم لحم
__________
(1) المصدر السابق نفسه. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) النص من ابن كثير أيضا. وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بطريق أخرى مع خلاف يسير في العبارة.
(4) النصوص من ابن كثير أيضا، وقد أورد ابن كثير الحديث الأول من طريق أخرى بصيغة أخرى.
(5) المصدر نفسه.(8/517)
أخيكم واغتبتموه» . وحديث عن معاذ بن جبل قال «كنّا عند رسول الله فذكر القوم رجلا فقالوا ما يأكل إلّا ما أطعم وما يرحل إلا ما يرحل له وما أضعفه فقال رسول الله اغتبتم أخاكم. فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدث ما فيه فقال بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه» وحديث عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرت أخاك بما يكره فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» «1» . وحديث عن حسان بن المخارق جاء فيه «إن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بعدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي أنها قصيرة فقال رسول الله اغتبتها» «2» . وحديث رواه البغوي بطرقه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» «3» .
وهناك حديث يرويه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ، ومن الكبائر السّبّتان بالسّبة» «4» وفي الأحاديث تعليم وتأديب نبويان واجبا الالتزام.
هذا، وهناك حديث صحيح استنبط منه العلماء جواز غيبة الفاسق. وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «استأذن رجل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام، قال أي عائشة إن شرّ الناس من
__________
(1) روى مسلم وأبو داود والترمذي مثل هذا الحديث بهذه الصيغة «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما الغيبة. قالوا الله ورسوله أعلم. قال ذكرك أخاك ما يكره. قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول. قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» التاج ج 5 ص 24 وبهته معناه افتريت عليه وهذا أشدّ من الغيبة.
(2) روى أبو داود والترمذي حديثا مقاربا بصيغة أخرى عن عائشة قالت «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا يعني قصيرة. فقال قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) التاج ج 5 ص 24.
(3) روى هذا الحديث أبو داود أيضا انظر التاج ج 5 ص 25.
(4) التاج ج 5 ص 24.(8/518)
تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه» «1» .
وهناك حديثان نبويان فيهما صورة لأخلاق رسول الله متصلة بالموضوع الذي نحن فيه رواهما أبو داود والترمذي أحدهما عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يبلّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» «2» وثانيهما عن عائشة قالت «حكيت للنبي إنسانا فقال ما أحبّ أني حكيت إنسانا وأنّ لي كذا وكذا» «3» حيث ينطوي فيهما تأديب نبوي للمسلمين أيضا الذين أمروا بأن يكون لهم رسول الله الأسوة الحسنة.
ولقد شرحنا كلمة وَلا تَجَسَّسُوا بما شرحناه لأن هذا هو ما يلهمه مقامها والأحاديث التي أوردناها في صددها. ومن المعلوم أن هناك عملا آخر من أعمال التجسس وهو التجسس على الأعداء والتجسس لهم. والأول مبرّر. وهناك حديث رواه أبو داود عن أنس في هذا جاء فيه «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان» «4» وحديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير أنا. قالها ثلاثا ويجيبه الزبير. فقال النبيّ لكلّ نبيّ حواريّ وحواريّي الزبير» «5» . والثاني جريمة قد تكون ارتدادا لأن فيها توليا ونصرة للأعداء ومتولي الأعداء وناصرهم على المسلمين منهم وليس من الله في شيء كما جاء في آية سورة آل عمران هذه لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [28] وآية سورة المائدة هذه وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «6» .
__________
(1) التاج ج 5 ص 24.
(2) التاج ج 5 ص 24.
(3) المصدر السابق نفسه. والمتبادر أن كلمة (حكيت) بمعنى قلدت ذلك الإنسان في عمله أو قوله ويكون ذلك القول أو العمل غير مستحب أو مثيرا للسخرية. وهذا من مألوفات ما يفعله الناس.
(4) التاج ج 4 ص 361.
(5) المصدر نفسه.
(6) هذه الآية في سلسلة فيها نهي عن اتخاذ الذين يتخذون دين المسلمين هزوا من أهل الكتاب والمشركين حيث يكونون بذلك أعداء للمسلمين. وفي السلسلة نعت الذين يفعلون ذلك بالارتداد أيضا. [.....](8/519)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
وهناك حديثان يذكر أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل جاسوس من الأعداء وذكر ثانيهما أن النبي أمر بقتل من قال عن نفسه إنه مسلم وتجسّس للأعداء. وقد روى أولهما البخاري وأبو داود عن سلمة بن الأكوع قال «أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس مع أصحابه يتحدّث ثم انفتل فقال النبي اطلبوه فاقتلوه. قال فقتلته فنفّلني سلبه» «1» . وروى ثانيهما أبو داود وأحمد جاء فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل فرات بن حيّان وكان عينا لأبي سفيان. وكان حليفا لرجل من الأنصار فمرّ بحلقة من الأنصار فقال إني مسلم فقال النبي إنّ منكم رجالا لا نكلهم إلى إيمانهم. منهم فرات بن حيّان» «2» .
ويرد على البال الجواسيس الذين تبثّهم الحكومات بين رعاياها. فإن كان ذلك ضدّ المجرمين وجرائمهم حقا وصدقا فقد يكون مبررا. وإن كان لغير ذلك يكون إثما عند الله وداخلا في نطاق النهي القرآني والنبوي، والله تعالى أعلم.
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
. (1) شعوبا وقبائل: أوجه الأقوال في الكلمتين على ما تلهمه روح الآية وتقديم الأولى على الثانية أن (الشعب) هو الأصل البعيد الجامع وأنه سمّي بذلك لأنه يتشعب إلى فروع. وأن (القبيلة) هي الأصل القريب المتفرع عن الشعب التي يتجمع فيها أفراد الفرع المنحدرين من أب أقرب.
__________
(1) التاج ج 4 ص 360.
(2) المصدر نفسه ص 360 ذكر الشارح في ذيله أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن قتل فرات لأن حليفه كفله وأنه تاب وحسن إسلامه. ولم يذكر سندا لذلك. فإذا صح ففيه سنة نبوية بطبيعة الحال.(8/520)
(2) لتعارفوا: لتتعارفوا، أي ليعرف بعضكم بعضا.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا وما فيها من تلقينات رائعة وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآية واضحة، وفيها هتاف للناس جميعا بأن الله قد خلقهم متساوين من ذكر وأنثى. وأن تفرقهم إلى شعوب وقبائل للتعارف وليس للتفاضل. وأن أكرمهم عند الله هو أتقاهم بالإقبال على صالح العمل واجتناب الآثام. وأن الله عليم خبير بأعمالهم وشؤونهم لا تخفى عليه منهم خافية.
وقد روى المفسرون أكثر من رواية لمناسبة نزول الآية. منها أن صحابيا اشترى عبدا على شريطة عدم منعه من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فواظب على ذلك. وقد غاب فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له إنه محموم فعاده ثم بلغه أنه يحتضر فحضر موته وتولّى غسله ودفنه، فدخل على الأنصار والمهاجرين من ذلك أمر عظيم فنزلت الآية لتهتف بما هتفت به «1» . ومنها أنها نزلت في ثابت بن قيس حيث غمز بأمّ رجل لم يفسح له في المجلس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلّا بالدين والتّقوى «2» . ومنها أن بلالا لما علا الكعبة ليؤذّن عقب فتح مكة قال الحارث بن هشام أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، فأخبر الله رسوله وأوحى بالآية لزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء «3» .
والروايات غير موثقة الإسناد. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية نزلت
__________
(1) انظر تفسير الزمخشري.
(2) انظر تفسير الخازن.
(3) المصدر نفسه.(8/521)
عقب الفتح المكي وهو ما لا تطمئن النفس به. ولقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلاها في خطبته التي ألقاها على الناس عقب الفتح كآية كانت نازلة قبل، حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته «أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان برّ تقيّ كريم على الله. وفاجر شقيّ هيّن على الله. والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ... » «1» والرواية الأولى لا تتسق مع فحوى الآية.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار أجلّ من أن يداخلهم همّ عظيم بسبب ما ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم من برّ وتكريم لمسلم ولو كان عبدا وهو ما روته الرواية الأولى. وقد يكون في الرواية الثانية مناسبة لأن فيها شيئا مما يتناسب مع الآية، ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أن الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين [11 و 12] اللتين نهتا المسلمين عن إساءة بعضهم لبعض وجاها وغيابا بسخرية وانتقاص أو نبز أو لمز أو سوء ظن أو غيبة أو تجسس وكشف عورة على اعتبار أن فاعل ذلك إنما يفعله وهو يظنّ أنه أرفع وأفضل وأكرم من غيره. وإنها بالتالي جزء من سلسلة الآيات وتتمة لما احتوته من تعليم وتأديب ساميين.
على أن الآية بما هتفت به بالناس واستهدفته من تذكيرهم بمساواتهم لبعض في الأصل والطبيعة وحقوق الحياة. ومن تقرير كون التفاضل بينهم إنما يكون في العمل الصالح وتقوى الله. وكون الأكرم عند الله إنما هو الأتقى، هي جملة تامة لذاتها تقرر وجهة نظر الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، في مساواة الناس في الحقوق والواجبات العامة مساواة تامة. وفي هدم درجات التفاوت والطبقات في الإسلام ونسف امتيازاتها القائمة على الأنساب والأحساب والثروات وما يماثلها من الأعراض. وفي جعل التفاضل منوطا بالسلوك الشخصي
__________
(1) فصل التفسير في التاج ج 4 ص 216 وعبّيّة الجاهلية: فخرها وكبرها كما فسّرها مؤلف التاج. وقد روى ابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي هذا الحديث وجاء في روايتهم كلمة (عيبة) بدلا من (عبّيّة) .(8/522)
الذي عبر عنه بتعبير أَتْقاكُمْ والذي يدخل في نطاقه مراقبة الله في السرّ والعلن وابتغاء رضائه في الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه. وقد أمر بكل ما فيه الحقّ والعدل والبرّ والتقوى وأداء الواجبات نحو الله والناس. ونهي عن كلّ ما فيه إثم وبغي ومنكر وتقصير نحو الله والناس. وهي من أجل ذلك يصح أن تعتبر من روائع جوامع الكلم القرآنية وأقواها وأبعدها مدى وأثرا في الحياة الاجتماعية والسياسية والشخصية والإسلامية.
ويلفت النظر بخاصة إلى المخاطب في الآية. فبينما خاطبت الآيات السابقة لها المسلمين جاءت هذه الآية لتخاطب الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأنسابهم وأحسابهم وأديانهم ونحلهم خطابا مطلقا يمتد ما دامت الحياة الدنيا، لأن الموضوع الخطير الذي تقرره هو الذي يتناسب مع هذا الخطاب أكثر. وفيها شيء من معنى التنديد اللاذع بما اعتاده الناس من التفاخر بالأحساب والأنساب والثروات وما يماثلها من الأعراض.
وهذه الدلالات قوية البروز في الخطبة الرائعة التي ألقاها السيد الرسول صلوات الله عليه بعد فتح مكة وتلا فيها الآية والتي أوردنا خبرها قبل.
ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآية وفي صددها أحاديث نبوية قوية التلقين والعظة منها حديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «1» . وحديث أخرجه الطبراني عن محمد بن حبيب بن خراش العصري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتّقوى» «2» . وحديث أخرجه أبو بكر البزار عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلّكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهينّ قوم يفخرون بآبائهم أو ليكوننّ أهون على الله تعالى من الجعلان» «3» . وحديث رواه الطبري جاء فيه «قال
__________
(1) النصوص من ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(8/523)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس لآدم وحواء، طفّ الصاع لم يملؤوه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة إن أكرمكم عند الله أتقاكم» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنسابكم هذه ليست بحسبة على أحد. كلّكم بنو آدم. طفّ الصاع لم يملؤوه. ليس لأحد على أحد فضل إلّا بدين وتقوى. وكفى بالرجل أن يكون بذيئا بخيلا فاحشا» «2» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجل انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله» «3» .
ومن الجدير بالتذكير في هذا السياق آيات في سورة (المؤمنون) تحتوي التلقين الذي احتوته الأحاديث الشريفة وهي فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) .
[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
. (1) لا يلتكم: لا ينقصكم.
__________
(1) النصوص من ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(8/524)
تعليق على الآية قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ... والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة، وقد روى المفسرون «1» أنها نزلت في مناسبة قدوم جماعة من أعراب بني أسد إلى المدينة في سنة جدب وإظهارهم الإسلام ومطالبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الصدقات ومنّهم عليه بدخولهم في الإسلام ومتابعتهم له عن طواعية في حين أن القبائل الأخرى عالنته العداء وحاربته.
وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت:
أولا: صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم ومنّهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ردت عليهم الآيات ردّا قويّا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمنّ عليهم بهما.
وثانيا: تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله. وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم.
وثالثا: وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحثّ على الاتصاف به.
ورابعا: فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل
__________
(1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن.(8/525)
المتحقق به يقدم على الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه وتحمل التضحيات والمشقات برضاء نفس وطمأنينة قلب. وبكون الثاني هو إظهار الانقياد للدعوة وواجباتها رغبة أو رهبة دون أن يتمكن الإيمان في قلب من يعلن إسلامه. وهذه صفة الأعراب الذين حكت الآيات قصتهم وتعبير الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ينطوي في الوقت نفسه على تنويه بالذين تمكن الإيمان في قلوبهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم.
ولقد كان تعبير (الإسلام) يأتي بمعنى إسلام النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب أَسْلَمْنا دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم. حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن. ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. فجملة وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى (قولوا اتخذنا الإسلام دينا) والله أعلم.
ولقد نبّه بعض المفسرين «1» إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح. ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم. وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحثّ في مناسبة ما روي عنهم من منّ وتبجّح. وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا حال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [10] وفَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [8] كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير. [.....](8/526)
ما جاء في نفس السورة. وجاء في وصف السابقين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) وفي وصف أصحاب الميمنة ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) . وعلى ضوء هذا قد يصح أن يقال والله أعلم إن في الآيات خطة شرعية سياسية مستمرة المدى. وهي قبول ظواهر الناس وتوسيع الدولة الإسلامية صدرها لمن يعلن إسلامه ويظهر انقياده وطاعته ويقوم بما يترتب عليه من واجبات نحو الله والدولة والناس، واعتباره من رعاياها المسلمين بقطع النظر عما إذا كان مؤمن القلب أم لا. لأن ذلك مغيب عن غير الله عز وجل. وليس من شأن الدولة والناس أن يشقوا عن قلوب أمثاله ليتبينوا صدق إيمانه على حدّ تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه في سياق آية النساء هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... [94] حيث قال لمن قتل القائل حينما قال له إنه كان كاذبا في قوله «هلا شققت عن قلبه» «1» على ما شرحناه في سياق تفسير هذه الآية.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) . وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 97- 98] . حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير.(8/527)
رسمته من خطة مثلى. وحيث يبدو أن ما جاء في الآية التي نحن في صددها هو بسبيل تسجيل الواقع حين نزولها.
هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المنّ بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حقّ ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما. لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صحّ هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، والله تعالى أعلم.(8/528)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
سورة التحريم
في السورة إشارة إلى حادث وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض زوجاته. واستطرادات متصلة به استهدفت العظة والإنذار والتمثيل والتذكير. ومن المحتمل أن يكون فصل الحادث نزل لحدته ثم نزلت الفصول الاستطرادية بعده تباعا حتى تمت السورة. والله أعلم. وقد ذكر الزمخشري أنها تسمى سورة النبي أيضا ولم يذكر لذلك سندا.
وليس في السورة أمارة مميزة يمكن أن تساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد الحجرات، وروي هذا في ترتيبات أخرى «1» فجارينا هذه الروايات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) .
__________
(1) انظر روايات تراتيب النزول للسور المدنية في كتابنا سيرة الرسول 2 ص 9.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 34(8/529)
(1) تحلّة: وسيلة للتحلّل من الأيمان.
(2) صغت: مالت أو زاغت.
(3) صالح المؤمنين: بمعنى الجمهور الصالح من المؤمنين.
(4) سائحات: قيل بمعنى صائمات. وروي حديث نبوي مرفوع جاء فيه «سياحة هذه الأمة الصيام» وقيل بمعنى مهاجرات.
في الآية الأولى: سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى العتاب لتحريمه على نفسه ما أحلّه الله له مرضاة لزوجاته مع تطمينه بغفران الله ورحمته فهو الغفور الرحيم.
وفي الآية الثانية: تذكير بأن الله قد شرع كفارة اليمين للمسلمين لتكون وسيلة للرجوع عما أقسموا الأيمان عليه من أمور يحسن الرجوع عنها. وهو العليم بأعمال الناس الحكيم فيما يأمر به ويرسمه. وينطوي في التذكير تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسيلة.
وفي الآية الثالثة: إشارة إلى حادث وقع بين النبي وبعض أزواجه حيث حدّث واحدة منهن بحديث وطلب منها كتمانه فلم تكتمه وأخبرت به غيرها. وسئل عنه وأظهره الله على ما جرى فاعترف بشيء منه وسكت عن شيء آخر ثم عاتب زوجته على إفشائها السرّ فسألته مستغربة عن الذي أخبره بالأمر فأجابها إنه الله العليم الخبير.
أما الآيتان الرابعة والخامسة: فقد احتوتا إنذارا يتضمن معنى التنديد أيضا موجها لزوجات النبي عامة ولاثنتين منهن خاصة كما احتوتا تطمينا وتأييدا للنبي كما يلي:
(1) فعلى الزوجتين أن تتوبا إلى الله. فقد كان منهما من الزيغ والكيد(8/530)
ما يوجب عليهما ذلك «1» .
(2) وإذا كانتا قد تظاهرتا وتعاونتا على الكيد للنبي فلتعلما أن الله نصيره وظهيره. وأن جبريل والملائكة والصالحين المخلصين من المؤمنين أيضا نصراؤه وظهراؤه.
(3) وأن ربّه ليستطيع إذا تراءى له أن يطلّق نساءه بسبب أمثال هذه المكايدات أن يبدله بهن أزواجا خيرا منهن ثيبات وأبكارا متصفات بأحسن الصفات وأطهرها من إسلام وإيمان وخشوع وخضوع وعبادة وصوم أو هجرة.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولقد روي في صدد نزول هذه الآيات وصورها روايات عديدة. منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها فواطيت أنا وحفصة على أيّتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير. قال: لا ولكنّي كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» «2» وهذا الحديث ورد في كتاب التاج في سياق تفسير السورة في فصل التفسير كأنما
__________
(1) هذا تأويل جملة إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين ومنهم الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي والنسفي. وقد رأينا في تفسير القاسمي تأويلا آخر وهو: إن تتوبا إلى الله فتكون قلوبكما قد صغت وعادت إلى الحق وقد اخترنا الأول لأننا رأيناه الأكثر اتساقا مع روح الآية. والله أعلم.
(2) التاج ج 4 ص 239. واطيت بمعنى تواطأت أو اتفقت. مغافير صمغ شجر العرفط وهو حلو الطعم كريه الريح. والقصد إيهام النبي أن النحل قد جنى من هذا الصمغ فصار ريحه كريها. وقد أوردنا النص كما ورد والظاهر أنه مختصر. ويفيد على كل حال أن إحداهما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم. ما تواطأنا عليه فأجابها بما جاء في الشطر الثاني من الحديث ...(8/531)
يورد كسبب لنزول الآيات «1» . وقد روى الثلاثة المذكورون حديثا طويلا آخر ورد في التاج في سياق تفسير السورة أيضا عن ابن عباس رأينا من المفيد إيراده لما فيه من صور طريفة قال «مكثت سنة أريد أن أسأل عمر عن آية فما أستطيع ذلك هيبة له حتى خرجت في الحجّ معه فلمّا رجعنا وكنّا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت يا أمير المؤمنين: من اللتان تظاهرتا على النبيّ صلى الله عليه وسلم من أزواجه فقال تلك حفصة وعائشة. قلت والله كنت أريد أن أسألك عن هذا من سنة فما أستطيع هيبة لك. قال فلا تفعل، ما ظننت علمه عندي فاسألني عنه فإن كان لي علم خبرتك به ثم قال عمر والله إنا كنّا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقسم لهن ما قسم. قال فبينا أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي لو وضعت كذا وكذا فقلت لها ما لك ولما هاهنا وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي عجبا يا ابن الخطاب ما تريد أن تراجع وإنّ ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان، فقام عمر فأخذ رداءه حتى دخل على حفصة فقال لها يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. لا تغرنّك هذه التي أعجبها حسنها وحبّ رسول الله إيّاها. قال ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت عجبا لك يا ابن الخطاب! دخلت في كلّ شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد. فخرجت وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب أتيته بالخبر. وكنا نتخوف ملكا من ملوك غسان سمعنا أنه يريد السير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه فإذا صاحبي الأنصاريّ يدقّ الباب فقال افتح فقلت جاء الغسانيّ؟ قال بل أشدّ من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه. فقلت رغم أنف حفصة وعائشة. فأخذت ثوبي فخرجت حتى جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرقى عليها بعجلة وغلام لرسول الله أسود على رأس الدرجة. فقلت له: قل هذا عمر بن الخطاب فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) إن المفسرين: البغوي والطبرسي أوردا هذا الحديث وقالا إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه.(8/532)
هذا الحديث فلمّا بلغت كلام أمّ سلمة تبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبوب.
وعند رأسه أهب معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ما يبكيك؟ قلت:
يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله، فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» «1» . وقد روى البخاري حديثا ثالثا عن أنس ورد في التاج في فصل التفسير وفي سياق تفسير السورة أيضا قال: «قال عمر رضي الله عنه: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهنّ عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ فنزلت هذه الآية» «2» .
ولقد أورد المفسرون «3» هذه الأحاديث. وأوردوا بالإضافة إليها أحاديث أخرى لم ترد في كتب صحاح الأحاديث. فقد روى البغوي بالإضافة إلى الحديث الأول الذي أورده وقال إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه، حديثا عن عائشة ذكر فيه أن النبيّ إنما شرب شراب العسل عند حفصة وأن التواطؤ كان بين عائشة وسودة وصفية. وقد روى البغوي وابن كثير والطبرسي والخازن حديثا فيه سبب آخر «وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن لحفصة أن تزور أهلها وفي غيابها استدعى مارية القبطية إلى بيتها ووقع عليها. وعرفت حفصة ذلك فأخذت تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم إنك أذنت لي من أجل هذا وأدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي، فقال لها ألا ترضي أن أحرّمها فلا أقربها؟ قالت: بلى فقال لها: لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأنزل الله الآيات» ومما رووه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة من قبيل المراضاة والبشرى إن أباها وأبا عائشة سيكونان خليفتين بعده. ومما رووه تتمة للحادث أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لإفشاء سرّه واعتزل نساءه شهرا وقعد في مشربة
__________
(1) المصدر السابق الذكر ص 240- 241 والقرظ: ثمرة مثل البلوط. وأهب جمع إهاب.
وهو كيس من جلد. وفسر الشارح كلمة (عجلة) بدرجة. وقد جاءت هذه الكلمة بعد كلمة (عجلة) كأنها مرادفة لها.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.(8/533)
مارية. وشاع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن بل ورووا أنه طلق حفصة وأن عمر بن الخطاب جاء إلى المسجد فوجد الناس جالسين يبكون وفي رواية ينكتون بالحصى ويقولون: طلّق رسول الله نساءه فاستأذن على النبي فلما أذن له قال: يا رسول الله ما يشقّ عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ثم سأله: أطلقتهن؟ قال: لا، فنادى بأعلى صوته: لم يطلق النبي نساءه ونزلت الآيات.
وعلى كل حال فالآيات قد نزلت بسبب حادث ما مما ورد في الأحاديث، وبالتالي بسبب غيرة نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأن فحواها متطابق مع ذلك. مع القول إن رواية المفسرين لأحاديث غير أحاديث الشيخين والترمذي قد تفيد أن من الرواة من لم يكن متأكدا من هذه الأحاديث، ومتأكدا مما بلغه وأن المفسرين جاروهم في ذلك فجمعوا بين الأحاديث على اختلاف مراتبها. ومن الجدير بالتنبه أنه ليس في الحديث الطويل المروي عن ابن عباس وحديثه عن عمر ما يتصل بالحادث إلّا كون جملة وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ هي في حفصة وعائشة. وهذا مطابق للحديث الأول الذي هو الأقوى سندا والذي قد يكون ما جاء فيه هو الأصحّ والله أعلم.
والتنديد والإنذار في الآيات قويان يلهمان أن الحادث مما أزعج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فجاءا بهذه القوة متناسبين مع شدة الإزعاج والألم اللذين ألمّا بالنبي صلى الله عليه وسلم مع علوّ مقامه الذي هو جدير بالتعظيم والتوقير وبخاصة من نساء النبي أكثر من أي شخص آخر.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت مشهدا آخر من مشاهد السيرة النبوية الخاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم الزوجية. وقد سبقت الإشارة إلى مشاهد أخرى من ذلك في سورتي الأحزاب والنور.
والإيجاز في الإشارة وأسلوب الآيات معا يلهمان أن الآيات إنما أوحيت للعظة والتعليم مما يصح أن يكون شاملا لعامة المسلمين في الحالات المماثلة التي هي من مشاهد الحياة الزوجية.(8/534)
ويحسن أن ننبه على مدى تعبير لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ من حيث كونه ليس في معنى المناقضة في تحريم ما أحل الله تعالى في المفهوم الشرعي الذي يقابله معنى إحلال ما حرّم الله. وإنما هو في معنى حرمان النفس ومنعها مما أحلّه الله.
وهذا غير غريب عن المألوفات البشرية في امتناع الناس أو حلفهم على الامتناع عن شيء هو في أصله حلال ومباح لهم دون أن يعني أنه قصد نقيض حلّه.
وتحلّة الأيمان إنما وردت في آيات سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) .
ويفيد هذا أن الآيات التي نحن في صددها قد نزلت بعد هذه الآيات مع أن سورة المائدة متأخرة في الترتيب عن سورة التحريم. ولقد احتوت سورة المائدة فصولا متعددة منها ما يدل على أنها نزلت قبل فصول نزلت في سور متقدمة عليها في الترتيب على ما سوف نشرحه بعد. ومنها هذا الفصل على ما يبدو.
وقد يفيد أسلوب الآيتين الأولى والثانية أن الله عز وجلّ لا يحب أن يحرم الإنسان على نفسه ما أباحه وأحله له. وأن الواجب إذا صدر من امرئ يمين بذلك أن يكفر عنه ويتمتع بما أباحه الله وأحله له. وهذا صريح أكثر في آيات المائدة. ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وردت في الكتب الخمسة مؤيدة لذلك. وأحاديث في تعريف اليمين اللغو وأخرى في اليمين الغموس التي تحلف كذبا على أمر جرى خلافا للمدعى به، وأخرى في صدد اليمين بغير الله وأخرى في صدد الاستثناء في اليمين أوردناها في سياق تفسير الآية [224] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه هنا يرجع إليها.
هذا، وجبريل يذكر هنا للمرة الثانية. وقد ذكر لأول مرة في آيات سورة البقرة [97- 98] وعلقنا عليه بما فيه الكفاية. والأسلوب والمقام الذي جاء ذكره(8/535)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
فيهما هنا يؤيد ما نبهنا عليه من دلالة آيات البقرة والأحاديث النبوية العديدة من اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وحيا وتوجيها وتأييدا وتعليما. ومن كونه عظيم ملائكة الله المقربين، ومن كون هذا قد استقر في أذهان المسلمين.
وبرغم ما هو ظاهر الدلالة من أن جملة وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ تعني في مقامها جمهور المؤمنين الصالحين فإن مفسري الشيعة صرفوها كعادتهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم «1» . وفي هذا ما فيه من تعسف وهوى.
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
. (1) توبة نصوحا: التوبة التي ينصح الإنسان بها نفسه أي ينقذها وهي التوبة التي يندم بها صاحبها عمّا فرط منه ويعتزم على عدم العودة. وقد روى الطبرسي أن معاذ بن جبل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال له: أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي احتوت عظة وإنذارا وتبشيرا.
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 192.(8/536)
والذي يتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. فقد حكت ما حكته من الحادث الذي كاد فيه بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم له بما آلمه، وأنذرتهن ونددت بهن وطلبت منهن التوبة فجاءت هذه الآيات تهتف بالمسلمين عامة- ونساء النبي داخلات في الخطاب طبعا- على سبيل العظة والتوكيد: بوجوب التوبة إلى الله تعالى مما ألمّوا ويلمّون به من ذنوب وأخطاء توبة صادقة مخلصة ليقوا أنفسهم وأهليهم بذلك من أهوال يوم القيامة ويستحقوا فيه مغفرة الله تعالى ورحمته ورضوانه وجناته.
وقد وصفت الآيات ذلك اليوم بما وصفت من قبيل الاستطراد والتشديد بالدعوة إلى ما هتفت به من التوبة ووقاية النفس والأهل: فالنار شديدة هائلة.
وحرّاسها أشداء أقوياء من الملائكة يسارعون إلى تنفيذ أوامر الله ولا يعصونه في شيء. ولسوف يقال في ذلك اليوم للكفار: لا تعتذروا فلن يفيدكم اعتذار وإنما تجزون بما كنتم تعملون حقّا وعدلا. ولسوف يقرّ الله فيه عيون النبي والمؤمنين المخلصين معه ولا يخزيهم. يشعّ نورهم أمامهم وعلى جوانبهم ويدعون الله بأن يتمّم نوره ونعمته عليهم ويغفر لهم ذنوبهم مقررين أنه على كل شيء قدير.
والآيات قوية نافذة من شأنها بعث الرهبة والرغبة في السامعين وهو مما استهدفته الآيات. وإطلاق الهتاف يجعله عامّا شاملا لكل المسلمين في كل ظرف ومكان.
ووصف التوبة التي دعي إليها المسلمون بالنصوح الذي يعني الندم على ما فات والاعتزام على عدم اقتراف ذنب فيما هو آت. وهو ما أوله به أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على ما رواه المفسرون «1» . وهذا هو الأصل الحكيم في مبدأ التوبة القرآني على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد علّق المفسرون «2» على جملة قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً فقالوا: إنها
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والخازن.
(2) المصدر نفسه.(8/537)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
توجب على ربّ البيت المسلم أن يعلم أهله وأولاده ومماليكه ما فرض الله ونهى عنه ومن ذلك تعليم الأطفال الصلاة والصوم وحسن الأخلاق وأن يراقبهم في ذلك وأن يزجرهم ويقذعهم إذا ما أتوا معصية. ومنهم من عزا ذلك إلى ابن عباس. وفي هذا وجاهة ظاهرة.
وفي مناسبة جملة عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) نقول: إن شيئا من ذلك ورد في سورة المدثر وعلقنا عليه وعلى موضوع الملائكة في مناسبة بما يغني عن التكرار. وقد يكون ما تضمنته الآيات هنا من إنذار بالجزاء الأخروي للناس على أعمالهم والتحذير من عذاب النار من حكمة الأسلوب الذي وردت به العبارة القرآنية لأن فيه ترهيبا قويا، والله تعالى أعلم.
[سورة التحريم (66) : آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
. وهذه الآية أيضا لا يروي المفسرون لها مناسبة فيما اطلعنا عليه. ومع أنها تبدو مستقلة عما قبلها وبعدها سياقا وموضوعا فليس من شأن هذا أن يجعلها في مكانها فذة. فقد تكون استطرادية بعد الآيات السابقة التي دعت إلى التوبة واجتناب عذاب الله وأشارب إلى مصير الكفار الأخروي وعدم جدوى اعتذارهم في يوم القيامة لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف- من الذين كفروا برسالته علانية وهم الكافرون وسرّا وهم المنافقون- موقف الشدة والمجاهدة. ولتنذر بمصيرهم الأخروي المحتم وهو جهنّم. ومثل هذه الاستطرادات غير نادر في النظم القرآني كما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومما يمكن أن يسوغ هذا ما يبدو من صلة وثيقة بين الآيات التالية لهذه الآية والآيات السابقة لها بحيث يستبعد أن تكون هذه الآية فذة كما قلنا في مكانها لا تتصل بما سبقها وما لحقها اتصالا مباشرا أو غير مباشر والله أعلم.(8/538)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ولقد فرق المفسرون «1» عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وبعض علماء التابعين في الموقف الواجب وقوفه من كل من الكافرين والمنافقين بحيث تكون مجاهدة الكافرين بالسيف والمنافقين بالحجة والغلظة في التنديد والتثريب. مع أنه ليس في الآية ما يسوغ هذا التفريق ولا سيما أنها جعلت مصير الفريقين الأخروي واحدا.
ويتبادر لنا أن هذا التفريق مستلهم من موقف النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين حيث لم ير قتالهم وقتلهم لاعتبارات عديدة منها أنهم كانوا مسلمين في الظاهر يقرون بوحدانية الله ورسالة رسوله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويشتركون في الحركات الجهادية على ما شرحناه في سياق تفسير سور البقرة والأحزاب والنساء. وقد يكون هذا في محله والله أعلم.
وعلى ضوء ما شرحناه في مناسبات سابقة فإن كان الجهاد المأمور به النبي الكفار يعني القتال فإنه يكون بالنسبة للأعداء منهم دون المسالمين. أما إذا كان يعني بذل الجهد في الإنذار فيصح أن يكون الأمر واردا بالنسبة لجمع الكفار وبالنسبة للمنافقين معا.
[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) .
__________
(1) انظر تفسير هذه الآية وتفسير الآية [73] من سورة التوبة التي في نفس الصيغة في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.(8/539)
تعليق على الآية ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
الآيات تحتوي تذكيرا بحالة ثلاث فئات من النساء ومصائرهن:
(1) فالفئة الأولى كافرات في عصمة مؤمنين صالحين. والمثال عليها امرأتا نوح ولوط. فقد خانتا زوجيهما وكفرتا فلم تنفعهما زوجيتهما بنبي ولم يغن زوجاهما عنهما من الله شيئا. وحقّت عليهما النار في جملة من حقت عليه.
(2) والثانية مؤمنة في عصمة كفار متمردين على الله. والمثال على ذلك امرأة فرعون. فقد آمنت وأنابت إلى الله واستنكرت ظلم فرعون وكفره ودعت الله بأن ينجيها منه من تبعة عمله وبأن يكون لها بيت عنده في الجنة. وينطوي في هذا تقرير كون زوجيّتها لفرعون لم تضرّها وكونها نالت من الله الرضاء وحسن الجزاء.
(3) والثالثة مؤمنة لم ترتبط بعصمة الرجال. والمثال عليها مريم ابنة عمران. فقد آمنت بالله وكتبه وخضعت له واعتصمت به. وأحصنت فرجها فكرمها الله بأن نفخ فيه من روحه. وينطوي في ذلك أيضا تقرير كونها نالت رضاء الله عنها.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة بموضوع آيات السورة وخاصة بفصلها الأول صلة تمثيل وتذكير لنساء النبي صلى الله عليه وسلم اللائي صدر من بعضهن ما صدر، وأنه أريد بها كما تلهمه تقرير كون رابطتهن الزوجية بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس من شأنها وحدها أن تنجيهن من عذاب الله أو تضمن لهن رضاءه وأن هذا وذاك متوقف على عملهن وسلوكهن.
والإطلاق في الآيات يجعل العظة التي استهدفتها والأمثال التي ضربتها والتذكير الذي ذكرت به موجها إلى عموم المسلمين ومستمر التلقين. وخاصة في صدد كون المرء لا ينجيه إلّا عمله مستقلا عن أية رابطة تربطه بغيره.(8/540)
ولقد تكرر التقرير المنطوي في الآيات بأساليب عديدة في مواضع كثيرة من القرآن المكي والمدني ما مرّ منه أمثلة عديدة حيث يكون هذا من المبادئ القرآنية المحكمة.
ومع خصوصية الآيات ومناسبتها الموضوعية فإنها لا تخلو كما يتبادر لنا من تلقين تقريري لشخصية المرأة واستقلالها السلوكي وأهليتها لتحمل نتائج هذا السلوك. وهذا كله متسق مع ما قرره القرآن ونبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وكفر وخيانة امرأة نوح وإيمان امرأة فرعون يذكران للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآيات. والأمران لم يردا في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي احتوت قصص نوح وفرعون وموسى بإسهاب. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون شيء من ذلك ورد في أسفار وقراطيس كانت متداولة ولم تصل إلينا على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة. ولقد روى المفسرون «1» عن بعض التابعين أن امرأة نوح كانت تشي لجبابرة قومها بالذين كانوا يؤمنون برسالة زوجها. وأن امرأة فرعون التي سميت في كتب التفسير بآسية بنت مزاحم آمنت نتيجة لإيمان امرأة خازن فرعون التي أصرّت على إيمانها بالله رغم قتل فرعون لأولادها أمامها وتعذيبها حتى زهقت روحها حيث أثّرت أقوالها فيها وأنها فرحت حينما علمت بتغلب موسى على سحرة فرعون وأعلنت إيمانها بربّ هارون وموسى. وأن فرعون عذّبها ثم أمر بإلقاء صخرة عظيمة عليها فزهقت روحها هي الأخرى حيث يدلّ هذا على أن ما ورد في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان من الراجح أن هذا التداول كان في أوساط الكتابيين فإن ورود الآيات بالأسلوب الذي وردت به قرينة على أن سامعي القرآن من العرب لم يكونوا يجهلون ذلك أيضا فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون وسيلة للعظة والتذكير والتمثيل شأن كل الأمثال التاريخية التي وردت في القرآن.
أما امرأة لوط ففي قصة لوط الواردة في سور الصافات والعنكبوت والنمل
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.(8/541)
والشعراء والحجر وهود والأعراف إشارات إلى أن الله كتب عليها ما كتب على قوم لوط من هلاك. وفي سفر التكوين المتداول اليوم شيء بهذا المعنى أيضا حيث جاء في الإصحاح (19) أنها التفتت وراءها فصارت قضيب ملح.
ومن المؤسف أن مفسري الشيعة لم يمنعهم عقل ودين من صرف الآية الأولى إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول إنهما كانتا كافرتين منافقتين وأنهما خالدتان في النار. والعياذ بالله من قول الزور والهوى.
ولقد ذكرت السيدة مريم في سور عديدة مكية ومدنية مثل سور مريم والأنبياء والمؤمنون وآل عمران والمائدة وذكر ما كان من قنوتها لله وإحصانها فرجها وتكريم الله لها ونفخه فيها من روحه وجعلها وابنها آية للعالمين. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير المذكورة بما يغني عن التكرار.
استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه
غير أننا رأينا هنا أن نستطرد إلى ما يروى عن وجود إخوة وأخوات للمسيح من أمه. لأن بعض المسلمين سألونا مؤخرا عنها. ففي الإصحاح (6) من إنجيل مرقس هذه العبارة (أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخا يعقوب ويوسى ويهوذا ... ! وليست إخوانه هاهنا عندنا) وفي الإصحاح (8) من إنجيل لوقا هذه العبارة (وأقبلت أمه وأخوته فلم يقدروا على الوصول إليه لأجل الجمع. فأخبر وقيل له إن أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك) ولقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى هذه العبارات (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجمعا حبلى من روح القدس. وإذ كان يوسف رجلها صديقا ولم يرد أن يشهرها همّ بتخليتها سرّا. وفيما هو متفكر في ذلك إذا بملاك الرب تراءى له في الحلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم فإن المولود إنما هو من روح القدس. وستلد ابنا فتسميه يسوع. لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم. فلما نهض يوسف من النوم صنع ما أمره ملاك الربّ. فأخذ امرأته. ولم(8/542)
يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسماه يسوع) . وقد تعني الجملة الأخيرة أنه لم يعاشرها حتى ولدت ثم عاشرها بعد ولادتها المسيح. وقد يؤيد هذا روايات انجيلي مرقس ولوقا التي ذكرت أنه كان للمسيح أخوة جاؤوا إليه مع أمه. والكلام في القرآن إنما دار على حبل مريم بعيسى من روح الله وكلمة التعبير عن المعجزة الربانية في ذلك. وما ذكره القرآن من إحصان مريم لفرجها إنما كان قبل حبلها بعيسى. ولا يتعرض القرآن لمريم بعد ولادتها عيسى إلا بالقول إنها كانت صديقة كما جاء في آية سورة المائدة [115] والتنديد باليهود بسبب رميهم إياها بالبهتان العظيم في آية سورة النساء [180] الذي يفيد أنهم قصدوا القول إن عيسى كان ولد زنا. ولسنا نرى ما يمكن أن تفيده عبارات الأناجيل من معاشرة يوسف لمريم بعد ولادتها لعيسى وإنجابهما أولادا غير ممكن كما أنه ليس فيه ما يتعارض مع القرآن.
وكل ما على المسلم الاعتقاد به هو ما قرره القرآن من أن مريم أحصنت فرجها فنفخ الله فيها وولدت عيسى وكفى. ولا يضيره أن يصدق ما جاء في الأناجيل. وله أن لا يصدقه أيضا. وليس في القرآن ولا في الحديث ما يثبت ذلك أو ينفيه. والله تعالى أعلم.(8/543)
سورة التغابن
في السورة تقرير تسبيحي وتنزيهي من كل ما في السموات والأرض لله.
وإشارة إلى خضوع كل شيء له. ومظاهر عظمته وقدرته في الكون والخلق وشمول علمه. وتذكير بالكافرين السابقين ونكال الله فيهم. وحكاية لإنكار الكفار للبعث وتوكيده وإنذار به. وتوطيد لواجب الطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيل الله.
وتحذير من أن يكون الأولاد والأزواج والأموال من المانعين لذلك.
والسورة من السور التي يختلف الرواة في مكيتها ومدنيتها. غير أن معظم روايات ترتيب نزول السور تسلكها في سلك السور المدنية. ومنها المصحف الذي اعتمدنا عليه. وفحوى آيات السورة يؤيد مدنيتها ويؤيد كونها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. ومن الفحوى الذي يدل على مدنيتها الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من الزوجات والأولاد فهذا أسلوب مدني والله أعلم.
وبعض الروايات التي تذكر أنها مكية تذكر أن الآيات [14- 16] مدنية «1» .
وآيات السورة منسجمة مع هذه الآيات بحيث يسوغ القول إنها سياق واحد نزلت في ظرف واحد.
وليس في السورة علامة مميزة تساعد على القول بصحة ترتيب نزولها بعد سورة التحريم وعدمه. وقد جعلناها بعد سورة التحريم أخذا برواية المصحف الذي اعتمدنا عليه وبعض روايات التراتيب الأخرى «2» والله أعلم.
__________
(1) انظر البغوي والطبرسي والزمخشري وابن كثير والخازن. [.....]
(2) انظر كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9 وتفسير الزمخشري.(8/544)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
. عبارة الآيات واضحة. والآيات الأربع الأولى منها احتوت تقريرا لعظمة ملك الله وقدرته ومطلق تصرفه في الكون وإتقان خلق الإنسان وتصويره على أحسن الصور وإحاطة علمه بكل شيء وخضوع كل شيء له واستحقاقه وحده للحمد والتقديس. وقد انطوى في الآية الثانية على ما يتبادر من روحها تقرير لواقع المخاطبين حيث كان منهم الكافر وكان المؤمن وتقرير كون الله تعالى بصير بما يفعله كل منهم.
أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا تذكيرا بالكافرين من الأمم السابقة بأسلوب التساؤل الإنكاري التقريري عن ما جاء المخاطبين من أنبائهم حيث استنكروا أن يرسل الله بشرا رسلا ليهدوهم فكفروا نتيجة لذلك فذاقوا نكال الله في الدنيا فضلا عما أعده لهم من عذاب الآخرة الأليم مع تقرير كون الله مستغنيا عنهم وهو الغني عن خلقه الحميد لمن يشكره ويؤمن به.
وواضح أن الآيات هي بسبيل دعوة السامعين إلى الله والاهتداء بالهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء هذا بصراحة أكثر في الآيات التالية. وأسلوبها عام هادىء موجّه إلى القلب والعقل معا.
وليس هناك روايات تروي سبب نزولها والمتبادر أنها تمهيد أو مقدمة لما جاء بعدها والله أعلم.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 35(8/545)
وفي حكاية قول الكفار السابقين حينما كانت تأتيهم رسلهم أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا تنديد بالكافرين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان يصدر منهم مثل هذا القول على ما حكته آيات عديدة في سور سابقة. منها آية سورة الإسراء هذه قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) فكأنما أريد أن يقال لهم: إنكم إذا قلتم هذا فقد قاله أمثالكم من قبل وكان من أسباب كفرهم واستحقاقهم لنكال الله وعذابه. وإن الله لمستغن عنكم كما استغنى عمن قبلكم وهو الغني الحميد.
وفي جملة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ تذكير للإنسان بما ميزه الله على غيره من خلقه بالمميزات المتنوعة. وبما يوجبه ذلك عليه من الاعتراف بفضله والاستجابة إلى دعوته. وقد انطوى هذا في آيات عديدة في سور سبق تفسرها.
تأويل الكلاميين لجملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وتعليق عليه
ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وأوردوا مذاهب الكلاميين فيها من حيث الجبر والاختيار. حيث يرى أصحاب المذهب الأول فيها دليلا على مذهبهم بتقدير الله عزّ وجلّ الكفر والإيمان على الناس. وقد أوردوا حديثا نبويا للتدليل على ذلك روي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «وكل الله بالرحم ملكا. فيقول أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال يا ربّ أذكر أم أنثى. أشقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه» «1» وحيث ينكر أصحاب المذهب الثاني ذلك ويقولون إن معنى الآية هو أن الله خلق الناس فمنهم من اختار الكفر ومنهم من اختار الإيمان وذكروا آية سورة الكهف وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [29] .
__________
(1) الحديث من تفسير البغوي.(8/546)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
ونقول تعليقا على ذلك إن الحديث ليس من الصحاح وإننا شرحنا مسألة القدر والجبر والاختيار في سورة القمر شرحا يغني عن التكرار ورجحنا الثاني على ضوء الآيات القرآنية المحكمة. وإن المتبادر لنا أن الجملة لا تتحمل هذا الخلاف الكلامي وإن روح الآيات وهي تندد بالكافرين وتنسب إليهم أعمالهم وتذكرهم بأمثالهم الذين استحقوا نكال الله تؤيد بقوة القول الثاني. وإن الجملة هي بسبيل تقرير واقع المخاطبين والسامعين حين نزولها حيث كان منهم من كفر بالرسالة النبوية ومنهم مؤمن. وقد رأينا الطبري يؤول الجملة في معنى (يقول الله تعالى أيها الناس منكم كافر بخالقه وأنه خلقه. ومنكم مؤمن بخالقه وأنه خلقه) ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كنا نرى ما ذكرناه هو الأكثر تساوقا مع الجملة وروح الآيات معا.
والله تعالى أعلم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 10]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
. (1) يوم الجمع: كناية عن يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس جمعا.
(2) التغابن: من الغبن. وهو بيع شيء بأغلى من قيمته بالتغرير. والقصد من الكلمة هو أن يوم القيامة هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الضالين الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما ربحت تجارتهم. ومع ما في الكلمة من هذه الدلالات لغويا فإن المفسرين رووا عن ابن عباس أن جملة يَوْمُ التَّغابُنِ من أسماء يوم القيامة. والظاهر أنه اعتبرها لذلك لدلالتها المذكورة.
عبارة الآيات اللغوية واضحة كتلك وفيها:(8/547)
(1) حكاية لزعم الكفار باستحالة بعثهم بعد الموت.
(2) وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك لهم وسهولته على الله تعالى.
(3) وتعقيب على التوكيد بالدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والاهتداء بالنور الذي أنزله الله عليه.
(4) واستطراد إنذاري بذكر يوم القيامة وما سوف يظهر للكافرين فيه من مقدار الغبن العظيم الذي وقعوا فيه في الدنيا بإصرارهم على الكفر وعدم استجابتهم إلى دعوة الحق والهدى.
(5) وبيان لمصير الناس في ذلك اليوم حيث يتجاوز الله عن سيئات الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويكون لهم الخلود في نعيم الجنات وحيث يكون للذين كفروا وكذبوا بآيات الله الخلود في النار وبئست هي مصيرهم.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وقد تلهم هي والتي قبلها معا أنها نزلت على أثر موقف من مواقف الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الكفار في بشرية النبي والبعث الأخروي وماهية الدعوة والرسالة مما كان يتكرر بين النبي والكفار وخاصة في العهد المكي.
ولعل الذين قالوا إن السورة مكية رأوا التجانس بين هذه الآيات وما كان يقع في العهد المكي من مثل ذلك وما ورد في القرآن المكي من حكايته والرد عليه.
وليس هذا مبررا كافيا لذلك القول لأن معظم العرب ظلوا كفارا إلى الفتح المكي وقد روت الروايات العديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتقي بالمسالمين منهم أو يستقبل وفودا من زعمائهم فكان بطبيعة الحال يدعوهم وينشب بينه وبينهم جدال مماثل لما كان ينشب بينه وبين أمثالهم في العهد المكي.
وتعبير يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ بالنسبة للمؤمنين وفي سياق المصير الأخروي قد تكرر أكثر من مرة وعلقنا عليه في سياق تفسير آيات سورة النجم [31 و 32] وسورة النساء [31] ونبهنا على ما فيه من تسامح رباني ومعالجة روحية حكيمة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.(8/548)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
[سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
. تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث
في الآيات:
(1) تقرير بأن ما يصاب به أحد من مصيبة فإنه بإذن الله العليم بكل شيء.
(2) وتعقيب على ذلك بأن من يؤمن بالله تعالى ويفوض الأمر إليه يرزقه الله هداية القلب والطمأنينة والسكينة فيتقبل الأمر الواقع الذي لا يد له فيه بالرضاء والصبر.
(3) وأمر موجه للمسلمين بوجوب طاعة الله ورسوله في كل حال ودون أن يمنعهم أي شيء من هذا الواجب جاعلين اتكالهم على الله الذي لا إله إلّا هو والذي يجب على المؤمنين أن يجعلوا اتكالهم عليه دائما.
(4) وإيذان لمن لم يستمع لهذا التلقين والعظة ويتولى عن واجب الطاعة لله ورسوله بأنه ليس على الرسول إلّا التبليغ. والأمر والإرشاد والبيان. وقد انطوى في الإيذان معنى الإنذار كما هو المتبادر أيضا.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات. والمتبادر أنها فصل مستقل لا علاقة له بالآيات السابقة. ومضمونها وروحها يلهمان أنها بسبيل الإشارة إلى حادث ما أو موقف ما أو بسبيل تهوين مصيبة أصيب بها بعض المسلمين في أثناء قيامه بتنفيذ أمر أمره النبي صلى الله عليه وسلم به أو بسبيل تهوين مصيبة خاف أحد المسلمين أن تلحق به أثناء تنفيذ أمر أمره به النبي صلى الله عليه وسلم ثم بسبيل تثبيت وتوطيد الطاعة لله ولرسوله. ولعل الآيات التالية متصلة بها ومنطوية على شيء من إيضاح المناسبة أو(8/549)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
الموقف الذي نزلت فيه على ما سوف يأتي شرحه بعد.
وورود الآيات بهذا الأسلوب يدل على أن الحادث أو الموقف قد جعل للتهوين والتثبيت والعظة لعامة المؤمنين أيضا بالإضافة إلى صاحب العلاقة، ولقد انطوت على علاج نفساني قوي يستمد منه المؤمن قوة وصبرا وسكينة وطمأنينة وإسلاما لله واتكالا عليه في الأزمات والملمات الطارئة أو المتوقعة التي لا تخلو حياة الناس منها في كل وقت ومكان. نرى الأولى بل الأوجب أن يوقف عند ذلك في موضوع قدر الله تعالى وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة تقديرا محتوما عليهم. لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها على ضوء الشرح المستلهم من ذلك والله تعالى أعلم.
ولقد تكرر مثل هذه المعالجات النفسية في ظروف مماثلة مرّت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها وأوردنا في صددها بعض الأحاديث النبوية وبخاصة في سياق الآية [155] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثين نبويين فيهما من التلقين والعلاج ما هو متسق من محتويات الآيات وتدعيم لما نبهنا عليه. واحدا منهما وصفه بأنه متفق عليه جاء فيه «عجبا للمؤمن لا يقضي الله قضاء إلّا كان خيرا له.
إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن» وواحدا رواه الإمام أحمد جاء «إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أيّ العمل أفضل؟ قال إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيله.
قال أريد أهون من هذا يا رسول الله قال: لا تتهم الله في شيء قضى لك به» .
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
.(8/550)
وفي هذه الآيات:
(1) تنبيه للمؤمنين بأن من أزواجهم وأولادهم من يكون عدوّا لهم يجب الحذر منه.
(2) ووصية لهم على كل حال بالعفو والصفح والغفران تأسيا بالله الغفور الرحيم.
(3) وتنبيه لهم كذلك بأن أموالهم وأولادهم هي بوجه عام امتحان لهم في الاختيار بين واجبهم نحو الله والمصلحة العامة وبين أموالهم وأولادهم. وبأن ما عند الله من الأجر العظيم هو أعظم وأجدى وبأن من مصلحتهم أن يختاروا ما فيه رضاء الله حتى ينالوا ما عنده.
(4) وتعقيب على ذلك فيه حثّ لهم على تقوى الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه جهد استطاعتهم، وعلى الطاعة لله ورسوله وبذل المال في سبيل الله ووجوه البرّ ففي هذا خاصة خير ونفع لهم. وأن المفلح هو الذي ينجو من شحّ النفس والبخل. وأنهم إذا أنفقوا فكأنهم يقرضون الله قرضا حسنا سوف يردّه عليهم مضاعفا مع غفران ما يلمون به من ذنوب وهو الشكور لفاعلي الخير الذي يعامل عباده بالحلم والعطف والتسامح. العليم بالحاضر والمستقبل المغيب القوي القادر الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات أو بالأحرى الآيتين(8/551)
الأوليين «1» منها واحدة معزوة إلى ابن عباس ومجاهد، جاء فيها أنها نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبطهم نساؤهم وأولادهم عنها. وقد روى الترمذي هذا في حديث عن ابن عباس فيه زيادة حيث جاء في الحديث «هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبيّ فأبى أزواجهم وأولادهم ذلك ومنعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله الآية» «2» وثانية معزوة إلى عطاء بن يسار من كبار علماء التابعين جاء فيها «أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرقّ لهم ويقيم» «3» وثالثة معزوة إلى عكرمة من علماء التابعين جاء فيها «كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله إلى أين تذهب وتدعنا. فإذا أسلم وفقه قال لأرجعن إلى الذين ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن. فأنزل الله وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) » «4» .
وعلى كل حال فروح الآيتين الأوليين ومضمونهما يلهمان أنهما نزلتا في مناسبة مماثلة. ويتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة لها وأن الآيات السابقة جاءت تمهيدا أو مقدمة لها وفي كلتا المجموعتين أمر بالسمع والطاعة لله ورسوله.
وهذا التشارك بنوع خاص قرينة قوية على الاتصال بين المجموعتين.
ويلحظ أن الخطاب في الآيات موجه إلى جميع المؤمنين حيث يتبادر من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك ليكون الحادث وسيلة لتوجيه الكلام إلى المسلمين جميعهم ويكون لهم فيه عظة وتنبيه وتحذير على النحو الذي شرحنا به الآيات. وهذا ما جرى عليه التنزيل القرآني مما مرّ منه أمثلة كثيرة.
__________
(1) تفسير الطبرسي والبغوي وابن كثير.
(2) التاج ج 4 ص 238.
(3) تفسير البغوي.
(4) تفسير الطبري.(8/552)
والآيات بهذا التعميم والإطلاق مستمرة التلقين والمدى من جميع النواحي بالنسبة لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان في المناسبات والمواقف المماثلة.
وواضح من الشرح والمناسبات المروية أن جملة عَدُوًّا لَكُمْ قد جاءت للتشبيه وتشديد التحذير من التأثر وشدة الشغف بالأزواج والأولاد إلى المدى الذي يشغل المسلم عن واجبه نحو الله ودينه وخلقه أو يجعله يرتكب إثما ومعصية.
فلا يصح أخذها على غير هذا المدى.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا رواه الحافظ البزار عن أبي سعيد قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد ثمرة القلوب. وإنهم مجبنة مبخلة محزنة» حيث ينطوي في الحديث تقرير لواقع الأمر والتطابق مع الآيات من حيث كون الأولاد قرة عين ولكنهم يكونون أحيانا من أسباب جبن الآباء وبخلهم ودواعي الحزن لهم. وقد أورد المفسر حديثا آخر رواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عدوّك الذي إن قتلته كان فوزا لك وإن قتلك دخلت الجنة.
ولكن الذي لعلّه عدوّ لك ولدك الذي خرج من صلبك ثم أعدى عدوّ لك مالك» والحديث مما تضمنت الآيات تقريره وهدفت إلى التحذير منه كما هو المتبادر.
ولقد قال بعض المفسرين: إن في الآية فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ تخفيفا عن المسلمين ونسخا لآية آل عمران هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [102] .
ورووا عن سعيد بن جبير ومقاتل والسدي أن المسلمين لما نزلت آية آل عمران اشتدوا في العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم- يعني من كثرة الصلاة- فأنزل الله هذه الآية تخفيفا عنهم «1» . وقال بعضهم إنها غير ناسخة وإن حكم الآيتين محكم في الحالات المختلفة ولا تنافي بينها «2» . ونحن نرى هذا هو الأوجه إن شاء الله. لأن تقوى الله حقّ تقاته لا تتضمن تحميلا للمسلم ما ليس له به
__________
(1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والرواية وردت في ابن كثير.
(2) انظر الطبرسي.(8/553)
طاقة فيما نرى ولا سيما أن في الآيات المكية والمدنية التي نزلت قبل نزول آية آل عمران تقريرا ربانيا بأن الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. وإنما تعني الإخلاص التام لله ومراقبته مراقبة تامة. ولقد نزلت آية آل عمران في موقف خطير وفي سياق تضمن تحذيرا للمسلمين إزاء ذلك الموقف على ما شرحناه في سياق تفسيرها فلا محلّ لربط هذه الآية بتلك.
على أنه يتبادر لنا أن الأوجه المتسق مع روح الآيات وهدفها ومقامها هو صرف الجملة إلى قصد الحثّ على الاجتهاد في تقوى الله جهد الطاقة وعدم التهاون في ذلك. وهذا لا يتنافى مع القول الذي رجحناه سابقا والله أعلم.
وتعبير وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) يتكرر هنا للمرة الثانية حيث ينطوي في ذلك توكيد على سوء خلق الشحّ وعظم فلاح من يكون بريئا منه وحثّ على نبذه وقد أوردنا ما روي من الأحاديث النبوية في ذلك في المناسبة الأولى التي ورد فيها هذا التعبير وهو آية سورة الحشر [9] .(8/554)
سورة الصّف
في السورة كسابقتها تقرير بتسبيح كل ما في السموات والأرض لله. وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون. ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل الله وإيذان بحب الله لمن يفعلون ذلك. وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه السلام من إزعاج وأذى. وحكاية لقول عيسى عليه السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعده. وإيذان بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه. وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل الله وحثّ على الجهاد. ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين الله.
وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد «1» .
وقد قال الزمخشري إن السورة مكية. وروى بعضهم هذا عن عطاء أيضا «2» .
وهذا عجيب، وفيه مثال للاهتمام بالرواية أكثر من النصّ. فحثّ المؤمنين على الجهاد والقتال في السورة والتنديد بالمقصرين فيه يجعلان احتمال مكيتها مستحيلا. لأن القتال إنما فرض وحرّض عليه بعد الهجرة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن
__________
(1) ابن كثير.
(2) الطبرسي والبغوي.(8/555)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
للمسلمين في مكة حتى ولا بمقابلة المشركين بأذى على أذاهم وقد هدّأهم القرآن وطلب منهم التسامح في آية سورة الجاثية هذه قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [14] على ما شرحناه في سياقها. وإلى هذا المعنى أشارت آية سورة النساء هذه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) .
وفي السورة آيات قد تكون قرينة على كونها نزلت قبيل صلح الحديبية ووقعة خيبر.
وهاتان الوقعتان قد أشير إليهما في سورة الفتح التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة، حيث يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيبها. والله أعلم.
ولقد ذكر المفسر الطبرسي أن السورة تسمى بسورة الحواريين وبسورة عيسى عليه السلام ولم يذكر لذلك سندا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
. عبارة الآيات واضحة. والآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها.
والآيتان الثانية والثالثة احتوتا عتبا وتنديدا موجها إلى المسلمين الذين لا ينفذون بالفعل ما يقولونه ويعدون به باللسان. وتنبيها إلى ما في هذا من موجبات مقت الله الكبير وغضبه. أما الآية الرابعة فقد احتوت حثّا على القتال في سبيل الله بعزم وتراصّ وتضامن وإيذانا بأن الله يحبّ الذين يفعلون ذلك.(8/556)
وقد تلهم هذه الآية أن التنديد السابق هو للذين يعدون بالقتال ولا يقاتلون.
وهذا ما روته الروايات كسبب من أسباب النزول على ما سوف نذكره بعد هذا.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيها من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في سبب نزول الآيات وفي من عنته.
منها أنها في المنافقين بسبب إخلافهم ما وعدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاشتراك في القتال والتضامن مع سائر المسلمين فيه. ومنها أنها نزلت في جماعة كانوا يتبجحون بأنهم قاتلوا وجاهدوا كذبا. ومنها أنها نزلت في شخص ادعى كذبا بأنه قتل شخصا كافرا في حين أن الذي قتله شخص آخر. ومنها أنها نزلت في جماعة من المسلمين لم يشهدوا وقعة بدر فلما سمعوا ما أعدّ الله لشاهديها من أجر وما كان من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وعدوا بالقتال مثلهم حتى يحرزوا درجتهم في أول حرب ثم انهزموا في واقعة أحد. ومنها ما روي في حديث عن عبد الله بن سلام الصحابي بطرق عديدة مع اختلاف في الصيغة. وقد جاء في بعض هذه الصيغ التي أخرجها ابن أبي حاتم أن عبد الله بن سلام قال: «إن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لو أرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله عن أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك فدعا رسول الله أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة الصف فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّها «2» . وهناك رواية عن مقاتل أوردها ابن كثير جاء فيها «قال المؤمنون لو نعلم
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.
(2) هذا النصّ من ابن كثير وقد أورد هذا المفسّر نصا آخر أخرجه الإمام أحمد بطريق آخر مقارب لهذا النص. وقد روى الترمذي نصا آخر ليس فيه إشارة تفيد أن السورة جميعها نزلت في هذه المناسبة كما ليس فيه ما ينفي ذلك حيث جاء فيه عن عبد الله بن سلام «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملناه فأنزل سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) . التاج فصل التفسير ج 4 ص 233.(8/557)
أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به فدلّهم الله على أحبّ الأعمال إليه فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا فبيّن لهم فابتلوا بيوم أحد بذلك فولّوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) .
والرواية الأخيرة عجيبة لأنها تجعل نزول الآية الثالثة مقدما على نزول الآية الثانية.
والتنديد الشديد في الآيات يدل كما هو ظاهر على أنها في صدد جماعة كانوا يعدون بالجهاد ثم يخلفون. وهذا متسق مع بعض الروايات. ولقد حكت آيات عديدة في سور آل عمران والأحزاب والنساء والنور مثل ذلك عن المنافقين.
وفي سورة الأحزاب آية صريحة في ذلك وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) أن المقصود في الآيات منهم. وفي سورة النور آية صريحة أخرى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) .
وشدة التنديد تدل على أن موقف المندد بهم كان مثيرا للمقت والسخط إما بتكرره وإما في ظروفه. وهذا لا يكون على الأرجح إلّا من المنافقين. ولعل الآيات تنطوي على تقرير كون هذا الموقف مما آلم النبي صلى الله عليه وسلم وآذاه. وقد يكون في الآيات التالية التي تذكر بمواقف قوم موسى المؤذية من نبيهم رغم اعترافهم بنبوته وتندد بهم وتصفهم بالفسق والانحراف، قرينة على ذلك. والله أعلم.
وأسلوب الآيات عام. وتلقينها مستمر المدى لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان. وقوة الآيات تهزّ النفس هزا شديدا سواء بإيذانها بمحبة الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أم بشدّة مقت الله للذين يقولون ما لا يفعلون، وفي القرآن آيات كثيرة جدا في الأمرين أي في التنديد بالمتثاقلين عن الجهاد المثبطين عنه المخلفين بوعودهم به والتنويه بالذين يقاتلون بصدق وإخلاص. وقد جاء كثير منها في سور سبق تفسيرها. ومنها ما جاء في سور نزلت بعد هذه السورة حيث يدل كل ذلك على ما أعاره القرآن الكريم من عناية عظمى لهذا الركن العظيم(8/558)
الذي كتب على المسلمين لما فيه من حياطة أمرهم وقوام وجودهم وكرامتهم وأمنهم وسلامتهم وعزة الإسلام وقوته.
وقد تكون جملة يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) قد عنت أسلوبا من أساليب القتال في ذلك الزمن. ولكن المتبادر أن فيها تلقينا واسع المدى وشاملا بحيث يتناول مقاتلة العدو وبكل أسلوب يضمن النصر عليه وبكل وسيلة من وحدة القوى المادية والمعنوية وأساليب الحرب المتنوعة ومن التعاون التام بين المسلمين في كل ذلك ومن بذل كل ما يمكن من الاستعداد والأموال ومن إظهار كل ما يجب من عزيمة وتصميم دون ترك أي ثغرة في ذلك. وفي القرآن آيات فيها هذا التوجه بصراحة. ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات البقرة [195] والنساء [75 و 76 و 104] والأنفال [60] ومحمد [38] .
ولقد قال غير واحد من المفسرين «1» إن الآيتين الثانية والثالثة عامتا الشمول لكل إخلاف بوعد أو نكول عن عهد ونذر أو قول يكذبه الفعل. وقد يكون في هذا وجاهة بسبب الأسلوب المطلق الذي جاءت عليه الآيتان. مع التنبيه على أن الآية الثالثة التي هي منسجمة معها تلهم أن الآيات تهدف بالدرجة الأولى إلى التنديد بالذين يخلفون وعودهم بالقتال في سبيل الله والصدق فيه. وقد قال ابن كثير إن الجمهور قد حملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرض الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم. مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه. ومع ذلك فإن القول بالنسبة للآيتين بخاصة يظل يحتفظ بوجاهته البديهية من حيث استحقاق الذين يكذبون في أقوالهم ولا ينفذون عهودهم ووعودهم ويخلفون فيها للتنديد الرباني المنطوي في الآيتين. فالقرآن قد حظر وشجب الكذب والنكث والإخلاف ولعن الكاذبين وندد بالناكثين والمخلفين. في آيات كثيرة مكية ومدنية في سور عديدة سبق تفسيرها.
والأحاديث النبوية المتساوقة مع ذلك كثيرة أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة.
وهناك حديثان مهمان رواهما الأربعة البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود يحسن أن
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والقاسمي.(8/559)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
نعيد إيرادهما. واحد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وواحد رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا. ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها. إذا حدث كذب. وإذ عاهد غدر. وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» حيث يفيدان أن الأخلاق التي نددت بها الآيتان وقررت استحقاق صاحبها لمقت الله الشديد هي صفات المنافقين دون المؤمنين الصادقين المخلصين.
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
. تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين وما في بشارة عيسى بنبوة النبي ومن وعد الله بإظهار دين الإسلام على الدين كله
لم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد. ففي الآيات السابقة تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون. وإيذان لما في ذلك من موجبات غضب الله ومقته الشديدين.
فجاءت هذه الآيات:(8/560)
(1) لتذكر على سبيل العظة والزجر والتمثيل بما كان من قوم موسى إزاء موسى عليه السلام من مواقف مؤذية محكية عن لسانه مع تأكدهم بأنه رسول الله إليهم. وبما كان من انتقام الله منهم حينما انحرفوا عن جادة الحق حيث أزاغ الله قلوبهم. لأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الفاسقين المتمردين عليه.
(2) ولتستطرد بهدف توكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقوة ما فيها من الحق والنور الإلهي وحمل المؤمنين بها على الثبات عليها وتأييدها والاستجابة إلى ما يدعوهم النبي إليه من جهاد وغير جهاد إلى ما كان من بشارة عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث حكت قوله لبني إسرائيل إنه رسول الله إليهم مصدقا بالتوراة التي أنزلت قبله ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد بسبيل تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ودعوته.
(3) ولتندد بما كان من موقف الكفار من النبي محمد المبشر به حينما جاءهم وقولهم عن رسالته إنها سحر.
(4) ولتؤكّد انتصار دينه وانتشار نور الله وتمامه نتيجة لذلك حتى يغلبا ما عداهما برغم كل المحاولات المعطلة من الكفار والمشركين وبعبارة قوية داوية حيث تقرر أولا: إنه ليس من أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب فيقول عن آياته إنها سحر بينما هي تدعو إلى الإيمان بالله والإسلام إليه. وثانيا: إن المعطلين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ومواقفهم وأقوالهم ولكن الله تعالى سوف يتمّ نوره وينشره حتى يملأ الكون على الرغم من الكافرين. وثالثا: إن الله قد أرسل رسوله بالهدى والدين الحق الواضح وإنه لجاعل له السيادة والغلبة والظهور على جميع الأديان حتى يصبح دين العالم كله على الرغم من المشركين.
ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الفاعل المستتر في جملة جاءَهُمْ إلى عيسى وصرفها بعضهم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا قول الطبري. وقد رجحناه وأخذنا به في شرحنا الآنف استلهاما من الآيات الثلاث الأخيرة. والله أعلم.
هذا، ويصح أن يكون المقصودون في جملة فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا الجزء الثامن من التفسير الحديث 36(8/561)
سِحْرٌ مُبِينٌ (6) كفار العرب، كما يصح أن يكونوا الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل. ونحن نرجح الاحتمال الثاني لأن الكلام في صدد بني إسرائيل وفي القرآن آيات عديدة ذكرت كفر بني إسرائيل بهذه الرسالة مرّ إيرادها وتفسيرها في سور البقرة وآل عمران والنساء. وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث التي جاءت بعدها قد قصدت كفار بني إسرائيل أيضا. وقد جاءت مع ذلك بأسلوب عام لتكون شاملة لجميع الكفار والمشركين من جهة وليكون ما فيها أعم مدى من موقف جحود الإسرائيليين من الرسالة المحمدية من جهة أخرى. وهذا أسلوب من أساليب القرآن. والله تعالى أعلم.
ولقد حكت آيات كثيرة جدا مواقف الجحود التي وقفها أكثرية الإسرائيليين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مرّ تفسيرها، وفي سور أخرى سيأتي تفسيرها أيضا. وفيها تنديد شديد بهم لأنهم وقفوا هذه المواقف وهم يعرفون صدق رسالة النبي ويعترفون بها ويبشرون بذلك ويستفتحون أي يزهون به على مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من أعلن تصديقه وإيمانه على ما شرحناه في سياق تلك السور شرحا يغني عن التكرار.
ولقد قال المفسرون إن الأذى الذي كان يقع على موسى من قومه هو تعجيزهم له بالمطالب كقولهم لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وهذا حكته آية البقرة [61] وقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وهذا حكته آية البقرة [55] .
وكقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «1» أو رميهم إياه بالبرص أو تآمر قارون عليه أو رميه بالزنا إلخ. ولقد ورد في الآية [69] من سورة الأحزاب إشارة إلى ما كان يقع على موسى من أذى من قومه. والراجح أن الأذى المحكي هنا عن لسان موسى هو من نوع ما عنته آية الأحزاب، وقد أوردنا ما ورد في ذلك من أقوال وروايات وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
__________
(1) حكي هذا عنهم في آية المائدة [24] . [.....](8/562)
وآية الأحزاب نهت المسلمين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى. وقد جاءت بعد آيات فيها إنذار رهيب للذين يؤذون الله ورسوله خاصة والمؤمنين والمؤمنات عامة حيث ربطت بين الموقفين على سبيل المقارنة والإنذار على ما شرحناه في سياقها. والمتبادر من موقف الذين يقولون ما لا يفعلون الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة والذي هو على ما رجحنا بصدد عدم تصديق أقوالهم ووعودهم بالقتال بالفعل قد كان مما آذى رسول الله واستوجب شدة مقت الله فاقتضت حكمة التنزيل أن يعاد التذكير والمقارنة والتنديد في هذا المقام وإن اختلف الأسلوب حيث نهت آية الأحزاب المؤمنين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى وحيث جاء ذلك حكاية عن لسان موسى.
ولقد كانت الدعوة إلى الجهاد ضد الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين والحركة التي انبثقت من ذلك قد شغلتا جزءا عظيما من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجهده في العهد المدني وفي القرآن المدني. ولقد حكت آيات في سورتي آل عمران والنساء التي سبق تفسيرها مواقف بعض المسلمين وبخاصة مرضى القلوب والمنافقين من الدعوة إلى القتال في سبيل الله لدفع عدوان المعتدين ولنصرة المستضعفين الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد المشركين مما كان يثير في نفس النبي مرارة شديدة وحملت عليهم حملات قارعة. فالمتبادر أن الموقف الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة موقف جديد أثار المرارة من جديد في نفس النبي فاقتضت حكمة التنزيل مقابلته بما جاء في الآيات الأولى ثم بالتذكر بما كان من مواقف قوم موسى المؤذية وما كان من نكال الله لهم وبالتأكيد بأن الله ناصر دينه وناشر نوره رغم كل المواقف. والأسلوب الذي جاء به هذا التأكيد في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها قوي بعث أشد اليقين في النفس وهو ما قصدته حكمة التنزيل على ما هو المتبادر.
ولقد تكرر وعد الله بتمكين دينه ونصر رسوله والمؤمنين في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سبق تفسيرها غير أن التوكيد بإظهار هذا الدين على الدين(8/563)
كله، أتى هنا لأول مرة. وقد تكرر بعد هذا مرتين. واحدة في سورة الفتح التي يقع ترتيبها بعد هذه السورة وأخرى في سورة التوبة بنص قريب لنص آيات الصف.
وبالإضافة إلى ما في الآيات من قصد تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون وهو القصد القريب المباشر والله أعلم، وبالإضافة إلى ما فيها من تحدّ مطلق للكافرين والمشركين، وإيذان بوعد الله تعالى بإظهار الدين الذي أرسل به محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله فإن جملة بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ تنطوي على تقرير ما في الرسالة المحمدية من هدى وحقّ يتمثلان في ما احتواه القرآن الكريم والسنن النبوية الشريفة من مبادئ وقواعد وتشريعات ووصايا وتنبهات وتلقينات وتوجيهات ومعالجات وأوامر ونواه إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأسرية (الأسرة) وسلوكية وشخصية وتبشيرية وروحية من شأنها ضمان السعادة العظمى للبشرية في الدنيا والآخرة على أهم وجه وأوسعه وأفضله. ولقد دعا هذا الدين إلى الله وحده المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن كل نقص ومماثلة. وقرر ربوبيته للعالمين جميعا دون اختصاص، واستغناءه وتنزّهه عن الشريك والمساعد والولد بأي معنى كان وسواء أكان ذلك تأويلا أم وسيلة أم شفاعة. وحارب بكل قوته ودونما هوادة كل أنواع ومظاهر الشرك التي تمثل انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق وممثلة لنظام جاهلي فيه تقاليد وعادات منكرة وعصبيات ممقوتة. وهدف إلى القضاء على ما طرأ على الديانات السماوية وبخاصة على الديانتين المعروفة يقينا مصدريتهما من الله الممارستين أي اليهودية والنصرانية من سوء تأويل وانحراف وانقسام واختلاف وتهاتر. وإلى تحرير الإنسانية من الخضوع لأية قوة خفية وظاهرة غير الله. وفتح آفاق الحياة للمؤمنين بهذا الدين على مصراعيها في نطاق أسمى المبادئ وأكرم الأخلاق وأفضل المناهج والخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفردية والإنسانية وأشدها مرونة للنهوض إلى ذرى الكمال في كل مجال من مجالات الحياة وتوجيهها نحو أحسن السبل وأشرفها وأنزهها وأعدلها وأتمّها صفاء وسناء شاملة للناس جميعهم(8/564)
على اختلاف أجناسهم وألوانهم وفئاتهم ليكونوا تحت راية أخوة متساوين في الحقوق والواجبات على اختلاف مفاهيمها. وليقوم في ظله عالم واحد ونظام واحد ودين واحد ولغة واحدة وبكلمة واحدة مجتمع إنساني واحد. يتولى الأمر فيه الصالحون خلقا ودينا والأكفاء الحريصون على المصلحة العامة. لا طاعة فيه لسلطان بمعصية وضرر ولا سند لحاكم فيه إلا كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة العباد والبلاد المتسقة معهما. ولا مكان فيه لظالم جبار وطاغية مسيطر. والشورى فيه صفة أساسية لأهله وواجب ملزم لحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أي الأمر بكل ما فيه خير وصلاح ونفع والنهي عن كل ما فيه شرّ وفساد وضرر وبغي وظلم- والدعوة إلى الخير والسلام والتوادّ والتراحم والتواصي بالصبر والحق والمرحمة من واجبات كل فئة منه حاكمة أو محكومة. وصفة أساسية وخصائص ذاتية لأهله، نتيجة لإسلامهم، لا يسمح فيه باستقطاب الثروة في جانب والفقر في جانب، وللدولة حقّ التوجيه. ويؤخذ فيه من الغني للفقير بالإضافة إلى ما أوجب على الدولة من مساعدة الفقير العاجز. ويمنع فيه القوي من ظلم الضعيف. ويساعد فيه القادر العاجز. ويتواصون جميعا بالصبر والمرحمة والتعاطف والتعاون. ويستمتعون جميعا بكل طيب حلال من طيبات الحلال وزينتها بدون تفريط وإفراط ولا إسراف ولا تقتير، وتمنع فيه الفوضى والعدوان والمنكرات والموبقات والخلاعة والمسكرات والإثم والبغي والظلم. في ظل سلام شامل يعرف الناس عبره أنهم إنما وجدوا ليتعارفوا ويتفاهموا ويتعايشوا ويتعاونوا على البرّ والتقوى دون الإثم والعدوان أكرمهم عند الله أتقاهم، ويتسابقوا في الخيرات. وفي ظل شرائع وتعاليم وخطوط ومبادئ قابلة للانطباق في كل زمان ومكان. ومستجيبة لمختلف مطالب البشر المادية والروحية. ومخاطبة للعقل والقلب معا. وموفقة في ذلك كله بين سعادة الدنيا والآخرة بأسلوب لا تعقيد فيه ولا التواء ولا أصار ولا أغلال ولا تكاليف شاقة محرجة ونافذة إلى أعماق
النفس.
مع الأمر بالدعوة إلى سبل الله أي إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن وعدم الإكراه والإجبار في الدين. وسعة الصدر لمن أراد(8/565)
الاحتفاظ بدينه وعقيدته إذا وادّ المسلمين وسالمهم ولم يتآمر عليهم وعلى دينهم.
ومع الأمر بمعاملة هؤلاء بالقسط والبرّ وحسن التعامل والتعايش وبعدم القتال إلا للدفاع ودفع العدوان والمقابلة بالمثل وتأمين حرية الدعوة وإرغام الظالمين.
وقد وصف معتنقو هذا الدين في القرآن بصفة الوسط التي تعني الخيرية والاعتدال في كل شيء وعدم الإفراط والتفريط وعدم الغلوّ والتقصير وعدم التزمت والاستهتار وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية مما فيه خير دين ودنيا.
والتمسك بكل ما هو الأفضل والأصلح والأنفع والأحسن من كلّ أمر وصفة وخلق وعمل وموقف. وقد اختصّ هذا الدين الأنثى بعناية خاصة فجعلها صنوا للذكر وقسيما له في الإنسانية والحقوق والواجبات والتكاليف والحياة العامة وبنيان الدولة والمجتمع سواء بسواء. كما أسبغ على الحياة الزوجية رعاية عظيمة كفل فيها حقّ المرأة من مختلف النواحي مما لم يكن له مثيل في سابق الإسلام وما لم يلحق به إلى الآن.
وكل ما تقدم من مقتضيات كتاب الله الكريم وسنن رسوله الشريفة. وليس من شأن حالة المسلمين الحاضرة أن يطمس سناء (الهدى والحق) اللذين أرسل الله رسوله بهما والمتمثلين في كتاب الله وسنن رسوله. ويظل كل ذلك أقوى أسباب الجذب والاستقطاب لمختلف أنواع وفئات البشر في كل زمان ومكان. ويصدق وعد الله تعالى بإظهار الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين كله.
ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة المماثلة لنص آيات الصف التي نحن في صددها وفي سياق آية سورة النور [55] التي وعد الله فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بعض الأحاديث النبوية التي تذكر توقعات أو تنبؤات النبي صلى الله عليه وسلم بما سوف يكون لدين الله من انتشار وانتصار. منها حديث رواه الإمام أحمد أورده ابن كثير عن تميم الداري قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله من مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين. يعزّ عزيزا ويذلّ ذليلا. عزّا يعز الله به الإسلام. وذلا يذلّ به الكفر. وكان تميم يقول قد عرفت ذلك(8/566)
من أهل بيتي لقد أصاب من أسلم الخير والشرف والعز. وأصاب من كان كافرا منهم الذلّ والصغار والجزية» . ومنها حديث وصفه ابن كثير بأنه صحيح ثابت جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . ومنها حديث عن عدي بن حاتم روى صيغة من صيغه البخاري جاء فيها «قال له رسول الله حين وفد عليه. أتعرف الحيرة قال لم أعرفها ولكن سمعت بها، قال فوالذي نفسي بيده ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد. ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز. قال قلت كنوز كسرى بن هرمز. قال نعم كنوز كسرى بن هرمز. وليبذلنّ الله المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي بن حاتم فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد. وقد كنت في من افتتح كنوز كسرى بن هرمز.
والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة» . ومنها حديث رواه مسلم عن عقبة قال «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله» .
والإيمان بتحقيق وعد الله وإظهار الإسلام على الدين كله وتمكينه واجب على كلّ مسلم. لأن الله لن يخلف ما وعده للمؤمنين الصالحين. وفيما أمر الله ورسوله ورسماه في الكتاب الكريم والسنة الشريفة عظيم بواعث الثقة والاعتزاز وحوافز العزيمة والإقدام والاندفاع في المسلمين الصادقين للعمل على تحقيق وعد الله ونشر دينه. وهذا واجب لازم عليهم ويأثم المقصرون فيه.
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظل ينشر ويتسع بعد زوال السلطان العربي الذي استمر في القرون الثلاثة الأولى. لما فيه من قوة عناصر الجذب والاستجابة والاستقطاب حتى كان عدد المنضوين إليه بعد زوال ذلك السلطان أكثر من المنضوين إليه في عهده. ويكاد يكون الدين الوحيد الذي لا يتركه معتنقوه، والذي يزداد معتنقوه من الخارج مجددا وليس فقط بالنمو الذاتي ومن كل نحلة وفئة وجنس وفي كل مكان ولو تيسّر له دعوة قوية التنظيم والتمويل ودعاة مرشدون صالحون كثير والعدد لازداد اتساع انتشاره وانجذاب الناس له.(8/567)
وفي سياق الآية [55] من سورة النور التي سبق تفسيرها شرح لمدى جملة الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الموعودين بالاستخلاف والتمكين وما كان من مراحل ذلك منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره بعده فنكتفي هنا بما تقدم.
والآية الثانية من الآيات التي نحن في صددها أي الآية [6] قد حكت أقوال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل التي منها أنه مبشّر برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وهذا الاسم مرادف في المعنى والاشتقاق لاسم محمد الوارد في القرآن والذي كان يتسمى به النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته على ما هو متواتر يقيني. وأحمد صيغة تفضيل من الحمد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه البخاري أيضا عن جبير بن مطعم قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» .
وحديثا آخر رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفّي، والحاشر ونبي الرحمة ونبي التوبة» .
وفي سورة الإسراء هذه الآيات قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) حيث أريد القول والله أعلم أنهم رأوا في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تحقيقا لوعد الله الذي بشر به عيسى فما كان منهم إلا أن آمنوا وخشعوا.
ولقد جاء في آية سورة الأعراف [157] أن اليهود والنصارى كانوا يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وأن منهم من آمن برسالته واتبعوه نتيجة لذلك. وقد حكت آيات أخرى أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة «1» إيمان
__________
(1) اقرأ آيات آل عمران [113- 115 و 199] والنساء [162] والمائدة [82- 84] والأنعام [114] والرعد [36] والإسراء [107- 108] والقصص [52- 53] والأحقاف [10] .(8/568)
جماعات من اليهود والنصارى وتصديقهم أن ما نزل على محمد هو الحق وإعلانهم أنه متطابق لما عرفوا من الحق. حيث يكون في كل هذا وثائق لا تدخص على صدق ما أخبر به القرآن من ورود صفات النبي صلى الله عليه وسلم في أسفار الكتابيين ومن جملتها بشارة عيسى عليه السلام به مهما كابر المكابرون وتعنت المتعنتون. هذا مع التنبيه على أن ما جاء في القرآن ليس في حاجة عند المسلم إلى توثيق خارجي.
وعلى أنه لم يأت فيه في مناسبة موقف جدلي أو تقرير مسألة جدلية وإنما جاء بسبيل تقرير واقع معروف. ويصح أن نكرر هنا من قبيل المساجلة ما قلناه في سياق آية الأعراف من أن الآية التي نحن في صددها قد نزلت في وسط فيه يهود ونصارى وفيه مسلمون من اليهود والنصارى وفيه أعداء للنبي من العرب واليهود والنصارى يتربصون به ويعدّون عليه أنفاسه ليجادلوه ويكذّبوه. فلا يمكن أن تكون نزلت جزافا ولا بدّ من أن تكون الحقيقة التي تضمنتها معروفة غير منكورة في هذا الوسط. ولقد ذكرت البشارة والاسم بصراحة في إنجيل برنابا «1» . وإذا كان النصارى ينكرون هذا الإنجيل ففي الأسفار المتداولة المعترف بها كثير من الإشارات والدلالات والتعبيرات التي يمكن صرفها إلى تأييد ذلك مما أورد السيد رشيد رضا عليه الشواهد الكثيرة بأسلوب فيه من قوة الحجة ما فيه المقنع لغير المكابرين المتعنتين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية الأعراف لأن السيد أورد ما أورده في سياق تفسيرها.
وفي الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا عبارات فيها تصديق لآية الصف بخاصة التي تحكي عن عيسى تبشيره برسول من بعده اسمه أحمد حيث جاء فيه (إن في انطلاقي خيرا لكم، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزّي ولكن إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكّت الناس على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة. وإن عندي كثيرا أقوله لكم ولكنكم لا تطيقون حمله الآن. ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من عنده بل يتكلم
__________
(1) ترجم هذا الإنجيل عن الطليانية من قبل الدكتور خليل سعادة وطبع في مطبعة محمد علي صبيح وأولاده في القاهرة عام 1326 هـ.(8/569)
بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي) وكلمة (المعزّي) جاءت في الطبعة البروتستانتية (البار قليط) والباحثون المسلمون يقولون إنها كلمة تعني الحمد. والمبشرون يقولون إن البار قليط المبشر بمجيئه هو روح القدس. مع أن روح القدس عندهم صفة من صفات الله غير منفكة عن ذات الله وعبارة الإنجيل تفيد بقوة أنه شخص يأتي بعد عيسى ويبكت الناس ويهديهم إلى البرّ «1» .
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات التي نحن في صددها بضعة أحاديث تفيد أن بشارة عيسى عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم مما كان متداولا على الألسنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته منها حديث عن كعب الأحبار رواه ابن أبي حاتم جاء فيه «أن الله يقول لعيسى عن محمد صلى الله عليه وسلم هو عبدي المتوكل المختار ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام. وأمته الحمادون. يحمدون الله على كل حال. وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر يعرضون أطرافهم.
ويأتزرون على أنصافهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. رعاة الشمس يصلون حيث أدركتهم ولو على ظهر دابة» «2» ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود أخرجه الإمام أحمد جاء فيه فيما جاء «أن عمرو بن العاص قال للنجاشي حينما جاء إليه موفدا من قريش للوشاية بالمهاجرين الأولين واسترجاعهم إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم فقال لهم ما تقولون قال نقول كما قال الله عزّ وجلّ هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسّها بشر ولم يفرضها ولد فرفع عودا من الأرض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ثم قال لهم مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم. والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه
__________
(1) انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية.
(2) تفسير ابن كثير.(8/570)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
وأوضئه» «1» . ومنها حديث عن كعب الأحبار جاء فيه «إن الحواريين قالوا لعيسى يا روح الله هل بعدنا أمة قال نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل» «2» .
أما ما جاء في الآية من حكاية قول عيسى عليه السلام عن رسالته من قبل الله تعالى ففي الأناجيل المتداولة كثير من العبارات ما يؤيد ذلك. وقد أوردنا بعض النصوص في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة الزخرف.
ونكتفي هنا بإيراد نبذة جاءت في الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا (إن تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يصنع مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أنا أتكلم من عندي. إن من يتكلم من عنده إنما يطلب مجد نفسه. فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق ولا جور عنده) «3» .
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين وردّ على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد
عبارة الآيات واضحة. ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر
__________
(1) تفسير ابن كثير.
(2) الخازن والزمخشري.
(3) العبارة منقولة من الطبعة الكاثوليكية.(8/571)
أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء في الحث على الجهاد. وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم ويسوّغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا.
وأسلوب الحثّ والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب: أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسّره الله لهم.
وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها بفتح الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة.
وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح.
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلّا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام.
وننبه أولا: على أن حثّ المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي. بل(8/572)
إن أكثر الآيات التي حثّت المسلمين على الجهاد قد اقتصرت على الترغيب برضاء الله وجزائه الأخروي وعلى بيان ما في الجهاد من واجب عظيم وضرورة مبرمة لإعلاء كلمة الله ومقابلة العدوان وضمان حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين وأمنهم. ومن دليل على صحة إيمان المؤمنين. بل وكان الخطر والقتل والأذى والجهد هو الأكثر توقعا وورودا والذي نبّه إليه القرآن في آيات كثيرة «1» .
وثانيا: على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة. وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) [14] .
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ إلخ وما فيها من تلقين
وهذه الآية متصلة بالموضوع نفسه بأسلوب آخر فيه تمثيل وتذكير وحثّ ودعوة إلى التأسي:
(1) فالمؤمنون مدعوون إلى أن يكونوا أنصار الله.
__________
(1) اقرأ الآيات التالية: البقرة [195 و 216 و 218] وآل عمران [151- 175] والنساء [74- 79 و 83 و 94- 100 و 104] والأنفال [8 و 38- 39 و 67- 68] والتوبة [24 و 38- 53 و 81- 99 و 111 و 119- 122] والأحزاب [9- 20] .(8/573)
(2) وعليهم أن يتأسوا بالحواريين الذين استجابوا إلى دعوة عيسى ابن مريم عليه السلام حينما هتف من أنصاري إلى الله فأعلنوا أنهم أنصار الله.
(3) وكان نتيجة لذلك أن آمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى ورسالته وكفرت طائفة فأيّد الله المؤمنين على أعدائهم الكافرين فظهروا عليهم وانتصروا.
والفقرة الأخيرة من الآية تنطوي على بشارة ضمنية أخرى للمسلمين إذا ما استجابوا إلى دعوة الجهاد يكون الله مؤيدهم على الذين كفروا ومظهرهم عليهم.
والفقرة تنطوي كذلك على بيان أسباب ما سجله التاريخ قبل نزولها وإلى حين نزولها من حقيقة وهي انتصار الذين آمنوا بعيسى عليه السلام على الذين كفروا به من بني إسرائيل.
والآية وثيقة الصلة بما قبلها، والمرجح أنها نزلت معها ومع ما قبلها معا.
والحواريون يذكرون هنا للمرة الثانية. وقد ذكروا في المرة الأولى في الآية [52] من سورة آل عمران التي ذكر فيها ما ذكر في هذه الآية من أنهم قالوا نحن أنصار الله حينما هتف عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله. ثم ذكروا للمرة الثالثة في أواخر سورة المائدة بأسلوب آخر حيث جاء في آية أنهم آمنوا نتيجة لوحي الله لهم بذلك ثم طلبوا من عيسى استنزال مائدة من السماء كوسيلة إلى ازدياد إيمانهم بصدق عيسى ورسالته، فدعا عيسى ربه فاستجاب له وأنزل المائدة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وقد شرحنا ماذا تعني الكلمة في سياق آية آل عمران المذكورة وأوردنا أسماء الحواريين فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة. وواضح أن العبارة القرآنية لا تفيد أن الحواريين هم فقط الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام عليه السلام من بني إسرائيل في حياته. بل تفيد أن جماعة أخرى قد آمنوا أيضا وهو ما كان حقا.
وجملة فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ قد تفيد أن الانتصار الذي تمّ للمؤمنين برسالة عيسى عليه السلام على الكافرين بها قد وقع بعد وقت ما. وهو ما كان حقا أيضا.(8/574)
سورة الفتح
في السورة إشارة إلى أحداث ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها وما يسّره الله للمسلمين من فتح خيبر وغنائمها على ما أجمع عليه المفسرون وكتاب السيرة القدماء. وفيها تثبيت وتطمين ربانيان بمناسبة تلك الأحداث والمشاهد. وإشارة إلى مواقف بعض الأعراب المسلمين منها. وإشارة إلى وجود مؤمنين يكتمون إيمانهم في مكة. وإيذان جديد بوعد الله بإظهار الإسلام على الدين كله. وتنويه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من ورع وتقوى.
وآيات السورة منسجمة في الموضوع والظرف. وهذا يسوّغ القول بوحدة نزولها ونزول فصولها متتابعة.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن هذه السورة نزلت في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة. وقد أورد المفسرون بعض أحاديث مؤيدة لذلك. منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يردّ عليّ، فقلت في نفسي: ثكلتك أمّك يا ابن الخطاب ألححت على رسول الله ثلاث مرّات فلم يردّ عليك. فركبت راحلتي فحركت بعيري وتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء فإذا أنا بمناد يا عمر فرجعت وأنا أظنّ أنه نزل فيّ شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نزل عليّ البارحة سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «1» ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا عن
__________
(1) من ابن كثير. وقد روى هذا النص البغوي من طريق غير الطريق الذي رواه منه الإمام أحمد والذي أورده ابن كثير أيضا.(8/575)
مجمع بن حارثة الأنصاري جاء فيه «شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض ما للناس؟ قالوا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) فقال رجل من أصحاب رسول الله: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» «1» .
ومنها حديث أخرجه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود جاء فيه «لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلّا والشمس قد طلعت. فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم قال فقلنا أيقظوه فاستيقظ فقال افعلوا ما كنتم تفعلون. وكذلك يفعل من نام أو نسي. وفقدنا ناقة رسول الله فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي اشتدّ عليه فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) » «2» . وفي فصل التفسير من صحيحي مسلم والبخاري حديث عن سهل بن حنيف جاء فيه «لقد رأيتنا يوم الحديبية في الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر فقال ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا.
فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيّعه أبدا، فنزلت سورة الفتح» «3» .
وهكذا تتضافر الروايات والأحاديث «4» على أنها نزلت دفعة واحدة في طريق
__________
(1) من ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 4 فصل التفسير ص 212- 213 وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردنا: انظر أيضا كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن.
(4) انظر ابن هشام ج 3 ص 355 و 378 وابن سعد ج 3 ص 139 و 152.(8/576)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة وهو ما يلهمه انسجام آياتها وترابطها ووحدة سياقها وموضوعها. والله أعلم.
ولقد روى البخاري ومسلم عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وفي رواية «نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعا» «1» .
ومن المحتمل أن يكون ما في السورة من إقرار لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وبشارات عظمى لما سوف ينتج عنه من فتح ونصر وغفران الذنوب المتقدمة والمتأخرة وإظهار دين الله على الدين كلّه مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر بهذا الشعور بنزول السورة وينوه فيها هذا التنويه العظيم. والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
. تعليق على الآية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً والآيتين التاليتين لها، وعلى مدى جملة لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وخلاصة عما ورد في الروايات من ظروف ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المفسرين وبقرينة الآيات نفسها.
ويستلهم منها أنها مطلع تمهيدي لما احتوته السورة. وقد تضمن هذا المطلع:
(1) تنويها بعظم الفتح الذي يسّره الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) التاج ج 4 ص 109. [.....]
الجزء الثامن من التفسير الحديث 37(8/577)
(2) وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يسّره الله له من الفتح هو وسيلة إلى غفران الله ذنوبه السابقة واللاحقة وإتمام نعمته عليه وتوفيقه إلى أقوم الطرق، ونصره في النهاية نصرا عزيزا لا مثيل له. ومع أن هناك من ذهب إلى أن الفتح المذكور هو فتح مكة «1» فإن الأكثر على أنه صلح الحديبية «2» وقد جاء هذا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالذات إن صحّ الحديث المروي عن مجمع بن حارثة الذي أوردناه قبل. وهو مؤيد بالأحاديث التي ذكرت أن نزول الآيات إنما كان في أثناء سفرة الحديبية. وبينها وبين فتح مكة عامان. ولقد روى الزمخشري عن موسى بن عقبة حديثا آخر مؤيدا لذلك أخرجه البيهقي جاء فيه «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحابه ما هذا بفتح. لقد صدّونا عن البيت. وصدّ هدينا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
بئس الكلام هذا. بل هو أعظم الفتوح وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح. ويسألوكم القضية. ويرغبوا إليكم في الأمان. وقد رأوا منكم ما كرهوا» .
وصيغة الآيات وروحها ومضمونها يدل على أنها نزلت على سبيل تطمين نفوس المسلمين وإيذانهم بأن ما كان قد كان فتحا مبينا ومقدمة لنصر قوي عظيم ينالونه تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم.
وملخص الروايات الواردة في قصة سفرة الحديبية وصلحها هو ما يلي «3» :
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه زار الكعبة فاعتزم زيارتها. واستنفر إلى ذلك المسلمين وخرج في نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وثلاثمائة وساق معه الهدي (الأنعام التي ستذبح قرابين أثناء الزيارة) وكان ذلك في أواخر العام الهجري السادس وفي شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم- وقد يدل هذا على أنه أراد الحج أيضا لأن الزيارة كانت في موسم الحج- فلما وصل إلى مكان اسمه ذو الحليفة
__________
(1) روى هذا البغوي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس.
(2) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنسفي إلخ.
(3) انظر ابن هشام ج 3 ص 353- 371 وابن سعد ج 3 ص 139- 151 وتاريخ الطبري ج 2 ص 270- 284 وتفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والبغوي.(8/578)
أحرم وأمر المسلمين بالإحرام وأشعر الهدي (جرحه ليسيل دمه وهذا علامة على أنه هدي لله) ووضع في أعناقه القلائد. (وهي علامة ثانية على ذلك) . وكانت أخبار مسيره قد وصلت إلى قريش. فهاجوا وثارت نفوسهم. وتعاهدوا على منعه وأخذوا يستعدون للحرب حتى لقد أرسلوا كتيبة فرسانهم بقيادة خالد بن الوليد بسبيل ذلك. وجاء زعيم خزاعة إلى النبي وكان له نصوحا فقال له إن قريشا جمعوا لك جموعا وجمعوا الأحابيش. وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأشاروا عليه بالمضي إلى قصده الذي ألهمه الله به فإذا صدتهم قريش قاتلوهم إلى أن يحكم الله بينهم. ثم تقدم وتقدموا حتى إذا وصلوا إلى الحديبية وهي قرية أو بئر على نحو مرحلة من مكة بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فألهم بوجوب التوقف في المكان فتوقف وقال: «والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله وفيها صلة رحم إلّا أعطيتهم إياها» . وقد أرسل النبي رئيس خزاعة إلى قريش يخبرهم أنه إنما جاء معتمرا ولم يجىء مقاتلا ويدعوهم إلى المهادنة والسماح له بالزيارة والتخلية بينه وبين العرب فإن هلك كفوا مؤونته وإن أظهره الله كانوا بالخيار إن أرادوا دخلوا فيما دخل فيه الناس.
وينذرهم إذا أمعنوا في العناد والبغي أنه سوف يقاتلهم حتى تنفرد سالفته (أي حتى يطيح رأسه عن عنقه) ولينفذن الله أمره. فذهب الرجل وأبلغ الرسالة. وكان عروة بن مسعود الزعيم الثقفي حاضرا فنصحهم بقبول ما اقترحه وطلب منهم أن يأذنوا له ليأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ويكلمه فأذنوا فجاء فكلمه فقال له ما قال للزعيم الخزاعي. فقال له: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب فعل ذلك قبلك؟ وإن تكن الأخرى فو الله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك، فصرخ به أبو بكر: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه. فعاد عروة فقال لقريش أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.(8/579)
وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فظلوا في ترددهم وترادت رسل أخرى بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من جانبه عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبر الناس برغبة النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال ورغبته في الزيارة وحسب. والظاهر أنه اختاره لقوة عصبيته في مكة حيث يمتّ إلى بني أمية. وقد أبطأ في العودة. وشاع أن قريشا حبسوه أو قتلوه. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البيعة على الثبات والاستماتة إذا أصرت قريش على البغي. وتمّت البيعة تحت شجرة استظل النبي صلى الله عليه وسلم بظلها فسميت بيعة الشجرة. ولم يلبث عثمان أن رجع وإن تمّ رأي قريش على إرسال سهيل بن عمرو أحد زعمائهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم على عقد هدنة مزودا بشروط أملتها عليهم الأنفة والحمية الجاهلية. منها تأجيل الزيارة إلى العام القابل. وعدم حملهم في يوم الزيارة إلّا سيوفهم في أغمادها. وإعادة من يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم مسلما برغم أهله. وعدم إعادة من يفرّ من المدينة إلى مكة مرتدا. وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الشروط بعد مفاوضات عديدة حتى كادت في وقت أن تنقطع ويشتبك الفريقان في القتال. بل وحدث شيء من ذلك حيث حاول بعض خيالة قريش وشجعانهم أن يأخذوا النبي والمسلمين أو فريقا منهم على غرة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من كمن في طريقهم وتمكن من أسر فريق منهم ثم أطلق سراحهم إيذانا برغبته عن الشرّ. وانتهت المفاوضات إلى اتفاق على أن تكون مدة الهدنة عشر سنوات وكتب في ذلك عقد ختمه النبي صلى الله عليه وسلم بخاتمه ووقّعه سهيل عن قريش. وحينئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام ثم آذن بالعودة. وقد روي فيما روي أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو- المفاوض- وقد كان أسلم فحبسه أبوه وقيده- استطاع أن يفرّ ويجيء إلى النبي والمسلمين يرسف في أغلاله حينما درى أنهم في الحديبية. وكان التراضي على الشروط قد تمّ فاحترم النبي صلى الله عليه وسلم ما تمّ وردّ أبا جندل إلى أبيه. وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنونني في ديني، فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين(8/580)
فرجا ومخرجا «1» . إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم. ومما اتفق عليه أن تخيّر قبيلتا خزاعة وبني بكر اللتان كانتا نازلتين حول مكة وبينهما عداء في الانضمام إلى أي طرف من الطرفين فتكونا داخلتين في عقد الصلح فانضمت خزاعة إلى طرف النبي صلى الله عليه وسلم وانضمت بنو بكر إلى طرف قريش. وروي كذلك أن النبي حينما أخذ يملي العقد على علي بن أبي طالب هكذا (هذا ما تم عليه الاتفاق بين محمد رسول الله) اعترض سهيل وأبى أن يذكر محمد إلا
باسمه واسم أبيه فقط فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ومحا ما كان أملاه. ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشرط الذي شرطته قريش ردّ من يأتي إليهم من المدينة من ذهب منا مرتدا فلا رده الله ولسنا بحاجة إليه.
ومما روي من الشروط التي قبل بها النبي صلى الله عليه وسلم قد ثقلت على فريق من المؤمنين من جملتهم عمر بن الخطاب وأذهلتهم وكادت تزيغهم. ولا سيما أنه أعلن أنه رأى في منامه أنه يزور الكعبة مع المسلمين وكانوا يعرفون أن رؤياه حقّ.
وقد راجعوه وحاوروه. ومنهم من تباطأ في تنفيذ أمره في نحر الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام. ولكنه آذنهم أنه إنما يسير بإلهام الله. وثبت نفوسهم حتى عاودتهم الطمأنينة. ولم تلبث السورة أن نزلت مثبتة مطمئنة مبشرة ومؤيدة لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبرم. وقد ورد هذا أيضا في أحاديث صحيحة أوردناها في مقدمة السورة.
__________
(1) من طريف ما رواه ابن هشام في سياق قصة الحديبية أن مسلما آخر اسمه أبو بصير كان محبوسا مضيقا عليه في مكة مثل أبي جندل. واستطاع أن يفلت ويلتحق بالنبي في المدينة بعد قليل من عودته من الحديبية وأرسلت قريش تطالب النبي برده حسب العهد فقال له رسول الله ما قاله لأبي جندل وسلمه للرسول الذي جاء من قريش. واستطاع في الطريق أن يغتال هذا الرسول وينجو ويعود ثانية إلى المدينة وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بما فعل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد) على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤوه لئلا يعتبر ذلك نقضا منه فخرج إلى جهة مكة وأخذ يجتمع إليه أمثاله حتى بلغوا سبعين وصاروا يضيقون على قريش. لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه. ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها حتى كتبت قريش للنبي تقول له: لا حاجة لنا بهم وتسأله بأرحامها إلا أن آواهم وزواهم عنهم.(8/581)
والروايات متسقة إجمالا مع ما احتوته آيات سورة الفتح من إشارات لم تستهدف القصة والإخبار وإنما استهدفت العظة والإرشاد والتثبيت والتطمين جريا على الأسلوب القرآني. كما أن الأحداث التي وقعت بعد صلح الحديبية حققت صدق إلهام النبي صلوات الله عليه فيما فعل وقال، وأظهرت عظم الفوائد المادية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين والإسلام من هذا الصلح حتى ليصحّ أن يعدّ من الأحداث العظمى الحاسمة في تاريخ الإسلام وقوته وتوطده أو بالأحرى من أعظمها، وتحققت بذلك معجزة القرآن في وصفه بالفتح المبين.
فبالإضافة إلى ما كان من اعتراف قريش بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم كرئيس الدولة الإسلامية واعتبارهم إياه ندّا وتراجعهم عن عدائهم الشديد له وكانوا قبل سنة زحفوا مع أحزابهم في عشرة آلاف مقاتل على المدينة لاستئصال شأفته وشأفة الإسلام والمسلمين. وما كان في ذلك من فرض شخصية النبي ودينه والمسلمين وتوطيد كيانهم واسمهم وهيبتهم عليهم. فإن ذلك كله كان أيضا بالنسبة لسائر العرب الذين كانوا يعتبرون مكة إماما وقدوة. كما أنه أتاح للنبي صلى الله عليه وسلم فرصة توسيع نطاق دعوته وإيصالها إلى مناطق وبيئات عديدة في أطراف الجزيرة وما وراءها والاستمتاع بحرية الحركة والسفر والاتصال بالقبائل وتصفية القرى اليهودية التي كان أهلها يناصبون المسلمين العداء في طريق الشام. وكانت حالة العداء والحرب بينه وبين أهل مكة وما والاها حائلة دون ذلك كله. ثم كان ممهدا للفتح الأكبر أي فتح مكة الذي انهدم به السور الذي كانت تضربه مكة بين الدعوة وسائر أنحاء الجزيرة العربية. وقد كان بعض هذه النتائج فورية. حيث زحف النبي صلى الله عليه وسلم على قرى اليهود واكتسحها «1» عقب عودته من الحديبية وأرسل رسله ورسائله كذلك إلى ملوك فارس والروم ومصر وملوك العرب وأمرائهم وزعمائهم في أنحاء الجزيرة وخارجها فور عودته كذلك «2» . ولم يلبث أن جاء الردّ الإيجابي من ملوك عمان والبحرين
__________
(1) تاريخ الطبري ج 2 ص 303- 306 وابن هشام ج 3 ص 376- 400 وابن سعد ج 3 ص 152.
(2) ابن سعد ج 2 ص 23- 27 وابن هشام ج 4 ص 278- 280.(8/582)
وزعماء اليمن وبعض أمراء الغساسنة وعمالهم. حيث بعثوا يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم وإذعانهم «1» . وأخذت وفود العرب ورجالاتهم يفدون إلى المدينة من مختلف الأنحاء ليدخلوا في دين الله «2» ، ومن جملة من فعل ذلك رجلان من مشاهير رجال قريش وهما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما «3» .
ولقد روى الشيخان عن جابر قال «قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض. وكنّا ألفا وأربعمائة. ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة» «4» وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا تبشير أصحابه وتطمينهم. وقد يلمح فيه أيضا قصد التساوق مع التلقين القرآني بالتنويه بالفتح المبين الذي تمّ في هذا اليوم للنبي والمؤمنين والله تعالى أعلم.
هذا، ولقد تعددت الأقوال في تخريج وتأويل جملة لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ من ناحية النحو ومن ناحية المتناول «5» . فمما قيل من الناحية الأولى أنها بمعنى كي يجتمع لك مع الفتح المغفرة وتمام النعمة بالهداية والنصر.
كما قيل إنها بمعنى أن الفتح كان سببا للمغفرة وتمام النعمة لأنه جهاد للعدو وفيه الثواب والمغفرة والرضاء الرباني وكلا القولين وارد ووجيه. وصيغة الآية تحتمل القولين.
ومما قيل من الناحية الثانية إنها بمعنى ما فرط منك قبل وما يمكن أن يفرط منك بعد من هفوات صغيرة. أو أنها بمعنى ما كان منك أو ما يمكن أن يكون من سهو وغفلة واجتهاد يكون غير الأولى في علم الله. أو إنها على طريق التوكيد كما يقال أعط من تراه ومن لم تره فيكون معناها ما وقع منك وما لم يقع هو مغفور لك.
__________
(1) ابن هشام ج 4 ص 279 وابن سعد ج 2 ص 27- 56.
(2) ابن سعد ج 2 ص 71- 112- 221.
(3) ابن هشام ج 3 ص 319.
(4) التاج ج 4 ص 382 والشجرة هي التي بايع المسلمون النبي تحتها يوم الحديبية. وقد أشير إلى ذلك في آية من آيات السورة.
(5) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.(8/583)
ومما قيل وهو غريب: إن الذنب المقصود هو ذنب آبائه من لدن آدم وذنوب أمته. ومما رواه المفسر الطبرسي الشيعي عن جعفر الصادق وأبي عبد الله من الأئمة وهو أغرب، قولهم «والله ما كان له ذنب ولكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي ما تقدم منها وما تأخر» ! وما عدا القولين الأخيرين الغريبين فإن كلا من الأقوال الأخرى لا يخلو من وجاهة وإن كان الأوجه فيما نرى هو (ما كان وما يمكن أن يكون من سهو وغفلة واجتهاد يكون غير الأولى في علم الله) . فلفظ الذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم يجب في الحقيقة أن يصرف إلى ما كان يقع وما يمكن أن يقع منه من مثل ذلك مما لم يكن فيه وحي ومن غير قصد الإثم. وروح الفقرة وإطلاقها حتى تتناول السابق واللاحق تلهم هذا المعنى. ولقد وردت في القرآن آيات فيها إشارات إلى وقوع مثل ذلك وعتاب عليه وأمر للنبي بالاستغفار فيه على ما جاء في آيات سورة عبس [1- 10] والنساء [106- 109] والأنفال [67- 69] والتوبة [43 و 113] ومحمد [19] وغافر [54] على سبيل العظة والتعليم والتنبيه ولما يقتضيه مقام النبوة وجلالها.
وفي الإيذان هنا بغفرانها للنبي صلى الله عليه وسلم سواء ما كان منها قبل وما يمكن أن يكون منها بعد ينطوي تدعيم لذلك حيث علم الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكنه كبشر أن يتفادى مثل هذه الاجتهادات أو لا يقع منه غفلة وسهو. أما الإثم المقصود فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عنه قطعا بما كان من نعمة الله عليه بالاصطفاء والارتفاع إلى مقام النبوّة وما كان عليه من عظمة الخلق التي نوّه بها القرآن بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة.
على أنه مما يتبادر لنا أن الجملة وسائر الآية الثانية والآية الثالثة معا قد جاءت بسبيل توكيد خطورة ما تمّ. وبعد مداه وفوائده. وبسبيل البشرى والتطمين والتثبيت والتأييد الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم في الموقف الذي وقفه من بدئه إلى نهايته. والله
أعلم.(8/584)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
. (1) السكينة: الطمأنينة والهدوء النفساني.
تعليق على الآية لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الترمذي عن أنس قال «لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية قال: لقد نزلت عليّ آية أحبّ إليّ مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا هنيئا مريئا يا نبيّ الله قد بيّن الله لك ماذا يفعل لك فماذا يفعل بنا. فنزلت عليه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» «1» .
والحديث يقتضي أن تكون الآية منفصلة عن سابقاتها ولا حقاتها مع أن الأحاديث التي أوردناها في مقدمة السورة تذكر أن آيات السورة نزلت دفعة واحدة.
وهذا بالإضافة إلى أن الآية منسجمة مع ما قبلها ومع ما بعدها انسجاما تاما ومعطوفة عليها. ولذلك نرجح أن الآيات الأربع استمرار للآيات السابقة. وأنها قد استهدفت ما استهدفته الآيات الثلاث الأولى من التثبيت والتطمين. فقد نوهت
__________
(1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 211.(8/585)
الآيات السابقة بما يسّر الله لنبيه من الفتح وبشّرته بما بشّرته فجاءت هذه الآيات تلتفت في الخطاب إلى المؤمنين فتذكّرهم (أولا) بما كان من بثّ الله الطمأنينة في قلوبهم بعد الجزع ليقوى إيمانهم وثقتهم به. وتطمئنهم (ثانيا) بأن ما كان من رحلتهم وما نالهم من مشقة قد جعله الله بالإضافة إلى ما يسّره به من فتح وسيلة للتجاوز عن سيئاتهم ورضائه عنهم ومن مبررات ما سوف يدخلهم فيه من الجنات الأخروية مخلدين فيها، وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم. وتنبههم (ثالثا) إلى أن الله عز وجل الذي له جنود السموات والأرض وقواها قادر على تحقيق ما وعدهم به. وقد كان وما يزال العليم بكل شيء الحكيم الذي لا يأمر ولا يقضي إلّا بما فيه الحكمة والصواب. ولتستطرد (رابعا) إلى ذكر المنافقين والمشركين من رجال ونساء الذين يظنون بالله ظنّ السوء حيث يظنون أنه خاذل لأوليائه. وترد عليهم سوء ظنهم من كون دائرة السوء سوف تدور عليهم.
وغضب الله ولعنته سوف يحلان عليهم. ومصيرهم الأخروي هو جهنّم وبئست هي من مصير أعدّ لهم ولأمثالهم. وكون الله الذي له جنود السموات والأرض وقواها قادرا على تحقيق ما أوعدهم به من الخزي واللعنة والهوان والعذاب. فهو كان وما يزال العزيز الحكيم القادر على ذلك والذي يفعل ما فيه الحق والحكمة والصواب.
وعلى ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا فإننا نتوقف في كون الآية [5] نزلت جوابا على سؤال المؤمنين. ونميل إلى القول إن المؤمنين قالوا للنبي ألك في موقف آخر فتلا عليهم النبي الآية لتبشيرهم وتطمينهم فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
وقد لمحنا حكمة تكرار جملة وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في كون ذلك قد جاء ليتلاءم مع وعد الله تعالى للمؤمنين ووعيده للكفار والمشركين. ونرجو أن يكون شرحنا لذلك صوابا إن شاء الله.
ولعلّ في الآية الأولى ما يلهم صحة ما روي من القلق والبلبلة التي اعترت(8/586)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
المسلمين وبخاصة بسبب شروط الصلح ثم سكون نفوسهم بما كان من تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وموقفه الحازم الملهم من الله.
ولعل في الآية الثالثة صورة لما كان يدور في خلد من تخلّف في المدينة من المنافقين وفي خلد المشركين من غلبة الظن بهلاك المسلمين وتعرضهم لضربة شديدة وارتدادهم مخذولين من رحلتهم. بل كان هذا مما دار في خلد بعض القبائل التي كانت أسلمت أيضا على ما سيأتي بيان صريح عنه.
ولقد عزا المفسرون إلى ابن عباس أن جملة لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ هي بمعنى (ليزدادوا إيمانا وتصديقا بشرائع الله بعد إيمانهم بالله وتوحيده) «1» . وقال ابن كثير إن البخاري وغيره من الأئمة استدلوا بهذه الآية على تفاضل الإيمان في القلوب. ومع ما في قول ابن عباس من سداد بوجه عام فإن ما أوردناه قبل من شرح للآية هو المتبادر أكثر والله أعلم. ولسنا نرى في الآية دلالة على تفاضل الإيمان لذاته.
والجملة لم تأت هنا لأول مرة. بل جاءت في سورة المدثر المكية ثم في سور آل عمران والأنفال والأحزاب. وقد علقنا عليها في سورة المدثر بما فيه الكفاية.
ويلفت النظر إلى اختصاص المؤمنات والمشركات والمنافقات بالذكر إلى جانب المؤمنين والمشركين والمنافقين وقد سبق هذا في سورة الأحزاب أيضا حيث ينطوي في ذلك توكيد بأن المرأة العربية في الدعوة الإسلامية وظروفها ومختلف صورها كانت ذات شخصية مستقلة.
[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
. (1) تعزروه: تنصروه وتعززوه.
__________
(1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.(8/587)
تعليق على الآية إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) والآية التي تليها
قرئت ضمائر الأفعال في الآية الثانية بالتاء للمخاطب كما قرئت بالياء للغائب. وقال المفسرون: في الحالة الثانية تكون الآية موجهة إلى الناس. وروح الآية والسياق والمقام يلهم أنها موجهة إلى المسلمين بخاصة. وتكون قراءتها بالتاء هو الأوجه. وهو المشهور. أما ضمير المفعول في أفعال الآية فقيل إنه عائد للرسول صلى الله عليه وسلم وقيل إنه عائد لله. ومع أن الضمير يعود للأقرب وهو الرسول فإن فعل وَتُسَبِّحُوهُ يثير إشكالا في صرفه إلى الرسول وقد قال الذين صرفوا الضمائر إلى الرسول إن الكلام ينتهي عند وَتُوَقِّرُوهُ ثم يبدأ من جديد في فقرة وَتُسَبِّحُوهُ وتكون مصروفة إلى الله «1» . وفي هذا تكلف فيما نراه. والوجه الذي يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله هو أن الضمائر راجعة إلى الله ودينه. والآية الأولى قد تلهم هذا حيث تقرر أن الله إنما أرسل رسوله شاهدا ومبشرا ونذيرا.
والمتبادر أن الآيتين جاءتا على سبيل التعقيب على ما سبق فاحتوتا تقرير واجب النبي صلى الله عليه وسلم وواجب المسلمين. وكلاهما كان موضوع خطاب في الآيات السابقة. وهذا ما يسوغ القول إنهما استمرار للسياق. وقد استهدفتا كما تلهم روحهما وبخاصة الآية الثانية منهما توكيد واجب المسلمين بنصرة دين الله ورسوله والخضوع لأوامرهما والوقوف عنده وتوكيد كون الله إنما أرسل رسوله شاهدا عليهم ومبشرا ونذيرا لهم وأن ما فعله قد فعله بإلهام الله تعالى ووحيه.
ولقد وردت جملة مماثلة للجملة الأولى في سورة الأحزاب. وقد جاءت بعد مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة ابنه بالتبنّي التي ذكرنا احتمال وقوع تشويش واستغراب في صددها فأريد بالآية التنبيه إلى عظم قدر النبي وكونه المبشر المنذر من الله ووجوب التسليم بما ينقله بإلهام الله ومقتضى حكمته. وجاءت هنا في مناسبة ما ثار في نفوس المؤمنين من مضض من شروط الحديبية فاقتضت الحكمة
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي. [.....](8/588)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
تكرارها للمقصد ذاته بسبب تكرر الموقف وإن اختلف الأشخاص والأحداث فيه، والله تعالى أعلم.
[سورة الفتح (48) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ وما ينطوي فيها من صور وتلقين
المستفاد من شرح المفسرين «1» أن هذه الآية تعني المبايعة التي بايع بها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في الحديبية: ومع أن في السورة آية أخرى فيها إيذان برضاء الله عن الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فلا يمنع أن تكون هذه الآية أيضا في الصدد نفسه لمعنى آخر غير المعنى الذي عبرت عنه الآية المذكورة.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآية متصلة بالسياق السابق وبالآيتين السابقتين مباشرة لها بخاصة. وعلى سبيل توكيد واجب المسلمين المذكور في الثانية منهما.
وكأنما جاءت معقبة على ذلك لتؤذن المسلمين أولا أنهم وإن كانوا بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هم في الحقيقة قد بايعوا الله الذي كانت يده فوق أيديهم. ولتنبههم ثانيا إلى خطورة العهد الذي قطعوه على أنفسهم أمام الله في البيعة على نصر دين الله وما يستلزمه هذا من الثقة والرضاء بكل ما يلهمه ويوحي به إلى رسوله والوقوف عنده. ولتنذرهم ولتبشرهم ثالثا بأن من نكث عن بيعته وفعل ما ينقضها فإنما يكون بذلك قد أضرّ نفسه وبأن من أوفى بما عاهد الله عليه يحظى بعظيم الأجر من الله.
وقد تلهم الآية خطورة ما كان عليه الموقف في الحديبية وما كان من شدة وقع شروط الصلح على المسلمين حيث اقتضت حكمة التنزيل هذا الإيذان والتنبيه
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(8/589)
والإنذار والتبشير الذي احتوته الآية لتسكين نفوسهم من جهة وليكون خطة لهم في المستقبل من جهة أخرى.
ومما روي عن دواعي هذه البيعة أنه لما شاع أن قريشا قتلت أو حبست عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم قال النبي «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا من خرج معه إلى بيعته على الموت في رواية وعلى عدم الفرار في رواية أخرى، واستظل في ظل شجرة من السمر فأقبلوا عليه يبايعونه ولم يتلكأ أو يتخلّف أحد إلّا شخص واحد روي أنه كان ينشد ناقة له قد ضلّت «1» .
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهمّ إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت إحداهما عن عثمان.
ولقد كان الموقف خطيرا ورائعا معا. فالذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجوا إلى قتال ولم يكونوا في عدّة وعدّة أعدائهم الأشداء والذين تكررت بينهم وقائع الحرب واشتدت بسببها الأحقاد والأضغان. ثم هم بعيدون عن عاصمتهم بينما عدوهم في عاصمته وفي متناوله ما قد يساعده على النصر. ولقد كانوا بين أمرين: إما الثبات والاستماتة حتى يحكم الله. وإما النكوص على الأعقاب من وجه عدوّهم بسبب إصراره وصدّه، فاختاروا الأول وسارعوا إلى مبايعة النبي فأثبتوا بذلك رسوخ إيمانهم وثقتهم بالله ورسوله وابتغاءهم وجه الله ورضاءه، ورضاءهم بكل تضحية في سبيل ذلك فاستحقوا الثناء المحبب والبشرى العظيمة التي احتوتها الآية [18] من هذه السورة لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً.
ومما لا ريب فيه أن هذا الموقف جدير أن يعدّ من المواقف الحاسمة الموفقة في تاريخ الدعوة الإسلامية إذ كان من المحتمل جدا أن يكون لرجوعهم ونكوصهم من أمام أعدائهم الأشداء آثار خطيرة في هذا التاريخ. ولا نشك في أن
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير الذي أورد أحاديث عديدة في صدد البيعة، منها ما ذكر أنها كانت على الموت ومنها ما ذكر أنها كانت على عدم الفرار.(8/590)
أخبار البيعة ومشهدها الرائع وما عبرت عنه من إعلان العزم على مواجهة الموت بقلوب مؤمنة ونفوس مطمئنة وجأش رابط قد وصلت إلى قريش وكانت عاملا من عوامل ما انبثق فيهم من رغبة اجتناب الحرب والقتال مع هذه الفئة التي بايعت نبيّها وربّها على الموت وعدم الفرار والتي ظهر من إخلاصها لدينها وتأييدها لنبيها ما ظهر.
ولقد كان تعبير يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ موضوع أقوال تتصل بعلم الكلام وصفات الله من حيث نسبة الجوارح إلى الله تعالى «1» . ولسنا نرى التعبير والسياق يتحملان ذلك فقد قصد به كما هو المتبادر شدة التوكيد على خطورة العهد والبيعة وكون الله تعالى شاهدا عليهما استهدافا لقوة التلقين الذي أريد بثّه في نفوس المسلمين.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس في تأويل الجملة (يد الله بالوفاء لما وعدهم من الخير فوق أيديهم) . وروي عن الكلبي (نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة) . وقال الطبري في تأويلها (يد الله فوق أيديهم عند البيعة لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم أو قوة الله فوق قوتهم في نصرة الله ورسوله) . وفي هذه التأويلات أيضا سداد وتفيد أن الجملة حملت على المجاز.
ولقد حاول بعض الصوفيين أن يروا في الجملة وأمثالها تأييدا لمذهبهم في وحدة الوجود والاتحاد بالله والشطح والمفارقة ظاهران في هذا القول.
ولقد نبهنا في مناسبات سابقة على ما ينطوي في تعبيرات: يد الله ووجه الله وسمع الله وبصر الله، من مقاصد خطابية وعلى ما ينبغي أن يفهم من ذلك على ضوء التقريرات القرآنية وسنة السلف الصالح «2» . فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والتكرار.
ولا تخلو الآية من تلقين مستمر المدى فيما يكون قد وجب على المسلمين باعتناقهم الدين الإسلامي وبإيمانهم بالله ورسوله وقرآنه. فإنهم بذلك بمثابة من بايع الله ورسوله على السمع والطاعة والقيام بما أوجبه عليهم القرآن وسنة النبي من واجبات إيجابية وسلبية متنوعة وعدم إهمالها والتقصير فيها أو نقضها ومخالفتها.
__________
(1) انظر الزمخشري وذيل ابن المنير على تفسير الزمخشري والخازن.
(2) انظر آخر تفسير سورة القصص.(8/591)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 14]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
. (1) المخلّفون: المتخلفون.
(2) بورا: من البوار وهو الهلاك أو من الفساد أي كنتم هلكى بذنوبكم أو فاسدين بأخلاقكم.
تعليق على الآية سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) حكاية لما سوف يقوله الأعراب المتخلفون للنبي صلى الله عليه وسلم من الاعتذار بأهلهم وأموالهم التي شغلتهم وجعلتهم يتخلفون. وطلبهم منه أن يستغفر لهم.
(2) وتكذيبا لهم بتقرير أنهم يقولون غير الحقيقة التي يعلمونها في قلوبهم مع التنديد بهم وإيذانهم بأن الله خبير بأعمالهم إن أظهروها أو أخفوها وبأنه هو وحده القادر على نفعهم وضرّهم دون أن يكون لأحد قدرة على منعه من ذلك.
(3) وفضحا لحقيقة أمرهم وبيان الباعث الصحيح على تخلفهم وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين خرجوا معه لن ينجوا من سيوف أعدائهم ولن يعودوا إلى أهلهم وهو ظنّ السوء الذي زيّن في قلوبهم فاستوجبوا لأنفسهم الهلاك وكانوا به من الفاسدين.(8/592)
(4) وتنديدا وإنذارا لهم: فإن من لم يؤمن بالله ورسوله ويثق بهما ويكون طائعا سميعا لكل ما يأمرانه به يستحق ما أعده الله للكافرين من النار.
(5) وتأميلا لهم مع ذلك ليرعووا ويثوبوا إلى رشدهم، فإن الله هو مالك السموات والأرض وهو متصف بالغفران والرحمة يغفر لمن اقتضت حكمته المغفرة له ويعذب من اقتضت حكمته عذابه.
وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في صدد أعراب بني غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم، الذين كانوا نازلين حول المدينة واستنفرهم النبي ليخرحوا معه إلى زيارة الكعبة حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فتثاقلوا وتخلفوا عن النفرة معه «1» .
والرواية محتملة جدّا. وتكون الآيات على ضوئها متصلة بسياق آيات السورة وموضوعها الرئيسي ومحتوية على صورة من صور أحداث سفرة الحديبية من جهة وصورة من صور الأعراب ومواقفهم من جهة، وصورة لما كان يظنه الأعراب من مصير السفرة وهلاك النبي صلى الله عليه وسلم والذين خرجوا معه من جهة. وكان يشارك الأعراب في الصورة الأخيرة المشركون والمنافقون أيضا على ما استلهمناه قبل من الآية [6] .
وسين المستقبل في حكاية أقوال المتخلفين دليل على أن الآيات قد نزلت قبل مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لهم وقرينة على صحة رواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة.
وقد يفيد هذا أن الآيات قد استهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين المسلمين وإيذان الذين ثقل عليهم شروط الصلح بخاصة بما كان يقدره لهم الناس من الهلاك في السفرة على سبيل إبراز ما كان من توفيق الله فيها من فرض شخصيتهم ومدافعة أعدائهم لهم بالهدنة وعودتهم سالمين معافين.
وليس في الرواية ما يفيد أن الأعراب المتخلفين كانوا مسلمين أو غير
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والخازن.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 38(8/593)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
مسلمين بل قد تفيد أنهم غير مسلمين لأنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفروا معه حتى تعلم قريش أنه جاء زائرا بدليل اشتراك غير مسلمين معه في الزيارة «1» . غير أن حكاية طلب استغفار الأعراب من النبي صلى الله عليه وسلم في الآية دليل على كونهم مسلمين.
فضلا عن ما في التأميل في غفران الله ورحمته من قرينة. وفي آية قريبة أخرى دليل آخر أيضا على ما سوف يأتي شرحه. وفي روايات السيرة ما يفيد أن جماعات من مزينة وأشجع وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا في السنة الهجرية الخامسة، وأن جماعات من مزينة وأشجع وأسلم وغفار كانوا في عداد الجيش الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم به على مكة في السنة الهجرية الثامنة «2» . حيث يفيد هذا أن منهم من كان مسلما قبل سفرة الحديبية بمدة ما. وكل ما يمكن أن يكون محتملا والحالة هذه أن إسلامهم لم يكن قد رسخ بعد وهو ما عبرت عنه آيات سورة الحجرات (14- 17) وما تفيده من اتساع حلم الله ورسوله لهم على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة.
[سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 16]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
. تعليق على الآية سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيتين اللغوية واضحة. وسين المستقبل فيهما قرينة على أن الأقوال
__________
(1) وقد ذهب إلى هذا محمد حسين هيكل في كتابه حياة محمد.
(2) انظر ابن سعد ج 2 ص 56 و 71 وج 3 ص 182.(8/594)
التي حكيت في الأولى عن المتخلفين والتي أمر النبي بأن يقولها لهم في الثانية سابقة على المواجهة. ومن قبيل ما سوف يكون حين المواجهة. وتكون الآيتان والحالة هذه تتمة أو استمرارا للسياق السابق. وقد نزلتا معا في أثناء طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة من الحديبية.
وفي الآية الأولى صورة من صور الأعراب في مطامعهم وتناقضهم حيث يتخلفون حين الخطر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويعتذرون بالأعذار الكاذبة ثم يطلبون منهم السماح لهم باتباعهم في الرحلات التي تكون الغنائم والسلامة فيها مضمونتين. فإذا منعوا من ذلك سخطوا واتهموا مانعيهم بالحسد. وفي هذا ما فيه من قلة الشعور وحسن الإدراك.
والمتبادر أن المتخلفين المذكورين في هذه الآيات هم نفس المتخلفين المذكورين في الآيات السابقة أو منهم. ولم يرو المفسرون روايات خاصة في صدد هذه الآيات حيث يؤيد هذا ما قلناه من وحدة السياق وظروف النزول، والله أعلم.
وفي الآية الثانية إيذان رباني بعدم رضاء الله عن هذه الحالة. وإيجاب عدم السماح لهم إذا انطلق المسلمون إلى رحلة مضمونة النجاح والغنائم والسلامة كعقوبة لهم. ثم إتاحة فرصة اختبارية لهم حيث يؤذنون قبل ذلك بأنهم سيدعون إلى قتال قوم أشداء البأس من أعداء المسلمين. وحينئذ ينكشف أمرهم. فإن أطاعوا استحقوا أجر الله العظيم وإن تولوا كما تولوا من قبل وتخلفوا حقّ عليهم عذاب الله الأليم.
ولقد قيل «1» إن جملتي يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وكَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ تعطفان على آيات وردت في سورة التوبة في حق المتخلفين وهي فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
__________
(1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول.(8/595)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) . وقيل «1» إن الله أمر نبيه بأن لا يسمح لهم بالذهاب معه إلى رحلة فيها مغانم وأن لا تكون مثل هذه الرحلة إلّا للذين شهدوا الحديبية.
والقول الأول بعيد لأن آيات التوبة نزلت في ظروف غزوة تبوك في السنة الهجرية التاسعة على ما هو متفق عليه. وقد فنده غير واحد من المفسرين بناء على ذلك «2» . والقول الثاني هو الأوجه. ويكون ما جاء في الجملتين إما أنه نزل قرآنا في سورة الفتح أو غيرها في مناسبة ما ثم نسخ ورفع لحكمة ربانية وإما أنه إلهام رباني ووحي غير قرآني، ثم أيده القرآن في الجملتين. وهذا مما تكرر على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد قال المفسرون عزوا إلى بعض التابعين: إن المغانم المذكورة في الآية الأولى هي مغانم خيبر وإن الله قد وعد بها الذين شهدوا الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا. وإن الله قد أمر نبيه أن لا يسير معه إلى خيبر غيرهم «3» .
والزحف على خيبر قد وقع بعد العودة من الحديبية بشهرين في رواية وبخمسة أشهر في رواية أخرى. ولم يذكر كتّاب السيرة القدماء أن شهودها اقتصروا على من شهد الحديبية «4» . حتى ولم يذكر ذلك المفسرون الذين رووا قصة وقعة خيبر «5» . هذا إلى ما هو ظاهر من أن أسلوب الآيتين اللتين نحن في
__________
(1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول.
(2) المصدر نفسه.
(3) تفسير البغوي والطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري.
(4) انظر ابن سعد ج 3 ص 153- 163 وابن هشام ج 3 ص 378- 400.
(5) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.(8/596)
صددهما عام وفي صدد حكاية ما كانت عليه حالة الأعراب من رغبة الابتعاد حين الخطر ورغبة الإقبال حين تكون المغانم والسلامة مضمونة. ثم في صدد إتاحة فرصة لهم بإثبات صدق إيمانهم في موقف ليس فيه غنيمة وإنما فيه خطر على ما شرحناه قبل.
ولذلك فإنه يخطر بالبال أن تكون رواية تأويل المغانم بمغانم خيبر هي من قبيل التطبيق لأنه لم يكن في زحف خيبر جماعة من هؤلاء المتخلفين. والله أعلم.
ولقد تعددت روايات المفسرين المعزوة إلى ابن عباس والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير في المقصود بجملة قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ منها أنهم هوازن وثقيف. ومنها أنهم بنو حنيفة قوم مسيلمة. ومنها أنهم الروم والفرس. ومنها أن الجملة مطلقة لم تعن قوما بأعيانهم «1» . ونرى هذا هو الأوجه والأقوال الأولى من قبيل التطبيق. والله أعلم.
والآيتان كالآيات السابقة لا تخلوان هما الأخريان مع خصوصيتهما الزمنية والموضوعية من صورة يتكرر ظهورها من فئات من الناس في كل ظرف حيث يبتعدون عن الخطر ويتوارون وقت الشدة والنضال ويعتذرون بالأعذار الكاذبة ثم لا يخجلون من المسارعة حين الأمن والسلامة إلى المطالبة بالغنم دون الغرم.
ولا تخلوان بالتبعية من تلقين جليل مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة من جهة وبجعل إخلاص هذه الفئات وصدق دعواها منوطين بامتحان قوي يتحملون فيه الجهد والمغرم حتى يصح لهم أن يلتحقوا بزمرة الصالحين الصادقين ويكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
هذا، ولسنا نرى في جملة سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ نقضا لما استنتجناه من تقريرات القرآن والسنة الثابتة وأوردناه في
__________
(1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير. [.....](8/597)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
مناسبات سابقة عديدة من كون القتال في الإسلام هو للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل وليس للإكراه على الإسلام أو قتال الكافرين بالرسالة الإسلامية عامة دون تفريق بين المسالمين والمعادين. فالقوم في الآية كفار أعداء وجب قتالهم. وحين تقوم حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم من الكفار لا تقف إلّا بانتهاء الأعداء عن مواقفهم.
وهذا يكون بالإسلام كما يكون بالصلح. وصلح الحديبية مثل قريب على ذلك ينطوي فيه كون هذا لا يقتصر على غير العرب أو على غير المشركين منهم.
[سورة الفتح (48) : آية 17]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
. لم يرو المفسرون مناسبة خاصة للآية والمتبادر أنها جاءت استطرادية استدراكية. وهي بذلك متصلة بالسياق السابق وجزء منه. فقد أنذرت الآيات السابقة الذين لا يثبتون إخلاصهم في طاعة الله ورسوله بالجهاد في سبيل الله جهادا مجردا من الطمع فجاءت هذه الآية تؤذن بعذر المعذورين وتعفيهم من الواجب الذي لا يقدرون على القيام به بسبب أعذارهم الجسمانية.
والمبدأ الذي احتوته الآية متمشّ مع الحق والعدل والحكمة. وهو من المبادئ العامة التي تكرر تقريرها بأساليب متنوعة كما لا يخفى.
والفقرتان الأخيرتان من الآية أولا وإطلاق العبارة فيها ثانيا مما يلهم أن الآية مع انطوائها على قصد توكيد الحثّ والإنذار اللذين وجها إلى المتخلفين في الآيات السابقة فقد قصد بها أن تكون عامة التوجيه والتلقين شاملة لجميع المسلمين في مختلف الظروف أيضا كما هو المتبادر.
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
.(8/598)
تعليق على الآية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيتين واضحة، وأسلوبها أسلوب تبشيري وتنويهي كما هو ظاهر للذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة الحديبية تحت الشجرة مما فصلت صورته الروايات التي أوردنا خلاصتها قبل. وهما منطويتان كذلك على القصد التطميني والتبشيري الذي استهدفته آيات السورة على ما نبهنا عليه قبل. والمتبادر أنهما استمرار للسياق وجزء منها ونزلتا معه.
والفقرات الأولى من الآية الأولى تنطوي في حدّ ذاتها على الإشارة إلى مشهد من مشاهد سفرة الحديبية وتلهم روعة المشهد وخطورة الموقف الذي كان يكتنف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ما شرحناه في سياق الآية (10) شرحا يغني عن التكرار.
وتسمى هذه البيعة ببيعة الرضوان أيضا «1» . والمتبادر أنها تسمية منبثقة من جملة لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ في الآية الأولى.
وقد روى ابن كثير وغيره بعض الأحاديث في فضل الذين بايعوا تحت الشجرة منها حديث عن جابر قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما بايعه الناس تحت الشجرة: أنتم خير أهل الأرض اليوم» وحديث آخر عن أم مبشر قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة التي بايعوا تحتها أحد» ومنها حديث عن إياس بن سلمة عن أبيه قال:
«بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله أيّها الناس: البيعة البيعة، نزل روح القدس فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه» .
ومن المفسرين من قال إن الفتح القريب المذكور في الآية الثانية يعني صلح الحديبية، وإن المغانم التي تبشر بها الآية المسلمين هي ما سوف ييسره الله
__________
(1) انظر تفسير الزمخشري وابن كثير.(8/599)
للمسلمين من ذلك بصورة عامة. ومنهم من قال: إن الفتح هو فتح خيبر والمغانم مغانمها. وكل من القولين معزوّ إلى بعض علماء التابعين «1» .
والآيتان كما قلنا قبل جزء من السياق السابق. وقد نزل السياق أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الحديبية إلى المدينة. ووقعة خيبر كانت بعد ذلك بوقت ما. حيث يتبادر من ذلك أن القول الأول هو الأوجه وأن القول الثاني قد كان من وحي ما جاء مصداقا عاجلا للبشرى القرآنية بفتح خيبر ومغانمها. ويصحّ أن يعدّ ذلك والحالة هذه من المعجزات القرآنية التي سبق الإخبار عنها وتحققت بعد قليل من الإخبار.
استطراد إلى ذكر وقعة خيبر واستيلاء المسلمين عليها وعلى قرى اليهود الأخرى في طريق الشام «2» ورد على مزاعم المستشرقين بأنها كانت مكافأة للذين شهدوا الحديبية ولم يكن لها مبرر
ووقعة خيبر ليست منحصرة في خيبر بل تجاوزتها إلى قرى أخرى كانت لليهود بعد خيبر على طريق الشام. وكل ما في الأمر أنها كانت عاصمة اليهود وأهم مراكزهم بعد إجلائهم عن المدينة. وليس في القرآن إشارات أخرى إلى هذه الوقعة. فرأينا أن نستطرد إلى إيراد خبرها في هذه المناسبة.
ولقد كان لهذه الوقعة أسباب مبررة كما هو شأن وقائع التنكيل السابقة باليهود بل وكل الوقائع الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الأسباب هي المواقف العدائية والعدوانية التي وقفها اليهود دون أن يعتبروا بما كان من حوادث سابقة عادت عليهم بالوبال والنكال. فقد استقر بعض زعماء بني النضير وأتباعهم في خيبر بعد أن أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة وتزعموا يهود المنطقة. وساقوهم إلى
__________
(1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2) هذه النبذة ملخصة عن تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وتاريخ الطبري ج 2 ص 303- 306 وابن سعد ج 3 ص 152- 164 وابن هشام ج 3 ص 388- 400.(8/600)
العداء للمسلمين. وهم الذين ذهبوا وحرضوا قريشا وقبائل العرب من أسد وغطفان وغيرها على التحزّب والزحف على المدينة لاستئصال شأفة الإسلام وحرضوا زعماء بني قريظة على الغدر والنكث مما نتج عنه وقعة الأحزاب ثم وقعة بني قريظة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وقد استمروا على عدائهم بعد ذلك وظلوا يحرضون قبائل العرب ويغزونهم بغزو المدينة. ومما لا شك فيه أن هذه المواقف جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في إتمام عمليات التنكيل باليهود في هذه المنطقة غير أنه على ما يظهر لم يجد الخطر عاجلا فاكتفى بإرسال سرايا من المسلمين اغتالت زعيمهم أبا رافع بن أبي الحقيق ثم أسير بن زارم الذي تزعم اليهود بعده. وأجّل إتمام العمل إلى ما بعد عودته من زيارة الكعبة التي اعتزم القيام بها والتي نتج عنها صلح الحديبية. والراجح الذي تلهمه روح الآيات وتؤيده الوقائع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من الحديبية وقد بيّت النية على إتمام تلك العمليات وقد أمن من مباغتة قريش. فما إن وصل من الحديبية إلى المدينة حتى أخذ يستعد للزحف على خيبر ثم زحف في المحرم من السنة الهجرية السابقة في رواية وفي جمادى الأولى في رواية. ولقد روي أن قبائل أسد وغطفان «1» كانت تتجمع لتهاجم المدينة في غياب النبي صلى الله عليه وسلم عنها أو لتهاجم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طريقهم إلى الحديبية أو عودتهم منها. ولكن انحسام الأمر بين النبي وقريش جعلهم ينكصون. فلعل هذا كان أثرا من كيد يهود خيبر ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجل بالزحف عليهم.
ولقد كانت خيبر كثيفة السكان كثيرة الحصون قوية الاستعداد فلقي المسلمون جهدا ومشقة واستمرت مجاهدتهم مع اليهود نحو شهر حتى تمكنوا من الانتصار عليهم والاستيلاء على حصونهم وقد قتلوا كثيرا من مقاتليهم واستولوا على مقادير عظيمة من أموالهم وأسلحتهم وحقولهم وبساتينهم ونسائهم وأطفالهم فكانت غنيمة عظيمة قسمها النبي صلى الله عليه وسلم على المجاهدين بعد أن فرز خمسها. وقد
__________
(1) انظر تفسير البغوي.(8/601)
أبقى النبي صلى الله عليه وسلم من لم ير في بقائه خطرا من الذين استسلموا منهم وولّاهم رعاية البساتين والحقول مقابل نصف الغلة مع الاحتفاظ بحق إخراجهم حين يشاء. ولقد أوصى حين موته بإخراجهم فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنفيذا للوصية حين سنحت فرصة كان فيها منهم بغي وعدوان «1» . وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم من رأى في بقائه خطرا. ثم انصرف بعد خيبر إلى وادي القرى وكان فيه حصون عديدة لليهود فلقي فيها بعض المقاومة ثم كتب الله النصر لنبيه فقتل من قتل وأجلى من أجلى واستولى على أموالهم وسلاحهم واتفق مع من لم يكن منه خطر على البقاء على رعاية البساتين والحقول على النصف كما فعل في خيبر. ودبّ الرعب في قلوب اليهود في فدك فأرسلوا رسلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصالحهم على نصف بساتينهم وحقولهم فغدت فيئا لأن المسلمين لم يزحفوا عليها ويحاربوها. وفعل مثلهم أهل الجرباء وتيماء أيضا «2» .
وفي أثناء غزوة خيبر عاد المهاجرون الأولون من الحبشة وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم وانضموا إلى النبي والمسلمين في خيبر فقسم النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الغنائم. وقد روى ابن هشام «3» أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة بعد صلح الحديبية فحملهم على سفينتين. ولا ريب أن هذا كان من بركات هذا الصلح. حيث شعر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالقوة والعزة فلم يعد ما يسوّغ بقاء المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بعيدين في أرض الغربة. وهذا يقال بطبيعة الحال بالنسبة لما تمّ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من نصر وأحرزوه من غنائم في خيبر ووادي القرى وفدك، وما كان من خضد شوكة اليهود نهائيا في أرض الحجاز بعد تطهير مدينة الرسول منهم.
__________
(1) انظر كتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص 99 وفتوح البلدان للبلاذري ص 29- 41 و 73 وتاريخ الطبري ج 2 ص 534 وسيرة ابن هشام ج 4 ص 342 وما بعدها.
(2) ابن هشام وابن سعد ذكرا خبر فدك وابن سعد ذكر خبر الجرباء. أما خبر تيماء فقد ذكره البلاذري ص 41 و 42. انظر ابن سعد ج 3 ص 166 وج 2 ص 56.
(3) ابن هشام ج 3 ص 414.(8/602)
ومما روي في سياق وقعة خيبر أن المسلمين أخذوا يقعون على ما وزعه رسول بالله صلى الله عليه وسلم من سبي نساء اليهود فأمر مناديا ينادي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعنّ على سبية حتى يستبرئها. وأنه كانت بين السبي صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود وزوجة كنانة بن أبي الحقيق فاصطفاها رسول الله لنفسه وأعتقها وتزوج بها «1» . وإن امرأة سلام بن مشكم الذي قتل زوجها أهدت النبي شاة مصلية مسمومة. فلما قضم من ذراعها لم يسغها وكان معه بشر بن البراء فأكل منها فمات فاستدعى المرأة فاعترفت وقالت لقد بلغت من قومي ما بلغت فقلت إن كان ملكا استرحنا منه وإن كان نبيا فسيخبره الله. وإنه تجاوز عنها. وإن نسوة من غفار جئن إلى رسول الله فقلن له أردنا أن نخرج معك فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا فأذن لهن ورضخ لهن من الغنائم، وأن وفدا من دوس وأشعر من اليمن وفيهم أبو موسى الأشعري الصحابي المشهور وفد على النبي للإسلام وهو في خيبر فأسلموا ورضخ لهم من الغنائم. ومما رواه الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب فقالوا هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأنه لم يكن به وجع فأعطاه الراية.
فقال علي يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله. فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» «2» . وفي كل ما تقدم صور فيها تعليم وتلقين وتشريع كما هو المتبادر.
__________
(1) خبر صفية رواه البخاري عن أنس التاج ج 4 ص 379 و 380 ومما جاء في الحديث «أن صفية وقعت في سهم دحية الكلبي فطلب النبي منه أن يتنازل له عنها وتزوجها وجعل عتقها صداقها» .
(2) التاج ج 4 ص 378.(8/603)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
ولقد كان ما أورده بعض المفسرين في سياق الآيات التي نحن في صددها من أن الله قد كافأ أهل الحديبية بغنائم خيبر وعوّضهم بها عما لقوه من جهد ومنوا به من خيبة أمل في الزيارة وسيلة لجعل بعض الأغيار يقولون إن زحف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر لم يكن له أي سبب مبرر إلّا رغبة مكافأة أهل الحديبية وتطييب خاطرهم. مع أنه ليس هناك كما قلنا قبل رواية تذكر أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كانوا هم أهل الحديبية فقط. ومع أن ما أوردناه من بيانات يدحض هذا الزعم أقوى دحض ويبرز الأسباب المبررة القوية للزحف. ونقول من باب المساجلة إن ما أورده كتّاب السيرة والمؤرخون القدماء قد أورد على سجيته ولم يكن هناك حينئذ قضية مثل القضية التي يثيرها الأغيار اليوم حتى يكون اختراعا بقصد التبرير والدفاع وفي ما أورده الرواة من الأسباب القوية المبررة للزحف ردّ حاسم أيضا. وما قاله بعض المفسرين لا يصحّ أن يغطي على ما أورد من الأسباب المبررة القوية أو يتخذ بديلا أو تكأة. وليس ما قالوه بعد واردا في كتب الحديث الصحيح ولا مستندا إلى أسناد وثيقة.
[سورة الفتح (48) : الآيات 20 الى 21]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
. تعليق على الآية وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ والآية التالية لها
المتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين اللتين قبلهما مباشرة اتصال التفات وتعقيب. فالسابقتان وجهتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التنويه بالذين بايعوا تحت الشجرة وتبشيرهم وتطمينهم. وهاتان وجهتا إلى المبايعين(8/604)
أنفسهم على سبيل توكيد التبشير والتطمين. وهما على كل حال جزء من السياق واستمرار له. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة.
وعبارة الآيتين اللغوية واضحة. غير أن الأقوال في مدلول محتواها تعددت «1» . ونلخصها بما يلي:
فأولا: قيل عن المغانم الكثيرة التي ذكرت الفقرة الأولى أن الله وعد المؤمنين بها إنها مغانم خيبر، كما قيل إنها مغانم الفتوحات التي سوف ييسرها الله للمسلمين في مختلف الظروف والأماكن. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو أوجه وأن الفقرة هي بسبيل التبشير والتطمين بوجه عام. أما القول الأول فالذي نرجحه أنه من وحي ما تمّ بعد قليل من سفرة الحديبية من زحف على خيبر واكتساحها وما يسره الله للمسلمين من غنائمها.
وثانيا: قيل إن المقصود من جملة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ هو ما تمّ من صلح الحديبية كما قيل إنه مغانم خيبر. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه. لأن في الجملة تقريرا لواقع وإشارة إليه. ولم يكن واقعا حين نزولها إلّا صلح الحديبية.
ولعل في الجملة قرينة على ذلك حيث نبّه المسلمون فيها إلى أن الله عجّل بحسم هذه المسألة لييسر لهم إتمام وعده.
وثالثا: قيل إن جملة وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ قد عنت ما كان من منع الله الحرب بين المسلمين وقريش بصورة عامة أو إنها عنت خيالة قريش الذين حاولوا بقيادة خالد بن الوليد مباغتة معسكر النبي والمسلمين فعلم النبي بخبرهم وأرسل من ردّهم وأسر بعضهم ثم عفا عنهم على ما ذكرناه في خلاصة وقائع الحديبية.
كما قيل إنها عنت ما كان من تجمع أسد وغطفان للإغارة على المدينة أثناء غياب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عنها وإحباط الله كيدهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. ويتبادر لنا أن القول الأول والثاني هو الأوجه لأن الجملة تذكّر المسلمين في أثناء عودتهم إلى المدينة بما كان جرى في الحديبية وظروفها.
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(8/605)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
ورابعا: قيل إن جملة وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تعني أن ما كان من تيسير الله لصلح الحديبية وكفّ أيدي الناس عن المؤمنين قد كان آية ربانية ليعتبر بها المؤمنون ويتيقنوا من أن ما كان هو بتيسير ونصر من الله. ووجاهة القول ظاهرة.
وخامسا: قيل إن جملة وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها تعني مكة وفتحها، كما قيل إنها إشارة إلى ما سوف ييسر الله للمسلمين من نصر وفتح في مختلف الظروف أو فتح بلاد فارس والروم. وقيل أيضا إنها خيبر قبل أن يزحفوا عليها.
وكل من الأقوال الثلاثة وارد لا يخلو من وجاهة. وإن كنا نرجح القول الثاني من حيث كون المسلمين لم يقدروا في سفرتهم على دخول مكة فاقتضت حكمة التنزيل تطمينهم بأن الله قد أحاط بها ولسوف يقدرهم عليها. وعلى كل حال ففي الجملة تثبيت وتطمين للمسلمين من جهة وبشرى تحققت فكانت من معجزات القرآن سواء أكان المقصود منها مكة أم خيبر أم غيرهما.
[سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 23]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)
. عبارة الآيتين واضحة أيضا: وهي استمرار للخطاب الموجه إلى المؤمنين في الآيتين السابقتين لهما مباشرة حيث تؤذنانهم بأن الكفار لو قاتلوهم لولوا الأدبار ولما وجدوا لهم وليّا ولا نصيرا ينصرونهم من الله. وبأن هذه هي سنّة الله التي جرت من قبل ولن يكون لها تبديل بالنسبة إليهم.
والآيتان والحالة هذه جزء من السياق. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين.
ومن المفسرين من قال إن الَّذِينَ كَفَرُوا هم أهل مكة «1» . ومنهم من قال
__________
(1) الطبرسي وابن كثير.(8/606)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
إنهم أهل خيبر أو بني أسد وغطفان الذين كانوا يريدون الإغارة على المدينة «1» والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه لأن الآيات في صدد وقائع سفرة الحديبية.
وقد يكون فيهما تقرير كون الكفار لو قاتلوهم لكانوا في موقف الباغي المعتدي. وقد جرت سنة الله على أن تدور الدائرة على البغاة المعتدين وأن ينصر من ينصره وينصر دينه وهو ما تكرر تقريره ووعده في آيات في سور سبق تفسيرها.
وواضح من هذا أن في الآيتين تطمينا مستمر المدى والتلقين للمؤمنين بأنهم منصورون على الكفار إذا قاتلوهم في أي ظرف ومكان. وهو ما تكرر توكيده في آيات عديدة مكية ومدنية. وما يظل يمد المؤمنين بفيض من القوة الروحية التي تضاعف قوتهم. وطبيعي أن يكون ذلك رهنا بصدقهم في قتال أعدائهم وإعداد ما يستطيعون من قوة. وبذلهم من أموالهم دون بخل ولا تقصير. وهو ما تكرر التنبيه عليه في آيات في سور سبق تفسيرها كذلك.
[سورة الفتح (48) : آية 24]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
. (1) ببطن مكة: كناية عن جوار مكة أو واديها.
الآية استمرار في الخطاب للمؤمنين وجزء من السياق على سبيل التذكير والتثبيت كذلك حيث تذكر المؤمنين بما كان من فضل الله عليهم في سفرة الحديبية من كفّ أيدي الكفار عنهم وكفّ أيديهم عن الكفار لينتهي الموقف بالسلام الذي انتهى إليه بعد أن كتب لهم الظّفر عليهم.
وقد روى المفسرون «2» في سياق هذه الآية حادثا معينا أشرنا إليه سابقا وقالوا إنها تحتوي على إشارة إليه. وهو ما كان من محاولة خيالة من قريش أخذ
__________
(1) البغوي والخازن.
(2) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.(8/607)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
النبي والمؤمنين على غرّة قبل أن يتمّ عقد الصلح وما كان من تنبّه النبي والمؤمنين لهم وردّهم وأسر بعضهم على ما ذكرناه في الخلاصة التي أوردناها قبل لظروف وبواعث سفرة الحديبية ومشاهدها. وقد روى الترمذي ومسلم عن أنس «أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون قتله فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» «1» والمتبادر أن المقصد من جملة فأنزل الله هو كون هذه الآية في صدد ذلك.
والمتبادر أن الآية قد استهدفت بيان كون ما تمّ من ذلك إنما كان بقضاء الله ولحكمة فيها الخير والمصلحة للمسلمين.
[سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
. (1) الهدى معكوفا أن يبلغ محلّه: الأنعام المنذورة لتكون قرابين لله محبوسة عن البلوغ إلى المحل الذي يجب ذبحها عنده أو يحلّ ذبحها عنده.
(2) أن تطأوهم: أن تدوسوهم وتصيبوهم بالأذى.
(3) معرة: تبعة فيها إثم وعار. أو تعروكم من جرّائهم مشقة وهمّ.
(4) لو تزيّلوا: لو تميزوا وانفردوا عن الكفار.
__________
(1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 213. [.....](8/608)
تعليق على الآية هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ والآية التالية لها وما فيهما من صور
الآيتان استمرار للخطاب الموجه للمؤمنين كسابقاتهما وجزء من السياق.
وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقات من تثبيت وتطمين. وقد انطوتا على تقرير ما يلي:
(1) إن الكفار مستحقون لعذاب الله تعالى. ولقد كان قادرا على إنزال النكال الشديد بهم حالا لما بدا منهم. فهم كافرون من جهة. وقد صدوا المسلمين عن زيارة المسجد الحرام. وصدوا الهدي المنذور لله عن المكان الذي يحل فيه نحره من جهة. ولعبت في رؤوسهم نزوة الجاهلية وحميتها من جهة.
(2) ولكن حكمة الله العليم بكل شيء قضت بأن ينتهي الموقف إلى ما انتهى إليه. فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين. وهدّأ من سورة غضبهم وغيظهم. وألزمهم كلمة التقوى التي هي الأمثل بهم لأنهم أهلها والأحق بها.
وألهمهم الرضاء بما فيه الخير والمصلحة. ولا سيما أنه كان في مكة فريق من المؤمنين والمؤمنات لا يعلمهم المؤمنون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان من المحتمل أن يدوسوهم وينالهم أذى أثناء الاشتباك فيقعوا بذلك في الإثم والمشاكل.
وهذه ناحية رئيسية من حكمة الله تعالى في كفّ أيدي الفريقين عن بعض.
ولقد احتوت الآيتان إشارات خاطفة متوافقة مع ما ذكر الرواة تفصيله وأوردنا خلاصته قبل في صدد بعض مشاهد سفرة الحديبية والمفاوضات التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم ومندوبي قريش وما كان من تعنّت قريش وإصرارهم على الشروط التي كان الحافز عليها أنفة الجاهلية وحميتها وما كان من هدوء جأش النبي صلى الله عليه وسلم وتساهله وموقفه الحازم وانبثاث السكينة في نفسه ونفوس معظم المسلمين ومسايرتهم لهذه الشروط التي لا تهضمها النفوس بسهولة لولا إلهام الله وسكينته التي أنزلها على قلوبهم وإلزامه إياهم كلمة التقوى والحق والمصلحة.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 39(8/609)
وفي الآية الأولى خبر وجود فريق من المؤمنين والمؤمنات في مكة. وروح العبارة يلهم أوّلا أنهم كانوا يكتمون إيمانهم وأنهم لم يكونوا قليلين بحيث كان من الصعب أن يختفوا وأن يسلموا من الأذى لو وقع اشتباك حربي بين المسلمين وقريش في مكة. وليس في العبارة القرآنية معنى تأنيبي في حقهم حيث يلهم ذلك أنهم كانوا معذورين في البقاء في مكة. ولعلّهم أو لعلّ منهم من أشارت إليه آية النساء هذه وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) وآيات النساء هذه إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) ويكاد يكون من المتفق عليه أن العباس رضي الله عنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته كانوا من المؤمنين وقد ظلّوا في مكة إلى يوم الفتح. والمرجح أن بقاءه كان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمصلحة كان يراها «1» .
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قوله «كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي
__________
(1) ذكرنا في سياق تفسير آيات سورة الأنفال [69- 71] وفي سياق تفسير آيات سورة النساء المذكورة الروايات التي تذكر خبر إسلام العباس. ولقد روى ابن هشام ج 3 ص 398- 399 أن شخصا اسمه الحجاج من المسلمين ممن شهد وقعة خيبر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر إلى مكة لاقتضاء دين له في التصرف في بعض القول ليسهل عليه ذلك، فأذن له فلما بلغ مكة سأله بعض رجال قريش عن أخبار النبي وكانوا قد عرفوا أنه سار إلى خيبر ولم يعرفوا أن الحجاج قد أسلم فقال لهم عندي من الخبر ما يسرّكم: إنه هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه وأسره اليهود وهم يهمون بإرساله إليكم. فسروا أعظم سرور وسهلوا له قضاء حاجته وجاءه العباس فزعا يسأله الخبر فأخبره الحقيقة. وطلب كتمانها إلى أن يخرج فلما خرج لبس العباس حلّة وتخلّق (تطيب بالطيب وأخذ عصاه وجاء إلى الكعبة فطاف بها فقال له بعض رجال قريش: يا أبا الفضل والله هذا التجلد لحرّ المصيبة، فقال وأي مصيبة. كلا والله الذي حلفتم به لقد فتح محمد خيبر وأحرز أموالهم وتزوج بنت ملكهم (وهي زوجته صفية بنت حيي بن أخطب) حيث يستفاد من هذا الخبر ما قلناه من أن العباس كان أشبه بنائب عن النبي أو معتمد له في مكة.(8/610)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
رواية كنت أنا وأمي ممن عذرهم الله» «1» .
ويروي الشيعة في مناسبة الآية [25] رواية جاء فيها «قيل للإمام الصادق ألم يكن علي قويّا في دين الله. قال بلى. قيل فكيف ظهر عليه القوم وكيف لم يدفعهم وما منعه من ذلك. قال آية في كتاب الله وهي لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. لقد كان لله ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين. ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع. فلما خرجت على عليّ ظهر من ظهر فقتلهم» «2» .
والكلام في صدد عدم مقاتلة علي لأبي بكر وعمر وعثمان وجمهور أصحاب رسول الله الذين يزعم الشيعة أنهم غصبوا حقه وخالفوا وصية رسول الله. وفي هذا من الهراء والسخف ما هو واضح. وننزه الإمام الصادق عن قوله واعتباره جمهور أصحاب رسول الله كافرين ومنافقين والعياذ بالله. ولقد قاتل النبي الكفار ولم يمنعهم احتمال أن يخرج من أصلابهم مؤمنون. ولقد قاتل علي طوائف من المسلمين في ما يسمى في وقائع الجمل وصفّين وحروراء لأنه اجتهد في صواب ذلك ولم يمنعه كونهم مسلمين أو احتمال خروج مؤمنين من أصلابهم ولقد ثبت يقينا أن عليا رضي الله عنه بايع أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم وتعاون معهم في مختلف ميادين العمل العام ولا شك في أنه يعرف أن النبي لو كان وصّى له لما بايعهم ولقاتلهم لأجل تنفيذ وصية رسول الله دون أن يمنعه أي شيء لأن ذلك واجب ديني. هذا فضلا عن أن أبا بكر وعمر وعثمان والجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وسجل الله رضاءه عنهم في القرآن (سورة التوبة الآية 100) أتقى من أن يجمعوا على مخالفة وصية رسول الله لأن تنفيذها واجب ديني قبل أي شيء.
[سورة الفتح (48) : آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) .
__________
(1) كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي ج 1 ص 433 و 434
(2) المصدر نفسه.(8/611)
(1) محلّقين رؤوسكم: بمعنى حلق شعر الرأس جميعه.
(2) مقصّرين: بمعنى تقصير شعر الرأس تقصيرا دون حلقه. والحلاقة والتقصير هي هنا لأجل التحلل من الإحرام.
تعليق على الآية لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... وخبر زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للكعبة
عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجه إلى المسلمين استمرارا للسابق.
وهي والحالة هذه جزء من السياق. وقد احتوت:
(1) تصديقا ربانيا لصحة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه زار الكعبة مع أصحابه وكونها حقا.
(2) وتوكيدا ربانيا بتحقيق هذه الرؤيا وبدخولهم المسجد الحرام وبقيامهم بطقوس الزيارة آمنين مطمئنين. منهم المحلقون ومنهم المقصرون دون ما خوف ولا اضطراب.
(3) وإشارة إلى ما انتهى إليه سفر الحديبية على سبيل تبرير النهاية: فإذا كان قد انتهى إلى ما انتهى إليه من عدم تحقيق الرؤيا في نفس الرحلة فذلك ناتج عن حكمة الله ولم يعلموها حيث اقتضت أن يكون بدل الزيارة في هذه الرحلة الفتح القريب الذي يسّره لهم.
وفي الآية كما هو ظاهر تأييد للروايات المروية من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتزم الخروج لزيارة الكعبة استلهاما من رؤيا رآها في منامه، ورؤياه حق. وهذا الذي جعل بعض المسلمين يذهلون حينما انتهى الموقف بدون تحقيق هذه الزيارة في هذه الرحلة. وقد استهدفت الآية التصديق والتثبيت مع الوعد الرباني بتحقيق الرؤيا.(8/612)
ولقد تحقق الوعد الرباني فتمّت الزيارة في العام القابل حسب الاتفاق.
وأدّى المسلمون مناسكها آمنين مطمئنين فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن.
ومما روي عن ذلك «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة من السنة السابعة على رأس ألفين من أصحابه كان معظمهم ممن شهدوا صلح الحديبية. وقدموا أمامهم الهدي ولم يكن معهم إلا سيوفهم في أغمادها. ولما أقبلوا على مكة خرج أهلها إلى رؤوس الجبال عدا رجال منهم اصطفوا عند دار الندوة لمشاهدة مشهد دخول النبي وأصحابه الذين دخلوا مهلّلين مكبّرين وقد هتف النبي بأصحابه (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) ثم أقبل النبي وأصحابه نحو الكعبة فطافوا بها وارتقى بلال فوقها فأذن للصلاة. وارتجز عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله:
خلّوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير مع رسوله
نحن ضربناكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله «2»
__________
(1) انظر كتب تفسير: الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وسيرة ابن هشام ج 3 ص 425- 427 وابن سعد ج 3 ص 167- 169.
(2) روى هذا الشعر وهتاف النبي صلى الله عليه وسلم ابن هشام ج 3 ص 424 و 425، وابن سعد ج 3 ص 167- 169. وهناك روايات أخرى للشعر رواها ابن كثير فيها زيادات. ولقد قال ابن هشام إن البيت الثالث وما بعده ليس لعبد الله بن رواحة وإنما هو لعمار بن ياسر قاله في غير هذا اليوم. واستدلّ على صحة ذلك قائلا إن الذي يقاتل على التأويل يكون قد اعترف بالتنزيل ولم يكن مشركو قريش اعترفوا بذلك. والتعليل وجيه. على أننا نشك في الشعر كله وفي هتاف النبي صلى الله عليه وسلم. فليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والنبي والمسلمون وصلوا مكة في هذا الظرف بناء على اتفاق الحديبية الذي كان اتفاق صلح أو هدنة. والشعر والهتاف أحرى أن يكونا في ظرف انتصار حربي. ومن المعقول والمحتمل أن يكون ذلك حينما دخل النبي والمسلمون مكة عنوة فاتحين في السنة الثامنة للهجرة على ما سوف يرد شرحه بعد في سياق سورة الحديد. بل لقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بعد أن تم فتح مكة (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ، وهي الفقرة التي يروى أن النبي أمر عبد الله بن رواحة أن يقولها بدلا من شعره ...(8/613)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
فهتف النبي صلى الله عليه وسلم: بل قل (لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده) فقالها فرددها المسلمون. وقد مكث النبي وأصحابه ثلاثة أيام، ثم انصرفوا سالمين معافين. وتسمّى هذه الزيارة في كتب السيرة بعمرة القضاء «1» .
ويعلل التسمية ابن كثير قائلا إنها من القضية لأن مفاوض قريش في صلح الحديبية سمّى هذا الصلح قضية حيث قال للنبي حينما جاء ابنه المسلم لبحث القضية بيني وبينك وهذا أول ما أقاضيك عليه. ونحن نرجح مع ذلك أنها أريد بها القيام بالعمرة قضاء عن العمرة التي اعتزموها ثم لم يتمّوها بسبب ممانعة قريش فتأجلت للسنة القابلة حسب اتفاق الحديبية. والله أعلم.
ومما روي كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في سفرته هذه ميمونة بنت الحارث أخت زوجة عمّه العباس فزوجها له العباس وأصدقها عنه. وأن زعماء قريش أرسلوا إلى النبي بعد انقضاء الأيام الثلاثة المتفق عليها أن اخرج عنّا فقد انقضى أجلك. فقال لهم وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين ظهرانيكم وصنعت لكم طعاما فحضرتموه. فقالوا لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا. فخرج وانتظر زوجته الجديدة في سرف حتى تجهزت وخرجت إليه.
[سورة الفتح (48) : آية 28]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
. والآية متصلة بالسياق وجزء منه كذلك. وقد هدفت هي الأخرى إلى تثبيت المسلمين وتطمينهم:
(1) في تقريرها كون الله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق.
(2) وفي توكيدها بأنه ناصر لهذا الدين ومظهره على سائر الأديان. وبأن هذا هو كلام الله تعالى ووعده وكفى به شهيدا على تحقيقه.
وهذه هي المرة الثانية التي يرد فيها وعد الله بإظهار الدين الذي جاء به محمد
__________
(1) ابن هشام ج 3 ص 424.(8/614)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
صلوات الله عليه على الدين كله. والمرة الأولى كانت في سورة الصف وفي سياق ذكر رسالات موسى وعيسى عليهما السلام واليهود والنصارى وهذه المرة جاءت في مناسبة الكلام عن المشركين. وهكذا يكون النص القرآني قد ورد في سياق الكلام عن المشركين والكتابيين معا. ولقد علقنا على النصّ بما فيه الكفاية في المرة الأولى المذكورة فلا نرى ضرورة للإعادة.
[سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
. (1) سيماهم: علامتهم.
(2) شطأه: أوائل نبته.
(3) استغلظ: صارت قصبته غليظة بعد الرقة والرخاوة.
(4) استوى: ارتفع ونهض.
(5) سوقه: جمع ساق. وهي هنا قصبة النبات وساقه.
تعليق على الآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وما فيها من صور رائعة للمسلمين الأولين وما ورد فيهم من أحاديث
المتبادر أن هذه الآية أيضا متصلة بالسياق وجزء منه. وقد احتوت بيانا تفسيريا لكلمة رَسُولَهُ التي جاءت في الآية السابقة لها مباشرة ثم استطرادا تنويهيا محبّبا لذكر أصحابه ومؤيديه: فمحمّد هو رسول الله حقا الذي أرسله(8/615)
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه. وصفة أصحابه ومؤيديه هي أنهم أشداء عنفاء على الكفار بينما هم رحماء ليّنون مع بعضهم. لا يهملون عبادة الله، حيث تراهم ركّعا سجّدا. يبتغون بذلك فضل الله ورضوانه. وآثار السجود في وجوههم بادية. وهذه هي صفة المؤمنين الصالحين التي ذكرت في التوراة والإنجيل. وأنهم لكالزرع الذي نبت لينا ثم قوي فغلظت سوقه فأثمر أحسن الثمر وأكثره مما يعجب الزراع ويرضيهم. وإن الله قد يسّرهم إلى ما يسّر وحلّاهم بما حلاهم به ليغيظ بهم الكفار أيضا. وإن الله قد وعد الذين آمنوا فحسن إيمانهم ووثقوا به فحسن وثوقهم وعملوا الصالحات بمغفرته وعظيم أجره.
ولقد جاءت الآية خاتمة قوية للسورة التي يتضح من الإمعان فيها ترابط آياتها. وكون هدفها الرئيسي هو تثبيت المسلمين وتسكينهم إزاء ما كان من ظروف ونتائج سفرة الحديبية على النحو الذي شرحناه في سياق الآيات.
وفي الآية صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورع وتقوى وعبادة وأخلاق كريمة سمحاء فيما بينهم، مع الشدّة والقوة والبسالة بالنسبة لأعدائهم. ومثل هذه الصورة تكررت في سور عديدة مكية ومدنية ممّا نبهنا عليه في مناسباته ومما فيه دلالة على ما كان من أثر دعوة الله وقرآنه ونبيه في هذه الفئة التي صارت بذلك مثالا نموذجيا خالدا.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة وعكرمة تأويلات أخرى لجملة ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ من ذلك أن الكلام يتم عند جملة ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ فتكون الصفات السابقة لها هي مثلهم وصفاتهم في التوراة وتكون جملة وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ ... إلى آخر الجملة مستأنفة فتكون الصفات المذكورة فيها هي صفاتهم في الإنجيل. ورووا بسبيل ذلك عن ابن عباس قوله «إن نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن تخلق السموات والأرض» وعن قتادة قوله «إنه مكتوب في الإنجيل: يخرج قوم ينبتون نبات الزرع فيكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون يأمرون(8/616)
بالمعروف وينهون عن المنكر» . ومما رواه المفسرون عن أهل التأويل أيضا أن الصفات جميعها في صفاتهم المذكورة في التوراة والإنجيل. وما رووه أيضا أن جملة كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ... إلى آخر الجملة هي مستأنفة أو تمثيل ثان لهم.
وأن الزرع فيها يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وشطأه هو أبو بكر وآزره هو عمر واستغلظ هو عثمان واستوى على سوقه هو علي رضي الله عنهم. ويتبادر لنا أن في هذه الأقوال تكلفا. ونرجو أن يكون شرحنا الآنف هو الوجه الصواب إن شاء الله أي إن ما ذكر من صفاتهم قبل ذكر كلمتي التوراة والإنجيل هي مثلهم فيهما. وجملة كَزَرْعٍ مستأنفة كصفات أخرى لهم. والله أعلم.
هذا، وروح الآية يلهم أن جملة وَالَّذِينَ مَعَهُ قد تعني بنوع خاص تلك الفئة المخلصة الراسخة في إيمانها ووثوقها بالله ورسوله والمؤيدة لرسول الله ودينه قلبا وقالبا. وهذا هو قول جمهور المفسرين الذين أوردوا في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة فيها دلالة على ذلك وردت في الصحاح وأوردناها في سياق الآية [22] من سورة الفتح. ومن شواهد الدلالة على أن المقصود هم الفئة المخلصة الراسخة المؤيدة لرسول الله من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأن الخطاب في الأحاديث موجّه إلى فريق آخر من المسلمين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد قال ابن كثير إن الإمام مالك رحمة الله عليه انتزع في رواية عنه من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم لأنهم يغيظونهم وإن طائفة من العلماء رضي الله عنهم وافقه على ذلك. وقد علّق المفسر القاسمي على هذا بقوله إن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة. وننبه على أن هذا في صدد البغض.
غير أن هناك طوائف من الشيعة يكفرون الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعم أنهم خالفوا أمر رسول الله وعصوه. وقد أوردنا آنفا رواية يعزونها إلى الإمام الصادق تنعت هذا الجمهور بالمنافقين والكافرين والعياذ بالله. تنزهوا عن ذلك وهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في القرآن. ومن يفعل ذلك فقد حقّ عليه النعت.(8/617)
فهرس محتويات الجزء الثامن
تفسير سورة النساء 7 تعليق على الآية الأولى من السورة 9 تعليق على الآية وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ... 11
تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ... 13
تعليق على جملة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... 20
تعليق على الآية وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.. 22
تعليق على الآية وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا ... 25
تعليق على الآية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ... 29
تعليق على الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... 33
استطراد إلى الوقف 46 تعليق على الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ... 49
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ ... 56
مسألة المغالاة في المهور 58 تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ... 61
تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ... 66
تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة 79 تعليق على الآية وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ... 87
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ... 94
تعليق على الآية وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ... 100
تعليق على الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ... 103
تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا ... 112
حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة 114 تعليق على الآية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... 116
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ... 123
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً ... 137(8/618)
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ... 146
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا ... 150
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ... 159
تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ... 163
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ... 167
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ... 171
تعليق على جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ ... 174
تعليق على الآية أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ ... 178
تعليق على الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ... 180
تعليق على الآية فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ ... 184
تعليق على الآية مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ ... 187
تعليق على الآية وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ... 189
تعليق على الآية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... 194
تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ ... 197
تعليق على الآية سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ... 201
تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ... 202
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ ... 209
تعليق على الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... 212
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ... 215
تعليق على الآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ... 222
تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... 229
تعليق على الآية لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ... 235
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... 241
تعليق على الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ... 247
تعليق على الآية وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ... 251
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ... 258
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... 260
تعليق على الآية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ... 266
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... 270(8/619)
تعليق على الآية يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ ... 272
تعليق على الآية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ... 284
تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... 289
تعليق على الآية يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... 294
تفسير سورة محمد 298 تعليق على الآية فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... 302
تعليق على الآية فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ ... 315
تعليق على الآية وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ... 319
تعليق على الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... 323
تعليق على الآية فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ... 327
تعليق على الآية إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... 329
تفسير سورة الطلاق 333 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ... 334
تعليق على الآية وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... 338
تعليق على الآية أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ... 341
تعليق على الآية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ... 345
تفسير سورة البينة 347 تعليق على روايات الشيعة في صدد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... 351
تفسير سورة النور 352 تعليق على حدّ الزنا والرجم 353 جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن 361 حالة الإكراه والغصب 362 تعليق على الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ... 366
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ... 369
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ... 375
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ ... 380
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً ... 393
تعليق على الآية قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ... 401
تعليق على الآية وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ... 403(8/620)
تعليق على الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ... 413
تعليق على الآية وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ... 416
مدى حثّ القرآن على مكاتبة المماليك 418 تعليق على الآية فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ... 424
تعليق على الآية وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ... 432
تعليق على الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ ...
435
تعليق على الآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا ... 436
تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه 441 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ... 443
تعليق على الآية وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ... 446
تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ... 448
تعليق على مدى كلمة صَدِيقِكُمْ 451 تعليق على الآية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ... 454
تفسير سورة المنافقون 457 تعليق على الآية إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ ... 458
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ... 464
تفسير سورة المجادلة 467 تعليق على الآية قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ ... 469
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ ... 478
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا ... 482
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... 486
تعليق على الآية أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ ... 489
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً ... 491
تعليق على الآية لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ... 493
تفسير سورة الحجرات 496 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ ... 497
كلمة عن حجرات رسول الله 500 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ... 501
تعليق على الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... 504
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ ... 512(8/621)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... 515
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ... 521
تعليق على الآية قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ... 525
تفسير سورة التحريم 529 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... 531
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... 536
تعليق على الآية ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... 540
استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه 542 تفسير سورة التغابن 544 تأويل جملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ... 546
تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ... 549
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ... 551
تفسير سورة الصف 555 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة 557 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ ... 560
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ... 571
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ ... 573
تفسير سورة الفتح 575 تعليق على الآية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... 577
تعليق على الآية لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... 585
تعليق على الآية إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... 588
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ... 589
تعليق على الآية سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ... 592
تعليق على الآية سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ ... 594
تعليق على الآية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ ... 599
استطراد إلى ذكر وقعة خيبر وردّ على مزاعم المستشرقين 600 تعليق على الآية وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ... 604
تعليق على الآية هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... 609
تعليق على الآية لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... 612
تعليق على الآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ... 615(8/622)
الجزء التاسع
السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- المائدة.
2- الممتحنة.
3- الحديد.
4- التوبة.
5- النصر.
__________
(1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.(9/5)
سورة المائدة
في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء، والأمر بالتعاون على البرّ والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسبب ذلك والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام. وحلّ صيد الجوارح. وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحلّ طعام المسلمين لهم. وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم. وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء. والنهي عن تحريم الطيبات وتشريع حدّ الفساد في الأرض والسرقة وتحلّة اليمين. والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب. والنهي عن صيد البرّ في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر. وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام. والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها. وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة.
وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود. احتوت دعوتهم إلى الإسلام. وإيذانهم برسالة النبي إليهم. وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها. وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة. وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم. وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها. وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم. ونهيا عن موالاة اليهود(9/7)
والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم. ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين. وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمّه وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح. ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وثناء محببا عليهم. وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين. وفصلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها. وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم. وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك.
وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت «إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدقّ عضد الناقة» وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها «أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه سورة المائدة فاندقّ عنق الراحلة من ثقلها» وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: «أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها» وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال «آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح» «1» وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال «حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت نعم فقالت أما أنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه وما وجدتم من حرام فحرّموه» . ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه، مثل الطبري والبغوي والزمخشري، منهم من أوردها جميعها ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من زاد عليها حيث روى الطبري عن عكرمة أن
__________
(1) أورد ابن كثير حديثا عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فالمتبادر أن المقصود من الفتح في حديث الترمذي هو هذه السورة.(9/8)
عمر بن الخطاب قال «نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة» . وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال «نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة» .
وهذه الأحاديث تثير العجب. فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة.
وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة. وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل فصول اليهود التي يمكن القول بقوة إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم إننا نخاف دائرة تدور علينا. وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنّى وجدوا وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام لأنهم نجس حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود ونهى عن صدّ حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية.
وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن، ونقول إن فصولها ألّفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول. وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد. ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح. وتروي هذا رواية أخرى. في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة(9/9)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
الفتح «1» . وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه. والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي بسبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير. والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
. (1) العقود: قيل إنها العهود والمواثيق. وقيل إنها التكاليف التي فرضها الله لأنها بمثابة عهد وميثاق. وقيل إنها عقود المحالفات الجاهلية. وقيل إن الفرق بين العقد والعهد هو أن الأول أوثق ولا يكون إلّا بين طرفين أو أكثر، في حين أن الثاني يمكن أن يكون من طرف واحد.
(2) غير محلّي الصيد: غير محللين للصيد.
(3) وأنتم حرم: وأنتم محرمون للحج أو العمرة. أو أنتم في داخل حدود الحرم أو أنتم في ظرف الأشهر الحرم على اختلاف الأقوال. والجملة تتحمل كلّا منها.
(4) شعائر الله: مناسك الله أو الأنعام التي تشعر أو تجرح نذرا لتقربها عند الكعبة لله، وكانت تسمى شعيرة وجمعها شعائر على ما شرحناه في سورة الحج.
__________
(1) انظر روايات ترتيب السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.(9/10)
(5) الهدي: بهيمة الأنعام التي تنذر للقربان عند الكعبة على اعتبارها هدية لله تعالى.
(6) القلائد: كناية عن بهيمة الأنعام التي يوضع في عنقها قلادة من جلد أو لحاء الشجر للإشارة إلى أنها منذورة للقربان لله. وقيل إن الحجاج في الجاهلية كانوا يضعون في أعناقهم قلائد من جلد أو لحاء الشجر فيأمنون بذلك من تعرض أحد لهم بسوء. وإن الكلمة تعني ذلك أيضا.
(7) آمّين البيت الحرام: الذين يقصدون البيت الحرام للحج.
(8) لا يجرمنّكم: لا يحملنّكم أو لا يدفعنكم.
(9) شنآن: عداء وبغضاء.
في الآية الأولى:
(1) أمر للمسلمين بالوفاء بالعقود.
(2) وإيذانهم أن الله قد أحلّ لهم بهيمة الأنعام باستثناء ما حرم من حالاتها في القرآن الذي يتلى عليهم وعلى أن لا يحللوا بناء على ذلك الصيد وهم في حالة الحرم.
(3) وإباحة الصيد لهم بعد أن يتحللوا من حالة الإحرام.
وقد انتهت الآية بالتنبيه على أن الله تعالى يحكم بما يريد تنبيها ينطوي فيه إيجاب الوقوف عند حكم الله وإرادته.
وفي الآية الثانية:
(1) نهي للمسلمين عن خرق حرمة شعائر الله والشهر الحرام والهدي والقلائد التي تنذر قرابين لله.
(2) ونهي كذلك عن العدوان على قاصدي زيارة البيت الحرام الذين يطلبون بذلك رحمة الله وفضله.
(3) وتنبيه لهم بأنهم لا يجوز أن يحملهم بغضهم لقوم وحقدهم عليهم بسبب صدهم إياهم عن المسجد الحرام على البغي والعدوان.(9/11)
(4) وأمر لهم بالتعاون والتضامن فيما فيه برّ وتقوى ونهي عن التعاون على الإثم والعدوان.
وانتهت الآية بأمرهم بتقوى الله وتنبيههم إلى أن الله شديد العقاب تنبيها ينطوي فيه إنذار لمن يخرق حرماته ويتجاوز أوامره ونواهيه وأحكامه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في معنى شَعائِرَ اللَّهِ وفي معنى الْقَلائِدَ فمما رووه عن معنى الأولى أنها حدود الله ونواهيه أو أنها مناسك الحج وحرماته عامة. أو أنها الهدي المنذر للتضحية من الأنعام المشعر أي الذي يعلم بجرح لإسالة دمه حتى يحترمه الناس ولا يعتدوا عليه. ومما رووه عن معنى الثانية أنها الهدي المنذور للتضحية من الأنعام الذي يوضع في رقابه قلائد من الخيطان أو لحاء الشجر أو ورقه لمنع الاعتداء عليه أو أنه الحجاج الذين كانوا يضعون مثل هذه القلائد في رقابهم ليمنعوا عن أنفسهم العدوان أو أن التعبير قد شملهم. وكل هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمتين وإن كنّا نرجح أنهما عنتا في الدرجة الأولى الأنعام المقلّدة بالقلائد المشعرة بالدم بالإضافة إلى ما في الآيات من استحلال الهدي بصورة عامة لأن في الآيات نهيا عن العدوان على الحجاج والتعاون على الإثم والعدوان وعدم إحلال الشهر الحرم. وفي الآية الأولى أمر بالوفاء بالعهود. وكل هذا يمكن أن يدخل في معنى حدود أوامر الله ونواهيه ومناسك الحج أيضا والله تعالى أعلم.
تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ودلالات عباراتهما وما فيهما من أحكام وتلقين وصور
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآية الأولى. وقد تعددت أقوالهم في دلالات عباراتها.
فأولا: روى الطبري عن ابن عباس أن العقود التي أمرت الفقرة الأولى منها هي عقود الله التي أوجبها على المسلمين فيما أحلّ وحرّم وفرض وبيّن من حدود.(9/12)
وروى عن قتادة أنها عقود المحالفات في الجاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام. وروى لتأييد ذلك أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال له: لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله. قال: نعم. قال: لا يزيده الإسلام إلّا شدة. وروى عن ابن زيد أن العقود المأمور بالوفاء بها في الآية هي عقد النكاح وعقد الشركة وعقد اليمين وعقد العهد وعقد الحلف. وروى قولا لآخرين لم يسمهم أنها أمر موجه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به الله عليهم من ميثاق بالعمل بما في التوراة والإنجيل من تصديق النبي صلى الله عليه وسلم.
وما عدا القول الأخير الذي يبدو غريبا لأن الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين فإن الأقوال الأولى مما تتحمله العبارة القرآنية. وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب هو قول ابن عباس.
ولم تخرج أقوال المفسرين عن نطاق ما أورده الطبري الذي استوعب جميع الأقوال في صدد الجملة.
على أنه يتبادر لنا على ضوء الآية الثانية على ما سوف نشرحه بعد أنها في صدد الأمر باحترام عقد صلح الحديبية.
وإن كان إطلاق العبارة يجعلها شاملة لكل عقد مشروع بين الناس ثم لكل ما صار بمثابة عقد بين الله والمسلمين بعد إذ آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه.
وواضح أن الجملة بذلك قد انطوت على تلقين جليل مستمر المدى بوجوب احترام المسلمين لعقودهم وعهودهم مع الله ومع الناس في كل ظرف وعدم الإخلال بها في أي حال. وهو ما تكرر تقريره بأساليب متنوعة وفي سور عديدة مكية ومدنية بحيث يصح أن يقال إنها من أهم المبادئ القرآنية المحكمة «1» .
__________
(1) انظر آيات سورة البقرة [27 و 40 و 176] وآل عمران [76] والأنعام [152] والرعد [22] والنحل [91 و 95] والإسراء [34] والمؤمنون [8] والأحزاب [23] والفتح [10] والمعارج [32] .(9/13)
وقد قيدنا العقد بقيد المشروع لأن كل شرط أو قيد في أي تعاقد بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم مخالف لأوامر الله تعالى ونواهيه في القرآن وسنة رسوله باطل. وهذا أمر لا يحتمل شكّا في ذاته. وقد رويت أحاديث نبوية تؤيده جاء في أحدها «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا والمسلمون على شروطهم» «1» وجاء في حديث آخر عن عائشة «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. وإن كان مائة شرط. قضاء الله أحقّ. وشرط الله أوثق. وإنما الولاء لمن أعتق» «2» .
وثانيا: روى الطبري عن قتادة أن جملة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هي لتحليل أكل لحوم الأنعام إطلاقا عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وهذه الحالات هي ما ذكرته الجملة التي بعدها غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أو ما ذكرته الآية الثالثة من السورة على اختلاف الأقوال. وروى كذلك عن ابن عمر وابن عباس أنها لتحليل أكل الأجنة التي توجد ميتة في بطون ما يذبح من الأنعام. وروى أيضا عن الربيع بن أنس ما يفيد أن عبارة بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تشمل بالإضافة إلى الإبل والبقر والغنم بقر الوحش والظباء وأشباهها المماثلة للأنعام وأن الجملة تعني حلّ أكل هذه البهائم. وقد عقب على هذه الأقوال قائلا إن أولاها بالصواب هو أنها في صدد تحليل الأنعام الأليفة أي الإبل والبقر والغنم كلها أجنتها وسخالها وكيارها عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وأنكر أن تكون بقر الوحش والظباء التي تصطاد صيدا من جملتها.
__________
(1) انظر تفسير الآية في المنار. والحديث الأول من مرويات أبي داود والدارقطني والترمذي والثاني من مرويات أصحاب المساند الصحيحة الخمسة. انظر التاج ج 2 ص 185 وورود جملة (الولاء لمن أعتق) في الحديث الثاني بسبب مناسبة الحديث. ولكن تلقين الحديث عام شامل كما هو واضح.
(2) المصدر نفسه.(9/14)
وقد ذكر البغوي رواية تذكر أنها في صدد تحليل الأجنة وأورد حديثا عن أبي سعيد بسبيل تأييد ذلك جاء فيه «قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» «1» . وإلى هذا روي عن قتادة والحسن أن المقصود من الجملة هو تحليل ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم. والمراد من ذلك على الأغلب ما حكي عن تقاليد العرب من تحليل وتحريم في آيات سورة البقرة [173] والأنعام [118 و 119 و 138 و 139] والنحل [114- 116] والحج [30] على ما شرحناه في سياقها وقد أورد البغوي إلى هذا قولا معزوا إلى الكلبي يفيد أن تعبير بهيمة الأنعام يشمل وحشها وهي الظباء وبقر الوحوش وحمر الوحش.
وليس في كتب التفسير الأخرى زيادة على ذلك. والذي يتبادر لنا على ضوء الجملة التي بعدها وهي غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أن مقصد الجملة أو من مقاصدها رفع الحرج عن المسلمين في ذبح الأنعام وأكلها وهم في حالة الحرم باستثناء ما ذكر من حالاتها في القرآن لأن تحليل أكل الأنعام مطلقا قد ورد في آيات سابقة مكية ومدنية عديدة. وفي أحدها ورد ذلك بعبارة مثل العبارة التي وردت هنا وهي ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [سورة الحج: 30] ولا تبدو حكمة في ذكر ذلك بالمعنى الذي صرفوه إليه في هذا المقام. كما أن صرف العبارة إلى الأجنة بعدا وتكلفا. وهذا لا ينافي الخبر الذي احتواه حديث أبي سعيد وهو أنه أو غيره سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الأجنة الميتة. والحديث لم يرد ولم يورد في أصله لتفسير العبارة.
ويتبادر لنا من فحوى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
__________
(1) الذكاة والتذكية في أصلها إتمام الاشتعال ثم صارت اصطلاحا إسلاميا يطلق على ذبح بهيمة الأنعام للأكل وذكر اسم الله عليها حين ذبحها وهذا الحديث من مرويات أبي داود وأحمد والترمذي انظر التاج ج 3 ص 95.(9/15)
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أن القول المروي عن الربيع بن أنس والكلبي بشمول كلمة بهيمة الأنعام للوحش المماثل لها في محلّه وأن الذي منع هو صيدها في حالة الحرم وحسب. والله أعلم.
ثالثا: لقد أوّل الطبري وغيره جملة وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بحالة الإحرام للحج أو العمرة. وجملة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بأنها للتحذير من استحلال الصيد في الحالة المذكورة وقد أوضح بعضهم هذه الحالة إيضاحا متسقا مع الأحكام الإسلامية أيضا. وهي تسربل الرجال بالملابس والأزر غير المخيطة قبيل دخول حدود الحرم المكي وقبيل الوقوف في عرفات وفي أثناء زيارة الكعبة لأول مرة والوقوف في عرفات وامتناعهم عن الحلاقة وتقصير الشعر والتزين والتطيب ومباشرة النساء على ما شرحناه من سياق تفسير آيات البقرة [196- 203] .
وبعضهم «1» زاد على ذلك فقال إن حالة الحرم تعني أيضا الوجود في داخل منطقة الحرم «2» .
والقول الأول يعني أن الصيد يحل للمسلم حينما يتحلل من إحرامه خلال أشهر الحج ويتمتع بين العمرة والحج ولو كان في منطقة الحرم. والقول الثاني يعني أن الصيد لا يحل قط داخل منطقة الحرم سواء أكان المسلم محرما متسربلا
__________
(1) انظر الخازن. [.....]
(2) خصصنا الرجال بالذكر لأن السنّة سمحت للنساء باللباس العادي. فقد روى أصحاب السنن حديثا عن ابن عمر قال «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسّ الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويل أو قميصا أو خفّا» (التاج ج 2 ص 106) أما في صدد إحرام الرجال فقد روى الخمسة عن ابن عمر أيضا «أن رجلا قال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب. قال لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلّا أن لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين» (المصدر نفسه ص 105) وروى أصحاب السنن عن أبان بن عثمان قال «سمعت أبي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا يخطب» ص 108.(9/16)
بثياب الإحرام أو متحللا متمتعا. وإنما يحل خارج هذه المنطقة ولو كان ذلك خلال أشهر الحج.
وهذا وذاك مما قال به الفقهاء في سياق تقرير وبيان أحكام الحجّ ومناسكه استنادا إلى الآثار المروية. والقول الثاني مستلهم من حرمة القتال في منطقة المسجد الحرام المستفادة من آية البقرة وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ.. وتبعا لها كما هو المتبادر.
وهناك حالة ثالثة يمكن أن ينطبق عليها (حالة الحرم) وهي ظرف الأشهر الحرم استلهاما من الآيات التي تحرم القتال في الشهر الحرام على ما شرحناه في سياق سورة البقرة أو تبعا لها كما هو المتبادر. والروايات القديمة تفيد أن حرمة الأشهر الحرم كانت قبل الإسلام شاملة لجميع بلاد العرب وغير قاصرة على الحرم المكي وحجاجه على ما شرحناه في سياق سورة البقرة وأن الصيد كان محرما أثناءها سواء أكان ذلك داخل منطقة الحرم أم خارجها. وهذه الحالة تجعل الصيد محرما طيلة الأشهر الحرم سواء أكان في منطقة الحرم أم خارجها.
ولقد روى البخاري والنسائي عن أبي قتادة «أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم لو سألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه فسألناه فقال قد أحسنتم هل معكم منه شيء قلنا نعم قال فاهدوا لنا فأتيناه منه فأكل وهو محرم» «1» وروى أصحاب السنن حديثا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «2» حيث يستفاد من الحديثين أن الصيد وأكله حلال لغير المحرم ولو في منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم. وأنه يجوز للمحرم في منطقة الحرم في الأشهر الحرم أكله إذا لم يصده بنفسه أو يصد له خصيصا. وهذا إنما ينطبق على تأويل الكلمة بالتأويل الأول.
__________
(1) التاج ج 3 ص 83 ومعنى (وهو حلال) أي غير متسربل بلباس الإحرام أو هو في حالة التمتع.
(2) التاج ج 2 ص 107.(9/17)
ولا يعني هذا فيما يتبادر لنا أن القولين الثاني والثالث غير واردين. ومن الممكن أن يقال إن الحديثين قد تضمنا تعديلا استهدف التخفيف والتيسير والإذن للمسلمين بالصيد خارج منطقة الحرم خلال الأشهر الحرم حينما لا يكونون في حالة الإحرام والله تعالى أعلم.
وقد يرد سؤال عن سبب أو حكمة تحريم الصيد في (حالة الحرم) بينما أصل ذبح الأنعام الأليفة فيها سواء أكانت هي حالة الإحرام أو ظرف الأشهر الحرم أو منطقة المسجد الحرام. ولم نقع في كتب التفسير على ما اطلعنا عليه على جواب لذلك. والذي يتبادر لنا أن حلّ ذبح الأنعام الأليفة في حالة الحرم هو تشريع إسلامي. وأن تحريم الصيد فيها هو إقرار لعادة قديمة مع تعديلها تعديلا فيه تيسير للمسلمين بقصر حرمة الصيد على حالة الإحرام وإباحة ذبح الأنعام الأليفة للأكل في هذه الحالة. ولقد كان من جملة هذا التعديل تحليل صيد البحر مطلقا على ما سوف يجيء بيانه في مناسبة أخرى في هذه السورة. وأما من جهة ما قبل الإسلام فيتبادر لنا أن ذلك آت من فكرة تأمين ما من العادة أن يكون خائفا من الطيور والحيوانات البرية من مطاردة الصائد وهو مسلح بمثل سلاح القتال من قسي ونبال ورماح اتساقا مع فكرة تأمين العدو الذي من العادة أن يكون خائفا أو غير مطمئن وهذا غير وارد بالنسبة للأنعام الأليفة كما هو ظاهر.
هذا في صدد الآية الأولى. ولقد روى ابن كثير عن بعض الشيعة في سياق جملة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عزوا إلى ابن عباس أنه قال «ما في القرآن آية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا أنّ عليا سيدها وشريفها وأميرها وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلّا علي بن أبي طالب» .
وفي هذا ما فيه من غلوّ عجيب لا يتسق مع منطق وحقّ. مع الاحترام لجلال قدر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد أنكر ابن كثير القول وعزاه إلى غلوّ الشيعة.
ونأتي الآن إلى الآية الثانية فنقول إن المفسرين يروون- كمناسبة لنزولها- أن(9/18)
الحطم بن هند البكري أحد بني قيس بن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فدعاه إلى الإسلام فقال انظروا (انتظروا) لعلي أسلم ولي من أشاوره ثم خرج ومرّ بسرح من سرح المدينة فساقه. ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلّد وأهدى فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، وفي رواية قال له ناس من أصحابه خلّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا- أي الذي أخذ سرحنا- فقال إنه قد قلد. قالوا إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأبى عليهم ولم تلبث الآية أن نزلت «1» . وإلى هذه الرواية فإن ابن كثير يروي عن زيد بن أسلم أن المسلمين قد اشتد عليهم صدّ المشركين لهم عن البيت يوم الحديبية فمرّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نصدّ هؤلاء كما صدّنا أصحابهم فأنزل الله الآية.
وروى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المشركين كانوا يحجون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك في الآية.
وقد أورد الطبري أقوالا عديدة عن السدّي وقتادة وابن عباس ومجاهد في تأويل جملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً تفيد أنها في صدد المشركين وأنها تعني أنهم كانوا يلتمسون بحجهم فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم ومعايشهم ويترضونه.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ويلحظ (أولا) أن الآية احتوت نهيا عن أمور عديدة. (وثانيا) أن جملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً تلهم بقوة أكثر أنها في صدد حجاج مسلمين رأوا فيما تمّ من صلح الحديبية فرصة للذهاب إلى مكة بقصد العمرة أو الحج وقد أقرهما القرآن وفرضهما على المسلمين. فأراد بعضهم أن يصدّهم ويثبط عزيمتهم بأسلوب فيه عدوان ما. (وثالثا) أن في الآية أمرا لا صلة له بالروايات وهو ما احتوته جملة وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
__________
(1) الطبري والبغوي والطبرسي.(9/19)
وننبه على أن بعض المفسرين «1» رووا عن بعض التابعين أن جملة آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قد عنت المسلمين. وهو ما قلنا إن فحواها يلهم ذلك بكل قوة..
وعلى كل حال فالمتبادر من فحوى الآية وروحها أنه بدا من بعض المسلمين حركة فيها إخلال بحرمة الحج وتقاليده التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة الهدي الذي يهدى إلى الله من الأنعام مقلدا بالقلائد أو مشعرا بجرح ليسيل دمه علامة على ذلك حسب العادات القديمة. وفيها عدوان على الحجاج أو منعهم من الحج والعمرة بقصد إلحاق الضرر بأهل مكة انتقاما منهم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام يوم الحديبية فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآية متضمنة ما تضمنته من أوامر ونواه وتنبيهات مطلقة وعامة ورائعة على النحو الذي شرحناه قبل.
وبالإضافة إلى هذا فإنه يلحظ وجود مشاركة بين الآية الأولى والثانية حيث احتوت الأولى نهيا عن الصيد في حالة الحرم وإباحة له بعد التحلل من هذه الحالة. وهذه المشاركة قد تدل على ارتباط الآيتين ببعضهما ظرفا ونزولا وموضوعا. وإذا صحّ هذا وهو ما نرجوه إن شاء الله جاز القول إن جملة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قد تضمنت حثا على وجوب الوفاء بما تمّ بين المسلمين وأهل مكة من صلح أو مهادنة وعدم الإتيان بما يخلّ في ذلك.
وقد ينطوي في الآية الثانية بل في الآيتين معا على ضوء ما قلناه أنهما نزلتا بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة. وقد يكون هذا هو المبرر لجعل ترتيب السورة بعد سورة الفتح.
والتحلل من حالة (الإحرام) الذي عبر عنه بالجملة وَإِذا حَلَلْتُمْ إما أن يكون أثناء أشهر الحج وإما أن يكون بعد انتهاء مناسك الحج جميعها وبعد الوقوف في عرفات. وما كان أثناء أشهر الحج يكون بعد زيارة الكعبة فقط وهي المسماة
__________
(1) انظر تفسيرها في الزمخشري ورشيد رضا والقاسمي.(9/20)
بالعمرة، حيث يصح أن يتمتع الحاج بحالة الحلّ بين العمرة ووقت الوقوف في عرفات على ما شرحناه في سياق آيات الحج في سورة البقرة. والتحلل من حالة الإحرام بالنسبة للقول بأنها التسربل بلباس الإحرام والامتناع عن الطيب والنساء هو ممارسة ما كان ممنوعا من حلاقة الشعر أو تقصيره ولبس الثياب المخيطة والتطيّب والتزين ومباشرة النساء بعد نحر الهدي. ولقد شرحنا قبل مدى حرمة الصيد في حالة الحرم. وهناك أحاديث نبوية تسوغ قتل الحيوانات الضارة في هذه الحالة صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبدو جوابا على سؤال أو بسبيل الاستدراك منها حديث رواه الخمسة عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الدوابّ لا حرج على من قتلهن الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور. وفي رواية خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة» «1» ومنها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل المحرم السبع العادي» «2» . وحكمة الأحاديث ظاهرة فضلا عن أن هذه الحيوانات ليست صيدا.
والعبارة القرآنية في الآيتين مطلقة. بحيث تشمل صيد البرّ والبحر وقد اقتضت حكمة التنزيل أن يستثنى صيد البحر من التحريم في آية أخرى من هذه السورة على ما سوف يأتي شرحه بعد.
ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين «3» عن أهل التأويل أقوالا مختلفة في صدد ما إذا كانت الآية الثانية منسوخة أو محكمة. منها أن جميع الآية منسوخة بآية التوبة هذه فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومنها أن المنسوخ منها هو وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
__________
(1) التاج ج 2 ص 107.
(2) انظر تفسير البغوي للآيات [94- 97] من هذه السورة.
(3) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن والطبري والزمخشري ورشيد رضا والقاسمي.(9/21)
فقط وأنها نسخت بآية التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [28] وبالآية الخامسة المذكورة آنفا أيضا. ومنها أن المنسوخ منها هو القلائد التي كان الحجاج يتقلدون بها خوفا من الاعتداء لأن الآية حرّمت إخافتهم. ومنها أن الآية في حق المسلمين وأنها محكمة لم ينسخ منها شيء.
والعجيب في هذه الروايات أن الذين يروونها رووا وقالوا إن سورة المائدة نزلت دفعة واحدة وإنها آخر ما نزل من القرآن! وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ولقد رجحنا أن جملة آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ هن في صدد الحجاج المسلمين استلهاما من باقي الآية وهذا ما يجعلنا نتوقف في نسخها بآيات التوبة. وحتى على فرض أنهم من المشركين فإن الآية [5] من سورة التوبة هي في صدد قتال المشركين الناكثين وقد استثنى سياقها المشركين المعاهدين المستقيمين على عهودهم وأمر بالاستقامة لهم ما استقاموا على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وليس في آيات التوبة ولا في آيات أخرى ما يمكن أن يدل على نسخ للقلائد سواء منها ما روي أنه قلائد الحجاج أم أنه قلائد الأنعام. وقد تكون القلائد بنوعيها قد أهملت بعد الفتح لأن كلمة الله أصبحت هي العليا وسلطان النبي أصبح هو النافذ وصار الحج مقصورا على المسلمين وحظر دخول المشركين للحرم وصار الهدي والحجاج في أمن وسلام فكان القول بالنسخ تطبيقا للممارسة وليس مستندا إلى نصّ، والله تعالى أعلم.
هذا، ومع خصوصية الآيتين الزمنية والموضوعية فإن الفقرات الأخيرة من الآية الثانية بخاصة احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. سواء أفي النهي عن التأثر ببغض قوم ما وجعله وسيلة أو مبررا للعدوان والإثم والضرر ولو كان على جماعة من غير المسلمين إذا كانوا مسالمين أو حياديين أو معاهدين، أم في بيان ما هو الأمثل بالمسلمين من التعاون على البرّ والتقوى وإيجابه، أم في تشديد الإنذار(9/22)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
والنهي عن أي تعاون وتضامن فيما هو إثم وعدوان مطلقا. ونذكر بهذه المناسبة بما نبهنا عليه في مناسبات سابقة من أن مقابلة المسلم على عدوان المعتدي الكافر بالمثل لا يعدّ عدوانا وإنما هو دفاع.
والفقرة الأولى من الآية الأولى احتوت مثل هذا التلقين في أمرها بالوفاء بالعقود لأي كان.
وهذا وذاك متسقان مع المبادئ القرآنية العامة التي تكرر تقريرها في مختلف السور المكية والمدنية.
ولقد ساق ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق جملة وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. منها حديث رواه الإمام أحمد وروى صيغة مقاربة له الشيخان والترمذي عن جابر وهي هذه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما. إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر. وإن كان مظلوما فلينصره» «1» وحديث رواه الطبراني عن شمران بن صخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام» . وهناك حديث مهم يحسن أن يساق في هذا المساق رواه أبو داود عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس منّا من دعا إلى عصبيّة وليس منّا من قاتل على عصبيّة. وليس منّا من مات على عصبيّة. قال واثلة قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم» «2» .
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) .
__________
(1) التاج ج 5 ص 48.
(2) المصدر نفسه ص 21.(9/23)
(1) وما أهلّ لغير الله به: وما ذبح باسم غير الله أو ما ذكر حين ذبحه اسم غير اسم الله.
(2) المخنقة: المخنوقة أو الميتة خنقا.
(3) الموقوذة: الميتة من الطعن والنخز والضرب.
(4) المتردية: الميتة بسبب سقوطها من محلّ مرتفع.
(5) النطيحة: الميتة بسبب نطح حيوان آخر لها.
(6) وما أكل السبع: الذي يأكله وحش ضار.
(7) إلّا ما ذكيتم: باستثناء ما ذبحتموه ذبحا شرعيا وذكرتم اسم الله عليه قبل أن يموت من تأثير العوارض المذكورة.
(8) وما ذبح على النصب: وما ذبح عند الأوثان.
(9) وأن تستقسموا بالأزلام: الأزلام: هي سهام كانوا يلقونها على سبيل المراهنة أو الاقتراع أو الاستخارة. والاستقسام: هو الاقتراع أو الاستخارة أو المراهنة. وسيأتي شرح ذلك بعد.
(10) في مخمصة: في مجاعة.
(11) غير متجانف لإثم: غير قاصد مقارفة الإثم أو متعمّد له.
في الآية:
(1) بيان حالات الأنعام التي حرّم الله أكلها على المسلمين. وهي التي تموت ميتة طبيعية. أو خنقا. أو سقوطا من محل مرتفع. أو نطحا. أو ضربا ووقذا. أو من نهش وحش ضار مفترس. أو التي يذكر غير اسم الله عليها حين ذبحها. أو التي تذبح عند الأوثان كقربان لها. أو التي يستقسم عليها بالأزلام.
والدم ولحم الخنزير. مع استثناء أمرين في صدد محرمات الأنعام المذكورة حالاتها (الأول) في حالة بقاء رمق حياة في البهيمة التي تتعرض للموت خنقا أو(9/24)
سقوطا أو نطحا أو وقذا أو نهشا حيث يحل أكلها إذا ذبحت ذبحا شرعيا وذكر عليها اسم الله. (والثاني) في حالة الجوع الملجئ على شرط أن لا يتجاوز الأكل إلى أكثر من دفع الحاجة والخطر وأن لا يكون فيه تعمّد إثم ومعصية.
(2) إيذان تنويهي وجّه الخطاب فيه إلى المسلمين بما كان من إكمال الله لهم دينهم وإتمام نعمته عليهم وارتضاء الإسلام لهم دينا. ويأس الكفار منهم بعد ذلك. مع هتاف لهم بعدم خشيتهم من الكفار وبخشية الله تعالى وحده.
ومن المحتمل أن تكون جملة ذلِكُمْ فِسْقٌ التي هي بمعنى العصيان والتمرد على الله خاصة بالمحرّمين الأخيرين وهما ما أهلّ به لغير الله والاستقسام بالأزلام، كما أن من المحتمل أن تكون شاملة لجميع المحرمات على الاعتبار نفسه. والعبارة تتحمل الاحتمالين. وقد تتحمل الاحتمال الأخير أكثر لأنها جاءت بعد ذكر جميع المحرمات. غير أن آية الأنعام [145] احتوت وصفين للنوعين حيث وصف الدم ولحم الخنزير والميتة بأنها رجس أي نجسة ووصفت ما أهل لغير الله به بأنه فسق حيث يمكن الاستئناس بهذا على أن الجملة هي خاصة بالمحرّمين الأخيرين والله أعلم.
تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ.. إلخ وما فيها من أحكام وتلقين وما ورد في صددها من أقوال وأحاديث وتمحيص مسألة تاريخ نزول الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وتعليق على مدى متناولها
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية كمجموعة. وإنما رووا روايات في صدد نزول مقطع الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أو هذا المقطع الذي قبله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ حيث روى الطبري عزوا إلى ابن عباس والسدّي(9/25)
ومجاهد وقتادة وابن جريج أنه أو أنهما نزلا في حجة الوداع في يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم يلقي خطبته على المسلمين حيث نظر أمامه فلم ير إلّا موحّدا ولم ير مشركا فحمد الله فنزل عليه جبريل بالمقطع أو المقطعين، وأنه لم يعش بعد نزولهما إلّا نحو ثمانين ليلة. ومما رواه الطبري في صدد ذلك أنه لما نزلت الآية أو المقطعان منها يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا. فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. قال له صدقت. وروى كذلك حوارا جرى بين عمر وبين كعب الأحبار رواه الشيخان والترمذي بهذه الصيغة «قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب لو علينا أنزلت هذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ لاتخذنا ذلك عيدا. فقال عمر إني أعلم أيّ يوم أنزلت هذه الآية. أنزلت يوم عرفة في يوم جمعة» «1» وفي رواية الطبري زيادة غير اسم كعب وهي قول عمر وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وننبه على أن الطبري روى حوارا مماثلا لما روي بين عمر وكعب جرى بين ابن عباس ويهودي أيضا.
ويلحظ أن الروايات مع ذكرها كلمة الْيَوْمَ لم تذكر إلّا المقطعين غير مترافقين مع ما قبلهما ومع ما بعدهما. مع أنهما جزء من آية سبقه آية فيها تشريعات في صدد الحالات المحرمة من الأطعمة الحيوانية ولحقه مقطع ذو صلة وثيقة بالمقاطع السابقة له بحيث لا يفهم أية حكمة من إدماج هذا الجزء في آية يتصل أولها بآخرها اتصالا موضوعيا وثيقا لو كان نزل لحدته. وقد يقال ما دام قد ذكر (الآية) فيكون المراد بذلك جميع الآية وأن اختصاص ذكر هذا الجزء في الروايات لا يعني بالضرورة نزوله منفردا عنها. وهذا وارد. ولكن يرد معه أن الموضوع الرئيسي الذي احتوته الآية متصل بالآية الأولى من السورة اتصال توضيح وتفسير عبرت عنه جملة إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في هذه الآية التي قال جمهور المؤولين والمفسرين إنها تعني ما جاء في الآية الثالثة من السورة وهذا يجعل
__________
(1) التاج ج 4 ص 89.(9/26)
احتمال نزول هذه الآية مع الآيتين السابقتين لها قوي الورود. وبقية الآية بخاصة تقوي ذلك. والآيتان السابقتان وبخاصة الثانية قد نزلتا على ما رجحناه استلهاما من فحواها بعد وقت قصير من صلح الحديبية الذي بينه وبين حجة الوداع نحو أربع سنين. وهذا يحمل على التوقف في التسليم بالروايات المروية عن نزول الآية أو المقطعين يوم عرفة في حجة الوداع. ويسوغ الترجيح بأن ما جاء في الآية من أحكام عن محرمات الذبائح هو إتمام وتوضيح لجملة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في الآية الأولى من السورة وبأن الآية الثالثة مع المقطعين نزلت مع الآيتين السابقتين لها وبأن حكمة التنزيل استهدفت بالمقطعين تدعيم الأوامر والنواهي والأحكام التي احتوتها الآيات الثلاث وتثبيت قلوب المسلمين حولها وحول الدين العظيم الذي جاءت لبيان مداه. وبأن من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا المقطعين في حجة الوداع في عرفة الذي يمكن أن يكون قد صادف يوم الجمعة فالتبس الأمر على الرواة. وقد يتبادر لنا احتمال آخر وهو أن تكون الآيات الثلاث نزلت أثناء زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للكعبة في السنة التالية لصلح الحديبية حسب الشروط التي تم الاتفاق عليها مع قريش حيث اقتضت حكمة التنزيل تنزيلها آمرة بالوفاء بالعهود ومنبهة على ما يحسن بالمسلمين وموضحة ما هو حلال لهم وحرام عليهم من الصيد والذبائح وهاتفة بهم فإن الله قد أكمل لهم دينهم وأتمّ عليهم نعمته وبأن الكفار قد يئسوا من إطفاء نور دينهم والتغلب عليهم فالتبس الأمر على الرواة. وهذا التخريج أو ذاك يشمل ما رواه الشيخان والترمذي من حوار بين عمر بن الخطاب واليهودي. والله تعالى أعلم. ومما يحسن التنبيه عليه أن الآية الخامسة من السورة احتوت كلمة الْيَوْمَ مع احتوائها أحكاما وتشريعات جديدة. ولم يرد في أية رواية أنها نزلت مع المقطعين أو مع الآية التي فيها المقطعان. وفحوى الآية الرابعة التي قبلها يفيد أنها نزلت هي والآية الخامسة معا بسبب سؤال عن بعض الأمور أورد من بعض المسلمين نتيجة لما احتوته الآيات السابقة من أحكام واحتوت هي الأخرى أحكاما جديدة حيث يسوغ القول إن كلمة الْيَوْمَ في الآية الثالثة والآية الخامسة معا أسلوبية.(9/27)
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن كلمة الْيَوْمَ لا تعني يوما بعينه.
وقال الزمخشري إن المراد هو الزمان والحاضر وما يدانيه ويتصل به كقولك كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب حيث لا يراد بهذا تخصيص الأمس واليوم بمدلولهما الزمني. وهذا مما يؤيد قولنا إن الكلمة أسلوبية.
ولقد عقب الطبري على تأويل المؤولين بأن الآية أو مقطعيها عنت إكمال فرائض الله وما للمسلمين من حاجة من أمر دينهم بعدها قائلا «إنه لا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض بل كان قبل وفاته أكثر تتابعا.
ويكون بذلك معنى أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ والحالة هذه خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله بكمال العبادات والأحكام والفرائض» . وهذا تعقيب سديد ولو أن المستفاد من كلام الطبري أنه فهم من حديث الشيخين والترمذي عن الحوار أن الآية أو المقطعين نزلا يوم عرفة في حجة الوداع. وقد تابعه معظم المفسرين لأنهم جروا على أن يكون ما ثبت عندهم من الأحاديث الصحابية أيضا هو الأولى بالتسليم في تفسير وتأويل القرآن. وهو ما نزال نراه غير متسق مع ما تلهمه الآيات فحوى ومقاما مع ما شرحناه ونرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله.
ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وغيره في تأويل جملة الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ أقوالا منها أنها بمعنى أنهم يئسوا من رجوع المسلمين إلى دين الآباء القديم. ومنها أنهم يئسوا من قهر المسلمين والتغلّب عليهم. ومنها أنهم لم يبق فيهم أي قوة يخشاها المسلمون منهم على دينهم. وكل هذا وارد.
والمقطعان في حدّ ذاتهما قويان رائعان في تنويههما وهتافهما ومداهما.
ولعلّهما من أروع المقاطع القرآنية في بابهما. ولعل هذه الروعة والمدى هما اللذان جعلا المؤولين ينظرون إليهما نظرة خاصة مستقلة. وإن لمن شأنهما من دون ريب أن يبعثا كل الطمأنينة والرخاء والغبطة والفرح والاعتزاز في المسلمين في أي ظرف ومكان وسواء منهم أصحاب رسول الله الذين وجّه الخطاب إليهم(9/28)
مباشرة أم الذين يأتون بعدهم لما خصهم الله به من السعادة والرعاية في الانضواء إلى الإسلام الذي ارتضاه لهم دينا وجعله شريعة تامة خالدة أكملها لهم وأتمّ نعمته بذلك عليهم لتستجيب إلى جميع حاجاتهم ولتحلّ جميع مشكلاتهم الروحية والمادية والدنيوية والأخروية ثم لتستجيب إلى جميع مشاكل البشر الذين رشحت لتكون لهم دينا وتحلّ جميع مشكلاتهم. وإن لمن شأنهما كذلك أن يوثقا بينهم رباط الأخوة والتضامن، وأن يبعثا فيهم القوة وعدم المبالاة بالأعداء والمضادين في تلك الظروف التي نزلا فيها وكان النضال قائما فيها بين الكفر والإيمان والشرك والتوحيد، والضلال والهدى، والظلمات والنور، والعصبية القبلية الضيقة والأخوة العامة، والتقاليد التي تحتوي كثيرا من الشذوذ والسخف والبغي والتمايز في الطبقات واستقطاب الثروة والغنى في جانب والفقر والعوز في جانب والدين الذي يدعو إلى الحق والهدى والمساواة والخير والتراحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البرّ والتقوى، ويقرر أن ما في أيدي الناس من مال هو مال الله وهم مستخلفون فيه وأن فيه لحقّا معلوما للمحرومين والمعوزين يجب أداؤه إليهم بدون منّ ولا تبرّم. ويحل الطيبات ويحرم الخبائث والفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ثم في أي ظرف آخر. لأن هذه الدعوة قد ظلت في أصولها القرآنية والنبوية صافية نقية تحتفظ بكل مزاياها وقوتها وفضائلها وعظمتها وسطوعها وسنائها.
ومن العجيب أن رواة الشيعة ومفسريهم لم يتركوا هذه الآية أو هذا المقطع على روائه وسنائه وإطلاقه وهتافه العام فأولوه بما فيه تأييد لهواهم. حيث روى الطبرسي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله «أنّ الآية نزلت بعد أن نصّب النبيّ صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه علما للأنام يوم غدير خمّ منصرفه من حجة الوداع وكان ذلك آخر فريضة أنزلها الله تعالى» كما روى قولا معزوّا إلى أبي سعيد جاء فيه «أن الآية لمّا نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي فمن كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» .(9/29)
ولقد أورد ابن كثير نصّ هذا الحديث وقال إنه غير صحيح. والهوى الشيعي بارز عليه. وننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة على أننا لسنا في صدد إنكار مزايا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما اختلف أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى جملة أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ اختلف فيه أصحاب المذاهب الكلامية الذين جاءوا بعدهم.
حيث استدل بعضهم بالآية على أن القياس- وهو من أصول التشريع في الإسلام- باطل لأنها دلت على أن الله تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن كاملا وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا. وحيث استدل بعضهم بها على بطلان الاجتهاد والرأي من حيث إن القرآن يذكر أن الله قد أكمل للمسلمين دينهم فلم يعد هناك مجال لاجتهاد ولا رأي. وقد ردّ عليهم مخالفوهم ردودا عديدة موجز ما تفيده أن الجملة القرآنية قد عنت الأمور العامة والعمومات الشاملة مما يحتاج إليه المسلمون في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم دون المسائل الفردية. وإن مما يدخل في الباب ما جاء في آيات مكية من الإشارة إلى أن الله قد أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء «1» . وأنه لم يفرط في الكتاب من شيء «2» . مع أنه لم يكن نزل من التشريعات والأحكام شيء هام لأن ذلك إنما كان في العهد المدني. وأن السنة النبوية قد احتوت أمورا كثيرة رئيسية وثانوية لم ينص عليها القرآن صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الجملة وبعدها. وأن القياس واستنباط الأحكام الجزئية والفردية من عموميات النصوص القرآنية والسنّة النبوية الثابتة لا يناقض ذلك «3» . وفي هذا من السداد والوجاهة ما هو ظاهر. وإذا كان من شيء يحسن أن نقوله أيضا فهو أن القرآن والسنة قد احتويا من المبادئ والتقريرات والقواعد والأحكام ما فيه سداد لجميع حاجات المسلمين والبشر في مختلف
__________
(1) آية سورة النحل 89.
(2) آية سورة الأنعام 38.
(3) انظر تفسير الآية في تفسير المنار والقاسمي. [.....](9/30)
الشؤون ومختلف الأزمنة والأمكنة بوجه عام بحيث يصح القول إن الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن والسنة دين كامل وشريعة تامة. ومن هذه المبادئ والتقريرات والقواعد والأحكام ما هو محدود ومنه ما هو خطوط وتلقينات عامة.
ولما كانت حاجات الحياة في مختلف مجالاتها كثيرة ومتجددة ثم متبدلة بتبدل الظروف فقد اقتضت حكمة الله ورسوله أن يكون المحدود هو الأقل. وأن يترك للمسلمين أن يجدوا الحلول لمختلف حاجاتهم الأخرى بالاجتهاد والقياس والاقتباس والاستنباط على شرط أن يكون ذلك في نطاق تلك الخطوط والتلقينات العامة. ويصح أن نورد أمثلة كثيرة على ذلك. ونكتفي بمثل واحد. فالشريعة الإسلامية القرآنية والنبوية أوجبت أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم وأمرت باستشارة المسلمين في الشؤون العامة السياسية والحربية مما شرحناه في سياق تفسير آية آل عمران [159] وسكتت عن بيان الكيفية لأن ذلك عرضة للتبدل والتطور على ما هو المتبادر. فهنا مجال اجتهاد أولي العلم والأمر والشأن من المسلمين لاختيار الطريقة المناسبة لتحقيق هذا الواجب. ولا يرد أي وارد لمنع ذلك. وقد نبهنا على كل هذا بشيء من الإسهاب أيضا في سياق تفسير آيات سورة النساء [59 و 83 و 115] .
وهذا هو في صدد موضوعية الجملة الحرفية. غير أن من الحق أن ننبه مع ذلك في صدد مقام ورودها إلى ما ذكرناه قبل من أن الآية الثالثة احتوت إتماما وتوضيحا لجملة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في الآية الأولى من السورة ومن أن المقطعين استهدفا التدعيم والتثبيت والتنويه. وإلى ما رجحناه من نزولها بعد قليل من صلح الحديبية الذي عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعده أربع سنوات أخرى نزل في أثنائها كثير من الأحكام القرآنية وصدر عن الرسول عليه السلام كثير من البيانات في مختلف الشؤون وإلى ما أوردناه من قول الطبري من عدم اتفاق أهل التأويل في القرن الهجري الأول على كون الجملة تعني كمال العبادات والأحكام والشرائع حين نزولها حيث يسوغ القول بناء على ذلك أنها في مقامها دون موضوعها لا تستوجب الخلاف الكلامي الذي دار حولها بعد ذلك القرن. والله تعالى أعلم.(9/31)
والمحرمات الأربع الأول في مطلع الآية قد ذكر تحريمها في آيات عديدة مكية ومدنية في معرض الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار على ما شرحناه في مناسبات آيات سورة البقرة [167- 176] والأنعام [125- 147] والنحل [113- 118] .
ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت إعادة ذكرها في هذه الآية في معرض تقريري وتشريعي عام مع غيرها من المحرمات لتكون جامعة مانعة. وقد اقتضت هذه الحكمة تكرار وتوكيد ما جاء في الآيات السابقة المذكورة من الرخصة للمضطر بنفس الشروط حتى يكون التشريع متساوقا.
والمتبادر أن تحريم أكل البهيمة التي تموت في الحالات الخمس هو تبع للأصل المحرم وهو أكل الميتة إطلاقا. وكان العرب يأكلونها على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة الأنعام المذكورة آنفا. والمتبادر أن العرب كانوا يأكلون ميتة البهيمة في جميع حالات موتها فقضت الآية بتحريم جميع الحالات تبعا للأصل في هذه الآية التشريعية الجامعة.
وكلمة وَالدَّمُ تأتي هنا بدون وصف. ومثل ذلك جاء في آية البقرة [123] وآية النحل [115] غير أنها جاءت بوصف مَسْفُوحاً في آية الأنعام [145] وهو الوصف الذي يحرم به أكل الدم مطبوخا أو شربه حسب ما كان جاريا في الجاهلية على ما عليه جمهور العلماء الذين قالوا إن فيه إخراجا للدم الذي يكون عالقا باللحم والعروق وللطحال والكبد اللذين هما دم متجمد على ما شرحناه في سياق آية الأنعام المذكورة.
وفي كتب التفسير أحاديث وتأويلات متنوعة أخرى في صدد مدلول عبارات الآية وأحكامها رأينا من المفيد إيجازها والتعليق عليها بما يلي:
1- لقد روي في صدد جملة إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أن الاستثناء شامل للحالات التي ذكرت قبلها جميعها كما روي أن الاستثناء خاص بما نهشه السبع فقط. وقد صوّب الجمهور القول الأول وهو الأوجه.
2- لقد نبّه المفسرون والمؤولون على أن كلمة السَّبُعُ تشمل كل(9/32)
حيوان مفترس آكل للحوم. وهذا سديد.
3- لقد أجمعوا على أن الاستثناء لا يشمل الخنزير. لأن لحمه محرّم أصلا.
وهذا حقّ وصواب.
4- مذهب الجمهور أن رمق الحياة الذي يصح أن يذكى الحيوان ليحل أكله إذا تعرض للحالات المذكورة في الآية هو أن يكون فيه على الأقل عين تطرف أو أذن أو يد أو رجل أو ذنب يتحرك. وهذا وجه يتسق مع روح الرخصة القرآنية.
5- هناك من قال إن الإصابة إذا كانت في العنق وبنهش سبع بنوع خاص وصار الحيوان في حكم المذبوح فلا يحل أكله. والمتبادر أن هذا غير متسق مع عبارة الآية وروحها المطلقين. فما دام ظل في الحيوان رمق يصح تذكيته وأكله في أي جهة منه كان أثر الحادث وبأي سبب. والله أعلم.
6- لقد رويت في مدى أداة الذبح وطريقته أحاديث عديدة. منها حديث رواه الخمسة عن رافع بن خديج جاء فيه «قلت يا رسول الله إنّا ملاقو العدوّ غدا وليست معنا مدى. قال أعجل أو أرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل. ليس السّنّ والظفر وسأحدثك أما السنّ فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة. قال وأصبنا نهب إبل وغنم فندّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش. فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا» «1» ومنها حديث رواه البخاري جاء فيه «كانت جارية لكعب بن مالك ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوها» «2» ومنها حديث رواه أبو داود جاء فيه «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان. وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت. قيل يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة قال لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك» «3» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 94 أي اذبح بأي شيء يسيل الدم بما عدا السن والظفر. وهذا يفيد أن الذبح جائز بحجر محدد أو بشق عصا وخشبة أو بكتف عظم إلخ.
(2) التاج ج 3 ص 94 و 95.
(3) المصدر نفسه.(9/33)
7- في كتب التفسير أقوال وأحاديث عديدة في مدى الاضطرار والمخمصة الذي يحل للمسلم به أن يتناول المحرمات في الآية «1» . ولقد أوردنا طائفة منها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآيتين [118 و 145] من سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه.
8- قال المفسرون والمؤولون إن النصب التي حرّم أكل ما ذبح عليها هي حجارة كانت تنصب عند أوثان الكعبة وغيرها. وكان المشركون يذبحون قرابينهم عندها. وكان بعضهم يتعبّد لها ويقرّب إليها رأسا أيضا. ولم تكن أصناما مخلقة.
والمتبادر أن القرآن حرّم أكل الذبائح التي تذبح عندها لأنها بمثابة ذبح لغير الله.
9- إن كلام المفسرين في صدد الاستقسام بالأزلام الوارد في الآية يفيد أنه إجابة الأقداح أو السهام على سبيل الاستفتاء أو الاستخارة. ورووا بهذه المناسبة عادة عربية جاهلية في مكة وهي أنه كان عند سادن صنم (هبل) سبعة سهام أو أقداح- وهي ما تعنيه كلمة الأزلام على ما فسّره المفسرون- كتب على واحد منها (افعل) وعلى ثان منها (لا تفعل) وعلى ثالث (منكم) وعلى رابع (من غيركم) وعلى خامس (ملصق بكم) وعلى سادس (عقل) «2» وترك السابع غفلا بدون كتابة «3» . فإذا أراد امرؤ أو جماعة استفتاء الآلهة في مشكل أو موقف محرج أو محير من شؤون الدماء والأنساب والأسفار أو العزائم الأخرى جاءوا إلى السادن فطلبوا منه لقاء جعل مناسب إجالة الأقداح التي تناسب المطلب في كيس من جلد وتناولوا أحدها وعملوا بما يكون مكتوبا عليه. وإن كان السهم هو الغفل كان لهم الخيار بدون حرج. على أن في الروايات طريقة أخرى تسمى الاستقسام بالأزلام وهي من طرائق الميسر التي كان يذبح فيها بعير ثم يقترع بالسهام على من يغرم ثمنها وعلى كيفية توزيع لحمها على ما شرحناه في سياق تفسير آية البقرة [219] .
والذي نرجحه أن الاستقسام الوارد في الآية قد عنى هذه الطريقة دون تلك لأنها
__________
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير فقد استوعبا هذه الأحاديث والأقوال.
(2) بمعنى أداء الدية على القتلى.
(3) وهناك روايات أخرى عن العبارات المكتوبة على السهام لم نر ضرورة لذكرها.(9/34)
أكثر تناسبا مع بيان ما يحرم أكله من البهائم حيث أريد بذلك تحريم لحم البهيمة التي تذبح على سبيل الميسر. وقد عزا ابن كثير إلى مجاهد أنه قال إن الذي عنته الجملة هو القمار. وهذا مؤيد لترجيحنا.
ولقد روى المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد الاستخارة وما يدخل في بابها أو معناها كالتنجيم والرمل والتطير والطرق والعرافة والكهانة والعيافة على هامش الجملة باعتبار أن الاستقسام يعني ذلك. فيها أحكام وتلقينات مفيدة فرأينا أن نوردها برغم ترجيحنا أن الجملة متصلة بالميسر أو القمار أو المراهنة وبعض هذه الأحاديث وارد في بعض الكتب الخمسة. منها حديث رواه أبو داود عن قبيصة قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العيافة والطيرة والطرق من الجبت» «1» وحديث رواه مسلم وأحمد جاء فيه «من أتى عرّافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» «2» وحديث أخرجه ابن مردويه عن أبي الدرداء قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يلج الدرجات من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا» «3» وحديث عن ابن عباس رواه أبو داود وأحمد قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» «4» وحديث عن عمران بن حصين مرفوعا رواه البزار بإسناد حسن ورواه الطبراني بإسناد حسن كذلك جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له أو تكهّن أو تكهّن له أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» «5» .
وظاهر من هذا أن الشرع الإسلامي قرآنا وسنّة يحرّم هذه الأمور. وفي ذلك من الحكمة والجلال ما لا يخفى.
__________
(1) التاج ج 3 ص 201 والعيافة زجر الطير فإذا ذهب يمينا كان ذلك فألا حسنا ومضى الزاجر في عزيمته وإن ذهب شمالا تشاءم وانصرف عنها. والطيرة هي التطير والطرق ضرب بالحصى لمعرفة البخت والجبت هو الشرك أو الوثنية.
(2) المصدر نفسه.
(3) النص من ابن كثير. ومعنى طائرا متطيرا.
(4) التاج ج 3 ص 200.
(5) نقلا عن تفسير القاسمي.(9/35)
على أن هناك بعض أحاديث تجيز الاستخارة والتفاؤل فمن ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن ويقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري- وفي رواية عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. اللهم وإن كنت تعلم أنه شرّ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير حيث كان. ثم رضّني به» «1» ومن ذلك حديث عن أبي هريرة رواه البخاري ومسلم والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا طيرة وخيرها الفأل قيل يا رسول الله وما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» ، وفي رواية: «لا طيرة ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة» «2» وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أيضا «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع كلمة فأعجبته فقال أخذنا فالك من فيك» «3» وحديث عن بريدة رواه أبو داود والنسائي قال «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤي ذلك في وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه فرح بها ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمها رؤي ذلك في وجهه» «4» وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه «ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهمّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت ولا يدفع السيئات إلّا أنت
__________
(1) نقلا عن ابن كثير. وقد عقب عليه قائلا (بلفظ الإمام أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي) .
(2) التاج ج 3 ص 198.
(3) المصدر نفسه. [.....]
(4) التاج ج 3 ص 198- 199.(9/36)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
ولا حول ولا قوة إلّا بك» «1» وحديث رواه الترمذي جاء فيه «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد يا نجيح» «2» .
وليس في هذه المأثورات أي تناقض مع المأثورات السابقة لأنها متصلة بعقيدة التوحيد وكون الله عز وجل وحده هو القادر الباسط القابض المعطي المانع الذي يرجع إليه المؤمنون ويستمدون منه القوة ويتوكلون عليه في شؤونهم.
ولقد جعل بعضهم القرعة من باب المنهيات في حين أجازها بعضهم لتطييب نفوس أصحاب الشأن والبراءة من التهمة في الإيثار «3» . والمتبادر أن القول الثاني هو الأوجه لأن القرعة لا تدخل في الحقيقة في متناول المنهي عنه في المأثورات السابقة. والله أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
. (1) الجوارح: تطلق على الحيوانات والطيور الجارحة أي ذوات الأنياب والمخالب. ويدخل في نطاق الكلمة الكلاب والذئاب والنمور والسباع والفهود والضباع والصقور والنسور والبزاة. والراجح أن الكلمة هنا للإشارة إلى الجوارح التي تستعمل في الصيد كالكلاب والصقور والبزاة.
(2) مكلّبين: من التكليب وهو تعليم الكلاب للصيد في الأصل ويستعمل في تعليم الجوارح للصيد عموما. وفي اللغة (كلاب) مؤدب الكلاب والجوارح.
__________
(1) التاج ج 3 ص 198- 199 ومعنى لا تردّ مسلما أي لا يجوز أن يرتد المسلم عن عزيمته بالطيرة.
(2) المصدر نفسه.
(3) تفسير القاسمي.(9/37)
تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ وما فيها من أحكام وتلقين
في الآية حكاية لسؤال وجوابه. والجواب ينطوي على تعميم وتخصيص.
فقد حكت أن أناسا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما أحلّ لهم. وأمرت بتبليغ السائلين وبالتبعية جميع المسلمين بأن الله قد أحلّ لهم كلّ طيب بصورة عامة. وبأنه قد أحلّ لهم أكل الصيد الذي تمسكه الجوارح المعلّمة على أن يذكر اسم الله عليه. مع التنبيه إلى وجوب تقوى الله والتيقّن من سرعة حسابه على أعمالهم تنبيها ينطوي على الإنذار أو التحذير من مخالفة أوامر الله.
ولقد تعددت الأقوال في صرف جملة وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ «1» فقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما ترسلون الجوارح المعلّمة لإمساك الصيد حتى إذا أتت بها ميتة جاز لكم أكلها. وقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما تأكلونه. وقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله عليه حينما تذبحونه بعد إمساكه. وأوجه الأقوال هو الأول لأن حكم ما يموت بنهش السبع- والجوارح من السباع- قد تقدم ولأنه إذا لم يمت المنهوش وذكي حلّ أكله إطلاقا فلا يكون هناك حاجة إلى رخصة جديدة.
ولقد روى المفسرون عدة روايات في مناسبة نزول الآية. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فجاءه بعض المسلمين يسألونه عما يحلّ لهم اقتناؤه منها. ومنها أن بعض مسلمي البادية سألوه عن حكم ما تصيده جوارحهم المعلمة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والآية صريحة بأنها نزلت جوابا على سؤال. ومن المحتمل أن تكون إحدى الروايتين أو كلتاهما صحيحة. كما أن من المحتمل أن يكون السؤال وقع بمناسبة ما احتوته الآية السابقة من بيان حل الحالات المحرمة أولا وما يموت من نهش السباع التي منها الجوارح ثانيا. ونحن نرجح هذا الاحتمال كمناسبة مباشرة للآية لأنه متسق مع محتوياتها ومع سياقها. ومن المحتمل أن يكون السؤال قد وقع عقب
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير والخازن.(9/38)
نزول الآية السابقة فوضعت الآية بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية وإلا فتكون قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة على هامش هذه الآية كانت مستندا لما وضعه الفقهاء من قواعد وأحكام في موضوع الصيد وأكله. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة منها حديث رواه الخمسة عن عدي بن حاتم جاء فيه «قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلّمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله عليه. فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها. قلت فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا» «1» وللبخاري والترمذي «إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل» «2» وللبخاري وأبي داود «يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتا وفيه سهمه قال يأكل إن شاء الله» «3» ولمسلم وأبي داود في الذي يدرك صيده بعد ثلاث «.. فكله ما لم ينتن» «4» وروى الترمذي عن عدي قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي قال ما أمسك عليك فكل» «5» .
ولقد أورد ابن كثير حديث عدي بن حاتم معزوا إلى الصحيحين وفيه مباينة وزيادة لما ورد في التاج فرأينا من المفيد نقله لأن ابن كثير من أئمة الحديث «قال عدي بن حاتم قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك قلت وإن قتلن. قال وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟. فقال إذا رميت بالمعراض
__________
(1) التاج ج 3 ص 92- 93.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه ص 92.(9/39)
فخزق فكله وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله. وفي لفظ لهما إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإنّ أخذ الكلب ذكاته. وفي رواية لهما فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» وقد عقب ابن كثير قائلا فهذا دليل الجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. ثم قال وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا لا يحرم مطلقا. ثم أخذ يسوق أحاديث في تأييد جواز أكلها وفي بعض مسائل أخرى لم ترد في الكتب الخمسة ولكنه نبّه على أنها جيدة الأسناد. وأورد بعضها البغوي أيضا ونبّه التنبيه نفسه، والمفسران من أئمة الحديث.
ومن هذه الأحاديث حديث عن سلمان الفارسي قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي» وحديث عن أبي ثعلبة الخشني قال «قلت يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. فقال كل ما أمسكن عليك. فقال ذكيا وغير ذكي وإن أكل منه. قال نعم وإن أكل منه.
قلت يا رسول الله أفتني في قوسي. قال كل ما ردت عليك قوسك. قال ذكيا وغير ذكي قال نعم وإن تغيب عنك ما لم يصلّ- أي ينتن- أو تجد فيه أثر غير سهمك.
قال أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال اغسلها وكل فيها» . وهناك صيغ أخرى لحديث أبي ثعلبة جاء في إحداها «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردّت عليك يدك» وفي إحداها «قلت يا رسول الله إنّا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس هو معلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي. قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل» وهناك أقوال أخرى مروية عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم تدور في النطاق الذي دارت فيه الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لم نر ضرورة إلى إيرادها لأن فيها تكرارا لا فائدة منه.(9/40)
والأحاديث التي ساقها ابن كثير والبغوي في حلّ الصيد الذي يأكل منه الجارح أو الكلب لم تحلّ الخلاف بين الفقهاء.
حيث ظل بعضهم يذهب إلى التحريم مطلقا وبعضهم إلى الحل مطلقا. وقد توسط بعضهم فقال بالحلّ في حالة الجوع. والأحاديث التي تحرم أكل ما أكل منه الكلب أقوى سندا كما هو ظاهر. والقول يحلّه في حالة الجوع وجيه ومتسق مع المبدأ العام الذي يحلّ أكل المحرم في حالة الاضطرار والمخمصة والله تعالى أعلم.
هذا، ومع أن تعبير قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قد يكون في مقامه قاصرا على الأنعام والطيور التي يسوغ أكلها فإن فيه معنى الجواب المبادر القوي العام والشامل لكل طيب. وهذا متسق مع التلقين القرآني المنطوي في آيات عديدة مكية ومدنية «1» من توخى الشريعة الإسلامية- قرآنا وسنة- تحليل الطيبات جميعها.
والطيبات كما هو المتبادر هي كل ما لم ينص الشارع على تحريمه. وهي من هذا الاعتبار واسعة النطاق جدا. لأن ما نصّ الشارع من قرآن وسنّة على تحريمه محدود جدا. وهكذا ينطوي في العبارة القرآنية ما انطوى في كثير من الآيات من تيسير التشريع القرآني للمسلمين. ويلمس في كلمة الطيبات معنى تصوري رفيع في صدد تهذيب نفس المسلم وذوقه. وتنزيههما عن كل مستكره في المأكل والمشرب وسائر شؤون الحياة. وفي هذا الذي تكرر في القرآن بأساليب متنوعة ومواضيع عديدة ما فيه من روعة وجلال.
وفي سياق جملة وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ واعتبارها شاملة لكل شيء حينما يراد أكله أورد ابن كثير أحاديث نبوية عديدة. منها ما ورد في بعض الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنّه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم. فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله فإن
__________
(1) انظر بنوع خاص آيات سورة الأعراف [31 و 156] .(9/41)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله أوّله وآخره» «1» وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه «إنّ الشيطان يستحلّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه» «2» وحديث رواه الثلاثة أنفسهم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال أدركتم العشاء» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه «قال جماعة يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال فلعلّكم تفترقون. قالوا نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه» «3» .
وفي الأحاديث تعليم وتأديب وتوجيه نحو الله في كل ظرف وشكر نعمته وابتغاء بركته.
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
. تعليق على الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... إلخ
وما فيها من أحكام وتلقين وصور وتمحيص دلالة أهل الكتاب فيها في الآية تقرير تشريعي وجّه الخطاب فيه إلى المسلمين واحتوى:
__________
(1) التاج ج 3 ص 107.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 118. [.....](9/42)
(1) توكيدا لحلّ الطيبات وإباحتها لهم بصورة عامة.
(2) وحلّ طعام الكتابيين وإباحته لهم وحلّ طعامهم للكتابيين وإباحته لهم.
(3) وحلّ التزوج بالمحصنات من المؤمنين والكتابيين وإباحته لهم ضمن نطاقه الشرعي من عقد ومهر ورغبة صادقة في الإحصان وليس بقصد السفاح والتخادن وقضاء الشهوة فقط.
(4) وإنذار لهم بوجوب الوقوف عند حدود الله وعدم تجاوزها. وبيانا لما في تجاوزها من كفر بما آمنوا به. ولما يؤدي هذا إليه من حبوط عمل وخسران في الآخرة.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزول الآية. غير أن الطبري روى عن قتادة أن الله لما أحلّ طعام أهل الكتاب ونساءهم في الآية قال أناس من المسلمين كيف نتزوج نساءهم وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز وجل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) .
وهذا يقتضي أن تكون الآية نزلت على دفعتين مع أن الجملة منسجمة مع شطر الآية الأول ومعطوفة عليه.
ولقد أورد الطبري أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين تفيد أنهم فهموا من جملة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أنها في صدد ذبائح أهل الكتاب أو أوّلوها بذلك. وجاراه في ذلك معظم المفسرين بعده «1» حيث يتبادر على ضوء ذلك أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وأن مضمونها يلهم أنها وما قبلها سلسلة متلاحقة. وأن إباحة التزوج بالمحصنات من المؤمنات والكتابيات قد جاء على سبيل الاستطراد. فإن لم تكن الآية نزلت مع سابقاتها فتكون قد نزلت عقبها فوضعت بعدها، أو وضعت بعدها للمناسبة الموضوعية.
ومع ذلك فمن المحتمل جدا أن يكون أورد على النبي صلى الله عليه وسلم استفتاء في أمر
__________
(1) انظر النيسابوري والنسفي والخازن والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي.(9/43)
ذبائح أهل الكتاب ونسائهم أو وقعت وقائع متصلة بذلك فاقتضت الحكمة تنزيل الآية ولعلّ ما ذكر في الآيات السابقة من الحالات التي يحرم فيها أكل الأنعام مما أثار ذلك وقد يخطر بالبال أيضا أن يكون ذلك في مناسبة وقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح استئناسا من كون الآيات قد نزلت بعد ذلك الصلح بمدة قصيرة على ما ذكرناه قبل. ولقد روي أن امرأة يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مطبوخة. وأنه تزوج صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود التي كانت بين السبايا «1» . فلعل بعض المسلمين تساءل عن الأمر فنزلت الآية تؤيد ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تكرر وقوعه ومرت أمثلة عديدة منه. وجملة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) قد تكون تضمنت إيذانا بأن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بإلهام الله تعالى لحكمة سامية. وإنذارا للمسلمين بأن عليهم أن يؤمنوا بكل ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الله وأن من يتردد أو يرتاب في ذلك يحبط عمله ويكون من الخاسرين في الآخرة. والله أعلم.
ويلفت النظر إلى كلمة الْيَوْمَ التي استهلت بها الآية ثم إلى جملة أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ بعدها والتي احتوت مثلها الآية السابقة للآية. فهذا وذاك من القرائن التي نراها قوية على صلة الآية بما سبقها نظما وسياقا وموضوعا وعلى قوّة احتمال نزولها معها أو عقبها وعلى ضعف احتمال انصراف كلمة الْيَوْمَ في الآية الثالثة إلى يوم عرفة في حجة الوداع كيوم لنزولها.
والحكمة في هذا التشريع بليغة بعيدة المدى. فالقرآن ما فتىء يقرر وحدة المنبع والهدف التي تجمع بين المسلمين وأهل الكتاب وتجعلهم بمثابة جبهة واحدة ويوجب على المسلمين احترام كتبهم وأنبيائهم. فجاء هذا التشريع المستمد من تلك الوحدة التي ينطوي فيها تقرير كون الكتابيين مؤمنين بالله على كل حال صراحة أو تأويلا ولا يشبهون المشركين والوثنيين في طعامهم وذبائحهم ومناكحهم
__________
(1) انظر ابن سعد ج 3 ص 162- 163 وابن هشام ج 3 ص 388- 390.(9/44)
وهذا ما علّل به المفسرون حكمة التشريع خطوة جديدة قوية في سبيل إزالة الجفوة وتوطيد التآنس والتواثق والتعامل والتقارب عمليا بينهم. ووسيلة لإظهار محاسن الإسلام ورحابة صدره.
وسياق الآية يلهم بقوة أنها نزلت بعد وقعة الحديبية. أو لعلها نزلت بعد وقعة خيبر التي كانت عقب تلك الوقعة. وبعبارة ثانية بعد خضد شوكة اليهود في المدينة والقرى. وهذا يجعل من المتبادر بالإضافة إلى تلك الحكمة أن المسلمين صاروا في موقف الآمن المطمئن وبخاصة من ناحية اليهود الذين هم الكتلة الكتابية الكبرى في بيئتهم وأنه لم يبق ما يوجب التقاطع بينهم وبين المسلمين فكان ذلك من أسباب وحكمة التنزيل. وقد اختصصنا اليهود بالذكر لأنه لم يكن في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كتلة كبيرة من النصارى تستطيع أن تلعب دورا مؤذيا ومناوئا كالدور الذي لعبه اليهود أولا. ولأن النصارى الذين كانوا في هذه البيئة كانوا على قدر كبير من الدمائة وحسن النّية والبعد عن المناوأة والعداء وقد اندمج معظمهم في الإسلام ثانيا. ولأن النصارى عامة كانوا إجمالا أكثر دماثة وأحسن أخلاقا وأصفى قلبا من اليهود. وقد فرقت إحدى آيات هذه السورة بين الفريقين في مواقفهما من النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ومن المسلمين فقالت لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) .
وأثنت آية في سورة الحديد على أخلاقهم ثناء محببا هو على الغالب سجل لما كان واقع غالبهم وخاصة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ... هذا في حين احتوت آيات مدنية كثيرة تسجيلا لما كان من واقع غالب اليهود من أخلاق سيئة وقلوب قاسية وانحرافات خلقية ودينية خطيرة مما مرّ منه أمثلة كثيرة في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مرّ تفسيرها.
وواضح أن صيغة الآية تشريعية عامة. وأن ما نبهنا عليه مما احتوته من(9/45)
الحكم الظاهرة والمستنبطة شامل الاستمرار والمدى في كل ظروف المسلمين وأمكنتهم. وفي هذا ما فيه من التوجيه الحكيم في صدد التقريب والتيسير والتأليف والتأنيس بين المسلمين والكتابيين وبخاصة حينما يكون هؤلاء منسجمين مع المسلمين في تواد وتفاهم. ولا يكون منهم مواقف عدائية ومكائد ونوايا مريبة ضد المسلمين يخشى عواقبها في ظروف ومظاهر الحياة الخاصة والعامة.
ولقد أورد المفسرون «1» أقوالا كثيرة معظمها معزو إلى ابن عباس وعلماء التابعين وتابعيهم في صدد ما انطوى في الآية من أحكام نوجزها ونعلّق عليها كما يلي:
أولا: في صدد الطعام:
1- مع ما قلناه من أن أهل التأويل القدماء فهموا من جملة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أن المقصود هو ذبائحهم فقد رووا عن ابن عباس وأبي الدرداء والشعبي أن الجملة عامة الشمول. وفيها إباحة أكل جميع طعام أهل الكتاب على اختلاف أنواعه. واستدرك بعضهم فقالوا إن ما يحلّ لنا من طعامهم هو ما هو حلال لهم في شريعتهم. واستدرك آخرون فقالوا إن ما هو محرّم علينا نصّا يظل محرّما علينا لو قدموه لنا ولو كان حلالا في شريعتهم كالميتة حتف أنفها أو ما يموت من نهش السباع أو وقذا أو نطحا أو تردّيا أو خنقا ولحم الخنزير والدم المسفوح أو ما يدخل الخمر فيه من طعام وما ذبح على سبيل الميسر. وهذه المحرمات وردت في الآية الثالثة من السورة وآية أخرى وردت في هذه السورة وفيها إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) وهناك محرّمات أخرى وردت في أحاديث نبوية وأوردناها في سياق تفسير الآية [145] من سورة الأنعام.
والقول الأول هو مقتضى الآية. والاستدراك الثاني هو حقّ وصواب.
وتكون القاعدة أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا طعاما من أهل الكتاب محرّم
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير الزمخشري والخازن والنسفي والنيسابوري.(9/46)
عليهم في كتاب الله وسنّة رسوله. أما الاستدراك الأول فلا يكون صوابا فيما نرى إلّا في نطاق الاستدراك الثاني. فالخمر عندهم غير محرم فلا يصح للمسلم تناوله أو تناول طعام مصنوع به. ولا مانع يمنع المسلمين من أكل طعام فيه شحوم بقر وغنم لأن هذه الشحوم غير محرمة على المسلمين، وإن كانت محرمة على الكتابيين في شريعتهم ونعني اليهود. ويقاس على هذا غيره مما هو محرم عندهم وغير محرم عند المسلمين.
2- وفي مسألة حلّ ذبائح أهل الكتاب أقوال، فالآية [121] من سورة الأنعام نهت عن أكل الذبائح التي لا يذكر اسم الله عليها. وبعض أهل التأويل قالوا مع ذلك بإباحة أكل الذبائح المنذورة للكنائس أو التي يذكر اسم المسيح عليها.
ولقد روى البغوي عن ابن عمر أنه كان يحرّم ما ذكر اسم المسيح عليه ثم قال- البغوي- ولكن أكثر أهل العلم على حلّه. وروى- البغوي- أن الشعبي سئل عن ذلك فقال إنه حلّ. فقد أحلّ الله طعامهم وهو يعلم ما يقولون وروى المفسر نفسه عن الحسن أن اليهودي أو النصراني إذا ذبح فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فقد أحلّ لك. ولم نر قولا في الذبيحة التي لا يذكر الكتابي اسم الله ولا غيره عليها. وتقتضي الآية [121] من سورة الأنعام تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه. غير أن هناك أحاديث أوردناها في سياق تفسير هذه الآية تذكر أن المسلم إذا نسي ذكر الله حين الذبح لا يضره ذلك ويأكل مما ذبحه لأنه لا يؤمن إلا بالله وحده. ولا يكون عدم الذكر منه عمدا. وقد يصح أن يقال قياسا على ذلك والله أعلم أن ذبيحة الكتابي أيضا تؤكل إذا نسي أن يذكر اسم الله عليها نسيانا وغير متعمّد على اعتبار أنه يؤمن بالله صراحة أو تأويلا ويتعبّد له. وتبعا لذلك قد يكون في القول الثالث الوسط صواب وسداد. فلا يجوز لمسلم أن يأكل ذبيحة الكتابي إذا سمع أو تيقن أنه ذكر اسم غير اسم الله عليها أما في حالة الغياب وعدم التيقن أو النسيان غير المتعمد فيبقى الأصل هو الوارد وهو حلّها على اعتبار أن ذابحها مؤمن بالله.
3- وهناك قولان عن أهل التأويل في ذبائح النصارى واليهود الذين هم من(9/47)
جنس عربي حيث يذهب بعضهم إلى أن جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لا تنطبق عليهم فلا تحلّ ذبائحهم وحيث يذهب بعضهم إلى أن المقصد من الجملة هو الذي يدين بإحدى الديانتين ويدخل نصارى العرب ويهودهم في نطاق ذلك. وهذا هو الوجيه السديد فيما نرى والله أعلم.
4- والمؤولون يركزون أقوالهم على الذبائح في الدرجة الأولى لأن في الحيوانات ما هو محرّم علينا ولأن طريقة الذبح تتحمل التحريم والتحليل.
والجمهور على أن طعام أهل الكتاب من غير الذبائح ومما لا يدخله خمر حلال للمسلمين.. وهذا سديد بل هو من باب أولى.
5- وجلّ المفسرين القدماء بل كلّهم يديرون الكلام في صدد أهل الكتاب على اليهود والنصارى. ونرجح أن ذلك بسبب الواقع المتمثل في كون هؤلاء هم المعروفون عند المسلمين المتصلون بهم.
ولقد نبهنا قبل أن في القرآن قرائن قد تفيد أن كلمة أهل الكتاب أشمل من اليهود والنصارى فيكون الموقف من ذبائح أهل الملل التي تدعي أن عندها كتبا موحاة من الله عز وجل على بعض أنبيائها ويكون عليها سمة من سمات الكتب السماوية نفس الموقف من ذبائح اليهود والنصارى. وإذا كانت هذه الملل منحرفة أو كان في كتبها التي تدعي أنها سماوية مناقضات للقرآن فهذا شأن اليهود والنصارى وما في أيديهم الآن من كتب.
ولقد عقد رشيد رضا فصلا طويلا على هذه المسألة انتهى فيه إلى ما انتهينا إليه. وقد ذكر أنه ورد عليه سؤال من «جاوة» في حكم الزواج من الجاويين غير المسلمين وأنه أفتاهم بالحل إذا كانت في أيديهم كتب يدعون أنها موحاة من الله على أنبيائهم. وقال إن هذا عام في من يدعي ذلك في الهند والصين واليابان أيضا. ولم يذكر رشيد رضا مسألة الذبائح وكلامه يقتضي أن تكون ذبائحهم أيضا حلالا مثل نسائهم في نطاق ما شرحناه سابقا.
6- ولقد استطرد بعض المفسرين المتأخرين قليلا إلى ذكر المجوس(9/48)
والصابئين. فقال الزمخشري إن السنّة في المجوس هي أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. ولم يذكر سندا لقوله. وأورد رواية عن ابن المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس.
وقال ابن كثير قولا مشابها مع إشارته إلى رأي فقيه من أصحاب الشافعي والحنبلي اسمه أبو ثور كان يقول بحل ذبائحهم ونسائهم لحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية منهم وأنه قال سنّوا بهم سنة أهل الكتاب. ولأن الخلفاء الراشدين ساروا على ذلك.
والحديث المذكور أورده الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج في سياق ذكر موقف تردد وقفه عمر بن الخطاب في أخذ الجزية من المجوس وعدمه وقال ما أدري ما أصنع بهؤلاء فقال عبد الرحمن بن عوف «أشهد أن رسول الله قال سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» «1» .
وقد روى أبو يوسف حديثا طويلا آخر يفيد أن عليّ بن أبي طالب قال «إنه كان للمجوس كتاب يقرأونه فانحرفوا عنه وإن النبي أخذ الخراج منهم لكتابهم وحرّم ذبائحهم ونساءهم لشركهم» «2» والجملة الأخيرة من الحديث الطويل محلّ نظر. فاليهود والنصارى أهل كتاب. وقد انحرفوا ويعدون من ناحية ما مشركين على ما ذكرناه قبل ومع ذلك فليس هناك خلاف في حلّ ذبائحهم ونسائهم.
وكتاب الخراج ليس بعد كتاب حديث. غير أن في الكتب الخمسة أحاديث تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه أخذوا الجزية من المجوس. منها حديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» «3» وحديث رواه الترمذي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس
__________
(1) كتاب الخراج لأبي يوسف ص 72 و 73.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 4 ص 347.(9/49)
البحرين وأخذها عمر من فارس وأخذها عثمان من الفرس والبربر» «1» فإذا كان ما رواه أبو يوسف ثم أبو ثور من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سنّوا بهم سنة أهل الكتاب صحيحا فيكون قول أبي ثور بحلّ ذبائحهم ونسائهم في محلّه. مع التنبيه على أن أخذ الجزية منهم وهو ما اقتصر حديثا البخاري وأبو داود والترمذي على ذكره لا يعني أنهم أهل كتاب. لأن هناك حديثا رواه الخمسة إلا البخاري عن بريدة وأوردناه في تعليق طويل لنا في سورة الكافرون يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز أخذ الجزية من المشركين أيضا «2» .
ونذكر في هذه المناسبة أنه من المعلوم المشهور أنه كان في بلاد الفرس التي كانت مشهورة بأنها مجوسية رجل دين عظيم اسمه زرادشت وله كتاب.
وننبه على أن بحث كتابية المجوسي وعدمها هو الآن في نطاق البحث النظري. لأنه ليس في بلاد الفرس الآن مجوس يؤخذ منهم جزية وأن الإسلام قد عمّها منذ أكثر من ألف عام.
أما الصابئة فإن الزمخشري قال إن حكمهم عند أبي حنيفة هو حكم أهل الكتاب وإن صاحبيه قالا: إنهما صنفان صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرؤون ويعبدون النجوم. فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. والمرجح أن المقصود بهذا التقسيم هم الطائفة التي كانت في بلاد العراق في زمن أبي حنيفة والتي تعرف اليوم باسم (الصبة) وليس هناك أثر نبوي وثيق في صددهم بحيث يمكن القول إن هذه الأقوال اجتهادية وتطبيقية مستمدة من واقع كان.
7- ولقد استطرد رشيد رضا إلى مسألة طعام غير أهل الكتاب من الوثنيين والمشركين فقال ما مفاده إن القرآن لم يحرم طعامهم نصّا كما حرّم نساءهم. وإن اقتصار الآية على تحليل طعام أهل الكتاب لا يعني بالضرورة تحريم طعام غيرهم.
وإن كل ما هنالك أن القرآن حرّم أكل ما أهلّ لغير الله كما حرّم الميتة والدم ولحم
__________
(1) التاج ج 4 ص 347.
(2) انظر الحديث في التاج ج 4 ص 327 و 328.(9/50)
الخنزير. فيكون هذا التحريم هو الضابط القرآني في صدد طعام غير أهل الكتاب. وهو قول سديد مع إضافة كون القرآن حرّم الخمر ويستتبع ذلك الطعام الذي يصنع به وأن هناك أحاديث حرّمت أكل حيوانات أخرى غير الخنزير أيضا.
وعلى ضوء ذلك يصحّ أن يقال إن المشركين والوثنيين لو قدموا للمسلمين طعاما بدون لحم وخمر من خبز وتمر وحبوب وخضروات وفواكه وعسل وزيت وبيض جاز لهم أكله.
8- ونقول استطرادا إنه ليس في القرآن كما إنه ليس في السنّة فيما اطلعنا عليه تحريم على المسلمين إطعام غير المسلمين من غير الكتابيين من طعامهم، والحكمة الملموحة في النّص على تبادل الطعام بين المسلمين والكتابيين هي التأنيس وقصد حسن التواصل والتعايش بين الذين تجمعهم في العقيدة والمبادئ مصدر واحد وهو الله تعالى. ويبقى إطعام المسلمين لغير المسلمين من غير الكتابيين مباحا أيضا على اعتبار أن الأصل هو الإباحة والإطلاق ما لم يرد نصّ.
لقد أباح القرآن للمسلمين أن يأكلوا من الأطعمة المحرمة إذا ما اضطروا على شرط الالتزام بقدر الضرورة وعدم تجاوزها وهذه الرخصة في نطاقها واردة بالنسبة لما يقدمه أهل الكتاب وغيرهم أو يضعونه من طعام ولو كان في أصله حرام على المسلمين بطبيعة الحال.
وثانيا: في موضوع التزوج بالكتابيات في كتب التفسير أقوال عديدة في صدد الآية ومداها. ومعظمها وارد في الطبري نوجزها ونعلّق عليها بما يلي:
1- هناك خلاف بين المؤولين في المقصود بكلمة وَالْمُحْصَناتُ حيث قال بعضهم إنهن الحرائر وبعضهم بأنهن العفيفات. وأصحاب القول الأول لا يفرقون بين العفيفات وغير العفيفات وإنما يخرجون الإماء. وأصحاب القول الثاني لا يفرقون بين الحرائر والإماء وإنما يخرجون العفيفات.
والكلمة تتحمل من حيث الاستعمال القرآني المعنيين. وقد جاء المعنيان في الآية [25] من سورة النساء هذه وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ(9/51)
الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ
حيث عنت كلمة وَالْمُحْصَناتُ الأولى (الحرائر) والثانية (العفيفات) . والكلمة تعني معنى ثالثا وهو (المتزوجات) وقد ورد هذا في الآية [24] من سورة النساء وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وهذا المعنى غير وارد هنا لأن ورود الكلمة في آية النساء [24] هذه كان على سبيل تحريم التزوج بالمتزوجات وهو حكم محكم.
ولقد قال الطبري بعد ما أورده من الأقوال «إن أولى الأقوال بالصواب أن كلمة وَالْمُحْصَناتُ تعني الحرائر سواء أكنّ عفيفات أم فاجرات. وأن الله جلّ ثناؤه شرط نكاح الإماء بالإيمان وأنه قد أحلّ لنا حرائر المؤمنات وإن أتين بفاحشة لقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فيكون قد أحلّ لنا حرائر أهل الكتاب وإن كنّ أتين بفاحشة.
ويتبادر لنا أن ترجيحه لكون كلمة وَالْمُحْصَناتُ عنت الحرائر دون الإماء هو الأوجه لأن الآية تضمنت أن يكون التزوج بالكتابيات بمهر وعقد. وهو ما يتوقع بالنسبة للحرائر دون الإماء. ويبقى بذلك قيد الْمُؤْمِناتِ لمن يراد التزوج بهن من الإماء الوارد في آية سورة النساء [25] محكما والله تعالى أعلم.
2- ويقيّد الطبري الزواج بالكتابيات اللاتي أتين بفاحشة بتوبتهن ويقيس ذلك على جواز الزواج بالمؤمنات اللاتي يأتين بفاحشة إذا تبن. ويسوق بعض الأحاديث الصحابية في ذلك. وقد أوردنا هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية الثالثة من سورة النور وعلقنا عليها وذكرنا ما هناك من خلاف في هذا الموضوع ورجحنا ما ذهب إليه الجمهور من جواز التزوج بالزانية إذا تابت. ونقول هنا إن كلام الطبري وقياسه صواب وسديد. والله تعالى أعلم.(9/52)
3- يروي الطبري عن بعض أهل التأويل إباحة التزوج بالذميات دون الحربيات «1» وعن بعضهم أن الآية عنت أهل الكتاب الذين كانوا كذلك حين نزولها فلا تشمل من دخل في دينهم بعدها. وعن بعضهم أن الوصف هو في صدد الواقع السابق وأن الإجازة هي في صدد التزوج بالكتابية إذا أسلمت فلا يجوز التزوج بها وهي على دينها. وعن بعضهم إناطة الإجازة بتمسك الكتابيين بشرائعهم وهذا يشمل المرأة وأهلها بالدرجة الأولى. وعن بعضهم إجازة التزوج بالكتابيات غير العربيات فقط. وعن بعضهم أن الآية مطلقة تجيز التزوج بالحرائر من الكتابيات بدون قيد ولا تفريق ولا زمن. ولم نطلع على أثر نبوي في سياق هذه الأقوال حيث تكون على الأرجح اجتهادية. ومن المحتمل أن بعضها أي التي لا تجيز التزوج بالكتابية وهي على دينها مستلهمة من آية سورة البقرة [221] التي تنهى عن التزوج بالمشركات ومن آية سورة الممتحنة [10] التي تنهى عن التمسك بعصم الزوجات الكافرات. وأهل الكتاب يعدون كفارا لأنهم يجحدون رسالة النبي. وقد يعدون من ناحية ما مشركين لأن اليهود يقولون العزير ابن الله والنصارى يقولون المسيح ابن الله أو أن الله ثالث ثلاثة أو أن المسيح هو الله. غير أن جمهور المفسرين والفقهاء فهموا أن الآية هي في صدد جواز تزوج المسلم بالكتابية وهي على دينها بحيث يمكن القول إن في الآية تقييدا لآية البقرة والممتحنة وجعلهما قاصرتين على المشركات والوثنيات.
4- ونستطرد إلى القول إن بعض المتمحلين يقولون إنه ليس في القرآن نصّ على تحريم زواج المسلمات من الكتابيين. وهذا مردود. أولا بأن الآية بإباحتها زواج المسلمين بالكتابيات فقط قد انطوى فيها حصر ذلك في هذه الناحية. وثانيا
__________
(1) الذمّيات هن اللائي تحت السلطان الإسلامي في البلاد الإسلامية. والحربيات هن اللائي من أهل بلاد خارجة عن سلطان الدولة الإسلامية. وقد نعتن بالحربيات لأن الدول المجاورة للدولة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية كانت في حالة حرب مع الدولة الإسلامية ساخنة أو متوقفة بهدنة. ومن الجائز والمعقول أن تكون بلاد غير إسلامية ليس بينها وبين الدول الإسلامية حالة حرب وعداء. فتكون إجازة التزوج من كتابياتها واردة بل وأولى بطبيعة الحال.(9/53)
بأن الآية في احتوائها جملة مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ قد قصدت تنبيه رجال المسلمين إلى أن هذه الإجازة مشروطة بأن يكون هدفهم الإحصان لا المسافحة ولا المخادنة اللتين كان النساء الكتابيات متعرضات لهما أكثر حيث ينطوي في هذا أيضا حصر الإجازة في رجال المسلمين. وثالثا باتفاق المسلمين على ذلك منذ العهد النبوي بدون خلاف ... وهناك حديث أورده المفسر القاسمي ومرويّا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحلّ لنا نساؤهم. وحرّم عليهم أن يتزوجوا نساءنا» والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن القاسمي عالم في الحديث. والحديث بعد متوافق مع روح الآية بل وفحواها.
وحكمة المنع ظاهرة فالرجل بطبيعته هو القوّام على الزوجة وهو ربّ الأسرة وإليه ينسب النسل. فالخوف منتف من وجهة نظر الشريعة الإسلامية أو كالمنتفي من تأثير الأم الديني. واحتمال الانتفاع بمزاياها واندماجها في الإسلام هو الأقوى.
وهذا خلاف للحالة إذا ما عكست. وقد يضاف إلى هذا اعتبار مهم آخر. وهو أن المسلم يحترم أنبياء الكتابيين وكتبهم فليس للكتابية أن تشعر بحرج من التزوج به لأنها مطمئنة على احترامه لما تقدسه. في حين أن الكتابي لا يعترف بنبي المسلمة ولا بكتابها وبالتالي لا يحترمهما فيكون عليها حرج من التزوج به، لأنها لا تكون معه مطمئنة على ما تقدسه.
5- ويلحظ أن آية النساء [24] نبهت على وجوب استهداف الإحصان وإنشاء الأسرة وعدم قصد قضاء الشهوة أو المسافحة وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. ولقد تكررت هذه العبارة في الآية التي نحن في صددها حيث يلمح في ذلك قصد توكيد هذا الأمر في حالة التزوج بالكتابيات أيضا وبالتالي عناية التنزيل القرآني بهذا الهدف الاجتماعي ووجوب ملاحظته في كل الحالات. والإخلال بهذا الهدف في حالة التزوج بالكتابيات أكثر توقعا فكان من الحكمة توكيده في هذا المقام مع زيادة مهمة وهي وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي لا يكون ذلك بقصد المخادنة. أي المخاللة. والفرق بين هذا والمسافحة أن المسافحة قد تكون عابرة وأن المخادنة قد تكون دائمة.(9/54)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
6- والسياق يجعلنا نذكر حالة أخرى في صدد الكتابيات. وهي استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن. ولقد أباحت آيات النساء [3 و 24] والمؤمنون [6] والأحزاب [50 و 52] والمعارج [30] استفراش المسلمين للإماء اللاتي يملكونهن دون تقيد بقيد المؤمنات. وهناك آثار نبوية تجيز استفراش المسلمين لما ملكت أيمانهم مطلقا أيضا أوردناها في سياق تفسير آيات سورة النساء [24 و 25] فيكون الإماء الكتابيات مشمولات بهذه الإباحة.
7- ولقد استطرد بعض المفسرين إلى المجوس والصابئة في سياق بحث الزواج أيضا. وهذه المسألة بحثناها في سياق مسألة الطعام فنكتفي بهذا التنبيه.
8- وما ذكرناه في بحث الطعام في صدد من يدعي أنه أهل كتاب من غير اليهود والنصارى ينسحب على هذا البحث. فنكتفي كذلك بهذا التنبيه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام وتلقين ومسألة المسح على الخفين وما ورد في كل ذلك من أحاديث
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا:(9/55)
(1) خطابا موجها للمؤمنين يأمرهم عند قيامهم للصلاة أن يغسلوا أيديهم ووجوههم وأرجلهم ويمسحوا برؤوسهم. ويغتسلوا إذا كانوا جنبا. وإذا لم يجدوا ماء في سفر أو حضر أو كانوا مرضى يؤذيهم الماء ووجب عليهم الوضوء أو الاغتسال من الجنابة بسبب قضاء حاجتهم في الغائط للأول وملامسة النساء للثاني فيجزيهم أن يمسحوا أيديهم ووجوههم من صعيد طيب.
(2) وتنبيها تعليليا بأن الله تعالى لم يرد بأمره إعناتا وإحراجا وإنما يريد تطهيرهم وإتمام نعمته عليهم.
(3) وتذكيرا بما ارتبطوا به من ميثاق مع الله تعالى حينما آمنوا به وبرسالة رسوله وقالوا سمعنا وأطعنا لتوكيد القيام بما يؤمرون به وبوجوب تقوى الله الذي يعرف ما في الصدور كما يعرف الظواهر.
ولقد روى الطبري حديثا موصولا إلى سعد بن أبي وقاص قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلّمه فلا يكلّمنا ونسلّم عليه فلا يردّ علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة فقلنا يا رسول الله نكلّمك فلا تكلّمنا ونسلّم عليك فلا تردّ علينا حتى نزلت آية الرخصة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... إلخ.
وروى البخاري ومسلم والترمذي حديثا عن عائشة جاء فيه «سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا وأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال حبست الناس في قلادة. فأحسست بالموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... إلخ فقال أسيد بن حضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلّا بركة لهم» «1» .
__________
(1) التاج ج 4 ص 90.(9/56)
وقد أورد الطبري وغيره من المفسرين هذا الحديث كسبب لنزول آية سورة النساء [43] التي فيها رخصة التيمم. وقد روى البخاري حديثا عن عائشة في صدد هذه الآية جاء فيه «هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلّوا على غير وضوء فأنزل الله تعالى آية التيمّم» «1» .
والحادث متشابه في الحديثين مما قد يسوغ القول إنه واحد وإن من المستبعد أن تكون الآيتان نزلتا فيه مع بعد ما بين نزولهما.
وحديث سعد بن أبي وقاص لم يرد في كتب الصحاح وليس فيه على احتمال صحته قرينة على أن الآية نزلت بسبب ما ذكر فيه. وكل ما يمكن أن يفيده أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلّ على عادته بعدم ردّ السلام على أصحابه وهو على غير وضوء إلى أن نزلت الآية.
ولما كان من المتفق عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا يتوضأون للصلاة في مكة واستمروا على ذلك في المدينة على ما شرحناه وأوردنا الآثار الواردة في صدده في سياق آية النساء المذكورة. ولما كان من الأرجح أن يكون الحادث المذكور في حديث عائشة قد وقع في ظروف نزول آية النساء على ما ذكرناه أيضا في سياق تفسيرها وشرحها. ولا سيما أن الطبري والبغوي وهما من أقدم المفسرين الذين وصل إلينا كتب تفسيرهم لم يورداه ولم يوردا رواية ما من بابه في سياق آية المائدة التي نحن في صددها. ثم لما كان من الملحوظ أن هذه الآية وحدة تامة منسجمة. فالذي يتبادر لنا أن فريقا من المسلمين أخذوا يتهاونون في أمر الوضوء والطهارة أو في أشكالهما وأركانهما أو لا يرون ذلك واجبا فاقتضت حكمة التنزيل تنزيل الآية للتوكيد ولبيان الأشكال والأركان مع ذكر رخصة التيمم لإتمام الموضوع.
__________
(1) التاج ج 4 ص 82.(9/57)
ويلحظ أن الآية الثانية منسجمة مع الآية الأولى ومعطوفة عليها حيث يتبادر أنها جاءت بمثابة تعقيب وتدعيم لما أمرت به الآية الأولى. وقد يكون منها تأييد لما قلناه من أن بعض المسلمين تهاونوا في أمر الوضوء والاغتسال من الجنابة فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بنعمة الله عليهم. وميثاقه الذي أخذه منهم على السمع لما يأمرهم به وطاعته.
والتوكيد عليهم بتقواه وتنبيههم إلى أنه عليم بكل ما في نفوسهم بالإضافة إلى أعمالهم الظاهرة.
والتناسب قائم بين الآيتين وما سبقهما من حيث القصد التشريعي. فإما أن تكونا نزلتا بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعتا بأمر رسول الله بعدها للتناسب التشريعي والظرفي. أو وضعت بعدها للتناسب التشريعي وحسب. ونرجح على كل حال أنها نزلت بعد الآيات التي سبقتها إما فورا وإما بعد مدة ما والله تعالى أعلم.
ولقد صرف بعض المؤولين جملة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في الآية الأولى إلى قصد تعليل إيجاب التيمم إذا فقد الماء أو آذى. ومنهم من صرفها إلى قصد تعليل إيجاب الوضوء. والجملة تتحمل المعنيين. وإن كان صرفها إلى تعليل التيمم أقوى لأنه الأقرب إليها تتضمن قصد إشعار المسلمين دائما بشعور الطهارة ووجوبها وليس للإحراج.
ومهما يكن من أمر ففي الجملة معنى يصح أن يكون نبراسا يستمدّ منه المسلمون نورا وهدى في مختلف أمورهم وهو كون الله تعالى إنما يتوخى في تكاليفه ورخصه نفع المسلمين وطهارتهم ماديا وروحيا دون قصد الإحراج. وفي هذا من الجلال ما فيه.
وأسلوب الآية الثانية قوي نافذ. ومع أنها موجهة إلى المؤمنين في عهد رسول الله في صدد ما أمروا به في الآية الأولى فإن إطلاق عبارتها يجعل ما احتوته(9/58)
من هتاف وتذكير وتنبيه مستمر المدى شاملا لكل ما أمر الله به ورسمه ونهى عنه.
ولقد قلنا إن الآثار تؤيد أن الوضوء كان ممارسا منذ وقت مبكر من العهد المكي. وفي نزول الآية الأولى متأخرة مع ممارسة الوضوء قبلها بمدة طويلة مشهد من المشاهد الكثيرة التي احتوت ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعاته لفروض وأمور وأعمال دينية وسياسية واجتماعية وحربية بدون وحي قرآني ثم ينزل الوحي القرآني مؤيدا لتلك الممارسة والتشريعات والأعمال.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل في مدى جملة وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا منها أنه الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم على ما جاء في آية سورة الأعراف [169] ومنها أنها البيعة التي روي أن النبي أخذها من وفد الأوس والخزرج قبيل هجرته. والتي تمّت الهجرة بناء عليها والتي روي أن صيغتها هي صيغة آية الممتحنة هذه مع التذكير يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ومنها ما عناه الحديث الذي رواه الشيخان والنسائي عن عبادة بن الصامت الذي جاء فيه «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول الحقّ أينما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» ومنها أنه ما اعتبر ميثاقا مأخوذا من كل مسلم على السمع والطاعة حين يعلن إسلامه وإيمانه وينضوي إلى الدين الإسلامي. ونحن نطمئن بالقول الأخير لأنه متساوق مع فحوى الآية التي شمل الهتاف بها لكل أمر ولكل مؤمن ولكل زمن. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث نبوية بفضل الوضوء منها ما ورد في الكتب الخمسة منها حديث رواه الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّا محجّلين من آثار الوضوء. فمن(9/59)
استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل» «1» وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله. قال إسباغ الوضوء على المكاره. وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط» «2» وحديث رواه مسلم عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من توضّأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» «3» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» «4» وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يقبل الله صلاة بغير طهور.
ولا صدقة من غلول» «5» .
ومما لا ريب فيه أن الشريعة الإسلامية بإيجابها على كل مسلم ومسلمة غسل أطرافهما المكشوفة أكثر من مرة في اليوم والاغتسال من الجنابة التي يمكن أن تتكرر مرارا في الشهر بالإضافة إلى ما تضمنته آية سورة المدثر الثالثة من إيجاب تطهير ثيابهم. وإلى ما تضمنته الأحاديث النبوية العديدة في هذا الأمر «6» قد هدفت إلى جعل المسلمين مثالا في العناية بطهارة الجسد والثوب في موازاة ما هدفت إليه بالرسالة المحمدية في جعلهم مثالا في الطهارة الروحية على ما عبرت عنه آية سورة البقرة كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ
__________
(1) التاج ج 1 ص 69.
(2) المصدر نفسه ص 69 و 70.
(3) المصدر نفسه. [.....]
(4) التاج ج 1 ص 134 وهناك أحاديث أخرى في كتب الصحاح وغيرها فاكتفينا بما أوردناه.
ويتبادر لنا على ضوء التقريرات القرآنية والنبوية أن ما ذكر في الأحاديث من الخطايا التي يغفرها الله إن شاء للمسلم إذا توضأ هي ما كان من باب اللمم والهفوات وما ليس من الكبائر وما ليس فيه حقّ الغير ماله وعرضه ودمه. وما ليس فيه إثم وفحش ظاهر وباطن.
وإن قصد التشويق والتبشير من الحكمة الملموحة في الأحاديث والله أعلم.
(5) المصدر نفسه ص 135.
(6) أوردنا في سياق تفسير سورة الجمعة جملة من ذلك.(9/60)
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) . وآية سورة آل عمران [129] المماثلة لها.
وفي كتب التفسير «1» أقوال كثيرة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد ما انطوى في الآية الأولى من أحكام نوجزها ونعلق عليها بمايلي باستثناء ما ورد في الاغتسال والتيمم وكيفياته ونواقض الوضوء وموجبات الغسل ومدى ملامسة النساء حيث ألممنا بذلك في سياق جملة مماثلة في آية سورة النساء [43] :
1- اختلف في قراءة أَرْجُلَكُمْ حيث قرئت بفتح اللام وبكسرها. وترتب على ذلك خلاف. فمن قرأها بالكسر قال إن الآية أمرت بالمسح على الرجلين لأن الكلمة معطوفة على وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ومن قرأها بالفتح أوجب غسل الرجلين لأنها تكون معطوفة على الوجه واليدين. وعلّل أصحاب هذا القول تأخيرها للترتيب في عملية الوضوء حيث يكون غسل الرجلين آخرها واستندوا إلى أحاديث عن كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وغسله لرجليه سنوردها بعد. ومنها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال «أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم يقول: ويل للعراقيب من النار» «2» وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عمر «أن رجلا توضّأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلّى» «3» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن المستورد قال «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخلّل أصابع رجليه بخنصره» «4» .
والأكثر على وجوب غسل الرجلين. وهو الأوجه فيما يتبادر لنا ولعلّ جملة إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرينة قرآنية على ذلك حيث لا تبدو حكمة لو كان القصد مسحا.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري. وأكثرها استيعابا تفسير الطبري.
(2) التاج ج 1 ص 92- 93.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(9/61)
وهذا ما عليه جمهور أهل السنة. أما الشيعة فهم يقرأون لام أَرْجُلَكُمْ بالكسر ويقولون بالمسح دون الغسل. ولا يأخذون بالأحاديث التي لا يرويها أئمتهم. وقد روى الطبرسي عن إمامهم أبي جعفر أن شخصا سأله عن المسح على الرجلين فقال له هو الذي نزل به جبريل.
2- إن نصّ الآية يفيد أن الوضوء واجب على كل مسلم كلّما قام إلى الصلاة، وهناك رواية عن عكرمة أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ الآية. ورواية عن ابن سيرين أن الخلفاء الراشدين كانوا يتوضأون لكل صلاة. ورواية عن عبد الله بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشقّ ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلّا من حدث. ورواية عن ابن بريدة عن أبيه من طرق عديدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلّى الصلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: عمدا فعلته»
. ورواية عن عمرو بن عامر أنه سأل أنسا: أكان رسول الله يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. قال: فأنتم؟ قال: كنا نصلّي الصلوات بوضوء واحد «2» . وروايات عديدة عن جابر بن عبد الله وابن عباس وعكرمة وأبي موسى وأبي العالية تفيد أن سنّة رسول الله وأصحابه لا توجب الوضوء إلّا بعد حدث وأنهم كانوا يصلّون بوضوء واحد أكثر من صلاة. ورواية عن أبي غطيف قال صليت مع ابن عمر الظهر فأتى مجلسا فجلست معه فلما نودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ ثم خرج إلى الصلاة ثم رجع إلى مجلسه فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ فقلت: أسنّة ما أراك تصنع؟ قال: لا وإن كان وضوئي لصلاة الصبح كاف للصلوات كلّها ما لم أحدث ولكن سمعت رسول الله يقول من
__________
(1) هذا الحديث من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أيضا (التاج ج 1 ص 93) .
(2) روى البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي صيغة مقاربة لهذا الحديث (التاج ج 1 ص 193) . وهي هذه «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قلت كيف كنتم تصنعون قال يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث» .(9/62)
توضأ على طهر كتب له عشر حسنات فأنا رغبت في ذلك «1» .
ويستفاد من حديثي أنس وأبي بريدة الصحيحين بخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. وكان أصحابه يحذون حذوه ثم ألهم التخفيف عن أمته فصلّى بوضوء واحد أكثر من صلاة. وفسر بعمله التخفيفي وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة إذا كان المرء على غير طهر. وهذا ما عليه جمهور المسلمين بالتواتر الذي لم ينقطع من الصدر الإسلامي الأول وإن كان يستحبّ مع ذلك أن يتوضأ المسلم لكل صلاة طهرا على طهر.
3- والآية لا تذكر إلّا غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين أو مسحهما على اختلاف القراءة. غير أن حديثا رواه الخمسة احتوى تفصيلا لكيفية الوضوء جاء فيه «أنّ عثمان دعا بوضوء فغسل كفّيه، ثلاث مرات ثم مضمض واستنثر ثم غسل وجه هـ ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي رواية مضمض واستنشق واستنثر بثلاث غرفات من ماء وفي أخرى مسح رأسه ثلاثا وفي أخرى مسح رأسه فأقبل بيديه وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه» «2» . وإلى هذا فقد روى البخاري وأبو داود والترمذي حديثا عن عبد الله بن زيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين» «3» - أي بدلا من ثلاث مرات لكل عمل- وحديثا عن ابن عباس «أن النبي توضأ مرة مرة» «4» . ومن الكيفيات المروية أيضا ما رواه أبو داود والترمذي عن أنس «أنس النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفّا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلّل به
__________
(1) أوردنا قبل حديثا فيه ذلك رواه أبو داود والترمذي.
(2) التاج ج 1 ص 91- 93.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(9/63)
لحيته وقال: هكذا أمرني ربّي» . وما رواه الاثنان عن أنس أيضا «قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك» «1» وما رواه الاثنان أيضا عن المستورد قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخلّل أصابع رجليه بخنصره» «2» وما رواه الاثنان كذلك عن ابن عباس «أنّ النبي مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما» «3» وما رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن المغيرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين» «4» وما رواه أبو داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسبغ الوضوء وخلّل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلّا أن تكون صائما» «5» .
4- وفي الأقوال المأثورة عن ابن عباس وغيره على ما جاء في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير ما يفيد وجوب غسل المرفقين نفسهما وما يفيد عدم وجوب ذلك والاكتفاء بغسل اليدين إلى حد المرفقين. لأن صيغة الآية تتحمل هذا وتتحمل ذاك. وليس هناك أثر نبوي صريح وثابت في ذلك. وهذا جعل المسألة خلافية في المذاهب الفقهية.
5- وكما اختلف في دخول المرفقين في اليدين وعدمه اختلف في الكعبين أيضا لنفس السبب فكان غسلهما أو غسل الرجلين لحدودهما مسألة خلافية بدورها.
6- ولقد اختلف في الترتيب فمنهم من أوجبه ومنهم من لم يوجبه.
والموجبون استندوا إلى ترتيب الآية من جهة وإلى الأحاديث في عملية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة. وهو الأوجه فيما يتبادر لنا.
7- ولقد اصطلح الفقهاء على تسمية غسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس أركانا أو فروضا وبقية العملية سنّة. ومنهم من قال إن من يفعل الأركان
__________
(1) التاج ج 1 ص 91- 93. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(9/64)
فقط يجزيه وتصح صلاته. غير أن الأكثر على كون بقية العملية المروية في الأحاديث واجبة مع الاختلاف في العدد من مرة لكل عمل إلى ثلاث بسبب اختلاف الروايات.
8- ولقد ذهب بعضهم إلى أن نية الوضوء للصلاة ركن من أركانه. وذهب بعضهم إلى عدم ضرورة ذلك. ولقد روى أبو داود والترمذي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» «1» والمتبادر أن التسمية عند مباشرة الوضوء التي يوجبها هذا الحديث هي تعبير عملي عن النية.
9- ولقد رأى بعضهم في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة.
وساق على ذلك حديثا رواه معزوا إلى أصحاب السنن عن عبد الله بن عباس جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدّم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء فقال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» «2» .
10- ومن سنن الوضوء المستحبة الاستياك حيث روى مالك والبخاري حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ وضوء» «3» ولقد روى البخاري والنسائي حديثا آخر عن عائشة قالت «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: السواك مطهرة للفم ومرضاة للربّ» «4» .
11- واختلف في كيفية مسح الرأس ومقداره، فمنهم من أوجب مسحه جميعا ومنهم من أوجب مسح بعضه أو ربعه لأن الأحاديث المروية في ذلك مختلفة على ما مرّ ذكره.
12- والمفسرون يستطردون في سياق تفسير هذه الآيات أو آية الوضوء بنوع خاص إلى ذكر المسح على الخفين. ومن المحتمل أن يكون ذلك بسبب اختلاف قراءة أَرْجُلَكُمْ ومجيء هذه الكلمة بعد جملة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
__________
(1) التاج ج 1 ص 88- 89.
(2) انظر تفسير القاسمي.
(3) التاج ج 1 ص 88- 89.
(4) المصدر نفسه.(9/65)
حيث ذهب بعضهم إلى أنها معطوفة على هذه الجملة وأن مفهومها هو مسح الرجلين وليس غسلها على ما ذكرناه قبل.
ولقد أوردوا في سياق ذلك أحاديث عديدة عن المسح على الخفين معظمها ورد في مساند الأحاديث الصحيحة «1» . وليس فيها أية إشارة إلى صلة هذه المسألة بقراءة أَرْجُلَكُمْ حيث يصحّ القول إنها تشريع نبوي للتخفيف والتيسير وأن ذكرها في سياق الآيات هو للمناسبة أو تطبيق متأخر. وأساس السنّة لبس الخفين على طهر فلا يكون بينها وبين روح الآية القرآنية تناقض. وقد أخذ بهذه السنة معظم المذاهب الإسلامية. ومن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين حديث رواه الخمسة عن المغيرة بن شعبة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لحاجته فاتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء فصبّ عليه حين فرغ من حاجته فتوضأ ومسح على الخفين وفي رواية لأبي داود أن المغيرة قال له يا رسول الله: نسيت، قال بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربّي عزّ وجل» «2» . وحديث رواه أبو داود وأحمد والترمذي عن بريدة «أن النجاشي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خفّين أسودين ساذجين فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما» «3» وحديث رواه البخاري ومسلم عن المغيرة قال «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفّيه فقال دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما» «4» وحديث رواه أصحاب السنن عن المغيرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين وعقّب أبو داود على ذلك فقال إن عليا وابن مسعود والبراء وأنسا وأبا أمامة وسهل بن سعد مسحوا على الجوربين. وعقّب الترمذي فقال إن سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: «يمسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كانا ثخينين» «5» . وقد روى أبو داود والترمذي
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.
(2) التاج ج 1 ص 94.
(3) المصدر نفسه ص 94- 95.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(9/66)
عن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «المسح على الخفّين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة» «1» وروى مسلم والنسائي عن علي بن أبي طالب «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم» «2» .
14- ويناسب البحث الإلمام بأحكام المياه التي يصحّ الوضوء والاغتسال بها. وقد رويت أحاديث عديدة في ذلك منها ما ورد في الكتب الخمسة. وهذه جملة منها:
1- روى أصحاب السنن عن أبي هريرة قال «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّا نركب البحر ونحمل القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» «3» .
2- روى أصحاب السنن عن ابن عمر قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من الدوابّ والسباع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث» . وفي رواية «إذا بلغ الماء قلّتين بقلال هجر لم ينجسه شيء» «4» .
3- روى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه وفي رواية ثم يتوضأ منه. وفي رواية نهى أن يبال في الماء الراكد» «5» .
__________
(1) التاج ج 1 ص 94- 95. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 1 ص 70 والمتبادر أنه يصح الاغتسال به من الجنابة والفقهاء يعرفون (الطهور) أنه الماء الذي يزيل الحدث. أما إذا استعمل الماء بوضوء أو اغتسال فيبقى طاهرا ولكنه لا يزيل الحدث مرة ثانية.
(4) التاج ج 1 ص 71 و 72 وجملة (في رواية) في الذيل من الشارح وقال الشارح إن الشافعي قدر القلة بقربتين ونصف من قرب الحجاز. والقربة نحو مائة رطل بغدادي. وروى الشارح عن الشافعي وغيره أن الماء في هذا المقدار لا ينجس إذا وقع فيه نجاسة إذا لم تتغير أوصافه وينجس إذا تغيرت.
(5) التاج ج 1 ص 72 و 73 والمتبادر أن الماء الدائم أو الماء الراكد هو الماء في البئر النبع الذي يبقى في العمق ولا يجري.(9/67)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
4- روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمر قال «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله جميعا من إناء واحد ندلي فيه أيدينا» «1» .
5- روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب. فقال كيف يفعل يا أبا هريرة. قال يتناوله تناولا» «2» .
6- روى أصحاب السنن عن كبشة أنها أحضرت لأبي قتادة ماء للوضوء فجاءت هرّة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا بنت أخي فقلت نعم فقال إن رسول الله قال إنها ليست بنجس إنها من الطوّافين عليكم والطوافات» «3» .
7- روى الشافعي والبيهقي عن جابر قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر فقال نعم وبما أفضلت السباع كلّها» «4» .
وهناك أحاديث أخرى في الكتب الخمسة وغيرها. فاكتفينا بما تقدم مع التنبيه على أن في كتب التفسير والفقه خلافات وتفريعات نتيجة لتعدد الأحاديث واختلافها ورتبها وتفسيرها لا يتسع المنهج لتفصيلها.
[سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) .
__________
(1) التاج ج 1 ص 72 و 73.
(2) المصدر نفسه ص 73.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(9/68)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ... والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت أولاها هتافا للمسلمين بأن يكونوا قوامين لله فيما أمر ونهى ومراعين جانبه وحده في الشهادة بالقسط والحق والعمل بهما والتعاون على إقرارهما دون أن يكون لبغضهم لقوم ما تأثير يؤدي إلى الإخلال بواجب العدل والانحراف عن جادة القسط والحق. فهذا هو واجبهم وهو الأمثل بالمؤمنين. والمحقق لمعنى تقوى الله. والموجب لرضائه. وعليهم أن يلاحظوا دائما أنه خبير بكل ما يفعلونه. أما الآيتان الثانية والثالثة فقد احتوتا تعقيبا على ذلك الهتاف ودعما له وتثبيتا للمسلمين: فالذين آمنوا بالله ولزموا حدوده وعملوا الصالحات لهم المغفرة والأجر العظيم وعدا من الله. أما الذين يكفرون بالله ويكذبون بآياته وينحرفون عن حدوده فهم أصحاب الجحيم.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في اليهود حينما همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الرواية وروايات مقاربة من بابها مروية في تفسير الطبري وغيره كسبب لنزول الآية التي تأتي بعد هذه الآيات. ولم يرو المفسرون الآخرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في صدد هذه الآيات. وفحوى الآيات يجعل المناسبة التي يرويها الطبري أكثر ملاءمة لنزول الآية التالية. ويحمل على التوقف فيها بالنسبة لهذه الآيات.
والذي يتبادر لنا من روحها وفحواها أنها نزلت في مناسبة أخرى كان فيها خصومة أو مقاضاة بين فريق من المسلمين وآخر من غيرهم. وحاول الفريق المسلم أو عمد إلى الجنف على الفريق الثاني أو الشهادة في حقه شهادة غير صحيحة متأثرا بعدائه وبغضائه. بل وقد يخطر للبال أن يكون موضوع الآيات متصلا بالآية الثانية من السورة التي تحذر المسلمين من أن يحملهم بغضاؤهم لقوم على الإثم والعدوان والتعاون عليهما. فإن صحّ هذا أمكن القول أن الآيات جزء(9/69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
من السلسلة السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وقد يبرر هذا ما بين الآيات من تماثل في الخطاب الموجّه للمؤمنين وفي الهدف التشريعي والتحذيري. وإن لم يصح فإن من المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها فوضعت بعدها أو وضعت بعدها للتناسب التشريعي. والله أعلم.
والمبدأ الذي احتوته الآية الأولى متسق من حيث الأصل مع تقريرات القرآن ومبادئه التي تضمنتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد جاء ما يقاربها بنوع خاص في آية سورة النساء [135] . غير أن الأسلوب الذي جاءت به الآية والتعقيب والتدعيم والتبشير والإنذار الذي جاء في الآيتين التاليتين لها يجعل ما احتوته قويا ساطعا، ويجعلها من أروع الآيات القرآنية وأبعدها مدى في مجال الحق والعدل والتجرد والنزاهة شهادة وعملا وقضاء وتطمينا. وفي واجب مراعاة جانب الله وحده في هذا المجال وعدم التأثر فيه بعداء وبغضاء وأحقاد. وإذا لوحظ أن الشنآن إنما كان على الأكثر واردا فيما بين المسلمين وغير المسلمين تجلّت روعة الآية ومداها أكثر.
وهناك أحاديث عديدة في وجوب العدل والحكم به والشهادة به أوردناها في سياق الآية [135] من سورة النساء التي فيها أمر مماثل لما في هذه الآية فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... إلخ وما فيها من تلقين
عبارة الآية واضحة. وقد احتوت خطابا للمؤمنين تذكرهم فيه بما كان من(9/70)
نعمة الله عليهم ورعايته لهم حينما همّ قوم أن يعتدوا عليهم فصرفهم عنهم.
وانتهت بالأمر بتقوى الله ودعوة إلى الاتكال عليه.
وقد روى الطبري من طرق عديدة وبصيغ مختلفة أن الآية نزلت في مناسبة ما كان من يهود بني النضير من التآمر على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهب إليهم للاستعانة بهم على دية بعض القتلى حسب العهد الذي بينه وبينهم. وروى في الوقت نفسه أنها في صدد ما تعرّض له النبي والمسلمون من كسرة أمام الكفار يوم وقعة (بطن نخلة) أو تآمر من بعضهم على قتله. وقد نزل عليه جبريل وأخبره بذلك حتى صلوا صلاة الخوف. وروى أيضا أنها في صدد ما كان من أعرابي من نية غدر بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما رآه تحت شجرة وهو في غرّة أثناء هذه الوقعة حيث عمد الأعرابي إلى سيف النبي المعلّق فأخذه وقال له من يمنعك مني. فقال الله. ولم يلبث أن شلّت يده وسقط السيف من يده. وجاء أصحاب رسول الله وهو على هذه الحالة وأرادوا الفتك به فمنعهم رسول الله وأطلقه. وعلى ما ذكره ابن سعد وابن هشام أيضا «1» . ويروي الطبري رواية أخرى مفادها أن الحادث هو محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم من قبل شخص أرسلته قريش بعد وقعة بدر التي كانت في السنة الثانية للهجرة. والمفسرون الآخرون أوردوا بدورهم هذه الروايات.
ويلحظ أن الروايات تروي أحداثا وقعت في السنة الثانية للهجرة والآيات على ما يلهمه السياق نزلت بعد وقعتي الحديبية وخيبر. ولقد روي أن بعض خيالة قريش أرادوا أن يأخذوا المسلمين على غرة في الحديبية كما روي أن قبائل غطفان وأسد تجمعوا لغزو المدينة أثناء رحلة النبي والمسلمين إلى الحديبية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة الفتح التي سبق تفسيرها قبل هذه السورة فكفّ الله أيديهم حيث يرد بالبال أن الآية بسبيل التذكير بمثل هذا الحادث القريب. ولعلّه الحادث الأول لأن روايته أوثق.
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 73 و 74 و 98- 100 وابن هشام ج 2 ص 214- 217 و 191- 212.(9/71)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
ويلحظ كذلك شيء من الانسجام بين الآية والآيات الثلاث السابقة لها بحيث يتبادر أنها نزلت معها على سبيل توكيد الله ومراقبته. وأن ما احتوته من إشارة إنما كانت على سبيل التذكير في موقف يؤمر المسلمون فيه بتقوى الله والتزام حدوده.
ولقد انتهت الآية بالتنبيه إلى أن على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويعتمدوا عليه فهو كافيهم ومنجيهم من الأخطار. ومثل هذا تكرر كثيرا في الآيات المكية والمدنية لما في ذلك من معالجة روحية وبثّ للقوة المعنوية في المسلمين لمواجهة ما كانوا يتعرضون له من أخطار ومواقف محرجة. وتلقينها مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال على ما شرحناه شرحا وافيا في إحدى المناسبات السابقة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
. (1) النقيب: لغة من نقب الشيء أي بحثه وفحصه، ونقيب القوم من يفحص ويبحث أحوالهم، ثم صار علما على رئيسهم وصاحب التوجيه والأمر فيهم.(9/72)
(2) خائنة: بمعنى خيانة.
تعليق على الآية وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وفيها تذكير بما كان من أمر بني إسرائيل والنصارى.
وبما أخذه الله عليهم من ميثاق بالثبات على طريق الحقّ والقيام بالواجبات المفروضة عليهم وتصديق الرسل الذين يأتونهم بالهدى من قبل الله وتأييدهم. وبما كان من نقضهم لهذا الميثاق وانحرافهم عن جادة الحق والواجب. وما كان من تحريف اليهود لكلام الله. وما كان من نتيجة لذلك من استحقاقهم للعنته وتقسية قلوبهم.
وما كان من نزاع وعداء وبغضاء بين النصارى واستمرار ذلك إلى يوم القيامة حيث ينبئهم الله ويفصل بينهم فيما كانوا يصنعونه. والمتبادر أن جملة فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أسلوبية وأن الأولى أن تحمل على أن القصد منها هو تقرير كون ما قام بين النصارى من نزاع وبغضاء وعداء هو بسبب ما كان من إهمالهم ما أمروا به وانحرافهم عن طريق الحق. وروح العبارة وفحواها يدعمان ذلك.
وفي الآية الثانية جملة اعتراضية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما يزال يطلع على خيانة من اليهود بسبيل توكيد استمرارهم فيما ارتكسوا فيه من انحرافات ونقض ميثاق باستثناء القليل منهم الذين يجب على النبي صلى الله عليه وسلم العفو والتسامح معهم لأن الله يحبّ المحسنين.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات وورودها في الترتيب بعد السلسلة التشريعية يمكن أن يسوغ القول أنه قصد بها تذكير المسلمين بما كان من أمر أهل الكتاب وانحرافهم ونقضهم مواثيق الله وبما كان من نكال الله لهم باللعنة والبغضاء والعداوة وتقسية القلوب على سبيل العظة والدعوة إلى الاعتبار والتوكيد على الاستقامة على أوامر الله والتزام حدوده. وفي الآية السابعة من السورة تذكير(9/73)
بميثاق الله الذي أخذه الله من المسلمين مما قد يقوي التوجيه، ويجعل صلة ما بين هذه الآية والآيات السابقة.
وفي الآيات صور لواقع اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم استمرارا لما قبله من انحراف واختلاف وعداوة ومذاهب وأحزاب وقتال فيما بينهم مما حكته عنهم آيات كثيرة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ببيانات أوفى وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد ذكر الطبري عزوا إلى ابن إسحاق خبر الاثني عشر نقيبا الذين أمر الله موسى إقامتهم ليكونوا كفلاء على قومهم ثم ذكر أن موسى أرسلهم للتجسس على الأرض المقدسة وذكر أسماءهم. وذكر ذلك ابن كثير أيضا وأورد نفس الأسماء ثم قال إنه رأى في السفر الرابع من التوراة أسماء غير هذه الأسماء وأوردها. وفي سفر العدد المتداول اليوم وهو فعلا السفر الرابع من أسفار العهد القديم خبران مستقلان. واحد في الإصحاح الثاني منه يذكر خبر أمر الله لموسى بإقامة رئيس على كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر وأسماءهم الذين يذكر أن الله أوحى بها. وثان في الإصحاح الثالث عشر منه يذكر أن الله أوحى لموسى بانتداب رجل من كل سبط ليذهبوا ويتجسسوا على أرض كنعان. والأسماء المذكورة في صدد كل خبر مختلفة. والسفر يذكر أن الله أوحى بأسماء الخبر الأول فقط.
والأسماء التي أوردها الطبري هي أسماء الخبر الثاني حيث يبدو أن ابن إسحاق الذي يعزو الطبري إليه مزج الخبرين وسمى أسماء الخبر الثاني. وأن ابن كثير ظن أنه صحح الأسماء. ولم ينتبه إلى أن في السفر خبرين لكل منهما أسماء مختلفة عن الآخر. والمتبادر أن الاثني عشر نقيبا المذكور خبرهم في الآيات هم الذين ذكر خبرهم في الإصحاح الثاني من سفر العدد لأنهم انتدبوا بوحي الله كما ذكر الإصحاح ليكونوا رؤساء لأسباطهم. ولم نر ضرورة إلى ذكر الأسماء لأن الهدف القرآني لا يقتضيه.
وفي أسفار الخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع المتداولة اليوم والتي(9/74)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
تؤرخ رسالة موسى وهارون وسيرتهما وسيرة بني إسرائيل في عهدهما ثم في أسفار عديدة أخرى مما يعود إلى حقبة ما بعد موسى وهارون من أسفار العهد القديم فصول كثيرة عن لسان الله مبلغة بواسطة موسى وأنبياء بني إسرائيل الآخرين لبني إسرائيل فيها وصايا متنوعة في التزام توحيد الله وعبادته وحده والأعمال الصالحة واجتناب الشرك والأصنام والأعمال السيئة. وفي إنذار الذين ينحرفون عن ذلك عليها سمة الوحي الرباني. وفي الأناجيل المتداولة التي تحكي رسالة وسيرة المسيح عليه السلام فصول كثيرة من هذا الباب أيضا مبلّغة من المسيح لبني إسرائيل وغيرهم ممن اتبع المسيح ولم يتبعه على سمة الوحي الرباني كذلك.
فالمتبادر أن ذلك هو المواثيق التي ذكرت الآيات أن الله تعالى قد أخذها من نقباء بني إسرائيل وأسباطهم ومن النصارى فانحرف معظمهم عنها فاستحقوا ما تضمنته الآيات من اللعنة والتنديد والإنذار.
ولقد لحظ بعض المفسرين عدد النقباء في الآية ولحظوا أن المسيح عليه السلام اتخذ مثل عددهم تلامذة وحواريين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل على جماعات الخزرج والأوس حينما بايعوه بيعة العقبة الثانية اثني عشر نقيبا على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال حيث رأوا في هذا إلهاما ربّانيا متوافقا مع ما كان من ذلك بالنسبة لموسى أولا ولعيسى ثانيا عليهما السلام والله تعالى أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
.(9/75)
تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً ... إلخ والآية التالية لها. ومدى ما فيها من دعوة صريحة لأهل الكتاب وروعة أسلوبها وهدفها ورسل النبي صلى الله عليه وسلم وكتبه إلى ملوكهم. ومسألة تحريف وإخفاء الكتب السماوية السابقة
الآيتان موجهتان إلى أهل الكتاب وعبارتهما واضحة. وفيهما إيذان لهم بأنه قد جاءهم رسول الله ليبين لهم كثيرا مما أخفوا وأهملوا من كتاب الله وأحكامه.
وليتسامح معهم في أمور كثيرة. ومعه كتاب من الله ونور مبين من شأنهما هداية من حسنت نيته ورغب في رضاء الله ورضوانه إلى سبيل الأمن والسلام والطريق المستقيم وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
وينطوي في العبارة القرآنية تقرير كون ما جاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب ونور كفيلين بإنقاذ أهل الكتاب المخاطبين من الخلافات والإشكالات والانحرافات التي ارتكسوا فيها فأدّت إلى النتائج التي ذكرتها الآيات السابقة.
ولقد روى الطبري عن عكرمة أن يهودا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الرجم واجتمعوا في بيت فقال لهم أيّكم أعلم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ورفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم أن يقول الحق.
فقال إن نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل فاختصرنا.. فجلدنا مائة وحلقنا الرؤوس وخالفنا بين الرؤوس إلى الدواب. فحكم النبي صلى الله عليه وسلم على الزاني منهم بالرجم فأنزل الله يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ الآية وأنزل فيهم كذلك هذه الآية وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [76] . والآية الثانية من آيات سورة البقرة.
وجعلنا كمناسبة للرواية غريب. وروي مثل هذه الرواية كمناسبة لنزول آيات أخرى من هذه السورة. وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والسياق السابق لهما(9/76)
يسوغ التوقف في الرواية والقول إن الآيتين متصلتان بما سبقهما وإنهما جاءتا على سبيل الاستطراد إلى دعوة أهل الكتاب عقب الآيات الثلاث التي احتوت حكاية ما كان من نقض اليهود والنصارى لمواثيق الله وانحرافهم عنها وتعرضهم لسخط الله ونقمته بسبب ذلك وتقرير ما كان من واقع أمرهم عند نزولها لتهيب بهم إلى الانضواء إلى ما جاء به رسول الله والاهتداء بهدي نور الله وكتابه.
وأسلوب الدعوة في الآيتين قوي موجّه إلى العقل والقلب معا كما هو ظاهر. والمتبادر أنه ينطوي فيه قصد التأنيس والتذكير بما يجمع بين هذه الدعوة وأهل الكتاب من رسالات الله وكتبه ومواثيقه. وتقرير كونها بمثابة إنقاذ لهم مما هم فيه من خلاف ونزاع. وفرصة للسير في طريق الأمن والسلام.
ودعوة أهل الكتاب في هذه الآيات إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم المصدقة لما عندهم ليست جديدة. فقد تكررت في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة قبل هذه المرة. غير أنه يلحظ أنها جاءت هنا صريحة أكثر في بيان كون رسول الله قد أرسل إليهم وكون القرآن نورا وهدى لهم وأكثر تعميما وتوجيها في الخطاب.
ولما كان فريق من أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد آمنوا قبل نزول هذه الآية بالرسالة المحمدية في مكة ثم في المدينة نتيجة للدعوة السابقة ولما رآه الذين آمنوا من تطابق بينها وبين ما عندهم على ما ذكرته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة فتكون الدعوة في الآية استئنافية موجهة إلى الذين لم يؤمنوا بعد لأسباب متنوعة نبهنا عليها كذلك في مناسبات سابقة.
ومن الغريب أن تكون هذه الصراحة في هذه الآية- وقد جاء بعد قليل آية أخرى فيها صراحة قوية بأسلوب آخر- ثم يصرّ المبشرون وبعض المستشرقين على القول إن ما في القرآن من نصوص لا يدلّ على شمول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لغير العرب من الملل والنحل الأخرى. بل وإننا لنرى في هاتين الآيتين وفي الآية التي تأتي بعد قليل ما يمكن أن يكون فيه تأييد لما روته الروايات من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم رسله وكتبه(9/77)
إلى ملوك الأقطار المجاورة لجزيرة العرب وأكثرهم نصارى وهم ملوك الروم ومصر والحبشة وغسان والفرس يبلغهم أنه رسول الله إليهم ويدعوهم إلى الإسلام من حيث إن هذه الآيات وأمثالها وبخاصة الآيتين [66- 67] من هذه السورة اللتين سوف نشرحهما في مناسبتهما هي التي حفزت النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطوات عملية في سبيل تبليغ دعوته إليهم وإلى غيرهم من ملوك وأمراء وزعماء الأنحاء البعيدة عن الحجاز من جزيرة العرب مثل اليمن وحضرموت والبحرين وعمان. والروايات تذكر «1» أن هذا الأمر قد وقع بعد صلح الحديبية وفراغ بال النبي من قريش واليهود في المدينة والمقري الأخرى. وهذه الآيات قد نزلت على ما يلهمه سياق السلسلة منذ بدء السورة بعد صلح الحديبية.
ولقد أثرت نصوص مختلفة لكتاب الدعوة الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم للملوك وأشهرها هذا النصّ المعنون إلى هرقل (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين «2» يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) [آل عمران: 64] ) » .
ونحن نعرف أن بعض المستشرقين يشككون في ذلك بسبب ثغرات وعلل زعموها في النصوص العديدة المروية. بل وبعضهم يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر ابن سعد ج 2 ص 23- 27 وابن هشام ج 4 ص 278- 280 وكتاب الأموال للإمام القاسم أبي عبيد ص 20- 22. والخبر ورد في سياق طويل رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآية [64] من سورة آل عمران.
(2) فسر الإمام أبو عبيد الأريسيين بالأتباع والرعية.
(3) هذا النص وارد في الحديث الطويل المذكور الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن عباس انظره في التاج ج 4 ص 65- 69.(9/78)
لم يكن يفكر في خارج الحجاز أو على أبعد تقدير في خارج الجزيرة. ولم يكن ليجرأ على إرسال رسل وكتب إلى أكبر ملوك الأرض إذ ذاك. والثغرات المزعومة ليس من شأنها نفي أصل الخبر الذي أجمعت عليه الروايات القديمة. والقول بعدم التفكير في خارج الجزيرة يكذّبه ما يكاد يكون يقينيا من الجيش الذي سيره النبي صلى الله عليه وسلم في الظروف التي رويت فيها الروايات إلى مؤتة في البلقاء للانتقام من الذين قتلوا بعض رسل النبي صلى الله عليه وسلم ومن الجيش العظيم الذي قاده بنفسه إلى تبوك لتأديب قبائل النصارى في مشارف الشام ومقابلة ما بلغه من تجمع الروم لغزو المدينة نتيجة لغزوة مؤتة. أما القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليجرأ على إرسال رسله إلى ملوك الأرض فهو هراء بالنسبة إلى صاحب دعوة مؤمن بدعوته أعمق الإيمان ومستغرق فيها أشدّ الاستغراق ومعتقد بواجبه بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها وإبلاغها لجميع البشر تنفيذا لأمر ربه القرآني أقوى الاعتقاد. وقد رأى علماء اليهود الراسخين في العلم قد آمنوا بها ورأى النصارى الذين هم في الحجاز قد آمنوا بها ورأى وفود النصارى الذين فيهم القسيسون والرهبان قد آمنوا بها وقد فاضت أعينهم بالدموع مما عرفوا فيها من الحق على ما ذكرته الآيات العديدة التي أوردناها في مناسبات سابقة وبخاصة في مناسبة تفسير آية الأعراف [157] .
تعليق على الآية يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وما ينطوي فيها من قرائن وصور
هذا، وجملة يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ جديرة بالتنبيه من حيث انطواؤها على تقرير كون أهل الكتاب كانوا يخفون كثيرا مما عندهم من كتب الله. ومع أن(9/79)
تقرير القرآن فوق مستوى أي شكّ في صحته مبدئيا فإننا لا نشكّ في أن ذلك كان مما ثبت بوقائع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أهل الكتاب أيضا. ولعلّ أمر القرآن للنبي بتحدّي اليهود بالإتيان بالتوراة في موقف من مواقف مكابرة لهم على ما جاء في آيات سورة الأعراف [93 و 94] حيث شرحناه من الدلائل الحاسمة بالنسبة لليهود بخاصة.
ولقد آمن فريق من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية وبالقرآن لأنهم وجدوا بينهما وبين ما عندهم من الكتاب تطابقا وتوافقا على ما قررته آيات قرآنية عديدة منها آية الأعراف هذه الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [157] وآيات القصص هذه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وآيات المائدة هذه وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) «1» .
ولقد قلنا قبل إن هذه الدعوة المستأنفة هي موجهة بخاصة للذين لم يكونوا قد آمنوا بعد من أهل الكتاب. فتكون الجملة قد عنت هؤلاء في الدرجة الأولى.
والمتبادر أنهم كانوا ينكرون كثيرا مما عندهم ويخفونه بدافع البغي والمكابرة ولئلا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم مما أشارت إليه آيات عديدة منها آيات البقرة هذه وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
__________
(1) اقرأ أيضا آيات آل عمران [113- 114 و 199] والنساء [161] والأنعام [114] والرعد [36] والإسراء [107 و 108] والعنكبوت [47] ففيها شواهد أخرى على إيمان جماعات من أهل الكتاب وأهل العلم والراسخين في العلم بالقرآن والرسالة المحمدية وفرحهم بهما وتصديقهم بأنهما من عند الله تعالى.(9/80)
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وهذه وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وآيات آل عمران وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وفي آيات سورة آل عمران [93 و 94] شاهد قوي حاسم.
ولقد اتهم القرآن الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب بتحريف ما عندهم من كتب لنفس الدافع على ما جاء في آيات عديدة منها آيات البقرة هذه أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) ومنها آية سورة النساء هذه مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [46] وآية سورة المائدة [14] التي مرت قبل قليل. فجاءت هذه الجملة لتدمغهم بالإضافة إلى ذلك بإخفاء كثير مما عندهم وإنكاره أيضا لنفس الدافع. ولقد كان إيمان الذين آمنوا منهم فاضحا لهم في العملين معا ومصداقا لما قرره القرآن من ذلك بطبيعة الحال.
وقد يكون في هذا وذاك من ناحية ما تأييد لما فتئنا ننبه عليه من أن ما جاء في القرآن من تقريرات إيمانية وقصص متصلة بتاريخ وعقائد أهل الكتاب ولم يرد في أسفار أهل الكتاب المتداولة اليوم هو من جملة ما كان في أيديهم وما كانوا يخفونه أو يحرفونه بسبيل الإنكار والمكابرة. وقد ظلّ هذا دأب الذين لم يؤمنوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم عدت عليه العوادي أو أبيد نتيجة لذلك فلم يصل إلى زمننا.
وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم دلائل عديدة على أنه كان هناك أسفار(9/81)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
أخرى لم تصل إلينا على ما ذكرناه وسميناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [157] من سورة الأعراف. فيكون في ذلك دلالة من كتبهم التي يتداولونها ويقدسونها على ما قلناه.
وإذا كان كثيرا مما تقدم نتيجة إلى اليهود فإنه وبخاصة الآيات التي نحن في صددها ثم آيات القصص والأعراف يصدق على النصارى أيضا. وآيات سورة المائدة [82 و 83] التي أوردناها تنطوي بخاصة على موقف فريق من النصارى بصراحة. ومع ذلك ففي تعليقنا على كلمة الإنجيل في سياق آية الأعراف [157] أوردنا كثيرا من الشواهد التي نحن في صددها على كون النصارى أيضا كانوا يخفون ويبعدون ويحرفون كثيرا من أسفار وقراطيس نتيجة لما كان بينهم من خلاف وشقاق ونزاع. وكان كل فريق منهم يتهم الفريق الآخر بتحريف ما في يده من كتب وقراطيس «1» وكان عدد الأناجيل كبيرا جدا حتى ليصل في بعض الروايات إلى عشرين وبعضها إلى أكثر فاختفى معظمها أو باد أو أبيد. وكان ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. والنص القرآني صريح بأن ذلك كان قد امتد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذ أن طوائف كثيرة لم تؤمن بالنبي وظلّت على خلاف وشقاق فيما بينهم أيضا بعده فيكون ذلك قد امتد إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم أيضا.
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) .
__________
(1) انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية والجزء الثالث من تاريخ سورية للدبس وكتابنا القرآن والمبشّرون. وقد عقد رشيد رضا في تفسيره في سياق هذه الآية فصلا طويلا على تاريخ الأناجيل وما طرأ عليها من تحريفات. وفعل مثل ذلك في سياق تفسير الآيات المماثلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وآل عمران والنساء فليرجع إليها من أراد التوسع والاطلاع أيضا. [.....](9/82)
تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... إلخ
عبارة الآية واضحة. وفيها بيان لأحد انحرافات النصارى وتقرير كون الذين يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم كفارا بالله عزّ وجل. وسؤال في معرض التحدي موجّه إلى العقول والقلوب معا عما إذا كان أحد يستطيع أن يمنع الله عزّ وجل أن يهلك المسيح وأمّه ومن في الأرض جميعا. فهو صاحب ملك السموات والأرض وما بينهما خالق كلّ شيء والقادر على كل شيء.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية لنزول هذه الآية أيضا. ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وأنها هي الأخرى جاءت استطرادية لتشير إلى أحد انحرافات النصارى التي ارتكسوا فيها بقولهم إن الله هو المسيح نفسه بسبب عدم إدراكهم ما جاء به عيسى عليه السلام الذي أدى إلى ما أدى إليه من دبيب الخلاف والانقسامات والعداوة والبغضاء بينهم.
والآية صريحة بأن النصارى كانوا حينما نزلت يعتقدون أن الله تعالى هو المسيح. والمشهور الذي تفيده سلسلة آيات سورة مريم [16- 26] التي سبق تفسيرها أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أنه ابن الله. ومن المشهور أيضا أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أن المسيح هو أحد الأقانيم الثلاثة لله الواحد. وهذا قد يستفاد من آية سورة النساء [171] ومن آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد. غير أن ما نقلناه عن إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم من قصة بشارة الملك لمريم بالمسيح كغلام لها وحبلها به وولادته ورسالته يستتبع أن الله تعالى الذي هو عندهم أقنوم الأب كان شيئا آخر بشكل ما غير المسيح أقنوم الابن حينما حبلت به مريم ثم وضعته إنسانا ونشأ وعاش في الدنيا كذلك.
ولقد حكت الأناجيل على ما أوردناه في سياق سورة مريم أقوال المسيح التي منها أن أباه الذي في السموات هو الذي أرسله وأنه يفعل ويقول ما يأمره به حيث تستحكم العبارة القرآنية هنا في عقيدة النصارى بأن الله هو المسيح استحكاما(9/83)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
مفحما قويا. ولا سيما إنه كان بين النصارى من يعتقد أن المسيح لا يتساوى على أي حال في ألوهيته مع الله وأن طبيعته اللاهوتية والناسوتية ممتزجة بحيث لا يكون إلها كاملا ولا إنسانا كاملا. وكان هؤلاء أكثرية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم المعروفين باليعقوبيين والنسطوريين بالإضافة إلى مذاهب النصارى الأخرى فيه على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة مريم.
هذا والمتبادر أن الفقرة الأخيرة هي في صدد الردّ على ما في جعل ولادة المسيح الإعجازية سببا للاعتقاد بألوهيته أو نبوّته أو جزئية إلهيته له أو دليلا عليه من حجة قاصرة في سبيل الإفحام أيضا.
ولقد نبهنا في سياق وتفسير آيات النساء [171 و 172] إلى مزاعم بعضهم بكون الأقانيم هي صفات الله مثل صفات (الحيّ القيّوم العالم) التي وصف بها الله في القرآن ونبهنا على ما في هذا من تهافت ومغايرة لما جاء في الأناجيل نفسها فنكتفي هنا بهذه الإشارة.
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
. تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... إلخ
عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها حكاية لما كان يدعيه اليهود والنصارى من أنهم أولياء الله وذوو الحظوة عنده. وردّ إنكاري فيه تحدّ وإفحام. فالله يعذبهم كما يعذب غيرهم ولو كانوا كما يدعون لما كان ذلك. وإنهم لبشر كسائر البشر معرضون لغضب الله ورضائه وفاق أعمالهم. وإليه مصيرهم فيجزيهم عليها.
وقد روى الطبري أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلّموه وكلّمهم(9/84)
ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا ما تخوّفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحبّاؤه فأنزل الله الآية وتابعه المفسرون الآخرون في رواية الرواية.
ويلحظ أن الآية قد حكت قولا مشتركا منسوبا إلى اليهود والنصارى معا مما يسوغ القول أكثر أنها استمرار للسياق الاستطرادي. وأن أسلوبها وضمير الجمع المخاطب فيها من قبيل حكاية الحال والجواب عليها مما هو مألوف في النظم القرآني. وقد مرت منه أمثلة كثيرة. ولا يمنع هذا أن يكون هذا القول صدر من بعض اليهود في موقف ما وأن يكون صدر كذلك من بعض النصارى أيضا فاقتضت حكمة التنزيل حكايته في هذا السياق.
والمتبادر أن هذا القول الذي كان يصدر عن اليهود والنصارى كان يصدر في معرض التبجح بأنهم على هدى من الله وبأنهم مستغنون عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وهداه ردا على مخاطبتهم وتوجيه الدعوة إليهم بتصديق الرسالة المحمدية. وأسلوب الردّ قوي مفحم وبخاصة في هتافه بهم بأنهم ليسوا إلّا أناسا كسائر الناس فيهم قابلية الهدى والضلال والصلاح والخطأ.
ولقد حكت آيات عديدة في سورة البقرة وآل عمران والجمعة تبجحات اليهود بأنهم أولياء الله من دون الناس وبأن الدار الآخرة خالصة لهم وبأنهم لن تمسّهم النار إلّا أياما معدودات كما حكت آيات أخرى في سورة البقرة تبجحات النصارى واليهود معا بأنه لن يدخل الجنة إلّا من كان على دينهم وأن من أراد الهدى فعليه أن يكون على دينهم. وتكرر الحكاية يدل على تكرر المواقف بطبيعة الحال.
والقول المحكي وإن كان مطلقا فالمتبادر أنه قول الذين كانوا يصرّون على رفض الإجابة إلى الدعوة المحمدية ويقفون منها موقف العناد منهم. وقد ارعوى كثير منهم فآمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه وتابعوه على ما ذكرته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة.
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار وينعتون الله بربّ إسرائيل وينسبون إليه الوعود المتنوعة بالعناية بهم ورعايتهم في مختلف الظروف على(9/85)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
ما يستفاد من أسفار العهد القديم المتداولة المكتوبة بأقلام متأخرة بعد موسى عليه السلام والتي تأثرت كتابتها بأحداثهم وعقدهم على ما نبهنا عليه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [157] من سورة الأعراف. ولقد كان النصارى يقرأون في الأناجيل المكتوبة بدورها بأقلام متأخرة بعد عيسى عليه السلام أن الذين يؤمنون بعيسى وتعاليمه يدعون أبناء الله وأن المسيح كان ينعت الله بأنه أبوهم الذي في السموات. فالمتبادر أن هذا وذاك أيضا مما كان يحفز الذين ظلوا مناوئين للرسالة المحمدية من الطائفتين إلى ذلك التبجح ويتخذونه ذريعة للمناوأة. فردّت عليهم الآية بالردّ القوي المفحم.
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
. (1) أن تقولوا: لئلا تقولوا.
تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ... إلخ
عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها عودة إلى توجيه الخطاب إلى أهل الكتاب مع تعليل جديد. فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم على فترة وانقطاع من مجيء الرسل ليجدد عهد الله ويبين لهم حدوده. ويدعوهم إلى السير في نطاق ذلك حتى لا يبقى لهم حجة في البقاء على ما هم فيه من انحراف وشذوذ وانقسام. وحتى لا يقولوا إنه لم يأتهم بشير ونذير يبيّن لهم ما هم عليه من خطأ وضلال.
والجملة الأخيرة في مقامها ذات مفهوم جديد. فالله قدير على كل شيء.
ولا يحدّ قدرته شيء. وهو الذي أرسل الرسل الأولين الذين يعترفون بهم. وليس بدعا على قدرته أن يرسل رسولا من جديد.
ولقد روى الطبري أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا(9/86)