يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله لئلا يصيب العدوّ منه غرّة. حتى إذا كان الليل وفاء الناس إلى بعضهم قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق بها منّا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله لستم بأحق بها منّا نحن أحدقنا برسول الله وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فقسمها رسول الله على فواق بين المسلمين «1» . وأخرج ابن حبان حديثا عن عبادة أيضا جاء فيه: «فينا اصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله فقسمه بين المسلمين على السواء» «2» . وأخرج الإمام أحمد حديثا عن سعد بن أبى وقاص جاء فيه أن أخاه عميرا قتل في بدر ثم قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه فأمره رسول الله أن يطرحه في القبض (أي في الغنائم) فرجع وبه ما لا يعلمه إلّا الله من قتل أخيه وحرمانه من سلبه، فما جاوز إلّا قليلا حتى نزلت آيات الأنفال الأولى. فقال له رسول الله اذهب فخذ سلبك «3» .
رواية قصة سيف سعد رواها الترمذي في حديث صححه عن مصعب بن سعد عن سعد بصيغة أخرى جاء فيها «قال سعد لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله إنّ الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف، فقال هذا ليس لي ولا لك. فقلت عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي. وجاء الرسول فقال إنك سألتني وليست لي وقد صارت لي وهو لك قال ونزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» «4» . وروى الطبري روايات أخرى عن ابن عباس منها «أن النبي فضّل أقواما على بلاء أي قال من فعل كذا فله كذا. فأبلى قوم وتخلّف
__________
(1) النص من تفسير القاسمي وكتب السيرة أوردتها بشيء من الاختلاف، وتعبير (على فواق) بمعنى فورا بعد نزول الآيات.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) تفسير الطبري.
(4) التاج، ج 4 ص 107.(7/10)
آخرون فاختلفوا على الغنائم بعد انقضاء الحرب فجعلها الله لرسوله» . ومنها «أن الشبان يوم بدر تسارعوا إلى الحرب وبقي الشيوخ تحت الروايات فلما كانت الغنائم جاء الشباب يطلبونها فقال لهم الشيوخ لا تستأثروا عليها فإنّا كنا درءا لكم.
فتنازعوا فأنزل الله الآيات» «1» . وهناك رواية يرويها الطبرسي بالإضافة إلى الروايات السابقة عزوا إلى مجاهد تذكر «أن المهاجرين قالوا لماذا يرفع منّا الخمس ولماذا يخرج منّا فأنزل الله الآيات إيذانا بأن الأنفال جميعها لله ورسوله يقسمانها كيف شاءا» . ومع عدم نفي الروايات الأولى التي تنطوي على صور محتملة لما كان من أصحاب رسول الله حول قسمة غنائم بدر فإننا نميل إلى ترجيح صحة رواية الطبرسي عن مجاهد التي تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعزز خمس الغنائم لإنفاقه على مصالح المسلمين فاعترض فريق من المهاجرين على ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إيذانهم في أول السورة بأن الغنائم جميعها لله ورسوله. وقد يؤيد هذا نص الآية [41] من السورة التي انصبّ التشريع فيها أو انحصر بالخمس بأسلوب قوي يؤذن فيه المؤمنون بأن ذلك هو ما يجب أن يعلموه ويقفوا عنده. وقد يؤيده ذلك ما يلمح في الآيات التي بعد هذه الآيات من إيذان متكرر بأن ما أحرزه المؤمنون من انتصار على أعدائهم إنما كان بتأييد الله. كأنما يساق ذلك لتبرير هذا التشريع ولتوكيد القول إن الغنائم والحالة هذه من حقّ الله ورسوله وليس لهم أي حقّ باعتراض وخلاف. بل وكأنما كان نزول هذه السورة من أجل ذلك، والله تعالى أعلم.
ولقد اختلفت الاجتهادات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل فيما إذا كانت الآية [41] قد نسخت هذه الآيات أم لا. من حيث إن هذه الآيات جعلت الغنائم كلها لله ورسوله والآية [41] حصرت حق الله ورسوله بالخمس. وقد عزي إلى ابن زيد قول بأنها محكمة لأنها قررت مبدأ لا يصح عليه النسخ وتغيير وهو أن الغنائم لله ولرسوله يقسمانها كيف شاءا وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وما تقدم
__________
(1) هذه الرواية رواها أيضا أبو داود والحاكم بصيغة مقاربة. انظر التاج ج 4 ص 337. [.....](7/11)
من شرح يؤيد هذا الترجيح والتوجيه إن شاء الله.
ولقد روى البغوي عن عطاء أن جملة لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [4] تعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. وقد ساق المفسرون بعض الأحاديث عن منازل أهل الجنة ودرجاتها في سياق الجملة. والمتبادر أن الجملة هي بسبيل بيان مراتب المؤمنين العالية عند الله على سبيل الترغيب والتنويه وهو ما قرره غير واحد من المفسرين أيضا.
ولقد كانت جملة زادَتْهُمْ إِيماناً موضوع بحث كلامي فيما إذا كان الإيمان يزيد وينقص. ولقد بحثنا هذا الموضوع ومحّصناه في سياق جملة مماثلة في سورة المدثر فنكتفي بهذا التنبيه.
تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية
وبمناسبة الأمر بإطاعة الله ورسوله في الآية الأولى نقول إن مثل هذا الأمر قد تكرر كثيرا في السور المدينة دون السور المكية التي لم يرد فيها مثل هذا الأمر وإن أكثرها موجّه إلى المؤمنين. ومنها ما تكرر في هذه السورة مثل الآيات [20 و 47] وفي بعضها جعل ذلك دليلا على الإيمان. وفي بعضها جعلت طاعة الرسول من طاعة الله. وفي بعضها جعلت رحمة الله منوطة بذلك «1» .
والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في العهد المدني. لأن المؤمنين في العهد المكي كانوا قلّة مصفّاة مستغرقة في الله ورسوله ودينه. وكلهم دخلوا
__________
(1) انظر آل عمران [32 و 132] والنساء [13 و 51 و 58 و 68 و 79] والمائدة [95] والتوبة [73] والنور [51 و 52 و 54 و 56] والأحزاب [33 و 71] ومحمد [33] والفتح [16] والحجرات [14] والتغابن [12 و 16] . وفي السور المدنية آيات عديدة أخرى فيها توطيد لأوامر رسول الله وطاعتها بنصوص أخرى. وفي كل هذا ما فيه من دلائل على ما أعاره القرآن لهذا الأمر وخطورته.(7/12)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
الإسلام عن رغبة شديدة في الله ورسوله متحملين ما يمكن أن يتعرضوا له من أذى في النفس والمال فضلا عن أن ظروفهم في هذا العهد لم تكن تقتضي مخالفة لرسول الله أو ترددا في اتباع أوامره. في حين أنه استجد في العهد المدني فئات كثيرة منها من كان منافقا صريحا مع تراوح بين العنف وعدم العنف في النفاق ومنها من كان منافقا مستترا. ومنها من كان أعرابيا لما يدخل الإيمان في قلبه أو لم يكن ليعلم حدود ما أنزل الله. ومنها من دخل في الإسلام لمصلحة ذاتية ابتغاء جلب نفع أو دفع ضرر. وإن من هذه الفئات من كان يقف مواقف عصيان أو شك أو دسّ أو تربّص أو تمرّد عليهما أو صدّ عنهما. ولقد كان للمؤمنين المخلصين في هذا العهد وشائج قربى ومصالح مع المنافقين والكفار. ولقد صار لبعضهم مطالب ومطامح. وكان ذلك يجعل بعضهم يقفون مواقف تردد أو تساؤل أو انحراف ما عن جادة الحق ويخلطون عملا سيئا وآخر صالحا مما احتوت آيات كثيرة في سور مدنية عديدة صورا منه على ما سوف ننبّه عليه في مناسباته حيث اقتضت حكمة التنزيل موالاة الأمر بطاعة الله ورسوله بأساليب قوية وشديدة أحيانا. وفي هذا كما هو واضح صورة للمجتمع الإسلامي في العهد المدني. ولقد ظلت هذه الصورة هي القائمة إلى آخر العهد النبوي على ما تلهمه آيات سورة التوبة التي كانت من أواخر ما نزل من القرآن مع التنبيه على أن في هذه السورة إلى جانب الصورة المذكورة فضلا عن ما نزل قبلها من سور مدنية صور مشرقة لمؤمنين مخلصين مستغرقين في دين الله ورسوله وطاعتهما كل الإخلاص والاستغراق.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 14]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)
.(7/13)
(1) كما أخرجك: قال المفسرون إنها عطف تمثيلي تضمن الإشارة إلى مشادتهم ومجادلتهم في أمر الخروج مع النبي مثل ما تشادوا وتجادلوا في أمر الغنائم.
(2) غير ذات الشوكة: غير ذات القوة والسلاح.
(3) مردفين: ردفه بمعنى قام من ورائه وتبعه ودهمه. ومعنى الكلمة في مقامها متتابعين مددا وراء مدد.
(4) رجز الشيطان: بمعنى وسوسة الشيطان وتخويفه لهم.
(5) شاقّوا: من المشاققة وهي المكايدة والإعنات.
تتضمن الآيات إشارات تذكيرية وتنبيهية وتنويهية إلى ظروف مشاهد وقعة بدر كما يلي إيضاحه:
1- إن الله ألهم نبيه الخروج على العدو ووعده بالنصر على إحدى طائفتي العدو اللتين كانت إحداهما ذات شوكة وسلاح واستعداد للقتال.
2- ومع ما في أمر الله وإلهامه لنبيه من الحق والخير فقد أخذ بعض المسلمين يجادلون النبي في أمر الخروج والقتال كما جادلوه في أمر الغنائم، وتملكهم الخوف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي متيقنون من أنه واقع عليهم!.(7/14)
3- وقد كانوا يودون أن تكون لهم الطائفة الضعيفة مع أن الله قد أراد أن يحقق وعده بالنصر لهم على الطائفة القوية ليكون في ذلك قطع لدابر الكافرين فينتصر الحق ويعلو ويزهق الباطل ويسقط ويكون في ذلك إرغام وقهر للكافرين المجرمين.
4- ولقد أخذ المسلمون يستغيثون الله حينما واجهوا عدوهم القوي فاستجاب لهم بأنه ممدهم بألف من الملائكة لينجدوهم ويساعدوهم. وقد كان هذا من الله على سبيل تطمين قلوبهم وتسكين روعهم، فالله هو الذي نصرهم وهو العزيز القادر الحكيم.
5- ولقد ألقى الله عليهم النعاس ليكون لهم فيه راحة وهدوء، وأنزل عليهم المطر ليكون لهم فيه زيادة طمأنينة وتمكين وتثبيت قدم وإحباط لوساوس الشيطان لهم. ولقد أمر الله الملائكة ليكونوا في صفوف المسلمين ويثبتوا قلوبهم وأقدامهم مؤذنا بأنه سيلقي في قلوب الكافرين ويمكّن الملائكة أو المسلمين منهم ليضربوا أعناقهم وأياديهم. فقد شاقوا الله ورسوله وعاندوهما فاستحقوا شديد العقاب الذي يستحقه من يفعل ذلك. فليذوقوا طعم هذا العقاب الآن بما حل فيهم ولهم من بعده عذاب النار.
تعليق على الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [14] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر
والمتفق عليه أن هذه الآيات في صدد وقعة بدر. وواضح من أسلوبها وفحواها أنها نزلت بعد انتهاء المعركة وانتصار المسلمين فيها. وأنها استمرار للآيات السابقة التي نزلت هي الأخرى بعد انتهاء المعركة بسبب الخلاف على قسمة الغنائم.(7/15)
والآيات لم تحتو سياقا تاما عن الوقعة لأن قصتها لم تقصد لذاتها، وإنما قصد فيها التذكير والعتاب وبيان إرادة الله في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وإنزال العقاب الشديد في الكفار وقطع دابرهم. ومما يلمح من مقاصد الآيات تدعيم العتاب الموجه للمسلمين المعترضين وتأنيبهم على ما كان منهم من مشادة في صدد الغنائم بتقريرها أن الله هو الذي ألهم نبيه الخروج وأنه هو الذي رزقهم النصر والغنيمة معا على كره منهم.
وليس في هذه السورة ولا في غيرها إشارة أو وصف بأن الله قد أمر نبيه بالخروج ووعد المؤمنين بأن تكون إحدى الطائفتين أنها لهم. وهناك رواية يرويها المفسرون ووردت في كتب السيرة القديمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين خروجه إلى بدر سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين» . على ما سوف نذكره بعد. فإما أن يكون الأمر بالخروج والوعد نزلا قرآنا ثم رفعا لحكمة ربانية وإما أن يكونا إلهاما ربانيا ووحيا غير قرآني عبّر عنهما بما جاء في العبارة. وفي هذا صورة من النسخ القرآني في حياة رسوله إذا كان قرآنا ورفع، أو مظهر من مظاهر حكمة الله ورسوله إذا كان إلهاما ربانيا. أو صورة من صور الوحي الرباني إذا كان وحيا غير قرآني. ومن هذا الباب تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام على ما خمّنّاه وشرحناه في سياق تفسير آيات تحويل القبلة في سورة البقرة.
ولقد روت كتب الحديث والسيرة والتفسير والتاريخ المعتبر «1» تفصيلات لأحداث ومشاهد وقصة بدر متفقة في الجوهر مع تباين في الجزئيات والأسماء ومتّسقة في الوقت نفسه إجمالا مع مدى هذه الآيات وغيرها من آيات السيرة.
ومجمل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان بن حرب مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش (قافلة تجارية) وليس معه إلّا نحو ثلاثين أو أربعين رجلا، فندب المسلمين إليها، وقال لهم هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير وسيرة ابن هشام ج 2 ص 243- 420 وطبقات ابن سعد ج 3 ص 50- 66 وتاريخ الطبري ج 2 ص 131- 172.(7/16)
الله ينفلكموها. فخفّ بعضهم وثقل بعضهم وكان هؤلاء يظنون أن رسول الله لن يلقى حربا، وبلغ أبا سفيان خبر استنفار النبي له فأرسل رسولا إلى مكة لإنذارهم.
وأخذ حذره فسلك طرقا غير مطروقة واستطاع أن ينجو من الخطر ويتجه آمنا نحو مكة. وقد خرج رسول الله على رأس ثلاثمائة ونيف نحو ربعهم من المهاجرين والباقون من الأنصار في أوائل شهر رمضان للسنة الهجرية الثانية. وقد سارعت قريش حينما جاءها النذير إلى النفرة حتى لم يكد يتخلف من أشرافها أحد. ومن لم يستطع الخروج منهم بنفسه بعث رجلا مكانه حيث لم يكن أحد منهم إلّا وكان له شركة في القافلة.
وفي الطريق علم رسول الله أن أبا سفيان نجا مع القافلة وأن قريشا مقبلة نحوه في نحو ألف فيهم عدد كبير من زعمائهم حتى قال لأصحابه هذه مكة قد ألقت إليكم بأفلاذ أكبادها. وقد انقسم المسلمون في الرأي فريقين، منهم من قال إنما خرجنا للعير فلما نجت لم يعد حاجة إلى قتال، ومنهم من قال إذا عدنا اتهمتنا قريش بالجبن والفرار فلا بدّ من لقائهم. وجمع رسول الله كبار أصحابه من مهاجرين وأنصار وهتف بهم أن أشيروا عليّ، فقام أبو بكر ثم عمر ثم المقداد فقالوا فأحسنوا. ولكن رسول الله ظلّ يهتف قائلا أشيروا عليّ قاصدا سماع الأنصار لأن الأوّلين من المهاجرين. لأن الأنصار بايعوه على الدفاع عنه وكان يظن أنهم قد لا يرون عليهم نصرته إلّا ممن دهمه في المدينة. فقام سعد بن معاذ زعيم الأوس وقال يا رسول الله لكأنك تريدنا؟ قال: أجل، فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به الحق. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منّا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله «1» . فسرّ رسول الله ونشط بذلك ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله
__________
(1) هذه رواية ابن هشام عن ابن إسحق. وروى مسلم عن أنس حديثا جاء فيه: «إن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر ثم تكلم عمر فأعرض عنهما فقام سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا..» انظر التاج ج 4 ص 366. واختلاف الروايتين في اسم الزعيم القائل ليس من شأنه الإخلال بجوهر الرواية.(7/17)
تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وكما انقسم المسلمون في قتال المشركين انقسم المشركون في قتال المسلمين. حيث قال فريق إنا خرجنا لإنقاذ القافلة وقد نجت فلم يعد سبب للقتال. ورفض فريق على رأسهم أبو جهل أن يعودوا إلّا بعد ورودهم بدرا وكان مكان مياه وموسم عربي عام وإقامتهم ثلاثة أيام يأكلون ويشربون ويلهون حتى يهابهم العرب. وغلب هذا الفريق الفريق الآخر الذي أراد السلامة والعودة وخشي من مغبّة الحرب ومآسيها على الفريقين، وفيهم الأرحام الواشجة، ولم يعجب ذلك من كان بالجيش من بني زهرة وبني عدوا فرجعوا ولم يشهدوا المعركة.
وهكذا صار اللقاء محتما، ولقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم أدنى ماء بدر فأشار عليه المنذر بن الحباب إذا لم يكن منزله بأمر الله أن يتقدم حتى يكون جميع الماء وراءه فيشرب المسلمون ويعطش المشركون فاستحسن رأيه وتقدم إلى حيث أشار قائلا:
إن منزله ليس بأمر الله إنما هو رأي اجتهد فيه.
وبدأت المعركة بمبارزات فردية كان الغالبون فيها أصحاب رسول الله حيث قتل حمزة وعلي وغيرهما مبارزيهم من شبان وصناديد قريش. ثم تهيأ الفريقان للتزاحف، وأخذ رسول الله حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وسوّى صفوف أصحابه ثم قال لهم شدّوا فشدّوا فالتحم الفريقان وحميت المعركة وانجلت عن هزيمة المشركين وقتل منهم نحو سبعين وأسر مثلهم. وكان في عداد قتلاهم عدد كبير من صناديدهم. واستشهد من المسلمين أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وكان النصر يوم السابع عشر من رمضان على أشهر الروايات. وكان عدد المسلمين ثلاثمائة ونيفا وعدد المشركين نحو ألف. وقد وصّى النبي بالأسرى خيرا ونهى عن التمثيل بالقتلى. واستثنى من الأسرى اثنين كانا من أشدّ المشركين(7/18)
أذى ومناوأة له وللمسلمين وهما النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط حيث أمر بقتلهما ثم قفل بالمسلمين راجعا. وفي الطريق اختلفوا على قسمة الغنائم وأنزل الله الشطر الأكبر من سورة الأنفال فأفرز النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم الخمس وقسم الباقي على شاهدي المعركة للراجل سهم وللفارس سهمان وقيل ثلاثة. ونفل نفلا منها لمن كان له بلاء خاص. وكان بعض المؤمنين المخلصين قد تخلفوا لأعذار منهم عثمان بن عفان فقسم لهم من الغنائم وعاد بالأسرى إلى المدينة إلى أن افتداهم أهلهم على ما سوف نشرحه في مناسبة آتية.
وهناك بعض مشاهد أخرى رويت في سياق آيات أخرى تأتي بعد قليل سنلمّ بها في مناسبتها.
ولقد توطدت في هذه المعركة أخوة الجهاد بين المهاجرين والأنصار كما توطدت من قبل أخوة الدين. ولقد كان نصر الله لنبيه والمؤمنين فيها من أقوى دعائم الدعوة الإسلامية وعوامل توطدها. ولذلك فإنها شغلت حيزا خطيرا في السيرة النبوية. ونال الذين شهدوها من المسلمين من التنويه والتكريم ما خلّد لهم الذكر وأحاطهم بهالة من الإجلال والإكبار في تاريخ الإسلام. ومن أروع ما كان من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم المأثور فيهم الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي:
«لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» .
ومما تذكره الروايات من مشاهد يوم بدر أن المسلمين بنوا للنبي عريشا والتمسوا منه أن يكون فيه ليكون من ورائهم درءا لهم فجلس مستقبلا القبلة يناشد ربّه. وفي هذا المشهد يروي البخاري عن عمر أنه قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل القبلة ومدّ يديه فجعل يهتف بربّه اللهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر الرداء فألقاه على منكبيه ثم التزمه
__________
(1) انظر الحديث في التاج، ج 4 ص 232.(7/19)
من ورائه وقال يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) » «1» .
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خفق خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله. هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع» .
وتروي الروايات عن بعض شهود المعركة أنهم كانوا يشعرون بأن الملائكة يقاتلون معهم. وأن بعضهم سمع هتافهم وبعضهم رآهم عيانا معتمّين بعمامات بيضاء وخضراء وصفراء راكبين على خيل بلق. وبعض هذه الروايات رواها مسلم عن ابن عباس قال: «بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتدّ في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقف ورأى فارسا يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك فإذا هو قد خطّم أنفه وشقّ وجهه كأنما كان ذلك بضربة سوط، فجاء الرجل وحدّث رسول الله فقال: صدقت ذلك مدد السماء» «2» .
وأمر الملائكة من المسائل المغيبة الواجب الإيمان بكل ما يخبره القرآن عنهم. وقد أخبر القرآن بأن الله أيّد المسلمين في هذه الوقعة بالملائكة فوجب الإيمان بذلك والوقوف عنده وإذا كان شيء يمكن أن يقال في صدد ما جاء في الآيات أن الآيات لا تفيد أن المسلمين رأوا الملائكة وإنما تتضمن إخبارا بعد الوقعة بأن الله أيدهم بالملائكة ثم تذكرهم بما كان من استغاثتهم وما كان من استجابة الله لهم مما قد يلهم أنهم تمنوا على الله أن يؤيدهم ويمدهم بالملائكة.
فلما اشتدّت المعركة وقطع المسلمون صلتهم بالدنيا واستغرقوا في الجهاد في سبيل الله ولم يكن في أذهانهم إلّا الله ورسوله ودينه شملتهم العناية الربانية وأيقنوا أن الله قد استجاب لهم وأمدهم وأيدهم بملائكته وشعروا بحقيقة ما أخبرهم الله به في الآيات بعد الوقعة.
__________
(1) التاج، ج 4 ص 365- 366.
(2) المصدر نفسه، ص 367.(7/20)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
ويلفت النظر بخاصة إلى الأسلوب الاستدراكي الذي تضمنته الآية [10] .
فهذه الروحانية التي شملتهم وجعلتهم يشعرون ما أخبر الله به بعد المعركة بأن الملائكة يقاتلون معهم إنما كانت للتطمين والبشرى. وإلّا فالنصر هو من الله عزّ وجل. والمتبادر أن هذا الاستدراك قد استهدف نزع ما قد يمكن أن يعلق في ذهن أحد من المسلمين من عقيدة تأثير الملائكة. وهي العقيدة التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام. وكان العرب بقوتها يعبدون الملائكة تقربا بهم إلى الله، وفي هذا ما فيه من التلقين التوحيدي البليغ المستمر المدى.
وفي صدد ما جاء في الآيات من غشيان النعاس للمسلمين والمطر الذي أنزله الله عليهم من السماء نقول: إن المسلمين كانوا على ما يبدو على شيء من التهيّب والتعب وكانوا في حاجة إلى الماء حتى يشربوا ويغتسلوا وتثبت الأرض تحت أقدامهم وكان في كل هذا مجال لوسوسة الشيطان وتخويفه وإثارته القلق في نفوسهم فكان من عناية الله بهم وتأييده أن سلّط عليهم النعاس فجعلهم يستغرقون في نوم أزال عنهم تعبهم وأنساهم قلقهم وأنزل عليهم المطر ليشربوا ويغتسلوا ويتزودوا بالماء ولتجمد الأرض تحت أقدامهم، ثم كانت تلك الروحانية التي شملتهم وأنزلت على قلوبهم الطمأنينة والسكينة وأشعرتهم بتأييد الله لهم بملائكته أيضا.
وكل هذا تأييد رباني لرسول الله والصادقين من أصحابه تدخل في نطاق المعجزات ويمكن أن تكرر في كل موقف جهادي إيماني يقفه المؤمنون الصادقون من أعداء الله وأعدائهم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
.(7/21)
(1) فلا تولّوهم الأدبار: فلا تقلبوا ظهوركم للعدو وتفروا من أمامه.
(2) متحرّفا لقتال: قاصدا أسلوبا من أساليب القتال والحركات الحربية.
(3) متحيّزا إلى فئة: منضما إلى جماعة أخرى للتعاون على القتال.
(4) وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا: ليكون به للمؤمنين عمل فيه النفع والخير والحسنى.
(5) إن تستفتحوا: إن تطلبوا الفتح والنصر أو إن تطلبوا حكم الله لأن كلمة الفتح جاءت في بعض آيات القرآن بمعنى الحكم. ومن ذلك آية الأعراف رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [89] .
في الآيتين الأولى والثانية: خطاب موجّه للمسلمين شدّد فيه التنبيه والإنذار بعدم الفرار من أمام العدو حينما يتزاحفون على بعضهم للقتال. ومن يفعل ذلك بدون قصد حربي مشروع كاستهداف أسلوب من أساليب القتال أو الانحياز إلى فئة مقاتلة أخرى من جماعته فقد باء بغضب الله واستحقّ النار وبئس ذلك من مصير له ولأمثاله.
وفي الآية الثالثة: 1- تقرير رباني موجّه فيه الخطاب أولا إلى المسلمين بأنهم ليسوا هم الذين قتلوا الكفار وإنما الذي قتلهم هو الله. وثانيا إلى النبي بأنه ليس هو الذي رمى فأصاب ولكن ذلك هو الله.
2- وتنبيه بأن الله عز وجل قد أراد بما جرى أن يكون للمؤمنين فيه البلاء الحسن الذي لهم فيه الخير والثواب وأن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به.
وفي الآية الرابعة: إيذان بأن الله قد ألهم ويسّر ما كان إيهانا لقوة الكافرين(7/22)
وإحباطا لمكرهم وكيدهم.
وفي الآية الخامسة: خطاب موجّه للكفار على سبيل الإنذار والتحدي، فإذا كانوا ينتظرون حكم الله بينهم وبين المسلمين فقد جاء حكمه عليهم بما كان من نصره للمسلمين. وإذا كانوا ينتهون مما هم فيه من كفر وعناد وعداء فهو خير لهم وأفضل. وإذا عادوا إلى العدوان والبغي فإن الله لهم بالمرصاد ولن تغني عنهم جموعهم مهما كثرت. لأن الله مع المؤمنين دائما.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وما بعدها إلى آخر الآية [19]
والآيات كما هو المتبادر استمرار تعقيبي للآيات السابقة وقد نزلت مثل سابقاتها بعد الوقعة وبرغم تنوع الجهات المخاطبة فيها فإنها تبدو وحدة متماسكة.
وهذا ما جعلنا نعرضها وحدة تامة.
ولقد روى المفسرون روايات عن بعض أمور حدثت، وأقوال قيلت كانت سببا لنزول هذه الآيات «1» .
منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من تراب أو من حصباء فرمى بها نحو الكفار قبل الاشتباك قائلا: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلّا وأصابه شيء منها وأن الآية [17] تشير إلى ذلك، ومنها أن أبا جهل وقف عند الكعبة قبل خروجه إلى بدر ودعا الله أن ينصر الأهدى والأفضل من الفريقين وأن يفتح عليه وأن يخذل أقطعهما للرحم، وأن الآية [19] تشير إلى ذلك. ومنها أنه كانت مفاخرات بين المسلمين بقتل فلان فلانا وأن الفقرة الأولى من الآية [17] في صدد ذلك.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن، وانظر سيرة ابن هشام مبحث وقعة بدر.(7/23)
ومهما يكن من أمر هذه الروايات فإن الآيات يمكن أن تلهم حدوث شيء مماثل لما ورد فيها. كما أن الآية [17] يمكن أن تلهم معنى أشمل من الردّ على ما كان من تفاخر بعض المسلمين وهو أن الله هو الذي نصرهم وهزم أعداءهم وكبتهم وأن هذا لم يكن لو لم يلهمهم الله الدخول في المعركة ويثبت أقدامهم وقلوبهم فيها في حين أن بعضهم كان يتهيب منها. والفقرة الأخيرة من الآية [19] قرينة قوية على هذا التوجيه. ولعل فيها تدعيما لما استهدفه مطلع السورة فالله هو الذي ألهم ونصر وقتل ورمى، والأنفال من أجل ذلك هي منوطة بأمره ولا يحق لأحد أن يدّعيها.
ومع ما في الآية الأخيرة من التحدي والإنذار للكفار فقد احتوت أيضا دعوة من جديد إلى الحق والصواب والكفّ عن الموقف الباغي الجحودي. وقد جاءت الدعوة من جانب الغالب للمغلوب. وفي هذا ما فيه من جليل التلقين ورائعه في صدد مبادئ الجهاد الإسلامي وفي صدد هدف الرسالة المحمدية في هداية الناس على اختلافهم ومختلف مواقفهم ودعوتهم المرة بعد المرة وفي كل مناسبة وظرف إلى الحق والصواب والخير والإسلام مما تكرر في الآيات القرآنية المكيّة والمدنيّة وفي الظروف المماثلة أيضا.
ولم يرو المفسرون شيئا في مناسبة الآيتين الأوليين أي [15 و 16] وكل ما قالوه أنهما نزلتا في أهل بدر. وكلامهم يفيد أنهما نزلتا قبل المعركة مع أن كل الآيات السابقة واللاحقة من السورة نزلت بعد انتهاء المعركة على ما يلهمه فحواها ونبهنا عليه قبل.
وقد تلهمان أنه لوحظ على بعض المسلمين حين اشتداد المعركة شيء من الاضطراب أو أن بعضهم كاد ينكشف للعدو فاقتضت الحكمة هذا التنبيه والإنذار الشديدين اللذين احتوتهما الآيتان بالنسبة للمستقبل. والحكمة في هذا التشديد القاصم واضحة. والتلقين فيها مستمر المدى. فإن الجهاد ثبات وجلد. وفرار واحد من الصف قد يخلّ الصف كله. وقد يضيع ثمرة النصر ويقلبه إلى هزيمة(7/24)
وكسرة. ولقد كان من الممكن أن يتغير مجرى تاريخ الإسلام لو انكسر المسلمون في وقعة بدر. وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه المروي: «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» .
ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن هاتين الآيتين هما خاصتان بيوم بدر لا قبله ولا بعده، وأن بعض المؤمنين ولّوا الأدبار يوم أحد ويوم حنين فعفا الله عنهم كما جاء في آية سورة آل عمران [155] وآيات سورة التوبة [25- 27] ومعنى هذا أن الآيتين منسوختان. على أن هناك من قال إنهما محكمتان وإن توبة الله وعفوه عن المتولّين يوم أحد ويوم حنين أمر خاص لا يستوجب نسخ حكمهما. وقد رجّح الطبري هذا القول وفي هذا سداد وصواب.
وإطلاق الكلام في الآيتين يؤيد ذلك حيث يلهم بقوة أنهما بالنسبة للمستقبل عامة، ولا سيما نزلتا بعد معركة بدر على ما رجّحناه قبل. ولقد روى الخمسة حديثا عن أبي هريرة يذكر فيه «من الموبقات السبع التولّي يوم الزحف» «1» . وروى الطبري عن ابن عباس قولا جاء فيه «أكبر الكبائر الشرك بالله والفرار يوم الزحف» . والحديثان هما بالنسبة لكل موقف ويدعمان قول محكمية الآيتين وشمولهما لكل موقف.
تعليق على ما قيل في مدى جملة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى
لقد اتخذ بعض الكلاميين هذه الجملة حجّة على إثبات عدم تأثير أي مؤثر في شيء ما لذاته، فالنار في رأي القائلين لا تحرق وإنما الحارق الله. والسكين لا تذبح بذاتها وإنما الذابح الله ... إلخ «2» .
وهذا للرد على مذهب كلامي آخر يقول بتأثير عمل الإنسان ومسؤوليته عن الأثر الذي يحدثه ومع تسليمنا بصواب استلهام نصوص القرآن وتلقيناته ومبادئه في
__________
(1) انظر الحديث في التاج، ج 4 ص 81.
(2) انظر تفسير الجملة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.(7/25)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
الحجج الأصولية والفقهية والكلامية والاجتماعية والأخلاقية فإن الذي يتبادر لنا أن أسلوب الآية [17] التي فيها الجملة هو أسلوب تعبيري اقتضاه المعنى الذي أريد تقريره في الموقف الذي استدعى هذا التقرير على نحو ما ذكرناه في شرحها وما نرجو أن يكون هو الصواب. وإذا لا حظنا أن هناك آيات كثيرة جدا ورد فيها تقرير نسبة الفعل وأثره لفاعله وترتيب مسؤولية هذا الفعل وأثره على الفاعل في الدنيا والآخرة مما هو في غنى عن التمثيل هنا لوروده في معظم السور القرآنية المكية والمدنية ساغ القول إن في تحميل الآية ذلك المعنى واستنباط تلك الحجة منها تجوّزا وابتعادا عن التساوق مع النصوص القرآنية. على أن من المعروف من ناحية البحث الكلامي أن الذين يقولون بطبيعة النار الإحراقية وطبيعة السكين الذابحة يقولون أيضا إن الله قد جعل في النار طبيعة الإحراق وفي السكين طبيعة الذبح كما أودع في الإنسان قابلية العمل وحرية التمييز والاختيار. وهذا على ما هو واضح هو المتّسق مع طبيعة الأشياء ومع حكمة الله ونواميسه في خلقه والمنسجم مع العبارات القرآنية التي تنسب الفعل لفاعله وتقرر مسؤوليته من أجل ذلك عنه وتخاطب الناس على أساس هذا المفهوم.
هذا، ولبعض الصوفيين شطح آخر في تأويل الجملة حيث يستنتجون منها أن فعل العبد هو عين فعل الله بقصد إثبات كون ذات العبد هو عين ذات الله أو صورته تعالى الله. وقد تصدى الإمام ابن تيمية لذلك فيمن تصدوا له ونبّه على ما فيه من مغالطة ومفارقة بل وكفر إذا أريد القياس عليه فيقال للماشي ما مشيت ولكن الله مشى. وللآكل والشارب والصائم والمصلي بل وللكافر والكاذب والزاني والزانية والقاتل والسارق مثل هذا والعياذ بالله تعالى «1» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 26]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) .
__________
(1) انظر كتاب مصرع التصوف لعبد الرحمن الوكيل.(7/26)
(1) الفتنة: هنا بمعنى الفساد والخلاف والنزاع.
في هذه الآيات:
1- نداء موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بإطاعة الله ورسوله وينهون عن الانصراف عنه وعدم الأبوه لأوامره وهم يسمعونها عنه. ويحذرون من أن يكونوا كالذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون فلا يستجيبون إلى ما يسمعون.
2- ونعي على الذين لا يستجيبون إلى دعوة الحق ولا يقبلونها. فشرّ الناس عند الله هم الذين بعدم استماعهم للحق وانصياعهم له كالدواب والصمّ والبكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم. ولكنهم في حالتهم هذه قد فقدوا كل قابلية للخير والانصياع للحق، فلو سمعوا لما استجابوا ولا نصرفوا عن النداء وأعرضوا.
3- ونداء آخر موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه الاستجابة إلى الله ورسوله إذا ما دعاهم الرسول وبلغهم دعوة الله إلى ما فيه حياتهم ومصلحتهم. ويحذرون من أن الله يحول بين المرء وقلبه وينذرون بأنهم محشورون إليه ليؤدوا حساب أعمالهم.
4- ودعوة للمؤمنين إلى اجتناب الفتنة. والتعاون على درئها. وتخويف من نتائجها فهي لا تصيب بشرّها الظالمين الذين يثيرونها فقط ولكنها كثيرا ما تكون(7/27)
عامة الضرر، وتنبيه على أن الله شديد العقاب يجب الحذر منه وعدم المخالفة لأوامره.
5- وتذكير بما كانت عليه حالتهم، وبما صارت إليه بفضل الله، تذكيرا ينطوي فيه تدعيم لواجب الاستماع والطاعة عليهم. فلقد كانوا قليلين ضعفاء في خوف دائم من أذى الكفار وبغيهم فآواهم الله إلى ساحة الأمن والطمأنينة، وجعلهم أقوياء بعد ضعف وأعزّاء بعد هوان. وأيدهم بنصره. ورزقهم من الطيبات. وكل ذلك يتطلب منهم الشكر له وطاعته وطاعة رسوله والانصياع لأوامرهما ونواهيهما.
تعليق على ما روي في صدد الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وما بعدها إلى الآية [26] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات
روى بعض المفسرين أن الآيتين [22 و 23] نزلتا في بني عبد الدار الذين لم يكن أسلم منهم أحد إلّا مصعب بن عمير. أو في النضر بن الحرث الذي كان يقول للناس أنا أحدثكم بأحسن مما يحدثكم محمد. وروى بعضهم في صدد الآية [25] أن الزبير بن العوام قال: قد قرأنا هذه الآية زمنا وما نرانا من أهلها فإذا نحن المعنون بها مشيرا بذلك إلى ما تورط به هو وغيره فيه من الفتن في زمن عثمان بن عفان وبعده، ومما رواه بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينما نزلت هذه الآية: «من ظلم عليا بعد وفاتي فكأنما جحد بنبوتي ونبوّة الأنبياء من قبلي» «1» .
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والذي يتبادر لنا أن
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي. والرواية الأخيرة من مرويات الطبرسي الشيعي.(7/28)
الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا وبظروف وقعة بدر وموقف بعض المسلمين فيها ومعقبة عليه. وهذا ما تلهمه روح الآيات التي تؤكد وجوب طاعة الله ورسوله واتقاء الفتن والخلاف وعدم التردد في الاستجابة إلى ما يدعوهم إليه الله ورسوله وفيه خيرهم وحياتهم. وتحذير من عدم الانصياع ومن نتائج ذلك. وإنها لتلهم هي والآيات السابقة أن موقف بعض المسلمين من النبي وأوامره قبل المعركة ثم حول قسمة الغنائم كانا مؤلمين له صلى الله عليه وسلم وكادا يثيران فتنة بين المسلمين في الوقت نفسه فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بها بالأسلوب الشديد الذي جاءت به مهددة منذرة منبهة. ونرجح أن تكون نزلت هي وما قبلها دفعة واحدة أو متتابعة.
أما الروايات المروية في صدد صلة الآيات بالفتنة المريرة في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما فإن أثر الفتنة ظاهر فيها ويسوغ التوقف في صحتها أو القول إنها أخذت على ذلك بعد وقوع الفتن من قبيل التطبيق ورائحة الهوى والوضع الشيعيين عاقبة في الحديث الذي يرويه الطبرسي عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن علي رضي الله عنه.
ولقد أورد الطبرسي مع الحديث المذكور حديثا آخر معزوا إلى أبي أيوب الأنصاري ويرويه رواة شيعيون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّار: «يا عمّار إنه سيكون بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضا وحتى يبرأ بعضهم من بعض. فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب.
فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي. وخلّ الناس.
يا عمار إن عليا لا يردك عن هوى ولا يدلك على ردى. يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله» . وأثر الصنع الحزبي بارز لذلك بقوة على هذا الحديث أيضا.
ولقد قال بعض المفسرين «1» في تأويل جملة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إن الله قد يميتكم بغتة فتفوتكم فرصة الطاعة والاستجابة لله
__________
(1) انظر تفسيرها في مجمع البيان الطبرسي.(7/29)
والرسول. وذلك بسبيل الحثّ على المسارعة إلى الطاعة والاستجابة. وقال آخرون إنها من قبيل وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وإنها بمعنى أن الله يحول بين عقله وماذا يعمل فيتركه في حيرة، أو أنه يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان «1» . والقول الأول هو الأوجه كما يتبادر لنا، ومما يتبادر لنا أن يكون انطوى في الجملة تنبيه بأن الله قد يبتلي المترددين المتأخرين في الاستجابة والطاعة فتقسو قلوبهم ويفقدون قابلية الخير والانصياع للحق. وعلى كل حال فالجملة تستهدف الحثّ على الإسراع للاستجابة والطاعة كما يتضح من الإمعان في السياق.
وقد قال بعض المفسرين «2» في تأويل جملة وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ إنها بمعنى لو كان الله يعلم فيهم قبولا للهدى وإقبالا على الحق لأسمعهم ما ينصرفون عن سماعه. وقال بعضهم: إنها بمعنى أن الله لو علم فيهم استعدادا للسمع لأسمعهم الجواب عن كل ما سألوا «3» . وكلا التأويلين وجيه.
ومما يتبادر لنا أن الجملة هي بشأن بيان حالة الصمّ البكم الممثلة بهم حالة الفئة المقصودة التي تقول سمعنا وهم لا يسمعون وأنها بسبيل تقرير أن الله يعلم أن الصم البكم لا يمكن أن يسمعوا ولو سمعوا صوتا ما لا يمكن أن يعقلوه ويردوا عليه. وأن هذه الفئة المقصودة مما انطوى في نفوسها خبث وسوء نيّة وعناد لا يمكن أن تسمع ولو سمعت لا يمكن أن تعقل لأنها كالصمّ البكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون. أما الفئة المقصودة فالغالب أنها المنافقون والذين في قلوبهم مرض.
فهم الذين يقولون سمعنا وأطعنا. وحقيقة حالهم هي أنهم لم يؤمنوا ولم يسمعوا ولم يطيعوا.
ومع خصوصية موضوع الآيات وظروفها فإنها تنطوي على حكم جليلة مستمرة التلقين.
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير.
(2) انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي. [.....]
(3) انظر تفسيرها في الطبري والخازن.(7/30)
فمن واجب المؤمنين أن يسيروا في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وألا يكابروا في الحق ويترددوا في تأييده والانصياع له.
ومن واجبهم أن يقفوا في وجه الفتن والمنكرات والفساد ويتعاونوا على درئها وكبح جماح مثيريها لأن نتائجها لا تنحصر في المثيرين لها وإنما تشمل غيرهم ممن ليس له يد فيها ولا دخل.
وجملة لِما يُحْيِيكُمْ ذات مغزى تلقيني عظيم بنوع خاص حيث يمكن أن يستنبط منها أنه ليس للسلطان في الإسلام أن يدعو المسلمين لغير ما فيه خيرهم ومصلحتهم وصلاحهم وأنه ليس عليهم واجب الإجابة والطاعة له إذا خرج عن هذا النطاق. وهناك حديث يرويه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لذلك جاء فيه: «السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره. ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» .
ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية [25] خاصة أحاديث نبوية عديدة بسبيل تأويلها وتوضيح مداها والتحذير من الفتن وعواقبها أخرجها الإمام أحمد منها حديث جاء فيه: «إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة» . ومنها حديث جاء فيه «إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمّهم الله بعذاب من عنده» فقالت أم سلمة التي يروى عنها الحديث: «يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان» . ومنها حديث جاء فيه «ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع لا يغيّره إلّا عمّهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب» .
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح قوية المدى في بابها منها حديث
__________
(1) التاج، ج 3 ص 40.(7/31)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
رواه أصحاب السنن عن أبي بكر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم الله بعقاب» «1» . وحديث رواه الترمذي والطبري عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» «2» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
. (1) فتنة: هنا بمعنى ابتلاء واختبار أو سبب للافتتان والانحراف.
(2) فرقانا: هنا بمعنى الهداية والنصر والتأييد أو القدرة على تمييز الحق من الباطل.
وفي الآيات نداء موجه إلى المؤمنين:
1- يحذرهم وينهاهم من خيانة الله وخيانة رسوله وخيانة أماناتهم عن علم وعمد.
2- وينبههم إلى ما في أموالهم وأولادهم من سبب لفتنتهم ويشوقهم إلى ما عند الله من عظيم الأجر كأنما يقال لهم: إن ما عند الله أحسن وأفضل من الأموال والأولاد وإن عليهم أن لا يدعوا أموالهم وأولادهم يفتنونهم عن واجبهم ويوقعونهم في إثم خيانة الله ورسوله وأماناتهم فيستحقون غضب الله ويحرمون مما عنده من فضل وأجر.
__________
(1) التاج، ج 5 ص 204 و 205.
(2) المصدر نفسه.(7/32)
3- ونداء ثان موجه إليهم منطو على التقرير بأنهم إذا اتقوا الله وراقبوه وأخلصوا النية في أعمالهم ومقاصدهم رزقهم الله التأييد وقوة تمييز الحق من الباطل وجنبهم المزالق وكفّر عنهم سيئاتهم وغفر لهم ذنوبهم. فهو ذو الفضل العظيم الذي يشمل من اتّقاه وراقبه وأخلص النية والصدق في عمله ومقصده.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) والآيتين اللتين بعدها
وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي حذّر يهود بني قريظة من النزول على حكم سعد بن معاذ حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وضيّق عليهم عقب انسحاب جيوش الأحزاب التي غزت المدينة وحاصرتها مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق أو الأحزاب حيث خيروا في النزول على حكم سعد وكان حليفهم وهو زعيم الأوس فأشار إليهم أبو لبابة إشارة معناها أنهم سيذبحون ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه في سارية من سواري المسجد وحلف أن لا يبرح ولا يذوق طعاما وشرابا حتى يموت أو يتوب الله عليه ثم تاب الله عليه.
ورووا كذلك أنها نزلت في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان يقول له: إن محمدا يريده فخذ حذرك منه. ولا تذكر الرواية الثانية وقت هذا التحذير. ووقعة الخندق كانت بعد وقعة بدر بمدة طويلة. وأشير إليها إشارات عديدة في سورة الأحزاب. فمن المستبعد أن تكون هذه الآيات نزلت في صدد أبي لبابة ووضعت في سياق سورة الأنفال بدون مناسبة والروايات لم ترد في كتب الصحاح. ويلحظ من جهة أخرى أن الآيات منسجمة نظما وسياقا مع ما قبلها مما يجعلنا نرجّح أنها هي الأخرى متصلة بظروف ومشاهد وقعة بدر. ولقد أقبل بعض المجاهدين بعد الوقعة فاحتازوا بعض الأسلاب بدون علم النبي وإذنه. وكان ذلك من أسباب الخلاف الذي وقع ونزلت الآيات الأولى من السورة فيه فأمر النبي بأن يعيد كل(7/33)
امرئ ما أخذه حتى يقسم بينهم فلا يبعد أن يكون بعضهم تلكأ في ردّ ما في يده فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآيات في سياق ما أوحي في صدد مشاهد الوقعة محذرة مشوقة منبهة. ولقد ذكرنا في خلاصة وقعة بدر أن أبا سفيان شعر بحركة خروج النبي والمسلمين للتعرّض لقافلته. وقد يسيغ هذا فرض صحة الرواية الثانية. ولعله كان للرجل الذي حذّر أبا سفيان أوشاج من قربى وأموال في مكة ففعل ما فعل، ليكون له يد عند أبي سفيان بسبيل وقاية أمواله وأقاربه.
ولا عبرة بما جاء في الرواية من وصف الرجل بالمنافق الذي قد يوهم أنه من أهل المدينة فقد يكون ذلك من الراوي على اعتبار أنه لا يفعل ذلك إلّا منافق.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق تفسير سورة الممتحنة حادثا مماثلا وقع في ظروف عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة لفتحها في السنة الثامنة للهجرة.
حيث كتب حاطب بن أبي بلتعة وهو من المهاجرين إلى أبي سفيان يخبره بالأمر وعلم النبي بذلك فأرسل فاستردّ الرسول وعوتب حاطب فاعترف وقال إني مؤمن مخلص ولي أموال وأقارب في مكة وليس لهم من يحميهم فأردت أن أتخذ يدا عند أبي سفيان، وصدّقه الرسول فعفا عنه وقال لعمر الذي طلب أن يضرب عنقه: «وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وكان حاطب ممن شهد بدرا. وإلى هذا الحادث أشارت الآية الأولى من سورة الممتحنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا ...
إلخ «1» .
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن ما احتوته من أوامر ونواه وتحذير وتشويق هو عام التوجيه والشمول. وفيها تلقينات أخلاقية واجتماعية ونفسية جليلة مستمرة المدى انطوى مثلها في آيات عديدة مرّ تفسيرها. وننوّه بخاصة بما يعده الله تعالى في الآية [29] من وعود جليلة للمؤمنين إذا ما اتقوا الله توكيدا لوعود كثيرة سابقة.
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 232.(7/34)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
وجملة لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) جديرة بالتنويه كذلك. فخيانة الله ورسوله تعني خيانة الإسلام والمسلمين والانحراف عن أوامر الله ورسوله. والأمانة لذلك هي رأس الأمانات والحالة هذه والخيانة لذلك هي رأس الخيانات بطبيعة الحال. ومن تلقينات الجملة أن مصلحة الإسلام والمسلمين هي مصلحة كل مسلم وأن خيانتها هي بمثابة خيانة المرء لنفسه. ولا يفعل هذا إلّا فاقد الإيمان والعقل والبصيرة.
[سورة الأنفال (8) : آية 30]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)
. (1) ليثبتوك: ليقيدوك أو يحبسوك.
في هذه الآية تذكير موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما كان من موقف الكفار في مكة إزاءه حيث تآمروا على سجنه أو قتله أو إخراجه فأحبط الله مكرهم بمكر أقوى وأنفذ.
تعليق على الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ (1) أَوْ يَقْتُلُوكَ
لقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مكية. وروى بعض المفسرين ذلك عن بعض التابعين وذكر ذلك السيوطي أيضا «1» . والصورة التي احتوتها الآية مكية من دون ريب. غير أن أسلوبها تذكيري مشابه لصورة مكية أخرى في الآية [26] التي يدل مضمونها على مدنيتها دلالة قطعية تسوغ نفي مكية الآية التي نحن في صددها وترجيح مدنيتها هي الأخرى والقول إنها جاءت لتعقب على الآيات السابقة التي نوهت بما كان من نصر الله لنبيه والمؤمنين في بدر ولتذكر بما كان من
__________
(1) الإتقان ج 1 ص 15 وانظر كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم.(7/35)
نصر الله لنبيه في مكة حينما مكر به كفارها وتآمروا عليه وتنجيته إياه. وجمهور المفسرين يديرون الكلام عن الآية في هذا النطاق.
ويروي المفسرون في صدد جملة أَوْ يُخْرِجُوكَ أن المتآمرين قالوا نخرجه من بين أظهرنا ليذهب أنّى شاء لا نبالي بما يصنع. وهذا غريب فالمتآمرون يجتمعون للتشاور في الطريقة المثلى لمنع تفاقم خطر النبي فكيف يقول بعضهم بتركه حرا يذهب أنّى شاء؟ والمعقول أنهم قصدوا بذلك أن يخرجوه بالقوة إلى منفى إجباري يقيم فيه معزولا فتفشل حركته ويؤمن خطره. وليس ثمة معنى يصح أن يتبادر في هذا المقام غير هذا إلّا أن يقال إن مقترح هذا القول من الذين كانوا يميلون إلى بني هاشم أو ينتمون إليهم بنسب أو من الذين كانوا يعترفون في قرارة نفوسهم بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حقّ ويخشون الدمار والاضطهاد من متابعته على ما شرحناه في سياق الآية [57] من سورة القصص. وعلى كل حال فإن ما حكته الآية لا يمكن أن يكون موضع تنفيذ وتحقيق إلّا من قبل من هم قادرون عليه. وهذا يسوغ القول بالتبعية إن أصحاب السلطة الحكومية في مكة كانوا هم المتآمرون أو على رأسهم وقد ذكرت الروايات أن اجتماع المتآمرين كان في دار الندوة، وهذه الدار كانت مجتمع أصحاب السلطة والشأن من زعماء قريش على ما تذكره الروايات أيضا.
ونرى أن نستدرك أمرا في صدد معنى الإخراج، ففي السور المدنية آيات عديدة تذكر أن كفار قريش أخرجوا النبي والمسلمين أو أن النبي والمسلمون أخرجوا من ديارهم مثل آيات البقرة [191] وآل عمران [195] والتوبة [41] والحج [40] والحشر [8] والممتحنة [1] والطلاق [8] فالمتفق عليه أن هذه العبارات عنت في مقامها الإلجاء أو الاضطرار إلى الخروج بشدّة المضايقة والمناوأة وليست في معنى الإخراج أو الطرد عنوة وبالقوة وهذا غير ما يتبادر لنا من كلمة يُخْرِجُوكَ في الآية التي نحن في صددها والله أعلم.(7/36)
استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين
والمتفق عليه أن تآمر المشركين الذي حكته الآية وذكرت به قد أدّى إلى هجرة النبي والمسلمين من مكة إلى المدينة. فصارت المناسبة واردة لشرح كيفية وظروف هذا الحدث التاريخي العظيم ولقد أسهب المفسرون في سياق هذه الآية ثم في سياق آيات آل عمران [98- 103] في ذلك وروت تفصيلاتها كتب السيرة القديمة أيضا.
وملخص ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا رأى شدة مناوأة زعماء قريش له ويئس منهم ومن استجابة معظم أهل مكة نتيجة لذلك. وتوفّي عمه أبو طالب وكان ذلك في آخر السنة العاشرة من بعثته والذي كان ينصره عصبيّة ومعه جلّ بني هاشم. ثم توفيت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها بعد عمّه بنحو شهر ونصف، والتي كانت من أقوى مشجعيه ومهدئيه، فضاقت مكة على نفسه وكاد ييئس منها وأخذ يفكر في مخرج خارج مكة فسافر إلى الطائف لعله يجد فيها سمعا ونصرا فخاب أمله على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [29- 32] من سورة الأحقاف. ثم أخذ يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وعرض نفسه في الجملة في السنة العاشرة على جماعة من الخزرج من أهل المدينة ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فانشرحت صدورهم وكانوا يسمعون من اليهود الذين كانوا في المدينة أنه يوشك أن يبعث الله نبيا من العرب مما أشارت إليه الآية [89] من سورة البقرة على ما شرحناه في تفسيرها. فقالوا لبعضهم: لعله النبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه بالتصديق والإسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنعرض عليهم أمرك فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك «1» .
__________
(1) قصدوا ما كان بين الأوس والخزرج من عداء وأيام حربية أشير إليها في آيات [98- 103] من سورة آل عمران على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ونسجل أسماء هؤلاء النفر لتكريمهم وتخليدهم وهم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله رضوان الله عليهم.(7/37)
ولما رجعوا أخبروا قومهم وأخبروا جماعة الأوس أيضا حيث كانوا آنذاك في تهاون فانشرحت صدورهم فلما كانت السنة القابلة جاء وفد خليط من الخزرج والأوس واجتمعوا برسول الله عند هضبة من هضاب مكة الخارجية فآمنوا وبايعوه على الإسلام. وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه داعيا وقارئا وإماما. فأخذت دائرة الإسلام تتسع في المدينة. فلما كانت السنة القابلة وهي الثالثة في تاريخ الاتصالات بين النبي والأوس والخزرج جاء وفد كبير مؤلف من نحو سبعين من القبيلتين فاجتمع بهم في المكان الأول «1» وأخذ بيعتهم على الإسلام ورحبوا بهجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة وعاهدوه على الدفاع عنه ونصرته واختار منهم اثني عشر رجلا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس فسماهم النقباء «2» .
ورجعوا دعاة للإسلام مع مصعب داعية النبي الأول فاتسعت دائرة الإسلام حتى لم يبق بيت إلّا دخله وقد أشارت آية سورة الحشر إلى ذلك وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [9] ومن ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة فأخذوا يهاجرون فردا بعد فرد وفوجا بعد فوج فيلقون الترحاب والرعاية.
ولقد شعر زعماء قريش بالحركة فاستشعروا بخطر عظيم لم يستشعروا به من قبل حيث كانوا يقولون إن النبي لن يلبث أن يموت فينتهي أمره وهو ما أشارت إليه آية سورة الطور أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) وحيث حسبوا أن اتفاق النبي مع أهل المدينة وإسلامهم وهجرته مع أصحابه إليهم سوف يفتح عليهم باب خطر عظيم متعدد الوجهات لأن المدينة كانت طريق تجارتهم وكان الأوس والخزرج أولي حرب وبأس. فرأوا أن يدبروا تدبيرا يدرأ هذا الخطر فاجتمعوا في
__________
(1) يوصف الاجتماع الأول عند الهضبة في تاريخ السيرة بالعقبة الأولى والثاني بالعقبة الثانية، والعقبة بمعنى الهضبة.
(2) هذه أسماؤهم للتكريم والتخليد: أسعد بن زرارة، عبد الله بن رواحة، رافع بن مالك، البراء بن معرور، عبد الله بن حرام، عبادة بن الصامت، سعد بن عبادة، المنذر بن عمرو، سعد بن الربيع من الخزرج، وأسيد بن خضير، سعد بن خيثمة، رفاعة بن عبد المنذر من الأوس رضوان الله عليهم.(7/38)
دار الندوة فاقترح بعضهم اعتقال النبي وتقييده بالحديد وحراسته حتى يموت.
واقترح بعضهم إخراجه ليذهب أنى شاء فيستريحوا منه. واقترح بعضهم قتله بواسطة شباب من مختلف بطون قريش ليفترق دمه ولا تقدر عشيرته على حربهم جميعا ثأرا له فيرضون بديته. ورأوا أن هذا هو الأهم فاتفقوا عليه وندبوا شبابا لرصده وتنفيذ القرار وهذا ما أشارت إليه الآية التي نحن في صددها ... وأخبره الله بواسطة جبريل وحذره من المبيت في بيته وفراشه فأمر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يعيش معه بالنوم مكانه والتسجّي ببرده الأخضر الذي يستجّى به عادة عند النوم. ثم تسلل إلى دار أبي بكر رضي الله عنه. وكان هذا قد اعتزم الهجرة فقال له رسول الله على رسلك عسى أن يأذن الله بالخروج. فحبس نفسه لصحبة رسول الله وأعد راحلتين واعتنى بعلفهما. فلما دخل إلى بيت أبي بكر قال له إن الله قد أذن لي بالخروج. فركبا الراحلتين بعد الغسق وخرجا إلى جبل ثور من جبال مكة حيث كمنا في غار ثلاث ليال خشية أن يبعث زعماء قريش في طلبه حينما يفتقدونه. وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ثم يدلج إلى مكة كأنه بات فيها فيتسمع الأخبار ويعود بها إليهما بعد الغلس. وكان لأبي بكر راع يروح عليهما في الغلس أو الفجر فيجلب لهما الحليب الذي يغذيهما. ولقد صدق ظنّ رسول الله حيث تروي الروايات والأحاديث أنهم أرسلوا من يلتمسونهما في شعاب مكة. ومرّ بعضهم بالغار حتى لقد تسلقه بعضهم وشعر بذلك أبو بكر فارتاع أشدّ الروع وقال للنبي: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحتهما، فقال له: يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟ مما أشارت إليه آية سورة التوبة هذه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) .
ولما سكن عنهما الطلب خرجا من الغار واستأجرا دليلا أخذ بهم طريق(7/39)
السواحل. ولقد رصد الكفار جائزة كبيرة لمن يقتله أو يأسره فتصدّى له رجل من بني مدلج اسمه سراقة بن مالك ولكن الله منعه. إذ ساخت أقدام فرسه ورأى من تأييد الله لرسوله ما جعله يوقن أنه ذو شأن عند الله فاستأمن وأعلن مسالمته وأخذ من النبي عهدا له ولقومه. وسمع المسلمون في المدينة بخروجهم فأخذوا ينتظرون من يوم إلى يوم حتى بلغ ضاحية قباء من المدينة فنزل فيها على آل عوف وأنشئوا أول مسجد في الإسلام فيها ولبث بضع ليال ثم سار نحو المدينة. وكان المسلمون مبتهجين فرحين بقدومهم وكل منهم يدعوه للنزول عندهم فطلب منهم أن يدعوا راحلته تسير حتى تبرك في مبرك يشاؤه الله. وقد بركت في مربد ليتامى فاشتراه وهيأه مع أصحابه ليكون له مسجدا وبيتا «1» .
ولقد كان حادث نجاة النبي صلى الله عليه وسلم من مكر الكفار وهجرته إلى المدينة ثاني أعظم أحداث السيرة النبوية وأبركها بعد الحدث الأعظم الأول وهو نزول الوحي على رسول الله بأمر الله وقرآنه. حيث انفتح الأفق الواسع أمام الدعوة الإسلامية وانتشارها وانتصارها. وتحقق قول الله تعالى في آية سورة التوبة وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [40] .
والروايات في تاريخ بدء الهجرة النبوية ووصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مختلفة وليس هناك أثر وثيق صحيح السند وأشهر الروايات أن خروجه كان في أول شهر ربيع الأول ووصوله في نحو منتصفه، والله تعالى أعلم.
ولقد كان في إقدام المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله على ترك وطنهم وذوي أرحامهم وأموالهم وبيوتهم في سبيل الله تضحية عظمى فكانت موضوع تنويه الله عز وجل في آية سورة الحشر هذه: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ
__________
(1) هذا تلخيص ما رواه المفسرون وكتب السيرة والحديث. انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم وسيرة ابن هشام ج 2، ص 92- 110، وطبقات ابن سعد ج 1، ص 210- 224، والتاج ج 3 ص 235- 243 وج 4، ص 117.(7/40)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) .
[سورة الأنفال (8) : آية 31]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
. في الآية تذكير بقول كان يقوله الكفار حينما كان يتلى عليهم القرآن حيث كانوا يقولون إنه أساطير وقصص الأولين ولو شئنا لقلنا مثله.
تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآية أيضا مكية. وبعض المفسرين والسيوطي يؤكدون ذلك أيضا، وما قلناه في صدد مكية الآية السابقة وترجيح مدنيتها يصحّ قوله هنا، وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا.
ولقد روى المفسرون أن صاحب هذا القول النضر بن الحرث. وقد كان تاجرا يختلف إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم وإسفنديار وأحاديث العجم.
ويجتمع اليهود والنصارى ويسمع ما يقولون ويقرأون من الكتب فيأتي فيحدث به الناس، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وصار يتلو ما أنزله الله عليه من فصول وفيها قصص الأولين صار يقول ما حديث محمد بأحسن من حديثي وإنه استكتبه من أساطير الأولين ولو شئت لقلت مثله.
ولقد ذكر اسم النضر في مناسبات مماثلة عديدة على ما ذكرناه في سياق تفسير السور المكية، وكثرة ترداد الاسم في هذا المقام قد يجعل العز وصحيحا مع احتمال كون الذين كانوا يقولون مثل هذا القول أكثر من واحد على ما قد يلهمه مضمون الآية والله أعلم.(7/41)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
وعلى ضوء الآيات القرآنية العديدة يصح أن يقال بجزم إن ما نسب إلى النضر أو غيره من قول هو من قبيل التبجح الناتج عن الظن بأن أسلوب القرآن ليس مما يفوق مدارك الناس ... وإن ما يخاطبون به ليس مما يجهلونه كما هو المتبادر. ومع ما فى هذا من حقيقة فقد تحداهم القرآن في مكة بالإتيان بمثله أو بعشر سور أو بسورة أو بحديث فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما مرّ شرحه في سياق تفسير سور يونس وهود والإسراء والقصص والطور. ثم تحداهم القرآن بعد الهجرة في آيتي سورة البقرة [23- 24] فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما شرحنا في سياق تفسيرهما. حيث ينطوي في ذلك تكذيب التبجح المذكور الذي فات قائليه إدراك كون القرآن ليس فقط كلاما ونظما وقصصا يسهل تقليده وإنما هو روحانية ومبادئ وصدق لهجة ودعوة وقوة إيمان وتلقين لا يمكن أن يكون صادرا من بشر وإنما هي وحي رباني فوق مقدرة البشر.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 37]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)
. (1) مكاء: صفير.
(2) تصدية: تصفيق.(7/42)
في الآيات:
1- حكاية بأسلوب تذكيري لما كان الكفار يقولونه على سبيل التحدي والاستهتار والسخرية حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم القرآن ويقول لهم إنه وحي من الله تعالى.
2- ردّ على تحديهم وسخريتهم وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمن تقرير ما يلي:
1- إن الله تعالى إذا لم يكن قد صبّ عليهم العذاب الذي تحدوه فإنما ذلك لأن النبي كان بينهم، كأنه يراد القول إن سنة الله جرت على أن ينزل الله عذابه على الكفار بعد خروج أنبيائه من بين ظهرانيهم. وهو ما قررته آيات كثيرة في السور المكية.
2- وإن الله لم يكن ليعذبهم أيضا وهم يستغفرون.
3- وإنهم مستحقون لعذاب الله بعد ما بدا منهم ما بدا من الكفر وبخاصة من الصدّ عن المسجد الحرام بدعوى أنهم أولياؤه وأصحابه في حين أنهم ليسوا كذلك في الحقيقة. لأن أولياءه هم الذين يتقون صاحبه الحقيقي أي الله ويخافونه ويقفون عند حدوده ولا يصدون عن سبيله ولو كان أكثرهم يجهل هذه الحقيقة أو يتجاهلها. ولا سيما أن صلاتهم التي يؤدونها عند البيت ويعتبرون أنفسهم أولياءه بسببها ليست إلّا صفيرا وتصفيقا وليس فيها خضوع وخشوع يدلان على أنهم مخلصون لربّ البيت فعلا.
4- وخطاب موجه إلى الكفار على سبيل التأنيب بعد ما وقع عليهم في بدر ما وقع مما اعتبر عذابا ربانيا: أن ذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. كأنما أريد أن يقال لهم إن الله قد صدق وعده واستجاب لدعاء الكفار وتحديهم بالعذاب بعد أن أخرج النبي وأصحابه من بين أظهرهم.
5- وتقرير ينطوي على تقريع وإنذار وشماتة بما كان ويكون من الكفار.(7/43)
فهم ينفقون أموالهم ويؤلبون الناس للصدّ عن سبيل الله. وسيذهب ما ينفقون هباء. وسيكون عليهم حسرة. وسيغلبون في الدنيا. ثم يحشرون إلى جهنّم في الآخرة. ولقد اقتضت مشيئة الله أن يميز الخبيث من الطيب وأن يجتمع الخبيث بعضه إلى بعض وأن يلقى في جهنّم وأن يكون أصحابه هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
تعليق على الآية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وما بعدها إلى آخر الآية [37]
المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات أيضا عدا الأخيرة مكيات مثل الآيتين [30 و 31] وروى الطبري أن الآية [33] نزلت في مكة ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فاستغفر لمن بقي فيها من المسلمين ثم خرج هؤلاء فعذب الله الكفار. وهناك حديث يرويه الشيخان عن أنس جاء فيه: «قال أبو جهل اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إلى جملة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» «1» . هذا في حين أن أسلوب الآية الأولى من الآيات الخمس تذكيري مثل أسلوب الآيتين [31 و 32] اللتين رجحنا مدنيتهما لمشابهة أسلوبهما لأسلوب الآية [26] التي لا خلاف في مدنيتها. وفي الآية [36] أمر إنما كان منهم بعد الهجرة وهو الاستعداد للحرب والإنفاق في سبيلها.
وجملة فَذُوقُوا الْعَذابَ في الآية [35] هي على الأرجح إن لم نقل الأحسم في صدد ما وقع عليهم في بدر. ولهذا كله لا يمكن التسليم بمكية الآيات
__________
(1) التاج، ج 4 ص 109.(7/44)
بل يمكن الجزم بمدنيتها. ونميل إلى القول إن في الحديث لبسا حيث يتبادر أنه لما نزلت الآية الأولى ذكر اسم الشخص الذي حكت قوله فصار وهم أن الآيات نزلت حين قال هذا الشخص ما قال مع أن الآية التي حكت قوله جاءت بأسلوب تذكيري كما قلنا آنفا.
ولقد روى الطبري أن الآية [36] نزلت في أبي سفيان وغيره ممن وتروا في بدر حيث أخذوا يبذلون جهودهم ويجمعون الأموال وينفقونها في سبيل تحشيد الناس وتحريضهم على الحرب لأخذ الثأر من النبي والمسلمين بعد هزيمتهم في بدر. والرواية محتملة جدا وفيها دليل آخر على أن الآية وما قبلها مدنيات أيضا.
والذي يتبادر لنا على ضوء ما تقدم وعلى ضوء فحوى الآيات والسياق أن هذه الآيات جاءت لتذكر بما كان من تحدي كفار قريش واستعجالهم لعذاب الله على سبيل السخرية ولتبرر عدم إيقاع الله عذابه عليهم قبل هجرة النبي والمؤمنين وإيقاعه العذاب عليهم بعد الهجرة ولتذكرهم بذلك ولتنذرهم بهزائم أخرى بسبب استمرارهم في مواقف الصدّ وتحشيدهم للحرب وبذلهم الأموال في سبيل الله وما سوف يكون من حسرتهم ثم بالعذاب الأخروي الشديد، والله تعالى أعلم.
والخازن يروي أن جملة وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نزلت في ظروف وقعة الحديبية لأن كفار قريش منعوا رسول الله وأصحابه من زيارة الكعبة أو أنها تشير إلى ذلك. وهذا غريب. ومقام ورود الآيات وبعد الزمن والمناسبة وبين وقعة بدر ووقعة الحديبية يسوغ التوقف في هذه الرواية والترجيح بأنها قصدت التذكير بما كان من كفار قريش من منع المسلمين وبخاصة ضعفاءهم من الصلاة عند الكعبة في العهد المكي مما وردت الإشارة إليه في آيات سورة الحجج [25- 28] على ما شرحناه في سياق تفسيرها ومما روته روايات أيضا، ومما أريد به كذلك تبرير ما وقع على المشركين من عذاب يوم بدر.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة وَما(7/45)
كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
(33) منها أن الله كما أنه لم يشأ أن يعذبهم والنبي بين ظهرانيهم لم يشأ أن يعذبهم وبعض المسلمين ما زالوا بين ظهرانيهم وكانوا يستغفرون الله فلما خرج هؤلاء عذبهم.
ومنها أن القصد من ذلك ما كان يصدر من الكفار من كلمات الاستغفار مثل غفرانك اللهمّ حيث كانوا يعتقدون أن الله هو الغفار الحقيقي لأنه هو الخالق القادر المدبر. ومنها أن الله لم يكن ليعذبهم لو استغفروه عما بدا منهم وتابوا وأنابوا.
ولعل التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع مقاصد الآيات والوقائع. فالمشركون ظلوا يقولون بطبيعة الحال غفرانك اللهمّ، ولكن الله عذبهم بسبب استمرارهم على الصد عن المسجد الحرام وهو ما انطوى في الآية [34] وليس في الآيات قرينة تبرر صرف الضمير في جملة يَسْتَغْفِرُونَ إلى المسلمين الذين بقوا في مكة. والنظم يقتضي أن تكون الجملة حكاية عن الكفار.
هذا، والآيات قوية محكمة مفحمة في تقريعها وإنذارها وتقريراتها وبخاصة بمجيئها عقب وقعة بدر التي نال الكفار فيها ما نالهم من خسارة وهوان.
ومع ذلك فإن من الحق أن نقول إنها من قبيل تسجيل واقع أمر الكفار ومواقفهم حين نزولها. ولقد آمن جميع من بقي حيّا منهم تقريبا عقب الفتح المكي وحسن إسلامه وسجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه. فيكون ما فيها إنذارا وتقريرا في صدد العذاب الأخروي قائما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم.
وجملة وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً تدل على كل حال على أن المشركين كانوا يؤدون عند الكعبة طقوسا يسمونها صلاة وإن لم يرد بيان وثيق يزيد الأمر وضوحا.
ولقد أورد ابن كثير وغيره في سياق الآية [33] أحاديث عديدة، منها حديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) إذا(7/46)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» «1» . ويفيد الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الآية منطلقا عاما للمسلمين أيضا بقطع النظر عن كونها في صدد المشركين.
ومنها حديث عزاه ابن كثير إلى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عزّ وجلّ» . وفي هذا الحديث دعم لما قلناه من اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم الآية منطلقا عاما للمسلمين والله أعلم. والتطمين والتبشير من الحكمة الملموحة في الأحاديث. وفي القرآن آيات كثيرة بالأمر بالاستغفار. وقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
. تعليق على الآية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة ولا يروي المفسرون رواية خاصة بنزولها والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة على نتائج نصر المسلمين في وقعة بدر كما هو المتبادر. وفيها إشعار بما أثاره هذا النصر في المسلمين من عزة وقوة.
وفيها مع ذلك دعوة فيها تسامح وتسام، حيث يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة كفار قريش بعد أن انتصر عليهم إلى الانتهاء من موقف العناد والعداء والجحود فيغفر الله لهم كل ما سلف منهم، ويوكل أمرهم إلى الله العليم البصير في أمورهم ومقاصدهم ثم
__________
(1) التاج، ج 4 ص 109.(7/47)
فيها إيعاز للمؤمنين فإن الكفار إذا أبوا إلا الاستمرار على ذلك الموقف الباغي فعليهم قتالهم باستمرار إلى أن لا يكون في الأرض فتنة ويكون الدين كله لله وليعلموا أن الله مولاهم وناصرهم عليهم وهو نعم المولى ونعم النصير.
وفي أسلوب الإنذار والإعلان والدعوة تلقين قرآني جليل رائع ومستمر المدى: فكل ما ينبغي أن يطلبه المسلمون من أعدائهم الذين يقاتلونهم حينما يقابلونهم بالمثل أن يرعووا عن غيّهم وبغيهم وأن يسيروا في طريق الحق الذي فيه خيرهم ومصلحتهم فإذا فعلوا هذا سقط عنهم كل إثم ارتكبوه وصاروا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وفي إحدى آيات سورة التوبة يأتي هذا المعنى أصرح حيث جاء فيها: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) .
ولقد قال المفسرون في صدد الآيات [38- 40] وفي صدد كلمة (الفتنة) بعض ما قالوه في صدد آيات البقرة [191- 193] التي تكاد تكون تكرارا لها، ولقد علقنا على آيات البقرة بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة إلى التكرار والزيادة.
ومن الجدير بالتنبيه أن الآية قد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما أمرتهم به بعد أن انتصروا على الكفار حيث ينطوي في هذا بالإضافة إلى ما قلناه من تسامح وتسام اتساق مع الهدف الجوهري القرآني وهو حملهم على الارعواء والاهتداء بنور الله والسير في طريق الحقّ الذي هو مصلحتهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين وصفهما بالصحيح جاء في أحدهما: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» وجاء في ثانيهما: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها» . والحديث الأول من مرويات مسلم «1» . وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 110.(7/48)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
[سورة الأنفال (8) : آية 41]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
. (1) يوم الفرقان: المقصود هنا يوم النصر الذي يسّره الله للمؤمنين ففرّق بذلك بين أصحاب الحقّ وأصحاب الباطل.
شرح الآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... وما ورد في صددها من تأويلات وأحاديث وتعليقات عليها
في الآية إعلام للمسلمين على سبيل التشريع، فإن أي شيء غنموه فإن خمسه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وتوكيد عليهم بالوقوف عند هذا الأمر إذا كانوا قد آمنوا بما أنزل الله على نبيه من النصر يوم التحام المعركة بينهم وبين الكفار. وهو يوم الفرقان الذي فرّق الله به بين الحق والباطل ونصر الحق وأزهق الباطل.
وتخصيص التشريع بالخمس يؤكد كما قلنا الرواية المروية عن مجاهد التي أوردناها في سياق شرح الآيات الأولى من السورة من كون الخلاف والاعتراض كان على إفراز الخمس من الغنائم، فنزلت هذه الآية التشريعية بأسلوبها القوي لإقرار ذلك.
ومع أن الغنائم التي وقع عليها الخلاف واقتضت حكمة التنزيل إنزال هذا التشريع فيها هي غنائم بدر، فإن أسلوب التشريع جاء مطلقا ليكون خمس كل غنيمة يغتنمها المسلمون للجهات التي ذكرها التشريع حكما شرعيا مستمرا.(7/49)
وهذا الحكم ذو خطورة عظمى من ناحية كونه أول تشريع قرآني مالي ورسمي محدد يستولي بموجبه السلطان الإسلامي الذي كان يتمثل حين نزوله في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وينفقه على المصالح الإسلامية التي تتمثل حسب نص التشريع في الله ورسوله وذي القربى «1» . وعلى الطبقات المعوزة التي تتمثّل في اليتامى والمساكين وابن السبيل. وهكذا جعل التشريع القرآني مساعدة الطبقات المعوزة أساسية في نظام الدولة الإسلامية المالي كما هو واضح، فكانت الشريعة الإسلامية في ذلك أسبق الشرائع إلى تقرير هذا الأمر على الوجه والشمول والصراحة الذي جاء عليه. ولقد نبهنا على ما لهذا الأمر من خطورة في بيان المجتمع الإسلامية وصلاحه وأمنه وما انطوى فيه من حكمة ربانية في تعليقنا على الزكاة في تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه.
وقد وصفنا تشريع الخمس بالأولية لأن مصارف الزكاة لم تكن قد حددت بعد تحديدا قرآنيا لأن هذا التحديد إنما ورد في آية سورة التوبة هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وسورة التوبة مما نزل في أواخر عهد رسول الله. وإن كان هذا لا ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يوزع الزكاة- وهي الصدقات- التي كان يأخذها من الذين عليهم الحق على المصارف المذكورة في الآية.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة ومتنوعة في فحوى الآية التشريعي:
أولا: إن المستفاد منها أن الجمهور من أهل السنة يؤولون الغنيمة بما يدخل في حوزة المسلمين من عدوهم من غنائم متنوعة نتيجة لحرب وقتال. أما ما يدخل
__________
(1) سلكنا (ذي القربى) في هذا السلك لأن التخصيص انتهى بنا إلى ترجيح كون (ذي القربى) هو الذي يقدم خدمة للإسلام والمسلمين على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل. [.....](7/50)
في حوزتهم من عدوهم بدون حرب وقتال فهو الفيء الذي ورد فيه تشريع خاص في سورة الحشر التي يأتي تفسيرها في هذا الجزء.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن هذه الآية نسخت تشريع سورة الحشر.
وفنّد هذا القول. وهو حق وصواب، وقد يمكن أن يزاد إلى هذا أن سورة الحشر نزلت في صدد غنائم بني النضير التي كانت بعد وقعة بدر حيث يبدو قول النسخ غريبا.
وقد قيدنا الكلام لصفة الغنيمة بأنه مذهب جمهور أهل السنّة لأن من الشيعة من يذهب إلى أن الغنيمة هي كل فائدة وعائدة للمسلمين من تجارة وكنوز فضلا عما يأخذونه من أعدائهم بالحرب ويوجب على كل ذلك الخمس استنادا على ما يبدو إلى إطلاق التعبير في جملة وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ والتعبير وإن كان مطلقا حقا وكلمة الغنيمة وإن كانت تفيد لغة ما لغنيمة المرء مطلقا فإن من اليقين أن التشريع في صدد غنائم حرب بدر ثم صار عاما لغنائم الحرب. وهناك أحاديث صحيحة تحصر الغنائم بغنائم الحرب على ما سوف نورده بعد قليل ولم ترو رواية عن رسول الله وأصحابه فيما اطلعنا عليه بل وتابعيهم غير ذلك عن غير طرق شيعية مما يجعل قول جمهور أهل السنّة هو الوجه الحق. وقد يخطر للبال أن رؤساء الشيعة وأئمتهم قد توسعوا في الأمر لتوفير أكبر جباية ممكنة من مختلف ما يكسبه أتباعهم في الظروف التي كانوا شديدي النشاط فيها في سبيل دعوتهم ودعايتهم ومنافسة خصومهم الأمويين أولا والعباسيين بعدهم والحلول محلهم في السلطان. وقد وصل الأمر في هذا إلى أن يسجلوا حديثا عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال إن جميع خمس الغنائم لأقارب رسول الله وأنه لما قيل له إن الله يقول: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قال: هم أيتامنا ومساكيننا» «1» .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير.(7/51)
وثانيا: يلحظ أن الآية لا تذكر إلّا الخمس، أما الأخماس الأربعة الأخرى فالمأثورات المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم قد بينت ذلك حيث كانت توزع على الذين يشهدون ويشتركون في الحرب والقتال. ومن ذلك حديث رواه أبو العالية الرباحي جاء فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة، أربعة منها لمن يشهدها ثم يأخذ الخمس» «1» . وحديث آخر رواه البيهقي بإسناد صحيح جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب رجلا سأله عن الغنيمة، فقال: لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش. فقال له السائل: فما أحد أولى به من أحد؟
قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم» «2» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة قال: «صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم ولما سلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: ولا يحلّ لي من غنائمكم مثل هذا إلّا الخمس والخمس مردود فيكم» «3» . وحديث رواه الأربعة عن ابن عمر قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما، وفي رواية (أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه) » «4» .
وهناك رواية يرويها الإمامان أبو عبيد وأبو يوسف في كتابيهما «الأموال والخراج» تفيد أن النبي كان يقسم للفرس سهما وللرجل سهما. ومما رواه المفسرون أن جميع النفل كان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج الخمس منه يرضخ لمن لا سهم له ممن يكونون شهدوا المعركة من النساء والعبيد والصبيان ولمن شاءت حكمته أن يرضخ له من ذوي البلاء المتميز ثم يقسم الباقي سهاما على المجاهدين حسب النسبة المذكورة التي اختلفت رواياتها بين ثلاثة أسهم للفارس وفرسه وسهم للراجل وبين سهمين للفارس وفرسه وسهم للراجل. والأحاديث
__________
(1) أورد الحديثين ابن كثير.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) التاج، ج 4 ص 337.
(4) المصدر نفسه.(7/52)
تفيد أن الغنائم كانت تسلّم جميعها لرسول الله فيأخذ الخمس ويرضخ ما يرضخ ثم يقسم الباقي. وهذا يفيد أن هذه المهمة تكون منوطة بولي أمر المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روت الروايات الكثيرة أن قواد الفتح بعد النبي كانوا يفرزون الخمس فيرسلونه إلى الخليفة ويقسمون الباقي على المجاهدين، والراجح أنهم كانوا يفعلون ذلك بتفويض من الخليفة ... ومع ذلك فليس في عملهم شذوذ عن روح التشريع القرآني والنبوي.
ولقد كان المسلمون في زمن النبي والخلفاء الراشدين يتجهزون ويتمونون للجهاد من أموالهم الخاصة. والمتبادر أن حكمة توزيع الأخماس الأربعة عليهم متصلة بذلك عدا ما يخولهم ذلك إقدامهم على الجهاد والتضحية. وقد يرد في المال تجاه ما أخذ يجري في القرون المتأخرة واليوم من التزام بيت المال بتجهيز المحاربين سلاحا ومؤونة وحمولة ونفقة ومرتبات ما إذا يصح أن يكون الأمر موضع نظر واجتهاد تبعا للقاعدة الشرعية بتغير الأحكام بتغير الأزمان. وقد أخذ حكام الدول الإسلامية يجرون على الاستيلاء على جميع الغنائم لبيت المال بناء على ذلك على ما هو المتبادر. وقد يكون الوارد والعمل في محله. وقد يكون التلقين المنطوي في آية الفيء في سورة الحشر التي جعلت جميع الفيء لبيت المال دون المسلمين لأنهم لم يوجفوا بخيل ولا ركاب مما يمكن أن يورد في سبيل تدعيم ذلك. والله تعالى أعلم.
ثالثا: هناك من قال إن عدد مصارف خمس الغنائم خمسة. وهي رسول الله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وإن ذكر الله للتشريف.
وهناك من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرز سهما للكعبة ويقول هذا سهم الله وينفقه على شؤونها، وليس هناك حديث نبوي وثيق وصريح. وفي مصارف الزكاة ذكر سَبِيلِ اللَّهِ من مصارف الزكاة كما جاء في آية سورة التوبة هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [60] والمتبادر أن كلمة اللَّهُ في آية الأنفال(7/53)
وكلمة سَبِيلِ اللَّهِ في آية التوبة في معنى وهدف واحد حيث أرادت حكمة التنزيل أن ينفق من خمس الغنائم على شؤون الدين وسبيل الله والدعوة والجهاد إلخ فذكرت كلمة اللَّهُ هنا في مقام كلمة سَبِيلِ اللَّهِ في آية التوبة. وهكذا تكون سهام أو عدد مصارف خمس الغنائم ستة.
رابعا: هناك من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ سهما من الخمس فينفق منه ما هو في حاجة إليه ويضع الباقي حيث شاء. وهناك من روى أن رسول الله كان يعطي أقاربه ما بقي من سهمه. وليس من تعارض بين الروايتين. وتعددت الروايات في هذا السهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أنه صار لخليفته ومنها أنه من حق أقاربه ومنها أن أبا بكر ردّه إلى بيت المال ومنها أنه جعله لشراء الكراع والسلاح وأن هذا تم بعد تشاور بينه وبين كبار أصحاب رسول الله وأن هذا هو الذي جرى الأمر عليه بعد أبي بكر. والمستفاد من ما أورده جمهور المفسرين من أهل السنة من روايات وأقوال أن سهم رسول الله ينفق على سبيل الله. ولقد اتفق أصحاب رسول الله على تخصيص نفقة لخليفته الأول وصار الخلفاء يأخذون نفقة من بيت المال، ولم يكن شيء من ذلك للنبي في حياته. فلم يكن من محل لتحويل سهم رسول الله لخليفته. والشيعة يذهبون إلى أن هذا السهم إرث يستحقه ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أو أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنهم بخاصة. وهناك أحاديث معتبرة عند أهل السنة تتضمن دلائل قوية ضد هذا المذهب. والأحاديث تورد في صدد سهم رسول الله في الفيء الذي خصص جميعه لما خصص له خمس الغنائم ولكن دلالتها شاملة لسهم رسول الله في حياته وبعد وفاته كما هو المتبادر القوي منها. منها حديث رواه الخمسة عن عمر قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي خاصة ينفق على أهله منه وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله» «1» . ومنها حديث رواه أبو داود عن
__________
(1) التاج، ج 4 ص 340 و 341، الراجح أن القصد هو سهم رسول الله من الفيء لأن مصارف الفيء هي (الله ورسوله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) .(7/54)
عمر قال: «كانت لرسول الله ثلاث صفايا بنو النضير وخبير وفدك. فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكان حبسا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله ثلاثة أجزاء جزئين بين المسلمين وجزءا لنفقة أهله فما فضل منهم جعله بين فقراء المسلمين» «1» . ومنها حديث رواه الأربعة عن عائشة قالت: «إن فاطمة بعد وفاة النبي سألت أبا بكر ميراثها ممّا ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه فقال لها إنّ رسول الله قال لا نورث ما تركناه صدقة، ولست تاركا شيئا كان النبيّ يعمل به إلّا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا أن أزيغ، وكانت فاطمة تسأل ميراثها عن النبي صلى الله عليه وسلم من صدقته بالمدينة ومن خيبر ومن فدك فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس فغلبه عليها علي. وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة النبي كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه. وأمرهما إلى من ولي الأمر، فهما على ذلك إلى اليوم» «2» .
وهناك حديث آخر عن عائشة فيه شيء من هذا الحديث مع بعض فروق.
ويظهر أنها قالته في مجلس آخر ونصّه: «إن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله يطلبان أرضهما من فدك وسهمهما من خيبر» . فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله يقول لا نورث ما تركنا صدقة. إنما يأكل آل محمد من هذا المال. والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلّا صنعته. قال فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت. وفي رواية: «لا يقتسم ورثتي دينارا مما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة» «3» . وهناك حديث يرويه الطبري والبغوي في سياق تفسير آيات سورة الحشر في الفيء جاء فيه: «إن عمر بن الخطاب عهد بسهم
__________
(1) التاج، ج 4 ص 340- 341، والمتبادر أن المقصود في الأحاديث هو سهم رسول الله وليس كل صدقة المدينة وخيبر وفدك فإن الفيء قد جعل الله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) التاج، ج 2 ص 240، وهذا الحديث مروي من الأربعة عن أبي هريرة أيضا انظر التاج ج 2 ص 341.(7/55)
رسول الله في الفيء إلى العباس وعليّ رضي الله عنهما بعد أن أخذ عليهما عهدا بأن يجعلاه لجعل مال الله كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر من بعده ثم هو في السنتين الأوليين من عهده وقد اختلفا واختصما وراجعاه ليقضي بينهما فقال لهما اتئدوا. أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله قال لا نورث، ما تركنا صدقة. قالوا قد قال رسول الله ذلك. فأقبل عليهما وقال إني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره. وكانت خالصة لرسول الله، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم فقد أعطاكموها وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم منه ثم يأخذ ما بقي فيجعله مال الله ثم توفي، فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله فقبضها فعمل فيها بما عمل به فيما رسول الله. وأنتما حينئذ جميع. والله يعلم إنه في ما فعل صادق بارّ راشد تابع للحق. ثم توفي أبو بكر فقلت أنا وليّ رسول الله وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله وأبو بكر. والله يعلم إني فيه صادق بارّ راشد تابع للحق. ثم جئتماني كلا كما فقلت إنكما تعلمان أن رسول الله قال لا نورث نحن الأنبياء ما تركناه صدقة. فإن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله وأبو بكر وما عملت منذ وليت.
وإلّا فلا تكلماني فيها، فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما ... أفتلتمسان قضاء غير ذلك. فو الله الذي تقوم السماء والأرض بإذنه لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فإني أكفيكماها» . وفي هذا الحديث توضيح لنقطة مبهمة في حديث عائشة الأول الذي رواه الأربعة وهي تسليم عمر عليا وعباسا رضي الله عنهم جميعا صدقة النبي في المدينة فالحديث يوضح أن هذا بمثابة تولية من عمر لعلي والعباس لإنفاق الصدقة على النحو الذي كان يفعله النبي وأبو بكر من بعده وليس على سبيل كونها إرثا لهما وحقا شخصيا.
والطبري والبغوي من أئمة الحديث والراجح أنهما تثبتا منه «1» .
__________
(1) انظر تفسير آيات الفيء في سورة الحشر في كتابي تفسيرهما.(7/56)
وواضح من كل ما تقدم أن سهم رسول الله قد ردّ بعده إلى بيت المال ولولاية خلفائه لإنفاقه على سبيل الله وصالح المسلمين وفقرائهم، وهذا هو ما عليه جمهور أهل السنّة، وهو ما نراه الأوجه الحق، والمتسق مع روح الحديث النبوي المروي من طرق عديدة بأنه لا يورث وما تركه صدقة. وكل ما يمكن أن يكون أن اجتهادا اجتهده العباس وعلي وفاطمة رضي الله عنهم في أن لهم حقا في إرث سهم رسول الله فلما بان لهم الحق وقفوا عنده، والله تعالى أعلم.
وخامسا: هناك روايات في سهم وَلِذِي الْقُرْبى منها أنه لقريش لأن جميعهم أقارب لرسول الله. ومنها أنه لأقارب رسول الله الأدنين بني هاشم أو بني هاشم وبني المطلب. وعلل الذين قالوا ذلك إن الصدقات كانت محرمة على آل محمد استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث عن رسول الله قال: «إن هذه الصدقات من أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» «1» ، ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبيّ: كخ كخ، ليطرحها. ثم قال: أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة، وفي رواية:
أما عملت أنّا لا تحل لنا الصدقة» «2» ولذلك اقتضت حكمة الله أن يجعل سهما من خمس الغنائم لأقاربه الأدنين كما قالوا. وروي في صدد تأييد كون وَلِذِي الْقُرْبى هم أقارب رسول الله الأدنين حديثان رواهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم جاء في أحدهما: «مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني عبد المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» «3» . وجاء في ثانيهما: «لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل، قال ابن إسحق وعبد شمس وهاشم والمطلب أخوة لأم وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم، ومن الروايات رواية عن
__________
(1) التاج، ج 2 ص 30 و 31.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج، ج 4 ص 139.(7/57)
المنهال قال: «سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا فقلت لعلي إن الله يقول واليتامى والمساكين وابن السبيل قال يتامانا ومساكيننا» حيث يعني هذا أن جميع خمس الغنائم وليس خمسه لأقارب رسول الله الأدنين وذريتهم من بعده. ومن الروايات أن عليا طلب من النبي أن يدفع له سهم ذي القربى ليقسمه في بني هاشم حتى لا يزعجهم عنه أحد بعده، ففعل ثم ولّاه إياه أبو بكر ثم عمر ثم عزله عنه ثم أراد أن يرجعه إليه فقال له ما بنا إليه حاجة.
والمسلمون لهم حاجة إليه فقال له العباس إنك حرمتنا شيئا لا يرد علينا أبدا إلى يوم القيامة» «1» .
ومن الروايات أن سهم ذي القربى كان رسول الله يضعه حسب ما يرى.
وصار بعد موته هو وسهم رسول الله لولي الأمر يضعهما حسب ما يرى أو ينفقهما في معونة الإسلام وأهله وأن هذا كان نتيجة تشاور بين أصحاب رسول الله وجرى عليه عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن إسحق قال: «سألت أبا جعفر محمد بن علي فقلت كيف صنع علي في سهم ذي القربى حين ولي الناس؟ قال: سلك به سبيل أبى بكر وعمر» . وباستثناء الحديثين اللذين يرويهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم ليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح وليس في الحديثين صراحة أن الذي أعطاه النبي لبني هاشم وبني عبد المطلب هو سهم ذي القربى. وكل ما يفيده أنه أعطاهم شيئا من الغنائم أو الفيء.
وعلى كل حال ليس هناك رواية وثيقة السند صريحة النصّ بأن سهما من خمس الغنائم كان يوزع على أقارب رسول الله أو بني هاشم في زمن النبي وخلفائه الراشدين الأربعة. ومعظم الأقوال تذكر أن الخلفاء جعلوا هذا السهم مع سهم رسول الله في بيت المال لينفق على السلاح ومعونة الإسلام وأهله. ونحن نعرف أن الشيعة يطعنون في أبي بكر وعمر وعثمان وسائر أصحاب رسول الله الذين
__________
(1) هذه الرواية رواها الإمام أبو يوسف في كتاب «الخراج» . [.....](7/58)
سكتوا على ما كان من أبي بكر وعمر وعثمان من عدم إعطاء فاطمة سهم رسول الله إرثا عن أبيها، ومن عدم إعطاء سهم ذي القربى لأقارب رسول الله الأدنين.
وينكرون أن يكون عليّ سلك مسلكهم. وفي كلامهم على أي حال اعتراف بما جرى عليه الخلفاء الثلاثة على الأقل على ملأ من جمهور أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وإقرارهم، والمؤمن الحق الذي يعرف الخلفاء الثلاثة هم ممن مات النبي وهو راض عنهم وممن سجل الله رضاءه عنهم في آية سورة التوبة [100] لا يمكن أن يسلم بأنهم فعلوا غير ما عرفوا أنه الحق الموافق لسنة رسول الله وإلهام كتابه. ولا يجوز لمؤمن مخلص أن يقول أو يظن أن جمهرة أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين سجل رسول الله رضاءه عنهم وهم مئات يمكن أن يتواطأوا على صرف هذا الحق عنهم لو كان لهم بنص القرآني أو حديث نبوي. وجملة «إنما يأكل آل محمد من هذا المال» الواردة في الحديث الذي يرويه الخمسة يقوي ذلك. فلو كان لآل محمد سهم في خمس الغنائم أو في الفيء لما كان من حكمة لهذا القول.
ولقد روى المفسرون أن الخلفاء الراشدين جعلوا أقارب رسول الله مثل سائر المسلمين فكان الذي يشهد المعركة منهم يأخذ نصيبا من الغنائم أسوة بمن شهدها، وحين رتبت المرتبات من بيت المال في زمن عمر رتبت لهم وفقا للمراتب التي رتبت عليها وجعل لهم أو لبعضهم ميزة القربى لرسول الله «1» . وكان يعطى لفقرائهم من بيت المال أسوة بفقراء المسلمين واستمر ذلك في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ثمّ في زمن الدولة الأموية ثم في نحو الخمسين سنة الأولى من زمن الدولة العباسية أيضا وفي هذا دليل آخر.
ولقد روي أن هذا الحق أقر ووزع لأقارب رسول الله في زمن المأمون سابع الخلفاء العباسيين. ولكن ليس هناك ما يفيد أن ذلك ظلّ معمولا به في هذه الدولة وما بعدها والله أعلم.
__________
(1) انظر هذه النقطة في تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي ص 108 وما بعدها، بالإضافة إلى كتب التفسير.(7/59)
ويتبادر أنه لو صحّ قول القائلين بأن جملة لِذِي الْقُرْبى من رسول الله تعني سهما لأقارب رسول الله متيقنين من قولهم هذا لما بدا حكمة وسبب لمطالبة أقارب رسول الله من إرث سهم رسول الله في الفيء والغنائم لأن حق أقارب رسول الله يكون قد توطد بأقاربه بكلمة لِذِي الْقُرْبى والله أعلم.
ويروي بعض مفسري الشيعة (الطبرسي والطوسي) مثلا أن جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ في آية سورة الإسراء هذه وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) ، وفي آية سورة الروم هذه: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) هي قصدت أقارب رسول الله في الفيء والغنائم، والآيتان في سورتين مكيتين ويروي القائلون أن الآيتين أو إحداهما مدنيتان لتبرير قولهما لأن تشريع الفيء والغنائم مدني وليس لما رأوه سند وثيق. والآيتان منسجمتان في سياق الآيات المكية قبلهما وبعدهما كل الانسجام وآية سورة الإسراء في سلسلة طويلة فيها وصايا وأوامر وتحذيرات وبعد الآية الواردة في سورة الروم آية من شاكلتها وهي: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . وأسلوب الآيتين مثل أسلوب الآيات المكية التي قبلهما وبعدهما حثّ وتحذير وهو أسلوب مكي. ويتبادر لنا والله أعلم أنها بسبيل الحثّ على إعطاء الأقارب المستضعفين حقهم في الميراث حيث كان الأقوياء من رجال الأسر يأكلون حقوق النساء واليتامى والمستضعفين في الميراث أو يجحفون فيه. وفي سورة النساء آية تشير إلى ذلك بصراحة وهي:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) والله أعلم.(7/60)
ولقد أوّل بعضهم جملة لِذِي الْقُرْبى بذي العمل الذي فيه قربى إلى الله وفيه خدمة لمصالح الإسلام والمسلمين. وما دام أنه لم يثبت بنصّ صريح وصحيح أن النبي وخلفاءه أعطوا سهم ذي القربى لفئة ما من الأقارب وأثر عنهم أنهم كانوا يجعلونه في معونة الإسلام وأهله والكراع والسلاح مع سهم رسول الله بعده فنحن نرى هذا التأويل وجيها ومتسقا مع ذلك بحيث يصح القول إن حكمة الله شاءت التنبيه على وجوب مكافأة ذي الجهد والخدمة النافعة للإسلام والمسلمين ويصح القول بالتالي أن هذا السهم هو لمصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وقد يكون مقابلا أو شبيها بسهم المؤلفة قلوبهم المذكورين في مصارف الزكاة في آية سورة التوبة [60] والتوجيه القرآني في تخصيص مكافأة لهذه الفئة مع احتمال كونها غنيّة تعليل مستمر المدى إذا صحّ ما صح التأويل الذي قد يؤيده ورود (ذي القربى) في صيغة المفرد. فلو كان المقصود أقارب رسول الله الذين كانوا في حياته وذرياتهم من بعده لا قتضى والله أعلم أن يأتي بصيغة الجمع حتى يكون شاملا. ولقد استعمل القرآن اشتقاق (قرب) في معان قريبة لهذا التأويل كما جاء في آية سورة التوبة هذه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ [99] وآية سبأ هذه وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [37] وآية الزمر هذه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [3] ما يمكن أن يستأنس به على وجاهة هذا التأويل. وقد يؤيده أيضا أن معظم أقارب رسول الله حين نزول آية الأنفال ثم آية الحشر السادسة اللتين فيهما تشريع الغنائم والفيء واللتين ذكر فيهما جملة لِذِي الْقُرْبى كانوا غير مسلمين في مكة، ومنهم من شهد وقعة إلى جانب الكفار. وممن ذكرت الروايات أسماءهم من أسراهم (العباس بن عبد المطلب عمّ النبي وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب وأبو عزيز بن عمير بن هاشم والسائب بن عبيد بن هاشم ونعمان بن عمرو بن عبد المطلب، وولدان من أولاد أخي العباس لم يذكر اسماهما. وقد روي أن أبا لهب عمّ(7/61)
النبي أرسل بديلا عنه وأنه مات جزعا حينما علم بالكسرة التي حلّت في قريش «1» .
وقد يقول الشيعة إن عليا وفاطمة رضي الله عنهما كانا مع النبي بالإضافة إلى حمزة عمه الذي شهد بدرا وجعفر ابن عمه الذي كان مهاجرا في الحبشة حين نزول آيات الأنفال وهذا صحيح. ولكنّا لا نسلم أن جملة لِذِي الْقُرْبى في سورة الأنفال نزلت لتعنيهم حين نزولها على ضوء ما تقدم من أحاديث نبوية وصحابية وفهم وتطبيق خلفاء رسول الله الأربعة على ملأ وإقرار من كبار أصحاب رسول الله من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وإنه ليتبادر لنا أن موقف الشيعة متصل بما كان من منافسات ومنازعات في صدر الإسلام وبخاصة بين الهاشميين والأمويين. ولعلّ مما يحسن أن يقال في هذا المقام إن تخصيص سهم لأقارب رسول الله في خمس الغنائم ثم في خمس الفيء على ما سوف يأتي شرحه في سياق سورة الحشر فيه معنى الأجر المادي الذي نفاه القرآن مرة بعد مرة عن رسول الله بقوة وحسم لأنه لا يتفق مع عظمة النبوة وأخلاقها وأهدافها. ولقد حاول الشيعة أن يؤولوا آية الشورى التي جاء فيها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [23] بمثل ما حاولوا تأويل الآية التي نحن في صددها وخالفهم جمهور المفسرين على ما شرحناه في سياق تفسيرها شرحا يغني عن التكرار.
ويجب أن نؤكد بهذه المناسبة مرة أخرى أننا نكنّ أعظم التكريم والإجلال لمن ينتسب إلى الدوحة الطاهرة النبوية وأن ما ننبه عليه هنا وفي أي مكان من التفسير هو في صدد تقرير ما يتبادر لنا أنه الأكثر اتساقا مع روح الآيات وفحواها وجلال المقام النبوي ووثيق الروايات، والله تعالى أعلم.
سادسا: وفي صدد شرح مدى الآية نقول: إن المسكين الذي اختصّ بالذكر في الآية ليس هو الفقير مطلقا وإنما هو كما وصفه النبي في حديث رواه الشيخان
__________
(1) انظر الأسماء في ابن هشام ج 2 ص 269 و 364 وتفسير آية الأنفال [70] في كتب تفسير الطبري وابن كثير.(7/62)
عن أبي هريرة عن النبيّ: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكنه الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» «1» . حيث ينطوي في تخصيصه بالذكر في توزيع الغنائم لفتة ربانية جليلة إلى هذا النوع من المحتاجين وحيث يجب على ولي أمر المسلمين أن يلحظ ذلك في سياق مساعدة الطبقات المعوزة من بيت المال التي جعلها القرآن واجبا رسميا من واجبات الدولة الإسلامية.
سابعا: أما ابْنِ السَّبِيلِ فهو على ما هو المتبادر المجتاز من أرض إلى أرض وقد نفد ما في يده وأصبح محتاجا إلى مساعدة ولو كان في بلده غنيا على ما يستفاد من معظم الأقوال التي ذكرها المفسرون. وهناك من قال إنه الضيف إطلاقا. وروح الآية تجعل الرجحان للأول على أن القول الثاني لا يبعد وبخاصة إذا كان الضيف غريبا محتاجا كما هو واضح.
ثامنا: والأقوال متفقة على أن الْيَتامى الذين جعل لهم نصيب في الغنائم هم فقراء اليتامى الذين ليس لهم مال، وهو حق وصواب. وننبه على أن اليتامى لم يذكروا في مصارف الزكاة المذكورة في الآية [60] من سورة التوبة. حيث نلمح اللفتة الربانية الكريمة في جعل نصيب لهذه الفئة في مال الغنيمة التي تدخل لبيت المال، وهي من نوع المساكين الذين قد لا يفطن إليهم ولا يقومون ليسألوا الناس.
تاسعا: يلحظ أن الآية ذكرت (المساكين واليتامى وابن السبيل) في حين أن آية التوبة [60] التي ذكرت مصارف الزكاة ذكرت (الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين) ولا ندري هل يصح القول إن هذا الفرق أسلوبي وإن ما ذكر في الآيتين يمثل الطبقات المعوزة من المسلمين عامة. وإن كنا نظن أن هذا هو المتبادر والله أعلم. ومع ذلك فإن من واجبنا أن نقول إن روعة حكمة التنزيل ومغزاها الجليل ملموحان إذا ما لوحظ أن كلا من المسكين واليتيم لا يسألون الناس عادة حيث
__________
(1) التاج، ج 2 ص 30.(7/63)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
تكون حاجتهم إلى المساعدة أشد وألزم والله تعالى أعلم.
عاشرا: تعددت أقوال الفقهاء والمفسرين في كيفية توزيع سهام خمس الغنائم حيث قال بعضهم إنه يقسم إلى ستة أسهام متساوية ويصرف على كل مصرف حصته. وهناك من قال إن هذا متروك لولي أمر المؤمنين يتصرف فيه حسب المصلحة بمشاورة أهل الرأي مع واجب مراعاة جميع المصارف. وليس هناك حديث صحيح نبوي أو راشدي فيه حسم إلا ما كان في صدد سهم رسول الله حيث جاء في أحد الأحاديث الصحيحة أنه كان يفرزه فينفق منه ما ينفق على نفسه وبيته ويوجه ما بقي لوجوه البرّ ومصلحة الإسلام على ما ذكرناه قبل. ولقد أصبح هذا السهم بعد النبي لبيت المال على ما ذكرناه أيضا. والآية مطلقة لا تتحمل التقسيم والحصر، وهذا ما يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم.
وما قلناه في تعليقنا على الزكاة في سورة المزمل من أنه ليس ما يمنع أن تنشئ الدولة ببعض المال المخصص للفئات المحتاجة منشآت لمصلحتهم مثل مياتم ومشاف ومدارس وعيادات ودور عجزة وملاجىء ودور ضيافة يصح أن يقال في هذا المقام أيضا والله تعالى أعلم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 42 الى 44]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
. (1) العدوة: المقصود هنا طرف الوادي أو معبره.(7/64)
(2) الدنيا: القريبة لناحية المدينة.
(3) القصوى: البعيدة أي في الطرف الثاني لناحية مكة.
(4) الركب: المقصود جيش قريش.
(5) فشلتم: ضعفتم وتخاذلتم وجبنتم.
في الآيات:
1- تذكير استطرادي للمؤمنين بما كان يوم المعركة. فقد كانوا في طرف الوادي القريب للمدينة وكان الكفار في الطرف الثاني البعيد، وكان هؤلاء في مكان أوطأ من مكانهم. وكان كل من المؤمنين والكفار قد وصلوا إلى مكانهم على غير ميعاد وكان في هذا إصابة لم تكن على ما جاءت عليه لو كان بينهم ميعاد متفق عليه بينهم من قبل وكان هذا تدبيرا ربانيا ليتمّ أمر الله وقضاؤه فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة والله سميع لكل شيء عليم بكل شيء.
2- إشارة إلى بعض ما وقع في ذلك اليوم وما كان من تدبير الله فيه. فقد أرى الله نبيه الأعداء في منامه قليلا فأخبر المسلمين بذلك فكان فيه تشجيع لهم ولو رآهم كثيرين لكان من الممكن أن يطرأ على قلوبهم ما يبعث فيهم التهيب ويجعلهم يتنازعون في الأمر فيؤدي ذلك إلى فشلهم وتخاذلهم. ولكن الله سلم فاقتضت حكمته أن يراهم النبي في منامه قليلا ليدفع عنهم ذلك وهو العليم بما يختلج في صدور الناس من نزعات وخطرات. ومن هذا التدبير الرباني أن جعل الله المؤمنين يرون الكفار قليلين، وجعل الكفار يرون المؤمنين قليلين حينما وقعت عيون بعضهم على بعضهم حتى يهون اللقاء على الفريقين ويتم أمر الله وقضاؤه وهو الذي ترجع إليه الأمور وتسير وفق حكمته.
والآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وهي استمرار للاستطراد كما هو واضح. ولقد قال الطبري في صدد توضيح وتأويل جملة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ إنها بمعنى ليموت من يموت عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره قد عاينها ورآها. ويعيش من يعيش عن حجة لله أثبتت له وظهرت(7/65)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
لعينه فعلها، وقال ابن كثير عزوا إلى إسحق إنها بمعنى ليكفر من كفر بعد الحق لما رأى من آيات الله وما فيها من عبر ويؤمن من آمن على مثل ذلك. وكلا التأويلين وجيه. ويتبادر لنا تأويل آخر وهو أن الله تعالى قدر اللقاء لتقوم لكل من الفريقين الحجة على ما انتهى إليه مصيرهما من هلاك وحياة، فنصر المسلمين هو حجة على أنهم على حق وهزيمة الكفار حجة على أنهم على باطل، وللأولين فيما كان حياة وللآخرين هلاك، والله تعالى أعلم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد ووقائع الوقعة ولكن أسلوبها يدل على أن القصة لم تكن المقصودة وإنما القصد هو بيان ما كان من عناية الله وتدبيره بحيث لم يكن نصر للمسلمين لولاها، وذلك بسبيل توطيد أوامر الله ورسوله وبخاصة في أمر الغنائم المختلف على قسمتها والتي كان الاختلاف عليها هو السبب المباشر لنزول السورة. وهذا يلحظ أيضا في الفصول السابقة على ما نبهنا عليه.
ولقد أوردنا خلاصة ما روي من مشاهد ووقائع المعركة. فلم يبق محل للإعادة ولا ضرورة للزيادة بمناسبة هذه الآيات. غير أن هناك رواية يرويها الطبري والبغوي في صدد الآية [44] هنا محلها حيث رويا بالتسلسل عن ابن مسعود أنه قال «لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت للرجل إلى جانبي تراهم سبعين، قال أراهم مائة» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
.(7/66)
(1) تذهب ريحكم: بمعنى يزول إقبالكم ودولتكم تشبيها بتغير الريح المواتية ونتائجها.
في هذه الآيات:
1- نداء موجّه للمسلمين يؤمرون به بالثبات في القتال حينما يلتحمون مع فئة من أعدائهم ويلقونها. وبذكر الله كثيرا آنذاك حيث يضمن لهم ذلك الروحانية والتأييد والفلاح. ويحثون به على طاعة الله ورسوله في كل موقف ويحذرون به من التنازع والاختلاف لأن فيهما فشلهم وإدبار أمرهم، ويؤمرون فيه بالصبر لأن ذلك يضمن لهم نصر الله وتأييده وينهون به عن أن يكونوا مثل الكفار الذين خرجوا من مكة يملأهم الفخر والزهو والبطر وحبّ التظاهر وهم يصدون عن سبيل الله، والله محيط بهم ومحبط لأعمالهم.
2- وتذكير أو إخبار بما كان من موقف الشيطان وموقف المنافقين ومرضى القلوب في ظروف يوم بدر. فقد زيّن الشيطان للكفار الخروج وحثّهم عليه وألقى في روعهم أنهم من القوة بحيث لا يغلبهم أحد وأعلنهم أنه جار لهم ومناصرهم.
فلما تراءت الفئتان والتحمتا نكص على عقبيه تاركا الكفار وما يلقونه من ويل متبرئا من جوارهم معلنا أنه يرى ما لا يرون وأنه خائف من الله الشديد العقاب الذي هو حقيق بأن يخافه أعداؤه. أما المنافقون ومرضى القلوب في المدينة فقد أخذهم العجب وتولتهم الدهشة مما بدا من جرأة المسلمين وخروجهم لقتال قريش مع ما هو معروف من تفوق هؤلاء عليهم في العدد والعدد فأخذوا يقولون عنهم إنهم اغتروا بدينهم.
وقد انتهت الآيات بتقرير ينطوي على التنويه بما كان من نصر الله للمسلمين الذين توكلوا عليه، فهو العزيز الحكيم الذي ينصر من يتوكل عليه ويتمسك بحباله.(7/67)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وما بعدها إلى الآية [49]
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وقد روى المفسرون روايات متنوعة الصيغ متفقة المدى في صدد الآية [48] ومن أكثر ما توافقوا عليه منها أن قريشا تحسبت من بني كنانة وكان بينهم وبينهم عداء وكانوا في طريقهم وأن إبليس تجسّم لهم في صورة أحد أشرافهم «سراقة بن مالك» فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه وجعل يحرضهم ويقوي من عزائمهم فكان ذلك مما جعلهم يسرعون إلى الخروج لإنقاذ القافلة.
ومما جاء في الرواية أنه كان معهم في المعركة فلما رأى من المسلمين ما رأى من استبسال وعزيمة وما استولى عليهم من روحانية انتزع يده من يد رفيق له وفرّ لا يلوي على شيء قائلا ما ذكرته الآيات «1» . والذي نلاحظه على هذه الرواية أن في القرآن نصا صريحا بأن الناس لا يرون إبليس وقبيله وهو ما جاء في هذه الآية من سورة الأعراف: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [27] ، وليست الرواية المروية ذات سند قوي. ولذلك نقول إما أن تكون الآية قد عنت أحد صناديد الكفار وشياطينهم ممن كان أشدهم تثبيتا للقلوب وتسديدا للعزائم ثم كان من الناكصين المنهزمين. والقرآن أطلق كلمة الشيطان على الإنس أيضا كما جاء في آية سورة الأنعام هذه وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [112] ، وإما أن تكون احتوت تصويرا معنويا للحال لتقرر أن الكفار بخروجهم مزهوين معتدّين بأنفسهم إنما انساقوا لتزيين الشيطان ووساوسه فوردوا مورد الهلاك استهدافا لتوكيد التحذير والدعوة إلى التأسي من
__________
(1) انظر ابن هشام ج 2 ص 250 وتفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.(7/68)
جهة ولتشديد التنديد والتشنيع من جهة أخرى للخلاف والنزاع والبطر، ولقد روى الطبرسي عن الحسن البصري أن ما جاء عن الشيطان إنما كان على سبيل الوسوسة وأن الشيطان لم يتمثل في صورة إنسان وهو المعقول فيما نرى.
ويتبادر لنا أن الآيات انطوت على قصد المقارنة أيضا، فالكفار خرجوا بتزيين الشيطان وكان معتمدهم وجارهم فأخزاهم الله على ما كانوا عليه من كثرة عدد وعدد وزهو وبطر واعتداد بالنفس، والمسلمون خرجوا بإلهام الله متوكلين عليه فنصرهم على ما كانوا عليه من قلة عدد وعدد أثارت عجب المنافقين ومرضى القلوب وحملتهم على الغمز والاستخفاف بهم وتوقع الهزيمة لهم.
وروى المفسرون في صدد الآية [47] أن أبا سفيان أرسل إلى جيش مكة يقترح عليه العودة وقد نجت القافلة فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا، وهو ما عبرت الآية عنه بتعبير بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ فكان ذلك من أسباب الاشتباك الفعلي «1» .
وروى المفسرون في صدد الآية [49] روايات عديدة منها أنها عنت جماعة من أهل مكة تكلموا بالإسلام وخرجوا مع المشركين يوم بدر. فلما رأوا قلة المسلمين قالوا غرّ هؤلاء دينهم، ومنها أن بعض رجال من قريش خرجوا مع الجيش على ارتياب فلما رأوا قلة المؤمنين قالوا ذلك. ومنها أن جماعة من أهل مكة كانوا مسلمين حبسهم أهلهم عن الهجرة وأخرجوهم معهم قهرا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين ارتدوا وقالوا ذلك القول. ولسنا نرى هذه الروايات مستقيمة مع الظروف، لأنه لم يكن يوجد في مكة بعد الهجرة من يصح أن يوصف بالنفاق ومرض القلب اللذين كان يوصف بهما الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام من أهل المدينة. والأوجه أن يكون هذا القول صدر عن هؤلاء حينما رأوا عدد المسلمين الذين خرجوا إلى بدر قليلا وهم يعرفون كثرة قريش وقوتهم. وقد احتوت الآية
__________
(1) ابن هشام ج 2 ص 257- 258، وتفسير الآية في ابن كثير والبغوي والطبري والخازن.(7/69)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
ردا قويا مستمدا من النصر الذي أحرزه المسلمون على قتلهم. فالمخلص المتوكل على الله لا يبالي بكثرة عدد عدوه وقلة عدده لأنه موقن بتأييد الله العزيز الحكيم له.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينات عامة جليلة مستمرة المدى بما فيها من علاج نفسي قوي في ذكر الله حين اشتداد الملحمة وما يثيره هذا من قوة وروحانية وثقة وأمل، وبما فيها من حثّ على الثبات والصبر كما في ذلك من ضمان النصر وكسب لرضاء الله وتأييده. وبما فيها من حكمة اجتماعية فيما في التنازع من فشل وإدبار. وفيما في التضامن والاتحاد من قوة وفلاح، وبما فيها من حثّ على طاعة الله ورسوله. وتتمثل طاعة الله في التزام ما في القرآن من مبادئ وأحكام وخطوط، وطاعة رسوله في التزام ما ثبت عنه من سنن قولية وفعلية تمثلا دائما.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه أيضا البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن أبي أو فى جاء فيه: «إنّ رسول الله في بعض أيامه التي لقيّ فيها العدوّ انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيّها الناس، لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية. فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمّ منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» «1» .
ومع تساوق الحديث مع التلقين القرآني فإن فيه نقطة هامة، وهي نهي المسلمين عن الاستعجال بلقاء العدو أو استعجال التحرش به. والمتبادر أن الحكمة في ذلك هي أن لا يكون الاستعجال بدون ضرورة محتمة، أو أن لا يؤدي إلى خطر وضرر وفي هذا تلقين جليل آخر والله أعلم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) .
__________
(1) التاج ج 4 ص 330 و 331.(7/70)
وفي هذه الآيات:
1- إشارة تنويهية وإنذارية خوطب بها النبي أو السامع إلى ما سوف يكون من أمر الكفار في الآخرة. فحينما يتوفى الملائكة الكفار سيضربون وجوههم وأدبارهم ثم يسوقونهم إلى النار ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق الذي استحققتموه بما اقترفتم من آثام جزاء وفاقا دون ما ظلم. لأن الله لا يظلم عبيده وإنما يوفي كلا منهم جزاء ما عمل وقدّم.
2- وتمثيل لحالة الكفار ومصيرهم بحالة أمثالهم الذين سبقوهم ومصيرهم:
فإن شأنهم كشأن قوم فرعون ومن كان قبلهم كفروا بآيات الله فعاقبهم الله على ذنوبهم حيث أهلكهم وكان مما كان أن أغرق آل فرعون. فهؤلاء وأولئك كانوا جميعهم ظالمين، فكانوا موضع تنكيل الله في الدنيا بالإضافة إلى عذابه في الآخرة، وإنه لقوي قاهر وإن عذابه لشديد قاصم.
3- وتقرير لسنّة ربانية جارية في الأمم بسبيل التعقيب على ما ذكرته الآيات من مصير الكفار. فالله لا يغير نعمة أنعمها على قوم فيبدل أمنهم بخوف وغناهم بفقر وعزتهم بذلّ وسلامتهم بهلاك إلّا إذا غيروا ما بأنفسهم فانحرفوا عن الطريق القويم وضلّوا عن الهدى واقترفوا الآثام والمنكرات وإنه لسميع عليم يسمع كل شيء ويعلم بكل شيء فيعامل الناس بما يستحقونه.
والآيات استمرار على التعقيب على نتائج وقعة بدر ومتصلة بالسياق السابق كما هو المتبادر وقد انطوت على تقرير كون ما حلّ في الكفار هو مثل ما حلّ في قوم فرعون وغيرهم من عذاب الله الدنيوي، وبيان ما سوف يصيرون إليه في الآخرة(7/71)
من المصير المشترك إضافة إليه كمن سبقهم أيضا. وأسلوبها قوي، ومع واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي فإنه قد يتبادر أن من حكمة ذكر ذلك إثارة الاغتباط في قلوب المؤمنين بالإضافة إلى ما تمّ لهم من النصر، وإثارة الفزع في من بقي من زعماء الكفار وعامتهم وقد انطوت الآية [53] على تعليل بليغ لما حلّ في الكفار من نكال وعلى تقرير استحقاقهم له بسبب كفرهم ومواقفهم المناوئة.
تلقين جملة ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ...
هذه الجملة جاءت في الآية [53] المذكورة آنفا، ومع أنها متصلة المدى بالموقف الذي انتهت إليه معركة بدر مما جعلنا نقول إنها انطوت على التعليل البليغ الذي نبهنا عليه آنفا فإن أسلوبها المطلق التقريري يسوغ القول إنها انطوت على تلقين مستمر المدى وحكمة اجتماعية خالدة في تقريرها إناطة فقد الناس لما يكونون مستمتعين به من حالة حسنة ونعمة ربانية بتصرفاتهم المنحرفة الباغية المؤدية إلى ذلك. وهذه الحكمة جاءت مطلقة في آية سورة الرعد [38] لتشمل تغير حالة الناس من سوء إلى حسن ومن حسن إلى سوء وتجعله منوطا بتصرفاتهم. وما قلناه في سياق هذه الآية من دلالتها على كون الله تعالى قد أودع في الناس القابلية لذلك وحملهم مسؤولية ما قد يكونون فيه أو يصيرون إليه من حالات حسنة وسيئة يصح أن يورد هنا بطبيعة الحال.
ولقد روى الطبري والبغوي عن السدي أن المقصودين بالآية قريش وبالنعمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلما كذبوها نقلها عنهم إلى الأنصار ... ولا يخلو التأويل من وجاهة بالنسبة للظرف الذي نزلت فيه الآية غير أن إطلاق العبارة يجعلها عامة مستمرة المدى والتلقين على النحو الذي شرحناه.
وإذا صح أن يكون المعنيون بها قريشا فيكون من باب تسجيل الواقع عند نزولها لأن قريشا لم تحرم من هذه النعمة بالمرة وإنما كان ذلك لأمد محدود(7/72)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
وبالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم حيث تمتع معظمهم تمتعا كاملا بها حينما تمّ الفتح ودخل أهلها في دين الله.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 64]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
. (1) تثقّفنّهم: تلقاهم وتتمكن منهم أو تظفر بهم.
(2) فشرّد بهم من خلفهم: خوّف وشتّت بالتنكيل بهم من وراءهم من الأعداء.
(3) فانبذ إليهم على سواء: أصل النبذ الطرح، وقد فسّر جمهور المفسرين هذه الجملة بإعلان المعاهدين الذين يبدو منهم أمارات النقض والغدر والخيانة بأن النبي يريد أن يقف منهم نفس الموقف حتى لا يكون النقض غدرا.
(4) رباط الخيل: إعداد الخيل وجعلها جاهزة للحرب.
(5) جنحوا: هنا بمعنى مالوا أو رغبوا.(7/73)
في هذه الآيات:
1- نعي على الكفار الذين يصرون على الكفر ولا يؤمنون مع ما ظهر من الحق والهدى. فهؤلاء هم شرّ الدواب عند الله.
2- وتفسير بياني للمقصودين، فهم أولئك الذين عاهدهم النبي ثم ينقضون عهدهم في كل مرة دون تورّع ولا خوف من العواقب.
3- وأمر للنبي بالتنكيل بهم إذا ما لقيهم وتمكن منهم في الحرب بحيث يكون ذلك عبرة وإنذارا لمن خلفهم من الأعداء لعلهم يتذكرون ويتورعون ولا يقدمون على البغي والغدر والخيانة.
4- وأمر آخر للنبي: فإذا ما شعر من قوم بينه وبينهم عهد بخيانة وغدر فله أن ينقض عهده معهم بعد معالنتهم بزوال العهد بينه وبينهم فالله لا يحبّ الخائنين.
5- وإنذار للكفار الذين ينجون من التنكيل في موقف أو ظرف ما، فلا يحسبون أنفسهم أنهم نجوا من نكال الله بالمرة، فإنهم ملحوقون ولن يسبقوا الله أو يعجزوه.
6- وأمر موجه للمسلمين بإعداد كل ما يقدرون عليه من قوة ووسيلة حربية وبالاستعداد للحرب ليبعثوا الخوف في قلوب أعدائهم الذين هم أعداء الله وفي قلوب غيرهم ممن يضمر العداء للمسلمين ويتربص بهم الدوائر، ولا يعرفونهم ولكن الله يعلمهم.
7- وحثّ للمسلمين على الإنفاق في سبيل الله من أجل هذا الاستعداد. فما ينفقونه من شيء يوفيه الله لهم من دون نقص وبخس.
8- أمر موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحثه فيه على الميل إلى المسالمة مع الأعداء الذين هم موضوع الكلام إذا مالوا إليها والتوكل على الله فهو السميع العليم الذي لا يغيب عن علمه وسمعه أي شيء.
9- وتطمين له ودعوة للاعتماد على الله فيما إذا كان الأعداء يبيتون الخداع(7/74)
في تظاهرهم بالميول السلمية فالله هو حسبه. وهو الذي أيده بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم هذا التأليف الشديد الذي لو أنفق في سبيل تحقيقه ما في الأرض ما كان يتحقق لولا عناية الله العزيز الحكيم القادر على نصره والذي يأمر بما فيه الحكمة والمصلحة والصواب.
10- وتطمين آخر له وللمؤمنين في الصدد نفسه، فإن الله هو حسبه وحسب الذين اتبعوه وكافيهم ومانعهم فلا ينبغي أن يكونوا في قلق من جراء ما يمكن أن يقفه الأعداء من مواقف ويبيتونه من نيات.
تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) والآيات التالية لها إلى آخر الآية [63] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات
1- الآيات تبدو فصلا مستقلا عن السياق السابق إلّا التناسب وبين ذكر مصير الكفار الذي ذكر في الآيات السابقة لها وبين ذكر حالة الكفار فيها. وهي فصل متكامل جميعه في موضوع واحد. ولذلك جمعناها في هذه الطبعة وشرحناها في سياق واحد. وقد تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي الموضوعي والله أعلم.
2- وروايات المفسرين «1» متفقة على أن الآيات عنت اليهود في المدينة، وظروف نزولها التي كانت بعد قليل من وقعة بدر على ما سوف نشرحه بعد وأسلوبها يؤيد ذلك. فلم يكن بين النبي وبين أحد من الذين جحدوا رسالته عهد عدا اليهود في السنتين الأوليين من الهجرة. وروايات السيرة «2» تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 119- 123.(7/75)
حينما استقرّ في المدينة بعد هجرته إليها من مكة كتب كتاب موادعة أبقى فيه اليهود على صلاتهم ومحالفاتهم مع الأوس والخزرج الذين كان الإسلام قد نشأ فيهم.
ومنحهم حرية الدين وأوجب عليهم نصرة المؤمنين والاتفاق معهم في الحرب كما أوجب على نفسه والمؤمنين نصرتهم غير مظلومين ولا تناصر عليهم إلّا من أثم وظلم فكان هذا عهد بينه وبينهم على تعدد كتلهم في المدينة وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.
3- والمفسرون إلى قولهم إنها في صدد اليهود يروون روايات تخصيصية حيث يروون أن الآيتين الأوليين نزلتا في يهود بني قريظة أو عنتهم لنقضهم العهد ومظاهرتهم لقريش في وقعة الخندق. وروى الطبرسي مع إيراده الرواية السابقة أن الآية [58] نزلت في صدد بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت قال: إني أخاف بني قينقاع وسار إليها. والمناسبة بعيدة بين وقعتي بني قريظة وبني قينقاع لأن الأولى كانت في السنة الهجرية الخامسة والثانية في السنة الثانية وبعد قليل من وقعة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال. ووقعة الخندق ذكرت في سورة الأحزاب وليس من الوارد أن تذكر في سورة نزلت قبل وقوعها. وابن سعد يتوافق في طبقاته «1» مع رواية الطبرسي بأن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى بني قينقاع بالآية [58] ويروي المفسرون وكتب السيرة القديمة معا أن يهود بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد ووقع الصدام بينهم وبين النبي والمسلمين. وأن آيات سورة آل عمران هذه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) قد نزلت بسبيل إنذارهم ودعوتهم إلى الاعتبار بما حلّ في قريش الذين كانوا ضعف المسلمين وبنصر الله للمؤمنين. وذلك حينما بدت منهم أمارات الغدر والنقض بعد قليل من وقعة بدر. فجمعهم النبي وأنذرهم فقالوا له: «لا يغرنك أنك لقيت قوما
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 67- 68.(7/76)
لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، وإنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» «1» ، وسورة الأنفال نزلت قبل سورة آل عمران. وآيات سورة الأنفال التي نحن بصددها نزلت بعد وقعة بدر وقبل وقعة أحد التي جاء في سورة آل عمران فصل طويل فيها وهذا يسوغ عدم التسليم بالروايات التي تذكر أن آيات سورة آل عمران [12 و 13] نزلت في بني قينقاع. والقول إنها نزلت في قوم آخرين ظهرت منهم بوادر غدر وعداء. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالملحوظ أن آيات سورة الأنفال عامة الشمول بحيث يتبادر لنا منها أنه لما بدأ يظهر من اليهود بوادر الغدر والخيانة بعد مواقف التعجيز والتشكيك والسخرية واللجاج والدسّ والتآمر التي حكتها سلسلة سورة البقرة اقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بهذه الآيات كخطة عامة للنبي صلى الله عليه وسلم تجاههم. ومن الجائز أن يكون بنو قينقاع ركبوا رؤوسهم ولم يرعوا فجمعهم النبي وأنذرهم فأجابوه بما حفظته الروايات، ويجوز أنهم استمروا في غيّهم ولم يرعووا فبادر إلى التنكيل بهم وطبق مبادرته على جملة وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ فقال ما حفظته الروايات إني أخاف بني قينقاع، والله أعلم.
4- أما ما كان من أمر بني قينقاع فخلاصة ما روته كتب السيرة والتفسير أنهم كانوا يسكنون وسط المدينة، وكان لهم سوق خاص وأن امرأة من العرب جاءت بجلب لها فباعته في سوقهم ثم جلست إلى صائغ، فسألها بعضهم كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا عليها فصاحت فوثب مسلم حاضر على الصائغ فقتله فشدّ عليه اليهود فقتلوه فاستصرخ أهله فعظم الشرّ. وقد حصرهم النبي والمسلمون في محلتهم خمس عشرة ليلة وضيّق عليهم حتى نزلوا على حكمه. وكانوا حلفاء للخزرج فطلب عبد الله بن أبيّ أحد كبار زعمائهم وكان كبير المنافقين من النبي صلى الله عليه وسلم أن
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 426 و 429 وانظر تفسير آيات آل عمران في كتب التفسير المذكورة.(7/77)
يحسن في حلفائه، وألحّ في الطلب حتى أساء أدبه مع النبي، وقال له فيما قال أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. ورأى النبي من الحكمة المسايرة فاكتفى بإجلائهم عن المدينة وسمح لهم بحمل ما قدروا عليه من مال وسلاح واستولى على ما بقي لهم في محلتهم من عقار وسلاح ومتاع وأثقال فأخذ خمسه ووزع الباقي على من شهد الحصار معه، وقد جلوا إلى أذرعات «1» .
ويتبادر لنا من فحوى الآيات وروحها وقول النبي صلى الله عليه وسلم إني أخاف بني قينقاع الذي أجمعت الروايات على ذكره ولو لم يرد حديث صحيح فيه أنه كان لبني قينقاع مواقف غدر ونقض عديدة فجاء حادث الامرأة والصائغ لتملأ الكأس وكان التنكيل مباشرة بعده، والله أعلم.
5- ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في المعنيين بجملة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ منها أنهم المنافقون استئناسا بآية سورة التوبة هذه وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [101] ومنها أنهم الفرس. ومنها أنهم كل عدو للمسلمين لم يكن ظاهرا أو معروفا بعدائه، ومنها أنهم الجن. وأوردوا في المقول الأخير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في قول الله وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم الجنّ» ، والحديث لم يرد في الصحاح ونرى التوقف فيه كما نرى الوقوف عند الآية والقول إنها هدفت إلى تنبيه المسلمين إلى ما يمكن أن يكون لهم من أعداء لا يعرفونهم ويعرفهم الله بسبيل التحذير وإيجاب الاستعداد وإعداد ما استطاعوا من قوة لإرهاب أعدائهم المعروفين وغير المعروفين، وقد يكون من جملة هؤلاء الطوائف اليهودية الأخرى التي كانت لم تظهر عداء صريحا ولكنها تبطنه والتي حكت سلسلة سورة البقرة ما كان لها من مواقف جحود ودسّ
__________
(1) هذا تلخيص ما ورد في كتب التفسير والسيرة، انظر كتب التفسير المذكورة وانظر ابن هشام ج 2، ص 119- 122 وابن سعد ج 3 ص 67 و 68.(7/78)
وتشكيك وتآمر ونقض، والله تعالى أعلم.
6- وجمهور المفسرين على أن المعنيين في الآية [63] الذين ألّف الله بينهم هم الأوس والخزرج الذين كانوا غالبية عرب المدينة والذين صار اسمهم في الإسلام (الأنصار) . وقد كان بينهم تنافس وحروب وثارات قبل الإسلام وكان بعض كتل اليهود يحالفون الأوس وبعضهم يحالفون الخزرج على ما شرحناه في سياق الآيات [84 و 85] من سورة البقرة. وقد ألّف الله قلوبهم على يد رسوله فدعا من اجتمع إليه منهم في مكة واستجابوا لدعوته ثم بعد أن هاجر النبي إلى المدينة فأصبحوا بنعمة الله إخوانا. وقد جاءت إشارة ثانية إلى هذا في آية سورة آل عمران هذه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وهذه الآية في ظرف حاول اليهود فيها أن يثيروا فتنة بين الأوس والخزرج بتذكيرهم بما كان بينهم من ثارات على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
7- ولقد روى البغوي عن سعيد بن جبير في صدد الآية الأخيرة من الآيات إلى [64] أنها نزلت بعد إسلام عمر حيث كان أسلم قبله ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة فكمل عددهم بإسلام عمر أربعين. وعلق ابن كثير على ذلك بقوله إن إسلام عمر كان في مكة وهذه الآية مدنية، وهو تعليق في محله. على أن جمهور المفسرين على أن هذه الآية جزء متمم للكلام وهو الحق المتبادر.
ولقد تعددت أقوال المفسرين والمؤولين في مدى الآية، منها أنها بمعنى (إن الله حسبك وحسب من اتبعك) وذلك بسبيل تهوين شأن أعدائهم. ومنها أنها بمعنى (الله هو حسبك، وحسبك كذلك متبعوك) فهذا كاف لك للانتصار على الأعداء، وكلا القولين وجيه.
وجملة هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) في الآية السابقة لها قد تؤيد وجاهة التأويل الثاني وإن كان مقام الآية قد يجعل الرجحان للتأويل الأول من(7/79)
حيث إن التأويل الثاني يجعل المؤمنين الذين اتبعوا النبي (حسب) النبي بالإضافة إلى الله. والأدب والإيمان يقضيان بأن الله وحده هو حسب النبي والمؤمنين معا، وكلمة (حسبك) ليست في مقام أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) كما هو المتبادر والله تعالى أعلم.
التلقينات المنطوية في الآيات [55- 64]
والآيات كما قلنا احتوت خطة عامة للنبي صلى الله عليه وسلم تجاه أعداء الإسلام والمسلمين، وقد انطوى فيها تلقينات جليلة عامة مستمرة المدى كذلك وهذا هو المتبادر من ذلك:
1- إن الذين لا يصدقون بالحق ويقفون منه موقف المكابرة والعناد ولا يتورعون عن نقض عهودهم مرة بعد مرة هم شرّ من الدواب.
2- إن الحروب التي باشرها النبي والتي يصح أن يباشرها المسلمون بعده هي حروب دفاع وردع وإنذار وتذكير وعبرة للغير. وهدفها حمل الأعداء والبغاة على الارعواء وضمان أمن المسلمين وحرية الدعوة الإسلامية، وليست حروب عدوان وإبادة.
3- إن الواجب يقضي بالتمسك بالعهود فلا يكون من المسلمين نقض بدءا في أي حال. وليس لهم إلّا المقابلة على العدوان بمثله. وعلى الخيانة بما يستحقه الخائن الغادر.
4- إذا بدا من معاهد بوادر غدر أو خيانة صراحة أو سرا أو دسّا أو مظاهرة للأعداء فللمسلمين الحق حينئذ بنقض عهدهم معه والوقوف منه نفس موقفه. غير أن عليهم واجب إعلان بأنهم في حلّ من عهده ليكونوا وإياه في مركز متساو.
ويعلم كل منهما موقف الآخر وليس لهم أن يفاجئوه بالنقض والحرب دون إنذار وإعلان. ويمكن استدراك أمر وهو أن هذا يكون في حالة عدم اقتران غدر العدو(7/80)
ونقضه بعمل عدواني مفاجىء أو في حالة عدم إحداق الخطر من العدو بالمسلمين من جراء ما تيقنوا منه من نية الخيانة. وفي الآية [58] ما يمكن أن يلمح تأييد لهذا الاستدراك والله أعلم.
5- إن من واجب المسلمين الاستعداد بالقوة بكل ما يستطيعون من أسباب وأساليب. لأن هذا قد يكون وسيلة لإرهاب العدو وكبح جماحه وتفادي القتال فيحصل بذلك المقصود. وهو قمع عدوان العدو. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالاستعداد والإنفاق عليه شامل لكل أنواع الاستعداد والوسائل التي من شأنها كفالة الغاية. والتمشي في ذلك مع كل ظرف وتطور. وإن التقصير فيه أو إهماله إثم ديني عظيم لأنه مخالف لأمر الله ومعرض للمسلين وبلادهم ودينهم للأخطار والأضرار المادية والمعنوية. وقد احتوى القرآن آيات كثيرة متنوعة الأساليب في هذا الأمر. وفي سورة البقرة آية تنبه بصراحة وقوة على ذلك وهي:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) .
6- في الآية [59] معالجة روحية من شأنها بثّ القوة في نفوس المؤمنين وإثارة التحسّب في نفوس أعدائهم. فلا ينبغي الاعتقاد أن عدو المسلمين إذا نجا من نكال الله في موقف ما أنه يستطيع أن يفلت منه فهو محيط به. وكل ما هنالك أن حكمته اقتضت إمهاله. وهذه المعالجة انطوت في آيات كثيرة وفي سور سبق تفسيرها وفي سور آتية مع وعد رباني صريح بأن نصر المؤمنين حق على الله.
7- على المسلمين مقابلة الميول السلمية من الأعداء بمثلها حتى في حال احتمال تظاهر العدو بهذه الميول خداعا. وكل ما يجب هو أن يكون المسلمون في حذر وتنبّه. وينسجم هذا مع المبدأ القرآني المقرر مكررا من كون حروب المسلمين هي حروب دفاع ومقابلة بمقدار الضرورة التي تكفل سلامة المسلمين وحرية الدين. والأمر القرآني السابق شرحه بالاستعداد الدائم لمقابلة العدو وإرهابه وللإنفاق على ذلك مع الاعتماد على الله هو الكافي لإحباط ما يحتمل أن يبيته العدو من خداع ولجعله يكفّ عنه. ولقد قال بعض المؤولين إن هذا منسوخ بأمر(7/81)
قتال المشركين كافة إلى أن يسلموا أو بأمر قتال الكتابيين إلى أن يخضعوا ويعطوا الجزية. ونفى بعضهم ومنهم الطبري النسخ وقالوا إن الأمر محكم. وهو الأوجه المتسق مع التقريرات القرآنية التي لا تسوغ القتال لمجرد الشرك والكفر بالرسالة الإسلامية إذا لك يكن من المشرك والكافر عداء وعدوان على ما شرحناه في مناسبات سابقة وما سوف يأتي مزيد من شرحه بعد.
8- ويلحظ أن الأمر القرآني للمسلمين هو لمقابلة جنوح العدو إلى السلم بالمثل، وليس في هذه الآيات ولا في غيرها تسويغ لأن يكون الجنوح للسلم بدءا من المسلمين. بل في سورة محمد آية تنهى عن ذلك وهي: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي لا ينبغي للمسلمين أن يضعفوا أمام عدوهم ويطلبوا منه السلم. فهم الأعلون بإيمانهم وتأييد الله لهم وهو مهم كما جاء في هذه الآيات وآيات عديدة أخرى مثل وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] وانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: 47] وغيرها وغيرها. وفي سورة النساء هذه الآيات المهمة الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) ووَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) .
9- وجنوح العدو للسلم معناه أنه شعر بضعفه وعجزه أمام المسلمين فرأى أن ينتهي من موقفه العدائي العدواني وفي هذا تحقيق لغاية الجهاد في سبيل الله على ما جاء في آية سورة البقرة هذه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) فاقتضت حكمة الله أمر المسلمين بالجنوح للسلم إذا جنح لها عدوهم وعزم على الانتهاء من موقفه العدائي العدواني إزاءهم. وقد شرحنا هذه الآية وبينا ما هو مدى انتهاء العدو من موقفه العدائي في سياق تفسير الآية.(7/82)
وفي كل ما تقدم تلقينات جليلة رائعة.
10- ومن واجبنا أن ننبه في هذا المقام على مسألة مهمة وهي الاستجابة لطلب دولة اليهود في فلسطين السلم أو جنوحها إليه. فالتلقين القرآني لا ينطبق عليها وإنما ينطبق على العدو الذي له دار ودولة خاصة به منذ الأصل. أما اليهود في فلسطين فهم أعداء معتدون على دار المسلمين والعرب. ومغتصبون لما احتلوه من فلسطين اغتصابا باغيا بمساعدة طواغيت دول الاستعمار أعداء المسلمين والعرب. وقامت دولتهم في فلسطين بعد أن حاربوا المسلمين والعرب فيها أشد حرب وآذوهم أشد أذى وطردوهم من مدنهم وقراهم واستولوا على بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم وكرومهم وثرواتهم المنقولة وغير المنقولة. وهتكوا حرماتهم ودنسوا مقدساتهم وهدموا مساجدهم وأزالوا معالم الإسلام والعروبة ولم يكن بينهم وبين العرب والمسلمين سابق عداء قبل تفكيرهم في غزو فلسطين واغتصابها وإنشاء دولة لهم فيها على أنقاض العرب والمسلمين بل كان العرب والمسلمون في ظل السلطان الإسلامي يمنحون من كان في ظل هذا السلطان منهم الحرية والأمان والطمأنينة ومجال النشاط الاقتصادي والاجتماعي، في حين كانوا وظلوا معرضين للاضطهاد والمطاردة والمصادرة في جميع البلاد الأخرى التي كانوا يحلون فيها.
وهم حينما يعلنون رغبتهم في السلم مع العرب يريدون ذلك، مع احتفاظهم بما اغتصبوه من دار العرب والمسلمين ونسيان كل ما فعلوه فيهم. ومعنى الأمر للمسلمين بمقابلة ذلك الجنوح بمثله لا ينطبق عليهم، حتى لو تركوا بعض ما اغتصبوه واكتفوا بالقسم الذي قررته لهم هيئة الأمم، لأنه دار المسلمين والعرب وليس لهذه الهيئة أن تمنحهم جزءا مهما كان صغيرا من هذه الدار. وليس لأحد من المسلمين والعرب حقّ في قبول ذلك وهو خيانة لله ولرسوله وللمسلمين وعليهم واجب إعداد كل قوة يستطيعونها لمقاتلتهم وتضييق الخناق عليهم وحصارهم بدون هوادة ولا كلل إلى أن يقوضوا دولتهم وتعود البلاد كما كانت إلى حظيرة السلطان الإسلامي العربي وكل تهاون في ذلك إثم ديني عظيم.
هذا، ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآيات(7/83)
متساوقة مع تلقيناتها، وابن كثير أكثر من استوعبها منهم. ومنها ما هو وارد في كتب الصحاح، ومن ذلك في صدد عدم النقض إلّا بعد إعلان العدو حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، إنّ رسول الله قال من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقدة ولا يشدّها حتى ينقضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ هو عمرو بن عبسة أحد أصحاب رسول الله» «1» . ومن ذلك في صدد الاستعداد حديث رواه أصحاب السنن عن رسول الله قال: «إنّ الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به والممدّ به. وقال ارموا واركبوا ولأنّ ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا» «2» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عقبة بن عامر قال: «سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إنّ القوّة الرمي، ألا إن القوّة الرمي، ألا إنّ القوّة الرمي» «3» . وحديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منّا أو قد عصى» «4» . ومن ذلك حديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» «5» . وفي صدد رباط الخيل حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صدده أيضا حديث رواه الخمسة عن عروة البارقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم» «6» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس
__________
(1) التاج، ج 4 ص 335 وابن كثير ذكر أن الإمام أحمد رواه عن سليم بن عامر أيضا.
(2) التاج، ج 4 ص 319 و 320.
(3) المصدر نفسه. [.....]
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه ص 311 و 312.(7/84)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإنّ شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزان يوم القيامة» «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «الخيل ثلاثة، هي لرجل وزر، ولرجل ستر ولرجل أجر، فأمّا التي هي له وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الإسلام فهي عليه وزر.
وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله، فلم ينس حقّ الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر، وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام» «2» .
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ما في الأحاديث من تنويه بالرمي والخيل هو مستمد من ظروف الحياة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. والتلقين شامل في إيجاب الاستعداد الدائم والتدريب بكل الأسباب والوسائل حسب الظروف والتطورات المستمرة والمتجددة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
. (1) علم أن فيكم ضعفا: هناك من قرأ ضعفا بصورة ضعفاء، وعلى كل فالمعنى غير متباعد.
وفي هذه الآيات:
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بحثّ المؤمنين على قتال أعدائهم والثبات فيه. فهم إذا
__________
(1) التاج، ج 4 ص 311 و 312.
(2) المصدر نفسه.(7/85)
صبروا وثبتوا فالعشرون منهم يستطيعون أن يغلبوا مائتين، والمائة منهم يستطيعون أن يغلبوا ألفا من الكفار لأن هؤلاء لا يفقهون.
2- واستدراك لما سبق من تقرير كفاية الواحد من المؤمنين لعشرة من الكفار: فقد علم الله أن فيهم ضعفا فخفف عنهم، فهم إذا صبروا وثبتوا فتستطيع المائة منهم أن تغلب مائتين والألف ألفين بإذن الله الذي هو مؤيد للصابرين.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ... والآية التالية لها
الآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها كما هو المتبادر.
والراجح أن المقصود من نعت الكفار بأنهم لا يفقهون هو بيان كون المؤمنين يقاتلون عن إيمان ويقين بنصر الله وحسن العاقبة على كل حال ويعرفون سموّ الغرض الذي يقاتلون في سبيله فيساعدهم كل هذا على الثبات مهما كان الهول وعدد الأعداء في حين أن الكفار ليس عندهم من ذلك شيء وهم محرومون من الروحانية التي تشمل المؤمنين الصابرين.
ولقد روى المفسرون أن الآية الثانية نزلت بعد فترة من نزول الآية الأولى وبسبب اعتبار المسلمين أن الآية الأولى فرضت عليهم لقاء عشرة أضعافهم وعدم جواز فرارهم ووجوب صبرهم إزاء ذلك فاستعظموا وتمنوا من الله التخفيف فنزلت الآية الثانية. وقد روى البخاري هذا عن ابن عباس بهذه الصيغة «لما نزلت الآية الأولى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ... إلخ شقّ ذلك على المسلمين فجاء التخفيف في الآية الثانية الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ.... فلما خفف الله عنهم نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم» «1» . وروح الآية ومضمونها يلهمان صحة الرواية
__________
(1) التاج، ج 4 ص 110.(7/86)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
باستثناء الجملة الأخيرة التي هي من قبيل الاجتهاد والتي لا نرى لها وجها من حيث إن إنقاص الصبر يذهب بحكمة التخفيف الذي هو بمثابة رحمة ونعمة من الله ويجعل ذلك عقوبة والله أعلم.
وعلى كل حال فإن روح الآيتين تدل على أن هدفها الرئيسي هو بثّ روح الصبر والثبات في المسلمين تجاه أعدائهم وإيذانهم بأنهم سيغلبون أعداءهم إذا ما صبروا مهما قلّ عددهم وكثر عدد أعدائهم لأنهم يقاتلون عن إيمان. وفي هذا ما فيه من علاج نفسي مستمر المدى.
ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [66] أي الثانية نسخا للأولى. وقال بعضهم إن التخفيف ليس نسخا، وهذا هو الأوجه ولا سيما إن المبدأ المنطوي في الآية [65] ظلّ ماثلا في الآية [66] وهو أن المؤمنين يستطيعون أن يغلبوا إذا صبروا وثبتوا عددا أكثر من الأعداء ولو كانوا أضعافهم.
ولقد ظهر في معظم وقائع الفتح التي وقعت في عهد الخلفاء الراشدين بل وبعدهم مصداق كلام الله عز وجل قويا باهرا حيث تواترت الروايات إلى حدّ اليقين بأن المسلمين كانوا يلقون أعداءهم وهم أكثر منهم مرتين وثلاثا وأكثر وينتصرون عليهم بقوة ما كان من إيمانهم بأنهم يقاتلون في سبيل الله وبأن الله ناصرهم على أعدائهم وبأن لهم الفوز على كل حال بإحدى الحسنيين. النصر أو الاستشهاد.
والآيات على ضوء هذا الشرح والوقائع تظل مستمد مدد فيض للمسلمين في كل وقت.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
. (1) حتى يثخن: بمعنى حتى يقوى ويشتدّ أمره ويتمكن في الأرض.(7/87)
في هذه الآيات:
1- بيان بأنه لا ينبغي لنبي أن يأسر أعداءه في الحرب ويستبقيهم أحياء إلّا بعد أن يشتدّ أمره ويقوى سلطانه وتتوطد رهبته.
2- وإشارة موجهة إلى المؤمنين المخاطبين بأنهم في عملهم ما لا ينبغي قد أرادوا عرض الدنيا في حين أن الله إنما يريد لهم الآخرة وهو عزيز حكيم قادر قوي لا يريد إلّا ما فيه الخير والصواب.
3- وخطاب موجّه إليهم أيضا بأن الله لو لم تقتض حكمته التسامح معهم لأصابهم بما أخذوه من فداء الأسرى عذاب رباني عظيم.
4- وأمر موجه إليهم كذلك بإجازة الاستمتاع بما أخذوه حلالا طيبا، فالله غفور رحيم يتجاوز عن ذنوبهم ويشملهم برحمته مع التنبيه بوجوب تقوى الله واجتناب ما لا يرضاه.
تعليق على الآية ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون في صدد هذه الآيات حديثا رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر يوم بدر ما ترون في هذه الأسارى. فقال أبو بكر هم بنو العمّ والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفّار وعسى الله أن يهديهم للإسلام، وقال عمر لا أرى والله ما رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكّننا من ضرب أعناقهم. فهؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
فهوي رسول الله ما قال أبو بكر: فلما كان من الغد جاء عمر فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدان يبكيان فقال ما يبكيكما قال الذي عرض عليّ من أخذ الفداء وأنزل الله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الآيات» «1» .
__________
(1) التاج، ج 4 ص 111.(7/88)
وهناك روايات أخرى لم ترد في الصحاح وهي متفقة في المدى مع الحديث فاكتفينا بالحديث. وفي الروايات ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور بالإضافة إلى أبي بكر وعمر كبار أصحابه الآخرين من الأنصار والمهاجرين ونعتقد صحة ذلك.
وفحوى الآيات مع حديث البخاري يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الرأي القائل بأخذ الفدية قبل نزول الآيات فنزلت الآيات منبهة إلى ما كان الأولى ومجيزة لما تمّ مع الإيذان بغفران الله.
ونرى من الواجب أن نبيّن أن التنفيذ النبويّ هو اجتهاد مأجور وأن التنبيه والعتاب هو على كونه خلافا لما هو الأولى في علم الله المغيب عن رسول الله ولقد تكرر الاجتهاد النبوي وتكرر العتاب القرآني مما مرّ منه أمثلة في سور سبق تفسيرها ومما ورد أمثلة منه في سور آتية. وفي هذا صورة من صور سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يجتهد فيما ليس فيه وحي فما كان صوريا أقرّه الله عليه سكوتا أو قرآنا وما كان خطأ عاتبه عليه ونبهه إلى ما هو الأولى وغفره له. وفي القرآن صور من ذلك. منها خروجه لقافلة قريش على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة من السورة وليس في هذا مطعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة التي فيها عتاب للنبي، فعصمته حق والإيمان بها واجب وهي متحققة فيما يبلغه عن الله وفي التزامه الشديد لأوامر الله ونواهيه وفي عدم وقوعه في إثم ومحظور. وليس في هذا وبين الموقف الذي نحن في صدده وأمثاله تعارض كما هو ظاهر.
والآيات والحديث تنطوي على دلالة جديدة تضاف إلى الدلالات الكثيرة مما مرّ منه أمثلة عديدة على كون القرآن وحيا ربانيا وعلى عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما احتوى من عتاب وتثريب له.
وفي استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه صورة من الصور التي يجتهد فيها فيما ليس فيه وحي. وهي في الوقت نفسه تطبيق للوصف القرآني العام للمسلمين الوارد في آية سورة الشورى [38] بأن المسلمين أمرهم شورى بينهم. ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم(7/89)
باستشارة أصحابه صراحة في مواقف أخرى أشير إليها في سورة آل عمران التي يأتي تفسيرها بعد هذه السورة. هذا، وهناك حديث يرويه الترمذي في نزول الآية [68] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم تحلّ الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها فلمّا كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحلّ لهم فأنزل الله الآية» «1» . ويلحظ أن الآية جزء من سياق تام ورد في صدد الأسرى وفدائهم وأن الله قد عاتب أو نبّه رسوله فيه على أخذ الفداء. ولهذا فنحن نتوقف أن تكون الآية نزلت في صدد ما ورد في الحديث من غنائم بدر عامة. وكل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمنين برحمة الله لهم في إحلاله الغنائم لهم وتلا الآية على سبيل التدليل والله أعلم.
ويورد المفسرون حديثا في هذا السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تقرير كون الله تعالى قد أحلّ له الغنائم دون غيره من الأنبياء وقد رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم وفضّلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافّة وختم بي النبيّون» «2» .
ولقد تعددت تأويلات المؤولين في مدى جملة لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ من ذلك أنها بمعنى (لولا أن الله قضى في سابق علمه وحكمته أن تكون الغنائم حلالا لهم) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ المجتهدون عن حسن نية فيما اجتهدوه خلافا لما هو الأولى في علم الله) .
أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الذين هداهم على أمر حتى يبين لهم ما يتقون فيه) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الناس على عمل ليس عندهم فيه بيان من الله) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن يغفر لأهل ما بدر من المواجه من أخطاء) وكل هذه التأويلات واردة، مع استبعادنا الأخير. والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج، ج 4 ص 111.
(2) التاج، ج 1 ص 205.(7/90)
وأسلوب الآيات عتابي على فعل ما هو غير الأولى في علم الله، وهذا يسوغ القول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل بعض ما يفعل بدون وحي وبسائق الاجتهاد فيخطىء ويصيب ويفعل غير الأولى المغيب في علم الله. وليس في هذا مطعن في عصمته على ما شرحناه في سياق تفسير سورة النجم. فعصمته حقّ ومتحققة في صدقه فيما يبلغه عن الله وفي التزامه الحدود التي يأمر الله بها آمرة كانت أم ناهية. وليس بين هذا وبين هذا الموقف وأمثاله- مما تكررت الإشارة إليه في القرآن وروته الروايات (ومن ذلك مسألة المنزل الذي نزله في أدنى ماء من بدر وعدل عنه باقتراح الحباب بن المنذر على ما أوردناه قبل، ومسألة عبوسه حينما جاءه الأعمى يسأله بينما كان يتحدث مع أحد الزعماء على ما جاء في آيات سورة عبس الأولى) - تعارض كما هو ظاهر. والنبي فعل ما فعل مجتهدا بأنه الأصلح في أمر ليس محددا من الله تعالى وليس فيه ذنب أو محظور.
ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذا الحديث حديثا عن عمر بن الخطاب جاء فيه «أنه جاء إلى رسول الله غداة المشورة في أمر الأسرى وترجيح النبيّ اقتراح فدائهم فوجده مع أبي بكر قاعدين يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة من رسول الله- فأنزل الله عزّ وجلّ الآيات» والحديث ذو مغزى في صدد الشعور النبوي والوحي القرآني معا.
والآيات لا تمنع الأسر والفداء بالمرة كما هو ملموح في صيغتها. وإنما هي بسبيل تقرير أن ذلك ما كان ينبغي إلا في حالة اشتداد قوة النبي والمسلمين وتوطيد هيبتهم ورهبتهم وسلطانهم. وينطوي في ذلك تقرير كون معاملة الأعداء بالشدة والصرامة مما يوطد هذه الرهبة والهيبة والسلطان ومما هو ضروري لمصلحة
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير، وقد روى الحديث الترمذي بسند صحيح أيضا. انظر التاج ج 4 ص 111 فصل التفسير.(7/91)
الدعوة الإسلامية في بعض الظروف. ولقد ورد في سورة محمد آيات تجعل المسلمين بالخيار في معاملة الأسرى بعد الإثخان فيهم وهي فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] حيث انطوى فيها تشريع بالنسبة للظروف التي يكون فيها المسلمون أصحاب قوة وهيبة وتمكّن. كما انطوى فيها تلقين متسق مع التقريرات القرآنية بأن الجهاد الإسلامي هو جهاد للردع والدفاع والمقابلة بالمثل وضمان أمن المسلمين وسلامتهم وحريتهم وحرية الدعوة إلى الإسلام ومنع العدوان عليها وأنه لا ينبغي أن يتجاوز القدر اللازم لتأمين هذه الغايات.
وفي إجازة القرآن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم اجتهادا توطيد لمبدأ الرأفة في الحروب الإسلامية. وفيها كذلك قرينة مؤيدة لصحة نقد قول من يقول إنه ليس لمشركي العرب إلا الإسلام أو القتل وكل هذا مما أيدته آيات قرآنية عديدة منها ما مرّ ومنها ما سوف يجيء بعد.
ولقد روى المفسرون وكتّاب السيرة روايات متنوعة في سياق هذه الآيات عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى يحسن إيرادها هنا لما فيها من سنن وتلقينات وصحتها إجمالا محتملة ولو لم ترد في الصحاح. من ذلك أنه أمر بقتل شخصين منهم كانا شديدي الأذى والنكاية في مكة وهما النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط «1» .
وأنه حينما وصل المدينة فرق الأسرى بين أصحابه ووصاهم بهم خيرا ونهى عن
__________
(1) روى البخاري عن عروة بن الزبير صورة من أذى عقبة للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ابن عمرو بن العاص عن أشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ فقال: بينما كان يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة فوضع ثوب النبيّ في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ورفعه عن النبيّ وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ... التاج ج 3 ص 363) . وروى ابن هشام صورة أخرى وهي أن عقبة جلس إلى النبي واستمع له فغضب عليه أبيّ بن خلف أحد صناديد مشركي قريش وحلف أن يقاطعه إذا لم يأت محمدا ويتفل في وجهه ففعل عدوّ الله ذلك. ج 1 ص 36. أما النضر فكان يتبع النبي وكلما جلس إلى أحد أو جلس عنده أحد جلس وتحدى النبي وكذبه وقال هي أساطير الأولين اكتتبها ... وقد ذكر ذلك ابن هشام أيضا انظر ج 2 ص 358- 359.(7/92)
التمثيل بهم، ولم يلبث أن أخذ يأتي ذووهم من مكة ليفتدوهم وكان أعلى فداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم. وكان بين الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله زينب فأرسلت قلادتها لفدائه. فلما رآها النبي رقّ لها رقة شديدة وقال لأصحابه إذا رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها ما لها فافعلوا. ففعلوا وأخذ النبي مقابل ذلك من أبي العاص وعدا بإرسال زينب إلى المدينة ففعل. وكان بين الأسرى عمّه العباس فقال رجال من الأنصار: ائذن لنا لنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال لا والله لا تذرون منه درهما. وأخذ منه مائة أوقية ذهبا فدية. وقد قال له العباس قد كنت مسلما فقال له الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك. وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر فقال ما ذاك عندي يا رسول الله قال فأين الذي دفنته أنت وأم الفضل، قلت لها إن أصبت في سفري فهذا المال لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم. قال والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله. وإن هذا شيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. وقد كان معه حين خرج من مكة عشرون أوقية من الذهب فأخذت منه بعد أسره فقال يا رسول الله احتسبها من فدائي فقال لا، هذا شيء خرجت تستعين به علينا فأعطاناه الله. وكان بين الأسرى ابن لأبي سفيان اسمه عمرو وقد قتل له ابن آخر اسمه حنظلة. فقالوا له افتد ابنك فقال أيجمع على دمي ومالي. قتلوا حنظلة وأفدي عمرا دعوه في أيديهم ما بدا لهم. وفي هذه الأثناء خرج من المدينة سعد بن النعمان من بني عوف إلى مكة معتمرا وكان مسلما فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو فمشى أقاربه إلى رسول الله وسألوه أن يعطيهم ابن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم ففعل واستخلصوا صاحبهم به، وقد منّ النبي على بعض الأسرى ممن لا مال له ولم يرسل ذووه فداءه ومنهم أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي الذي روي أنه مدح النبي بقصيدة وعاهده على أن لا يظاهر عليه أحدا «1» .
__________
(1) انظر ابن هشام ج 2 ص 269- 299 و 364 وتاريخ الطبري ج 2 ص 131- 165 وتفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(7/93)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
وقد روى ابن سعد في طبقاته أن النبي صلى الله عليه وسلم منّ على بعض الأسرى الذين لم يكن لهم مال يفتدون به أنفسهم مقابل تعليم الواحد منهم الكتابة لعشرة من المسلمين. وكان ممن تعلّم بهذه الوسيلة زيد بن ثابت رضي الله عنه «1» . وهناك حديث يرويه الإمام أحمد عن ابن عباس قال «كان ناس يوم بدر ولم يكن لهم فداء فجعل رسول الله فداءهم أن يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة فجاء غلام يبكي إلى أبيه فقال ما شأنك قال ضربني معلّمي، قال الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدا» «2» .
هذا، ونقول في صدد جملة تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إن إرادة عرض الدنيا مما نسب إلى الكفار في مواضع كثيرة من القرآن بحيث ينبغي صرفه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار إلى مفهوم آخر.
ويتبادر لنا أن الجملة بقصد تقرير كون النداء هو عرض دنيوي في حين أن الله إنما يريد للمسلمين العواقب الحسنة والتنزه التام عن أعراض الدنيا حينما يكون الظرف ظرف جهاد في سبيل الله وتوطيد هيبة المسلمين ورهبتهم في قلوب أعدائهم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
. في هاتين الآيتين أمر للنبي بمخاطبة الأسرى وتبشيرهم وإنذارهم: فإذا حسنت نياتهم وطهرت قلوبهم فالله معوضهم خيرا مما أخذ منهم من الفداء وغافر لهم ما أسلفوه وهو الغفور الرحيم. أما إذا أضمروا الخيانة لعهد النبي فليذكروا أنهم خانوا الله من قبل بوقوفهم موقف الكفر والأذى فمكّن الله المسلمين منهم فنكلوا بهم، وهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 2 ص 62.
(2) نيل الأوطار ج 8 ص 144 والذحل بمعنى الثأر. [.....](7/94)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ والآية التالية لها
وقد روى المفسرون «1» أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يقول:
إن هذه الآية نزلت فيّ حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي وقد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني مائة ضعف وأبدلني بالعشرين أوقية من الذهب عشرين عبدا كلهم تاجر، مالي في يديه. وفي رواية أخرى أربعين عبدا بدل العشرين. وإنه كان يقول ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا، فقد قال الله نؤتكم خيرا مما أخذ منكم. وقد أعطاني مائة ضعف ما أخذ مني. وقال يغفر لكم وأرجو أن يكون قد غفر لي. ورووا مع هذه الرواية رواية أخرى عن ابن عباس جاء فيها أن الأسرى بما فيهم العباس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم آمنّا بما جئت ونشهد أنك رسول الله ولننصحن بذلك قومنا. والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ إلى هذا أن فحوى الآيتين يفيد أن المخاطبين أكثر من واحد أو بالأحرى جميع الأسرى. وأن الآية الثانية منهما احتوت تحذيرا من الخيانة وإنذارا قويا، وهذا لم يكن متوقعا من العباس بحيث يسوغ التوقف في الروايات وبكون الآيات نزلت في العباس. ونستبعد كذلك ما ذكرته الرواية الثانية من أن الأسرى أسلموا لأن روايات السيرة والمفسرين والمؤرخين متفقة على أن معظم الأسرى قد افتداهم أهلهم واستردوهم ولا بد أن يكون ذلك لو أنهم أسلموا حتى زوج بنت رسول الله فإنه لم يسلم ومنّ رسول الله عليه بتحبيذ من أصحابه حينما بعثت زوجته بعقدها لتفتديه على ما ذكرناه قبل قليل.
وعلى كل حال ففي الآيتين إيعاز رباني بما ينبغي أن يتصرف به النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الأسرى بعد أن أخذ الفداء من بعضهم ومنّ على بعضهم. ومن الجائز أن يكون النبي بهذا الإيعاز أخذ منهم عهدا بالمسالمة والكفّ، ولعلّه أخذ من بعضهم
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(7/95)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
عهدا بالإسلام ووعدا بالعودة بعد قضاء ما لهم من مصالح في مكة. وقد يكون التبشير برحمة الله وغفرانه إذا هم ثبتوا على عهدهم وحسن نياتهم، والإنذار إذا كانوا يبيتون الغدر والخيانة مع التذكير بما كان من نصر الله ورسوله عليهم في وقعة بدر قد يدعم ذلك والله تعالى أعلم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
. (1) الذين آووا ونصروا: كناية عن أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة لأنهم آووا إليهم النبي والمهاجرين ونصروهم.
هذه الآيات تحتوي بيان صلات كل من المؤمنين والكافرين ببعضهم وموقف كل منهم تجاه بعضهم وتجاه الفريق الآخر:
1- فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وهم المهاجرون من مكة إلى المدينة من حيث ظروف التنزيل، والذين آووهم ونصروهم، هم المسلمون من أهل المدينة، بعضهم أولياء بعض. والأخوّة موطدة بينهم، يتناصرون في كل موقف ويتولى بعضهم بعضا.
2- أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة ليلتحقوا بالنبي والمؤمنين فيها(7/96)
من المهاجرين والأنصار فلا يترتب على هؤلاء واجب توليهم إلّا إذا هاجروا والتحقوا بهم. غير أنهم إن استنصروهم على أعداء لهم اعتدوا عليهم بسبب دينهم فيجب عليهم أن ينصروهم إذا لم يكن بينهم وبين هؤلاء الأعداء عهد وميثاق. والله خبير بما يعمل كل من المؤمنين وبمقاصدهم.
3- وأما الكفار فإن بعضهم أولياء بعض. ولا يصح في أي حال أن يكون بينهم وبين المؤمنين المهاجرين والأنصار أي تضامن أو ولاء. ومخالفة هذا الحد مؤدية إلى الفتنة والفساد العظيم وهذا ما يجب على المؤمنين المخلصين أن يحذروه ويتوقوه.
4- والمؤمنون المخلصون حقا هم الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووهم ونصروهم، فهؤلاء جميعهم لهم المغفرة من الله والرزق الكريم عنده.
5- والذين يؤمنون بعد هذا ويلتحقون بالمهاجرين والأنصار ويجاهدون معهم فيصبحون منهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
6- والذين تجمع بينهم رحم وقرابة من المؤمنين المهاجرين والأنصار هم أولى ببعضهم. وهذا هو حكم الله وكتابه وهو العليم بمقتضيات كل أمر وشأن.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة
يبدو لأول وهلة أنه لا صلة بين هذه الآيات والسياق السابق. غير أن إنعام النظر يؤدي إلى لمس شيء من الاتصال فيما يتبادر لنا حيث إن وقعة بدر وطّدت أولا الأخوة بين المهاجرين والأنصار أشد من قبل لأنهما اشتركا في حرب وغدوا يتحملان تبعاتها الاجتماعية التي كانت شديدة في بيئة النبي وعصره. ووطّدت ثانيا(7/97)
العداء الشامل بين المهاجرين والأنصار من جانب وبين كفار قريش من جانب، وكان بين هؤلاء والمهاجرين صلات وشيجة من قربى ورحم ودم وصهر وشركة مال وملك، فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات لبيان الحكم في صلات كل منهم بالآخر. ووضعت في آخر السورة إما لأنها نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو للتناسب الموضوعي.
ولم يرو المفسرون رواية في نزول الآيات وإنما رووا عن ابن عباس وبعض التابعين أن التولي في الآيتين الأولى والثانية بمعنى التوارث. وأن الآية الأولى منهما في صدد تشريع التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. وأن الآية الثانية في صدد منع التوارث بين المؤمنين والكفار. وإلى هذا روى المفسرون أيضا أن التولي في الآيتين بمعنى التضامن والتناصر «1» . وروح الآيتين ومضمونهما في جانب القول الثاني فيما يتبادر لنا. ويقوي هذا ما جاء في الآية الأولى من بيان الموقف الذي يجب أن يقفه المهاجرون والأنصار من المؤمنين غير المهاجرين. وتعبير اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ وتعبير فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ يكادان يفسران مفهوم تعبير أَوْلِياءُ وتعبير وَلايَتِهِمْ اللذين جاءا قبل. ويقويه أيضا التنبيه الذي جاء في الآية الثانية على أن مخالفة ما جاء فيها بتبادل التولي بين الكفار والمؤمنين يؤديان إلى الفتنة والفساد الكبير. فهذا التعبير القوي أجدر أن يكون بسبيل التناصر والتولي بين ذوي العصبية والأرحام من المؤمنين والكفار أكثر منه بسبب التوارث.
وما جاء في الآية الأولى من بيان الموقف الواجب تجاه المؤمنين غير المهاجرين يدل على أنه كان في مكة أو في البادية مؤمنون ظلوا حيث هم ولم يهاجروا. وقد تكررت الإشارات في سور أخرى إلى هؤلاء أيضا. ومن هذه
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي وبعضهم أورد الروايات المتناقضة. انظر أيضا ابن هشام ج 2 ص 324 حيث قال في سياق تفسير الآية الثانية (لا يوال المؤمن الكافر وإن كان ذا رحم به) .(7/98)
الإشارات ما يفهم أنه كان من هؤلاء العاجز أو الممنوع عن الهجرة بالقوة، ومنهم من كان يكتم إيمانه كما جاء في هذه الآيات من سورة النساء: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) وإِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وآية سورة الفتح هذه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
[25] ومنهم من كان مستسلما مقصرا عن الهجرة بدون عذر كما جاء في آية سورة النساء هذه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) .
وأسلوب الكلام في حقّ الأخيرين في آية الأنفال [72] والتي نحن في صددها، ينطوي على شيء من التأنيب. كما أن أسلوب آية النساء [97] جاء شديدا قاسيا في حقهم. وهذه حكمة التنزيل التي لم توجب على المهاجرين والأنصار نصرا لهؤلاء إلّا في حدود ضيقة. فحريتهم الدينية هي مما يجب نصرهم فيها لأن الأمر متعلق بكلمة الله ودينه وهذا مما ينطوي في تعبير وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ومع ذلك جعل هذا الواجب في حدود ضيقة أيضا حيث جعله في حالة ما إذا كان الاستنصار على جماعة ليس بينهم وبين المسلمين ميثاق صلح وسلام. أما حقوقهم ومصالحهم الدنيوية وما ينشأ عن التضامن القبلي أو العائلي من تبعات وواجبات فلا شأن لهم به.
ولقد روى الشيخان وأحمد وأصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه: «لا هجرة بعد الفتح وإنما نيّة وجهاد. وإذا استنفرتم فانفروا» «1» . حيث يسوغ القول إن هذا
__________
(1) انظر تفسير آية النساء [100] في تفسير الخازن والمنار وانظر تعليق السيد رشيد رضا على هذا الموضوع. وقد ورد هذا الحديث في التاج برواية الخمسة مع فرق يسير وهذه صيغته:
«إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ... »
التاج، ج 4 ص 304.(7/99)
التأنيب والتشديد إنما كان بالنسبة إلى ما قبل الفتح المكي حيث كان المتأخرون عن الهجرة قد رضوا بالبقاء في دار الكفر والظلم ولم يلتحق القادر منهم بإخوانهم ويضحوا مثلهم ليتضامنوا في موقف النضال القائم بينهم وبين الكفار.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن الخطيب الأسلمي جاء فيه فيما جاء في صدد الجهاد والدعوة من وصية النبي التي كان يوصي بها قواد سراياه ودعاته: «فإن أجابوك إلى الإسلام فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أنّ لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري عليهم ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين» . والحديث من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أيضا بفروق يسيرة «1» . والراجح أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة فيكون بينه وبين الحديث السابق وبين الآيتين تساوق كما هو واضح.
ومع ذلك فإن في الآية الأولى تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم بقاء المسلم في دار الظلم والبغي راضخا لحكم الظالمين البغاة وبوجوب هجرته إذا استطاع إلى حيث يكون له إخوان يقاسمهم السرّاء والضرّاء ويتضامن معهم على هدم البغي والظلم وإرغام البغاة والظالمين.
وفي الآية تلقين جليل آخر. وهو وجوب احترام المسلمين لعهودهم حتى ولو كانت حائلة أحيانا دون نصر مسلمين آخرين في بقعة أخرى. ولقد تكرر حثّ القرآن على الوفاء بالعهد بحيث يكون هذا مبدأ محكما من مبادئ القرآن. وننبّه
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 327.(7/100)
بهذه المناسبة على أننا لم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يقول بنسخ هذا المبدأ ولو في حالة مثل الحالة التي ذكرت في الآية. بحيث يكون هذا أيضا محكما بالنسبة لهذه الحالة. ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن هذا لا يمنع المسلمين المعاهدين من بذل جهودهم مع معاهديهم لضمان حرية المسلمين وحقوقهم عندهم. لأن روح الآية تلهم أن التلقين قاصر على عدم نقض العهد كما تلهم أن على المسلمين مبدئيا نصرة إخوانهم الذين يستنصرون بهم حيث يوجب هذا عليهم بذل تلك الجهود.
وأسلوب الآية الثانية قويّ شديد. وهذا ما اقتضته على ما هو المتبادر ظروف نزولها حيث كانت الوشائج بين مسلمي قريش وكفارهم قويّة، بينما غدا العداء مستحكما شديدا بين المسلمين عامة وبين هؤلاء الكفار، بحيث كان أقل تهاون أو تسامح أو تفكك يسبب فسادا عظيما ويهدد مصلحة المسلمين بأشد الأخطار. وقد تكرر التشديد في هذا الأمر في آيات عديدة أخرى لأن الحالة ظلت تقتضي ذلك مثل آية سورة المجادلة هذه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [22] ومثل آية سورة التوبة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [23] .
وفي الآيات الثلاث الأولى توطيد للوحدة الإسلامية التي جمعت بين المسلمين على اختلاف قبائلهم، وإقامتها مقام عصبية القبيلة والأسرة الضيقة التي كانت هي ضابط الحياة الاجتماعية العربية قبل الإسلام والتي كانت تؤدي إلى العداء والحروب بين القبائل لأتفه الأسباب. كما أن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى بإيجاب كبح جماع النفس والهوى الخاص: الشخصي والأسروي والقبلي في مواقف النضال وجعل المصلحة العامة هي السائدة العليا وتضحية كل اعتبار في سبيلها.(7/101)
ومن الحق أن ننبّه إلى أن التشديد الذي احتوته الآية الثانية إنما هو في صدد التناصر والتولي أولا. وليس شاملا إلّا بالنسبة للظروف التي يكون فيها عداء وقتال بين المسلمين والكفار ثانيا. حيث ورد في القرآن آيات كثيرة تقرّ المسالمة والصلح بين المسلمين وغيرهم وتأمر بالاستقامة للمعاهدين ما استقاموا مما مرت الإشارة إليه في هذه السورة وفي سورة البقرة وفي سور أخرى على ما يأتي شرحه بعد.
وحيث ورد في سورة الممتحنة آيات تحثّ المسلمين على البرّ والإقساط لغيرهم الذين يوادونهم ويسالمونهم وتحصر النهي في الذين يقاتلون المسلمين ويظاهرون عليهم أعداءهم كما ترى فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) .
والتنويه الذي احتوته الآية الثالثة قوي وعظيم. فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله دون تردد وتقصير والذين آووا المهاجرين ونصروهم وتضامنوا معهم وكبحوا جماع النفس ولم يدعوا لأي ميل وصلة سبيلا على أداء ما يجب عليهم من التضامن والتناصر والتواثق هم أولياء بعض حقا وهم المؤمنون حقا وهم أهل لتكريم الله ورضائه حقا. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل نفساني واجتماعي وإيماني مستمر المدى وقد تكرر ثناء القرآن وتنويهه بهم مما مرّ منه أمثلة في سورة البقرة ومما ورد أمثلة أخرى في سور أخرى يأتي تفسيرها بعد.
والفقرة الأولى من الآية الرابعة فتحت الباب لاندماج من يؤمن ويهاجر ويجاهد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صف المؤمنين المهاجرين المجاهدين السابقين. وهؤلاء وأمثالهم ممن عنتهم جملة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ... [100] وفي هذا تلقين جليل يتصل بتوطيد الأخوة بين المسلمين حينما يجتمعون في ساحة واحدة من الإيمان والهجرة(7/102)
والجهاد وإن تأخر بعضهم عن بعض. ويتصل كذلك بمعنى التسامح والتصافي ونسيان الماضي الأليم. وهو تلقين مستمر المدى في كل ظرف مماثل على ما هو المتبادر. وفي سورة التوبة آية فيها توطيد لهذا المعنى بأسلوب آخر وهي فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) .
والفقرة الثانية من الآية الرابعة هي في صدد أولوية ذوي الأرحام ببعضهم حينما يكونون جميعهم مسلمين في كل ما يترتب على ذوي الأرحام نحو بعضهم من حقوق وتبعات ويدخل في ذلك حقوق التوارث طبعا. وهذه الحقوق ممتنعة بين المسلمين والكفار على ما أوضحته السنّة النبوية حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» «1» . وحيث روى أصحاب السنن حديثا نبويا ثانيا جاء فيه: «لا يتوارث أهل ملّتين شتّى» «2» . ولقد روى المفسرون «3» أن هذه الآية نسخت ما كان قبلها من التوارث بين المتآخين من المهاجرين والأنصار وأنها نزلت لحدتها ومتأخرة عن سابقاتها. ومع احتمال صحة تأخرها عن سابقاتها حيث احتوت حكما متعلقا بمن التحق بالمسلمين مؤخرا مهاجرا مجاهدا وكون وضعها في محلها هو للتناسب الموضوعي فإننا غير مطمئنين إلى القول بوجود نسخ فيها على النحو الذي ذكره المفسرون استنباطا من الآية الأولى بعد أن رجحنا أن هذه الآية هي في صدد الحثّ على التضامن والتناصر وليست في صدد توطيد التوارث بين المتآخين من الأنصار والمهاجرين استنادا إلى القرائن الملموحة في الآية نفسها.
ولقد روى الطبري وغيره أن الآية في صدد منع التوارث التعاقدي حيث كان من عادتهم حينما يدخل واحد في ولاء آخر أن يقول كل منهما للآخر (وترثني
__________
(1) انظر التاج، ج 2 ص 229.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(7/103)
وأورثك) وأن الآية قد نسخت ذلك. والرواية ليست في الصحاح. ونحن نتوقف فيها لأن ما فيها بعيد عن مضمون الآيات ومقامها. ولقد قال الطبري بعد أن أورد ما أورد بأنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه. ويتبادر لنا كذلك أن الحكمين اللذين احتوتهما فقرتا الآية متصلان ببعض وأن الآية متصلة بالآية الثانية التي منعت بأسلوب مشدد أن يتولى المؤمنون الكافرين وأن يبقوا على ما بينهم وبينهم من صلة وحقوق بسبب الرحم والدم. فجاءت الآية الرابعة لتبين الحكم فيمن يؤمن من الكفار مؤخرا ويلتحق بالمهاجرين ويجاهد معهم. فهؤلاء قد أصبحوا مثلهم. وقد رفع المنع السابق عنهم. وصار لذوي الأرحام من السابقين واللاحقين الحقوق والواجبات المتعارفة بعد ما غدوا جميعهم مسلمين.
وهذا البيان يسوغ القول إن الآية متصلة بالسياق جميعه وإنها نزلت مع الآيات الثلاث السابقة لها.
ولقد قال القاسمي في سياق الآية الأخيرة إن الشيعة الإمامية يستدلون بها على تقدم علي رضي الله عنه على غيره بالإمامة. أي أنهم قد اعتبروا مقام النبوة إرثا يرثه الأقربون من ذوي رحم النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من غرائبهم الكثيرة في تأويل القرآن لتأييد أهوائهم. وقد نسوا هنا أن عمّ النبي العباس عاش بعد النبي وأنه الأولى رحما من علي رضي الله عنهما. وهذا ما كان يحاج العباسيون به العلويين حينما صار لهم الملك وصار العلويون يرون في ذلك غصبا لحقهم.(7/104)
سورة آل عمران
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة: الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجّات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتّاب السيرة «1» متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته «2» وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج «3» نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صحّ أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمّنهم على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم ...
إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلّا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن.
وهذا إنما تمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي وابن هشام ج 2 ص 204- 216.
(2) طبقات ابن سعد ج 2 ص 55 و 119.
(3) ص 40- 41.(7/105)
على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له نوادعك ونبقى على ديننا «1» .
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المرويّة بعد سورة الأنفال يسوغان القول إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السورة في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة- وهذا مما لا يتحمل ريبا- حفّز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد
__________
(1) ابن هشام ج 2 ص 204- 216.(7/106)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير «1» روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجّه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين «2» اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
. بدأت السورة بالحروف المتقطعة الثلاثة للتنبيه واسترعاء الذهن إلى ما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ثم أخذت الآيات بعدها تقرر صفات الله وتنوّه بكتبه: فهو الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم يأمر الكون وما فيه. وهو الذي نزّل الكتاب على النبي- والخطاب موجّه إليه- صدقا وحقا ومصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية ومتطابقا معها كما أنه هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس. وقد أنزل الفرقان كذلك هدى للناس. وهو الذي لا يخفى عليه شيء
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج 3 ص 78- 91 وابن هشام ج 3 ص 3- 159.
(2) انظر المصدر نفسه.(7/107)
في الأرض ولا في السماء وهو الذي يصوّر الناس- والخطاب موجه إلى السامعين- في أرحام أمهاتهم كيف تشاء حكمته. وهو العزيز القويّ الذي لا تطاوله قوّة والحكيم الذي يفعل ما فيه الحكمة والصواب. ومن أجل ذلك لا يصح أن تكون الألوهية لأحد غيره ولا يصح أن يكون إله إلّا هو. والذين يكفرون بآياته ويجحدونها يذوقون عذابه الشديد. وهو القادر المنتقم ممن يقف منه ومن آياته موقف الكفر والجحود.
والآيات صريحة بأن الله أنزل التوراة والإنجيل. ولقد شرحنا في سياق تفسير الآيات [157- 158] من سورة الأعراف معنى الكلمتين ومدى ما تدلّ عليهما وما هو المتداول في أيدي الكتابيين مما يطلق عليه الكلمتان، وما يعرف بالعهد القديم والعهد الجديد فلا نرى حاجة إلى الإعادة والزيادة. إلّا أن نقول إن في العبارة القرآنية هنا توكيدا لما قررناه من أن القرآن عنى بالتوراة والإنجيل كتابين أوحى الله بهما وأنزلهما وإنهما غير ما في أيدي اليهود والنصارى من أسفار كتبت بأقلام بشرية. وفي ظروف مختلفة وبعد موسى وعيسى وفيهما من التناقض والشوائب ما تتنزّه عنه كتب الله التي أنزلها على أنبيائه.
وجمهور المفسرين على أن المقصد من كلمة الفرقان وصف القرآن بأنه نزل ليكون الفارق بين الحق والباطل والفاصل في ما وقع من اختلاف بين أهل الكتب السماوية السابقة وفيما طرأ عليها من تحريف. وهو وجيه لأن القرآن قد ذكر بلفظ الكتاب في الآية الثانية.
تعليق على الآيات الستّ الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران
لقد روى الطبري وتابعه آخرون أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية بعدها نزلت في مناسبة قدوم وفد من نصارى نجران ومناظرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في صفات(7/108)
الله والمسيح. وقد روى هذا ابن هشام عن ابن إسحق وهما أقدم بمائة سنة من الطبري. غير أن المستفاد من سياق ابن هشام أن الذي نزل في هذه المناسبة هو [64] آية فقط. وروح الآيات قد تدعم صحة رواية نزولها في مناظرة بين النبي وفريق من النصارى سواء أكان عدد آياتها ما ذكره الطبري أو ما ذكره ابن هشام لأنها تنطوي على تقريرات حقائق عن الله تعالى وعيسى عليه السلام ينكر بعضها طرف آخر أو يأخذها على غير وجهها الحق وعلى التنديد بهذا الطرف بسبب ذلك.
وليس في الآيات ما يساعد على القول ما إذا كانت هذه السلسلة نزلت دفعة واحدة كما يستفاد من الطبري وابن هشام، أم متفرقة غير أن ما فيها من مواضيع ومشاهد متنوعة واستطرادا يجعلنا نرجّح أنها لم تنزل دفعة واحدة. والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالمتبادر أن هذه الآيات الست هي بمثابة مقدمة أو مدخل بين يدي ذكر ما كان من المناظرة أو تعقيب عليها. وهذا استلهم من فحوى الآيات التي أشير فيها إلى التوراة والإنجيل ثم إلى القرآن الذي جاء فرقانا بين الحق والباطل بأسلوب ينطوي على تقرير كونه جاء ليبين ما وقع من تحريف في التوراة والإنجيل وانحراف عنهما ثم إلى تصوير الله تعالى الناس في الأرحام كيف يشاء مما قد ينطوي فيه إشارة إلى حادث ولادة عيسى عليه السلام بأمر الله وتصويره ومعجزته «1» .
وخلاصة ما رواه المفسرون وكتّاب السيرة وبخاصة ابن هشام عن وفد نصارى نجران أنه قدم المدينة في ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم. وفيهم ثلاثة هم الرؤساء فيهم وهم عبد المسيح أمير القوم وعاقبهم وصاحب مشورتهم والأيهم ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم وأبو حارثة أسقفهم وحبرهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي ثم ابن هشام ج 2 ص 204- 216 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 55 و 119 وكتاب الأموال للإمام أبي عبيد بن القاسم ص 27 وكتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 40. [.....](7/109)
وإمامهم. وقد أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدهم وسمح لهم بالصلاة فيه نحو المشرق. وقد ناظروه وجادلوه في أمر عيسى وألوهيته وبنوّته وتلا عليهم ما ورد في القرآن عنه ودعاهم إلى الرجوع عما في عقيدتهم فيه من انحراف، فماروا وكابروا فعرض عليهم المباهلة والملاعنة حيث يدعو كل فريق من الفريقين أن يلعن الله الكاذب فيهم. فاستمهلوه إلى الغد وتشاوروا فيما بينهم فقال لهم عبد المسيح لقد عرفتم والله أن محمدا لنبي مرسل. ولقد علمتم أنه لم يلاعن قوم نبيا قط إلّا استأصلهم الله فإن كنتم أبيتم إلّا إلف دينكم فوادعوا الرجل ولا تلاعنوه.
فغدوا على رسول الله وقالوا له قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا. وسألوه ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى.
قالوا حسبنا هذا منك. وطلبوا منه حسب رواية ابن هشام أن يرسل معهم شخصا من أصحابه يقضي في خلاف ناشب بين بعضهم على حقوق وأرضين فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وطلبوا منه حسب رواية ابن سعد وأبي يوسف أن يكتب لهم كتاب أمان وعهد فكتب لهم كتابا أعطاهم فيه عهده وذمته وأمنهم على أنفسهم وحالتهم وعباداتهم ما لم يظلموا ويتعاملوا بالربا وفرض عليهم جزية سنوية. ومما رواه ابن هشام أن أبا حارثة اعترف لأخ له اسمه كرز بصدق نبوة محمد فقال له وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال: ما صنع قومنا لنا شرفونا وأكرمونا ومولونا وأبوا إلّا مخالفته. وهناك رواية طويلة جدا أوردها ابن كثير عن البيهقي تفيد أن قدوم وفد نجران على النبي كان قبل نزول سورة النمل. وبناء على رسالة أرسلها النبي إلى نصارى نجران. وأن الوفد كان مؤلفا من ثلاثة فناظروه ثم أبوا التلاعن معه وطلبوا موادعته وأخذوا منه عهدا وفرض عليهم جزية إلخ مما ذكرته الروايات الأخرى.
وليس شيء من أخبار وفد نجران واردا في كتب الصحاح. غير أن هذا لا يمنع أن فيما جاء في الروايات حقائق صحيحة. وقد اتفق على روايتها كتّاب السيرة والمفسرون القدماء ولا سيما الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد باستثناء رواية البيهقي التي تبدو شاذة عن الروايات الأخرى ومتناقضة وغير متسقة مع الوقائع والحقائق(7/110)
من حيث إن سورة النمل مكية ونزلت في عهد مبكر من العهد المكي وأن ما ورد فيها لا يمكن أن يكون إلّا في المدينة وفي حالة كان النبي صلى الله عليه وسلم في قوة وسلطان.
وفي بعض آيات السلسلة ما يؤيد بعض ما جاء في الروايات كما أن في سور أخرى آيات تؤيد ما كان من مماراة الكتابيين ومكابرتهم في أمر النبي والقرآن وهم يعرفون أنه الحق والصدق مما مرّ بعضه في سورة البقرة ومما سوف يأتي شيء منه في هذه السورة وغيرها بعدها. وفي سورة التوبة آية صريحة تذكر ما كان من صدّ كثير من الأحبار والرهبان عن سبيل الله وأكلهم أموال الناس بالباطل وبمعنى آخر حرصهم على مناصبهم وما تدرّه عليهم من منافع وهي الآية [34] .
وإذا كان من شيء يحسن استدراكه فهو ما نبهنا عليه ورجحناه في مقدمة السورة من أن نصارى نجران أرسلوا وفدا مرتين مرة قبل فتح مكة بعد وقعة بدر حيث ناظروا النبي وامتنعوا عن الاستجابة إلى التلاعن معه ووادعوه على ما جاء في رواية ابن هشام ومرة بعد فتح مكة حيث أخذوا منه عهدا بذمته وفرض عليهم فيه الجزية. والله تعالى أعلم.
وإتماما للفائدة وكنموذج لكتب عهد النبي صلى الله عليه وسلم للوافدين عليه وما فيها من مظاهر الحق والعدل والتسامح والتشريع السياسي نورد في ما يلي نص العهد نقلا عن كتاب الخراج للإمام أبي يوسف: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم. على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة مع كل حلّة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاز أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤونة رسلي ومنعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك. ولا تحبس رسلي فوق شهر. وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومعرة وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض فهو ضمن على رسلي حتى(7/111)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
يؤدوه لهم. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملّتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم. وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دية ولا دم جاهلية. ولا يخسرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل ربا منهم فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذا الكتاب جواز الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير منفلتين بظلم. شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة.
وكتب هذا الكتاب عبد الرحمن بن أبي بكر» .
وقد يثير هذا الانسجام والسبك شبهة في صحة الكتاب. ولكنا نرجح أن هذا مما كان متداولا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ينفيه ما يمكن أن يكون طرأ عليه من تنميق وسبك أو بعض زيادة ونقص والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
. (1) المحكمات: من الإحكام. وسيرد شرح لمداها أكثر بعد.
(2) أمّ الكتاب: هذه الكلمة وردت في سورتي الزخرف والرعد أيضا، غير أن المتبادر أنها هنا عنت غير ما عنته في السورتين. وقد قال بعض المؤولين إنها هنا تعني المعاد والأساس في القرآن. وقال بعضهم إنها عنت الأصل الذي يرجع(7/112)
إليه في القرآن. وكلا التأويلين وجيه. ونحن نرجح الثاني والله أعلم.
(3) المتشابهات: من التشابه الذي بمعنى المقاربة والمماثلة أو من معنى الاشتباه في حقيقة المعنى، وسيرد شرح لمداها أكثر بعد.
(4) زيغ: انحراف عن الحق.
(5) تأويله: شرحنا معاني هذه الكلمة واشتقاقاتها في سياق تفسير سورة الأعراف. وجاءت هنا مرتين. والمتبادر من روح الآية أنها في المرة الأولى عنت صرف المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والشبهات والفتنة. وعنت في المرة الثانية المراد من الآيات المتشابهات ومداها وحكمتها وماهيتها. والله تعالى أعلم.
المتبادر في شرح وتأويل هذه الآيات والله أعلم هو ما يلي:
في الآيات إشارة إلى ما احتواه القرآن من أنواع الآيات ومواقف كل من المنحرفين عن الحق الذين في قلوبهم زيغ والراسخين في العلم منها. فقد أنزل الله تعالى على نبيه الكتاب- والخطاب في الآيات موجّه إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- وفيه آيات محكمات وآيات متشابهات. والمحكمات هن أمّ الكتاب التي فيها الأسس والأهداف المحكمة التي يجب أن تكون المرجع والتي لا تتحمل تأويلات عديدة. والمتشابهات هي التي جاءت للتشبيه والتمثيل والتي تتحمل وجوها عديدة للتأويل. فالذين في قلوبهم زيغ ويريدون المماراة والتمحّل يصرفون الآيات المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والفتنة ويتمحلون في تأويلها تبريرا لأهوائهم وتمشيا مع انحرافهم وزيغهم وبقصد صرف الناس عن الأهداف والأسس والمبادئ المحكمة في حين أن الله هو الذي يعلم التأويل الصحيح القطعي للمتشابهات. والراسخون في العلم يعرفون ذلك ولا يتمحّلون في ما لا يدركون مما هو مغيب عنهم من تأويل المتشابهات القطعي ويقولون آمنّا به كل من عند ربنا. ويدعون الله عز وجل أن يثبت قلوبهم على الحق بعد أن هداهم إليه وأن لا يزيغ قلوبهم عنه وأن يهبهم رحمة منه. ويقررون أن الله تعالى جامع الناس إلى يوم معين يدانون فيه غير مرتابين في ذلك لأن الله قد وعد به وهو لا يخلف الميعاد.(7/113)
وهذا الموقف من الآيات المحكمات والمتشابهات هو الجدير بذوي العقول الراجحة الذين يتعظون بالموعظة والتذكير ويقفون عند الحق الموقف الواجب.
تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني
لقد روى المفسرون روايتين في نزول الآيات جاء في واحدة منها أن جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحروف المتقطعة في أوائل السور ومدة نبوته ومدة الحياة الدنيا بقصد تعجيزه وإفحامه، فنزلت الآيات لتدمغهم بالزيغ والمماحكة وقصد صرف الناس عن آيات القرآن المحكمة وإثارة شكوكهم وشبهاتهم. وجاء في واحدة أن وفد نصارى نجران بعد أن تناظروا مع النبي في أمر عيسى ودعاهم النبي إلى المباهلة امتنعوا وقالوا له ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته قال بلى. فقالوا هذا حسبنا فنزلت الآيات لتندد بهم وتذكر أنهم احتجوا بالآيات المتشابهة وتركوا الآيات المحكمة التي تنزّه الله عن الولد وتقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه دعا إلى عبادة الله وحده وأن ولادته كانت بمعجزة ربانية وحسب.
والروايتان لم تردا في الصحاح. غير أن اتفاق الرواة على أن صدر سورة آل عمران نزل في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران ومناظرته مع النبي تجعل الرجحان للرواية الثانية.
والروايات تدور حول نزول الآية الأولى أي السابعة مع أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها جملة واحدة نزلت معا في ما يتبادر لنا. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تنزيل الآيات الثلاث معا لإتمام التقرير للموقف الذي يجب أن يقفه الراسخون في العلم وذوو العقول الراجحة من الآيات المحكمة والمتشابهة.(7/114)
ودوران الرواية حول الأولى لا يمنع أن تكون الآيات الثلاث نزلت معا كما هو المتبادر.
والآيات وإن كانت نزلت في مناسبة حادث وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أسلوبها المطلق يجعلها عامة المدى والتطبيق كشأن أمثالها.
ومدى الآيات خطير جدا لاتصاله بالقرآن وفهمه وهذا مما يسوغ التوسع في شرحها.
وفيما يلي شرح لمداها وما روي وقيل في سياقها وتعليق عليه:
1- في صدد معنى مُحْكَماتٌ تعددت التأويلات المروية عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم «1» منها أنها كل ما يعول عليه في القرآن من أحكام ويعمل به من حلال وحرام. أو كل ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. أو الآيات الواضحة التي لا تحتمل تأويلات عديدة. أو الأوامر والنواهي القرآنية. أو الآيات الناسخة المثبتة للأحكام. أو الأحكام التي لم يطرأ عليها نسخ. أو أركان الإسلام وعماد الدين والفرائض والحدود وسائر ما بالخلق حاجة إليه وما كلفوا به بعاجلهم وآجلهم. ولم نطلع على حديث نبوي أو صحابي وثيق السند. والكلمة تتحمل كل هذه المعاني أو جلّها. ويمكن مع ذلك أن يقال استلهاما من روح الآية من جملة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أنها تعني الآيات التي لا تتحمل تأويلات عديدة ولا اشتباها والتي فيها إلى ذلك مبادئ وأحكام ووصايا واضحة غير منسوخة في الشؤون الدينية والدنيوية. وفي سورة محمد آية قد تساعد على فهم مدى الكلمة أو صورة من صورها وهي: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) والصورة في الآية هي أمر رباني قطعي وصريح بالقتال والله أعلم.
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.(7/115)
2- في صدد مدى مُتَشابِهاتٌ قيل «1» إنها ما سوى الأحكام والحلال والحرام. أو ما استأثر الله تعالى بعلمه الحقيقي أو أشراط الساعة. أو القصص والأمثال. أو المجازات والتشبيهات. أو ما يحتمل وجوها عديدة للتأويل. أو المتشابهة في الصفة المختلفة في النوع. ولم نطلع كذلك على أثر نبوي أو صحابي وثيق السند في ذلك. والذي نستلهمه من روح الآية أنها الآيات التي تتحمل وجوها عديدة للتأويل أو التي يتشابه فهمها وتأويلها على الأذهان بسبب تنوعها وتنوع سبكها ومقامها وألفاظها والله تعالى أعلم.
وننبّه بهذه المناسبة إلى أنه ورد في الآية [23] من سورة (الزمر) تعبير (المتشابه) في هذه الصيغة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) غير أن التعبير في هذه الآية ليس هو في مقام ومدلول تعبير المتشابهات في آية آل عمران التي نحن في صددها كما هو ظاهر. وهذه ميزة من ميزات البلاغة القرآنية واللغة الفصحى التي نزل بها القرآن حيث يتغير مدلول الكلمة أحيانا بتغير الصيغة التي وردت فيها. ولقد شرحنا مدى الكلمة في تفسير سورة الزمر فنكتفي بهذا التنبيه.
3- والآية الأولى على كل حال تقرر بصراحة أن القرآن يحتوي نوعين من الآيات واحدا محكما وآخر متشابها. والأول هو أمّ الكتاب وعماده. وأهل التأويل متفقون إجمالا على أن المحكمات هي ما فيها أحكام ومبادئ دينية ودنيوية محكمة. فيكون ما عدا ذلك هو من النوع الثاني الذي يتبادر لنا والله أعلم أن الآيات التي فيها تشبيه وتمثيل وترغيب وترهيب ووعظ وتذكير وتنبيه وتنويه وتأنيب وحجاج ثم الآيات التي فيها صفات الله عز وجل وروحه وأعضاؤه وحركاته وكلامه والملائكة والجن وإبليس والشياطين والمعجزات وخلق الأكوان ومشاهدها ونواميسها ومشاهد الحياة الأخروية. فالآيات التي فيها ذلك مختلفة في أساليبها
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة.(7/116)
وألفاظها وصورها ويمكن أن تتحمل وجوها عديدة أو أن يتشابه فهمها على الأذهان. أو يعجز العقل البشري بعامة أو عقول بعض الناس عن إدراك مداها وماهيتها. أو يبدو للمشرّع غير المتمعن وغير الراسخ في العلم أن فيها تغايرا أو تباينا أو تناقضا.
والمتمعن في هذا النوع من الآيات يجد أنها تهدف إلى تدعيم ما احتواه القرآن من المبادئ والتلقينات والعقائد والأحكام والتشريعات والتعاليم والوصايا أو بكلمة أخرى إلى تدعيم المحكمات القرآنية. وبذلك يظهر له حكمة التنزيل في جعل آيات القرآن نوعين نوعا محكما وآخر داعما. أو نوعا أسسا ونوعا وسائل كما ذكرنا ذلك في كتابنا (القرآن المجيد) .
ويبدو أن حكمة التنزيل قد شاءت أن تأتي آيات النوع الثاني بالأساليب المتنوعة التي وصفت بالمتشابهات التي ذكرنا ما قيل في مدى مفهومها لتحقيق ما أرادته هذه الحكمة من تدعيم للمحكمات. ولقد لحظنا ذلك ونبهنا على ما استشففناه من حكمته ومقاصده في المناسبات الكثيرة التي وردت فيها فصول وآيات النوع الثاني وأساليبها المتنوعة في اختلاف مقاماتها في السورة التي سبق تفسيرها. وإنه ليصح أن يقال على ضوء ما تقدم أن الآية (الأولى) أي السابعة هي مفتاح القرآن الذي يجب على الناظرين فيه مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يتقيدوا به والذي لا يجوز ولا يصح الخروج عنه. لأنه المفتاح الذي جعله الله فاتحا لفهم آيات القرآن.
4- والرواية التي رويت في سبب نزول الآية والتي تذكر أنها نزلت في مناسبة قول وفد نجران للنبي «ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه. قال بلى، قالوا هذا حسبنا» . تساعد على القول بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفقرة السابقة إن على الناظرين في القرآن أن يرجعوا إلى المحكمات لفهم ما يتشابه عليهم من المحكمات ألفاظا أو حكمة. فوفد نجران أخذ بآيات متشابهة أريد بها التمثيل والتقريب لتقرير كون ولادة عيسى تمّت بمعجزة ربانية وحسب وتركوا المحكمات(7/117)
في صدد عيسى، في حين أن في هذه المحكمات القول الفصل في ذلك من حيث أنها تقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه بشر ولد كبشر وعاش ومات كبشر وإن مثله كمثل آدم قال الله كن فكان وإن الله جلّ وتنزّه أن يتجزأ وأن يسري منه روح إلى بشر بالمعنى التام للكلمة لأن روحه هي ذاته أبدية سرمدية فنزلت الآية تندد بهم وتدمغهم بالزيغ لأنهم تمسكوا بالمتشابهات وتركوا المحكمات التي هي أمّ الكتاب. وهناك حديث رواه الشيخان عن عائشة فيه تدعيم آخر. فقد سئلت عما إذا كان النبي رأى ربّه اشتباها ببعض آيات القرآن التي توهم ذلك فقالت «من زعم أنّ محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية والله يقول لا تدركه الأبصار» «1» . حيث جعلت في هذه الجملة القرآنية التي وردت في الآية [103] من سورة الأنعام القول الفصل في موضوع رؤية النبي لله تعالى.
وهناك آيات كثيرة جدا من نوع المتشابهات تثير بعض الإشكال ولكن ذلك يزول إذا ما جعلت المحكمات مرجعا فاعلا لها. وقد نبهنا على كثير من ذلك في ما سبق تفسيره من السور. فنكتفي بهذا التنبيه ونقول إن الغفلة عن هذا من أسباب كثير من الخلافيات الكلامية في الإسلام ومن أسباب كثير من التوهمات غير الإسلامية في صدد محتويات القرآن ومبادئ الإسلام وتلقيناته وأهدافه.
5- والآية الأولى تقرر أن المحكمات هنّ أمّ الكتاب كما تقرر أن الله وحده يعلم التأويل الصحيح للمتشابهات. وإن الذين يتبعون المتشابهات هم الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة بتأويلها تأويلا تعسفيا. وهذا يوجب على من لا يريد أن يدمغ بذلك من الناظرين في القرآن أن يصرفوا اهتمامهم الأعظم للمحكمات وتدبّرها وفهمها والالتزام بها لأنها هي القرآن التي فيها تقرير الرسالة المحمدية ومبادئها وعقائدها وأحكامها وأسسها ووصاياها وتلقيناتها. وأن يقف من المتشابهات عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأساليب التي أوحيت بها لتحقيق المقاصد التدعيمية للمحكمات دون مماراة ولا تيهان في التأويل التعسفي
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 100.(7/118)
ولا توسع وتزيد مع استشفاف الحكمة والمقاصد الربانية فيها حسب مقاماتها. وما استطاع أن يفهمه بعقله لفظا ودلالة وحكمة ومقصدا وموعظة وتدعيما فهمه. وعليه أن يسأل من هو أعلم منه عما لا يستطيع أن يفهمه بعقله. وما عجز عنه هو ومن هو أعلم منه عن فهمه فيجب أن يقولوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ويكلون تأويله إلى الله تعالى.
6- ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الكتب المعتبرة فيها تدعيم لما جاء في الفقرة السابقة. فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ثم قال فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين عناهم الله فاحذروهم» «1» . وروى مسلم حديثا جاء فيه: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين اختلفا في آية وفرق في وجهه الغضب وقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» «2» . وقد أورد ابن كثير في سياق تفسير الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به» .
وهناك أحاديث عديدة أخرى من باب هذه الأحاديث فيها بعض زيادات لا تخرج في جوهرها عما في هذه الأحاديث أخرجها أئمة حديث آخرون وأوردها المفسرون في سياق الآية ومن ذلك أحاديث تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله بما علمته الآيتان [8 و 9] «3» .
ولقد روى الطبري عن قتادة وغيره أن المقصود بجملة الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هم الحرورية والخوارج والسبئية والقدرية. والمتبادر أن هذا القول هو من قبيل التطبيق الاجتهادي ومن وحي الأحداث والفتن الإسلامية التي حدثت في صدر الإسلام. ولقد قال الطبري بعد أن أورد هذا القول إن المعني بها كل مبتدع بدعة
__________
(1) التاج، ج 4 ص 64.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر ابن كثير والطبري.(7/119)
في دين الله فمال قلبه إليها تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن ثم حاجّ به وجادل أهل الحق. وعدل عن الواضح من أدلة الآيات المحكمة إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان وأي أصناف البدعة كان، من أهل النصرانية واليهودية والمجوسية أو كان سبئيا أو حروريا أو قدريا أو جهميا. وفي هذا السداد والصواب المتساوقان مع إطلاق العبارة القرآنية «1» .
7- ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين لم يتقيدوا بالتلقين الجليل الذي احتوته الآية والأحاديث وانصرف همهم الأكبر إلى الانشغال والجدل فيما يدخل في نطاق المتشابهات أكثر بكثير مما انصرف إلى المحكمات. والناظر في كتب التفسير المطولة يجد الشيء الكثير الذي يعكس ذلك الاهتمام ويجد الأقوال والروايات المعزوة إلى مسلمة اليهود وعلماء الأخبار والتي فيها كثير من الخيال والمبالغة والتناقض والكذب حول المتشابهات المذكورة هي التي تشغل الجزء الأوسع من هذه الكتب برغم ما فيها وما تؤدي إليه من تشويش وتغطية على المحكمات ورغم ما فيها من إشغال ذهن واستنفاد جهد على غير طائل ورغم تحذير كتاب الله ورسوله، وأدى ذلك إلى استمرار ذلك الانصراف والانشغال إلى اليوم حتى لا يكاد المتسائلون يتساءلون عن غيرها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ. فهناك من حاول أن يستخرج من القرآن نظريات فنية ورياضية ووقائع تاريخية، مع أن كل ما جاء في القرآن من ذلك جاء بقصد التدعيم للمحكمات وبالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل لذلك بدون قصد لتلك النظريات والوقائع. حتى لكأن القرآن أصبح كتاب تاريخ وفن وهندسة
__________
(1) السبئية نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ينسب إليه بدعة القول بوصاية علي بعد النبي ثم برجعته ثم بألوهيته. والحرورية هي تسمية أخرى للخوارج لأن الخوارج خرجوا أول خروجهم في مكان اسمه حروراء والقدري هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان خالق أفعال نفسه. والجهمي هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان مجبور على عمله.(7/120)
وفلك. وهناك من حاول استخراج الغيب والأسرار من بعض الآيات والحروف وهناك من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا وجرى في متاهات وتخيلات عجيبة من المعاني والاستنباطات واللعب بالألفاظ والشطح إلى ما يكاد يكون هذيانا بسبيل إظهار هذا الباطن. ومنهم من فعل هذا بتأثير من النزعة الصوفية المغالية. ومنهم من فعله لتأييد الأهواء المتنوعة وبخاصة الشيعية. وهناك من كذب على الله ورسوله وأصحابه بسبيل ذلك كله مما أوردنا بعض أمثله منه في ما سبق تفسيره من السور.
8- هناك اختلاف في مدى (الواو) التي سبقت كلمة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ حيث قال بعضهم إنها عطفت وإن التعبير يفيد أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله أيضا وقدروا العبارة هكذا (والراسخون في العلم الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا يعلمون تأويله) . وحيث قال بعضهم إنها إنشائية وإن الجملة مستقلة عن سابقتها وتفيد أن الراسخين لا يتمحلون في التأويل ويكتفون بإيكال ما اشتبه عليهم فهم كنهه وتأويله إلى الله ويقولون آمنا به كل من عند ربنا ويدعون ربهم بأن لا يزيغ قلوبهم بعد أن هداهم. ومما دلّل عليه الذين يقولون القول الأول إنه لا يصح أن يكون في كتاب الله ما لا يعرف تأويله وما لا يفهمه أحد. والله طلب من الناس أن يتدبروا آيات القرآن وأنزلها وهو يعلم أنهم يفهمون ويعقلون ويعلمون كما جاء ذلك في آيات عديدة وهذا الكلام وجيه بدون ريب. وقد يزيد في وجاهة ذلك أن القول الثاني يؤدي إلى القول إن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا لا يعلم تأويله مما قد يكون غير مستساغ.
ومع ذلك فنحن نرجح كون الواو إنشائية وليست عطفية. وأن كلمة تَأْوِيلِهِ في الآية أريد بها والله أعلم ما في المتشابهات من ماهيات وأسرار استأثر الله تعالى بعلمه وأن في القرآن حقا ما لا يفهمه أحد غير الله سرّه وماهيته وكنهه مثل سرّ الله وسرّ الوجود وسرّ الخلق وسرّ النبوة وسرّ الوحي وسرّ الملائكة والجن وإبليس والشياطين إلخ ... وماهيات ذلك. وحينئذ تكون وجاهة قول(7/121)
القائلين إنه لا يصح أن يكون في القرآن ما لا يفهمه أحد هي في صدد ما في ذلك من حكم وحقائق إيمانية وهذا حق. ولا نرى هذا التقرير متناقضا مع قولنا الآنف لأن ذلك مقرر في آيات قرآنية عديدة. ولسنا نرى من الضروري لأجله أن تكون (الواو) عطفية.
ومعلوم أن الصدر الإسلامي الأول درج على عدم الخوض في كيفيات وماهيات ما ورد في القرآن من صفات الله وأعضائه وحركاته ومشاهد كونه وسائر ما في المتشابهات من أمور لا تعرف حقائقها والاكتفاء بالقول آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا والمتبادر أن هذا الذي يراه كثير من الأئمة في مختلف الحقب الإسلامية هو الأولى والأسلم هو نتيجة لما في الآية ثم في الأحاديث من تلقين.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس قوله: «أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله» . ونحن نشكّ في صدور هذا القول عن ابن عباس إذا كان أريد به علم تأويل كل ما في القرآن من أسرار ومتشابهات علما لا يقتصر على الحكمة ويشمل السرّ والكنه والماهية. ولقد روى عن ابن كثير الذي روى عنه القول الأول قولا آخر جاء فيه «التفسير على أربعة أنحاء تفسير لا يعذر أحد على فهمه. وتفسير تعرفه العرب من لغاتها. وتفسير يعلمه الراسخون في العلم. وتفسير لا يعلمه إلّا الله» . وعقب ابن كثير على هذا بقوله: إن هذا القول يروى عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. ولا يخلو هذا القول من سداد فيه توفيق بين القولين. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسر الشيعي الطبرسي عن أبي جعفر أحد الأئمة قوله: «إن الأئمة والأوصياء من آل رسول الله يعلمون تأويله» . وروى المفسر الشيعي العلوي عن الصادق من الأئمة قوله: «نحن الراسخون في العلم نحن نعلم تأويله» . ونحن نقف من هذا موقف التحفظ كما فعلنا في قول ابن عباس. ونرجح أن هذا من نوع الأقوال التي يسوقها مفسرو الشيعة في كل مناسبة. والله تعالى أعلم.(7/122)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
. (1) كدأب: كعادة، أو كشأن، أو كمثل، أو كعمل. والدأب في اللغة بمعنى الإدمان على العمل والتعب فيه والاعتياد عليه.
عبارة الآيات واضحة. وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق. وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته. وفي الثانيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنّم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا. وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) والآيات الثلاث التالية لها
وقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات. منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن إلخ.(7/123)
والفتنة ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب. ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر. ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين: إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار. وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود. وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار. وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية. فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة. غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [55- 59] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها. فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ. ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول إنها نزلت بعدها إلّا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا. وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة. وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكّن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم.(7/124)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر.
والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. إلّا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة. ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران. وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا. وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم.
وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين. وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال.
وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنّة الله في الذين قبلهم. وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم. وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سور مكية ومدنية. وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
.(7/125)
(1) الشهوات: هنا بمعنى ما تشتهيه النفس على ما تلهمه بقية الآية الأولى.
(2) القناطير المقنطرة: هنا كناية عن الكمية العظيمة. والقنطار كلمة أعجمية معربة قبل الإسلام. وهناك أقوال عديدة في وزنه منها أن (1200) أوقية أو (100) رطل أو (1000) دينار ذهبا أو (8000) درهم فضة أو (1200) درهم فضة.
(3) الخيل المسوّمة: قيل إنها بمعنى المضمرة الحسان وقيل إنها التي تجد من الرعي ما يساعدها على زيادة قوتها وحسنها لأن معنى السوم الرعي. وقيل إنها المعلمة بالتحجيل الأبيض في رجليها ويديها وبالغرة البيضاء في جبهتها حيث تكون كلمة (المسوّمة) من الوسم وعلى كل حال فالمقصد هو صفة من صفات الخيل المحببة.
(4) الحرث: الزرع.
في الآيات:
1- إشارة إلى ما انطبع عليه الناس من اشتهاء ما تشتهى حيازته من نساء وبنين وكميات كبيرة من الذهب والفضة والخيول المحببة الصفات والأنعام والزروع.
2- واستدراك بأن ذلك كلّه إنما هو متعة في الحياة الدنيا القصيرة الأمد وأن عند الله ما هو أحسن، عاقبة ومآبا.
3- وأمر للنبي بسؤال الناس عما إذا كانوا يريدون أن يخبرهم بما هو خير من ذلك كلّه عند الله للذين اتقوا ربهم وبيان لذلك بأن لهم عنده الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار متمتعين فيها بزوجات مطهرة ولهم فوق ذلك رضوان الله السامي الكريم.(7/126)
4- ووصف بياني للمتقين المستحقين لهذه المنزلة العظمى: فهم الذين يعلنون إيمانهم التام بكل ما جاءهم من عند الله ويطلبون منه المغفرة والوقاية من النار. وهم الصابرون الصادقون الخاضعون المطيعون المنفقون لأموالهم في سبل الله والبر والمتعبدون لله والمستغفرون له بخاصة في الأسحار.
تعليق على الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية بمناسبة نزول هذه الآيات. وقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية الأولى منها: يا ربّ الآن وقد زينتها لنا فنزلت الآيات التالية لها. والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن الآية الثانية وما بعدها غير منفصلة في النظم والسياق عن الآية الأولى. وقد روى الطبري أن في الآية الأولى توبيخا لليهود الذين آثروا الدنيا وزينتها على الإيمان بالرسالة الإسلامية. ولم ترد هذه الرواية أيضا في الصحاح وإن كان لها صلة برواية كون الآيات السابقة في صدد اليهود. غير أن تعبير الناس والإطلاق في الخطاب في الآية الأولى وانسجامها مع الآيات التي بعدها يسوغان القول إن هذه الآيات فصل مستقل لا علاقة له مباشرة باليهود وبالآيات السابقة. ولقد أورد المفسرون وكتّاب السيرة في مناسبة ذكرهم خبر وفد نجران أن هذا الوفد أقبلوا على مسجد النبي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الديباج فأثار مشهدهم المسلمين حتى قالوا ما رأينا وفدا مثلهم «1» . فلا يبعد أن تكون هذه الآيات وقد جاء بعدها بقليل سلسلة طويلة يحتمل أن تكون في صدد مجالس المناظرة بين النبي وهذا الوفد قد نزلت بين يدي هذه السلسلة ليكون فيها للمسلمين الذين دهشوا بزينة الوفد موعظة وتنبيه.
__________
(1) انظر ابن هشام ج 2 ص 206 وتفسير الطبري.(7/127)
هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [32] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [86 و 87] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّه الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول.
وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبها حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال حبّب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وجاء في ثانيهما: «أنّ عائشة قالت لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلّا الخيل وفي رواية من الخيل إلّا النساء» . ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنّة يمنع الإنسان من أن يحبّ النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوّهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحسن صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحثّ عليها.
ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [1- 8 و 20] والإسراء [78] والذاريات [16- 18] فنكتفي بهذا التنبيه.(7/128)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
. (1) قائما بالقسط: حال لحقيقة من الحقائق الربانية أي أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط متحقق بالعدل.
(2) بغيا بينهم: أي بقصد بغي بعضهم على بعض أو نتيجة لما قام بينهم من بغي بعضهم على بعض.
(3) الأميين: شرحنا معاني الكلمة في سورة البقرة والكلمة هنا وفي مقامها قد يكون القصد منها الأمم غير اليهودية. وقد تكون الكلمة هنا كناية عن الأمم غير الكتابية إطلاقا. وقد تكون في مقامها كناية عن الأمم غير اليهودية أيضا.
عبارة الآيات واضحة. وقد روى الخازن روايتين في سبب نزولها. الأولى أنها في صدد مناظرة وفد نجران. والثانية تذكر أن حبرين من أحبار الشام قدما إلى المدينة وقالا للنبي نريد أن نسألك عن شيء إن أخبرتنا به آمنّا بك فقال اسألا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله الآيات. والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يتبادر لنا استمرار للسياق السابق الذي رجحنا أنه في صدد وفد نجران وهذا ما يجعلنا نرجح أن هذه الآيات أيضا في صدده. ومن المحتمل أن تكون في صدد المشهد الأول من مشاهد المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الوفد أو في صدد تلقينه الموقف الذي ينبغي أن يقفه في هذا المشهد. وقد استهدفت انتزاع التسليم المبدئي بوحدة الله المطلقة المنزّهة ووجوب الخضوع له وحده وتنزيهه عن الجزء السابع من التفسير الحديث 9(7/129)
كل نقص من الوفد على اعتبار أن التسليم بذلك مبدئيا يمهد لحل كل خلاف ثانوي ولتحقيق التطابق في المسائل المتفرعة عنها. وفي هذا الأسلوب ما هو ظاهر من القوة والرصانة.
والأسلوب الذي بدأت به الآيات من تقرير شهادة الله والملائكة وأولي العلم بوحدة الله هو أسلوب تعبيري لتقوية المعنى المقرر وإعلان كونه حقا وصدقا لا يمكن أن يكون فيه خلاف. وهو كما يظهر أسلوب قوي وملزم يعرض النبي بلسان القرآن به جوهر الدعوة الإسلامية ومبدأها الأساسي وهما وحدة الله المطلقة ووجوب الإسلام له وحده. فهذا هو الدين الحق وهو ما لا ينبغي أن يكون محل خلاف ونزاع. وما كان من ذلك بين أهل الكتاب إنما هو ناشىء عن الأهواء والبغي لا عن كتب الله وأنبيائه. وقد أمر النبي في آخر الآيات إذا كابر الفريق الذي يتناظر معه وجادل في هذا الذي لا يتحمل نزاعا ولا جدالا بأن يحسم الموقف بإعلانه أنه قد أسلم نفسه هو ومن اتبعه لله وأن يسأل سامعيه من كتابيين وأميين عما إذا كانوا يسلمون لله مثله. فإن أسلموا فيكون هدى الله قد جمعهم، وإن تولوا فعليه أن يعلن أنما عليه البلاغ والله هو البصير بالناس المراقب لأعمالهم.
ويلحظ أن الآية الأخيرة قد احتوت أمرا للنبي بتوجيه الخطاب لأهل الكتاب وغيرهم. فمن المحتمل أن يكون ذلك من قبيل التعميم والاستطراد لأن الكلام بسبيل الدعوة والتقرير العام. ومن المحتمل أيضا أن يكون بعض مشركي العرب المحايدين أو المسالمين شهدوا المناظرة.
ومع ترجيحنا أن تعبير أُولُوا الْعِلْمِ في الآية [18] قد قصد به (أولي الكتاب) بقرينة ذكرهم في الآيات التالية فإن لورود التعبير مطلقا مغزى مهما من حيث احتمال انطوائه على تقرير أن كل من أوتي علما من أي نحلة كان لا بد من أن يشهد هذه الشهادة. وهذا المغزى منطو في آية سورة فاطر إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ على ما شرحنا ذلك في سياق الآية. ولقد رأينا القاسمي والطبرسي يقفان عند الكلمة فيقول الأول إن ذكر أولي العلم في هذا المقام مرتبة جليلة(7/130)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
لهم. ويقول الثاني إن في ذلك تنويها بفضل أهل العلم. وأورد الثاني بعض الأحاديث النبوية فيها هذا التنويه مما أوردناه في مناسبات سابقة.
ولقد قال الخازن عزوا إلى بعض أهل التأويل إن جملة وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ منسوخة بآية السيف أو القتال. وهذا مما تكرر قوله من بعض المفسرين والمؤولين في العبارات المماثلة التي مرّت أمثلة منها وبخاصة في السور المكية. وقد نبهنا على الوجه الحق في ذلك في المناسبات السابقة وفي تعليقنا المسهب في سورة (الكافرون) فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
. عبارة الآيتين واضحة. وفيها نعي على الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون أنبياءه ومن يأمر بالقسط من الناس. وتقرير حبوط أعمالهم واستحقاقهم عذاب الله. دون أن يكون لهم أي نصير منه.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... إلخ والآية التالية لها
لم يذكر المفسرون رواية ما في مناسبة الآيتين. وإنما ساقوا ما يفيد أن المقصود فيها هم اليهود. وهذا صحيح حيث وصف اليهود في بعض حلقات سلسلة سورة البقرة بمثل هذه الأوصاف. ولقد أورد الطبري حديثا عن أبي عبيدة جاء فيه: «قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ(7/131)
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(21) إلى أن انتهى إلى جملة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) ثم قال رسول الله يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبادهم وأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار فذلك تأويل الآية» .
والرواية لم ترد في الصحاح. وقد أوردها ابن كثير أيضا كحديث من تخريجات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث. وصحتها محتملة لأنها متسقة مع ما روي عن اليهود على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات البقرة [87 و 91] التي ذكرت ذلك عنهم. وقد أوردنا في سياق ذلك نصوصا من بعض أسفار اليهود القديمة مؤيدة لذلك. ونذكر هنا شيئا فاتنا ذكره وهو أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس من رجال القرن الميلادي الأول ذكر في كتابه أن هيرودوس ملك اليهود قتل كثيرا من علماء اليهود وقتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم «1» .
وهكذا تتحدى الآيات القرآنية اليهود في تنديدها وإنذارها المتكررين وتدمغهم بما ورد في أسفارهم وكتبهم بما اقترفوه من جرائم كبرى بقتل الأنبياء والآمرين بالقسط من علمائهم حينما لا يسيرون على هواهم.
ومن المحتمل أن اليهود كانوا طرفا في المناظرة وفي المشهد الذي مرّ بيانه.
أو أنهم قالوا بمناسبة العقيدة التي أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم إنهم يقرون بوحدانية الله ثم أخذوا يعاندون ويحاجّون في صحة رسالة النبي في حين أنه يترتب عليهم التصديق بها لأنها تدعو إلى الله وحده ودينه الحق الإسلام. ولعلهم حاججوا في أمور أخرى يترتب عليهم التسليم بها تبعا للتسليم بالمبدأ في مقتضى الموقف وحكمة التنزيل تذكيرهم بما كان من آبائهم من مواقف مماثلة حيث كانوا يكفرون بآيات الله
__________
(1) انظر الترجمة العربية ص 149 وما بعدها. وخبر قتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم الذي هو يحيى في النصوص الإسلامية مذكور في الإصحاح (14) من إنجيل متى.(7/132)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
ويجادلون فيها ويقتلون الأنبياء ودعاة الحق ومؤيديه بقصد ربط موقف الحاضرين بموقف الغابرين. وهذا أسلوب جرى عليه القرآن مما مرت أمثلة منه في سلسلة سورة البقرة. وفي الآيات التالية قرائن قد تدل على هذه الأمور المفروضة من موقفهم.
والآيات وإن كانت عنت اليهود على ضوء الشرح المتقدم فإن الإطلاق في أسلوبها ينطوي على تلقين مستمر المدى في صدد كل من يكفر بآيات الله ويناوىء دعاة الحق والخير والصلاح ويعتدي عليهم في كل ظرف ومكان.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 27]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم. وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [27]
روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول(7/133)
الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملّته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للردّ عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سلمان الفارسي عن ذلك فقال له أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون ألا تعجبون يميتكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به «لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوّة من بني إسرائيل» .
وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [93] من هذه السورة «1» . ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 72.(7/134)
ما. وحجاج اليهود في ملّة إبراهيم ويهوديته قد حكمته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [80] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به.
فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [89- 90] فذكرتهم الآيتان [21- 22] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم وهو ما ذكرته عنهم الآيات [85- 88] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم بما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [157] وهي: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... [157] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [26- 27] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول أن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي(7/135)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه.
على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [157] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا.
ولقد ذكرنا أن قول اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قد حكي عنهم في الآية [80] من سورة البقرة فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه.
ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه والله تعالى أعلم.
والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيّه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزّه وآتاه الملك ووسّع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 32]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
.(7/136)
(1) من دون المؤمنين: بمعنى بدلا من المؤمنين. أو مكان المؤمنين أو متجاوزين المؤمنين.
(2) تقاة: قرئت (تقية) والمعنى واحد وهو الاتقاء.
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولّي الكافرين دون المؤمنين إلّا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرّونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشرّ. فيتمنّون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول.
تعليق على الآية لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [32]
ولقد روى المفسرون «1» في صدد هذه الآيات روايات عديدة. حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والطبرسي وابن كثير.(7/137)
النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) ومما رواه بعضهم «1» أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعد ما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [84- 85] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية فإنه يصحّ أن يقال إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول.
وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة ففي الآية الأولى منها تشريع
__________
(1) انظر تفسير الخازن.(7/138)
إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع.
ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم:
الأول: عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال.
الثاني: تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشرّ والضرر.
وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه:
1- لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد.
2- وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة الْكافِرِينَ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [52- 58] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني.
3- والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل(7/139)
موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية.
4- والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [138 و 139 و 144] والمائدة [51 و 52] والتوبة [23 و 24] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [58] والممتحنة [1- 2] .
5- وفي سورة الممتحنة هذه الآية لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) والمتبادر أنه يصحّ أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول إن جملة أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم.
6- وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن في صددها حيث يقول إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [8] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على شركهم نتيجة لصلح الحديبية حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها.
فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب(7/140)
عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات «1» . وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي.
وعلى هذا يصحّ أن يقال إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة.
فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع مع حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكونا ضابطا في هذه الحالات والله أعلم.
7- ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ... والمتبادر أن الموادة هي دون التولّي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.
__________
(1) انظر ابن هشام ج 3 ص 119- 123. [.....](7/141)
8- وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى ورحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسّر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده وصوابه من الأقوال والتأويلات والضابطين المحكمين في آيتي الممتحنة.
وجملة إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ظاهرة المعنى بأن القصد من هذا الاستثناء هو مداراة الكفار وليس توليهم على كل حال. ومما قاله الطبري وآخرون إن ذلك سائغ إذا كان هناك خطر أو ضرر يخافهما المسلمون من الكفار وفي حدود ما لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وما ليس فيه غضّ عن إهراق دم مسلم أو استحلال ماله أو فيه فساد في الدين أو مشايعة ومناصرة على مسلم بفعل ما.
ويدخل في ذلك اتخاذهم بطانة واطلاعهم على أسرار المسلمين ومواضع ضعفهم.
وننبه على أن من العلماء من أجاز التقية من الكفار إجازة رخصة وهناك من أوجبها إيجابا.
ويتبادر لنا على ضوء العبارة القرآنية أنها تضمنت تسويغا عاما يحدد المسلمون الانتفاع به وفق ظروفهم وفي نطاق الضرورة وفي حدود الأقوال السابقة الوجيهة.
ولقد قال بعضهم إن الاستثناء كان بالنسبة لأول الإسلام ثم نسخ بعد أن أعزّ(7/142)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
الله دينه. ولما كانت ظروف الإسلام والمسلمين لم تبق على وتيرة واحدة حيث كانوا ضعفاء ثم قووا ثم ضعفوا وأن هذا قد يتكرر فالقول بنسخ الاستثناء غير متسق مع طبيعة الأشياء. والراجح أنه مما أملته عزة المسلمين الأولى في صدر الإسلام.
ولا يورد القائلون أثرا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو كبار صحابته يدعم قولهم. وهذا ما يسوغ القول إنه مستمر الحكم في الحدود التي ذكرناها.
10- وننبه على أن الشيعة يتوسعون في رخصة التقية فيجيزونها في كل الحالات والمواقف. وسواء أكانت تجاه الكفار أم المسلمين. بل ويوجبونها على ما هو مثبوت في كتبهم حتى تبدو أنها من أهم المبادئ التي يدينون بها ويطبقون عليها مختلف الحالات في مختلف المواقف والظروف التاريخية. وقد قال الطبرسي وهو مفسر شيعي معتدل في سياق الآية إن أصحابنا أجازوها في الأحوال كلها عند الضرورة. ولقد ألممنا بهذه المسألة في سياق تفسير الآية [28] من سورة غافر وأوردنا أقوالا وروايات أخرى يرويها الشيعة وأبدينا رأينا في المسألة فلا نرى ضرورة للإعادة إلّا التنبيه على أن آية آل عمران التي نحن في صددها هي في صدد الرخصة في مداراة الكفار فقط وأن المداراة والتقية إزاء غير الكفار حين الضرورة والخطر قد تصحان استئناسا بآية سورة النحل [106] وما ورد من أحاديث أخرى مع ما شرحناه في سياق تفسير آية غافر ومع التنبيه على ذلك على أن المداراة والتقية هما غير الاضطرار إلى تناول ما هو محرم من الأطعمة الذي ورد في آيات الأنعام [145] والنحل [115] والبقرة [173] وما يمكن أن يقاس عليه. وغير إكراه المسلم على عمل أو قول محظور بالقوة. وقد شرحنا هذا في سياق تفسير آية الأنعام [145] وآية النحل [106] فنكتفي بهذا التنبيه والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 64]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
.(7/143)
(1) محرّرا: متحررا أو منقطعا عن أي علاقة بالناس والمقصود أن يكون متفرغا لخدمة الله وبيته.
(2) بكلمة منه: الجمهور على أن ذلك يعني عيسى عليه السلام.
(3) حصورا: قيل إنها بمعنى عاجزا عن الفساد. وروى الطبري حديثا عن ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من الأرض عودا صغيرا ثم قال لم يكن له ما للرجال إلّا مثل هذا العود. والحديث ليس من الصحاح. وقال القاضي عياض إن العجز عن النساء عيب لا يليق بالأنبياء. وقيل في معنى الكلمة إن الله سمّاه حصورا لأنه كان متعففا عن النساء ترهّبا وتزهّدا. وقيل إن معناها معصوما عن الفواحش.
وليس في كتب النصارى التي اطلعنا عليها ذكر لمعنى الحصر بمعنى العجز عن النساء وإن كان المستفاد منه أن يحيى عليه السلام لم يتزوج.
الجزء السابع التفسير الحديث 10(7/145)
(4) رمزا: بمعنى بالإشارة.
(5) إذ يلقون أقلامهم: أقلامهم بمعنى سهامهم والجملة بمعنى إذ يقترعون بالسهام على من الذي هو أحقّ بكفالة مريم.
(6) بكلمة منه: الجمهور على أن هذا التعبير كناية عن معجزة الله وإرادته بولادة مريم لعيسى بدون مسّ رجل. وفي الآية [47] تفسير بأسلوب آخر حينما استغربت مريم البشارة فقيل لها كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) .
(7) المسيح: هذه الكلمة تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت وقد أوّلها بعضهم بمعنى البركة. وبعضهم بمعنى المطهر من الذنوب. وربط بعضهم بين الكلمة وكلمة (المسح) العربية فقال سمي لذلك لأنه كان يشفي المرضى بالمسح على رؤوسهم أو لأنه كان ممسوح أخمص القدمين. وظنها بعضهم أنها من السياحة فقال إنها أطلقت عليه لكثرة سياحاته. وكل هذه الأقوال تخمينية وفي بعضها إغراب ظاهر والكلمة عبرانية معرّبة. وقد شرحنا مداها في سياق تعليقنا على المسيح والمسيح الدجال في سورة غافر استئناسا مما جاء في بعض الأسفار فليرجع إليه.
(8) عيسى: الكلمة تعريب لاسم يسوع أو يوشع العبراني الأصل.
(9) الأكمه: الذي يولد أعمى أو ممسوح العينين.
(10) الحواريون: هذه الكلمة تأتي هنا لأول مرة. وقد تكررت في سورتي الصف والمائدة والكلمة على رأي جمهور المفسرين «1» عربية الأصل والمعنى مع اختلاف في التخريج حيث قيل إنها من الحور وهو البياض لأن الحواريين كانوا يلبسون الثياب البيضاء. أو من الحواري وهو لباب الدقيق وخالصه. وأطلقت هذه الكلمة عربيا ومجازا على صفوة أخصاء الشخص وخالصتهم. وقد يعني (الحواري) النظيف النقي. ومن ذلك إطلاق الحوارية والحواريات على النساء الحضريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن. واستنتج بعضهم أنها بمعنى النصير
__________
(1) انظر تفسير المنار والطبري والبغوي وابن كثير والنسفي والخازن والطبرسي لهذه الآيات وآيات المائدة [115 و 116] والصف [14] .(7/146)
لحديث صحيح رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب كان الزبير بن العوام رضي الله عنه أول الملبين مرة بعد مرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكلّ نبيّ حواريّ وحواريّ من أمتي الزبير» «1» .
ولقد أرجع بعض الباحثين الكلمة إلى (حوارا) الآرامية بمعنى الأبيض.
وقالوا إنها دخيلة على اللغة العربية. واللغة الآرامية واللغة العربية من أصل واحد فلا يمنع أن تكون الكلمة مشتركة في اللغتين ولا يكون محل للقول إنها دخيلة.
والحور في اللغة شدّة بياض العين ومنه الحور العين. وقال رشيد رضا إن بعض كتّاب النصارى زعموا أن الكلمة محرّفة عن كلمة (الحواري) اليونانية. وقد فنّد هذا الزعم لغويا وصرفا واستعمالا تفنيدا قويا.
(11) نبتهل: من الابتهال وهو دعاء الله والالتماس منه.
(12) من دون الله: بدلا من الله أو غير الله.
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) وما بعدها إلى آخر الآية [64] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عبارتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته:
1- تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به
__________
(1) التاج، ج 3 ص 300.(7/147)
وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفّيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
2- وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
3- وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عزّ وجلّ بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [60] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصحّ أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبيت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
4- وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقرّ بها هو وإياهم على السواء: بأن لا يعبد كل منهم إلّا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربّا له.
فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو ومن معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين «1» على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام «2» عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير إلخ.
(2) ابن هشام ج 2 ص 204- 215.(7/148)
عمران من أولها إلى آخر الآية [64] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفّيه. وفي دعوة المحاجّين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد فلا نرى ضرورة إلى التكرار لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [58- 64] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق(7/149)
وحده ولا سيما إن ما فيها متسقا مع ما يسلّم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله أي تأويل.
ومضمون الآيات المذكورة وروحها وبخاصة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المحاجّين إلى المباهلة، والابتهال إلى الله بلعنة الكاذبين ثم أمر الله له بدعوتهم إلى كلمة سواء بينهم وبينه وإشهادهم إذا تولوا على أنه هو وأتباعه مسلمون لله تعالى فكل ذلك قوي رائع. ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المناظرة في موقف القوي الدافع المفحم الشاعر بقوة موقفه وصحة دعواه وصدق ما يقرره. وهذا المعنى القوي الرائع يظل واردا إزاء كل موقف مكابر في هذا الأمر في كل ظرف ومكان.
هذا، وكثير مما جاء في الآيات من المتشابهات التي يمكن أن يرجع في حسمها إلى المحكمات أو الآيات التي فيها صراحة أكثر والتي يجب أن يوكل ما يعجز العقل الإنساني عن فهمه وتأويله إلى الله تعالى ويوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه مع استشفاف الحكمة منه.
وهذه بعض إيضاحات وتنبيهات في صدد ما احتوته الآيات على ضوء ذلك:
فأولا: إن في الآيات زيادات لم ترد في آيات سورة مريم وهو ما احتوته الآيات [33- 38 و 42- 44 و 47- 57] وبعض ما جاء من هذه الزيادات مثل المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إحياء للموتى وإبراء للأكمه والأبرص. ومثل قول عيسى إنه مصدّق للتوراة وإنه سوف يحلّ لهم بعض ما حرّم عليهم. ومثل هتافه بمن يكون أنصاره حينما أحسّ من بني إسرائيل بالكفر واستجابة الحواريين لهتافه وإعلانهم إيمانهم. ومثل ما كان من مكرهم به.
وخطاب الله لعيسى إنه متوفّيه ورافعه إليه وجاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا قد ورد في الأناجيل المتداولة المعترف بها صراحة وضمنا «1» . ولقد أوّل المؤولون جملة وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ بما كان من مكر يهوذا الأسخريوطي به وتسليمه
__________
(1) انظر مثلا الإصحاحات (4 و 5 و 6 و 8 و 9 و 10 و 11 و 12) من إنجيل متى.(7/150)
إياه للسلطات وهذا مذكور في الأناجيل «1» . وأوّلها بعضهم بما كان من مكر اليهود به وهذا منثور في جميع الأناجيل. وننبه بهذه المناسبة إلى أن كلمة الحواريين لم ترد في الأناجيل الأربعة المتعرف بها وقد سمّوا فيها (تلامذة المسيح) و (رسله) «2» .
وبعض ما جاء من الزيادات لم يرد في الأناجيل المتداولة المتعرف بها مثل إعلان اصطفاء الله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ونذر امرأة عمران ما في بطنها واعتذارها ودعائها وتعويذها لمريم وذريتها بالله من الشيطان واستجابة الله لها وعنايته بمريم وتكفيله إياها لزكريا ومثل قول الملائكة إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ومثل خلق عيسى من الطين كهيئة الطير ونفخه فيها لتكون طيرا بإذن الله. ونعتقد أن هذا مما كان متداولا بين النصارى في عصر النبي وبيئته وواردا في قراطيس كانت في أيديهم لم تصل إلينا.
والروايات تذكر أنه كان أناجيل عديدة غير المتداول اليوم وغير المعترف بها فضاعت أو أبيدت على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول ما جاء في هذه الآيات معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي. ومنها ما لم يعز إلى راو. وفيها أشياء كثيرة مما ورد في الأناجيل المتداولة مع زيادات وحواش. وفيها أشياء كثيرة أخرى لم ترد في الأناجيل المتداولة ووردت الإشارة إليه في الآيات مع زيادات وحواش. ومن ذلك على سبيل المثال أن أم مريم كانت عاقرا فنذرت إن رزقها الله ولدا أن تجعله سادنا لبيت الربّ وأن مريم كانت بنت رئيس الكهان فخلفه على مهمته زكريا عديله فلما
__________
(1) انظر الإصحاح 26 من هذا الإنجيل أيضا. ومعظم ما ذكر وارد في الأناجيل الأخرى كذلك.
(2) هذه هي أسماء التلامذة الاثني عشر المذكورة في الأناجيل: سمعان المدعو بطرس- اندراوس أخوه- يعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا- فيلبس- برتلماوس- توما- متى القسار- يعقوب بن حلفي- تدارس- سمعان القانوني- يهوذا الأسخريوطي. انظر الإصحاح 10 من إنجيل متى و 3 من إنجيل مرقس و 6 من إنجيل لوقا.(7/151)
وضعت أم مريم ابنتها جاءت بها إلى بيت الربّ فقال زكريا أنا أحقّ بكفالتها فأبى سائر الكهنة ذلك ثم اتفقوا على الاقتراع فألقوا سهامهم في نهر الأردن فذهب النهر بجميعها عدا سهم زكريا فثبتت بذلك كفالته لها. وأن زكريا كان يجد فواكه الشتاء في الصيف وفواكه الصيف في الشتاء عند مريم. وأن أم يحيى كانت تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك وإن هذا مصداق الآية مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ في وصف يحيى. وأن المسيح سأل أيّ الطير أشدّ خلقا قالوا الخفاش فأخذ طينا وجعله على صورة الخفاش ثم نفخ فيه وقال كن طائرا بإذن الله فخرج يطير بين يديه. وأن المسيح كان يخبر الغلمان بما صنعه أهلهم وخبأوه من طعام، فيجد الغلمان حينما يعودون إلى بيوتهم الأمر كما أخبرهم. وأن عيسى أحلّ لبني إسرائيل الشحوم ولحوم الإبل وكان هذا مما حرمته التوراة إلخ..
إلخ ... حيث تدل الروايات التي اكتفينا بما أوردنا منها على أن ما جاء في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادات وحواش.
ونقول هنا ما قلناه في أعقاب آيات سورة مريم إن من واجب المسلم أن يؤمن بكل ما جاء في الآيات من أخبار ومحاورات وخوارق. وسواء منها المتطابق مع الأناجيل المتداولة وغير المتطابق وكون ذلك في نطاق قدرة الله مع الإيمان بأنه لا بد لما ورد في الآيات من حكمة. والملموح من هذه الحكمة في الآيات أنها وقد نزلت في صدد المناظرة التي انعقدت بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران حول شخصية عيسى عليه السلام قد هدفت إلى تسفيه عقيدة بنوّة المسيح من الله وألوهيته بشكل ما. وتقرير الحق من أمره. وهو أنه رسول أرسله الله ليدعو الناس إلى عبادته وحده وليقرر لهم أنه ربّه وربّهم وتصحيح ما ارتكسوا فيه من انحرافات. وأن كل ما هنالك أنه ولد بمعجزة وكان هو وأمه مظهر عناية الله وتكريمه وأن ذكر كون عيسى كلمة من الله هو على سبيل التعبير بالمعجزة الربانية من خلقه بدون مسّ رجل وأن التحجج بما في القرآن من عبارات في صدد ذلك هو من قبيل التحجج بالآيات المتشابهة دون المحكم الذي لا يفعله إلّا من في قلبه زيغ ابتغاء الفتنة. في حين أن المحكم صريح بتنزيه الله عن الولد والشريك والقسيم والتعدد والروح المادية التي(7/152)
تسري منه إلى غيره بأي شكل. ويكون مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان. وقد يكون من تلك الحكمة ما بين التقريرات القرآنية والأناجيل من تطابق حيث ينطوي في ذلك قصد الإفحام والإلزام. أما ما ليس متطابقا فهو من وجهة النظر الإسلامية محرّف والله تعالى أعلم. ولقد كان جمهور النصارى في بلاد الشام ومصر والعراق يدينون بمذهب لا يقول بالألوهية التامة لعيسى وبأنه بين بين من الناسوتية واللاهوتية وذو طبيعة واحدة مزيجة خلافا للسلطات الرومانية الحاكمة. وكان هذا الجمهور يتعرض لذلك لاضطهاد هذه السلطات. فلما جاءت جيوش الفتح الإسلامي إلى هذه البلاد أقبلت جماهير هذا المذهب على الصلح مع العرب. ولما عرفت ما في القرآن عن عيسى من كونه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وأن الله نفخ في فرجها وجعلها وابنها آية للعالمين، وأن الله أرسل إليها روحه الذي تمثل لها بشرا ليهب لها غلاما زكيا وليكون آية للناس ورحمة منه. ومما جاء في بعض الآيات التي نحن في صددها وفي بعض آيات سورة مريم وسورة الأنبياء التي مرّ تفسيرها وفي الآية [170] من سورة النساء لمحت شيئا من التطابق بين ذلك وبين مذهبها فأقبلت على اعتناق الإسلام. وقد يكون ذلك من مظاهر أو نتائج تلك الحكمة والله تعالى أعلم.
وثانيا: قد تبدو الآية [44] مشكلة لأنها تنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يوحى إليه وخاصة في صدد ظروف ولادة مريم وكفالتها هو من أنباء الغيب. وإشكالها آت من ناحية ترجيحنا أن ما احتوته الآيات مما كان متداولا عند النصارى وغير مجهول عند العرب أو بعضهم. ولقد أشرنا إلى مثل هذا الإشكال في سياق تأويل الآية [49] من سورة هود والآية [102] من سورة يوسف اللتين تذكران أن ما أوحاه الله إلى النبي من قصص هود ويوسف هو من أنباء الغيب وعلقنا على ذلك بما نرجو أن يكون فيه الصواب. وينسحب ما قلناه على هذه الآية ولا نرى أن نزيد عليه إلّا التنبيه على أن الروايات التي يرويها المفسرون عن ذلك تفيد أن ظروف ولادة مريم وكفالتها وما كان يجده زكريا عندها من رزق مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم(7/153)
ومما يحتمل أن لا يكون مجهولا من بعض العرب.
وثالثا: وقد يبدو ما ذكر في الآية [55] من أن الله تعالى جاعل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة ثم يكون مصير المؤمنين به النعيم والكافرين به العذاب. والمتبادر أن ذلك إنما هو في صدد الذين اتبعوا رسالة المسيح بجميع محتوياتها ولم ينحرفوا عنها. ومن جملة ذلك وحدة الله عز وجل وتنزيهه عن كل نقص وشائبة وتجزّؤ وتعدّد بأي شكل. واعتراف المسيح بأنه عبد الله ورسوله. ودعوته إلى الله وحده وهو ما حكاه القرآن وما في الأناجيل من نصوص متطابقة مع ذلك صراحة وضمنا مما أوردنا نماذج منه في تفسير سورة مريم.
ومن جملة ذلك أيضا بشارة عيسى بالنبي محمد التي ذكرها القرآن في الآية [6] .
ومن جملة ذلك كذلك ما في الإنجيل من صفاته مما أشير إليه في آية سورة الأعراف [157] التي تدعو أهل الإنجيل إلى اتباعه. ومقتضى كل ذلك أن يكون الذين يستحقون ذلك النعيم والتفضيل من أتباع عيسى هم الذين لم ينحرفوا عن رسالته إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بهذا النبي واتبعوه. أما المنحرفون عنها قبل بعثة محمد والكافرون برسالة محمد فهم من وجهة نظر العقيدة الإسلامية كفار كما قررت ذلك آيات عديدة منها آيات النساء [150 و 151] والمائدة [72 و 73] . ولقد قررت آية الأعراف [157] أن فريقا منهم اتبع النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن ثبتت لهم صحة الدلائل المكتوبة عندهم على نبوّته كما قررت ذلك آيات عديدة وردت في سور سبق تفسيرها وسور يأتي تفسيرها بعد مثل آيات القصص [52- 55] والإسراء [107- 108] والرعد [36] والمائدة [82- 85] وبهذا الشرح يزول كل إشكال.
وكلام المفسرين في هذه المسألة متطابق بالنتيجة مع هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» «1» . حيث ينطوي في الحديث تأييد نبوي لما قررناه.
__________
(1) التاج، ج 1 ص 35.(7/154)
ورابعا: وقد يبدو ما جاء في الآية [33] مشكلة أيضا بما احتوتاه من تقرير رباني مباشر باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. وآل عمران هم أسرة مريم. وكذلك في الآية [42] التي قررت أن الله اصطفى مريم على نساء العالمين. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد هدفت إلى التنويه بفضل المذكورين ومنزلتهم أو أفضليتهم على غيرهم في عصرهم بما امتازوا به من خصائص وفضائل صاروا بسببها من أصفياء الله. وقد يكون اصطفاء آل عمران ومريم متصلا بخاصة بمعجزة ولادة المسيح التي لم يكن لها مثيل وبما كان من تكريمه ورفعه.
وخامسا: وقد يثير ذكر آدم إشكالا من ناحية كون القرآن يقرر أنه أول إنسان خلقه الله في حين أن مفهوم الاصطفاء يفرض وجود آخرين معه يصطفي الله منهم من يصطفيه مما قد ينطبق على نوح وإبراهيم وآل عمران ومريم دون آدم. والمتبادر أن العبارة بالنسبة لآدم هي أيضا أسلوبية لا إشكال حقيقيا فيها من حيث إنه أبو جميع الذين اصطفاهم الله. ويمكن أن يقال مع ذلك إن ذكر اصطفائه متصل بما كان من اختصاصه بالذكر في خلق الله له ونفخه فيه من روحه والإيذان بأنه جاعله خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء وأمر الله الملائكة بالسجود له مما ذكرته آيات القرآن أو بما كان من اختصاصه بالمميزات التي اختص بها جنسه الإنساني دون غيره من مخلوقات الله الأخرى وبخاصة الحيوانات التي بينها وبين هذا الجنس تشارك في كثير من الصفات حتى صار خلقا آخر كما جاء في الآية [14] من سورة المؤمنون. وكلام المفسرين في هذه الأمور متطابق كذلك بالنتيجة مع هذه التقريرات. ولقد قال بعضهم إن الاصطفاء لآل إبراهيم وآل عمران هو بالنسبة للمؤمنين منهم. وهذا وجيه. وقال بعضهم إن النبي والعرب يدخلون في ذكر آل إبراهيم تكذيبا لليهود الذين كانوا يقولون إنهم شعب الله المختار من حيث إن إبراهيم ليس فقط جد بني إسرائيل الذين ينتسبون إلى يعقوب وإسحق أبي يعقوب الذي هو ابن إبراهيم بل هو أيضا أبا لإسماعيل الذي ينتسب إليه العرب وأبا لأولاد آخرين ولدوا له من زوجته قطوره على ما جاء في الإصحاح (25) من سفر التكوين.(7/155)
وسادسا: لقد كانت الآية [55] التي ذكر فيها رفع عيسى عليه السلام بعد توفّيه موضوع بحوث وتأويلات وروايات «1» معزوّة إلى ابن عباس وغيره بالنسبة لمفهوم التوفي والرفع وما إذا كان عيسى عليه السلام مات ثم رفع، أو رفع دون موت، وما إذا كان رفع بروحه أو بروحه وجسده. وما قد يترتب على ذلك من تصادم مع آيات قرآنية أخرى وأحاديث نبوية إذا قيل إنه مات ثم رفع حيث جاء في سورة النساء هذه الآيات: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وحيث روى الشيخان والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» «2» . ثم قال أبو هريرة واقرأوا إذا شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وهناك حديث نبوي آخر طويل في الدجال رواه مسلم والترمذي وأبو داود ذكر فيه أن الله يبعث المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق «3» .
ومما رواه المفسرون وقالوه: إن التوفّي هنا هو توفية أيام عيسى في الأرض كما قالوا إن جملة مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ بمعنى قابضك من الأرض بدون موت أو إني مميتك ثم رافعك إليّ. واستدلوا بالآية اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2) انظر التاج ج 5 ص 323- 325.
(3) المصدر نفسه.(7/156)
سورة الزمر [42] على أن التوفي ليس معناه الإماتة حتما ودائما. وقالوا كذلك إنه لا يصح أن يكون لعيسى حياة وموت ثم حياة وموت في الدنيا، لأن الله إنما جعل لكل إنسان حياة مرة وموتا مرة في الدنيا، ثم حياة في الآخرة عدا ما يكون أحياه الله بمعجزة مما ذكر في القرآن ووجب الإيمان به. ومع ذلك فقد رووا عن ابن عباس وغيره أن الله أماته ثم أحياه بضع ساعات أو بضعة أيام ورفعه إليه لتكريمه ...
وللسيد رشيد رضا في صدد ذلك كلام طويل يفيد أن التوفي بمعنى الموت والرفع بمعنى التكريم وأن الأحاديث النبوية هي أحاديث آحاد في أمور غيبية لا يؤخذ فيها إلّا بالقطعي المشهور وإن نفي صلبه وقتله وكونه شبه عليهم لا ينفي موته موتة عادية وإن جملة إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ في سورة النساء هي بالنسبة لأهل الكتاب وليست بالنسبة لعيسى عليه السلام. ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة.
ومهما يكن من أمر فإن الذي يتبادر لنا أن الآية إنما استهدفت التنويه بعيسى عليه السلام وفضله وكرامته عند الله ولم تستهدف تقرير واقعة. ولا سيما أن أسلوبها أسلوب خطاب موجّه إلى عيسى قبل توفيه ورفعه. وأن الأولى الوقوف منها عند هذا الحد دون ما تزيد ولا تخمين.
ومعلوم أن المبشرين النصارى يحاجون المسلمين بهذه الآية لأن فيها اعترافا بموت عيسى قبل رفعه. وهذا يوافق عقيدتهم مع فارق واحد هو اعتقادهم أنه مات مصلوبا ويرون في الآية في الوقت نفسه نقضا لآية النساء التي تنفي قتل عيسى وصلبه. وتقرر أن الله رفعه إليه بأسلوب قد يفيد أن ذلك كان وهو حي. ولسنا نرى في الآيتين صراحة قطعية بموته قبل رفعه ولا رفعه وهو حي. والعبارة تتحمل الصورتين. والقرآن نفى موته صلبا أو قتلا فليس للنصارى حجة في النص القرآني والحالة هذه حتى لو أوّل بأنه رفع بعد الموت. وسنستوفي البحث في موضوع آية النساء في مناسبتها إن شاء الله.
وسابعا: لقد روى المفسرون في سياق جملة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ(7/157)
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ
(36) حديثا رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها. واقرأوا إذا شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) » «1» . وروى المفسرون كذلك حديثا آخر رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «2» . ويلحظ بالنسبة للحديث الأول أنه يذكر أن الشيطان يمس المولود حين يولد وأنه ربط عدم طعن مريم وابنها بدعاء أم مريم مع أن هذا الدعاء كان بعد ولادة مريم بمدة ما ولقد رأى بعض المفسرين أن ما في الحديثين من قبيل التمثيل والتعبير عن طمع الشيطان في إغواء كل مولود.
ولقد قال رشيد رضا: «إن الأحاديث هي آحادية ولا يؤخذ بها في العقائد ومبادئ الدين وإن صحت فيوكل الأمر فيها إلى الله لأنها متصلة بما أخبر به القرآن ووجب الإيمان به غيبا من وجود الشيطان ووسوسته للناس ومحاولته إغراءهم» . وفي هذا القول وجاهة ظاهرة. وقد يمكن أن يضاف إليه أن من الحكمة الملموحة في الأحاديث التساوق النبوي مع القرآن في تكريم مريم وابنها عليهما السلام في الآية التي ربط الحديث الأول بمضمونها والله تعالى أعلم. ولقد قال رشيد رضا إن دعاة النصرانية يشاغبون على عوام المسلمين بالأحاديث مستدلين بها على تفضيل عيسى على محمد عليهما السلام وهذا من عجيب تفاهاتهم. والأحاديث صدرت في مناسبة آية من آيات القرآن متساوقة معها. ومن العجيب أن هؤلاء الدعاة يتمسكون بحديث نبوي ويوردونه لإثبات قولهم ويتركون أحاديث نبوية كثيرة في فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام. نكتفي منها بهذا الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «جلس ناس من أصحاب النبي ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون. فقال بعضهم عجبا: إن الله عزّ وجلّ
__________
(1) التاج ج 4 ص 65، وفي فصل النبوة من كتاب التاج ج 3 ص 266 تكرار للحديث الأول مع صراحة بأن جملة (اقرأوا إذا شئتم ... ) هي لأبي هريرة.
(2) المصدر نفسه.(7/158)
اتخذ من خلقه إبراهيم خليلا، وقال آخر وكلّم الله موسى تكليما. وقال آخر وعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر وآدم ونوحا اصطفاهما، فسلّم النبي وقال قد سمعت كلامكم وعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجيّ الله وهو كذلك وعيسى كلمة الله وروحه وهو كذلك وآدم ونوح اصطفاهما الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر. وأنا أول شافع وأول مشفّع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» «1» .
تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة
روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآية في صيغ مختلفة. معظمها يفيد أنها في صدد مناظرة وفد نجران. وواحدة منها تذكر أنها في صدد موقف حجاجي بين النبي واليهود. وورود الآية في سياق في صدد عيسى عليه السلام يجعل الرجحان للقول الأول. ومما جاء في الروايات التي تذكر أنها في صدد وفد نجران أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية غدا محتضنا الحسين وآخذا بيد الحسن وفاطمة أو فاطمة وعلي رضي الله عنهم يمشيان وراءه أو دعا هؤلاء وقال لهم إذا دعوت فأمّنوا ثم جاء إلى وفد نجران فدعاه إلى المباهلة حسب نصّ الآية فاعتذر وقال ما ذكرناه في مناسبة سابقة من أنهم يكتفون منه بقوله إن عيسى كلمة الله وروح منه وطلبوا منه الموادعة. وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر وولده وعمر وولده وعثمان وولده وعليا وولده رضي الله عنهم ليشتركوا معه في المباهلة والملاعنة وليس من شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح إلّا حديث مقتضب لا يذكر المباهلة رواه مسلم والترمذي عن عامر بن سعد عن أبيه قال: «لمّا
__________
(1) التاج، ج 3 ص 206 وانظر أيضا الصفحات 204 و 205 ففيها أحاديث عديدة أخرى في فضل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [.....](7/159)
أنزل الله الآية دعا النبيّ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهمّ هؤلاء أهلي» «1» .
ولقد شغل هذا الأمر حيزا كبيرا في احتجاجات الشيعة وتأويلاتهم. وكانت رواية أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وفاطمة وعليا رضي الله عنهم معه إلى المباهلة عمادهم في ذلك. واعتبروها حقيقة يقينية وقالوا إن جملة وَأَنْفُسَنا عنت عليا لأن النبي هو الداعي فلا يكون مدعوّا وإن عليا والحالة هذه أفضل الخلق بعد النبي وأفضل من سائر الأنبياء لأنه في مقام النبي محمد. وإن عدم اصطحاب النبي أحدا من نسائه واصطحابه فاطمة يدل على أن كلمة وَنِساءَنا في الآية لا تعني زوجاته وإنما عنت بنته. وإن الحسن والحسين هما ابنا النبي ولو لم يكونا من صلبه لأنه اصطحبهما على اعتبار أنهما أبناؤه. وإنه لما كانت المباهلة لا تصلح إلّا بين مكلفين فيكون صغر سنهما وعدم بلوغهما الحلم لا ينافيان كمال العقل والتكليف فضلا عن جواز خرق الله العادة للأئمة واختصاصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم.
والتكلّف والتجوّز والتعسّف بل والمفارقة ظاهرة في كل ذلك مما يقع الشيعة في مثله وأكثر منه على ما مرّ منه أمثلة كثيرة. ولقد تغافلوا في تأويلاتهم عن كون النبي لا يمكن أن يناقض القرآن في تسمية بنته الوحيدة بنسائه حيث عنى القرآن بهذه الكلمة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأحزاب [28- 30] كما تغافلوا عن أن الدعوة كانت مشتركة تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ فلم يسألوا أنفسهم ماذا تكون عنت كلمة وَأَنْفُسَكُمْ بالنسبة للوفد حينما أوّلوها بالنسبة للنبي بعلي أي بغير النبي. ولم يرو أحد أن الوفد كان يصطحب نساء وأولادا.
وأسلوب الآية أسلوب تحدّ وإفحام. وابن هشام الذي يروي خبر ما كان بين النبي ووفد نجران بالتفصيل ويورد آيات سورة آل عمران في سياق ذلك لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعد للمباهلة فعلا كما لم يذكر أنه أخذ فاطمة وعليا والحسن والحسين رضي الله عنهم للمباهلة. وكل ما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى المباهلة فاستمهلوه لينظروا في الأمر ثم غدوا فقالوا له رأينا يا أبا القاسم أن لا نلاعنك. وكل هذا يجعلنا نشك
__________
(1) انظر أسد الغابة والمواهب اللدنية للزرقاني ومشارق الأنوار للحمزاوي.(7/160)
في الرواية ونرجح أنها من صنع الشيعة لتأييد أهوائهم كما فعلوا مثل ذلك كثيرا.
ولقد تصدّى الشيخ محمد عبده لهذه المسألة على ما جاء في تفسير رشيد رضا فقال إن مصادر هذه الرواية الشيعة. ومقصدهم معروف. وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإن وَنِساءَنا لا يقولها عربي ويريد بها ابنته إذا كانت له زوجة.
ولقد ذكرنا قبل أن ابن هشام أورد خبر قدوم وفد نجران بعد خبر وقعة بدر وقبل خبر وقعة أحد. وأن الفصل الطويل الذي يتفق المفسرون على أنه نزل في مناظرة وفد نجران والذي نحن في صدده قد وضع في السورة قبل فصل وقعة أحد.
وأن ذلك يمكن أن يجعل وقت قدوم هذا الوفد عقب انتصار النبي والمسلمين على قريش في بدر وقبل وقعة أحد قوي الورود. وهذا الوقت يقارب أواخر السنة الهجرية الثانية ولقد أرّخ الرواة زواج فاطمة وعلي رضي الله عنهما بالسنة الهجرية الثانية وولادة الحسن رضي الله عنه بالسنة الثالثة وولادة الحسين رضي الله عنه بالسنة الرابعة أو الخامسة «1» . وهذا يعني أن الحسن والحسين رضي الله عنهما اللذين تروي روايات الشيعة أن النبي صحبهما للمباهلة لم يكونا قد ولدا حينما نزلت آية المباهلة ...
هذا، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن رواية دعوة النبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأولادهم هي أيضا مصنوعة لمقابلة روايات وتأويلات الشيعة المتعسفة مما له أمثال كثيرة روينا بعضها في مناسبات سابقة «2» .
والعلم يقتضينا أن نذكر أن هناك أحاديث أخرى وردت في الصحاح غير الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وأوردناه قبل قليل في مناسبة آية المباهلة تروى في مناسبة آية سورة الأحزاب إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) . منها حديث رواه عمر بن أبي سلمة قال: «لمّا نزلت هذه
__________
(1) انظر أسد الغابة والمواهب اللدنية للزرقاني ومشارق الأنوار للحمزاوي.
(2) انظر فصل المناقب في الجزء التاسع من مجمع الزوائد ففيه أمثلة كثيرة من ذلك.
الجزء السابع من التفسير الحديث 11(7/161)
الآية دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء ثمّ قال اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. قالت أمّ سلمة وأنا معهم يا رسول الله، قال أنت على مكانك وأنت إلى خير» «1» . وليس في الحديث ذكر لعلي.
ولكن مؤلف التاج أورد الحديث في فصل الفضائل وفيه ذكر لعلي «2» ، ومنها حديث رواه كذلك مسلم والترمذي عن عائشة قالت: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثمّ جاء الحسين فأدخله معه ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) » «3» . ونحن نتوقف في هذه الأحاديث وفي الحديث الأول معا التي فيها إخراج لنساء النبي من تعبير وَنِساءَكُمْ في الحديث الأول من تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ في الأحاديث الأخرى وحصر الأول في فاطمة وحصر الثاني في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم لأن هذا مناقض لصراحة الآيات القرآنية. وسوف نزيد هذا الأمر شرحا في تفسير سورة الأحزاب، والله تعالى أعلم.
استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك
لقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: «حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ قال انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين النبي «4» فبينا أنا بالشام إذ جيء
__________
(1) التاج، ج 4 ص 185.
(2) التاج، ج 3 ص 308.
(3) المصدر نفسه ص 308 أيضا.
(4) يقصد هدنة الحديبية التي انعقدت بين النبي وبين زعماء قريش لمدة عشر سنوات في السنة السادسة للهجرة.(7/162)
بكتاب من النبي إلى هرقل جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فقالوا نعم. فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال:
أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا، فقال للنفر: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي. فإن كذبني فكذّبوه. ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو حسب. قال: هل كان في آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا، قال: أيتّبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إيّاه؟ قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه. قال:
فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال أبو سفيان: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبيّ. وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم. ولو أني أعلم بأني أخلص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت قدميه وليبلغنّ ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتّبع الهدى. أما بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) . فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط فأخرجنا فقلت لأصحابي خرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. إنه ليخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام. قال الزهري فدعا هرقل(7/163)
عظماء الروم فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد وأن يثبت لكم ملككم قال فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت فقال عليّ بهم فدعا بهم فقال إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم. فقد رأيت منكم الذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه» «1» .
ولقد روى كتّاب السيرة والقدماء «2» أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في السنة الهجرية السادسة بعد صلح الحديبية كتبا عديدة إلى ملوك الفرس والروم والحبشة ومصر وغسان والبحرين واليمامة وأمراء اليمن وأقيالها يدعوهم فيها إلى الإسلام حيث يتبادر أنه اغتنم فرصة هذا الصلح الذي أوقف حالة الحرب بينه وبين أقوى أعدائه.
وكان قبل ذلك قد فرغ من تطهير المدينة من اليهود وخضد شوكتهم خضدا تاما في القرى التي هم فيها بين المدينة والشام وكانوا أقوى أعدائه بدورهم فرأى أن يبلغ دعوة الإسلام وصوته إلى العالم عن طريق الملوك والأمراء. وكان ذلك على الأرجح بعد نزول الآية بمدة ما. فأدخلها في نصّ كتاب الدعوة الذي أرسله إلى الكتابيين بخاصة.
وصيغة الآية قوية رائعة حيث تدعو أهل الكتاب إلى كلمة فيها كل الحقّ وكل العدل. يدين بها الجميع وهي أن لا يعبد إلا الله وألا يشرك به شيء. وألّا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله وحيث تأمر المسلمين إذا لم يستمع أهل الكتاب لهذه الدعوة. ويستجيبوا لها بأن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون لله مؤمنون بهذه العقيدة الصافية النقية.
وبعض المستشرقين يشككون في رواية كتب النبي لملوك الأرض العظام لأسباب تافهة لا تثبت على نقد. والرواية واردة في أقدم كتب السيرة والحديث.
__________
(1) التاج، ج 4 ص 65 و 69 والمتبادر أن الحديث شقان رواهما البخاري الأول عن ابن عباس والثاني عن الزهري. وأبو كبشة كنية الحارث بن عبد العزى زوج مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أبوه بالرضاعة. وكان زعماء قريش يكنونه بها انتقاصا واستهتارا والأريسيين هم الأتباع والرعية على الأرجح.
(2) انظر سيرة ابن هشام ج 4 ص 278- 280، وطبقات ابن سعد ج 2 ص 23- 27.(7/164)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
والحديث الذي أوردناه من الصحاح. وليس هناك أي سبب لاختراعهما وليس فيهما ما يتحمل شكا وقد أمر النبي بإبلاغ رسالته إلى جميع خلق الله دون أن يخشى شيئا في آية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [67] والشطر الأول من سورة المائدة نزل بعد صلح الحديبية بقليل. حيث يدعم كل هذا بعضه بعضا. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 68]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
. تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) وما بعدها الآيات [66- 68]
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
1- تنديد بأهل الكتاب لمحاجتهم في إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده.
2- وتنديد آخر لمحاجتهم في شيء ليس عندهم به علم.
3- ونفي لكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا.
4- وتقرير بأنه كان مسلما حنيفا غير مشرك وبأن أولى الناس به هم الذين على ملّته ومنهم النبي والذين آمنوا به لأنهم أيضا عليها.(7/165)
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران واشترك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود إن ملّة إبراهيم هي اليهودية، وقال النصارى إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه «لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية» «2» .
والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى، فنزلت الآيات:
1- مسفّهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم.
2- مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين.
ولقد كانت ملّة إبراهيم واتّباع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة «3» وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود.
وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليه السلام وملّته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى
__________
(1) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي وابن كثير وهم يعزون الرواية إلى ابن عباس.
(2) التاج، ج 4 ص 69.
(3) انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى.(7/166)
التقاء اليهود ومشركي العرب فيهما. أما التقاء النصارى معهم فيهما فهو آت من كون هؤلاء يؤمنون بأسفار العهد القديم والأنبياء الذين ورد ذكرهم فيها ومنهم إبراهيم عليه السلام كما هو المتبادر.
وقد قال المفسرون في صدد مفهوم الآية الثانية إنها احتوت تنديدا باليهود والنصارى لأنهم إذا صحّ أن يحاجّوا فيما احتوته التوراة والإنجيل لأنه مفروض أنهم يعرفونها فما كان لهم أن يحاجّوا فيما ليس فيها مثل كون ملة إبراهيم هي اليهودية أو النصرانية لأنهم بذلك يحاجّون فيما ليس لهم به علم صحيح «1» وهذا متسق مع فحوى الآيات كما هو المتبادر.
وأسلوب هذه الآية بخاصة وأسلوب الآيات بعامة يلهمان على كل حال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في موقف المستعلي الملزم المستحكم في الحجة والبيان.
وروح الآية الأخيرة ومضمونها يفيدان أنها تعني فريقين، فريقا قبل النبي لزم ملة إبراهيم الموصوفة، ثم النبي والذين آمنوا معه كفريق ثان. وهذا يعني كما هو المتبادر أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه على ملّة إبراهيم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون مؤمنا به من وجهة النظر الإسلامية.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآية حديثا رواه أيضا الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكلّ شيء ولاة من النبيين وإنّ وليي منهم أبي وخليل ربي. ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) » .
والحكمة الملموحة في الحديث توكيد التلازم بين النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام في الملة الواحدة الموصوفة في الآية الثالثة. وتوكيد ما أمر الله نبيه بالهتاف به في آيات سورة الأنعام [160 و 161] التي سبق تفسيرها والتعليق عليها.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير.(7/167)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
هذا، وإذا صحت الرواية التي تقول إن الآيات نزلت في مشهد جدلي اشترك فيه وفد نجران وأحبار اليهود فتكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة وفصلا من فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران من حيث الأصل والله تعالى أعلم.
نقول هذا لأن الآيات التالية التي ذكر فيها أهل الكتاب تفيد أن المقصود منهم اليهود فقط حيث يرد بالبال أن المقصود في الآيات التي نحن في صددها هم اليهود أيضا ولا سيما أن الجدال على ملّة إبراهيم سابقا كان بين النبي واليهود. وفي هذه الحالة يكون نفي النصرانية عن إبراهيم من قبيل الاستطراد والتعميم مما ورد مثله وفي مقامه في سلسلة آيات سورة البقرة الواردة في حق يهود بني إسرائيل على ما نبهنا عليه سابقا وتكون الآيات السابقة خاتمة فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران. وتكون هذه الآيات بداية فصل طويل جديد في حق اليهود. وقد وضعت بعد تلك الفصول للمناسبة الموضوعية أو الزمنية. والله أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
. في الآيات:
1- إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.(7/168)
2- ونعي عليهم بأنهم لا يضلّون في الحقيقة إلّا أنفسهم دون أن يدروا.
3- وخطاب موجّه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
4- وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في السماء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدّون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلّا لبعض لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجّوهم به عند ربّهم.
5- وأمر للنبي بأن يعلن- إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد- أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ... إلخ والآيات التابعة لها إلى [74]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات: من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود «1» . وقال بعضهم إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم
__________
(1) انظر تفسير الخازن. [.....](7/169)
يعلمون أن النبي على حق وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم «1» . وروى جمهورهم «2» أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم اطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات.
ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون إننا سألنا أحبارنا فقالوا إن محمدا كاذب وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون إنهم علماء أهل الكتاب وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم «3» أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [41- 42 و 76- 77 و 89- 90] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد.
ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة.
وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن
__________
(1) انظر تفسير الطبري.
(2) انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.
(3) انظر تفسير الطبرسي.(7/170)
ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [73] .
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم.
والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلّة من جبلّتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزوروّن منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [8 و 9] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [27 و 28] من هذه السورة وهو البرّ والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادّين لهم وعدم تولّي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحقّ والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف(7/171)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
. (1) الأميين: هنا بمعنى الأمم الأخرى كما تلهمه روح الآيات وهي نسبة إلى الأمة.
وفي هذه الآيات:
1- إشارة إلى أن أهل الكتاب فئتان: واحدة تؤدي الأمانة مهما عظمت ولو كانت قنطارا، وأخرى لا تؤديها مهما قلّت ولو كانت دينارا إلّا إذا ظلّ صاحبها جادا في مطلبه وحقه.
2- وحكاية لقول الفئة الثانية وهو أن الله لا يؤاخذها في أي شيء تجاه أحد من غيرها من الأمم.
3- ورد تعنيفي على هذا القول فهو كذب على الله وإن القائلين ليعلمون ذلك أيضا.(7/172)
4- واستدراك مستأنف بأن كل أمر موضع محاسبة الله في أي موقف وحال دون ما استثناء فالذي يوفي بعهده ويتقي الله فإنه يستحق رضاءه لأن الله يحب المتقين. أما الذين يبيعون عهد الله وأيمانهم بالثمن البخس والمنفعة الخسيسة فهم غير مستحقين من الله إلّا الغضب والسخط وليس لهم في الآخرة أي نصيب من رضائه فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم فيها ولهم العذاب الأليم.
تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في مناسبة هذه الآيات. من ذلك رواية يرويها البخاري والترمذي أيضا عن الأشعث بن قيس قال: «إن آية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إلخ ... نزلت فيّ. كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي.
فأنكرها عليّ فقال النبي بيّنتك أو يمينه فقلت إذن يحلف يا رسول الله فقال النبي من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله الآية» «1» . ومن ذلك رواية يرويها البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «إن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي فيها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت الآية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ...
إلخ» «2» . ومن ذلك روايات لم ترد في الصحاح منها أن الآيات نزلت في عبد الله بن سلام الذي ائتمنه رجل على ألف ومائتي أوقية ذهبا فأداها وفي فنحاص بن عذار الذي ائتمنه رجل على دينار فخانه فيه.
ومن ذلك أنه كان لجماعة من العرب ذمم على اليهود فلما أسلم العرب أنكر
__________
(1) التاج، ج 4 ص 70.
(2) المصدر نفسه.(7/173)
اليهود ما لهم من ذمم قبلهم وحلفوا على ذلك كذبا فأنزل الله الآيات. ومن ذلك رواية تذكر أنه كان لمسلم حقّ على يهودي فأنكره فكلف النبي المسلم بالبينة فلم يستطع فكلف اليهودي باليمين فقال المسلم يحلف ويذهب مالي فأنزل الله الآية الثالثة. ومن ذلك أن هذه الآية نزلت في بعض أحبار اليهود الذين استشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما عندهم من دلائل نبوّته فأنكروا وحلفوا أنه ليس عندهم من ذلك شيء.
ويلحظ أولا أن الحديثين يذكران أن الآية الثالثة نزلت في مناسبتين مختلفتين. وثانيا أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم واندمج في الإسلام ولم يعد متصفا بصفة كونه من أهل الكتاب. وثالثا أن الحديثين مع الروايات تقتضي أن تكون الآية الثالثة نزلت منفصلة عن الآيتين الأوليين في حين أن المتبادر الذي تلهمه روح الآيات الثلاث ونظنها أنها وحدة تامة وأنها متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها. فالآيات السابقة التي ذكرت تواصي اليهود على خداع المسلمين وتضليلهم وعدم اطلاعهم على ما عندهم واحتوت أحد شعاراتهم بعدم الائتمان لغيرهم فجاءت هذه الآيات تذكر شعارا أو صفة أخرى من شعاراتهم وصفاتهم متصلة بالصفات والشعارات المذكورة في الآيات السابقة، وهي جحود الحق والأمانات وحلفهم بالله باطلا في سبيل أعراض الدنيا واستحلالهم أموال الغير واستهانتهم بما يكون للغير قبلهم من حقوق وأمانات وعدم التزامهم بها.
وهذا البيان لا يمنع أن يكون وقع بعض وقائع جحد فيها بعض اليهود أمانات وذمما عندهم للمسلمين وحلفوا كذبا فكان ذلك مناسبة ملائمة للتذكير بأخلاقهم وتكرار الحملة عليهم والتنديد بهم في سياق موقفهم من النبي والمسلمين وحكاية تآمرهم على تشكيك المسلمين وتضليلهم وكتم ما عندهم من دلائل على صدق نبوّة النبي وصحة الوحي القرآني. وقد تكون الرواية التي ذكرت حلف بعض أحبار اليهود على عدم وجود شيء من الدلائل عندهم على صحة نبوة النبي والوحي القرآني صحيحة فكانت من المناسبات لنزول الآيات أيضا.(7/174)
ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
ولقد قال الخازن بلفظ (قيل) إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر.
ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك «1» وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة.
ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد
__________
(1) انظر الإصحاحات (22 و 23) من سفر الخروج و (19) من سفر الأحبار و (10 و 24) من سفر تثنية الاشتراع. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن ما جاء في بعض أسفارهم من نسبة تحريضهم على سكان أرض كنعان وإبادتهم أو استعبادهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم بدون سابق عداء إلى الله هو تحريف متأخر من اليهود لتبرير ما اقترفوه من جرائم وحشية عظمى تنزه الله عن أن يكون قد أمر بها. اقرأ كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة فصل خروج بني إسرائيل من مصر وحلولهم في شرق الأردن وفلسطين ص 41- 81.(7/175)
بالخائنين أم في تقريع الذين يبيعون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في سبيل خسيس المنافع وأعراض الدنيا.
ولقد أورد المفسرون في سياق تفسير الآيات أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك: منها حديث أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم وأهل السنن جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم. فقال أبو ذرّ راوي الحديث: من هم خسروا وخابوا. قال: المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» «1» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان» «2» . ومنها حديث جاء فيه: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله وفي رواية فضل مائه عن ابن السبيل» «3» . ومنها حديث جاء فيه: «لمّا قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدمي إلّا الأمانة فإنّها مؤادة إلى البرّ والفاجر» «4» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما يتساوق مع كل الشؤون.
وننبه في هذه المناسبة على أن الحثّ على مراعاة الأمانات والتنويه بمن يفعل ذلك قد تكرر في القرآن والحديث. وكان موضوعا لتعليق لنا في سياق شرح الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والخازن. وقد فسروا كلمة المسبل بالذي يسبل إزاره بإفراط.
والحديث الأول رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة بهذا النص: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنّان الذي لا يفعل شيئا إلّا المنّ والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. والمسبل إزاره) . والحديث الثاني رواه الخمسة بنصه. (انظر التاج ج 3 ص 68 و 69) .
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير ابن كثير والخازن.
(4) انظر تفسير الطبري والحديث من تخريج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.(7/176)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 78 الى 80]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
. (1) يلوون ألسنتهم بالكتاب: الجمهور على أن الجملة كناية عن تحريف لكتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا.
(2) ربانيين: جمع رباني: قيل إنها نسبة إلى الربّ. بمعنى المتفرّغ للربّ وعلوم الربّ وعبادة الربّ. وقيل إنها بمعنى العالم الحكيم. وقيل إنها بمعنى الذي يربي الناس ويقودهم ويصلحهم، وقد يكون المعنى الأخير هو الأكثر ورودا في مقام الآية ومداها.
في هذه الآيات:
1- إشارة تنديدية إلى فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم بأقوال يزعمون أنها من كتاب الله أو يحرفون كتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا ليوهموا المسلمين أن ذلك من كتاب الله وليس هو من كتابه ويفترون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون.
2- وتقرير بأنه لا يمكن أن يقول شخص مخلص أتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة للناس اعبدوني بدلا من الله تعالى أو اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بدلا من الله لأنه بذلك يكون قد أمرهم بالكفر بعد أن يكون دعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وكل ما يمكن أن يقوله للناس كونوا ربّانيين أي مخلصين لله وعبادته.
هداة إليه بما تقرءون وتعلمون وتتدارسون من كتبه.
الجزء السابع من تفسير الحديث 12(7/177)
تعليق على الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «1» في مناسبة الآيات روايات عديدة. منها أن بعض وفد نجران سأل النبي عما إذا كان يريد أن يعبدوه. ومنها أن هذا السؤال كان من بعض وفد نجران ومن بعض يهود المدينة. ومنها أن بعض المسلمين سألوا النبي عما إذا كان يحسن أن يسجدوا له زيادة في تكريمه. ومنها أن المقصد من البشر الذي تنفي عنه الآيتان الثانية والثالثة أمر الناس بأن يكونوا عبادا له أو بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا هو عيسى ومنها أنه هو محمد صلوات الله عليهما. ومنها أنها ردّ على تأويل أهل الكتاب بعض عبارات كتبهم تأويلا يخرجها عن مداها ويجعلها تبرر اعتبار المسيح والعزير أبناء الله أو آلهة وتعظيم الملائكة تعظيما يسبغ عليهم ما ليس لهم من النفع والضرّ المباشرين «2» . وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمفسرون يقولون إن الفريق المذكور في الآية الأولى هم اليهود. وهذا صحيح. وقد حكت الآيات [78- 79] من سلسلة آيات سورة البقرة عن اليهود ما حكته هذه الآية.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها. ولقد نددت هذه السابقات ببعض صفات اليهود فجاءت الآية الأولى تندد بصفات أخرى من صفاتهم وهي تحريف كتب الله ونسبة المحرّف إلى الله كذبا وإلقاؤه بأسلوب من ليّ اللسان ليوهموا المسلمين بأنه من كتاب الله. ويظهر أن من التحريف الذي حرفوه ما فيه تحميل لكلام بعض الأنبياء معنى لا يحتمله وأن في هذا المعنى تبريرا لعقيدة شركية أو لعقيدة تأثير الأنبياء والملائكة تأثيرا يجعلهم بمثابة شركاء لله
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.
(2) المصدر نفسه.(7/178)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
ويبرر تعظيمهم على هذا الأساس فاحتوت الآيتان الثانية والثالثة ردّا عليهم تبرئة للأنبياء من مثل ذلك، وتقريرا لما يمكن أن يصدر عنهم من قول أو أمر أو دعوة.
وهذا الشرح لا يمنع أن يكون الرد قد احتوى تزييف عقيدة اليهود ببنوة العزير لله وعقيدة النصارى ببنوة المسيح أو ألوهيته وعقيدة تأثير الملائكة واتخاذهم أربابا مع ذلك بسبب ذلك والتماس جلب النفع ودفع الضرر عنهم. ونفي ارتكاز أي شيء من هذا إلى أساس صحيح من الكتب السماوية أو إلى عقل ومنطق، وعدم اتساقه مع إخلاص الأنبياء والملائكة لله تعالى واعتبارهم أنفسهم عبيدا له.
وقد يتوافق هذا مع الرواية الأخيرة وإن كان ذلك يقتضي أن تكون الآيات الثلاث وحدة منفصلة عن سابقاتها. على أن من المحتمل أن تكون الآيتان الثانية والثالثة قد جاءتا بمثابة الاستطراد إلى ذكر بعض آثار التحريف الذي حرّفه أهل الكتاب لكتب الله نصا أو تأويلا.
وأسلوب الآيات قوي ومفحم وحاسم. سواء أفي تقريره تحريف اليهود لكتب الله تلاوة وكتابة وتأويلا أم في نفي ارتكاز أي شيء من أقوالهم ودعاويهم وعقائدهم التي فيها انحراف عن عبادة الله وحده وإشراك أحد ما في ذلك بأي شكل من ملك أو نبي على أي أساس صحيح من كتب الله وتقرير كون ذلك من تحريفهم وسوء تأويلهم. وفيها في الوقت نفسه صورة من صور واقع اليهود من ذلك في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وحياته.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
. (1) إصري: أصل الكلمة العهد الملزم لصاحبه.(7/179)
في الآية الأولى تقرير تذكيري بأن الله قد أخذ ميثاقا من الأنبياء بما آتاهم من كتاب وحكمة على أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء من بعدهم مؤيدا لما معهم من الكتاب وأن ينصروه وأنهم قد أشهدوا على أنفسهم بتنفيذ عهده ووصيته. وفي الآية الثانية إنذار لمن يخالف هذا العهد والوصية وتنديد به. فإنه لا يفعل ذلك إلّا فاسق غادر متمرّد على الله.
والمتبادر أن جملة وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أسلوبية لتوكيد العهد الذي أخذه على النبيين والذي اعترفوا به وأقروه. والله أعلم.
تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... إلخ والآية التالية لها
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة هاتين الآيتين.
ويتبادر لنا أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد بينت هذه السابقات ما يمكن أن يصدر من أنبياء الله مما يتسق مع إخلاصهم لله فجاءت الآيتان تستطردان إلى ذكر العهد الذي أخذه الله عليهم بتصديق السابق منهم اللاحق حينما يراه متطابقا مع ما جاءوا به ونصره. والمتبادر أن العهد المأخوذ يتضمن بأن يأمر السابق منهم أمته بتصديق ونصر من يأتي بعده من الأنبياء ما داموا مصدقين لما جاءوا به متطابقين معهم في الأسس والأهداف. وبهذا الشرح المتسق مع روح الآيتين ومضمونهما تكون الآيتان قد انطوتا على معنى تدعيمي لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حجة ملزمة لأهل الكتاب على صدقها ووجوب تصديقها. ولقد قال المفسرون- فيما قالوه عزوا إلى علماء التابعين- إن العهد المأخوذ هو في صدد رسالة النبي محمد خاصة. ومع أن ذلك داخل في عهد تصديق كل نبي وأمته المؤمنة به بتصديق ونصر كل نبي يأتي من بعده فإن لهذا القول وجاهة في مقامه بالنسبة للموقف الجدلي القائم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب.(7/180)
وأسلوب الفقرة الأولى من الآية الأولى قد يلهم أن العهد الذي أخذه الله على الأنبياء هو عهد مستمد من طبيعة رسالتهم التي هي مستمرة لجميع الأجيال في كل مكان حيث اقتضت حكمة الله أن يتوالى أنبياؤه برسالاته وتعليماته وتشريعاته للناس إلى أن وصل العهد إلى محمد الذي اصطفاه ليكون خاتم النبيين ورشح رسالته لتكون دين الإنسانية جمعاء في كل زمن ومكان وضمنها من الأسس والمبادئ والتلقينات والمرونة والحلول ما يتسق مع هذا وذاك.
وقد يتمحل اليهود والنصارى فيقولون إن التوراة والإنجيل لا يحتويان إشارة إلى هذا العهد. وردا عليهم نقول إن ما في أيديهم ليس توراة موسى ولا إنجيل عيسى كتابي الله المنزلين عليهما. وإنما هي أسفار وأناجيل كتبوها بعد موسى وعيسى عليهما السلام على ما شرحناه في سياق كلمتي (التوراة والإنجيل) في سورة الأعراف. وفي آية الأعراف [157] صراحة أنهم يجدون صفة النبي فيهما على ما مرّ شرحه في تفسير هذه الآية. وفي سورة الصف هذه الآية: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [6] وآيات القرآن كانت تتلى على ملأ من اليهود والنصارى ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. ولقد آمن فريق من النصارى واليهود الذين استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأهوائهم برسالة النبي والقرآن وقرروا أنه متطابق لما عرفوه من الحق ولما وعدهم الله به على ما ذكرته آيات عديدة أوردناها في سياق آية الأعراف. ولا بد من أنهم رأوا التطابق بين ما جاء في القرآن والرسالة المحمدية وبين ما كان في أيديهم من توراة وإنجيل صحيحين لم يصلا إلينا. ويكون كل من لم يؤمن برسالة النبي قد تحققت فيه صفة الفاسقين التي قررتها الآية الثانية. ومن الجدير بالتنبه أن الأحاديث النبوية التي تذكر مجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان والتي أوردناها في تفسير سورة غافر وعلقنا عليها قد ذكرت أن عيسى سيكون آنئذ على دين الإسلام فلم يعد للنصارى ما يحتجون به فيها. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو يعلى عن جابر قال: «قال(7/181)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا. وإنكم إمّا أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذّبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلّا أن يتبعني وفي رواية لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلّا اتباعي» . والحديث وإن لم يرد في كتب الصحاح فإنه متطابق مع تلقين الآيات مما يجعله محتمل الصحة.
ومع كل ذلك ففي الأسفار والأناجيل المتداولة اليوم دلائل عديدة تشير إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على ما ألمحنا إليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف.
ووجهة نظر الإسلام في صدد اليهود والنصارى بعد البعثة المحمدية وعدم نجاة أحد منهم عند الله إذا لم يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مشروحة شرحا وافيا أيضا في سياق تفسيرنا للآية [62] من سورة البقرة والآية [55] من سورة آل عمران فليرجع إليه.
هذا، ويتبادر لنا أن في الآيات تلقينا مستمر المدى بحيث يكون كل من أمر بما يخالف كتاب الله وسنّة رسوله الثابتة من أعمال وعقائد ومواقف داخلا في ما تضمنته من وصف وذمّ وإنذار. ويصدق هذا في الدرجة الأولى على من ينتسب إلى العلم الديني ولقد ذكر ابن كثير شيئا من هذا تعقيبا على الآيات. والله تعالى أعلم.
ولا يترك مفسرو الشيعة هذه الآيات حيث يقولون إن الله يؤذن فيها بأنه أخذ على النبيين العهد بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ونصرة علي عليه السلام رغم ما في هذا القول من مفارقة عجيبة «1» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 85]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) .
__________
(1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 70.(7/182)
عبارة الآيات واضحة وفيها استنكار لمن يبتغي غير دين الله وكل من في السموات والأرض مسلم له. وأمر للنبي بإعلان إيمانه بالله وأنبيائه وجميع ما أنزل عليهم دون تفريق. وإسلامه مع اتباعه لله. وتقرير الخسران لكل من يبتغي دينا غير الإسلام في الآخرة وعدم قبول الله دينا غيره.
تعليق على الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في مناسبة اختصام أهل الكتاب إلى رسول الله بشأن دين إبراهيم وزعم كل فريق منهم أنه عليه فقال النبي إن كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. والرواية عجيبة بعد ما ورد في آيات سابقة من هذه السورة ما ورد من مواقف الحجاج والجحود بين أهل الكتاب والنبي وبخاصة في صدد ملّة إبراهيم.
وليست واردة في الصحاح بل ولم يروها الطبري شيخ المفسرين وأقدمهم.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومنسجمة معها ومعقبة عليها تأييدا وتوكيدا. فبعد أن ذكرت الآيات السابقة صفات أهل الكتاب وتحريفاتهم لكتاب الله وتأويلاتهم السيئة وعدم وفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم جاءت هذه الآيات تندد بهم وتأمر النبي بإعلان عقيدته في جميع أنبياء الله وكتبه وإسلامه له وتقرر بأن هذا هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله غيره ويكون متبع غيره خاسرا.
__________
(1) انظر تفسيرها في الخازن والطبرسي. [.....](7/183)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
والإعلان والتقرير اللذان احتوتهما الآيات قويان رائعان ونافذان إلى الأعماق بحيث لا يمكن إلا أن يتأثر بهما من كان ذا عقل سليم وقلب طاهر ونية حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى لا يجمد أمامهما ويكابر إلّا مريض القلب خبيث الطوية. والآيات تلهم أن موقف النبي هو موقف المستعلي الفائز الذي هزم خصمه بعد أن ألزمه الحجة.
والآية الثانية قد ورد مثلها في سورة البقرة في سياق الحجاج مع اليهود.
وذلك في الآية [136] بفروق يسيرة. قد لا يتبين للمرء حكمتها فيجب إيكالها إلى علم الله. ويلحظ أن آية البقرة بدأت بكلمة قُولُوا خطابا للمسلمين وآية آل عمران بدأت بكلمة قُلْ خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر. ولعل في هذا شيئا من تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وقد شرحنا مداها في سورة البقرة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً منها أن المسلمين يكونون قد أسلموا طوعا وأن الكافرين سيعرفون الحقيقة حينما يرون مصداق نذر الله فيسلمون كرها ولا يكون إسلامهم نافعا لهم. ومنها أنها بمعنى أن جميع من في السموات والأرض خاضع له مسخر لأمره داخل في نطاق قدرته وحكمه النافذ دون أن يتوقف ذلك على رضائهم وكرههم. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد يكون القول الثاني هو الأكثر وجاهة. وشيء من نوعها ورد في بعض آيات مكية «1» ، والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 91]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) .
__________
(1) آيات سورة الرعد [15] والإسراء [44] وفصلت [11] .(7/184)
(1) ولو: قيل إن الواو زائدة أو مقحمة ونحن نجلّ كتاب الله عن ذلك.
وقيل إنها واو عطف. وإن المعطوف محذوف وتقديره (ومثله) وهذا هو الأوجه.
وفي الآية [47] من سورة غافر آية مثلها وفيها هذا المقدار بلفظه.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به. وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلّا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح. وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [91]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن(7/185)
الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصّر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [89] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلّا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية. لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حقّ اليهود ثانيا حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزاءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [72] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستبعد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامراتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.(7/186)
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [219] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [90] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت «1» . وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) .
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.(7/187)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية «1» .
[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
. (1) البرّ: هنا بمعنى رضاء الله ورحمته على ما هو المتبادر. وقد جاءت في هذا المعنى في آية سورة البقرة [177] ولقد أوّلها بعضهم بالجنة ولكن المعنى الأول هو الأوجه.
تعليق على الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ (1) حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... إلخ
عبارة الآية واضحة، والخطاب فيها موجه على ما يتبادر إلى المسلمين، ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزولها. وتبدو الصلة منقطعة بينها وبين ما سبقها وما لحقها.
ولقد رويت رواية في صدد الآية التالية لها تفيد أن إسرائيل نذر تحريم أحبّ المطعومات إليه تقرّبا إلى الله. وبين مفهوم هذا النذر ومفهوم الآية شيء من الاتصال كما هو المتبادر ولا ندري إذا كان هذا يسوغ القول- إذا صحت الرواية- أن هذه الآية تمهيد للمشهد الذي احتوته الآيات التالية لها وأنها متصلة بها. ومثل هذه التمهيدات من أساليب النظم القرآني مما مرّت منه أمثلة عديدة. بل نحن نرجح ذلك لأن الآية بدون هذا الغرض تبدو كما قلنا منقطعة عن السياق السابق واللاحق الذي هو في حق اليهود بدون حكمة مفهومة. والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر آية سورة يونس [54] والزمر [47] .(7/188)
والآية في حد ذاتها جملة تامة محكمة. ولذلك أفردناها لحدتها. وقد احتوت تعليما في آداب الصدقات موجها إلى السامعين الذين هم المسلمون أو الذين منهم المسلمون. وقد جاء هذا الأدب بأسلوب آخر في آية سورة البقرة [267] وهو وجوب التصدق من طيب ما في حيازة المتصدق وطيب كسبه وكراهيته التصدق بالرديء غير المحبب إلى صاحبه. وأسلوب الآية هنا قوي يجعل هذا الشرط واجبا. وهو أقوى من أسلوب آية البقرة وفيه توكيد للتلقين الجليل الذي نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا الشرط يتناول الزكاة ونوافل الصدقات معا. وإطلاق الآية يلهم ذلك. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة التي تأمر بالإحسان في جميع الأعمال أيضا.
وهناك أحاديث تذكر ما كان من تأثر بعض أصحاب رسول الله بهذه الآية.
من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس قال: «كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة نخلا. وكان أحبّ أمواله إليه (بيرحا) وكانت مستقبلة المسجد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. فلما نزلت الآية قال يا رسول الله إنّ الله يقول لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبون. وإنّ أحبّ أموالي إليّ (بيرحا) وإنها لصدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال: بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه وبني عمّه» «1» .
ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قطّ هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبّست أصلها وتصدّقت بها فتصدّق بها على أن لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا تورث ولا توهب. وتصدّق بها عمر في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. وعلى أن لا
__________
(1) التاج، ج 4 ص 71، والمتبادر أن أقاربه كانوا فقراء.(7/189)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متموّل» «1» .
ومنها حديث رواه ابن كثير في سياق الآية عن ابن عمر قال: «حضرتني هذه الآية فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحبّ إليّ من جارية لي رومية. فقلت هي حرّة لوجه الله. فلو أنّي أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها» .
والفقهاء يعتبرون حديث ابن عمر عن أرض خيبر لعمر مستندا لإجازة الوقف في الإسلام. وظاهر أن ما يعنيه هو الوقف الخيري البحت. والاستناد في محله على هذا الوجه وفي العمل أسوة حسنة للقادرين من المسلمين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
. (1) حلّا: مصدر بمعنى مباح أو حلال.
(2) إسرائيل: جمهور المفسرين على أنه اسم ثان ليعقوب، وقد ورد في الإصحاح (32) من سفر التكوين أن الله سمّى يعقوب بإسرائيل وقال له لا يكون اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل.
في هذه الآيات:
1- تقرير بأن كل المطعومات كانت مباحة لبني إسرائيل قبل نزول التوراة باستثناء ما حرّمه يعقوب على نفسه من نفسه.
2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّي اليهود بتلاوة نصوص التوراة إن كانوا صادقين في دعوى عكس ذلك.
__________
(1) التاج، ج 2 ص 222- 223.(7/190)
3- وتنديد بمن يفتري على الله الكذب بعد ظهور الحق ووصفه بالباغي الظالم.
4- وأمر آخر للنبي بإعلان صدق الله فيما يوحي به والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما ولم يكن مشركا.
تعليق على الآية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
ولقد روى المفسرون روايات عديدة «1» في مناسبة نزول هذه الآيات. منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة تختلف الروايات فيها ووعدوه باتباعه إذا أجابهم عليها بما يعرفون أنه الحق ومن ذلك أحبّ الطعام إلى جدهم إسرائيل فأجابهم على أسئلتهم أجوبة شهدوا أنها الحق إلّا جوابه على أحبّ الطعام لإسرائيل حيث قال لهم إنه لحوم الإبل أو لحومها وألبانها. أو عرق النسا منها وأنه حرمها على نفسه بنفسه وتقربا لله ووفاء بنذر نذره بأن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه من مرض ألمّ به، فشفاه فأنكروا ذلك وادعوا أن لحوم الإبل أو عرق النسا كانت محرمة في ملة إبراهيم فسار يعقوب على ذلك وحرمت على ذريته بالتبعية فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم. ومنها أنهم احتجوا على تحليل النبي لحوم الإبل وهي محرمة في التوراة وادعوا أن ذلك التحريم سابقا للتوراة وأنه من ملة إبراهيم في حين أنه يزعم أنه على هذه الملة فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم وتقرر أنه لم يكن شيء من الطعام محرما دينيا على بني إسرائيل قبل التوراة. وأن ما حرمه إسرائيل إنما حرمه بنفسه ودون أمر رباني سابق ولم ترد أيّة من الروايتين في الصحاح غير أن كلا منهما متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر «2» .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2) هناك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس وأورده مؤلف التاج في فصل التفسير وفي سياق تفسير الآية الأولى جاء فيه: (أقبلت يهود إلى النبي فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها) . التاج ج 4 ص 72. وليس في الحديث ما يؤيد الروايتين. وهو حديث يبدو حدثا مستقلا دون موقف جدلي.(7/191)
والآيات تلهم والروايات تفيد أن هذا كان مشهدا جدليا بين النبي واليهود.
وقد تحدّتهم الآيات بإثبات دعواهم من نصوص التوراة بأسلوب يلهم أنهم عجزوا أو راوغوا، وأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد كان موقف الملزم المستعلي حيث نسبت الآيات إليهم افتراء الكذب على الله في ما ادعوا ثم عقبت الآية الثالثة وبأسلوب المنتصر في الحجة مقررة صدق الله وداعية إلى اتباع ملة إبراهيم الحقيقية التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ورد في الإصحاح (32) من سفر التكوين أن بني إسرائيل لا يأكلون عرق النسا الذي مع (حقّ الورك) في سياق خيالي مفاده أن الله تعالى وتنزّه تمثل ليعقوب رجلا فتصارع معه فلم يقدر الرجل على يعقوب حتى طلع الفجر فقال له أطلقني فقال يعقوب لا أطلقك حتى تباركني فباركه وقال له لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. ولمس الرجل حقّ ورك يعقوب فصار يظلع فصار بنو إسرائيل لا يأكلون عرق النسا لأن الله لمس حق ورك يعقوب على عرق النسا.
وسفر التكوين كان مما يتداوله اليهود على ما شرحناه في تعليقنا على التوراة. في سورة الأعراف. ويمكن أن يكون اليهود استندوا إلى ما جاء في السفر وزعموا أن عرق النسا محرم عليهم في التوراة التي هي غير سفر التكوين فتحداهم بتلاوتها. ومع ذلك فعبارة سفر التكوين ليس فيها تحريم رباني حتى ولا تحريم يعقوب لعرق النسا فيكون احتجاجهم في غير محله أيضا وتكون الحجة القرآنية مستحكمة عليهم على كل حال.
هذا، وهناك حديث في فصل التفسير من كتاب التاج وفي سياق الآيات رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال: «جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة(7/192)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
قد زينا فقال لهم كيف تفعلون في من زنى منكم؟ قال: نحممهما ونضربهما فقال لا تجدون في التوراة الرجم فقالوا لا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فلما أتوا بها وضع مدراسها الذي يقرأ لهم كفّه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن مكانها وقال ما هذه قالوا هي آية الرجم فأمر النبيّ بهما فرجما قريبا من المسجد فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها من الحجارة» .
وظاهر من النص أن الجملة القرآنية فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها تليت في هذه المناسبة تلاوة. ولا يذكر الحديث أنها نزلت في الحادثة. وتظل الروايات السابقة هي الواردة على نحو ما شرحناه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
. عبارة الآيتين واضحة. وفيها تنويه بفضل الكعبة وتقرير بأنها أول بيت قام لعبادة الله وهو مبارك وهدى للعالمين وفيه علامات واضحة تدل على مقام إبراهيم. ومن دخله كان آمنا. وقد فرض الله زيارته وحجّه على كل فرد من الناس استطاع إلى ذلك سبيلا تقرّبا لله وعبادة له. ومن يكفر بذلك فليس بضار الله الذي هو غني عن العالمين وعبادتهم.
تعليق على الآية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ... إلخ والآية التالية لها
وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في مناسبة محاجّة قامت بين النبي واليهود أو بين المسلمين واليهود، ادّعى اليهود فيها فضل معبدهم في بيت الجزء السابع من التفسير الحديث 13(7/193)
المقدس وفضل استقباله دون الكعبة. وقالوا إن إبراهيم كان يعظم بيت المقدس ويتجه إليه في عبادته فتابعه أبناؤه وذريته وأن النبي لو كان حقا على ملته كما يقول لتابعه ولم يخالفه. ورووا في سبب نزول جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) أن النبي لما نزلت آية الحج جمع أهل الأديان كلّها وقال يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمن بذلك ملّة وهم المسلمون وكفرت الملل الأخرى والروايات لم ترد في الصحاح. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية الثانية نزلت مجزّأة مع أن سبكها لا يفيد ذلك وهي منسجمة كل الانسجام.
وباستثناء ذلك يتبادر لنا أن الرواية الأولى واردة. وقد احتوت الآيتان تكذيبا لليهود وتقريرا بنقل الكعبة وسبق قيامها لعبادة الله وصلتها بإبراهيم عليه السلام بدليل العلامات الظاهرة المعروفة بمقام إبراهيم عندها. وكون الله قد فرض حجها على من استطاع من الناس بناء على ذلك. أما جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضتها كإعلان مسبق لكفر مفروض بذلك من اليهود. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن الآيتين متصلتان بالمشهد الذي تضمنته الآيات السابقة وأن مسألة المفاضلة بين الكعبة وبيت المقدس قد أثيرت فيه. ولقد انتهت الآيات السابقة بإعلان صدق ما حرّره الله والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم فاحتوت الآيتان ما احتوتاه لتوكيد سير النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم دون اليهود. ولعل اليهود قالوا فيما قالوه إن الكعبة لم تذكر في التوراة ولو كان لإبراهيم صلة بها وكانت هي الأفضل لذكرت فأريد أن يقال لهم إن التوراة لا تذكر أشياء كثيرة مما كان قبل نزولها، وضرب لهم مثل بمحرمات الأطعمة التي ذكرتها التوراة مع أن كل طعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزولها. وإن ذلك لم يذكر في التوراة. فراوغوا فتحدتهم الآيات بتلاوة التوراة وإثبات عكس ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم إن فرض الحج في الآية الثانية كان في السنة التاسعة «1»
__________
(1) جاء هذا في مقال للشيخ محمد الشرقاوي المدرّس بمعهد الإسكندرية الأزهري في مجلة الوعي الإسلامي عدد ذو القعدة (1385) دون أن يذكر سندا.(7/194)
وسياق الآيات وما روي في نزولها يؤيد أن ما ذكرناه في سياق تفسير فصل الحج في سورة البقرة من أن الحج قد فرض على المسلمين في وقت مبكر من العهد المدني. فالسياق يدل بصراحة على أن اليهود كانوا ذا وجود قوي في المدينة حينما نزلت الآيات. في حين أنهم لم يعد لهم وجود في السنة التاسعة. هذا فضلا عن الدليل الآخر المنطوي في جملة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ في الآية [196] من سورة البقرة على ما شرحنا الأمر في سياقها. والله أعلم.
ولقد ذكر مقام إبراهيم في آية البقرة [125] والتي احتوت أمرا باتخاذه مصلى والتي ذكر فيها أن الله قد جعل البيت مثابة وأمنا. وبين هذا وما جاء في الآيتين تشابه. ولقد خمّنا أن سلسلة آيات البقرة [104- 152] قد تضمنت فيما تضمنته مواقف حجاج وجدل في صدد الكعبة وبيت المقدس حينما تحول النبي في صلاته نحو الكعبة بدلا من سمت بيت المقدس. وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الآيات التي نحن في صددها قد تدل على أن هذا الجدل قد ثار ثانية بين النبي واليهود فاقتضت حكمة التنزيل الوحي بها لوضع الأمر في نصابه الحق للمرة الثانية. ولقد قررت الآية [144] من سلسلة البقرة المذكورة أن اليهود يعرفون حقيقة أفضلية الكعبة والاتجاه إليها فجاءت الآيات لتؤكد ذلك بأسلوب مفحم وحاسم آخر. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات والتأويلات التي يرويها المفسرون في صدد أولية البيت المذكور في الآية الأولى. وقد أوردنا هذه الروايات وأوردنا معها حديثا رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذرّ في سياق تفسير سورة قريش التي ورد فيها كلمةْبَيْتِ
لأول مرة، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه فليرجع القارئ إلى ذلك التعليق.
ولقد تعددت تخريجات المفسرين والمؤولين لكلمة (بكة) منها أنها اسم آخر(7/195)
لمكة وأن العرب يعاقبون بين الباء والميم ومن ذلك ضربة لازم وضربة لازب.
ومنها البك يعني الازدحام وأن مكة سميت بكة وصفا لأنها تزدحم بالناس بالطواف والحج. ومنها أن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت ومكة اسم لما عداه. ومنها أنها من التباكي لكثرة ما يكون فيها من ابتهال وبكاء. وليس شيء من ذلك في الصحاح. والمتبادر من روح الجملة أنها اسم آخر لمكة والله أعلم.
ومع ما للآيات من خصوصية جدلية وزمنية فإن جملة وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا اتخذت سندا تشريعيا قرآنيا لفريضة الحج في الإسلام لأنها أقوى في هذا المعنى مما جاء في آيات الحج في سورتي البقرة والحج. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات الحج في سورة البقرة ما روي في مدى الاستطاعة الواردة في الجملة من أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في جملة ما أوردناه من ذلك في سائر تقاليد الحج ومناسكه وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي هنا بالتنبيه على ذلك.
ومع أن جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) هي على ما ذكرناه كإعلان مسبق باستغناء الله عن الذين يكفرون أو يمارون بما تقرره الآيات فإن بعض المؤولين قالوا إنها في صدد تقرير كفر المسلم الذي ينكر فرض الحج. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي داود قال: «تلا رسول الله الآية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول الله من تركه كفر؟ فقال: من تركه لا يخاف عقوبة ومن حجّ ولا يرجو ثوابه فهو كذلك» . والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. والمتبادر أن من يكون هذا موقفه من الحج فإنه يكون منكرا أو كالمنكر لفرضه. وعلى كل حال فكفر من ينكر فرض الحج ولا يعتقد أن في تركه عقوبة وفي القيام به أجرا بديهي بقطع النظر عن قصور الآية تقرير ذلك أو عدمه والله أعلم.
استطراد إلى شمول أمن البيت
مع أن جملة وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً في الآية الثانية تنطوي على تقرير ما كان(7/196)
يمنحه البيت من أمن لمن دخله أو كان فيه بصورة عامة وكون ذلك متصلا بتقاليد ما قبل الإسلام فامتد إلى الإسلام على ما ذكرناه في تعليقنا في سورة قريش فإن هناك اختلافا بين المؤولين والفقهاء في صدد تطبيقه على من يرتكب جريمة في الإسلام تستوجب إقامة الحدّ الشرعي حيث قال بعضهم إن من لجأ إلى بيت الله وقد ارتكب مثل تلك الجريمة يكون آمنا. وروي عن ابن عباس وغيره رواية تفيد عدم تنفيذ القصاص عليه فيه وانتظاره إلى أن يخرج منه. وقد أخذ بهذا الإمامان أبو حنيفة وابن حنبل على ما ذكره المفسر القاسمي الذي ذكر أيضا أن الإمامين الشافعي ومالك يذهبان إلى جواز تنفيذ القصاص وقال إن أصحاب هذا الرأي يستدلون على ذلك بحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه» . وكان من أشدّ أعداء رسول الله ومؤذيه.
ثم بحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحيّة والعقرب والغراب الأبقع والطارد والكلب العقور» .
وقالوا إن علة تحليل قتل هذه الفواسق هو ضررها وإن هذا يقاس عليه الفاسق من الناس. وقد أورد القاسمي حديثا عن النبي لم يذكر راويه جاء فيه: «إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة» «1» كدليل نبوي آخر. ويظهر أن الحديث لم يصح عند أصحاب القول الأول لأنه لو صحّ لكان فيه القول الفصل.
ومع ذلك، فالذي يتبادر لنا أن حكمة الله في منح الأمان لمن دخل الحرم وحكمة رسوله في الأحاديث المتساوقة مع القرآن والتي أوردناها في تعليقنا في سورة قريش تبدو واضحة أكثر إذا أوّلت بأنها منع عدوان أحد على دم أحد وماله في الحرم بحيث يكون من دخله آمنا عليهما. وأن مذهب الإمامين الشافعي ومالك هو الأوجه لأن فيه منعا لإساءة استعمال هذه المنحة الربانية من قبل المجرمين.
والله تعالى أعلم.
__________
(1) فسّر المفسر كلمة (بخربة) بسرقة يستحق عليها الحدّ الشرعي وهو قطع اليد.(7/197)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 103]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
. (1) شهداء: قيل إنها بمعنى وأنتم شهداء على أنها حق، وقيل إنها بمعنى وأنتم عقلاء غير غافلين.
(2) يعتصم: العصم بمعنى المنع لغة. ومنه (لا عاصم من أمر الله) والاعتصام بمعنى الامتناع والكلمة هنا بمعنى الامتناع بالله.
(3) شفا: بمعنى حافة وطرف.
في الآيات:
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها.
2- وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته.
3- وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون.
4- وخطاب موجّه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان فإذا(7/198)
سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم.
5- وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم.
6- وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم.
7- وخطاب آخر موجّه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشدّ الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه. والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق. ويذكّرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألّف بين قلوبهم فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها. ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى.
تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) والآيات الأربع التالية لها
جمهور المفسرين «1» على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا. وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظلّ الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما وأخذ بعضهم يذكّرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها فلم تلبث نخوة
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير.(7/199)
الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما. وأتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكّرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولا حقة فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطّد الأخوة بينهم في ظل الإسلام.
والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها قوية الاحتمال لأنها متسقة مع فحوى الآيات. وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطّده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين.
والروايات متفقة على أن الآية [103] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام. وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك. ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [84 و 85] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها. أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنّة نبيهم. أم في وجوب الحرص على(7/200)
الأخوة الدينية التي جمعت بينهم والتي من شأنها أن تجعلهم كتلة قوية. أم في التحذير من الاستماع لدسائس الأغيار الذين يريدون لهم الضرر والضعف والفرقة والتخاذل.
هذا، وفي كتب التفسير تأويلات لمدى بعض هذه الآيات نوردها ونعلّق عليها كما يلي:
1- ففي صدد جملة اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ روى الطبري بطرق مختلفة عن ابن مسعود وغيره أن معناها: «أن يطاع الله فلا يعصى. وأن يشكر فلا يكفر. وأن يذكر فلا ينسى» . وعن ابن عباس أن معناها: «جاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم» . وقال ابن كثير إن الرواية الأولى مروية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها الحاكم في مستدركه مرفوعا وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكلا التأويلين وجيه.
وقد روى الطبري عن قتادة أن الآية منسوخة بآية سورة التغابن [16] التي فيها جملة فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ كتيسير وتخفيف من الله. وروى ابن عباس أنها غير منسوخة. ويتبادر لنا أن الجملة وردت في مقام يوجب التشديد في التحذير فتكون في كل مقام مثله محكمة. أما كون الله إنما يطلب من المسلمين أن يتقوه ما استطاعوا فيمكن أن يقال بدون القول بنسخ الأولى بالثانية إن ذلك من المبادئ القرآنية التي تكرر تقريرها ومن السنّة النبوية التي تعددت الأحاديث الصحيحة فيها على ما ذكرناه وأوردناه في تعليقنا على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها في الآية [42] من سورة الأعراف فليرجع إليه.
2- وفي مدى معنى بِحَبْلِ اللَّهِ روى الطبري أقوالا منها أن الجملة بمعنى الجماعة أو التوحيد. أو الإخلاص لله أو القرآن. وقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» . ولقد أوردنا في سياق الآية [9] من سورة الإسراء حديثا رواه الترمذي فيه ما جاء في حديث أبي سعيد. وعلى كل حال فالقرآن حقا هو(7/201)
حبل الله الذي يجب أن يعتصم به المسلمون والذي يعصم من تمسّك به منهم لأن فيه جماع أسباب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته.
3- وفي صدد جملة وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن جابر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ» . وهناك صيغ أخرى أوردها ابن كثير في الحثّ على إحسان الظنّ بالله وكون الله عند ظنّ عبده به»
. وليس في الأحاديث ما يفيد أنها تأويل للجملة القرآنية التي يتبادر لنا أنها أوسع شمولا مما تضمنته الأحاديث حيث توجب على المسلمين أن يظلوا مسلمين أنفسهم إلى الله عزّ وجلّ مخلصين له وحده في كل حال حتى الموت. والله أعلم.
4- ويروي الطبري عن أهل التأويل أن المقصود من جملة وَلا تَفَرَّقُوا هو نهي المسلمين عن الفرقة والاختلاف فيما بينهم والحثّ على الإلفة والجماعة وهو الوجيه السديد. وقد أورد في سياقها حديثا عن أنس عن رسول الله جاء فيه: «إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإنّ أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلّهم في النّار إلّا واحدة فقيل يا رسول الله ما هي؟ فقبض يده وقال الجماعة.
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» . وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة هذه الصيغة: «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» «2» . وقد يصح أن يساق في هذا المقام حديث رواه الخمسة عن عبد الله جاء فيه: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» . حيث ينطوي فيه بيان عظم جريمة الافتراق عن الجماعة. وهناك أحاديث صحيحة أخرى يصح أن تساق في هذا
__________
(1) منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي» ، التاج ج 5 ص 65.
(2) التاج، ج 1 ص 39 و 40.(7/202)
السياق منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية» «1» .
وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية. ومن قتل تحت راية عمّيّة يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس من أمّتي. ومن خرج من أمّتي على أمتي يضرب برّها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس من أمتي» «2» .
والمتبادر أن المقصود من الجماعة هو جمهور المسلمين المخلصين في إيمانهم وإسلامهم القائمين بالحق والواجب. وأن المقصود من جملة (ما يكره) في الحديث السابق هو ما لا يلائم المرء لأن هناك أمورا قد لا تلائم المرء ولا تكون معصية. أما إذا أمر بمعصية أو كانت معصية محققة فلا طاعة ولا صبر. وهذا ما جاء في حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «3» . وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم «4» .
ولقد ورد في سورة الأنعام نهي عن التفرق عن سبل الله واتباع السبل الأخرى ونعي على الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [الآيات: 153 و 159] وعلقنا على ذلك وأوردنا بعض الأحاديث في سياقها. وهذه الأحاديث تفيد أن أهل البدع والأهواء بعض الأحاديث في سياقها ويلحظ فرق بين المقامين حيث إن آيات الأنعام تنهى في الدرجة الأولى عن التفرق في أمر الدين وأن الجملة التي نحن في صددها تنهى عن التفرق في الدرجة الأولى في أمر الدنيا. ومع ذلك فبينهما لقاء من حيث إن الإسلام يشمل شؤون الدين والدنيا معا. والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج، ج 3 ص 40.
(2) المصدر نفسه. [.....]
(3) المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه، ص 35- 45.(7/203)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 105]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)
. الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين. وقد أمرتهم الآية الأولى بأن يكون منهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وحيث نهتهم الثانية عن احتذاء سيرة الذين من قبلهم الذين اختلفوا وتفرقوا بعد أن جاءتهم آيات الله وبيناته ووضحت لهم طريق الحق والباطل والهدى والضلال فالذين يفعلون بما أمرت الآية الأولى هم الناجون المفلحون والذين يفعلون ما نهت عنه الثانية لهم عذاب الله العظيم.
تعليق على الآية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... إلخ والآية التالية لها
يروي الطبري أن هاتين الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة لها في المناسبة التي روتها الروايات. ولا مانع من صحة الرواية. وقد جاءتا معقبة على ما قبلها لبيان ما هو الأوجب على المسلمين والأولى بهم والأصلح والأنفع لهم ولبيان الخطر العظيم الذي ينتج عن تفرقهم واختلافهم.
ولقد احتوت الآيتان تلقينات ومبادئ جليلة شاملة لكل ظرف ومكان حيث توجب على المسلمين بأسلوب حاسم وفرضي أن يكون بينهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأن يحافظوا على الروابط الأخوية فيما بينهم فلا يتفرقوا كما تفرق من قبلهم وأن يستمسكوا بهدي دينهم الواضح فلا يختلفوا فيه كما اختلف من قبلهم.
والواجبات الثلاث التي احتوتها الآية الأولى مطلقة وعامة المدى لتكون كما(7/204)
هو المتبادر متسقة مع جميع الظروف والأمكنة والأدوار والأطوار. وهي (الدعوة) إلى كل ما فيه برّ وعدل وحقّ وإحسان ونفع وتعاون وهذا ما تشمله كلمة الخير.
(والأمر) بكل ما عرف أن فيه صلاح المجتمع وقوامه وحياته وصلاح الأفراد وقوامهم وحياتهم. (والنهي) عن كل ما عرف أن فيه فساد المجتمع وضرره وفساد الأفراد وضررهم.
وواضح أن هذه الواجبات أو المبادئ من أجلّ المبادئ والواجبات التي من شأنها حفظ كيان المجتمع الذي يسير عليها قويا سعيدا صالحا متعاونا على البرّ والتقوى والفضيلة ومكارم الأخلاق خاليا من الشرّ والبغي والظلم والإثم والفواحش. والمبادئ والواجبات المنطوية فيها واسعة المدى تتناول عشرات المواضيع الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والإصلاحية سلفا وإيجابا. وتكون الآيات بذلك منبع قوة لا ينضب للنشاط في شتّى وجوه الإصلاح والاجتماع والأخلاق والتكافل.
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المبادئ والواجبات لا ترد في القرآن هنا لأول مرة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرا لأول مرة في آية سورة الأعراف [157] كبيان لمحتوى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفة من صفاته ثم ذكر كصفات من صفات المؤمنين في آية سورة الحج [40] .
والأمر بفعل الخير والتنويه بفاعليه والتنديد بمانعيه ورد في سور عديدة منها سور (القلم) و (ق) و (الحج) .
والنهي عن التفرقة جاء في الآيات التي سبقت هذه الآيات وفي آيات سورة الأنعام [153 و 159] .
ولقد شرحنا مدى الموضوع الأول وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث وأقوال وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق آية سورة الأعراف كما شرحنا مدى الموضوع التالي وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق تفسير سور(7/205)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
القلم وق والحج، وشرحنا مدى الموضوع الثالث وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق الآيات التي سبقت هذه الآيات وآيات سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه ليرجع إلى ذلك.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 109]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
. في الآيات:
1- تذكير بيوم القيامة الذي تبيضّ فيه وجوه أناس وتسودّ وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها.
2- وتقرير ضمني بأن الذين تسودّ وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم وبأن الذين تبيضّ وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون حيث يقرّع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم ذوقوا العذاب على كفركم وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها.
3- وتنبيه وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق. وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور.
تعليق على الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات.
والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ(7/206)
عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعد ما جاءته البيّنات واضحة.
وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر. وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في من عنتهم جملة أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ منها أنهم المنافقون والكتابيون. أو الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحاربهم أبو بكر. أو الخوارج الذين حاربهم علي. أو أهل الفتن والبدع والأهواء. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيضّ وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسودّ وجوههم أهل البدع والفرقة.
والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين. وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين. ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا لأن حالتهم معلومة.
والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا، كما جاء في آيات النساء [88 و 89 و 145 و 146] والتوبة [56 و 68 و 73] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنّة والجماعة مثلا.
ومهما يكن من أمر، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذّ عنها بصورة عامة. ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنّة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف.(7/207)
ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا فرطكم على الحوض. من مرّ عليّ شرب. ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم منّي فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» «1» .
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال: «إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة» «2» . ولفظ أبي داود لهذا الحديث «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة.
قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه. هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله وما سيماهم؟ قال:
التحليق» «3» .
وحديث عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا. ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا. يبيع دينه بعرض الدنيا» «4» .
ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلّا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسلام الصحيح
__________
(1) التاج، ج 5 ص 344.
(2) فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج 5 ص 386- 387.
(3) فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج 5 ص 386- 387.
(4) شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. انظر التاج ج 5 ص 379.(7/208)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
. في هذه الآيات:
1- خطاب تبشيري موجّه إلى المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم بالله وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- وإشارة تنديدية إلى أهل الكتاب. فلو أنهم آمنوا برسالة النبي لكان خيرا لهم ولتمتعوا بتلك المزية التي جعلها الله للمؤمنين. ولكن لم يؤمن منهم إلّا القليل وأما الأكثر فهم فاسقون.
3- وخطاب تطميني موجّه إلى المسلمين: فليس أهل الكتاب ممن يخشى لهم بأس أو يخاف من ضرر أكيد منهم فضررهم قاصر على الأذى بالدسّ والكيد واللسان. ولو حدثتهم نفوسهم بقتال المسلمين لما ثبتوا في الميدان ولولوا الأدبار ولما كتب لهم أي نصر. فقد لزمتهم المسكنة في كل ظرف ومكان باستثناء بعض الظروف التي يتمسكون فيها بحبل الله ويتعاملون فيها مع الناس بالحق ويرعون معهم العهود. وقد لزمهم غضب الله وسخطه. لأنهم اتخذوا الكفر بآيات الله وقتل أنبيائه بغير حق وعصيان أوامره والوقوف موقف المعتدي ديدنا.
الجزة السابع التفسير الحديث 14(7/209)
تعليق على الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون روايتين في سبب نزول الآيات. واحدة تذكر أنها نزلت في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام وغيره. وثانية تذكر أنها نزلت في مناسبة فخر اليهود بتفضيل الله إياهم على العالمين. ومع ذلك فقد رووا عن أهل التأويل قولين في المقصود من أهل الكتاب. أحدهما أنهم اليهود خاصة وثانيهما أنهم اليهود والنصارى معا.
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. وروح الآيات ومضمونها وتطابق الصفات الواردة فيها مع الصفات الواردة في اليهود صراحة في آيات أخرى وبخاصة في آية سورة البقرة [61] تجعل القول بأن الآيات في اليهود هو الأوجه.
مع التنبيه على أننا لسنا نرى في الآيات ما يمكن أن يؤيد احتمال صحة رواية نزولها في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم ونرى الرواية التي تذكر أنها في مناسبة فخر اليهود بأنهم أفضل العالمين محتملة الصحة أكثر بل قوية احتمال الصحة. ومن المحتمل أن يكونوا قد دعموا فخرهم أمام المسلمين بما ورد في القرآن من ذلك في آيات عديدة مثل آيات البقرة [47 و 122] والدخان [32] والجاثية [16 و 17] فضلا عما كانوا يستندون إليه في ذلك من نصوص أسفارهم فاقتضت حكمة التنزيل بالإيحاء بالآيات لتقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية التي تقرر وحدانية الله بدون أي شائبة وربوبيته الشاملة صاروا هم الأولى بوصف كونهم خير أمة أخرجت للناس لأنهم صاروا بالهدى الذي اهتدوا به دون غيرهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيمانا صادقا وخالصا.
على أن مما تلهمه الآيات أيضا بالإضافة إلى ذلك أن اليهود كانوا يتبجحون بقدرتهم على القتال وإمكانهم أن يعلبوا المسلمين وأن بعض المسلمين كانوا يحسبون لهم حسابا من هذه الناحية. وهذا مما روي عنهم وأوردناه في سياق(7/210)
تفسير آيات الأنفال [55- 58] وآيات آل عمران [12- 13] ومما تضمنت الإشارة إليه آية سورة الحشر هذه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [2] . فاحتوت الآيات ما احتوته من تكذيب لليهود في ذلك وتطمين للمسلمين على النحو الذي شرحناه. وقد انطوى فيها إشارة إلى ما كان من واقع أمرهم في معظم أدوارهم التاريخية من ذلّ ومسكنة وشتات مما هو مؤيد بقوة وبمقياس واسع بتاريخهم الذي فصّلته أسفارهم وعزته إلى انحرافاتهم الدينية والأخلاقية وأيّدته الكتب والروايات القديمة «1» .
والآيات كما يبدو من هذا البيان متصلة بمشهد حجاجي بين المسلمين واليهود أو بالسياق السابق وحلقة من سلسلته كما يبدو من خلالها وصف ما كان عليه اليهود في مختلف أنحاء الأرض في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من جبن وذلّة ومسكنة.
لقد قال بعض المفسرين «2» إن المقصود من تعبير مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ هم الذين آمنوا من النصارى ومنهم النجاشي كما قال بعضهم «3» إنهم هم الذين آمنوا من اليهود. والذي نرجحه هو القول الثاني لأن الآيات والسلسلة السابقة لها هي في حق اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل
__________
(1) انظر أسفار القضاة وصموئيل والملوك وأخبار الأيام ونبوءة أشعيا ونبوءة أرميا ومراثي أرميا وحزقيال وباروك وميخا وصفنيا وعوبيديا وملاخي واستير وعزرا ونحميا والمكابيين وتاريخ يوسيفوس اليهودي من رجال القرن الأول الميلادي وتاريخ العبرانيين للمطران الدبس. وقد استوعبنا ذلك في كتابنا (تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم) .
(2) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
(3) انظر المصدر نفسه.(7/211)
على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه.
ومعظم ما جاء في الآية [112] ورد في الآية [61] من سورة البقرة، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد اختلف المؤولون في مدى الاستثناء في جملة إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فقال بعضهم: إنه متصل وقال بعضهم إنه منفصل. والفرق هو أنه في الحالة الأولى لا يكون عليهم ذلّة بسبب اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وتعاملهم معهم بالحق. أما في الحالة الثانية فتكون الذلّة مضروبة عليهم على كل حال بسبب الجرائم الخطيرة التي اقترفوها. وقد أخذنا في شرحنا للآيات بالرأي الأول حيث يتبادر لنا أنه الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآية ونظمها والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال المروية في مدى تعبير كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ منها أن كُنْتُمْ زائدة أو تامة ويكون المعنى (أنتم) أو (صرتم) أو (وجدتم) ومنها أن المقصودين هم خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المهاجرين منهم بنوع خاص. أو هم (ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل) وليس شيء من ذلك في الصحاح. والخطاب عام وموجه من حيث الواقع المباشر إلى السامعين من المؤمنين. وهم مهاجرون وأنصار. وهذا ما جعلنا نشرح العبارة القرآنية بما شرحناه من كونها قصدت تقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية صاروا دون غيرهم أولى الناس بوصف أنهم خير أمة أخرجت للناس.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآية قد خاطبت ظرفيا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين وصفتهم آيات عديدة «1» بعظيم
__________
(1) انظر آيات سور المعارج [22- 35] والذاريات [16- 19] والشورى [36- 43] وفاطر [29- 34] والفرقان [63- 76] والمؤمنون [1- 11 و 57- 61] والرعد [20- 24] والحشر [8- 10] والأحزاب [22] وآل عمران [169- 174 و 195] والتوبة [71- 72 و 88 و 89 و 100] .(7/212)
صفات الإخلاص والاستغراق في دين الله ونصرته وبذل كل مال ونفس وجهد في سبيله فكانوا فعلا متحققين بالصفة التي وصفتهم بها الآية.
على أن هذا لا يمنع القول إن إطلاق الخطاب للسامعين يمكن أن يكون شاملا لكل مؤمن في كل وقت ومكان، وهو المتفق عليه عند المؤولين والمفسرين في كل خطاب مماثل ليس فيه دليل تخصيصي على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة والمماثلة. وهذا ما قاله المفسرون والمؤولون في صدد هذه الآية بالذات، مع التنبيه على أمر مهم وهو أن يكون المسلم الذي يستحق هذا الخطاب مخلصا في إيمانه قائما بواجباته التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فبهذا فقط يكون من مشمول فقرة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الناس في دعة فقرأ في خطبة له في حجة حجها الآية ثم قال من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.
وعلى ضوء ما تقدم يصح أن يقال إن الآية قد جعلت الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات متلازمة وأوجب على المسلمين التحقق بها ورشحهم في حال هذا التحقق بكونهم خير أمة أخرجت للناس يحملون لهم مشاعل الهداية ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ويقيمون المجتمع الإنساني الفاضل الذي يسوده العدل والإحسان والبرّ والتعاون والتضامن والحرية ويتحرر المرء فيه من الظلم والطغيان والإثم والفواحش. وإنه لواجب عظيم مشرّف. وقد كان المسلمون حينما قاموا به في صدد الإسلام خير أمة أخرجت للناس حقا.
والمسلمون مرشحون لأن يكونوا كذلك في كل ظرف تحققت فيه فيهم تلك الصفات وقاموا بما توجبه عليه من واجبات.
وقد يصح أن يقال إن العرب المسلمين كانوا أول المخاطبين بذلك وإن لهم فيه النصيب الأكبر. فقد اختار الله خاتم أنبيائه الذي رشح رسالته لتكون دين العالم(7/213)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
أجمع منهم. وأنزل كتابه المجيد الذي صار كتاب جميع المسلمين المقدس في كل أقطار الدنيا بلغتهم. وجعل مهبط وحيه في قلب جزيرتهم ومهدهم قبلة يتجه إليها جميع مسلمي الأرض في صلواتهم اليومية العديدة ومحجّا يحجون إليه سنويا من جميع أقطار الأرض أبد الدهر وجعلهم وسطا ليكونوا شهداء على الناس كما جاء في آيتي سورتي البقرة والحج [143 و 78] ولا يمكن إلّا أن يكون ذلك لحكمة اختصاصية للعرب والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا رواه بطرقه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله» . وروى الحديث الترمذي بسند حسن بفرق يسير في بدئه وهو:
«تتمون سبعين أمة ... » «1» . والكلام النبوي موجه للعرب لأول مرة فيكون فيه تدعيم لما قلناه مساق في سياق الآية والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
. (1) لن يكفروه: لن يجحد لهم عملهم وسيقابلون عليه بما يستحق.
من المؤولين من اعتبر جملة لَيْسُوا سَواءً مستقلة عن ما بعدها.
واعتبروا الجملة التالية لها كلاما مستأنفا مستقلا عنها. ومنهم من اعتبر هذه الجملة متصلة بالجملة التالية لها. وأصحاب القول الأول أوّلوا الجملة بأنها في صدد تقرير كون المسلمين وأهل الكتاب الموصوفين بالآيات السابقة لا يصح أن يكونوا
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 73، والحديث في تفسير الآية ووارد في فصل التفسير في كتاب التاج.(7/214)
سواء. ثم استؤنف الكلام لتقرير كون من أهل الكتاب من هو صالح يتّصف بما جاء في الآيات من صفات. ولو أن ما يفعله هذا الفريق لن يجحد من الله تعالى الذي هو العليم بالمتقين. وأصحاب القول الثاني أوّلوا الآيتين بأنهما في صدد الاستدراك لتقرير كون أهل الكتاب ليسوا سواء. فإذا كان منهم الفاسق المعتدي الذي وصف في الآيات السابقة ضمن الصالح المتقي المؤمن بآيات الله والمتعبّد لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمسارع في الخيرات.
ويتبادر لنا أن القول الثاني هذا هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات ومقامها ومع السياق السابق واللاحق. والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون كسبب لنزول الآيات أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة آخرون من يهود قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد إلّا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله الآيات. كما رووا أنها في وصف حالة أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والروايات لم ترد في الصحاح، ويتبادر لنا أن الآيات استمرار في السياق وتعقيب عليه. فقد جاء في الآيات السابقة أن أهل الكتاب وإن كان أكثرهم فاسقين فإن منهم مؤمنين أيضا ثم أخذت تحمل على الفاسقين وتهوّن من شأنهم فجاءت الآيات تستدرك وتستثني من الحملة الفئة المؤمنة وتذكر مظاهر إيمانهم وإخلاصهم وعملهم الصالح. ونظم الآيات ومضمونها يلهمان هذا بقوة حين الإمعان فيها.
وهذا لا ينفي أن تكون الآيات قد قصدت الذين آمنوا بالرسالة المحمدية من أهل الكتاب الذين ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية خبر إيمانهم على ما ذكرناه في(7/215)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
مناسبات سابقة. مع القول إننا نرجح أن تكون الآيات في صدد وصف مؤمني اليهود بخاصة لأن الآيات للاستثناء والاستدراك. والسياق في صدد اليهود والله تعالى أعلم.
وبعض المبشرين يزعمون أن الآيات في وصف رهبان النصارى في حالة احتفاظهم بنصرانيتهم. وبقطع النظر رجحنا بأنها في صدد اليهود فإن وصف الإيمان بعد البعثة المحمدية لا يكون إلّا لمن آمن بالرسالة المحمدية. وقد وصف القرآن الكافرين بهذه الرسالة من أهل الكتاب بالكفار على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة. ولا يصح أن يعارض القرآن نفسه فيصف بعضهم بالإيمان وهم جاحدون للرسالة المحمدية. وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الآيات في صدد فريق من أهل الكتاب قد آمنوا بهذه الرسالة مع ترجيحنا أنهم من اليهود والله تعالى أعلم.
والوصف الذي احتوته الآيات عظيم الروعة. يدل على أن الذين آمنوا من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية قد فعلوا ذلك بإخلاص وتجرّد شديدين نتيجة لاقتناعهم بصدق الرسالة المحمدية وما جاءت به من مبادئ وتعاليم ثم استغرقوا في عبادة الله تعالى والتقرّب إليه بصالح الأعمال والأخلاق في ظلّ الدين الجديد الذي اعتنقوه وتأثروا بمبادئه وتعاليمه. وفي القرآن المكي والمدني صور مقاربة «1» حيث يصح القول إن هذا كان عاما في من استطاع أن يتغلب على عناده ومكابرته وهواه ومآربه من أهل الكتاب. وقد استمر هذا يتكرر وبمقياس واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى اليوم وإلى الأبد.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) .
__________
(1) اقرأ مثلا آيات القصص [51- 53] والإسراء [107 و 108] والرعد [36] وآل عمران [199] والنساء [161] والمائدة [82- 84] .(7/216)
(1) ريح فيها صرّ: قيل إنها ريح باردة جدا. وقيل إنها ريح السموم الحارة وقيل إنها الريح المزمجرة. وعلى كل فالقصد هو الريح التي تهبّ على الزرع فتتلفه بشدّة لفحها بردا أو سموما أو عاصفة مزمجرة.
في الآيتين: تقرير ينطوي على التهوين والتقريع والإنذار بأن الكفار لن يجديهم كثرة أموالهم وأولادهم نفعا عند الله. فهم أصحاب النار المقضى عليهم بالخلود فيها، وإن ما ينفقونه في الحياة الدنيا لن يكون عليهم إلّا بلاء وإنه كالريح التي فيها صرّ تتلف الزرع الذي تصيبه. وليس في هذا ظلم من الله سبحانه. وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم فاستحقوه.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في نزول الآيات وإنما قالوا «1» - ومنهم من عزا القول إلى ابن عباس وغيره- إن المقصود من جملة الَّذِينَ كَفَرُوا هم أبو جهل وأبو سفيان اللذان كانا يتفاخران بكثرة أموالهما وقدرتهما على الإنفاق لقهر المسلمين، كما قالوا أيضا إن المقصود هم اليهود الذين كانوا ينفقون الأموال في مناوأة ومعاداة رسول الله ورسالته.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق أيضا وأنهما تعنيان كفار اليهود بعد استثناء المؤمنين منهم، وتلهمان أنهم كانوا يتفاخرون بكثرة أموالهم كما كانوا يتفاخرون بقدرتهم على القتال. وأن المسلمين كانوا يحسبون لهذه الأموال حسابا لأنها تمكنهم من الإنفاق والاستعداد للحرب والقتال فجاءتا لتهوّنا من شأن هذه الأموال كما هونت الآيات السابقة من شأن قدرتهم على القتال ولتطمئنا المسلمين من هذه الناحية أيضا.
__________
(1) انظر تفسير الخازن.(7/217)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
والعبارة في الآيتين مطلقة حيث يكون فيهما بالإضافة إلى خصوصيتهما الزمنية تلقين تبشيري وتطمين للمسلمين في كل ظرف مع واجب التنبيه على أن على المسلمين أن يكونوا مسلمين حقا إيمانا وجهادا وعملا واستقامة واستعدادا حتى يحقق الله وعده وتصدق لهم البشرى.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
. (1) بطانة: أخصاء يطلعون على باطن أموركم.
(2) من دونكم: من غيركم.
(3) لا يألونكم: لا يقصرون فيكم.
(4) خبالا: فسادا أو تشويشا.
(5) ودّوا ما عنتم: تمنوا أن يصيبكم العنت والمشقة.
في هذه الآيات:
1- خطاب موجه للمسلمين ينهون به عن اتخاذ أخصّاء وأولياء لهم من غيرهم يطلعون على أسرارهم وبواطن أمورهم.
2- وتعليل لهذا النهي: فإنّ هؤلاء لا يقصرون في أي عمل يسبب لهم الفتنة والفساد والتشويش. ويتمنون لهم كل عنت ومشقة. وقد ظهرت علامات البغض والكراهية لهم على ألسنتهم وما تخفيه صدورهم من ذلك أشد. وفي حين أنّ(7/218)
المسلمين يحبونهم ويودون لهم الخير ويؤمنون بكل ما أنزل الله، ومن ذلك ما أنزله من الكتب السابقة فإنهم لا يقابلون حبهم بحبّ ولا رغبة الخير لهم بمثلها ولا يؤمنون بما أنزل الله جميعه. وإذا لقوهم تظاهروا بالإيمان كذبا ورياء. وإذا خلوا إلى بعضهم عضوا أناملهم من شدّة غيظهم وحقدهم عليهم، وإذا نالهم خير استاءوا وإذا أصابتهم مصيبة فرحوا.
3- تطمين للمسلمين فإنهم إذا صبروا وثبتوا في مواقفهم وراقبوا الله واتقوه لن يضرهم كيدهم وأذاهم وبأن الله محيط بكل ما يعملون ومحبطه.
وقد تخللت الآيات فقرات تعقيبية جريا على الأسلوب القرآني: فالله يبين للمسلمين الآيات ويوضح لهم الحقائق حتى يعقلوها ويسترشدوا بها. وليميت هؤلاء الأغيار بغيظهم الذي يأكل قلوبهم. والله عليم بخفايا صدورهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يواصلون اليهود ويصادقونهم ويخالطونهم بحجة الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، كما رووا «2» أنها نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يفعلون ذلك مع المنافقين بحجة القربى والوشائج الرحمية والقبلية. والروايات لم ترد في الصحاح، ولكن فحوى الآيات يتحمل أيا من الروايتين كما أن الواقع في المدينة في ظرف نزولها يتحمل أيا منهما أيضا. غير أن جملة وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وجملة وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ المماثلة بعض المماثلة للآية [76] من سلسلة آيات البقرة الواردة في حق اليهود قرائن تسوغ
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن. [.....]
(2) المصدر نفسه.(7/219)
ترجيح كونها في حق اليهود أكثر. والمتبادر أن جملة مِنْ دُونِكُمْ تنطبق كذلك على اليهود أكثر لأن المنافقين عرب من جنس المخاطبين أولا وكانوا يتظاهرون بالإسلام ويؤدون فرائضه حتى إنهم كانوا يشتركون في الحركات الحربية بقطع النظر عن مواقفهم المربية. وقد رجح الطبري ذلك. وإذا صحّ الترجيح تكون الآيات قد احتوت صورة قوية لشدة ما كان يضمره اليهود من العداء والحقد والغيظ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والحركة الإسلامية. ونهيا قويا متناسبا مع ذلك ومستندا إلى الواقع المشاهد الملموس عن الاستمرار في موادتهم وموالاتهم من قبل المسلمين واختلاطهم بهم. وهذه الصورة مؤيدة بآية سورة المائدة هذه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [82] .
والآية تدل على أن الآيات الكثيرة الواردة قبلها في سورة آل عمران وسورتي الأنفال والبقرة والتي فيها بيان مواقف اليهود الكيدية والعدائية والتشكيكية نحو المسلمين لم تؤثر في فريق من المسلمين الذين يرجح أنهم المنافقون الظاهرون والمستترون حيث ظلوا يواصلونهم بالمودة ويختلطون بهم.
بل لقد ظلّ هذا مستمرا طيلة وجود اليهود في المدينة أي إلى السنة الهجرية السادسة على ما تدل عليه آيات عديدة وردت في سور أخرى بعد هذه السورة على ما سوف يأتي.
ومع الخصوصية الزمنية للنهي والتحذير اللذين احتوتهما الآيات فإن إطلاق الأمر وإطلاق الخطاب يجعل تلقينها شاملا لكل زمان ومكان. وظاهر من التعليلات والأوصاف الواردة أن النهي والتحذير هما بالنسبة إلى الجماعات غير الإسلامية التي تقف من المسلمين مواقف الكيد والعداء والحقد والكراهية ومظاهرة الأعداء وأنهما لا يشملان من يكون موادّا مسالما كافّا يده ولسانه عن المسلمين من غير المسلمين على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ(7/220)
كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المسلمين» . وعقب ابن كثير على هذا بقوله إن الآية مع هذا الأثر دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم. وفي كتاب تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي بعض أخبار مماثلة أو مقاربة لما رواه ابن أبي حاتم.
ونقول تعليقا على ذلك: إن التعليلات التي احتوتها الآيات قوية الدلالة على أن النهي هو عن الذين عرفوا بعدائهم ومكرهم وكيدهم وقصدهم السوء بكل موقف ووسيلة للمسلمين. أو على الأقل الذين يغلب الظن على أنهم كذلك. أما من كانوا أو من غلب الظن على أنهم كانوا غير ذلك فلا نرى في الآية دليلا على عدم جواز انتفاع المسلمين بخبراتهم المتنوعة بالإضافة إلى حسن التعايش معهم.
وإذا صح ما روي عن عمر للظرف الذي كان الذميون فيه مظنة ريب وخيانة وغدر فليس من شأنه أن يكون قاعدة عامة مستمرة إلّا في نطاق ذلك. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة بكلام طويل انتهى فيه إلى النتيجة التي قررناها آنفا. والله تعالى أعلم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل جديد طويل في صدد وقعة أحد. وبذلك ينتهي الشطر الأول من السورة الذي كان في صدد أهل الكتاب من نصارى ويهود. والذي نستلهمه من فحوى الآيات أن ما يتصل بمناظرة وفد نجران منه ينتهي بالآية [68] وليس فيه عنف وقسوة لأن الوفد قد جاء مستطلعا مناظرا ثم توادع مع النبي ورجع إلى بلاده على ما شرحناه قبل. وأن الآية [69] وما بعدها إلى آخر الآية [120] هي في صدد اليهود ومواقفهم الكيدية والتشكيكية والعدائية ولذلك تميزت عن الآيات السابقة لها بالعنف في التنديد والاستنكار والتحذير. وهكذا تكون سورة آل عمران كسورة البقرة قد احتوت سلسلة طويلة في حقّ اليهود اقتصرت على ذكر هذه المواقف دون استطراد إلى ربط حاضرهم بغابرهم إلّا لماما. والسلسلتان تدلان على ما كان لليهود من أثر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما كان من نشاطهم الشديد في مناوأة النبي والمسلمين والإسلام، فاقتضت حكمة التنزيل أن تأتيا بالأسلوب(7/221)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
القوي العنيف الذي جاءتا به ليكون متناسبا مع ذلك من جهة، ولفضحهم وإضعاف أثرهم من جهة أخرى.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
. (1) غدوت: خرجت باكرا في الصباح.
(2) من أهلك: من بيتك.
(3) تبوّىء: تعدّ أو تهيىء.
(4) أن تفشلا: أن تضعفا وتنخذلا.
(5) مسوّمين: معلّمين أي بعلامة.
(6) ليقطع طرفا: ليستأصل فريقا.
(7) يكبتهم: يكبّهم على وجوههم خزيا وخيبة.
في هذه الآيات:
1- تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيىء للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا(7/222)
سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
2- وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا فيه أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
3- وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
4- وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
5- واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال.
وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
6- وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار: فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.(7/223)
تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) وما بعدها لغاية الآية [129] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [179] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروى في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة «1» أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصّن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها
__________
(1) انظر ابن هشام ج 3 ص 3- 159، وطبقات ابن سعد ج 3 ص 78- 91. وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.(7/224)
والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلّا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادىء الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدّة حربه ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم إنه لا يصح لنبي لبس عدّة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا: أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: «فينا نزلت إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما. قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما» «1» .
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال.
وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم
__________
(1) التاج، ج 4 ص 73.
الجزء السابع من التفسير الحديث 15(7/225)
انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك وأنّ النبيّ كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو قوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه» «1» .
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأجبنا إيرادها.
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 374، روى الحديث الخمسة.(7/226)
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [124- 125] أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم «1» . منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [123] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شقّ على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. ومن هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيّد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمّت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الواعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا في الآية [125] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم. لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرّة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشّرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [124] ذلك ثم
__________
(1) انظر الطبري وابن كثير والخازن.(7/227)
أعقبتها الآية [125] بشرى ربانية مباشرة فيها تأييد للبشرى النبوية مع زيادة بالعدد إذا كرّ عليهم العدو أو لقوه. وإذا صحّ هذا كما نرجو تكون الآيتان وما فيهما من بشرى الله ورسوله بالمدد عائد إلى يوم أحد والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون «1» أن الآية [128] نزلت لتنبيه النبي حينما قال وقد شجّ رأسه: «كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم» أو حينما كان يختص باللعن بعض قوّاد الحملة مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية والحرث بن هشام. أو حينما دعا على مضر بسبب عداء قريش وتعذيبهم للمسلمين المستضعفين الذين لم يستطيعوا الإفلات والهجرة أو حينما دعا على قبائل لحيان ورعل وذكوان وعصية بسبب عدوانهم على جماعة من المسلمين واغتيالهم إياهم غدرا. وباستثناء الرواية الأولى فإن شيئا من الروايات الأخرى لم يرد في الصحاح. والرواية الأولى جاءت في حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس قال: «إنّ رسول الله كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية» «2» .
والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها. والروايات الأخرى تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها وفي غير مناسبة أحد. والذي يتبادر لنا أن فيها وفي الآية التي تلتها تعقيبا على الآية [127] وأن جملة لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أسلوبية أو استدراكية. وأنها انطوت على تنبيه من الله تعالى موجه إلى النبي بأنه وإن كان يبشّر المؤمنين بالمدد والنصر ليقطع طرفا من الكفار أو يكبتهم ويذلهم ويردهم خائبين فإنه يظل يحتفظ بالأمر لنفسه وأن الأمر أمره وحده فقد يتوب عليهم وقد يعذبهم. وإذا عذّبهم فإنه يعذّبهم لأنهم ظالمون مستحقون للعذاب.
ولا ننفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ما جاء في الحديث. وخبر نزول الآية في هذه
__________
(1) انظر الطبري وغيره، والطبري أكثرهم استيعابا للروايات التي رويت في صيغ مختلفة وعديدة.
(2) انظر التاج ج 4 ص 374.(7/228)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
المناسبة من كلام الراوي لا من كلام النبي. ومن الجائز أن يكون الراوي ظنّ خطأ أنها نزلت في ذلك أو عنته. والله تعالى أعلم.
ولقد روى الطبري أن الآية [127] في قتلى المشركين يوم بدر. كما روى أنها في قتلاهم يوم أحد. والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أنها من قبيل التخمين والاجتهاد. ونرجو أن يكون في شرحنا المتقدم الصواب والله تعالى أعلم.
وينطوي في الآية [128] على ضوء شرحنا الذي نرجو أن يكون صوابا تلقين مستمر المدى بعدم قطع الأمل في ارعواء بعض الناس إذا وقفوا أحيانا بعض المواقف المنحرفة أو العدائية وأن باب التوبة الذي تظل الآيات تفتحه لجميع الناس من كفار ومنافقين ومجرمين ومحاربين لله ورسوله إلخ يظل مفتوحا إلى الموت على ما شرحناه في سياق تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج. ولقد آمن غير واحد ممن عاد إلى رسول الله وحاربه وقاد الحملات ضده فتاب عليهم فكان في ذلك مصداق للتنبيه القرآني الرباني.
ويلحظ أن الآية [126] قد استدركت ما استدركته آية الأنفال [10] من كون مدّ الله المسلمين بالملائكة وإخبارهم بذلك إنما هو لتطمين قلوبهم وكون النصر في الحقيقة هو من الله. والمتبادر أن حكمة التنزيل شاءت توكيد ما انطوى في آية الأنفال من تلقين على ما نوّهنا به في سياق تفسيرها.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
.(7/229)
(1) الكاظمين الغيظ: أصل الكظم ملء الوعاء وسده. والمقصد من الجملة أن يمسك المرء على ما في صدره من غيظ ويصبر عليه ولا يظهر أثره.
(2) فاحشة: روى الطبري عن السدي أن الكلمة هنا بمعنى الزنا وفي القرآن آيات وردت فيها الكلمة بهذا المعنى حقا. منها آيات النساء [15 و 25] غير أن فحوى الآية وخطورة جريمة الزنا التي عليها حدّ شرعي ولا تذهب بالاستغفار يجعل تأويلها هنا بالزنا في غير محله ويجعل تأويلها الأوجه هو الفعل القبيح العادي. وهذا ما رجحه الطبري أيضا.
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
1- نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
2- وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
3- وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما ويذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصرّوا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحبّ الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وما بعدها إلى آخر الآية [136]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلّا الآية [135] حيث(7/230)
رووا روايتين في ذلك «1» . ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها في البيت ما هو أجود فلما خلا بها في بيته ضمّها وقبّلها فقالت له اتق الله فتركها ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفّروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمّر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عيّنه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [275- 281] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات
__________
(1) انظر تفسير الطبري والطبرسي.(7/231)
البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ...
[39] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلّا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة أَضْعافاً مُضاعَفَةً جاء فيه: «أنّ الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له تقضي أو تزيد فإذا لم يستطع القضاء أجّل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنتين» مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [134 و 135] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البرّ ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرّون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبرّ والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [280 و 281] شيئا من ذلك.
وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل(7/232)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 142]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
. (1) ولا تهنوا: بمعنى ولا تضعفوا أو لا تروا في أنفسكم ذلة أو مهانة.
(2) قرح: بمعنى الأذى والسوء. قيل إنها هنا بمعنى ما أصاب المسلمين في أحد من جروح وقتل.
(3) وليعلم الله، ولما يعلم الله: المتبادر أنهما تعبيران أسلوبيان بمعنى ليظهر الله.
(4) وليمحص: ولينقي. أو ليختبر.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى المؤمنين وهي:
1- مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
2- وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنّة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك(7/233)
كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
3- ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميّز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلّى عنهم. فإن الله لا يحبّ البغاة الظالمين ولا بدّ له من محق الكافرين والكذبين وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [142] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [139- 140] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرّة على المسلمين على ما ذكرناه قبل كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية(7/234)
النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد «1» أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس و 3000 بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة 700 وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدّد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتّب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم- أبعدوهم- عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتهبون هذا المعسكر.
ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا برمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل- وكانا على خيالة قريش- خلو المرتفع من حماته الرماة فكرّا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش: إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان.
وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشجّ رأسه ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي
__________
(1) انظر ابن هشام ج 3 ص 3- 159، وطبقات ابن سعد ج 3 ص 78- 91، وانظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن وابن كثير.(7/235)
وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرّضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش 23 فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبيّ بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له سأقتلك، فقال له: بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال: «لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرينّ منّي ما أحبّ، فجاهد يوم أحد فلما انهزم الناس قال اللهمّ إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون وأبرأ إليك مما جاء به المشركون ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم» . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فلما رهقه المشركون قال من يردّهم وله الجنّة أو هو رفيقي في الجنّة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر(7/236)
رسول الله وكان رسول الله والمسلمون يعودونه وكان عليّ يقول الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدّبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثم هتف: أفي القوم ابن الخطاب؟
فلما لم يسمع جوابا قال لقومه أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال كذبت يا عدوّ الله إنهم لأحياء كلّهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف (يوم بيوم بدر) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز (اعل هبل. اعل هبل) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي (الله أعلى وأجلّ) وهتف (لنا العزّى ولا عزّى لكم) فأجابوه (الله مولانا ولا مولى لكم) .
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا «1» .
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش
__________
(1) انظر التاج، ج 4 ص 77 و 372- 374.(7/237)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلّدوا وتماسكوا أمام عدوّهم القوي. وقد تجلّت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذين يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 143 الى 148]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
. (1) ربّيون: قيل إنها من ربا يربو بمعنى كثر وأن الكلمة بمعنى جموع كثيرة وقيل إنها نسبة إلى الربّ ومعناها عباد الله المخلصون أو أتباع رسل الله المخلصون.
(2) وما استكانوا: وما ذلّوا وتخاذلوا واستسلموا للمسكنة.
(3) وإسرافنا: ما أوغلنا فيه من الأخطاء.
وفي هذه الآيات وجّه الخطاب أيضا إلى المسلمين:
1- مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال ولا قى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجىء لهم.(7/238)
2- ومنبهة بأن محمدا ليس إلّا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرّض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حلّ فيه ما هو طبيعي ومعرض له وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضرّ الله هذا شيئا وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلّا به وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
3- ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) والآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... وما بعدهما إلى الآية [148]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين(7/239)
كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدّة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمّت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر.
فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمنّاه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدبّ الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة.
والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيّها الناس لا تتمنّوا إلقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنّة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمّ منزّل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» .
ولقد أورد الخازن في سياق جملة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما الأعمال بالنّيات وإنما لكلّ امرئ ما(7/240)
نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نيّة كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلّا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [15] وآية سورة الإسراء [18] وآية سورة الشورى [20] .
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفرّ ولم أولّ الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحقّ عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إيّاه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا ما مات أو قتل ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم: من كان يعبد محمدا فإن محمدا الجزء السابع من التفسير الحديث 16(7/241)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت «1» . فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 154]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
. (1) إذ تحسّونهم: إذ تمعنون فيهم قتلا.
__________
(1) انظر ابن هشام ج 4 ص 334 و 335.(7/242)
(2) إذ تصعدون: قرئت بفتح التاء وضمها. ومعناها في الجملة الأولى من الصعود إلى الجبل. وفي الثانية من الإصعاد وهو الهبوط أو السير في مستوى الأرض وبطون الأودية. وهناك من قال إنها هنا أيضا بمعنى الصعود إلى الجبل.
والروايات تذكر أن النبي نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد. فإذا كان هذا المنزل كان بين المدينة وأحد فتكون الكلمة من الإصعاد وإذا كان من وراء الجبل فتكون من الصعود.
(3) يدعوكم في أخراكم: يناديكم من ورائكم وأنتم منهزمون.
(4) أثابكم غمّا بغمّ: قالوا إن فعل (أثاب) في أصله بمعنى جزى وكافأ.
وإنه يستعمل في الجزاء الحسن والسيء على السواء. وإن كان استعماله في الحسن أكثر. وهنا في معناه الأصلي. وقيل في الجملة إنها بمعنى أصابكم بغمّ مقابل الغمّ الذي أصاب عدوّكم يوم بدر فكانت واحدة بواحدة. وقيل إنها بمعنى أصابكم أو جازاكم بغمّ بعد غمّ وهو خبر قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم ما كان من قتل في المسلمين وهزيمتهم. وقيل إنها بمعنى جازاكم بغمّ القتل والهزيمة على ما سببتموه للنبي من غمّ بعصيان أمره والمعنى الأول للتهوين. ولعلّه يتسق أكثر مع الجملة التي أتت بعده هذه الجملة لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ والمعنى الثالث قوي الورود أيضا.
(5) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا: ثم سلّط عليكم بعد الغمّ الذي حلّ فيكم من الهزيمة نعاسا تشعرون معه بالأمن والسكينة.
(6) لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم: لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى المكان الذي قدر عليهم أن يموتوا فيه حينما يكون أجلهم قد أتى ولا يمنع ذلك أن يبقوا في بيوتهم.
(7) وليبتلي الله ما في صدوركم: ليختبر الله وليظهر ما في قلوبكم.
(8) وليمحص ما في قلوبكم: ليصفي ويطهّر ما في صدوركم.(7/243)
في الآيات خطاب موجه للمسلمين:
1- حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
2- وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان وبأنه أعدّ لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
3- ودلّل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها:
فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكّنهم من عدوهم وجعلهم يمعنون فيهم قتلا.
وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم فلم يكن ذلك إلّا بسبب تخاذلهم وقلّة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همّها الدنيا بينما كان همّ الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
4- وسكّن به مع ذلك روعهم. فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عزّ وجلّ. ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع. ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلّا الآمن المطمئن. وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
5- وندّد بفريق منهم أهمّتهم أنفسهم همّا عظيما ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر(7/244)
والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم ولما كانت الهزيمة التي حلّت بهم.
6- وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) وما بعدها لغاية الآية [154] وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روى المفسرون «1» أن الآية [149] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفّوا عن القتال. وأن الآية [151] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلّا الشريد ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي والخازن.(7/245)
أو بعض منافقي المدينة أو عزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألمّ بهم ما ألمّ من هزيمة ومصيبة فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا «1» . وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرّتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في سياق تفسير الآيات [137- 142] وهو ليس بقصد السرد القصصي وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقّق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أوّل المؤولون جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بمعنى أنهم ظنوا كظنّ المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر لأن النبي في قلّة والمشركين في كثرة. وهو في محلّه.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه:
«كنت ممن تغشّاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا. يسقط وآخذه.
ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلّا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحقّ» «2» . وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه
__________
(1) انظر تفسير الطبري للآية.
(2) . التاج ج 4 ص 75 و 76. [.....](7/246)
الترمذي جاء فيه: «رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلّا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» » .
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك. وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل. وقد أيدت هذا الآيات [167 و 168] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لا تبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [156- 159] التي تأتي بعد قليل أيضا. ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [149] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصحّ أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلوّ من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عزّ وجلّ.
ومع خصوصيتها الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف
__________
(1) التاج، ج 4 ص 75 و 76. والحجفة: محركة آلة من آلات الحرب.(7/247)
حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسمّ في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمدّ المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدر في مناسبة جملة قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر فنكتفي بهذا التنبيه مع القول إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [26] : إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حقّ وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [33] من سورة الأحزاب: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل (جهل) الذي هو في الغالب ضد (علم) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [89] من سورة يوسف: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ وآية الحجرات هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) . ومنها البيت المشهور:(7/248)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومنها حديث خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فيه أبا ذرّ في موقف غضب له: «إنّك امرؤ فيك جاهلية» «1» .
والراجح أن التعبير في المقام الذي نحن في صدده من هذا الباب. وأنه كان مستعملا قبل الإسلام في مثل هذه المقامات. وأما ما هو مشهور من إطلاقه على زمن ما قبل البعثة هو إطلاق قرآني بقصد وصف عدم ارتكاز تقاليد أهل ذلك الزمن على شرع وهدى ربانيين. إذ لا يعقل أن يكون أهل ذلك الزمن أطلقوه على أنفسهم. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
. (1) استزلّهم: أوقعهم في الزلّة والخطيئة.
في الآية تقرير بأن الذين انهزموا حينما التقى المسلمون والكفار إنما أوقعهم الشيطان في هذه الزلّة بسبب ما اقترفوه من الخطايا. وبشرى بأن الله قد عفا عنهم مع ذلك فإنه غفور للذنوب حليم متسامح مع عباده.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ (1) الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
يتبادر لنا أن المؤمنين الذين فروا من المعركة قد خافوا مغبة ذلك. ولا سيما
__________
(1) انظر مادة (جهل) في الجزء الأول من «أساس البلاغة» للزمخشري، وانظر الجزء الأول من كتاب «بلوغ الأرب» ص 15- 17.(7/249)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
أن آيات الأنفال [15- 16] قد نهتهم عن الفرار. وأنذرتهم إنذارا قاصما على ما شرحناه في سياقها. كما أن آية الأنفال [45] قد أمرتهم بالصبر والثبات. ولقد علم الله إخلاصهم وما أصابهم من خسائر في الأرواح وجروح في الأجساد وحزن وجزع فاقتضت حكمته أن يغفر لهم زلّتهم وأن يبشرهم بهذه البشرى تهدئة لروعهم وتضميدا لجراحهم وأن يكتفي بما وجهه إليهم في الآيات من عتاب وتأنيب وتحذير وتنبيه. وفي ذلك ما فيه من معالجة ربانية جليلة للموقف العصيب وتأميل في عفو الله وحلمه وغفرانه في كل موقف مماثل إذا لم تشبه شائبة من سوء نية وخبث طوية.
ولقد قال المفسرون في صدد جملة بِبَعْضِ ما كَسَبُوا إنها تعني عصيان رسول الله وحبّ الغنيمة وكراهية الموت. ولا يخلو هذا من وجاهة متصلة بظروف ما وقع يوم أحد.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
. (1) ضربوا في الأرض: خرجوا للسياحة أو التجارة.
(2) غزّى: جمع غاز.
وفي هذه الآيات:
1- تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا أو تاجرا فيموت أو يقتل: إنه لو لم يخرج لما مات أو قتل.(7/250)
2- وتقرير بأنه من وراء مثل هذه الأقوال إلّا الحسرة وليست هي من الحق والحقيقة والإيمان في شيء. فالمحيي والمميت هو الله. ولكلّ نفس أجل معين لا تتقدم ولا تتأخر عنه.
3- وتنبيه للمؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يعلموا بالإضافة إلى ما تقدم أن القتل والموت في سبيل الله ليسا مصيبة تستوجب الحسرة والجزع وأن فيهما من مغفرة الله ورحمته ما يفوق كل ما يجمعه الجامعون من حطام الدنيا وأيامها. وأن مصير الناس إلى الله في كل حال ولا معدى عن ذلك سواء أماتوا موتا طبيعيا أم ماتوا قتلا.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ... إلخ والآيتين التاليتين لها
والآيات كذلك استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا وهدفا، وجمهور المفسرين «1» يقولون ومنهم من يعزو القول إلى تابعين وتابعي تابعين أن المراد من جملة كَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون ومنهم من يخصّ بالذكر كبيرهم عبد الله بن أبي. وفي آية تأتي بعد قليل نسب مثل هذا القول إلى المنافقين صراحة حيث يكون صرف الكلام إلى المنافقين هنا في محلّه. وفحوى الآية الأولى يدلّ على أن هذا القول مما كان يصدر من المنافقين قبل وقعة أحد وكلّما مات أو قتل أحد من أقاربهم ومعارفهم في غزوة أو سفرة في سبيل الله وطاعته، إما على سبيل الشماتة أم على سبيل التعطيل والصدّ. ويدل كذلك على صحة ما قلناه قبل قليل من أن المتذمرين الذين حكت الآية [154] أقوالهم ومن جملتها لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
__________
(1) انظر الطبري والطبرسي والخازن والبغوي وابن كثير.(7/251)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا هم من المؤمنين المخلصين وقد وجّه الكلام في هذه الآيات إليهم على سبيل التأنيب والعظة ومعالجة الحالة الروحية التي ألمّت بهم نتيجة لآلام الوقعة ووسوسة المنافقين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فهي كسابقاتها مستمرة التلقين لكل مسلم في كل ظرف بوجوب عدم التشبه بالكفار والمنافقين والاندماج في دسائسهم والاستماع إلى وساوسهم المؤدية إلى الانحراف عن الإخلاص لله تعالى والجهاد والتضحية في سبيله. ومن شأنها أن تمدّ المؤمن المخلص بالصبر والرضا والتسليم لحكمة الله والجرأة والإقدام وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا ومتاعها.
[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
. (1) فبما رحمة: الجمهور على أن (ما) هنا زائدة وأن الجملة بمعنى فبرحمة من الله.
تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... إلخ وأمر الشورى في الإسلام
الآية متصلة بالسياق ومعقبة على ما جاء في الآيات السابقة كما هو المتبادر.
وعبارتها واضحة. وفيها وصف لموقف النبي صلى الله عليه وسلم مما بدا من بعض المخلصين من أقوال وتذمر ومرارة وحسرة. فقد وسعهم بحلمه الذي جبله الله عليه فكظم غيظه وعاملهم باللين والرقة. وقد احتوت تنويها بهذا الموقف الكريم وإقرارا له وبيانا لما كان يمكن أن ينتج في مثل هذا الظرف الذي ثارت فيه النفوس وغلت الأفكار(7/252)
وهاجت وغلبت عاطفة الحسرة والندم والتذمر لو كان فظا غليظ القلب حيث كان من الممكن أن ينفضوا من حوله. وأمرا بما هو أكثر من ذلك وهو العفو عنهم واستغفار الله لهم ومشاورتهم في الأمر.
وتتجلّى في الفقرة الأولى صورة رائعة للخلق النبوي الكريم من لين وعدم فظاظة وقسوة قلب مما كان متحليا به من قبل وكان من دون ريب من أسباب اصطفاء الله له للرسالة العظمى واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سورة الأنعام [124] والذي انطوى في التقرير التنويهي في جملة وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم [4] مما علّقنا عليه في سياق تفسير السورتين تعليقا يغني عن التكرار.
وينطوي في الآية علاج قوي محبب وشاف لثورة النفوس وهياج الأفكار وغلبة العواطف مما كان من آثار يوم أحد. ومما لا شك فيه أن هذا العلاج قد آتى نفعه فهدّأ النفوس والأفكار وطمأنها بالنسبة للموقف الحاضر والمواقف المستقبلة معا.
والآية كما قلنا قبل تنطوي على دلالة على أن المتذمرين الذين قالوا هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ولَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا على ما حكته الآية [154] كانوا من المخلصين وليسوا من المنافقين كما هو واضح من روحها ومضمونها وتلقينها.
ومع خصوصية الآية الموضوعية والزمنية فإن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى. فالذي يختار لرئاسة المسلمين وكل زعيم وحاكم فيهم يجب أن يكونوا متصفين باللين والرقة. بعيدين عن الجفاء والغلظة والقسوة. مدركين لمقتضيات المواقف. واسعي الصدر والحلم إزاء استفزاز المستفزين عن جهل أو خبث طوية ولا سيما في الظروف الحرجة والأزمات العصيبة. وعليهم فوق ذلك أن لا يستبدوا بالرأي والعزائم بل يشاوروا أهل العلم والرأي والمكانة والخبرة والعقول الراجحة قبل أن يضطلعوا بمسؤولية السير فيما يعتزمون أن يسيروا فيه. وأن لا يسيروا إلّا بعد نضوج الرأي وتبين أصحّ الوجوه وأصلحها وأكثرها اتساقا مع الظروف القائمة(7/253)
ومصلحة المسلمين العامة. وكل مخالفة أو إهمال لأي من ذلك هو مخالفة وإهمال للتلقين الذي انطوى في الآية.
وروح الآيات ومضمونها يحددان أولا واجب كل من الرئيس أو الزعيم أو الحاكم أو المستشار. فللمستشار أن يبدي رأيه، وللرئيس والزعيم والحاكم أن يضطلعوا بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ.
ويوجبان ثانيا على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة في كل أمر وعزيمة.
ويوجبان ثالثا التوسع في الاستشارة بحيث لا يهمل أي فريق من الجماعات التي يتألف منها المجتمع الإسلامي. ويلهمان رابعا إقرار حقّ الاعتراض لأصحاب الشأن والرأي والعلم إذا ما رأوا ما يوجب ذلك من خطط وعزائم. ويوجبان خامسا على أولياء الأمور توسيع صدورهم لذلك والنظر فيه بتروّ بقصد تبيّن الحق والمصلحة.
وفي كل هذا قواعد صريحة ورائعة للحكم في الإسلام كما هو واضح.
وجملة فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ تفيد أن الحكم في الإسلام يشبه ما يسمى اليوم بالنظام الرأسي الذي يكون فيه رئيس الدولة صاحب السلطة التنفيذية الذي يجب عليه أن يستشير أصحاب الشأن والعلم من مختلف الفئات ثم يضطلع بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ. ولقد تركت الآية أسلوب المشاورة بدون تعيين وتحديد. ويتبادر لنا من حكمة ذلك والله أعلم أن كون هذا الأمر مما لا يمكن تحديده لأن ظروف الاجتماع عرضة للتطور والتبديل فينبغي تركه للظروف والأحوال. وهذا هو أسلوب القرآن الذي جعل للشريعة الإسلامية صلاحية الخلود والإلهام في كل زمن ومكان.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن القرآن المكي قد نوّه بالشورى وجعلها من خصائص المسلمين الصالحين كما جاء في آية سورة الشورى هذه: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) فلما صار للإسلام سلطان نافذ في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أكّد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب(7/254)
والتنفيذ حين اقتضت حكمة التنزيل والمناسبة.
ولعل من الحق أن يقال إن تشريع إيجاب استشارة أهل الرأي والمكانة والعلم من مختلف الجماعات على الرؤساء والزعماء والحكام بالأسلوب الذي جاء به في القرآن من خصائص ما انفردت به الشريعة الإسلامية ومن جملة مرشحاتها للخلود والعموم.
ولقد قال المفسرون «1» عزوا إلى بعض التابعين وتابعي تابعين أن المشاورة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها هي فيما ليس فيه نصوص قرآنية ووحي رباني وفيما ليس له علاقة بالمبادىء الدينية والشرعية الأساسية. وهذا قول وجيه واجب التسليم به من دون ريب. وإذا صح هذا في حقّ النبي فإنه يكون من باب أولى بالنسبة لمن يخلفه في رئاسة المسلمين. وهذا متسق مع القاعدة العامة التي تقول (لا اجتهاد مع النصّ) . غير أنه يلاحظ أن كثيرا مما ورد في القرآن من تعاليم ومبادئ في شؤون السياسة والحكم والجهاد والمال والقضاء والاجتماع قد ورد على الأكثر كخطوط وأسس عامة. وقلّما جاء محدود الأشكال والجزئيات. وقد ترك أسلوب تنظيمها وتنفيذها على ما هو المتبادر إلى ظروف المسلمين وأحوالهم مما بينّا حكمته أكثر من مرة. فمن المعقول أن تكون هذه محلّا للتشاور والاجتهاد ضمن الخطوط والحدود الأساسية القرآنية. ونضيف إلى هذا أن ما ورد في تحديده وتنظيمه سنّة نبوية ثابتة وصريحة هو واجب الاتباع وليس محلّا للاجتهاد. وقد أمر الله المسلمين بأن يأخذوا ما آتاهم الرسول وينتهوا عمّا نهاهم في آية سورة الحشر [7] . كما أمرهم بإطاعة الرسول مثل إطاعتهم لله وردّ الأمر إليه وإلى سنّته بعد الله وقرآنه في آيات عديدة مثل: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ النساء [59] .
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن المقصود في جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أبو بكر وعمر. وهذا غريب مناقض لروح الآية وفحواها وسياقها وظروف
__________
(1) انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن.(7/255)
نزولها على ما شرحناه قبل، بل إن ذلك ينطوي على مشاورة الذين تذمروا وقالوا ما لا ينبغي أن يقال نتيجة لهيجان أفكارهم ومرارتهم وحسرتهم، وهذا يعني أن المشاورة يجب أن تكون مع ذوي الرأي والشأن والعلم والخبرة من مختلف طبقات الناس كما قلنا قبل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردوديه عن علي بن أبي طالب قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم» .
ولم يرد هذا الحديث في الصحاح. فإن صحّ ولا مانع من صحته فيكون الاتّباع لما يكون عليه رأي أكثرهم واختيار الأصلح من الآراء والأخذ به. وجواب رسول الله يفيد أن الأخذ بالرأي الذي يتفق عليه أكثر المستشارين أمر واجب. ويتبادر لنا أن هذا منطو في صيغة الآية والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسر المذكور حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنيم قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما» . والحديث لم يرد في الصحاح فإذا صحّ ولا مانع من صحته فيكون فيه تلقين بوجوب الأخذ بآراء المخلصين الموثوقين من ذوي العقل والرأي. وهناك أحاديث وردت في الصحاح يمكن أن تؤيد معنى الحديث. منها حديث رواه الترمذي عن عبد الله بن حنطب قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر» «1» . وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض. فأما وزيراي من أهل السماء فهما جبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «2» .
ولقد روى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت: «ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي هذا الحديث إن صحّ ولا مانع من صحته سير
__________
(1) التاج، ج 3 ص 316- 317.
(2) المصدر نفسه.(7/256)
رسول الله في الخطة التي أمر الله رسوله بها. ولقد كان رسول الله يستشير أصحابه في كل أمر هام وفي كل موقف عام مما كثرت أمثلته في كتب التفسير في مناسبات عديدة ومما كثرت أمثلته في روايات السيرة وأوردناه في مناسبات سابقة. ومن واجب المسلمين أن يكون لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة.
ولقد قال بعض المفسرين ورووا عن بعض أهل التأويل إن الله أمر رسوله بمشاورة المسلمين لتعليم المسلمين ورؤسائهم ليستنّوا بذلك وحسب لأنه لم يكن في حاجة إلى ذلك وهو يتلقى الوحي من الله أو ليعلم الناصح من الغاشّ منهم أو ليعلم مدى عقولهم وأفهامهم أو لتطييب قلوبهم ورفع شأنهم وجمعهم.
وما دام أن النص القرآني مطلق وصريح بأمر الله لرسوله بمشاورة المسلمين، فالذي يتبادر لنا أن الأولى أخذه على مفهومه دون التزيد بتعليلات لا قرينة عليها من كتاب وحديث. وليس من تعارض بين هذا وبين كون النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله. فكل ما فيه وحي رباني لا يحتاج بطبيعة الحال إلى مشاورة. ولكن هناك كما قلنا آنفا شؤونا كثيرة لا يكون فيها وحي رباني. وهذه هي التي أمر الله رسوله بمشاورة المسلمين فيها. وهناك مأثورات كثيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير المسلمين في شؤون متنوعة من شؤون الحرب وغير الحرب ويعمل بما يشيرون. فإذا كان ذلك خلاف الأولى نزل قرآن بالتنبيه أو العتاب. وإذا كان حائزا لرضاء الله وموافقته نزل قرآن بذلك أو بقي الأمر سكوتا عنه وماضيا. وقد أوردنا أمثلة من ذلك في مناسبات سابقة بحيث يكون ذلك القول على إطلاقه في غير محله.
وهناك بعض الأحاديث في أدب الاستشارة والمشيرين يصحّ أن تساق في هذا المساق. منها حديث أورده ابن كثير وهو من مرويات أصحاب السنن أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المستشار مؤتمن» «1» . وحديث أورده ابن
__________
(1) التاج، ج 5 ص 67.
الجزء السابع من التفسير الحديث 17(7/257)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
كثير معزوا إلى ابن ماجه عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه» . وحديث ثالث أورده ابن كثير رواه أيضا أبو داود والحاكم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. وزاد في رواية: ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرشد في غيره فقد خانه» «1» .
حيث ينطوي في الأحاديث تقرير واجب المسلم بإبداء رأيه إذا استشير في أمر وبالتزامه الأمانة والصدق والعلم فيما يشير به. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن من الواجب مراعاة ذلك في أي موقف يستشار فيه المسلم سواء أكان في الحالات الخصوصية والفردية والشخصية أم في الحالات العامة والرسمية. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
. الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين منبّه لهم إلى أن الله إذا ما نصرهم فلن يغلبهم أحد وسائلا سؤالا يتضمن النفي عمن يمكن أن ينصرهم إذا هو خذلهم.
وداعيا للمؤمنين المخلصين إلى الاتكال عليه وحده. وليس هناك رواية خاصة فيها. والمتبادر أنها متصلة بالسياق واستمرار في التعقيب على الآيات السابقة.
وفيها تثبيت للمسلمين ودعوة إلى التمسك بالله والإخلاص له والاعتماد عليه وحده. ولعل فيها ردّا على وساوس الكفار والمنافقين التي حاول هؤلاء أن يبثّوها في نفوس المسلمين.
وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى يمدّ المؤمن بالقوة الروحية في كلّ ظرف وبخاصة في الأزمات المحرجة.
__________
(1) التاج، ج 5 ص 67.(7/258)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
[سورة آل عمران (3) : آية 161]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
. (1) الغلول: أخذ الشيء خفية وبدون حقّ. وقد أريد به خاصة إخفاء غنائم الحرب.
في الآية تنزيه لأي نبيّ أن يغلّ أي أن يخفي شيئا من غنائم الحرب التي توضع بين يديه. وإنذار للغالّين فإنهم يأتون يوم القيامة بما غلّوا مفضوحين مخزيين فيوفيهم الله ما كسبوا دون نقص وظلم.
تعليق على الآية وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآية روايات عديدة، وبعض هذه الروايات مروي بصيغ عديدة ومن طرق مختلفة. ومن هذه الروايات رواية رواها الترمذي وأبو داود أيضا بسند حسن عن ابن عباس جاء فيها: «افتقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله الآية لتقرّر أنه لا يمكن لنبيّ أن يغلّ» . ورواية مروية عن قتادة قال: «إنّ الآية نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة مركزهم للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم كما قسم في بدر فقال لهم رسول الله ظننتم أننا نغلّ ولا نقسم لكم فنزلت الآية ردّا على ظنهم» . ورواية تذكر أن رسول الله بعث طلائع ثم غنم فلم يقسم للطلائع فأنزل الله الآية عتابا على ذلك. ورواية تذكر أن طائفة من الأقوياء ألحّوا على رسول الله أن يختصهم بالغنائم فأنزل الله الآية إيذانا بأن النبي لا يصحّ أن يفعل ذلك. ورواية تذكر أنها بسبيل نفي كتم النبي شيئا مما أنزله الله عليه.
وهناك قراءة لكلمة (يغلّ) بضم الياء وفتح الغين لتكون الجملة بمعنى أن النبي لا يصحّ أن يخون أصحابه أو يخفوا عنه شيئا.(7/259)
وباستثناء الرواية التي يرويها الترمذي وأبو داود ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. وباستثناء رواية قتادة فليس شيء من الروايات متصلا بوقعة أحد التي يدور السياق عليها. ورواية الترمذي وأبي داود في صدد بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال ولسنا نرى لها محلا أو مناسبة هنا. والآية [153] تذكر ما كان من تنازع الرماة وعصيانهم لأمر رسول الله رغبة في حطام الدنيا فيكون احتمال صحة رواية قتادة هو الأقوى. وتكون الآية قد نزلت لتنزّه النبي صلى الله عليه وسلم عن ما ظنه الرماة، مع الترجيح أن الآية لم تنزل بمفردها وإنما نزلت مع السياق الذي نزل جميعه بعد الواقعة. وقد جاءت مطلقة لتنزيه كل نبيّ عن هذه النقيصة التي يجلّ مقام النبوّة عنها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن جملة وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ مطلقة المدى بحيث انطوى فيها إنذار ووعيد لكل من يقترف هذه الجريمة في كل وقت.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة فيها إنذار ووعيد للذين يغلّون. ومما هو متساوق مع الآية. ومن هذه الأحاديث ما يتصل بالغلول من غنائم الحرب ومنها ما يتصل بالغلول من العمل الحكومي بصورة عامة. ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح. ومنها ما ورد في كتب أئمة حديث آخرين. وهذه من باب ما ورد في كتب الصحاح. فمما ورد في غلول الغنائم الحربية حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال: «خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع. فتوجّه رسول الله نحو وادي القرى وقد أهدي له عبد أسود يسمّى مدعما فبينما هو يحطّ رحل رسول الله أصابه سهم فقتله فقال الناس هنيئا له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فلمّا سمعوا ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبيّ فقال شراك أو شراكان من نار» «1» . وحديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: «كان على ثقل رسول
__________
(1) التاج ج 4 ص 350 و 351 وهناك أحاديث أخرى من بابها في الكتب الخمسة وغيرها فاكتفينا بما أوردناه.(7/260)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
الله رجل يقال له كركرة فمات فقال النبيّ هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها» «1» . ومما ورد في غلول العمال حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي حميد قال: «استعمل النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد يقال له ابن اللّتبيّة على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليّ أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمّه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟. والذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر. ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهمّ هل بلّغت، مرّتين» «2» .
وحديث رواه أبو داود والحاكم عن بريدة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي حميد قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هدايا العمال غلول» «3» .
وواضح أن الأحاديث تنطوي على أن هذه الآية قد احتوت تلقينا مستمر المدى وإن نزلت في تنزيه مقام النبوة عن الغلول. وهو تلقين في وجوب رعاية كلّ إنسان ما يوكل إليه حفظه والتصرّف فيه من الأموال العامة والأمانات بكلّ دقة وعدم إساءة استعماله وفي وجوب التزام كلّ عامل من عمّال الدولة النزاهة والتجرّد وتجنّب التهمة والشبهة واستغلال عمله، وفي التشنيع على من يخالف ذلك بأي شكل من الأشكال. وفي ذلك من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 162 الى 163]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
. في الآيتين تساؤل ينطوي على النفي عما إذا كان يصح التسوية بين الذين
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) التاج ج 3 ص 49.
(3) انظر تفسير ابن كثير وهناك في الكتب الخمسة وفي كتب التفسير أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردناه. انظر التاج ج 3 ص 49 و 50 وج 4 ص 350 و 351.(7/261)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
يتبعون ما فيه رضوان الله وبين الذين يستحقون غضبه وسخطه بخبثهم وكفرهم فهؤلاء مأواهم جهنّم وبئس هي من مصير. والله بصير بما يعمله الناس جميعا. وإن عنده مقامات ومنازل لكل منهم وفق عمله.
وقد روى الطبرسي والخازن أن الآيتين نزلتا في المقايسة بين الذين استجابوا لدعوة النبي وخرجوا لمقابلة الغزاة وبين المنافقين الذين لم يستجيبوا وقعدوا.
وقال الطبري إن الآيتين متصلتان بآية الغلول وفيها إنذار لمن يغلّ وتنويه بالمستقيم الأمين وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. ونحن نرى توجيه الطبري هو الأوجه لأنه الأقرب إلى ما في الآية السابقة لهما.
وفيهما على كل حال تنويه عام مستمر المدى بالذين يتوخون بأعمالهم رضاء الله ويلتزمون أوامره ونواهيه، وإنذار وتنديد عامّان مستمرا المدى كذلك بالذين يفعلون ما يغضبه ويسخطه.
[سورة آل عمران (3) : آية 164]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
. في الآية تقرير لنعمة الله وفضله على المؤمنين ببعثه إليهم رسولا منهم يبلغهم آياته ويطهر نفوسهم من الخبائث النفسية والفكرية والجاهلية ويعلمهم كتاب الله ويبصرهم بحكمته بعد أن كانوا قبله في ضلال شديد.
ولم نر المفسرين يذكرون شيئا كمناسبة للآية. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها كذلك معنى التعقيب والتعليق على حوادث وقعة أحد ولعل فيها تمهيدا للآيات التالية أيضا.
ولقد انطوى في الآية تنويه بالرسالة المحمدية وأهدافها بأسلوب وجيز رائع.
ولقد وجّه الخطاب فيها إلى العرب بصراحة مما انطوى في تعبير رَسُولًا مِنْ(7/262)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
أَنْفُسِهِمْ
وفي هذا توكيد لشأنية العرب في الرسالة الإسلامية وكونهم حملتها لأنهم أول المخاطبين بها والمتلقين كتاب الله عن رسوله مباشرة والسامعين لتعليمه وحكمته. ولقد انطوت هذه المعاني في آيات سابقة أيضا «1» . وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت توكيدها في هذا المقام بسبب ما ألمّ بالمسلمين من وقعة أحد لتهدأ نفوسهم وتسكن قلوبهم.
ولقد قرأ بعضهم أنفسهم هنا وأنفسكم في آية سورة التوبة هذه لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) بفتح الفاء من النفاسة أو النبل بحيث يكون معنى الكلمة أن النبي من أنفس وأنبل أروماتهم. ومع أن هذا مما وردت فيه أحاديث صحيحة أوردناها في سياق تفسير آية النحل [113] فإن الجمهور على قراءة الفاء بالضمّ كجمع للنفس. وقد يدعم صواب هذه القراءة آيات سورة البقرة [129 و 151] والنحل [113] والجمعة [2] التي ورد فيها تعبيرات منهم ومنكم من مقام من أنفسكم وأنفسهم. كما يدعمها ما روي عن ابن عباس وأوردناه في سياق آية سورة النحل كتوضيح لذلك. وهذا الاستدراك ليس في مقام نفي ما وردت به الأحاديث من كون النبي خير البشر أسرة وعشيرة وقبيلة وبطنا مما ورد في تلك الأحاديث كما هو واضح.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) .
__________
(1) انظر آيات البقرة [150- 151] والحج [78] .(7/263)
(1) أنّى هذا: كيف وقع هذا أو لماذا وقع.
(2) فادرأوا: فامنعوا.
تضمنت الآيات:
1- حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد.
2- وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب- استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير- أن ما كان ليس هو إخلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته.
3- وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا إنّا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لا تبعناكم.
4- وتنفيد لقولهم وأفعالهم: فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان. ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم.
5- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحدّيا منطويا على التهكم والإلزام.(7/264)
تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [168]
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد نزول الآيات وإنما أعادوا بعض ما قالوه من وقائع وقعة أحد ومواقف المنافقين مما روينا تفصيله وعلقنا عليه قبل.
والمتبادر أنها استمرار للسياق. وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها.
ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثيرا ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة. ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لا حقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى.
وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتّاب السيرة ذلك وذكرناه قبل. والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه.
ولقد روى ابن سعد رواية «1» جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 90. [.....](7/265)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
أصحابه في طريقهم إلى سفح أحد إذا هو بكتيبة خشناء فقال من هؤلاء؟ قالوا هذا عبد الله بن أبيّ في ستمائة من مواليه من يهود بني قينقاع. فسأل (أو قد أسلموا؟) قالوا لا يا رسول الله فقال قولوا لهم فليرجعوا فإننا لا نستعين على المشركين بالمشركين. والرواية لم تردد في الصحاح وهي غريبة من نواح عديدة. فإن بني قينقاع قد أجلوا عن المدينة قبل وقعة أحد بخمسة عشر شهرا. والآيات التي نحن في صددها تذكر أن النبي أو المسلمين طلبوا من المنافقين أن يخرجوا معهم فأبوا بحجة أنهم لا يتوقعون قتالا. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد وجابر أن جملة الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا هي في عبد الله بن أبيّ كبير المنافقين وأصحابه المنافقين. وهو في محله وتؤيده الآية التي سبقت هذه الجملة التي حكت أقوال المنافقين.
ولقد روى الطبري عن قتادة بسبيل توضيح جملة مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ في الآية [165] أنها عنت ما كان من عصيان الرماة لأمر النبي وتركهم أماكنهم من حيث إن ذلك أدّى إلى الهزيمة وهو في محلّه. كذلك روي عن قتادة بسبيل توضيح جملة أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها أنها عنت ما كان من خسائر بدر وأحد من المشركين والمؤمنين حيث قتل المؤمنون في بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين وقتل منهم في أحد سبعون ولم يؤسر أحد منهم. ونصّ الآية قد يؤيد هذا التوضيح.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 171]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
. (1) يستبشرون: يشعرون بالبشرى والسرور.(7/266)
وفي هاتين الآيتين:
1- نهي فيه معنى التطمين والبشرى عن أن يظنّ السامعون أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.
2- وتوكيد في مقام الجواب بأنهم أحياء لهم عند ربهم التكريم والرزق الحسن. وهم فرحون مغتبطون مستبشرون بما نالوه من نعمة الله وفضله ولما تيقنوه من صدق وعده لهم، وفرحون مستبشرون بالنسبة لإخوانهم الذين خلفوهم من ورائهم أحياء من حيث إنهم لن يلقوا عند الله ما يخيفهم ولا يحزنهم ما داموا تركوهم على المنهج الحقّ والاستشهاد في سبيل الله ومن حيث إن الله لن يضيع أجر المؤمنين المخلصين.
تعليق على الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) والآية التي بعدها
وقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في مناسبة الآيات «1» منها أنها نزلت في حق شهداء بدر ومنها أنها في حق شهداء أحد ومنها أنها في حق شهداء بدر وأحد. ومنها أنها في حق شهداء بئر معونة، الذين كان من قصتهم على ما رواه المفسرون وكتّاب السيرة «2» أن أحد زعماء بني عامر الموصوف بملاعب الأسنة قدم على النبي فعرض عليه الإسلام فلم يبعد وطلب منه أن يبعث معه نفرا إلى قومه لعلّهم يجيبون فقال له إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أنا جار لهم فبعث معه سبعين رجلا من قرّاء الأنصار الشباب وكان معهم كتاب إلى عامر بن الطفيل زعيم بني عامر فأرسلوه إليه حينما وصلوا إلى بئر معونة فقتل الرسول ثم
__________
(1) انظر الطبرسي والطبري والخازن.
(2) انظر ابن سعد ج 3 ص 93- 96 وتفسير الطبري للآية.(7/267)
استصرخ قومه وغيرهم وأحاطوا بالمسلمين فقتلوهم جميعا عدا واحد منهم نجا من القتل لأن زعيما منهم كان نذر أن يعتق رقبة فعتقه بعد أن جزّ ناصيته، وكان وقع الحادث أليما شديدا على النبي والمسلمين.
ويتبادر لنا من نظم الآيتين أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما التي حكت أقوال المنافقين وتحدتهم حيث احتوتا تطمينا للمؤمنين الأحياء وبهتا للمنافقين وإحباطا لدسهم وتحريضهم. وعبارة الآيتين مطلقة شاملة بحيث تشمل البشرى التي انطوت فيهما شهداء أحد وغيرهم وإن كانت صلتها بشهداء أحد أوكد لأن وقعة أحد هي موضوع السياق.
ومثل هذا التنويه والتسكين قد ورد في آيات سورة البقرة [155- 157] في سياق الإشارة إلى بعض حوادث الجهاد الأولى وشهدائها على ما شرحناه في مناسبتها. غير أن في التعبير هنا بعض الزيادات التنويهية والتطمينية كما أن فيها تنويها بالمخلصين الأحياء حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل بسبب ما ألمّ بالمسلمين من حزن ومرارة في وقعة أحد.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات كتفسير وتوضيح، منها حديث روي عن ابن عباس «1» : «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إنّ الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنّا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنّة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) » وهناك رواية بهذا الحديث فيها زيادة جاء فيها: «أنّ الله قال لهم هل تشتهون شيئا قالوا يا ربّ نريد أن
__________
(1) انظر تفسير الخازن للآية وانظر أيضا تفسيرها في ابن كثير حيث روي هذا الحديث مع شيء من المغايرة. وانظر التاج ج 4 ص 76- 77 حيث ورد هذا الحديث من رواية الترمذي في فصل التفسير.(7/268)
تردّ أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى» «1» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا إلّا الشهيد فإنّه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بما يرى من فضل الشهادة» «2» . ومنها حديث عن جابر جاء فيه: «لمّا قتل أبي يوم أحد جعلت أبكي فقال لي رسول الله لا تبكه، ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى رفع» «3» . ولقد تطرق بعض المفسرين من هذا إلى التساؤل عما إذا كانت الجنة مخلوقة الآن استنادا إلى الحديث وعمّا إذا كانت حياة الشهداء روحانية أو جسمانية. ومنهم من اتخذ الآية والحديث دليلا ضد المعتزلة الذين لا يسلّمون بأن الجنة مخلوقة الآن «4» .
وعلى كل حال فواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء في الآيات والأحاديث النبوية المفسرة أو المتسقة معها مع الملاحظة أن ذلك من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن أو المأثور الثابت من أحاديث النبي مع استشفاف ما لا بدّ أن يكون في عبارتها من حكمة دنيوية أيضا. ويتبادر لنا من ذلك قصد تبشير الأحياء من المسلمين وتطمينهم بالنسبة لشهدائهم الأعزاء وبالنسبة لأنفسهم. وحثّهم على الثبات على دين الله والجهاد في سبيله الذي يضمن لهم التكريم الرباني العظيم.
وإطلاق العبارة في الآيتين يسوغ القول أن فيها علاجا روحيا قويا مستمر المدى في صدد الحثّ على الجهاد مهما كانت النتيجة. يستمد منه المؤمن المخلص في كل وقت إيمانا وثباتا وجرأة وإقداما. فما دام الموت أمرا محتما على كل امرئ وما دام أنه لا يكون إلّا في الأجل المعين عند الله وما دام للشهيد هذه
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) انظر تفسير ابن كثير.
(3) المصدر نفسه.
(4) انظر تفسير الخازن.(7/269)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
الحياة الكريمة عند الله فضلا عما له عند الناس من كرامة وحسن ذكر فليس من موجب للخوف من الجهاد ولا للجزع من نتائجه مهما كانت.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 172 الى 174]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
. في هذه الآيات: تنويه بالذين استجابوا إلى الله ورسوله رغم ما نالهم من جراح وتعب ولم يبالوا بما قاله لهم الناس من أن الأعداء قد جمعوا لهم بل زادهم إيمانا بالله وتمسكا به واعتمادا عليه وهتفوا قائلين حسبنا الله ونعم الوكيل. ولقد عادوا دون أن يمسّهم سوء بفضل الله ونعمته وبركة ما كان منهم من صبر وجرأة وإيمان واعتماد على الله. وقد نالوا فوق ذلك رضوان الله ذي الفضل العظيم. وإن للذين أحسنوا من المسلمين واتقوا الأجر العظيم عند الله.
تعليق على الآية الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) والآيتين اللتين بعدها
وقد روى المفسرون روايتين «1» في صدد نزول الآيات: أولاهما ما أوردناه قبل من تفكير قريش في الكرة بقصد استئصال المسلمين، وببلوغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم ومسارعته للخروج على رأس فريق من أصحابه وبلوغهم حمراء الأسد حيث وجدوا قريشا قد انصرفوا «2» . وثانيتهما أن أبا سفيان قائد قريش هتف متواعدا مع
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
(2) هذه الرواية رواها البخاري في هذا النص: (قالت عائشة لعروة بن الزبير يا ابن أختي لما أصاب نبي الله ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعين رجلا كان من بينهم أبو بكر والزبير) . التاج، ج 4 ص 77 وقد يكون في الحديث التباس أو اقتضاب.(7/270)
النبي والمسلمين ليوم آخر يلتقون فيه في بدر في السنة المقبلة، وأجابه المسلمون بأمر النبي بالموافقة وهذا مما اعتاده العرب في حروبهم فلما جاء الموعد خرج النبي على رأس فريق من أصحابه حتى بلغ بدرا فلم يجدوا قريشا وشهدوا سوق بدر وكان لهم فيها ربح تجاري عظيم وعادوا ولم يلقوا كيدا أو سوءا. وابن سعد يذكر وقوع الغزوتين وأسبابهما التي ذكرها المفسرون «1» .
وروح الآيات وفحواها يلهمان أنها في صدد مشهد جهادي فور وقعة أحد وما زالت مرارة الوقعة وجراحها شديدة الأثر في المسلمين. وهذا مما يتوافق مع الرواية الأولى ومع الآيات أكثر وإن كان هذا لا يمنع أن تكون قريش قد هتفوا بموعد بدر للسنة القابلة حينما انصرفوا من أحد ثم فكروا في الكرّة.
والمتبادر أن الآيات لم تنزل لحدتها، وليست منفصلة عن سابقاتها. وكلمة الَّذِينَ متصلة نظما بكلمة الْمُؤْمِنِينَ التي كانت خاتمة الآيات السابقة وأن السلسلة كلها نزلت دفعة واحدة عقب أحداث وقعة أحد ومشاهدها. وكل ما هناك أن هذه الآيات احتوت التنويه باستجابة المؤمنين لدعوة النبي وخروجهم معه رغم ما أصابهم من قرح. وهو ما جعل الرواة يروون أنها نزلت في ذلك.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان العصبة المخلصة التي كانت حوله في الله وشدة اعتمادها عليه وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وعدم مبالاتها بما كان ينالها من بلاء وأذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها حيث استجابوا وخرجوا إلى عدو يزيد عدده عليهم أضعافا كثيرة ويفوقهم في الوسائل وقد انتصر عليهم ونالهم منه أذى شديد،
__________
(1) ابن سعد ج 3 ص 90- 91 و 100- 102.(7/271)
وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله الذي كان مجروحا في وجهه مشجوجا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان «1» . ويزيد في روعة الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب على ما روته الروايات إلّا الذين شهدوا معركة أحد وقاتلوا فيها ولم ينهزموا. وقد روي أن عددهم كانوا سبعين «2» . ومما رواه المفسرون «3» من روائع هذه الصورة أن رجلين من الأنصار كانا جريحين فلما أذّن مؤذن النبي بالخروج قالا لبعضهما أتفوتنا غزوة مع رسول الله ولم يكن لهما دابة يركبانها فخرجا مع ذلك. وكان أحدهما أشدّ جراحا من الآخر فكان أخوه يحمله من حين إلى آخر حتى بلغا ركب النبي! ومن ذلك أن شابا استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن أخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة! وفي كل هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان.
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمّد حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» «4» . حيث ينطوي في الحديث إيذان بأن هذه الجملة مما كان يرددها أنبياء الله حين يحزبهم أمر من الأمور فيستمدون بذلك من الله قوة وروحا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم
__________
(1) هذه رواية ابن سعد ج 3 ص 90- 91.
(2) انظر تفسير الطبري والخازن.
(3) انظر تفسير الطبري.
(4) التاج ج 4 ص 88. [.....](7/272)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
الوكيل» وحديثا أخرجه الإمام أحمد عن عوف بن مالك قال: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضى عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي ردّوا عليّ الرجل فقال له إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل» . والحديثان لم يردا في الصحاح. وصحتهما محتملة.
وفي الأول تعليم نبويّ للمسلمين ليستمدوا منه من الله روحا وقوة حينما يحزبهم أمر عظيم. وفي الثاني تعليم بذلك مع تنبيه مهم ورائع وهو أن على المسلم أن يبذل جهده في ما يواجهه من الأمور أيضا ولا يكتفي بالاستسلام وقول حسبنا الله ونعم الوكيل. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 175 الى 177]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
. في هذه الآيات:
1- تنبيه وتثبيت للمؤمنين. فالشيطان يثير في نفوسهم الخوف من أوليائه ليقعدهم عن القتال فعليهم أن لا يستمعوا لوساوسه ولا يخافوهم بل يخافوا الله وحده إن كانوا مؤمنين حقا.
2- وتطمين للنبي: فليس من موجب لحزنه واغتمامه بسبب الذين يسارعون في الكفر. فإنهم ليسوا بضارين الله ودينه شيئا. وقصارى أمرهم أن الله لا يوفقهم ولا يجعل لهم حظا في الآخرة ويكون لهم فيها عذاب عظيم.
3- وتقرير تطميني بأن الذين يفضلون الكفر على الإيمان ويبيعون هذا بذاك لن يضروا الله ودينه شيئا. وإنما هم ضارون أنفسهم بما سوف يصيبهم من عذاب الله الأليم.
الجزء السابع من التفسير الحديث 18(7/273)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
تعليق على الآية إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون رواية ما في نزول هذه الآيات. وإنما رووا عن أهل التأويل أن المقصودين في جملة يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وجملة الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ هم المنافقون. وهذا مستلهم من فحوى الآيات وسياقها. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا تعقيبيا للسياق السابق بسبيل تثبيت المؤمنين وتطمينهم. والتنديد بالمنافقين وترهيبهم بالإضافة إلى ما فيها من حقائق يجب الإيمان بها.
وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يبعث الطمأنينة والروح في قلوب المؤمنين المخلصين وأن يمدّهم بقوة روحانية في كلّ ظرف.
[سورة آل عمران (3) : آية 178]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
. عبارة الآية واضحة. وفيها تكذيب لما يظنّه الكفار من أن إملاء الله لهم وإمهالهم وتيسيره ما ييسره لهم خبر خير وعلامة على رضاء الله عنهم بل هو إملاء منه ليزدادوا إثما على إثم حيث يكون لهم عنده العذاب المهين.
تعليق على الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
عزا الطبري إلى مقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة وإلى عطاء أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والسياق(7/274)
في صدد المؤمنين والمنافقين ووقعة أحد التي كان المشركون طرفا فيها. ولهذا فإن رواية كونها في اليهود لا محلّ لها كما هو المتبادر. ومن الجائز أن يكون المنافقون قد تبجحوا بما كان لهم من عاقبة وسلامة أو المشركون بما كان لهم من نصر وتفوق في المعركة فاقتضت حكمة التنزيل تكذيبهم وإنذارهم مع التنبيه على أن المتبادر أن الآية جزء من السياق ولم تنزل لهذه الغاية لحدتها وإنما نزلت مع السياق بعد الوقعة وانطوى فيها ما انطوى من مقصد، والله أعلم.
ومن الجدير بالتنبيه أن في القرآن وبخاصة المكي منه آيات كثيرة تذكر أن الكفار كانوا يحسبون ما ييسره الله لهم من سعة رزق وأسباب قوة هو علامة لرضاء الله وتذكر كذلك أن ذلك في حقيقة الأمر بمثابة استدراج وإملاء واختبار. وفي بعضها تكذيب لظنهم «1» والعبارة هنا من هذا القبيل كما هو المتبادر.
ولقد كانت الآية من الموضوعات الجدلية بين علماء الكلام كما كانت موضوع تمحّل من بعض الأغيار. وليس فيها ما يتحمل ذلك، أو يستدعيه. فقد جاءت تعبيرا أسلوبيا استهدف تسكين المؤمنين وتطمينهم وإنذار الكفار معا على الوجه الذي شرحناه والذي نرجو أن يكون فيها الصواب.
على أن من الممكن أن يقال إن الذين كفروا قد كفروا بسبب خبث نياتهم وفساد أخلاقهم فاستحقوا ما جاء في الآية نتيجة لذلك. وبهذا يزول ما قد يبدو ظاهرا من إشكال من كون الله يملي لهم ليزدادوا إثما والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الخازن في سياق الآية حديثا عن النبي جاء فيه: «إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم قرأ الآية» . والحديث لم يرد في الصحاح ولكنه متساوق مع مدى الآية وتوضيح لها.
ولقد قال الطبري وغيره إن جملة نُمْلِي لَهُمْ بمعنى (نطيل أعمارهم) ولقد أورد الخازن في صدد ذلك حديثا جاء فيه: «إنّ بعضهم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ
__________
(1) اقرأ آيات سورة القلم [44 و 45] والأعراف [182 و 183] والمؤمنون [55 و 56] مثلا.(7/275)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
الناس خير فقال من طال عمره وحسن عمله. قيل فأيّ الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله ثم قرأ الآية» «1» . والحديث من مرويات الترمذي عن أبي بكرة بدون جملة ثم قرأ الآية. وما جاء في الحديث حقّ. غير أن المتبادر أن إطالة العمر مع سوء العمل هي إحدى صور الإملاء التي منها أيضا بسط الرزق والقوة والعافية والبنون. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : آية 179]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
. شرح الآية ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ... إلخ وتعليق عليها
روى الطبري عن مجاهد أن الآية في صدد وقعة أحد وأنها بسبيل تقرير كون ما وقع فيها حكمة ربانية لتمييز المخلصين من المنافقين. وهم الذين عنى بهم (الطيب والخبيث) وروى الخازن عن الكلبي أن قريشا قالت يا محمد تزعم أن من خالفك في النار ومن آمن بك في الجنة فأخبرنا بمن يؤمن وبمن لا يؤمن فأنزل الله الآية. وروى هذا المفسر عن السدي أن النبي قال: «عرضت عليّ أمتي في صورها وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه ولم يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله فقام على المنبر فقال ما بال أقوام طعنوا في علمي، لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا أنبأتكم به. فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنّا، عفا الله عنك. فقال النبيّ هل
__________
(1) التاج، ج 5 ص 154.(7/276)
أنتم منتهون؟. فأنزل الله الآية. وقال الخازن قيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت الآية. وقيل إن قوما من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد ونزلت الآية.
وليس شيء من ذلك في الصحاح والروايات تقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة وبعضها يقتضي أن تكون نزلت في مكة. وفحواها وروحها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق. وقد يكون ما رواه الطبري في الرواية الأولى هو الأكثر احتمالا بحيث يصحّ القول إن الآية تضمنت تعليلا لما أصاب المسلمين بقصد التهدئة والتسكين بما مفاده ومآله:
1- إن الله إذا كان قد ابتلاهم في وقعة أحد فإنما كان ذلك منه لاقتضاء حكمته بعدم ترك أمر الناس الذين يدعون الإسلام ملتبسا وبتمييز خبيثهم من طيبهم ومنافقهم من مؤمنهم وخائنهم من مخلصهم.
2- وهذا من غيب الله الذي لا يطّلع عليه الناس إلّا بالاختبار العملي.
3- وكل ما هناك أن الله تعالى يصطفي لرسالته من يشاء ويختصه بعنايته وفضله ودعوة الناس إليه.
4- وعلى المؤمنين المخلصين أن يؤمنوا بالله وحكمته وقضائه ويقفوا عندهما وأن يؤمنوا برسله ويصدقوهم ويطيعوهم. فإذا فعلوا ذلك واتقوا الله وراقبوه في أعمالهم استحقوا الأجر العظيم عنده.
ولعل بعض المسلمين تساءلوا عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم نتائج الوقعة وعما إذا لم يكن الأولى أن لا تكون وقعت ما دام أنها كانت نكبة على المؤمنين. فكان هذا وما من بابه مما أريد الردّ عليه في الآية مع التعليل والتثبيت والحكمة والإنذار للكفار والمؤمنين.
والآية بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قوية نافذة. وفيها تلقين مستمر المدى في كل حالة مماثلة في كل ظرف.(7/277)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
[سورة آل عمران (3) : آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
. عبارة الآية واضحة وفيها تنديد وإنذار للذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله. مع التنبيه على أن ميراث السموات والأرض لله وحده بسبيل التشديد في التنديد والإفحام من حيث إن الذين يبخلون إنما يبخلون بمال الله وهو يأمرهم بعدم البخل به.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية وإنما أوردوا أقوالا فيما عنته.
منها قول معزوّ إلى ابن عباس أنها في حقّ أهل الكتاب الذين يكتمون ما عندهم من البينات والدلائل على صدق الرسالة المحمدية مؤولا البخل بالكتمان. ومنها قول معزوّ إلى السدي وغيره أنها في مانعي الزكاة «1» . وفي فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير آل عمران حديث عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله: من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا الآية» «2» . وجمهور المفسرين على أن القول الثاني هو الأوجه وهو حقّ ومتسق مع فحوى الآية. ولا سيما أن النعي على الذين أوتوا الكتاب لكتمانهم إيّاه هو موضوع آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. ويبدو من هذا أن الآية ليست من السياق السابق.
ولقد حكت الآيات التالية لهذه الآية قول اليهود بأنهم أغنياء والله فقير وروي أن هذا كان منهم جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت طلب منهم مساعدة على ما سوف نذكره بعد حيث يتبادر لنا أن بين هذه الآية والآيات التالية صلة وأنها جاءت بمثابة تمهيد لحكاية ذلك القول وتعنيف اليهود عليه ووصفهم بالبخل بمناسبته. وبكلمة
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير.
(2) انظر التاج، ج 4 ص 78، والشجاع هو الثعبان واللهزمتان هما الشدقان من تفسير مؤلف التاج.(7/278)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
أخرى جاءت بدء فصل جديد، والله أعلم.
والآية على كل حال احتوت تقرير معنى تام في صدد التنديد بالبخلاء الضانين بأموالهم عن سبيل الخير وبخاصة الممتنعين عن أداء الزكاة الواجبة عليهم وإنذارهم. وعبارتها مطلقة تتضمن الشمول والاستمرار في التلقين كما هو واضح أيضا. وأسلوبها قوي رائع في التنديد الذي ينطوي على الحثّ على الإنفاق من المال الذي في أيديهم والذي هو في حقيقته مال الله وفضله ليسوا أكثر من وكلاء عليه.
ولقد تكرر ما جاء في هذه الآيات كثيرا في القرآن المكي والمدني معا بأساليب متنوعة. لأنه أساس رئيسي من أسس الرسالة المحمدية.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 184]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
. تضمنت الآيات ما يلي:
1- تقريرا بشهادة الله وإنذاره في سياق حكاية قول صدر من اليهود حيث قررت أن الله قد سمع قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء وأنه سجّله عليهم كما سجّل ما كان قبل من قتل اليهود للأنبياء. ولسوف يحاسبهم الله ويدخلهم ناره الحارقة ويقول لهم ذوقوا عذابها فهو جزاؤكم الحقّ على ما قدمت أيديكم دون ما ظلم لأن الله ليس ظلّاما لعبيده وإنما هو موفيهم ما يستحقون.
2- وحكاية لقول آخر صدر منهم جوابا على دعوة النبي إياهم إلى الإيمان به(7/279)
حيث قالوا على سبيل تحدي النبي وتعجيزه إن الله وصّانا بألا نصدق رسولا يدعي أنه مرسل من الله إلّا إذا أكلت القربان الذي يقرّبه نار تنزل من السماء.
3- وأمرا للنبي بالردّ عليهم ردا ينطوي على التنديد: فلقد جاءهم رسل من قبله بالبينات وبالذي طلبوه فلماذا قتلوهم إن كانوا صادقين في حفظ وصية الله.
4- وتطمينا وتسلية للنبي، فإذا أصرّ اليهود على تكذيبه فلا موجب لغمّه وحزنه فإن له أسوة بالرسل السابقين الذين جاءوا بالحقّ والصدق والكتب الإلهية المنيرة فكذبوا أيضا.
تعليق على الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
واسم اليهود ليس صريحا في الآيات. غير أن جمهور المفسرين قرروا أنها في حق اليهود. ومضمونها قوي الدلالة على ذلك. كما أن آيات عديدة في هذه السورة وفي سورة البقرة نعتت اليهود بالصفات التي جاءت عنهم في هذه الآيات التي جرت على الأسلوب الذي تكرر وخاصة في القرآن المدني بالنسبة لليهود وهو وصل مواقف الحاضرين من النبي صلى الله عليه وسلم بمواقف السابقين من أنبيائهم من قبل حتى كأنها صادرة من الحاضرين وذلك على سبيل التشديد في التنديد وبيان عدم غرابة ما يفعله الحاضرون لأنهم سائرون على قدم آبائهم السابقين وجبلّتهم.
وقد روى المفسرون»
في صدد الآية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى جماعة من اليهود يدعوهم إلى الإسلام ويبيّن لهم أركانه ومن جملتها الزكاة وأورد لهم آية فيها حثّ على إقراض الله قرضا حسنا فجادلوه وصدر
__________
(1) هذه الرواية والروايتان الأخريان وردت في سياق تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.(7/280)
من بعضهم القول البذيء في حقّ الله الذي حكته الآية على سبيل الهزؤ والجحود حتى أن أبا بكر لم يملك نفسه من أن يغضب ويلطم القائل. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر ليطلب منهم مالا يستعين به على بعض حروبه لأنهم حلفاء المسلمين وقد أوجب ذلك عليهم في كتاب الموادعة الذي كتبه حينما حلّ في المدينة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة فجرى ما ذكرته الرواية الأولى. وهناك رواية ثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام والإيمان برسالته فقالوا له ما حكته الآية [183] .
والروايات لم ترد في الصحاح. وتقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزّأة في حين أنها تبدو منسجمة بحيث يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. ويتبادر لنا أن فيها تسجيلا لمشهد جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض اليهود أو في البدء بين أبي بكر وبعض اليهود في صدد الرسالة الإسلامية وما تدعو إليه من الإنفاق في سبيل الله ووصفها ذلك بإقراض الله قرضا حسنا فحكت ما كان منهم إزاء ذلك ثم ربطت بينه وبين ما كان من آبائهم من مواقف جريا على الأسلوب القرآني الذي مرّت أمثلة منه في هذه السورة وفي سورة البقرة.
ومن الجدير بالذكر أن في الإصحاحات (17 و 18 و 19) من سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية أخبار مما أشير إليه في الآية [183] إشارة خاطفة حيث ذكر فيها خبر قتل كثيرين من أنبياء الله وخبر استشراء عبادة البعل بين بني إسرائيل برعاية ملوكهم وبخاصة برعاية آحاب ملك إسرائيل وزوجته إيزابيل وخبر مناظرة بين النبي إيليا وبين أبناء البعل وتحديه إياهم بتقريب كل منهم قربانا. فمن هبطت من السماء نار فأكلت قربانه كان هو الذي على الحق.
وخبر نزول نار من السماء وأكلها قربان النبي إيليا دون قرابين أبناء البعل، وعدم ارعواء آحاب وزوجته وجمهور بني إسرائيل عن انحرافهم الديني رغم ذلك ومطاردتهم للنبي بحيث يستحكم ردّ القرآن في اليهود ويبهتهم بما في أسفارهم من وقائع.(7/281)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
. في الآية تقرير بحتمية الموت على كل نفس وبأن ما في الحياة الدنيا من المتعة هو إلى زوال وهو باطل خداع. وبأن مصير الناس الخالد إنما يتقرر يوم القيامة حيث يوفون أجورهم حسب ما قدموه من عمل في الدنيا وأن الفوز الحقيقي هو لمن يزحزح بعمله عن النار ويدخل الجنة.
تعليق على الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ... إلخ
ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق السابق. فالآية [180] نددت بالبخل وأنذرت البخلاء بعذاب الله يوم القيامة، والآية [181] حكت تفاخر اليهود بغناهم فجاءت هذه الآية لتوكيد كون الحياة الدنيا التي يحرص البخلاء عليها فيضنون بما آتاهم الله من فضله ويفاخر اليهود بغناهم فيها إنما هي متعة قصيرة. ولتوكيد كون العمل الصالح فيها من إيمان وبرّ وخير وإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين هو وحده الذي ينجّي الإنسان في الحياة الأخروية التي تتسم بالخلود ويزحزحه عن النار، فيكون لصاحبه بذلك الفوز العظيم.
وواضح أن الآية تظل قوية الهتاف والتذكير على مدى الدهر بما احتوته من حقيقة وبما انطوى فيها من توكيد. على أننا ننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة إلى أنه ليس في هذه الآية أيضا ما يدعو إلى نفض اليد من الدنيا ومتعها وطيباتها والنشاط فيها في مختلف المجالات. وإنما هدفها هو التذكير بحتمية الموت وحثّ الناس والمسلمين بخاصة على الاستمساك بحبل الله وتقواه والقيام بواجباتهم نحوه ونحو الناس والاستكثار من العمل الصالح الذي هو وحده النافع المنجي لهم في الحياة الأخروية.(7/282)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
. الخطاب في الآية موجّه إلى المسلمين يقرر لهم به بأنهم معرضون للابتلاء والاختبار في أموالهم وأنفسهم خسارة وقتلا. كما أنهم سوف يسمعون من أهل الكتاب والمشركين كثيرا من البذاءات المؤذية للنفس، وأن عليهم أن يصبروا ويثبتوا ويتقوا الله. وهذا الموقف الذي لا يقفه إلّا صاحب العزم تجاه تلك الاختبارات هو الموقف الذي يجمل بهم.
تعليق على الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... إلخ
روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة ما كان بين أبي بكر وفنحاص مما ذكرناه قبل أو في مناسبة هجو كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي للنبي والمسلمين أو في مناسبة موقف مؤذ وقفه عبد الله بن أبي كبير المنافقين من النبي في مجلس حيث أسمع النبي ما يكره وردّ عليه بعض المخلصين وكاد يقع قتال بين المخلصين والمنافقين بسبب ذلك.
والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أن الآية متصلة بالسياق السابق. وهذا لا يمنع أن يكون صدر في ظرف نزولها بعض مواقف مؤذية من اليهود والمنافقين. وقد جاءت مطلقة لتنبه المؤمنين إلى ما يمكن أن يتعرضوا له من خسائر في الأرواح والأموال ومن بذاءات ومكائد بصورة عامة استهدافا لحملهم على توطين أنفسهم على الصبر والتحمل والتضحية في كل موقف مماثل. وقد انطوت على بشرى بالفوز النهائي لهم إذا ما صبروا وثبتوا واتقوا الله.(7/283)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
وفي كل هذا تلقين جليل ومنبع إلهام فياض للمؤمن المجاهد في سبيل الله والحق في كل ظرف ومكان.
وننبّه هنا كما نبّهنا في مناسبات سابقة إلى أنه لا محلّ للظن بأن الآية تدعو إلى الصبر على الإهانات والأذى والعدوان. فهذا مما قررت الآيات العديدة المكية والمدنية «1» حقّ المسلمين على مقابلته بالمثل وبذل الجهد في إرغام البغاة الظالمين وحثّهم عليه مما مرّت منه أمثلة عديدة. وإنما هي في صدد الحثّ على تحمل ما هو طبيعي الوقوع وهم يجاهدون في سبيل الله ودينه الكفار من المشركين وأهل الكتاب من خسارة في الأرواح والأموال وما قد يسمعونه من بذاءات ويلمسونه من مكائد.
ولقد استطرد المفسرون في سياق هذه الآية إلى ذكر قتل الشاعر اليهودي المذكور آنفا حيث رووا أن رسول الله قال: «اللهمّ اكفنيه، ثم قال: من لي به فقد آذاني» ، فتقدم أحد أصحاب رسول الله محمد بن سلمة فقال أنا له يا رسول الله ثم أخذ بعض رفاق له وذهبوا إلى حصن اليهود وخادعوه حتى تمكنوا من قتله وحزوا رأسه وجاؤوا به إلى رسول الله. وهذا من صور السيرة النبوية التي يصحّ أن يكون فيها الأسوة. وننبّه على أن هذا الحادث لم يكن الأول فقد كان هناك شاعر يهودي بذيء آخر اسمه أبو عفك فانتدب رسول الله من قتله وكان سالم بن عمير رضي الله عنه «2» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) .
__________
(1) انظر آيات الشورى [36- 43] والبقرة [190- 194] مثلا.
(2) انظر تفصيل الحادثين في طبقات ابن سعد ج 3 ص 67 و 70 و 73، وانظر ابن هشام ج 2 ص 436 وانظر الطبري في تفسير الآية.(7/284)
(1) بمفازة: بمنجاة.
في هذه الآيات:
1- تقرير بأن الله قد أخذ عهدا من أهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم ولا يكتموا منه شيئا فنبذوا عهد الله وكتبه وراء ظهورهم وباعوها بثمن بخس فبئس ما شروه بها.
2- وخطاب موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين بالتبعية بأن لا يظنّ أحد منهم أن الذين يزهون بما ينسبونه إلى أنفسهم من صفات ومزاعم ويحبّون أن يحمدهم الناس ويمدحوهم ويوقروهم على ما لم يتحقق فيهم من صفات وما لم يصدر منهم من أقوال وأفعال تستوجب الحمد والمدح والتوقير يمكن أن ينجوا من عذاب الله.
فإنهم سوف يلقون عذابه الأليم من دون ريب. فهو مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما والقدير على كل شيء فلا يعجزه هؤلاء ولا تنطلي عليه أباطيلهم.
تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) والآيتين التاليتين لها
في فصل التفسير من صحيح البخاري روايتان في صدد ومناسبة الآيتين [187 و 188] جاء في أولاهما عن أبي سعيد: «أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت» . وجاء في ثانيتهما عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إيّاه(7/285)
وأخبروه بغيره وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ الآيتين [187 و 188] » «1» .
وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لم ترد في الصحاح. منها ما يذكر أن الآية [187] نزلت في حق اليهود والنصارى أو في حق اليهود خاصة لكتمانهم صفات رسول الله الواردة في كتبهم وما يذكر أن الآية الثانية نزلت في فريق من اليهود قالوا للنبي إنهم يؤمنون به كذبا وخداعا.
وفي حديثي البخاري تعارض حيث يبدو من حديث أبي سعيد أن الآية [187] نزلت في غير ما نزلت فيه الآيتان حسب حديث ابن عباس. والذي يتبادر لنا أن الحديثين والروايات هي من قبيل التخمين والتطبيق وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد للثانية. وهما منسجمتان وتبدوان وحدة كاملة. وأنهما إلى هذا غير منقطعتين عن الآيات السابقة. وفيهما استمرار على التنديد باليهود الذين هم موضوع الحديث. مع القول إنه قد يكون حدث حادث أو موقف من نوع ما ذكر في حديث ابن عباس والروايات قبل نزول الآيات. أما الآية الثالثة فقد جاءت لتقرير قدرة الله تعالى على تحقيق ما وعد به من عذاب الذين يكتمون كتابه ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولقد قال الطبري إن إطلاق العذاب يحتمل أن يكون العذاب المنذر به دنيويا وأخرويا معا. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أنذر الله اليهود في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها بخزي ونكال وذلّ وعذاب في الدنيا وتحقق فضلا عما سوف ينالونه من عذاب في الآخرة.
ولقد أدار المفسرون الكلام على الآيتين على اعتبار أنهما شاملتا التلقين للمسلمين أيضا وأوردوا في صدد ذلك بعض الأحاديث. وهذا سديد يلهمه إطلاق
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 78، والحديث الأول ورد في صحيح مسلم والثاني في مسند الترمذي أيضا انظر أيضا تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير حيث رووا الروايتين.(7/286)
العبارة فيهما أولا وكون المسلمين قد صاروا بالقرآن من الذين أوتوا الكتاب بالمعنى العام ثانيا. فضلا عن أن كل ما فيه تلقين أخلاقي واجتماعي في القرآن بالنسبة للسابقين يصحّ أن يكون فيه مثل ذلك للمسلمين مما ذكرناه في مناسبات كثيرة ومماثلة.
ولقد احتوت كل من الآيتين أمرين من ذلك ففي الأولى:
أولا: نعي على نبذ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب ببيان ما فيه وعدم كتمانه.
ثانيا: نعي على إساءتهم استعماله في ما يعود عليهم بالمنافع العاجلة والأغراض الخسيسة.
وفي الثانية:
أولا: نعي على الذين يزهون ويتبجحون بما يأتونه.
وثانيا: نعي على الذين يحبون أن ينالوا الحمد على شيء لم يفعلوه.
والتلقين يدور في نطاق سلبي ونطاق إيجابي معا من حيث إنه يشنّع على ما تنعى عليه الآيتان من أفعال وأخلاق ويستنكرها من جهة ويلزم الذين أوتوا الكتاب ببيان ما أوتوه والالتزام به قولا وعملا من جهة أخرى.
والمتبادر أن جملة وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ تعبير أسلوبي بمعنى أن الذين أوتوا الكتاب صاروا تلقائيا ملزمين ببيان ما فيه للناس وعدم كتمانه ثم العمل به. وقد يزيد هذا من عظم مسؤوليتهم وخطورة تصرفهم ومواقفهم سلبا وإيجابا.
ولقد روى الخازن قولا لأبي هريرة جاء فيه: «لولا ما أخذ الله عزّ وجلّ على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا الآية» . كما روي عن الحسن بن عمارة قال: «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني فقال أما علمت أني تركت الحديث فقلت إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. فقال(7/287)
حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال فحدثني أربعين حديثا» . وفي هذا تساوق مع ما قررناه من المتبادر من الجملة. وفيه تفسير لجملة أُوتُوا الْكِتابَ بمعنى (أوتوا العلم) أيضا وهو تفسير سديد مؤيد بما جاء في القرآن من ترادف بين الكلمتين في آيات كثيرة منها ما ورد في سور سبق تفسيرها. ويسوغ القول إن الذين أوتوا العلم إطلاقا مخاطبون بما في الآيات من تلقينات إيجابية وسلبية. ويكون فيها والحالة هذه تلقينات متصلة بآداب العلم والعلماء وواجباتهم وسلوكهم شخصيا واجتماعيا وخلقيا وعلميا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض أحاديث نبوية فيها ما يفيد أن هذا المفسر قد أخذ بذلك التفسير واعتبر ما في الآيات تلقينات شاملة للعلماء وآدابهم وواجباتهم وسلوكهم وهو متسق مع ما قلناه آنفا. من ذلك حديث قال إنه مروي بطرق عديدة. وقد رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «1» .
ولقد تطرق رشيد رضا في سياق تفسير الآية [187] إلى تزلف العلماء لأصحاب السلطان ومداهنتهم لهم. وما في ذلك من تورّط في الارتكاس في ما نصّت عليه الآية. وأورد بعض الأحاديث منها حديث عن أنس نعته بالمشهور.
وقال رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الحلية وقال السيوطي إن له شواهد فوق الأربعين والراجح أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء فيه:
__________
(1) التاج ج 1 ص 58، ونورد في هذه المناسبة حديثين في الصحاح روى أحدهما الشيخان عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فإنّ الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه» . وروى ثانيهما الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فربّ مبلغ أوعى من سامع، وفي رواية نضّر الله امرأ سمع منّا حديثا فحفظه حتى يبلغه فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه وربّ حامل فقه ليس بفقيه» . التاج ج 1 ص 59 و 60.(7/288)
«العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم» «1» . وحديث عن ابن عباس عن النبي قال نقلا عن السيوطي إنه رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات جاء فيه: «إنّ أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك. كما لا يجتنى من القتاد إلّا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلّا الخطايا» . وحديث رواه معاذ بن جبل وأخرجه الحاكم جاء فيه: «إذا قرأ الرجل القرآن وتفقّه في الدين ثم أتى باب السلطان تملّقا إليه وطمعا بما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنّم» . وحديث رواه الديلمي جاء فيه:
«سيكون في آخر الزمان علماء يرغّبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزّهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون» .
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولكن ما فيها من حيث الموضوع لا يخلو من الحق والسداد. ومع ذلك فإن الموضوع يتحمل شيئا من البيان. فالعلماء طائفة مهمة من المسلمين، عليها واجبات ولها حقوق عامة وخاصة ولا بد لها بسبيل ذلك من الاتصال بأصحاب السلطان. فالمتبادر أن المكروه الذي يقع تحت طائلة نهي الآية والأحاديث هو إعانة العالم للسلطان الجائر الشاذّ المنحرف.
وإقراره على جوره وشذوذه وانحرافه ومداهنته ومخالطته وغشيانه رغم ذلك ابتغاء منافع الدنيا الخسيسة. وهناك حديث صحيح يرويه رشيد رضا في السياق وموجه إلى المسلمين جميعهم وليس إلى علمائهم يصحّ أن يكون ضابطا وقد رواه النسائي والترمذي عن كعب بن مجرة قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة فقال إنه ستكون بعدي أمراء من صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض» .
__________
(1) من كلام رشيد رضا أن ابن الجوزي قال عن هذا الحديث إنه موضوع منازعا في ذلك السيوطي الذي قال إن له شواهد فوق الأربعين.
الجزة السابع من التفسير الحديث 19(7/289)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
هذا، ومن الحق أن ننبّه على أن ما ذكره رشيد رضا من تزلّف العلماء ومداهنتهم للسلطان بسبيل المنافع والوجاهات الدنيوية على حساب كلمة الحقّ والموقف الحق ليس إلّا صورة من صور ما يمكن أن يكون منطويا في جملة فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) وإن كانت أشدّها خطورة حيث يمكن أن يكون من صورها استغفال بسطاء المسلمين وتحريف أحكام كتاب الله وسنّة رسوله أو تأويلها أو تطبيقهما تطبيقا غير صحيح بقصد إعطاء الرفض والفتاوى للناس في مختلف شؤون الدنيا والدين وبسبيل نيل المنافع والوجاهات. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
. (1) المنادي: قيل إن الكلمة تعني القرآن وقيل إنها تعني النبي والقولان سائغان وإن كان الثاني هو الأكثر ورودا.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب(7/290)
الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبّر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربّها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئاتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عزّ وجلّ لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متّسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكينة في نفوس أصحابها حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أنثى فهم سواء في ذلك وبعضهم من بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) وما بعدها إلى الآية [195]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء(7/291)
فيها «1» أن قريشا سألوا اليهود: بم جاءكم موسى؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى: بم جاءكم عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي فقالوا له: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربّه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة «2» أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبّه على ذلك بقوله إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقواها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار ويبكي خشوعا كلما تلاها «3» . وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه:
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير وهو يرويها عن الطبراني بسند متصل إلى ابن عباس.
(2) انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن والطبرسي وانظر أيضا التاج ج 4 ص 79 حيث روى ذلك الترمذي في فصل التفسير. وهذا نصّ حديثه عن أم سلمة قالت: «قلت يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة وكانت أم سلمة أولى ظعينة هاجرت إلى المدينة فأنزل الله تعالى فاستجاب لهم أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
(3) انظر تفسير الخازن وابن كثير.(7/292)
«بتّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلّى إحدى عشرة ركعة ثم أذّن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح» «1» . وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه: «أنّ عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبكت ثم قالت: كلّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي قلت إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صبّ الماء ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) إلى آخر الآيات، ثم قال ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكّر فيها» . وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه: «إنّ رسول الله كان يقرأ هذه الآيات كلّ ليلة» .
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربّه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزّمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي فإن في أسلوبها معنى التعميم
__________
(1) التاج ج 4 ص 79 ومعنى استنّ: نظف أسنانه بالسواك. [.....](7/293)
والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرّض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في التكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدنية التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [13] من سورة البقرة وقبلها(7/294)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [23] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت إن آخر آية نزلت هي الآية [195] وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة.
فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين «1» عند جملة الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالات وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» «2» .
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 198]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين من المؤمنين بالتبعية بعدم الأبوه والاغترار بما يتمتع به الكفار من أسباب القوة والبروز في الدنيا. فليس هو إلّا متاع قصير الأمد ثم يكون مأواهم جهنم في حين تكون منازل المتقين الجنات التي تجري من تحتها الأنهار وبذلك يثبت أن ما عند الله للأبرار هو خير وأفضل مما عنده للكفار.
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير.
(2) التاج، ج 1 ص 179.(7/295)
تعليق على الآية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في مشركي العرب الذين كانوا يتجرون وتكثر في أيديهم الأموال ويتنعمون بها فقال بعض المسلمين: إن أعداء الله في العيش الرخي وقد هلكنا من الجوع. كما رووا أنها نزلت في اليهود للسبب نفسه.
والروايات لم ترد في الصحاح. ومع أنها قد تكون متسقة مع مدى الآيات فالذي يتبادر لنا أنها ليست منقطعة عما قبلها. فالآيات السابقة نوّهت بالمهاجرين والمجاهدين بما نوّهت ووعدتهم بما وعدت فلا يبعد أن يكون بعض المسلمين قالوا ما ذكرته الروايات أو تساءلوا عن سببه بمناسبة تلك الآيات فاقتضت حكمة التنزيل الردّ على ذلك للتطمين والتسكين. بل لعلّ فيها ما يستأنس به على أنها كسابقاتها متصلة بالآيات التي ذكر فيها اليهود والمشركون وما يتمتعون به والتي دعي المسلمون فيها إلى توطين النفس على الصبر والتحمّل.
ولقد تكرر ما جاء في الآيات في مواضع كثيرة من القرآن المكي. وفي بعضها ما يفيد أن الكفار كانوا يحسبون ذلك دليلا على عناية الله بهم ورعايته لهم فكانت الآيات تردّ عليهم مكذبة منددة متوعدة بالعاقبة الوخيمة لهم مقررة أن ذلك فتنة واختبار واستدراج وإملاء وواعدة المؤمنين المتقين بالعاقبة السعيدة.
وينطوي في الآيات صورة واقعية من الحياة كانت تبرز في العهد المكي والعهد المدني من السيرة النبوية. فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الإشارة إليها في القرآن المكي والمدني بأسلوب فيه علاج روحي للمؤمنين وإنذار رادع للكفار.
وهذه الصورة تبرز في كل ظرف ومكان لأنها كما قلنا من صور الحياة
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.(7/296)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
بحيث يصحّ القول إن في الآيات علاجا روحيا مستمرا يمدّ المسلمين بالقوة والأمل والطمأنينة بحسن العاقبة في عالم الخلود مهما ضاقت عليهم الأحوال في عالم الفناء.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس رواه الشيخان أيضا جاء فيه: «إنّ عمر بن الخطاب قال جئت رسول الله فإذا هو في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلّقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله! فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» . والحديث ورد في فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير سورة التحريم في مناسبة ما كان من غضب رسول الله على زوجاته. وفيه صورة من صور معيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزهده التي روي من بابها صور عديدة «1» . وفي جواب النبي لعمر ما احتوته الآية من تلقين ومعالجة. ولا نرى فيه تعارضا مع قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ
الأعراف [32] وفي سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [87] وإنما الصورة كما قلنا صورة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وزهده لما هو بسبيله من مهمة عظمى رأى أنها تقتضي منه التفرّغ لها والزهد في ما عداها «2» .
[سورة آل عمران (3) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) .
__________
(1) التاج، ج 4 ص 239- 241. والأهب هي أكياس جلد توضع فيها أشياء المعيشة.
(2) انظر صور معيشة رسول الله وزهده في أحاديث عديدة في التاج ج 5 ص 160- 164.(7/297)
عبارة الآية واضحة. وفيها تقرير تنويهي بوجود فريق من أهل الكتاب يؤمنون بالله وبالقرآن كما يؤمنون بالكتب السابقة التي أنزلت على أنبيائهم إيمانا مخلصا فلا يحرفون ولا يتلاعبون ولا يبيعون آيات الله بالثمن البخس. فلهؤلاء عند الله الأجر الذي يستحقونه وهو سريع الحساب يؤدي إلى صاحب الحق حقه بدون مطل ولا إمهال.
وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزول هذه الآية وفيمن عنته.
منها أنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة ومن آمن من قومه بالرسالة النبوية. فإن النبي لما بلغه موت النجاشي دعا إلى الصلاة عليه فقال المنافقون إنه يصلي على رجل من غير دينه فنزلت. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود وغيره من أفراد اليهود الذين آمنوا بالرسالة المحمدية. ومنها أنها نزلت فيمن آمن بهذه الرسالة من أهل الكتاب عامة «1» .
والروايات لم ترد في الصحاح. والآية على كل حال تحتوي تقرير حقيقة واقعية تكررت الإشارة إليها في الآيات المكية والمدنية وهي إيمان وتصديق أشخاص عديدين من أهل الكتاب نصارى ويهود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم واندماجهم في الإسلام وإخلاصهم كل الإخلاص. وقد أوردنا نصوص الآيات في مناسبات سابقة.
ويتبادر لنا أن الآية استهدفت مع تقرير تلك الحقيقة الاستدراك على ما جاء في الآيتين [186- 187] من تنديد بأهل الكتاب الذين يناوئون الدعوة النبوية ويؤذون المسلمين ويكتمون ما عندهم من بينات الله وينبذون بذلك الميثاق الذي أخذه عليهم بيان ما في كتبهم ثم تنبيه المسلمين العرب المتسائلين تساؤل العجب الذي أشرنا إليه في مناسبة الآية السابقة إلى كونهم ليسوا وحدهم الذين آمنوا وصدقوا واستجابوا وإن من أهل الكتاب من فعل مثلهم، وإن من شأن ذلك أن يبعث فيهم السكينة والثبات والصبر في إسلامهم ومواقفهم والأمل في انتشار دين الله وفي تمكّنهم في الأرض ويجعلهم لا ينخدعون بما يرونه من قوة الكفار
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.(7/298)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وثرواتهم إذ أن ذلك إلى انتقاص وزوال. وبهذا التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تبدو صلة الآية بسابقاتها وبالسياق جميعه واضحة. وفي الآية التالية ما يؤيد هذا التوجيه أيضا على ما يتبادر منها.
ومما يحسن التعقيب به أن تلك الحقيقة التي قررتها الآية قد انطوت على حقيقة أخرى وهي أن الرسالة المحمدية قد استجيب لها من مختلف الملل والنحل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولقد احتوى القرآن آيات عديدة تقرر أن الذين لم يستجيبوا إليها كانوا متأثرين بأهوائهم ومطامعهم الخاصة سواء منهم الكتابيون والعرب المشركون مما شرحناه وأوردنا شواهده في سياق تفسير سور فاطر والفرقان والشورى.
[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
. (1) صابروا: غالبوا أعداءكم بالصبر.
(2) رابطوا: أصل الرباط هو إعداد الخيل والاستعداد الدائم للحرب.
ومعنى الكلمة هنا هو الأمر بالاستعداد الدائم واليقظة الدائمة والمرابطة للعدو.
وفي هذه الآية أمر للمسلمين بالصبر على دينهم ومغالبة أعدائهم بالصبر والمرابطة مع الاستعداد الدائم له وتقوى الله والتزام حدوده. ففي ذلك ضمان فوزهم وفلاحهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة ومعقبة عليها فسبيل الانتصار على الأعداء الكفار هو هذا الذي أمرت به الآية.
فإذا فعله المسلمون هان عليهم أعداؤهم وتمّت لهم الغلبة عليهم. فلا محل للاغتمام بما هم عليه من قوة خداعة وإنما الواجب هو التحلّي بالصفات(7/299)
والأفعال الضامنة للتغلّب على هذه القوة.
والآية مع اتصالها بسابقاتها جملة تامة في تنبيه المسلمين بصورة عامة تنبيها مستمر المدى والتلقين إلى ما يضمن لهم الفوز والفلاح والقوة والاستعلاء من الصبر والثبات وتقوى الله والاستعداد الدائم للعدو. وهو تنبيه رائع وشامل.
وقد جاءت خاتمة قوية للسورة. وطابع الختام المألوف في كثير من السور بارز عليها.
هذا، ومع أن شرحنا للآية منطبق على شرح جمهور المفسرين لها «1» فإن منهم من روى بعض الأحاديث التي تفيد أنها في صدد الصلاة أيضا حيث روى ابن كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أقبل عليه يوما فقال له: يا ابن أخي أتدري فيم نزلت هذه الآية؟ قال: لا. قال: أما أنه لم يكن في زمان النبي غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلّون الصلوات في أوقاتها ثم يذكرون الله فعليهم نزلت أن: اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما عليكم لعلكم تفلحون. وأورد ابن كثير عقب هذا حديثا عن أبي أيوب جاء فيه: «وفد علينا رسول الله فقال هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر، قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال:
إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة وهو قول الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) » «2» ، وهذان الحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد قال ابن كثير عن الحديث الأخير إنه غريب جدا من الطريق المروي عنه. والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث لو صحّ فإنه يحتمل أن يكون بمثابة التمثيل والتشبيه ولا سيما أن الآية كانت نازلة قبل صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم. ويلمح في الحديث المروي عن أبي
__________
(1) انظر تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والبغوي والزمخشري.
(2) روى ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة بينها بعض الاختلاف في العبارة مع الاتفاق في الجوهر.(7/300)
هريرة أنه يفسر الرباط بما صار يفهم منه في زمن الفتوح في عهد الخلفاء الراشدين وبعده وقد عاش إلى زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان.
وعلى كل حال فما زلنا نرجح أن معنى الآية هو تأويل جمهور المفسرين الذي تابعناهم فيه. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل المرابطة وأجرها والحثّ عليها. ويستفاد منها أنها متصلة بالجهاد الحربي في سبيل الله وظروفه. وأكثر من استوعبها ابن كثير في سياق تفسير الآية. ومنها ما روي بصيغ متقاربة من طرق مختلفة ومنها ما ورد في الصحاح أيضا. من ذلك حديث رواه البخاري عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» «1» . وحديث رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«عينان لا تمسّهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«كلّ الميت يختم على عمله إلّا المرابط فإنّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمّن من فتّان القبر» «3» . وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله أفضل أو خير من صيام شهر وقيامه. ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة» «4» ولفظ النسائي: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه من المنازل» «5» .
وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه وفي الأحاديث صور من السيرة النبوية تفيد أن الرباط الجهادي كان مما يمارس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها تلقينات مستمرة المدى في وجوب التيقظ والاستعداد والمرابطة في سبيل الله تجاه أعداء الإسلام والمسلمين وعدوانهم الواقع أو المرتقب.
__________
(1) التاج ج 4 ص 299 و 300.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(7/301)
سورة الحشر
جلّ هذه السورة في صدد إجلاء فريق من اليهود عن المدينة. وما كان من مواقف المنافقين فيه وتشريع للفيء ومداه وما كان من تشادّ حوله. وفيها أكبر مجموعة لأسماء الله الحسنى والمرجح أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة حسب ما جاءت في المصحف.
والمفسرون وكتّاب السيرة متفقون «1» على أن الفريق اليهودي هم بنو النضير إحدى قبائل اليهود الإسرائيليين الذين كانوا يقيمون في المدينة. ومتفقون «2» كذلك على أن حادثهم وقع بعد نحو خمسة أشهر من وقعة أحد. والمعقول أن يكون ترتيبها بعد سورة آل عمران التي احتوت مشاهد وظروف هذه الواقعة. غير أن الذين يروون ترتيب السور المدينة حسب النزول يجعلونها الخامسة عشرة ويجعلون سورة الممتحنة التي احتوت الإشارة إلى أحداث وقعت بعد صلح الحديبية مكانها بعد سورة آل عمران ثم يجعلون بعد الممتحنة سورة الأحزاب التي احتوت الإشارة إلى وقعتي الأحزاب أو الخندق وبني قريظة اللتين وقعتا بعد مدة ما من وقعة بني النضير وليس في هاتين السورتين ما يبرر تقديمهما على سورة الحشر وليس في سورة الحشر ما يبرر تأخيرها عنهما بل وعن غيرهما حتى تكون الخامسة عشرة في الترتيب. ومن العجيب أن رواة الترتيب لم ينتبهوا إلى ما في ذلك من شذوذ واستحالة. ويبدو لنا أنهم خلطوا بين سورتي الحشر والممتحنة وبدلا من أن
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري وابن كثير وطبقات ابن سعد ج 3 ص 98- 100، وابن هشام ج 3 ص 191- 198. [.....]
(2) المصدر نفسه.(7/302)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
يجعلوا الحشر بعد آل عمران جعلوا الممتحنة غلطا «1» .
ولما كان هذا عندنا في درجة اليقين لأنه قائم على واقع متفق عليه فقد رأينا أن نخلّ بالترتيب الذي تابعنا فيه المصحف الذي اعتمدناه وجلّ روايات الترتيب معا، فنجعل سورة الحشر بعد آل عمران بدلا من سورة الممتحنة ونقدم سورة الفتح التي يؤخرها الرواة كثيرا حتى يجعلوها الثانية والعشرين أو السادسة والعشرين والتي نزلت في حادث صلح الحديبية بدون أي مبرر ثم نجعل بعدها سورة الممتحنة لأن ذلك يتسق مع التسلسل الزمني لوقائع السيرة النبوية. وهو الذي قصدنا إليه حينما اعتزمنا على جعل تفسيرنا للسور وفق روايات ترتيب النزول.
هذا، ويسمي المفسرون سورة الحشر باسم بني النضير عزوا إلى ابن عباس وغيره «2» لأنها نزلت في صدد وقعتهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
. (1) من حيث لم يحتسبوا: من حيث لم يظنوا ويحسبوا حسابه.
__________
(1) انظر كتابنا «سيرة الرسول» ج 2 ص 9، و «الإتقان» ج 1 ص 10- 12.
(2) انظر تفسيرها في تفسير البغوي وابن كثير والخازن.(7/303)
الآية الأولى من المطالع التي تكررت في عدّة سور مدنية كمقدمة تمهيدية لما بعدها وقد جاءت هنا كذلك. أما مطلع سورة الأعلى فليس من هذه المطالع لأنه أمر بالتسبيح.
وقد تضمنت الآيات تقرير ما يلي:
1- إن الله الذي يسبح له ما في السموات والأرض القوي الجانب الحكيم التقدير هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من موطنهم لأول الحشر في حين لم يكن المؤمنون يظنون أن يتم ذلك وكان المخرجون يظنون أن حصونهم ما نعتهم من الله. ولكن بلاء الله أتاهم من حيث لم يخطر ببالهم ويحسبوا حسابه وقذف في قلوبهم الرعب حتى إنهم خربوا أو هدموا بيوتهم بأيديهم فضلا عن أيدي المؤمنين. وإن في ذلك لعبرة يعتبر بها أولو الأبصار والعقول.
2- لقد اقتضت حكمة الله أن يكتفى بإخراجهم وجلائهم مع أنهم مستحقون لعذاب أشدّ في الدنيا. ولسوف يكون لهم في الآخرة عذاب النار. وذلك بسبب ما كان منهم من مشاقة لله ورسوله ومناوأة وعداء، ومن يفعل ذلك يتعرض لغضب الله الشديد العقاب.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير
والمفسرون وكتّاب السيرة «1» متفقون على أن هذه الآيات نزلت في صدد إجلاء يهود بني النضير الذين كانوا مقيمين في إحدى ضواحي المدينة. وعلى أن الحادث كان بعد وقعة أحد وقبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وأسلوب الآيات يدل على أنها جاءت للعظة والعبرة وتذكير المسلمين بما
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري وانظر ابن هشام ج 3 ص 191 وما بعدها.(7/304)
يسّر الله لهم بحيث لو لم يكن تيسيره لما تمّ لهم ما تمّ. ولم تأت للسرد القصصي وهو شأن سائر حوادث الجهاد في القرآن. ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت تشريع تخصيص الفيء جميعه لبيت مال المسلمين والفئات المحتاجة بأسلوب قوي حاسم فمن السائغ أن يقال إن هذه الآيات قد جاءت بأسلوبها الذي جاءت به لتبرير ذلك التشريع.
ويتضمن هتاف الآيات فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) بشرى ربانية تمدّ المسلمين بالروح والقوة والأمل في ظرفهم الحاضر المشابه للظروف الذي كان فيه المسلمون تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم. حيث يحتلّ الذين كفروا من أهل الكتاب الصهيونيون اليهود جميع فلسطين عدوانا واغتصابا بعد أن شرّدوا معظم أهلها عنها بمساعدة وتأييد طواغيت الاستعمار الطامعين بالسيطرة على بلاد العرب وثرواتها.
فالمسلمون الآن يظنون كما كان يظن المسلمون الأولون أنهم غير قادرين على استرداد الأرض المغتصبة. والمغتصبون يظنون أنهم لن يغلبوا ولن يقدر المسلمون على استرداد ما اغتصبوه منهم بسبب ما هم عليه من قوة تمدهم بها أميركا طاغوت الاستعمار الأكبر اليوم وبسبب تأييد هذا الطاغوت لهم. ولكن الله أتى الذين كفروا من أهل الكتاب الأعداء من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وأجلاهم عن الأرض المقدسة. وهو قادر على أن يفعل ذلك مع الصهيونية وأنصارهم الطغاة المعتدين. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن على المسلمين أن يقوموا بما أوجبه عليهم كتاب الله في آيات عديدة أخرى فيتضامنوا أشد تضامن ويتخلوا عن ما هم فيه من تمزّق وتخاذل وتهاون وكل هذا مما مكّن عدوهم وأنصاره من بلادهم ولا يهنوا في كفاحه ويعدوا له كل ما يستطيعون من قوة وقد منحهم الله نعمه العظيمة التي فيها قوّة عظمى لو عرفوها وقدروها واستعملوها حق معرفتها وقدرها واستعمالها.
أما حادث إجلاء بني النضير فخلاصة ما ذكرته روايات السيرة والتفسير «1»
__________
(1) انظر الكتب السابقة الذكر، وانظر أيضا طبقات ابن سعد، ج 3 ص 98- 100.
الجزة السابع من التفسير الحديث 20(7/305)
هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مع بعض أصحابه إلى حي بني النضير ليستعين بهم على ديّة قتيل كان بين قومه وبين النبي، وبين قومه وبين بني النضير في الوقت نفسه حلف وعهد وجوار جريا على التقاليد الجارية فتظاهروا بالاستعداد لتلبية طلبه وقالوا لبعضهم إنكم لن تجدوا فرصة أحسن من هذه الفرصة لاغتياله وأخذوا يدبرون طريقة لذلك فارتاب النبي في حركتهم فانسحب بسلام وأرسل إليهم في اليوم التالي إنذارا بالجلاء في ظرف عشرة أيام على أن يأخذوا أموالهم المنقولة ويقيموا وكلاء على أراضيهم وبساتينهم. وكانوا حلفاء لقوم كبير المنافقين عبد الله بن أبي فاستشاروهم فحرضوهم على الرفض ووعدوهم بالنصر فاغتروا ورفضوا فحاصرهم النبي وضيّق عليهم وأمر بقطع بعض نخيلهم إرغاما وإرهابا. ولم يجد المنافقون من حلفائهم وفاء بما وعدوهم به من النصر فاستولى الرعب عليهم ورضوا بالجلاء بشروط أشدّ من الأولى بسبب تمردهم وعنادهم وهي تسليم سلاحهم وتنازلهم عن أراضيهم وبساتينهم وحمل منقولاتهم فقط.
وفي آيات آتية من السورة إشارة إلى ما كان من قطع النبي لبعض نخيلهم وإلى ما كان من مواقف المنافقين حلفائهم حيث يتسّق ذلك مع الروايات التي أوجزناها.
ومما روته الروايات أن بني النضير أرادوا إظهار الزهو والخيلاء وهم يخرجون حيث كانت قيانهم يعزفن وأصحاب الدفوف والمزامير يضربون بدفوفهم ومزاميرهم وأنهم هدموا بيوتهم وحملوا سقفها وعضائدها وأبوابها وأن اثنين منهم أسلما فبقيا حيث هم سالمة لهم أموالهم وأن منهم من ذهب إلى بلاد الشام ومنهم من ذهب إلى خيبر فأقام مع يهودها، ومن هؤلاء زعماؤهم الذين تزعموا يهود خيبر. وقد هدموا بيوتهم ونزعوا الأعمدة والأبواب الخشبية منها وحملوها لئلا ينتفع بها المسلمون، جاء المسلمون فأتموا تخريب هذه البيوت وهذا ما تضمنته جملة بُيُوتَهُمْ(7/306)
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
على ما رواه المفسرون.
ومما روته الروايات كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم احتاز من سلاحهم ثلاثمائة وأربعين سيفا وخمسين درعا وخمسين بيضة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين ورواياتهم لجملة لِأَوَّلِ الْحَشْرِ «1» فقيل إنهم سألوا النبي إلى أين نخرج فقال لهم إلى أول الحشر في الشام وقيل إن معناها (هذا هو الحشر الأول أي الجلاء الأول ويعقبه حشر ثان وهو ما تمّ في زمن عمر بن الخطاب) وقيل إن معناها أنهم لم يلبثوا أن استسلموا وقبلوا الخروج لأول ما حشر النبي عليهم واستعدّ لقتالهم. ولعلّ التأويل الأخير هو الأوجه لأنه لم يقع قتال بينهم وبين المسلمين، وهو المتّسق مع روحه الآية الثانية التي هي بسبيل تقرير ما كان من تيسير الله بخروجهم بسهولة وسرعة لم تكونا متوقعتين لأحد. وتأويل الجملة بأنها أول جلاء يهودي يتناقض مع ما هو متفق عليه من أن بني قينقاع كانوا أول من أجلي من اليهود على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال.
وجملة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ واسعة المدى والشمول وتدل على أنه كان من يهود بني النضير مواقف عديدة مؤذية ومزعجة تجاوزت مواقف الجدل والمناظرة في شؤون الدعوة بل وتجاوزت مواقف التشكيك والاستهتار والاستخفاف والطعن وأن محاولتهم اغتيال النبي كانت السبب المباشر. ولقد كان كعب بن الأشرف منهم وكان شاعرا فكان يهجو النبي والمسلمين بقصائده المقذعة ويشبّب بنسائهم حتى إن النبي انتدب المسلمين إلى اغتياله فلبّى الطلب بعضهم وذهبوا فاغتالوه. وكان ذلك قبل هذه الوقعة «2» .
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير إلخ.
(2) ابن سعد ج 3 ص 70- 72، وابن هشام ج 2 ص 431 وما بعدها.(7/307)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
[سورة الحشر (59) : آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
. (1) لينة: نخلة، وقيل إنها نوع خاص من جيد النخل. وقيل إنها غرسة النخل الفتية.
الخطاب في الآية موجّه إلى النبي والمؤمنين على سبيل تبرير ما فعلوه من قطع بعض نخيل بني النضير لإرهابهم وإرغامهم. فهي تقرر أن ما قطعوه إنما قطعوه بإذن الله وما أبقوه إنما أبقوه بإذن الله. وما كان من إذن الله إنما كان لخزي العاصين المتمردين وإرغامهم.
والآية استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر. وقد روي أن بني النضير عيّروا النبي بتقطيعه النخل وأن المنافقين من حلفائهم شاركوهم في هذا التعبير فاقتضت حكمة التنزيل إنزالها لتثبّت النبي والمسلمين وللردّ على اليهود والمنافقين. وقد يكون في التبرير القرآني إجازة لأي عمل من نوعه يؤدي إلى إرغام العدو حينما تقوم حالة حرب وعداء بين الكفار والمسلمين والله تعالى أعلم.
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 7]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
. (1) أفاء: جعله فيئا أو ساقه.
(2) أوجفتم: هيّأتم، ومعنى جملة فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ(7/308)
لم تسيروا مسيرة تحتاج إلى خيل وركائب ولم تقاسوا حربا ولا مشقة في سبيل ما أفاء الله عليكم.
(3) كيلا يكون دولة بين الأغنياء: لئلا يكون المال العائد من هذا الفيء مما يصحّ أن يتداوله الأغنياء.
تضمنت الآيات:
1- مقدمة تبريرية لتشريع الفيء. فأملاك وبساتين اليهود المجليين إنما هي هبة الله وتيسيره لرسوله. ولم يكن على المسلمين في إحرازها مشقة وكلفة من حرب وإعداد خيل ومؤونة، وقد مكّن الله رسوله من ذلك وهو الذي يسلط رسله على من يشاء وهو القدير على كل شيء.
2- تشريعا بشأن هذه الأملاك والبساتين: فما أفاء الله على رسوله والحالة هذه فهو لله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وليس للأغنياء فيه نصيب حتى لا تبقى الثروة محصورة التداول بين الأغنياء.
3- تدعيما لهذا التشريع: فعلى المؤمنين أن يسمعوا ويطيعوا. فما آتاهم الرسول أخذوه. وما نهاهم عنه ومنعهم منه وجب عليهم أن ينتهوا عنه ويمتنعوا.
وعليهم بتقوى الله والوقوف عند أوامره. فإنه شديد العقاب على من يخالف ويتجاوز حدوده المرسومة. والجملة الأخيرة تتضمن تقرير كون ما يفعله الرسول من مثل ذلك هو من وحي الله وأمره.
تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ... إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء
وقد روى المفسرون «1» أن بعض المسلمين طالبوا النبي بقسمة أملاك
__________
(1) انظر تفسير البغوي والخازن والطبري. والمفسرون الأولان ذكرا (بعض المسلمين) أما الطبري فقد روى أن الذين نكلوا في الموضوع وطلبوا قسمة الفيء هم جماعة من الأنصار.(7/309)
وبساتين بني النضير أسوة بغنائم بدر وغيرها أي بعد إفرازه الخمس لبيت المال والمعوزين من المسلمين، فكان رأي النبي أن جميعها لبيت المال والمعوزين لأنهم لم يوجفوا على إحرازها خيلا ولا ركابا. وأن الآيات قد نزلت بسبيل تأييد رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
والرواية محتملة الصحة كما هو ظاهر مع التنبيه إلى أن أسلوبها القوي الحاسم الذي تضمن فيما تضمنته إنذارا شديدا يدل على أن الذين طالبوا بالقسمة كانوا متشددين في موقفهم. وفي ذلك مشهد من مشاهد السيرة النبوية والتشريع القرآني وظروفه. بل وأنه ليتبادر لنا والله أعلم أن جميع هذا الفصل بل السورة جميعها نزلت بسبيل ذلك.
وأسلوب الآية الثانية يجعل التشريع فيها عاما شاملا لكل ما يدخل في حوزة رسول الله وخلفائه من بعده بالتبعية من أموال العدو بدون تكلّف المسلمين نفقة ومشقة ليكون لبيت المال وينفق على مصالح الإسلام والمسلمين العامة وعلى فقراء المسلمين ومحتاجيهم معا.
وهذا ثاني تشريع قرآني مالي ورسمي بعد تشريع الغنائم الحربية. وقد عرف باسم الفيء اقتباسا من نصّ الآيات وروحها. ولقد نبهنا على ما في تشريع الغنائم من خطورة وجلال. وتشريع الفيء أعظم خطورة وأبعد مدى لأنه يتضمن تخصيص جميع ما يأتي من هذا المورد للصالح العام وفقراء المسلمين.
والجهات والفئات التي خصص لها الفيء هي التي خصص لها خمس الغنائم في آية سورة الأنفال [41] ولقد كتبنا تعليقا وافيا على آية سورة الأنفال وأوردنا الأحاديث والروايات التي أورد المفسرون كثيرا منها أيضا في سياق آيات الفيء هذه. وكل ما ذكرناه في تعليقنا المذكور يصح أن يساق هنا فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والزيادة.(7/310)
تعليق على جملة وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
مع أن هذه الجملة جاءت لتدعم تشريع الفيء الذي احتوته الجملة السابقة لها ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فإنها جاءت في صيغة مطلقة فصارت تشريعا عام الشمول بوجوب اتباع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسننه القولية والفعلية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد أكد هذا في آية أقوى في سورة النساء وهي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) بالإضافة إلى آيات أخرى فيها تدعيم مثل آيات آل عمران [31 و 32] والنساء [59 و 68] والنور [52] والأحزاب [71] والفتح [17] . والجملة التي نحن في صددها والآيات التي أوردناها أو أشرنا إلى أرقامها تتضمن إيذانا من الله عزّ وجلّ بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه عن الأمر إلّا بما هو صالح وخير وعن النهي إلّا بما هو ضارّ وباطل.
وتنبيه على أن هذا ليس من شأنه أن يتناقض مع ما تضمنته بعض الآيات من عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم على بعض ما فعله. فهذا كان منه اجتهادا بأنه خير وصالح. ولم يكن يعلم ما هو الأولى في علم الله بدون وحي. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى كثيرا باجتهاد منه فكان القرآن يسكت عن ذلك مقرّا أو يؤيده نصّا أو يعاتب عليه ويوحي بما هو الأولى حسب مقتضى حكمة الله على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وهناك أحاديث نبوية رواها أصحاب الصحاح في دعم ذلك وتوضيحه.
من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي وأورده الأئمة والمفسرون في سياق الجملة التي نحن في صددها قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم(7/311)
كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» »
. وحديث أورده الخازن في سياق الجملة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول ما أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» «2» .
والأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ميسور بالاستماع منه والرجوع إليه شخصيا. أما بعد وفاته فقد أصبح السير واجبا وفق ما روي وصحّ عنه من أوامر ونواه وسنن قولية وفعلية.
وهذا بطبيعة الحال يستتبع وجوب التثبيت فيما ينسب إليه من ذلك. ولقد يسّر الله رجالا مخلصين لله ورسوله محّصوا ما نسب إليه من أحاديث ودونوا ما صحّ عندهم منها فصارت مرجعا عظيما من مراجع التشريع الإسلامي. ومن أهم الضوابط التي وضعها العلماء أن لا يكون بين ما نسب إليه وبين أحكام ومبادئ القرآن الثابتة والمحكمة الواضحة تعارض وتناقض. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر وينهى بما يتعارض مع الأحكام والمبادئ القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في شؤون وأحكام قرآنية تدور على الأغلب حول تخصيص ما فيه إطلاق، وتوضيح ما فيه غموض، وإتمام ما يحتاج إلى إتمام، وبيان ما سكت القرآن عن جزئياته وأشكاله وفروعه مثل عدد ركعات الصلوات وكيفياتها وأركانها ونصاب الزكاة على أنواع الأموال وبقية أنصبة الإرث التي تبقى في حالة وراثة النساء لآبائهن وإخوانهن وطقوس الحج إلخ.. إلخ.. وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة وسيأتي أمثلة أخرى في المناسبات الآتية.
__________
(1) التاج ج 4 ص 231.
(2) في التاج حديث فيه مثل هذا الحديث مع زيادة مهمة رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي. ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها.
ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» ، التاج ج 3 ص 87.(7/312)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
تعليق على جملة كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ
هذه الجملة وإن كانت في صدد منع الأغنياء من نصيب من الفيء وتداول ما يفيئه الله تعالى على المسلمين من الأعداء بين الأغنياء والأقوياء وحسب، فإنها تنطوي فيما يتبادر لنا والله أعلم على معنى جليل بعيد المدى، وهو أنه لا ينبغي أن تكون الثروة محصورة التداول في أيدي فئة قليلة من الناس، وإن من حقّ السلطان الإسلامي أن يتخذ من التدابير ما يكفل توزيعها بين أكبر فئة منهم ولو بطريق تخصيص الفقراء ببعض موارد الثروة دون الأغنياء استئناسا بالآية التي فيها هذه الجملة حيث شاءت حكمة الله أن تخصص مورد الفيء جميعه لمصالح المسلمين العامة وفئاتهم المحتاجة دون الأغنياء. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين» «1» . وعمر رضي الله عنه كان من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتبعية من أكثرهم فهما لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وروحه. ولا شك في أنه صدر في قوله هذا عما اعتقد أنه يتسق مع ذلك. ولقد تواترت الروايات إلى حدّ اليقين بأنه رتّب المرتبات لمختلف فئات المسلمين وكان يهتم كثيرا لمساعدة ونجدة المحرومين والضعفاء والفقراء «2» مما فيه توثيق لصحة صدور ذلك القول عنه.
[سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) .
__________
(1) انظر تاريخ الطبري ج 3 ص 291.
(2) انظر تاريخ عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي حيث استوعب كثيرا من أقواله وأفعاله في هذا الصدد.(7/313)
(1) الذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم: الجمهور على أن الجملة كناية عن الأنصار والدار هي دار الهجرة أي المدينة حيث كانوا مقيمين فيها وقد آمنوا قبل قدوم المهاجرين إليها.
(2) لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا: الجمهور على أن الضمير في الكلمتين الأوليين عائد إلى الأنصار وفي كلمة أُوتُوا عائد إلى المهاجرين.
ومعنى الجملة لا يشعر الأنصار بحسد أو غيرة مما أوتي المهاجرون.
(3) يؤثرون على أنفسهم: من الإيثار أي يؤثرون الغير على أنفسهم.
(4) خصاصة: فاقة وحاجة.
تعليق على الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وتبدو أنها بيان توضيحي للمستحقين للفيء من الفقراء حيث شمل أولا الفقراء المهاجرين الذين اضطروا إلى الخروج من ديارهم والتخلي عن أموالهم فيها ابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرة دينه ورسوله. وثانيا فقراء الأنصار الذين آمنوا برسالة النبي في دار الهجرة قبل أن يأتي إليها المهاجرون ورحبوا بالذين هاجروا إليهم وأحبوهم والذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان(7/314)
بهم فاقة وحاجة ولا يحسدون المهاجرين على ما أوتوا ولا يغارون منهم حيث أثبتوا أن الله قد وقاهم من الشحّ وهيأ لهم بذلك سبيل الفلاح. وثالثا فقراء المسلمين الذين آمنوا بعد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واندمجوا فيهم وكانوا يدعون الله بأن يغفر لهم ولإخوانهم السابقين عليهم بالإيمان وبأن لا يجعل في قلوبهم غلا ولا حسدا نحوهم وهو الرؤوف بعباده الذي يشملهم بسابغ رحمته.
ولقد روى المفسرون «1» ما يفيد أن المهاجرين كانوا فقراء لا أرض ولا مورد لهم وكانوا عالة على الأنصار فلما فتح الله على النبي ويسّر له أموال بني النضير شاور الأنصار واسترضاهم في النزول عن حقهم فيها حتى يقسمها على المهاجرين فيكفوهم مؤونتهم وأن الأنصار رضوا بذلك عن طيب خاطر ولم يشعروا بحسد ولا غيرة مما اعتزمه النبيّ من توزيع الفيء على المهاجرين عدا الذين في قلوبهم مرض ونفاق. وأن النبي قسّم هذه الأموال على المهاجرين فقط ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة رجال فقراء منهم. وأن الآيات بسبيل تأييد ما فعله النبي إلهاما، والثناء على الأنصار الذين تنازلوا عن حقهم.
ونحن في حيرة من هذه الروايات التي رواها معظم المفسرين عزوا إلى ابن عباس لأننا نراها متناقضة مع تقرير الآيات السابقة التي شرّعت جميع الفيء للمصالح العامة والمحتاجين لأنه تيسر بدون إيجاف خيل وركاب فلم يستحق فيه المسلمون استحقاقا ملزما كاستحقاقهم في الغنائم التي يحوزون عليها بعد قتال وإيجاف خيل وركاب ومنعت قسمته على المسلمين الميسورين. بل وتتناقض مع روح الآيات نفسها التي جاءت مطلقة وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو بأسلوب قوي أنها أرادت فقراء الفئات الثلاث معا أي السابقين من المهاجرين والأنصار والذين آمنوا بعدهم واندمجوا فيهم.
وكل ما يمكن احتماله فيما نرى وفيه توفيق بين روح الآيات وخطوط الرواية أن تكون ما آلت إليه حالة المهاجرين الاقتصادية من ضيق وحرج قد ألهمت
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(7/315)
النبي صلى الله عليه وسلم بقصر الفيء الذي تيسّر بدون إيجاف وحرب على المصالح العامة والفقراء المساكين واليتامى وأبناء السبيل وذي القربى دون الأغنياء ولم يكن من المهاجرين أغنياء وإنما كان من الأنصار وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطب هؤلاء فأظهر المخلصون وهم الأكثرية العظمى منهم الرضاء دون اعتراض وحساسية مما كان جعلهم يستحقون التنويه العظيم الذي احتوته الآية. وظلّ الذين في قلوبهم مرض منهم يشغبون وينتقدون فاقتضت حكمة التنزيل تأييد النبي بهذه الآيات والتي قبلها لتكون حاسمة للأمر وتشريعية مطلقة لأمثال الفيء فيما بعد. ولعل ما ذكرته الروايات من إعطاء النبي فقراء من الأنصار نصيبا من هذا الفيء قرينة أو دليل على ذلك.
ولقد روى الإمام أبو يوسف والإمام أبو عبيد أن المسلمين الذين فتحوا العراق طلبوا من عمر بن الخطاب أن يقسم أرض السواد العراقي عليهم فأبى وقال لهم إنه لجميع فقراء المسلمين في جميع أجيالهم حقا في ذلك استنادا إلى هذه الآيات. وأبقاها كذلك. يؤخذ ريعها من مستأجريها ويوزع على فقراء المسلمين حيث يمكن القول على ضوء هذه الرواية الواردة في أقدم كتابين وصلا إلينا لإمامين مشهورين أن عمر رضي الله عنه اعتبر الآيات توضيحا للمستحقين للفيء من فقراء المسلمين على اختلافهم سواء أكانوا من المهاجرين أم من الأنصار الأولين أم من الذين آمنوا بعد الرعيل الأول من هؤلاء وأولئك. ثم اعتبرها مستمرة الحكم بالنسبة لجميع أجيال المسلمين في مستقبل الأيام. وصيغة الآيات وعطف بعضها على بعض ومجيئها بعد ذكر مصارف الفيء وخاصة الفئات المحتاجة من المسلمين مما يدعم هذا الاعتبار.
ونقف إزاء تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنقول إنه صورة من ما كان يفهم كبار أصحاب رسول الله من التوجهات القرآنية. وإنه عمل فريد رائع في بابه فيه تدشين لما يمكن أن يسمى أملاك الدولة التي ترصد على فقراء المسلمين تطبيقا عمليا لتشريع مساعدة هؤلاء الفقراء التي جعلت من نظام الدولة الإسلامية على ما تلهمه الآيات. وعلى ما شرحناه في سياق شرحنا آيات خمس(7/316)
الغنائم والزكاة في سورتي الأنفال والمزمل.
ويتبادر لنا أن عمر رضي الله عنه اعتبر فقراء المسلمين من الفئات الثلاث بمثابة (مساكين) في معنى الكلمة الذي جاء شرحها في حديث نبوي رواه الشيخان عن أبي هريرة «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكنه الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» . ويتبادر لنا كذلك أن عمر رضي الله عنه لا بدّ من أنه لحظ جمع مصارف الفيء وكان ينفق من إيراد السواد العراقي عليها حسب ما تقتضيه المصلحة وأن ما روي إنما كان لتطبيق مدى الآية وعدم توزيع الأرض على الفاتحين وإبقائها بمثابة الفيء والمصارفة والله تعالى أعلم. والمستفاد مما ذكره أبو عبيد أيضا أن عمر رضي الله عنه سلك في أرض الشام المفتوحة ما سلكه في أرض العراق.
هذا، ووصف الفئات الثلاث المخلصة في حدّ ذاته وصف قوي محبب وجدير بالتأمل والإجلال ويدل على ما كان من قوة إخلاص السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لدين الله ورسوله وتحمّلهم معظم التضحيات في سبيلهما فاستحقوا ثناء الله العظيم في هذه الآيات وفي آية التوبة هذه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) كما استحقوا ثناء رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة وردت في الكتب الخمسة منها حديث رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه: «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون» «1» . وحديث آخر رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه: «الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «2» . وحديث رواه
__________
(1) انظر التاج، ج 3 ص 270- 272. [.....]
(2) المصدر نفسه.(7/317)
الأربعة عن أبي سعيد جاء فيه «لا تسبّوا أحدا من أصحابي فإنّ أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» «1» وحديث رواه الترمذي عن بريدة جاء فيه: «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» «2» وحديث رواه الشيخان عن البراء جاء فيه: «الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق فمن أحبّهم أحبّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» «3» . وحديث رواه الشيخان عن أنس جاء فيه: «آية الإيمان حبّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار» «4» . وحديث رواه الشيخان عن أنس أيضا جاء فيه يخاطب امرأة من الأنصار: «والذي نفسي بيده إنّكم لأحبّ الناس إليّ، ثلاث مرات» «5» . وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «لو أنّ الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» «6» وحديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم جاء فيه: «اللهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ولنساء الأنصار» «7» .
وهذه الأحاديث خلاف أحاديث كثيرة في عدد كبير بأعيانهم من المهاجرين والأنصار.
ونقول استطرادا: أولا: إن كلمة (صحابي) مع أنها تطلق من قبل المسلمين على كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فإن كلمة (أصحابي) في هذه الأحاديث تدلّ في مقامها على أن المقصود منهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في حياته رضي الله عنهم. وثانيا: إن
__________
(1) انظر التاج، ج 3 ص 270- 272.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر التاج ج 3 ص 341- 344.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.(7/318)
اسم (المهاجر) يطلق على من هاجر من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة فقط. لأن هناك حديثا نبويا جاء فيه: «لا هجرة بعد الفتح» وإن المهاجرين أنواع، نوع هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي إلى المدينة ثم جاؤوا منها إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة في ظروف هجرة النبي إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة بعد مدة ما وقبل فتح مكة وظلّ أثناء هذه المدة مشركا. وإن كلمة (السابقين الأولين) بالنسبة للمهاجرين تطلق على النوعين الأولين فقط. وثالثا: إن الأنصار أيضا أنواع، نوع آمن قبل هجرة النبي إلى المدينة وهم الذين ذكروا في الآية الثانية التي نحن في صددها. ونوع آمنوا بعد هجرته. وإن كلمة (السابقين الأولين) بالنسبة للأنصار تطلق على النوع الأول فقط.
هذا، ولقد روى الشيخان والترمذي كسبب لنزول جملة وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال ألا رجل يضيّفه هذه الليلة يرحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته ضيف رسول الله لا تدّخريه شيئا. قالت والله ما عندي إلّا قوت الصبية. قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم وتعالي فاطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله فقال لقد عجب الله أو ضحك الله عزّ وجلّ من فلان وفلانة فأنزل الله الجملة» «1» . والجملة جزء من آية والآية جزء من سياق. وكل ما يمكن أن يكون أن النبي تلا الآية حينما فعل الأنصاري وامرأته ما فعلاه فالتبس الأمر على الرواة.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أنس قال: «قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير. فقد كفونا المئونة وأشركونا في المهنأ. حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلّه» . وروى البخاري عن أنس قال: «دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين
__________
(1) انظر التاج، ج 3 ص 341- 344.(7/319)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قالوا لا إلّا أن نقطع لإخواننا المهاجرين مثلها» . وروى البخاري عن أبي هريرة قال: «قالت الأنصار أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا أتكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا» . وأورد ابن كثير حديثا جاء فيه:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا أموالنا قطائع بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك قالوا وما ذاك يا رسول الله قال هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسموهم الثمر فقالوا نعم يا رسول الله» . ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجال المهاجرين وبين رجال من الأنصار فكان مما فعله الأنصار تجاه من آخاهم معهم النبي من المهاجرين أن قاسموهم بيوتهم وأشركوهم في أعمالهم وأموالهم حتى لقد طلّق بعضهم بعض زوجاته لييسر لأخيه المهاجر التزوّج بها على ما جاء في كتب السيرة والتفسير. وكل هذا بوادر مؤيدة لما وصف الله به الأنصار في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ.
وفي صدد الجملة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أورد ابن كثير حديثا عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنّم في جوف عبد أبدا. ولا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب أبدا» . وحديثا عن جابر بن عبد الله رواه مسلم أيضا قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة واتّقوا الشحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلّوا محارمهم» . وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كل أمر.
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
.(7/320)
(1) جدر: جمع جدار والراجح أن الكلمة هنا بمعنى السور أو الحواجز الحجرية التي تكون حول الدور.
(2) بأسهم بينهم شديد: عداوتهم فيما بينهم شديدة.
(3) تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى: تظنهم في ظاهرهم متّحدين مع أن قلوبهم متخالفة متفرّقة.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [17]
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية:
1- فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولّوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثمّ يتخلّى عنه قائلا له إني بريء منك إني أخاف الله. وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
الجزء السابع من التفسير الحديث 21(7/321)
2- ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قرارهم المحصنة أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون. وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبي ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشدّ مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [15] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر «1» . والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير قَبْلِهِمْ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود ولأن المشركين عادوا فكرّوا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا
__________
(1) انظر الطبري.(7/322)
حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين إن جملة لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى إنها في صدد اليهود والمنافقين معا «1» . وقال بعضهم هي في صدد اليهود فقط «2» . وهذا هو الأوجه فيما نرى ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [84- 85] من سورة البقرة وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم. ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخزوا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة. لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون «3» قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسبهة
__________
(1) انظر الطبرسي.
(2) انظر الطبري والبغوي وابن كثير.
(3) انظر ابن كثير والبغوي والخازن.(7/323)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [16] خلاصتها أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزيّن له مواقعتها ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له وحينئذ قال له إني بريء منك إني أخاف الله!.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... إلخ والآية التالية لها
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة التي ندّد فيها بالمنافقين ومواقفهم وباليهود الكافرين لتوصي المؤمنين المخلصين بتقوى الله ومراقبته والتكفير فيما يقدمونه لغدهم من أعمال يجزون عليها خيرا كانت أم شرا. وتحذرهم من أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا تقوى الله وواجباتهم نحوه وتمردوا على أوامره وانحرفوا عن جادة الحق فأهملهم نتيجة لذلك ولم يوقفهم إلى ما ينجي أنفسهم فوقعوا في شرّ أعمالهم. وفيها(7/324)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
تشجيع وتنويه وتطمين للمخلصين، وتنديد وإنذار للمنافقين والكفار من أهل الكتاب موضوع الآيات السابقة.
ولقد روى ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى حديثا أخرجه الإمام أحمد ومسلم جاء فيه: «أنه جاء إلى رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالا فأذّن وأقام الصلاة فصلّى بالناس ثم خطبهم فقرأ آية سورة النساء هذه: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) ، ثم قرأ الآية الأولى من هذه الآيات ثم وقف عند جملة وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وقال هو تصدّق الرجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه من صاع تمره حتى قال ولو بشقّ تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل عجزت ثم تتابع الناس حتى تكوّم كومان من طعام وثياب فتهلّل وجه رسول الله ثم قال من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» .
حيث ينطوي في هذا الحديث الرائع كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخرج العبرة والموعظة من الآيات ويوجّه الناس بها نحو الخير والبرّ ويشجع عليهما بمثل هذه القوة وكيف كان أصحاب رسول الله يسارعون في الاستجابة ابتغاء رضوان الله ورسوله رضي الله عنهم.
[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
.(7/325)
(1) القدوس: المبالغ في التنزّه والطهارة.
(2) السلام: المرجو للأمن والسلام.
(3) المؤمن: واهب الأمن والطمأنينة. وقرئت (المؤمن) بمعنى المعتمد الذي يركن إليه ويؤمن له.
(4) المهيمن: المراقب والمسيطر على عباده.
(5) الخالق: قيل إن معنى الكلمة المقدّر لما يوجده على ما اقتضته حكمته.
(6) البارئ: قيل إن معناها الموجد لما يخلقه من العدم أو المنشئ له أو المميز لأنواعه.
تعليق على الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوّة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدّع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبّح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته، المقدّس المنزّه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كلّ شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبّه الله تعالى إليه الناس لعلّهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤدونه له.(7/326)
وقد انطوى فيها معنى التأنيب والتنديد للذين لا يتأثرون بالقرآن ولا يخلصون لله وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، الذين حذّرت الآيات السابقة المؤمنين من أن يكونوا مثلهم.
ولقد احتوت الآيات مجموعة رائعة من أسماء الله الحسنى لم تجتمع في مجموعة قرآنية أخرى مع التنبيه على أنها وردت متفرقة في آيات متعددة. وأسلوبها نافذ من شأنه أن يثير في النفس الطيبة الشعور بهيبة الله وعظمته وقوّة القرآن الروحية.
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يصبح- ثلاث مرات- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الحشر وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يسمي كان بتلك المنزلة» .
وفي الحديث تنويه قوي بفضل الآيات وقوّة روحانيتها. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بحديثه أصحابه المؤمنين المخلصين الصالحي الأعمال حيث يسوغ هذا أن يقال إن الشخص الذي يعمل به ويريد أن يحصل على المنزلة المذكورة فيه لا بد من أن يكون متحققا بالإيمان والإخلاص والصلاح في الوقت نفسه.
ولقد أورد المفسر نفسه في سياقها أيضا حديثا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أسماء الله الحسنى أوردناه وأوردنا الأسماء الحسنى المذكورة فيه وعلقنا عليه في سياق تفسير الآية [180] من سورة الأعراف فنكتفي بهذا التنبيه.(7/327)
سورة الجمعة
هذه السورة فصلان. في أولهما تنديد باليهود بسبب تفاخرهم باختصاص الله إيّاهم بالفضل على غيرهم وتكذيبهم وتحدّ لهم. وبيان ما كان من فضل الله على العرب الأميين في إرسال نبي منهم إليهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وفي ثانيهما تنديد بفريق من المسلمين كانوا يتركون النبي يوم الجمعة وهو يخطب ويخرجون من المسجد إذا ما رأوا لهوا أو تجارة. وحظر للبيع في وقت صلاة الجمعة. وإيجاب للسعي إليها. وإباحة ابتغاء فضل الله بالتجارة بعدها.
ولا يبدو تناسب موضوعي وظرفي بين فصلي السورة مع اقتصارها عليهما.
ولا يبدو حكمة ذلك واضحة إلى أن يكون اليهود قد أنكروا بعث الله تعالى نبيّا من الأميين ثم فاخروا المسلمين بأن توراتهم احتوت تحديد يوم لله من أيام الأسبوع ثم تفاخروا بأنهم هم وحدهم أولياء الله. فأوحى الله بفصول السورة على سبيل الردّ والتنديد والتحدي. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة سنورده في سياق تفسير الآيات الأولى من السورة تفيد عبارته أن سورة الجمعة نزلت دفعة واحدة. وقد يدعم هذا ما خمنّاه وما هو نتيجة ذلك من ترابط فصلي السورة. والله تعالى أعلم.
وترتيب هذه السورة في ترتيب النزول الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هو الرابع والعشرون. والتراتيب المروية الأخرى مقاربة لذلك «1» . مع أن محتوى السورة يدل على أنها نزلت في وقت كان في المدينة فيه فريق من اليهود وكانوا على شيء من القوة والاعتداد. ولما كان يهود بني قريظة هم آخر من بقي من
__________
(1) انظر الجزء الثاني من كتابنا سيرة الرسول ص 9. [.....](7/328)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
اليهود في المدينة وقد نكّل النبي صلى الله عليه وسلم بهم في السنة الهجرية الخامسة بعد وقعة الخندق. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأحزاب. فعلى أقل تقدير تكون سورة الجمعة قد نزلت قبل ذلك وبالتبعية قبل سورة الأحزاب. وهذا ما يبرر تقديم تفسيرها على هذه السورة. والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
. (1) الأمّيين: الذين لا كتاب عندهم من الله. وهي هنا تعني العرب.
(2) ولما يلحقوا بهم: الضمير في (بهم) عائد إلى الأميين موضوع الكلام في الآية الأولى كما تلهمه روح الآية وسياقها. وبخاصة كلمة (منهم) قبل الجملة.
الآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. احتوت تقرير خضوع كل من في السموات والأرض لله وتقديسهم له. وهو العظيم القدسية. العزيز الحكيم.
والآيات الثلاث احتوت تقريرا لما كان من عناية الله تعالى بالعرب وفضله عليهم وهو صاحب الفضل الذي يؤتي فضله من يشاء بعد أن كانوا في ضلال مبين وذلك:
1- بإرساله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهّر نفوسهم ويعلمهم كتاب الله وكل ما فيه من حكمة وسداد.
2- وبعدم اقتصار ذلك على الحاضرين منهم وشموله لأناس أو أجيال منهم لم يلحقوا بهم بعد.(7/329)
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات التالية وتمهيد لها.
وقد انطوت في حدّ ذاتها على معاني التنويه والمنّ الرباني بما كان من فضل الله على العرب وتكريمهم وتشريفهم بنبيه العربي وكتابه العربي. وفي هذا تلقين قوي بما يجب عليهم من إخلاص واستمساك شديدين بدين الله وكتابه وسنّة رسوله التي هي الحكمة التي علّمهم إياها النبي. ثم بما يجب عليهم من الدفاع عن هذا التراث المجيد وحفظه نقيّا صافيا طاهرا شكرا لله على ما كرّمهم به من عروبة نبيه وكتابه التي كان لهم فيها رفعة الذكر وعلوّ القدر وخلود الاسم وقوة السلطان الروحي بين أمم الأرض عامة والأمم الإسلامية خاصة.
وهذه المعاني كلّها مما انطوى في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سابقة «1» وعلّقنا عليها بما يقتضي، حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك وتذكير العرب به في المناسبات المختلفة والمتجددة.
ولقد ورد في فصل التفسير من صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ:
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه رسول الله وسلمان الفارسي فينا فوضع يده عليه وقال:
والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» «2» . وقد أورد الطبري وغيره بالإضافة إلى هذا الحديث الذي أوردوه أقوالا معزوة إلى مجاهد
__________
(1) انظر تفسير آيات سورة الأنبياء [10] والزخرف [43- 44] والحج [78] والبقرة [143] .
(2) التاج، ج 4 ص 234.(7/330)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
وغيره منها أن المقصودين هم الأعاجم ومنها أنهم الذين يدخلون الإسلام إلى يوم القيامة من عرب وعجم.
ولا يبدو الحديث تفسيرا حاسما للجملة ولا حاصرا للفئات التي ذكرت الآيات أنهم لما يلحقوا بهم. وكل ما يمكن أن يفيده الحديث هو بشرى تحققت باعتناق أهل فارس الدين الإسلامي في جملة من اعتنقه من العرب وغير العرب.
وكلمتا (منهم وبهم) يجعلان صرف المعنى إلى الأميين موضوع الكلام والمعطوف عليهم هو الأولى والمعقول. وكلمة الأميين رادفت في القرآن العرب. وجاء مفردها وصفا للنبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأعراف [157 و 158] والسورة نزلت في أواسط العهد المدني على الأرجح ثم أخذ العرب يدخلون في الإسلام جماعة بعد جماعة حتى إذا تمّ فتح مكة واعتنق أهلها الإسلام أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا من كل صوب بحيث يصح القول إن الجملة قد تضمنت تطمينا أو بشرى ربانية تحققت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
هذا، وحديث أبي هريرة في حدّ ذاته يفيد كما قلنا في تعريف السورة أن السورة نزلت دفعة واحدة وأن فصولها مترابطة. والله تعالى أعلم.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
. (1) أسفار: جمع سفر وهو الكتاب.(7/331)
في الآيات:
1- تنديد لاذع باليهود. فقد أتاهم الله التوراة وأمرهم بالسير عليها وتدبر ما فيها وتنفيذه، وهذا معنى حمّلوا التوراة، فلم يفهموها ولم يقوموا بحقها وانحرفوا عنها، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل كتبا لأنه لا ينتفع بما فيها. وبئست حالة قوم مثل حالتهم بتكذيبهم آيات الله. ولن ينالوا توفيق الله وتسديده لأن الله لا يوفق الظالمين أمثالهم.
2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّيهم. فإذا كانوا صادقين في زعمهم أنهم أولياء الله وأصحاب الحظوة لديه دون سائر الناس فليتمنوا الموت الذي يقرّبهم إلى الجزاء الأخروي العظيم الذي يمنّون النفس به.
3- وتقرير بحقيقة واقعهم. فإنهم لا يتمنون الموت أبدا لأنهم يخافون المصير الرهيب بسبب ما اقترفوه وقدموه بين أيديهم من الآثام. وإن الله لهو العليم بالظالمين.
4- وإنذار لهم. فالموت الذي يخافونه ويتهربون منه ملاقيهم لا محالة.
وإنهم لراجعون إلى الله عالم الحاضر والمستقبل والمغيب ومنبّأون بما عملوا ومحاسبون عليه.
تعليق على الآية مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها والآيات السابقة لها سلسلة واحدة. نزلت دفعة واحدة. وفي سياق موقف جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود. وتفاخر اليهود فيه وتبجحوا بأنهم أولياء الله وأحباؤه وموضع حظوته وأن الدار الآخرة خالصة لهم دون سائر الناس. بل ويستلهم من روح آيات السورة الأربع الأولى أنهم قالوا فيما قالوه إن الله جعل النبوة فيهم خاصة(7/332)
وأنكروا- بناء على ذلك- نبوة النبي لأنه عربي. فنزلت الآيات تكذبهم وتندد بهم وتتحداهم وتفحمهم بأسلوب قوي نافذ ولاذع.
وننبّه على أن مثل هذه المزاعم والأقوال والمواقف قد حكيت عن اليهود في آيات عديدة في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرّتا وفي سورتي النساء والمائدة اللتين تأتيان بعد مما يدل على أنها كانت تتكرر منهم في المناسبات المختلفة.
وهذا الموقف من اليهود لا يمكن أن يكون منهم إلّا في ظرف كانوا فيه في المدينة على شيء من القوة والاعتداد. وهذا يصدق عليهم في السنين الخمس الأولى من الهجرة. وهو ما جعلنا نقدم السورة على ما شرحناه في مقدمتها.
ولقد جاء في آية سورة الأعراف [157] التي سبق تفسيرها أن أصحاب التوراة والإنجيل يجدون النبي الأمّي مكتوبا في كتابيهما المذكورين وقلنا في سياق تفسيرها إن الآيات كانت تتلى علنا ولا ريب في أنها كانت تعبر عن حق وحقيقة يسلم بهما أصحاب الكتابين. ولقد جاء في آية سورة الأحقاف [10] التي سبق تفسيرها أن من الإسرائيليين من شهد وآمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك تقرير لواقع لا شك فيه. ولقد جاء في آية سورة الأنعام [114] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وهذا تقرير لواقع لا شكّ فيه. ولقد جاء في آيات سورة الإسراء [107 و 108] وآيات سورة القصص [52- 55] أن الذين أوتوا العلم والكتاب اعترفوا وآمنوا بصدق القرآن ورسالة النبيّ. وجاء في آية سورة آل عمران [199] وسورة النساء [162] أن من أهل الكتاب ومن الراسخين في العلم من بني إسرائيل من اعترف وآمن بصدق رسالة النبي. وهذا وذاك تقرير لواقع لا شكّ فيه فيكون تنديد الآية الأولى التي نحن في صددها وتمثيل المنكرين لنبوة النبي من اليهود بالحمار الذي يحمل الأسفار محلّين ملزمين مفحمين لأن الذين أنكروا نبوة النبي الأمي أنكروا ما هو وارد في توراتهم الذي جعل بعضهم يسلّمون به ويؤمنون بالقرآن وبالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم.(7/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
. (1) إذا نودي: إذا أذّن لأنّ في الأذان دعوة للمسلمين إلى الصلاة (حيّ على الصلاة- حيّ على الفلاح) . وقد استعمل هذا الفعل في مثل هذا الموقف في إحدى آيات سورة المائدة وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً [58] .
في الآيات:
1- أمر موجّه للمسلمين بترك البيع والسعي إلى ذكر الله في المساجد حين يؤذّن المؤذن وينادي للصلاة يوم الجمعة.
2- وإباحة لهم بالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله بالكسب والعمل بعد انقضاء الصلاة.
3- وتنديد بفريق منهم كانوا يتركون النبي قائما في المسجد يوم الجمعة ويخرجون إذا ما رأوا أو سمعوا بتجارة أو لهو. ويغفلون بذلك عن أن ما عند الله هو خير من اللهو والتجارة وأنه خير الرازقين.
تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عامّا للمسلمين
والآيات فصل مستقل عن الآيات السابقة. ولا تبدو حكمة وضعه بعدها(7/334)
واقتصار السورة عليه وعلى الفصل السابق له إلّا إذا صحّ ما ذكرناه في المقدمة.
ونرجو ذلك.
وقد روى البخاري والترمذي في مناسبة نزول الآية الأخيرة فقط من هذه الآيات حديثا عن جابر قال: «أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً» «1» .
ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث ورووا زيادة مهمة لم ترد في الصحاح. ومن ذلك ما رواه البغوي أن الانفضاض كان بسبب سماع طبل صاحب القافلة. وأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك حتى قال: «والذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا» . وفي رواية: «أنه سأل كم بقي في المسجد فقالوا اثنا عشر رجلا وامرأة فقال لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء» . وفي رواية رواها الطبري: «أن الانفضاض تكرّر ثلاث مرات على ثلاث جمع لم يكن يبقى في كلّ جمعة إلّا اثنا عشر رجلا وامرأة وأن النبي قال في الثالثة والذي نفسي بيده ولو اتّبع آخركم أولكم لالتهب عليكم الوادي نارا، وأنزل الله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ... إلى آخر الآية» .
والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث نزلت دفعة واحدة في مناسبة تسلل المسلمين من المسجد. وقد احتوت الأولى والثانية بيانا تمهيديا بخطورة شهود صلاة الجمعة. وترك البيع في وقتها كمقدمة للتنديد. وفي هذا إذا صح صورة من صور المسلمين في العهد المدني. والراجح أنها صورة للمسلمين المستجدين من غير الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار الذين تواترت الروايات على أنهم كانوا مستغرقين في الله ورسوله، وأيّدت ذلك الآيات العديدة التي مرّت أمثلة منها.
وروح الآيات تلهم أن صلاة يوم الجمعة والقيام للخطبة بين يديها مما كان جاريا ومفروضا قبل نزولها وأنها نزلت للحثّ على شهودها وبيان خطورتها
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 234- 235 وكلمة (عير) بمعنى القافلة ومن ذلك في سورة يوسف وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) .(7/335)
والتنديد بالمنفضين عنها أو المهملين فيها. وهذا المعنى يكون صحيحا وحاسما إذا صحّ ترجيحنا بأن الآيتين الأولى والثانية نزلتا مع الآية الثالثة دفعة واحدة وهو ما نرجوه.
وهناك روايات وآثار تؤيد ذلك حيث روى ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في قباء حينما جاء من مكة مهاجرا فأقام فيها أياما وأن صلاة الجمعة أدركته في بني سالم بن عوف فصلّاها في مسجدهم الذي أسّسه لهم في بطن وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلّاها بالمدينة «1» . وهذه الرواية تدل على أن صلاة الجمعة كانت تقام في مكة أيضا قبل الهجرة. وقد يؤيد هذا حديث رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن مالك وكان يقود أباه بعد ذهاب بصره قال: «كان أبي إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة فسألته عن ذلك فقال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة قلت كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون» «2» . وأسعد بن زرارة هو أحد زعماء الأوس الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وتعاقدوا معه. ولا ريب أنه تلقى واجب صلاة الجمعة عنه كما تلقى عنه واجبات الإسلام الأخرى ...
ولقد روي فيما روي «3» أن أهل يثرب رأوا أن يتخذوا لهم يوما يجتمعون فيه كما كان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فاختاروا يوم الجمعة. كما روي «4» أن كعب بن لؤي رتّب أو سنّ اجتماعات عامة تقوم في هذا اليوم وبدّل اسمه من (العروبة) إلى يوم الجمعة. والمتبادر أن اسم اليوم وما توخّي منه أعمّ من نطاق يثرب وأقدم. وأن للاسم دلالة ظاهرة على معناه. وأن لرواية سنة كعب وتغييره اسم اليوم من العروبة إلى الجمعة أصلا وحقيقة مع ترجيحنا أن يكون الاجتماع المسنون ذا صبغة أو غاية دينية طقسية واجتماعية معا. وقد تكون فكرة
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 2 ص 111- 112.
(2) التاج، ج 1 ص 247- 248 ومعنى جمع بنا صلّى بنا صلاة الجمعة.
(3) تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي ج 5 ص 246.
(4) المصدر نفسه.(7/336)
التفرغ للصلاة أو لبعض الطقوس الدينية أو عقد اجتماعات عامة في يوم الجمعة في الجاهلية مقتبسة من اليهود والنصارى في الأصل أو قد لا تكون. فهناك أمم قديمة كثيرة كان لها أيام أسبوعية خاصة للاجتماعات الدينية والاجتماعية العامة لا تمتّ إلى النصرانية ولا إلى اليهودية كما لا يخفى.
على أن سكوت الروايات عن الإشارة بشيء هام إلى هذا الاجتماع الأسبوعي الجاهلي القديم يدلّ على أنه لم يظلّ على خطورته الأولى أو بالأحرى على أنه قد أهمل في عهد الجاهلية المتأخر ولم تبق له إلّا ذكرى الاسم فأحياها الإسلام ليكون هذا اليوم العربي الأسبوعي يوما مشهودا لذكر الله واجتماع المسلمين للصلاة في وسطه وسماع الخطبة والموعظة من رسول الله والأئمة من بعده.
وظاهر مما تقدم أن تشريع صلاة الجمعة في الإسلام كان في بدئه مكّيا ونبويا ثم صار بالآيات التي نحن في صددها قرآنيا ولعلّ في إيراد الآيات الثلاث بعد فصل التنديد باليهود ردّا على ما خمّناه من تفاخر هؤلاء بيوم معين في الأسبوع كله عندهم. فالله سبحانه قد جعل للمسلمين أيضا يوما معينا له هو يوم الجمعة ولقد رويت أحاديث عديدة في تعيين الله يوم الجمعة للمسلمين وفي فضلها وفضل صلاتها ووجوب شهودها والاحتفال لذلك، منها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان والنسائي جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا تبع فيه. اليهود غدا والنصارى بعد غد» «1» .
وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم والنسائي وأحمد جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» «2» . وحديث عن أبي الجعد الضّمري رواه أصحاب السنن والحاكم جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من ترك ثلاث جمع تهاونا بها
__________
(1) التاج، ج 1 ص 244- 262.
(2) المصدر نفسه.
الجزء السابع من التفسير الحديث 22(7/337)
طبع الله على قلبه» «1» . وحديث عن ابن عباس رواه الشافعي جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: على كلّ محتلم رواح الجمعة وعلى كلّ من راح الجمعة الغسل» «2» .
وحديث رواه أبو داود والبيهقي عن طارق بن شهاب جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقا في كتب لا يمحى ولا يبدل» «3» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن حفصة جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة إلّا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبيّ أو مريض» «4» .
وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن سلمان الفارسي وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويطّهر ما استطاع من الطهر ويدّهن من دهنه ويمسّ من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين ثم يصلّي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلّم الإمام إلّا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» «5» . ولفظ أبي داود: «من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومسّ من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخطّ أعناق الناس ثم صلّى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من صلاته كانت كفّارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» «6» . وحديث رواه ابن ماجه وعبد السلام عن عبد الله بن سلام قال: «سمعت رسول الله يقول على المنبر في يوم الجمعة ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته» «7» . وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كلّ مسلم حقّ أن يغتسل في كلّ سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده» . ولفظ النسائي «على كلّ رجل مسلم في كلّ سبعة أيام غسل هو يوم
__________
(1) التاج، ج 1 ص 244- 262.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. - وهذا الحديث والله لم يجعل شهود صلاة الجمعة جماعة واجبا على المرأة والصبي والعبد المملوك فهو لا يمنع ذلك لمن أراد واستطاع منهم كما هو المتبادر.
(5) المصدر نفسه وتفسير ابن كثير. [.....]
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.(7/338)
الجمعة» «1» . وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «من تخطّى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنّم» «2» . وحديث رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه: «إنّ رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها غير مسلم وهو قائم يصلّي يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إيّاه وأشار بيده يقلّلها» «3» . وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي موسى عن وقت هذه الساعة أن رسول الله قال: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» «4» . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» «5» .
وهناك أحاديث أخرى اكتفينا بما تقدم حيث تدل كثرتها على ما كان من اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الجمعة وشهودها والتطهر والتزين والتجمّل لها وحيث ينطوي في هذا ما ينطوي من تعليم وتأديب رائعين. وخطورة واجتماع الجمعة الاجتماعية أيضا واضحة بالإضافة إلى خطورته الدينية. حيث يجتمع المسلمون جميعهم في المساجد في المدن والقرى في مشهد رائع عظيم فيذكرون اسم الله ويصلّون له ويستمعون لوعظ الخطباء. وقد يدخل هذا في حكمة التنبيه والإنذار القرآنية والنبوية. ولقد كانت هذه الخطورة أشدّ وأعظم في زمن رسول الله وخلفائه الراشدين حيث كانوا هم الذين يخطبون الناس خطبا تتناول أمور المسلمين العامة الحاضرة سياسية واجتماعية وجهادية وأخلاقية حثّا وزجرا وتعليما وإرشادا وإخبارا واستشارة. ومن الواجب حتما على المسلمين وخطبائهم أن يلتزموا بالأمر الرباني والنبوي والسنّة النبوية والراشدية.
ولقد استدل الفقهاء والمفسرون من جملة وَتَرَكُوكَ قائِماً على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقي خطبة الجمعة وهو واقف. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال:
__________
(1) المصدر السابق وتفسير ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(7/339)
«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب ثمّ يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن» «1» . وفي رواية: «كان للنبيّ خطبتان يجلس بينهما» «2» .
وهناك بعض أحكام فرعية للفقهاء فيها بعض الخلاف ليس هنا موضع التبسّط فيها غير أننا نرى أن نشير إلى نقطة هامة كثر القول فيها وهي فكرة اتخاذ يوم الجمعة يوم عطلة وراحة للمسلمين. فالذي يتبادر لنا أن الأمر بترك البيع والسعي إلى الصلاة كان من مقتضى الواقع أو بسبب كون البيع هو الذي كان يشغل الناس عن السعي إلى صلاة الجمعة أكثر. ولا يعني أن الذين لا يبتاعون مسموح لهم أن يتابعوا ما هم فيه من عمل وغير مأمورين إلى تركه والسعي إلى صلاة يوم الجمعة حينما يؤذن لها. بحيث يصحّ القول إن الآيات هي في صدد شهود الصلاة وسماع الخطبة في وقتها المعيّن، وحظر البيع والاشتغال بأمور الدنيا المباحة في هذا الوقت وإباحة ذلك بعد انقضاء الصلاة. وليس فيها ما يمنع اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية كما أنه ليس فيها ما يوجب ذلك. وهذا شأن كسائر الشؤون الاجتماعية المباحة متروك لما يراه المسلمون ويتفقون عليه فيما يتبادر لنا. وإذا كان رأي أولي الأمر وعاداتهم المباحة مما يكون مرجحا في شؤون مسلمين التي لم يرد فيها نصّ فإن ذلك في جانب اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية عام لأن الأولي الأمر ومصالح الحكومة جرت على هذا منذ الأمد الطويل. ولقد رأينا المفسر القاسمي يقول إن جملة: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تدل على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة الذي فيه تشبيه بأهل الكتاب. ولسنا نرى هذا محلّه. فالآيات انطوت على تقرير كون الممنوع هو البيع والشراء وقت الصلاة ثم إباحتهما بعدها.
والإباحة لا تعني الإيجاب. وفي الأحاديث السابقة حثّ نبوي على الاحتفال بيوم الجمعة من لبس ثوب نظيف غير ثوب المهنة والاغتسال والتطيّب مما يمكن أن يكون فيه تدعيم لفكرة اتخاذ هذا اليوم يوم عيد وعطلة وراحة للمسلمين، والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج ج 1 ص 244- 262، وتفسير ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.(7/340)
كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد
لقد قرأنا في كتاب مبادئ الفقه الإسلامي في العبادات للشيخ الفاضل محمد سعيد الوفي طبعة ثالثة الصفحة 89 حديثا: رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجه عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في يوم جمعة كان يوم عيد أيضا:
«أيّها الناس إنّ هذا اليوم قد اجتمع لكم فيه عيدان فمن أحبّ أن يشهد معنا الجمعة فليفعل ومن أحبّ أن ينصرف فليفعل» . ولم نجد هذا الحديث في كتاب التاج الجامع للكتب الخمسة التي منها كتابا أبي داود والنسائي. وإنما قرأنا حديثا قريبا منه في مجمع الزوائد هذا نصّه: «عن ابن عمر قال: اجتمع عيدان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر وجمعة فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد ثم أقبل عليهم بوجهه فقال يا أيّها الناس قد أصبتم خيرا وأجرا. وأنا مجمعون فمن أراد أن يجمع معنا فليجمع ومن أراد أن يرجع إلى أهله فليرجع» . رواه الطبراني في الكبير من رواية إسماعيل بن إبراهيم التركي عن زياد بن راشد أبي محمد السماك ولم أجد من ترجمها. ومجمعون مأخوذ من الجمعة. وجملة ولم أجد من ترجمهما لمؤلف الزوائد وعنى على الأغلب الراويين إسماعيل وزياد. ونقول تعليقا على ذلك إن الإجابة لنداء الجمعة فرض قرآني واجتماع وصلاة العيد سنّة. ولا يصح فيما يتبادر والله أعلم أن يستغنى عن الفرض بالسنّة مع عظم خطورة هذا الفرض وما ورد في تركه من أحاديث صحيحة عديدة أوردناها قبل قليل ... حتى ولو قيل إن الاستغناء هو عن حضور اجتماع وخطبة الجمعة ولا يعني سقوط صلاة الظهر. وهذا ما يجعلنا نتوقف في هذا الحديث إلّا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأناس لا يسمعون نداء الجمعة أو لا تجب عليهم لعذر ما، والله تعالى أعلم.
استطراد إلى الأذان في الإسلام
إن تعبير يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يعني الأذان وقد عبّر به بذلك في آية أخرى في سورة المائدة. وقد رأينا من المناسب أن(7/341)
نستطرد هنا فنقول إن هناك بعض الآثار في أوليته وكيفيته. فهناك حديث يرويه الطبراني عن ابن عمر جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به إلى السماء أوحي إليه بالأذان» «1» . وقال الطبراني إن من رواة هذا الحديث طلحة بن زيد الذي ينسب إليه الوضع، وكونه موضوعا واردا لأن مقتضاه أن يكون الأذان مكّيا وهو ما لا يعقل لأن المسلمين كانوا في مكة ضعفاء وفي قلة ويجتمعون للصلاة سرّا. وفي طبقات ابن سعد روايات عن الزهري عن سعيد بن المسيب وفي موطأ مالك حديث عن يحيى بن سعيد. ويستفاد منهما أنه كان ينادي منادي النبي الصلاة جامعة فيجتمع الناس فلما صرفت القبلة نحو الكعبة أمر بالأذان، وهذا يفيد أنه كان في العهد المدني وهو الأوجه الأرجح. ومما ذكرته الروايات أن النبي قد أهمّه هذا الأمر فاقترح بعضهم الضرب بخشبتين وبعضهم الضرب بالبوق وبعضهم الضرب بناقوس. فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد الخزرجي في منامه رجلا مرّ وعليه ثوبان خضراوان وفي يده ناقوس فسأله أن يبيعه له فقال له ماذا تريد به فقال لجمع الناس للصلاة فقال له أنا أحدثك بخير من ذلك تقولون الله أكبر. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلّا الله. فلما أفاق أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له قم مع بلال فالق عليه ما قيل لك وليؤذن بذلك ففعل. وجاء عمر فقال رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد فذلك أثبت. وفي رواية أن مما ألقي عليهما جملة (الصلاة خير من النوم) لأذان الصبح) «2» .
ومهما يكن من أمر فإن هناك حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان والإقامة. وصيغة الأذان هي: الله أكبر.
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. زاد في رواية ترفع صوتك فيها ثم تقول: أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. زاد في رواية تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا
__________
(1) مجمع الزوائد ج 1 ص 329.
(2) انظر موطأ مالك ج 1 ص 36، وطبقات ابن سعد ج 2 ص 11 و 12.(7/342)
إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة. حيّ على الصلاة. حيّ على الفلاح. حيّ على الفلاح. فإن كان لصلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم.
الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. وصيغة الإقامة بعد حيّ على الفلاح قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله» «1» . وهناك حديث يرويه الخمسة عن أنس قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلّا الإقامة» «2» . وهناك حديث يرويه الطبراني عن بلال: «أنه كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره رسول الله أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم» «3» . ونبّه الطبراني على أن أحد رواة هذا الحديث ضعيف. وتبقى جملة (الصلاة خير من النوم) من تعليم النبي الأول على ما جاء في الحديث الأول.
وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي جحيفة قال: «رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وأصبعاه في أذنيه ورسول الله في قبة حمراء من أدم» «4» . وفي رواية «لما بلغ حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر» «5» .
وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي سعيد قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» «6» . وزاد غير البخاري «ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه عشرا. ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» «7» .
__________
(1) التاج، ج 1 ص 146- 148، ومعنى ما جاء في الحديث الثاني أن الجمل في الأذان تكون شفعا وفي الإقامة وترا إلا كلمات (قد قامت الصلاة) فتكون شفعا.
(2) المصدر نفسه.
(3) مجمع الزوائد ج 1 ص 330. [.....]
(4) التاج، ج 1 ص 146- 148.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.(7/343)
وهناك حديث رواه الخمسة إلّا مسلما عن جابر قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال حين سمع النداء اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «1» . وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يردّ الدعاء بين الأذان والإقامة» «2» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه: «قال رجل يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا. فقال قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه» «3» .
والأذان الإسلامي فريد رائع في بابه. وفيه هتاف متكرر بأعلى الصوت على ملأ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ونحلهم بأن الله أكبر من كل شيء فتمتلىء النفس المؤمنة قوة بذلك واستغناء عن غير الله واستصغارا لغير الله. وفيه دعوة متكررة إلى الفلاح والنجاح بالصلاة والتي يعبد بها المؤمن ربّه الأكبر عبادة خاضعة فيتلو فيها قرآنه المجيد ويسبّح باسمه ويحمده على نعمه ويلتمس منه الرشد والهداية بالإضافة إلى الشهادة المتكررة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي شاء الله أن يكون خاتم أنبيائه وأن يكون الدين الذي جاء به دين الإنسانية جميعا. ويتكرر هذا كل يوم خمس مرات ليلا ونهارا في جميع أقطار الدنيا التي ينتشر فيها المسلمون.
والله أكبر والعزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
__________
(1) التاج، ج 1 ص 146- 148.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(7/344)
سورة الأحزاب
في هذه السورة مواضيع عديدة ومتنوعة. منها ما هو تشريعي في صدد إلغاء أحكام التبني والظهار. ومنها ما هو حربي في صدد وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وفيها فصل في تخيير نساء النبي ومواعظ لهن وفيها ما فيه استدراك لمسألة طلاق الزوجة قبل المسيس. ومنها ما له علاقة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبيوته وزواجه بمطلقة ابنه بالتبني. وفيها حملات على الكفار والمنافقين.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر ترتيب نزولها بعد سورة آل عمران. وقد ذكر ذلك في تراتيب عديدة أخرى. وهناك رواية تذكر أنها نزلت بعد الأنفال وأخرى بعد سورة النور. والتدقيق في مضامين فصول السورة وما روي من ظروف نزولها يسوّغ القول إنها نزلت في فترات متباعدة ثم ألّف بينها. ولقد احتوت مثلا فصلا في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم يدلّ فحواه وما روي في نزوله على أنه نزل بعد نزول الآية التي فيها تحديد لعدد الزوجات في سورة النساء التي ذكر الرواة ترتيبها بعد هذه السورة. وفيها آيات في صدد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة ابنه بالتبني زيد ولا بد من أن ذلك كان قبل نزول آية النساء في تحديد عدد الزوجات، لأن في السورة آية تحرّم على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بعد تحديد العدد وإقراره على زوجاته اللاتي في عصمته.
ولقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بعض زوجاته في أثناء زيارته للكعبة في السنة السابعة للهجرة حيث يسوغ هذا القول أن تأليفها قد تأخر إلى وقت متأخر من العهد المدني. أما ترتيب المرتبين لها في النزول بعد سورة آل عمران أي كرابعة سورة فلم نر له مبررا إلا احتمال كون مطلعها قد نزل مبكرا على بعده لأن مطلعها الذي فيه تسفيه لتقاليد التبني والظهار متصل بحادث زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة متبنيه(7/345)
كما نرجح. ولأن في الروايات ما قد يفيد أن هذا الحادث لم يقع مبكرا. ولم نر أي مبرر لرواية نزولها بعد الأنفال أو بعد النور.
ومهما يكن من أمر فإننا بعد تقديمنا سورة الحشر صار وضعها بعدها سائغا لأن وقعتي الأحزاب وبني قريظة قد وقعت بعد قليل من وقعة بني النضير التي نزلت فيها سورة الحشر وبذلك نكون قد راعينا التسلسل الزمني للسيرة النبوية.
هذا، ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين: «أن هذه السورة كانت تقرأ مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلّا ما هو الآن» «1» . وقد روى المفسر النسفي: «أن أبيّ بن كعب سأل أبا ذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين فقال والذي يحلف أبي به إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول» . ولقد قرأنا منها آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) . وقد حمل النسفي- راوي الحديث- كلام أبي على أن المقصد منه هو الإشارة إلى ما نسخ من القرآن في عهد النبي. غير أن حديث عائشة صريح بأنها تقصد أن إسقاط معظم السورة كان في زمن عثمان.
والحديثان غير موثقين ولم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة والتوقف فيهما أولى. ومن الجدير بالذكر أن مصحف عثمان إنما نقل عن المصحف الذي حرر في زمن أبي بكر رضي الله عنهما فلم يكن أي احتمال لإسقاط معظم السورة من مصحف عثمان. ولقد كانت عائشة ذات شخصية قوية ومن مراجع القرآن والسنّة ولا يعقل أن تسكت عن هذا الإسقاط لو كان واقعا ولا يعقل أن يهمل اعتراضها.
ومع ما في تعليل النسفي لحديث أبي بن كعب من وجاهة فإننا نشك في أن يكون قد وقع نسخ آيات أو فصول كثيرة من السورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فإن مثل هذا الحادث الخطير لا يعقل أن لا يرد فيه روايات وثيقة تحتوي بيانات وافية.
__________
(1) الإتقان ج 2 ص 26.(7/346)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
. في الآيات: نداء موجه إلى النبي يؤمر فيه بتقوى الله وعدم إطاعة الكافرين والمنافقين والاستجابة إلى ما يقولونه واتباع وحي الله فقط والاتكال عليه وحده.
فالله أعلم بمقتضيات الأمور ولا يأمر إلّا بما فيه الحكمة والصواب. وهو الخبير بكل ما يفعله الناس. وهو نعم الكافي لمن توكل عليه.
تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة
لقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت بمناسبة قدوم وفد من قريش فيهم أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل إلى المدينة بأمان من النبي فنزلوا على عبد الله بن أبي، ثم ذهبوا معه إلى النبي فطلبوا منه الموادعة، ويدع آلهتهم بدون سبّ وعقائدهم بدون تسفيه ويدعونه وشأنه فأثار ذلك عمر واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم فقال له إني أعطيتهم أمانا. ورووا كذلك أنها نزلت في وفد ثقيف الذي طلب من النبي أن يمتعهم باللات والعزّى سنة حتى تعلم قريش منزلة ثقيف عنده.
والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ أن الآيات التي تلي هذه الآيات قد نزلت في صدد وقعة الأحزاب التي كانت نتيجة لزحف عظيم من قبل قريش وحلفائهم على المدينة لاستئصال شأفة النبي. ومن المحتمل أن تكون آيات وقعة الأحزاب قد وضعت في موضعها القريب من هذه الآيات بسبب تناسب الظروف.
وهذا يجعلنا نستبعد أن يكون وفد من قريش قد قدم إلى المدينة في هذا الظرف لعرض الموادعة على النبي مما روته الرواية الأولى. إلّا أن يقال إن أبا سفيان قدم
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبرسي.(7/347)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
لاستطلاع أحوال النبي والمسلمين مع استبعادنا لذلك نظرا لحالة العداء الشديدة القائمة بين النبي والمسلمين من جهة وبين أهل مكة أو زعمائها المشركين من جهة ثانية. ولقد كان ما ذكرته الرواية الثانية في السنة التاسعة من الهجرة وبعد فتح مكة بعام «1» فليس لذكره محل في مطلع سورة يرجح أنه نزل في وقت مبكر من العهد المدني.
والذي يتبادر لنا أن الآيات إمّا أن تكون نزلت في مناسبة مراجعة فريق آخر من الكفار والمنافقين في صدد التساهل في بعض الشؤون، وإما أن تكون مقدمة للآيات التالية التي فيها حملة على بعض التقاليد الجاهلية الراسخة وأمر بإلغائها على سبيل التثبيت والتشجيع والتنبيه على وجوب تنفيذ وحي الله وأمره وعدم المبالاة باعتراض الكفار والمنافقين. وهذا ما نرجحه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
. (1) تظاهرون: هنا من الظهار وهو قول الزوج لزوجته أنت حرام عليّ كظهر أمي بقصد تحريم وطئها على نفسه.
(2) أدعياءكم: كناية عن الأبناء بالتبني.
في هاتين الآيتين:
1- نفي تقريري بأن الله لم يجعل قلبين في جوف أي إنسان. ولم يجعل زوجة الرجل أمّه بمجرد استعماله صيغة الظهار. ولم يجعل دعي الرجل ابنا له
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 2 ص 77- 78، وابن هشام ج 4 ص 194- 197.(7/348)
بمجرد تبّنيه. وبأن هذا ليس من الحقّ والصدق في شيء. وهو مردود على أصحابه. وبأن الله يقرر الحق والصدق ويهدي إلى سبيلهما.
2- وأمر بتسمية الأبناء بالتبني باسم آبائهم الحقيقيين ونسبتهم إليهم. فهو الأقسط عند الله والمتفق مع الحقّ والحقيقة. فإذا لم يعرف آباؤهم فهم إخوان متبنيهم في الدين ومواليهم وكفى.
3- وتنبيه على أن الله غفور رحيم لا يؤاخذ المسلمين فيما أخطأوا به من غير علم وعمد. وإنما يؤاخذهم بما يصدر منهم من أخطاء عن عمد وعلم.
تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ... إلخ والآية التالية لها
روى المفسرون أن الفقرة الأولى من الآية الأولى نزلت لتكذيب شخص اسمه دهية أو أبو معمر على اختلاف الرواية كان يزعم أن له قلبين في جوفه. كما رووا أنها نزلت تكذيبا للمنافقين الذين كانوا يقولون إن للنبي قلبين قلبا معنا وقلبا معهم. أو تكذيبا لرجل كان يقول إن لي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد.
رواية قول المنافقين رواها الترمذي عن ابن عباس بسند حسن ونصها: «قيل لابن عباس أرأيت قول الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ما عنى بذلك. قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله الآية» «1» .
ولقد روى البغوي عن الزهري ومقاتل أن الجملة مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته وللمتبني لولد غيره، ومعناها أنه كما لا يكون للرجل قلبان فإن زوجة
__________
(1) التاج، ج 4 ص 183، وخطر خطرة بمعنى سها سهوا ما.(7/349)
المظاهر لا تكون أمه، ووالد المبتنى لا يكون أباه الحقيقي. لأنه لا يكون للإنسان أمّان ولا والدان. وهذا يفيد أن حديث ابن عباس لم يثبت عند الزهري ومقاتل.
ونحن نميل إلى الأخذ بهذا لأننا نراه الأوجه في توضيح مدى الجملة.
ولقد اكتفى السياق هنا في صدد الظهار بالتسفيه وتقرير النفي. ثم بيّن الحكم فيه في سورة المجادلة. في حين أن الحكم في التبني قد بيّن هنا. حيث يلهم هذا أن الظرف الذي نزلت فيه الآيات لم يكن يقتضي غير ذلك.
وننبه على أن في سورة المجادلة ما قد يلهم أنها نزلت قبل هذه الآيات على ما سوف نشرحه في تفسيرها. وإذا كان ما نستلهمه في محله فيكون تسفيه الظهار هنا تدعيما لتسفيه تقاليد التبني وتقريرا لكونها سخيفة مثل تقليد الظهار. وقد روى الطبري عن مجاهد ما يؤيد ذلك حيث روى أن هذا قال إن الآية قد نزلت في قضية زيد بن حارثة متبنّى النبي صلى الله عليه وسلم التي ورد ذكرها في آيات أخرى في هذه السورة.
ولقد انطوى في الآية الثانية تلقينات جليلة مستمرة المدى في توطيد الأخوة الدينية بدون اعتبار لأي فارق طبقي. ثم في تقرير كون مسؤولية المرء عن أخطائه إنما تكون فيما يقع منه من ذلك عن علم وعمد وهو ما تكرر تقريره في مواضع عديدة في القرآن ونبهنا عليه.
وجملة وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) وإن كانت جاءت في معرض تدعيم ما سفهته ونفته الآية من دعاو وتقاليد فإنها شاملة مستمرة الفيض والإشعاع في صدد تقرير كون الله إنما يأمر دائما بما هو حق وإنما يهدي بما يأمر إلى سبيل الحقّ والخير. وداعمة لوجوب التزام حدود أوامر الله تعالى ونواهيه والإيمان بأنها تهدف دائما إلى ما فيه الحق والخير.
تقليد الظهار في الجاهلية
وظهار الزوجات الذي أشير إليه في الآيات عادة جاهلية لتحريم الزوج على نفسه وطء زوجته مع إبقائها في عصمته. حيث يقول لها أنت عليّ كظهر أمي.(7/350)
وكان الأزواج يعمدون إلى ذلك إذا كرهوا زوجاتهم أو كنّ ولودات بنات فقط أو أرادوا مكايدتهن أو ابتزاز أموالهن وحملهن على التنازل عن مهورهن وحقوقهن أو استبقائهن حاضنات لأولادهن، وكانوا كذلك يتفادون تطليقهن أنفة من أن يتزوجن غيرهم. وهذا التقليد يشبه من ناحية ما تقليد الإيلاء الذي ورد ذكره وحكمه في آيات سورة البقرة [225- 226] وفي هذا التقليد كما في ذلك ظلم وبغي فلذلك سفّهه القرآن هنا وقرر حكما في صدده في سورة المجادلة.
تقليد التبني في الجاهلية ومداه
والتبنّي هو اتخاذ رجل ما طفلا أو صبيا غريبا ابنا له. وكان هذا من تقاليد العرب في الجاهلية. وكان يجري بشيء من المراسم حيث يعلن المتبني في ملأ من الناس تبني الطفل أو الصبي فيصبح في مقام ابنه من صلبه في كل الواجبات والحقوق فيرث كل منهما الآخر ويحرم على كل منهما ما يحرم بين الأب والابن من أنكحة. فلا يصح للمتبنّى أن يتزوج إحدى بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا يصح للمتبنّى أن يتزوج بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا أرملته ولا مطلقته. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم ابن على هذه الطريقة وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي. وكان مملوكا لزوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهما فاستوهبه منها وأعتقه. وجاء أبوه فخيره بين البقاء عنده أو الالتحاق بأبيه فاختار البقاء فأعلن أبوه براءته منه فأعلن النبي تبنّيه له. وكان ذلك قبل نبوّته.
وصار يدعى زيد بن محمد. وظل الأمر على ذلك إلى أن نزلت هذه الآيات فصار يدعى زيد بن حارثة «1» .
ولقد ظلّ النبي صلى الله عليه وسلم يحبّه ويرعاه وقد عهد إليه بقيادة سرايا عديدة أكثر من أي
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الخازن والبغوي والطبرسي وأسد الغابة ج 2 ص 224- 225، وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عمر جاء فيه: (ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وانظر التاج ج 4 ص 183.(7/351)
صحابي آخر «1» . ولما استشهد في مؤتة كان ابنه أسامة محل رعاية النبي ومحبته وعطفه. ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عيّن أسامة قائدا لجيش أراد أن يسيره إلى مؤتة لأخذ ثأر أبيه وجيشه، قال الناس أمر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار وكان النبي وجعا فخرج فخطب في الناس فقال: «انفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة وإن كان أبوه لخليقا بها» «2» . ولقد روى البلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أنشأ ديوان العطاء جعل أسامة في جملة أصحاب الأربعة آلاف وجعل ابنه عبد الله في جملة أصحاب الثلاثة آلاف فاعترض عبد الله قائلا إني شهدت ما لم يشهد أسامة فقال له أبوه: زدته عليك لأنه كان أحبّ إلى رسول الله منك وكان أبوه أحبّ إلى رسول الله من أبيك «3» .
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا لم يذكر راويه رواه البغوي بطرقه عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرّم الله عليه الجنّة» . ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الإنذار النبوي هو في صدد الدعوى الجدية التي تناقض ما سنّه الله وأبطله. أما أن يقول رجل لآخر أصغر منه يا بني أو يقول رجل لآخر أكبر منه يا أبي من قبيل التحبّب والتكريم فليس من هذا الباب. ولقد أورد ابن كثير في هذا المقام والمعنى حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له يا بني. وهذا من هذا الباب.
هذا، ولقد جرت عادة الناس ومن جملتهم المسلمون على تبنّي بعض الأيتام فينشئونهم في كنفهم ويعتنون بهم ويعاملونهم كأبنائهم وقد يكون هذا جائزا بل ومأجورا إذا لم يتجاوز الأمر نطاق البرّ والتربية والتنشئة والعناية. أما إذا تجاوز إلى الدعوة الجدية بالبنوّة والأبوّة وما يترتب عليهما من حقوق ومعاملات تحلّ ما حرّم الله وتحرّم ما أحلّ وتمنح وتسمح ما لم يمنحه الله ويسمح به، وتمنع ما لم يمنعه
__________
(1) تصفّح الجزء الثالث من طبقات ابن سعد.
(2) ابن هشام ج 4 ص 329. [.....]
(3) ص 456.(7/352)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
الله فيكون ذلك حراما كما هو المتبادر. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير وَمَوالِيكُمْ
هذا التعبير الوارد في الآيات يفيد على الأرجح مدلولا تقليديا خاصّا. حيث كان من الجاري عند العرب قبل الإسلام أن يطلب شخص أو عشيرة أو قبيلة من العرب أن يلتحق بشخص أو عشيرة أو عشيرة أو قبيلة أخرى بقصد الحماية والاستنصار. فإذا قبل ذلك الملحق به أعلنه على الملأ حتى يعرف الناس وحينئذ يدعى مولى الشخص الملحق به إذا كان فردا أو موالي القبيلة الملحق بها إذا كانوا جماعة ويسمى ذلك مولى ولاء أو موالي ولاء. ويصبح المولى أو الموالي من عصبية الملحق به الاجتماعية لهم ما لهم وعليهم ما عليهم حتى إنهم كانوا يتوارثون «1» .
وما يصادفه قارئ الكتب العربية القديمة من تعابير فلان مولى فلان أو مولى بني فلان أو القبيلة الفلانية موالي القبيلة الفلانية هو من هذا الباب. ومن هنا جاء إطلاق تعبير (موالي) على المسلمين من غير العرب فكأنهم بدخولهم الإسلام قد التحقوا بالعرب واندمجوا في عصبياتهم. وكلمة (مولى) تطلق كذلك على المملوك، غير أن تقليد الولاء الذي نشرحه هنا ليس من ذلك. والآية [5] أرادت أن تقول إنه إذا لم يعرف آباء الأبناء بالتبنّي فهم إخوان المسلمين في الدين ومواليهم. لهم ما لهم وعليهم ما عليهم استمدادا من العرف الجاري في دلالة التعبير.
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
. في هذه الآية:
__________
(1) انظر تفسير الآيات وتفسير الآية [33] من سورة النساء في تفسير الخازن.
الجزء السابع من التفسير الحديث 23(7/353)
1- تقرير بحقّ النبي على المؤمنين فهو أولى بهم من أنفسهم.
2- وتقرير بحقّ أزواجه على المؤمنين فهن أمهاتهم أيضا.
3- وتقرير الأولوية لذوي الأرحام من المؤمنين فيما بينهم.
4- وتنبيه على أن تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام من المؤمنين لا يحول دون مساعدة المؤمنين لأوليائهم من غير ذوي الأرحام وإسداء المعروف إليهم.
وهذا هو حكم الله الذي كتب عليهم.
تعليق على الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إلخ
ولقد روى المفسرون أن الفقرة الأولى نزلت في جماعة ندبهم النبي إلى الجهاد فقالوا نذهب فنستأذن آباءنا وأمهاتنا «1» . وأن الفقرة الثانية نزلت في صدد تحريم نكاح زوجات النبي على المؤمنين «2» . وأن الفقرة الثالثة في صدد نسخ ما كان يجري من التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حين قدومه إلى المدينة أو لما كان يجري من التوارث بطريق الولاء والتبني والمؤاخاة وحصره بين ذوي الأرحام «3» .
ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح ويبدو غريبا أن تشتمل آية واحدة على فقرات، كل منها في صدد موضوع لا صلة له بالآخر.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها من جهة ومشرعة من جهة، ومستدركة من جهة، ومقررة لموضوع التوارث في نصابه الحق من جهة.
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبرسي.
(2) انظر تفسير الخازن والبغوي والطبرسي.
(3) انظر المصدر نفسه.(7/354)
فقد ألغي التبني وما يترتب عليه من أحكام وكان للنبي ابن بالتبني فقررت الفقرة الأولى من الآية أن النبي هو بمثابة أب لجميع المسلمين وأنه أولى بهم من أنفسهم وأن زوجاته أمهاتهم فلا محلّ ليكون له ابن خاص بالتبني. وكان التبني يكسب حقا في الإرث فقررت الفقرة الثانية أنّ حق التوارث إنما هو بين ذوي الأرحام وأمرت الآية [5] اعتبار الأبناء بالتبني الذين أبطل تبنيهم ولم يعرف آباؤهم الحقيقيون إخوانا وموالي وأولياء لمتبنيهم بسبب اندماجهم السابق فيهم فقررت الفقرة الثالثة أن إبطال حق التوارث في التبني ليس من شأنه أن يمنع المتبنين السابقين من مساعدة متبنيهم الذين غدوا موالي أو أولياء لهم. وبهذا يستقيم السياق والمعنى والمدى كما هو المتبادر.
ولقد رويت زيادة في الفقرة الأولى من الآية وهي جملة «وهو أبوهم» بعد كلمة (أنفسهم) وذكر في الرواية أن ذلك كان في مصحف أبي بن كعب أحد علماء القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» وقد تكون الجملة تفسيرية، وفيها على كل حال تدعيم لما شرحناه آنفا سواء أكانت تفسيرية أم أصلية كما جاء في الرواية. مع ترجيحنا أنها تفسيرية وليست أصلية إذا صحت الرواية. فالكلمة لم ترد في مصحف عثمان، ومصحف عثمان نقل عن مصحف أبي بكر ومصحف أبي بكر كتب بعد شهور من وفاة النبي ليكون إماما على ملأ الناس. وروجع على ما كان في أيدي المسلمين من مصاحف ومدونات.
وجملة إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين بوجوب البرّ وإسداء المعروف على اختلاف أنواعه لمن ينتمي إليهم من تابعين ومماليك وحاشية وحلفاء.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إذا شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأي مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي.(7/355)
كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» «1» . وفي الحديث توضيح نبوي متصل بمدى الآية كما هو المتبادر.
تعليق على مدى تعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ
وتعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يحتوي قيدا احترازيا على ما يتبادر لإخراج غير المؤمنين من ذوي الأرحام من الأولوية وحقوق الإرث وحصر ذلك بين المؤمنين. ولعلّ اختصاص المهاجرين بالذكر هو بسبب أن بعض ذوي أرحامهم كانوا ما يزالون كفارا. وعدم التوارث بين المسلم وغير المسلم من القواعد الشرعية الجارية النبوية. وقد تكون هذه الآية من مستندات ذلك. وقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» «2» .
ولقد جاء في آخر سورة الأنفال آية احتوت تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام بدون هذا القيد. فلعل الأمر ظلّ ملتبسا على المسلمين فاقتضت الحكمة توضيحه بهذه المناسبة في القرآن والحديث. أما القول بأن هذه الفقرة تحتوي نسخا لآية سورة الأنفال [72] والتي روي أنها اعتبرت مقررة للتوارث بين المتآخين من مسلمي الأنصار ومهاجريهم فإننا لم نر في تلك الآية ولا في هذه الفقرة ما يلهمه أصلا أو نسخا على ما مرّ شرحه أيضا في سياق سورة الأنفال.
__________
(1) التاج ج 4 ص 183. وقد فسّر الشارح كلمة (ضياعا) بالأولاد القاصرين. وهذا صواب على ضوء مدى الحديث.
(2) انظر التاج، ج 2 ص 229.(7/356)
تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ
وننبّه على أن النصّ على أمومة أزواج النبي للمسلمين في هذه الآية لم يكن من شأنه أن يبيح لرجال المسلمين ما أبيح لأبناء زوجات النبي الحقيقيين بالنسبة لأمهاتهم على ما يستفاد من الآيات [53- 55] من هذه السورة حيث منعت هذه الآيات رجال المسلمين من الدخول على زوجات النبي وطلب ما يريدون منهن من وراء حجاب واستثنت من ذلك آباءهن وأبناءهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن. وحرّمت نصّا التزوج بهن من بعد رسول الله حيث يفيد هذا أن النصّ على أن أمومتهن للمؤمنين في الآية لم يكن بسبيل تحريم زواجهن على المؤمنين كما روى المفسرون وأشرنا إليه قبل. وإنما هو تعبير أسلوبي بسبيل تقرير المعنى الذي عنّ لنا والذي نرجو أن يكون هو الصواب وهو كون النبي وأزواجه بمثابة والد المؤمنين وأمهاتهم فلا يكون من محل ليكون للنبي ابن خاص منهم بالتبنّي. والتعبير بعد يتضمن معنى تكريميا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم يوجب التنبّه إليه.
الخلاصة
وبناء على ما تقدم وتعقيبا عليه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ قد تضمنت تقريرا أو تنويها بما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قلوب زوجاته رضي الله عنهن من حبّ وعطف وحرص على المؤمنين واهتمام لأمورهم أشد من اهتمامهم لأنفسهم حتى صار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أولى بهم من أنفسهم وبمثابة أبيهم وصارت زوجات رسول الله رضي الله عنهن بمثابة أمهاتهم دون أن يتجاوز ذلك ما يكون بين ذوي الأرحام من حقوق مادية ووراثية حيث يبقى ذوو الأرحام بعضهم أولى ببعض وحديث الشيخين فيه(7/357)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
تفسير وزيادة عظيمة الشأن وهو أن المال للورثة وأن من مات من المؤمنين وعليه دين فالنبي صلى الله عليه وسلم يسدّ دينه. وأن من مات وترك أيتاما بلا مال فالنبي صلى الله عليه وسلم يرعى أيتامه أيضا وهكذا تبدو الولاية والأبوية النبوية السامية في أروع مثاليتها وعظمتها، صلّى الله على سيدنا محمد وسلّم تسليما.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
. في هاتين الآيتين:
1- تذكير على سبيل التقرير بأن الله قد أخذ من الأنبياء وبخاصة من النبي نفسه ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ميثاقا قويا مؤكدا على حمل رسالته وتبليغها للناس.
2- وتقرير بأن الله تعالى سوف يسأل الذين صدقوا في التبليغ ويستشهدهم على أممهم، وبأنه أعدّ للذين كفروا برسالات أنبيائه ولم يصدقوهم عذابا أليما.
ولم نطلع على رواية في مناسبة الآيتين ولا على تعليل لوضعهما في مكانهما لأنهما يبدوان وحدة مستقلة لا علاقة لها بما سبق وبما هو آت.
وقد تبادر لنا مع ذلك أن يكون فيهما معنى التعقيب على الآيات السابقة جميعها بدءا من مطلع السورة الذي احتوى تثبيتا للنبي وأمرا له بتقوى الله وعدم إطاعة الكفار والمنافقين واتباع وحيه والاعتماد عليه وحده. فالله في تحميله إياه رسالته قد أخذ عليه عهدا بالقيام بالمهمة قياما تاما لا تساهل فيه ولا هوادة ودون تأثر بأي اعتبار كما أخذ مثل ذلك من الأنبياء السابقين وعليه أن يقوم بها وأن يعرف أنه مسؤول عنها يوم القيامة.
واختصاص النبي ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر قد تكرر في(7/358)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
القرآن. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير سورة الشورى بما يغني عن التكرار.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 25]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
.(7/359)
(1) إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر: في الجملة وصف لشدة الخوف. فالعيون من شدة الخوف تتحرك زائغة يمينا وشمالا. والقلوب يشتد خفقانها حتى كأنها ترتفع من مكانها إلى الحناجر.
(2) وتظنون بالله الظنونا: تذهبون مذاهب في إساءة ظنكم بالله.
(3) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا: حينئذ استشعر المؤمنون بالبلاء العظيم الذي ابتلوا به واضطربوا اضطرابا شديدا.
(4) يثرب: اسم المدينة التي هاجر إليها رسول الله القديم وصارت تعرف باسم المدينة والمدينة المنورة. وقد أشير إليها باسم المدينة في آيات منها آية في هذه السورة.
(5) بيوتنا عورة: أي مكشوفة في متناول العدو.
(6) ولو دخلت عليهم من أقطارها: لو دخل العدو عليهم من أطراف المدينة.
(7) ثم سئلوا الفتنة لأتوها: ثم طلب منهم الارتداد عن الإسلام لفعلوا.
(8) وما تلبثوا بها إلّا يسيرا: وما كانوا يقاومون ذلك الطلب إلّا مقاومة خفيفة وظاهرة.
(9) المعوّقين: المعطلين والمثبطين عن القتال.
(10) ولا يأتون البأس: ولا يشهدون الحرب والقتال أو يشتركون فيهما.
(11) سلقوكم بألسنة حداد: طعنوكم وهاجموكم بألسنة ماضية بالبذاءة والأذى.
(12) يودوا لو أنهم بادون في الأعراب: يتمنوا لو أنهم كانوا في البادية(7/360)
بعيدين عن مسرح الحرب.
(13) من قضى نحبه: من مات أو استشهد.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [25] وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسمّيت بوقعة الخندق لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة «1» عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير وانظر ابن هشام ج 3 ص 229- 250 وطبقات ابن سعد ج 3 ص 108- 116.(7/361)
زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) إشارة إليه على ما رواه المفسرون «1» . ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمّت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلّا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلّا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين فأمره بالتخذيل والتثبيط في
__________
(1) انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج 3 ص 230.(7/362)
صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا فاشتدّ فيهم السأم والفتور وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلّا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [21] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
2- أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوّة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم. ثم تميزوا فالفئة المخلصة الصادقة التفّت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [22- 23] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) والتثبيط(7/363)
ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [15- 18] كل ذلك وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [24] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد روى الطبري أن المعنيين في الآية [15] هم جماعة بني حارثة الذين(7/364)
همّوا أن يفشلوا يوم أحد على ما ذكرته آيات سورة آل عمران. ونحن نتوقف في هذا. فهؤلاء قد ثبتوا وعفا الله عنهم كما جاء في آيات هذه السورة أيضا والسياق في صدد المنافقين، ونرجح بل نجزم أنهم هم المعنيون في الآية. ولقد كان هؤلاء تخاذلوا يوم أحد ونرجح أنهم عاهدوا رسول الله والمؤمنين على أن لا يكرروا موقفهم فكذبوا وكرروه فاستحقوا ما احتوته الآيات من حملة قارعة مع مقابلة ذلك بما فعله المخلصون من الوفاء بما عاهدوا عليه فكان منهم من استشهد في هذه المعركة وقبلها ومنهم من ينتظر حتى يكون من مصداق ما عاهدوا الله عليه دون انحراف.
ومما رواه ابن هشام «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قائدي قبائل غطفان يساومهما على الرجوع عن المدينة مقابل ثلث ثمارها فقبلا فاستدعى زعيمي الأوس والخزرج واستشارهما فسألاه هل هذا من الله أم من صنعك قال بل من صنعي حيث رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ لقد كنا وهؤلاء على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا ثمرة منها إلّا من قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا به وبك نعطيهم أموالنا. والله لا نعطيهم إلّا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فرجع رسول الله حينئذ عن رأيه حيث ينطوي في الخبر صورة رائعة من قوة نفوس المؤمنين وشجاعتهم واعتزازهم بالإسلام. وتلقين مستمر المدى سواء فيما كان من تفكير رسول الله في المساومة كتدبير وقائي ودفاعي في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون أم في رجوعه عنه لأنه كان اجتهادا منه.
ولقد روى البخاري وابن هشام خبر معجزات نبوية حدثت أثناء الخندق «2» .
منها إشباع أهل الخندق بثمرات قليلة بسطها رسول الله على ثوب، وإشباعهم بطعام من صاع برّ وذبيحة صغيرة صنعته زوجة جابر بن عبد الله لما قال لها إنه رأى
__________
(1) ابن هشام ج 3 229 و 230.
(2) انظر التاج، ج 3 ص 250 و 251، وابن هشام ج 3 ص 233- 239 وروى الطبري وغيره هذه المعجزات أيضا في سياق تفسير الآيات.(7/365)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
في رسول الله خمصا شديدا. ومنها خبر صخرة استعصت على الحفارين من أصحاب رسول الله فضربها رسول الله فكانت تبرق تحت ضرباته حتى اقتلعها وسأله سلمان الفارسي عن البرقات فقال إن الله بشرني بالأولى بفتح اليمن وبالثانية بفتح الشام والمغرب وبالثالثة بفتح المشرق.
ولقد روى الشيخان عن أنس قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم.
فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهمّ إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا له مجيبين:
نحن الذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا»
«1» ورويا كذلك عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم الأحزاب ينقل معهم التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
«والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته أبينا أبينا» «2» حيث ينطوي في الحديثين صورة رائعة من مواساة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتشجيعهم ومشاركتهم فيها عظيم الأسوة والتلقين.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) .
__________
(1) التاج ج 4 ص 374.
(2) المصدر نفسه ص 374- 375. [.....](7/366)
(1) ظاهروهم: ناصروهم.
(2) صياصيهم: حصونهم.
تعليق على الآية وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ... إلخ والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة
عبارة الآيتين مفهومة. وقد احتوت إشارة إلى مشهد جهادي ضد فريق من أهل الكتاب. وتجمع روايات التفسير والسيرة على أنهم يهود بني قريظة في المدينة.
ومما ذكرته هذه الروايات أن جبريل أتى النبي فور انصراف الأحزاب وبلّغه وجوب الزحف حالا على بني قريظة فأرسل مناديا ينادي «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين إلّا ببني قريظة» حيث ينطوي في هذا شدة أثر ما أظهره بنو قريظة من غدر وعداء في الموقف العصيب الذي نجم من زحف أحزاب المشركين من كل صوب.
وعبارة ظاهَرُوهُمْ تلهم أنه بدا منهم أثناء حصار الأحزاب للمدينة أعمال ضارة بالمسلمين مظاهرة للأحزاب مما أثار في نفوس النبي وأصحابه الغيظ والسخط فوق ما أثاره إنكارهم لعهد رسول الله وإعلانهم العداء للمسلمين أمام زعيمي الأوس والخزرج على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.
وملخص ما جاء في الروايات عن هذه الوقعة «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم مع المسلمين خمسا وعشرين ليلة ولم يقبل منهم إلّا الاستسلام بدون قيد وشرط. فلم
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير ثم ابن هشام ج 3 ص 252- 271، وابن سعد ج 3 ص 117- 121. وبعض ما جاء في هذه الخلاصة ورد في أحاديث صحيحة عديدة أيضا. انظر التاج ج 4 ص 376 و 377.(7/367)
يكن لهم مناص من ذلك لما ضاق الخناق عليهم.
ولقد كانوا حلفاء الأوس فقال بعضهم لرسول الله إنهم موالينا فارفق بهم كما رفقت بموالي إخواننا الخزرج- يعنون بذلك بني قينقاع وبني النضير الذين قبل شفاعة الخزرج فيهم واكتفى بإجلائهم- فقال لهم هل ترضون أن يكون الحكم فيهم واحدا منكم قالوا بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان زعيمهم. وكان أصابه في حصار الخندق سهم فأمر النبي بنقله إلى خيمة في مسجده ووكل به امرأة مؤمنة من قبيلة أسلم كانت خبيرة بمداواة الجرحى. فجاءه بعض قومه وأبلغوه ذلك وحملوه على حمار وساروا في ركابه وهم يقولون له أحسن يا أبا عمرو في مواليك فقد ولاك رسول الله أمرهم فلما جاء إلى النبي وأبلغه قرار تحكيمه فيهم قال: آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم وإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسّم الأموال فبادره النبي قائلا: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. (أي سموات) » ثم نفذ الحكم فيهم عدا بعض أفراد أعلنوا إسلامهم فعصموا دماءهم وأموالهم.
ومما روي أن ما صادره رسول الله منهم 1500 سيف و 300 درع و 2000 رمح و 1500 ترس وحجفة وخمر عدا كثير من الجمال النواضح والماشية. وكان عدد الذين قتلوا بين 600 و 700 وفي رواية 400 واستثنى من القتل من لم ينبت شاربه وأسروا مع النساء والأطفال واعتبر الجميع رقيقا وأرسل قسم منهم على اختلاف في الروايات في عددهم إلى نجد حيث بيعوا واشتري بثمنهم خيل وسلاح «1» .
ومما روي كذلك «2» أن بني قريظة طلبوا من النبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي ليستشيروه في أمرهم فأرسله إليهم فسألوه عما إذا كان ينصحهم أن ينزلوا على حكم النبي وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه
__________
(1) انظر كتب التفسير وأجزاء وصحف ابن هشام وابن سعد السابقة الذكر.
(2) المصدر نفسه.(7/368)
فرقّ لهم وقال نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه يعني أن مصيرهم في هذه الحالة هو الذبح، وأن أبا لبابة شعر أنه قد خان الله ورسوله فانطلق على وجهه إلى مسجد رسول الله فربط نفسه بعمود وقال لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت، فبلغ ذلك النبي فقال أما إنه لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه وظلّ على حاله أياما ثم هتف النبي لقد تيب على أبي لبابة فبادرت أم سلمة وكان عندها فهتفت من باب حجرتها على أبي لبابة تبشره، ولما خرج النبي إلى صلاة الصبح أطلقه بيده حيث ينطوي في هذا صورة رائعة من صور العهد النبوي.
ولقد انتقد بعض المستشرقين قسوة الحكم والتنكيل. وليس في نقدهم حق وصدق فالآية صريحة بأن اليهود ظاهروا الأحزاب. وهذا يعني أنه بدا منهم موقف حربي ما في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون والذي تعرضوا فيه لخطر الإبادة والاستئصال والذي وصفته الآيات أشد وصف. وتعجيل النداء للمسلمين بالسير نحوهم يوم انصراف الأحزاب بدون تريث دليل على ما كان من شدّة أثر موقفهم الطارد في نفوس النبي والمسلمين. ولقد غرّهم الموقف واستبشروا بزحف الأحزاب إلى درجة أنهم لم يتورعوا عن إنكار عهدهم وردّ زعيمي الأوس والخزرج ذلك الردّ اللئيم الذي رويناه قبل والذي جرح قلب زعيم الأوس حليفهم أشد جرح، بل ولقد استمروا في موقفهم بعد انصراف الأحزاب حيث روى الطبري أنهم أخذوا يبذأون في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم حينما دنت طلائعه لحصارهم على مسمع من حامل الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلا جرم أن يكون عقابهم مناسبا مع موقفهم اللئيم الغادر. ولا سيما إنهم لم يعتبروا بإجلاء بني قينقاع وبني النضير قبلهم. ومع ذلك كله فإن القتل اقتصر على المقاتلة بعد أن عرض عليهم الإسلام فأباه أكثرهم وآمن أفراد منهم فسلموا. واستثنى من القتل الأولاد والنساء وفي كل هذا من التسامح والحلم ما يخالف ما سجلته الأسفار من خططهم الرهيبة تجاه أعدائهم حينما ينتصرون عليهم.
ولقد قال المفسرون إن الأرض التي أورثها الله المسلمين دون أن يطؤوها الجزء السابع من تفسير الحديث 24(7/369)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
على ما جاء في الآية الثانية هي أرض خيبر. وإن عبارة الآية بمثابة بشرى سابقة وهناك من أغرب فقال إنها مكة أو بلاد الروم وبلاد فارس «1» . والذي يستلهم من روح الآية ومضمونها أنها أرض كان يملكها بنو قريظة بعيدة عن مساكنهم استولى عليها المسلمون في ظروف الوقعة في جملة ما استولوا عليه من أموالهم وأملاكهم.
هذا، والذي نرجحه أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة في سياق واحد. وأن هذه وتلك قد نزلتا بعد الوقعتين بسبيل ما احتوته من تعقيب وتذكير وتنويه وتنديد ومنّ بفضل الله ونصره.
هذا، والآية [26] وإن كانت حكت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في بني قريظة فإنها انطوت على إقرار رباني لما فعلوه جزاء الموقف الشديد الخطورة من الغدر والخيانة الذي وقفوه. ولقد كان نزولهم على حكم النبي بمثابة استسلام واستئسار. فبعدما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأقرّه الله عليه من قتل بعضهم واسترقاق بعضهم تشريعا يقاس عليه في الظروف المتأتية والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) .
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي.(7/370)
(1) فاحشة: هنا بمعنى المعصية الكبيرة والنشوز وسوء الخلق على ما رواه المفسرون عن ابن عباس وغيره.
(2) قرن: من القرار أي أسكنّ أو التزمن بيوتكن.
(3) التبرّج: إظهار المرأة محاسنها للناس عن قصد.
(4) الرجس: هنا بمعنى ما ليس فيه لله رضا من أعمال ومظاهر منكرة ومريبة وآثمة.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وما بعدها إلى آخر الآية [34]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون «1» روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر لأقولن شيئا أضحك به رسول الله فقال يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة- يعني زوجته- سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(7/371)
وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها وكلاهما يقول لابنته لا تسألي رسول الله شيئا «1» .
وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد وهو ما أيّدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسّع ظنّ نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن. ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصّت عليه آية سورة الأنفال [41] . وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكير في نعيم الدنيا ومتاعها فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه: فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملان كل فراغ منه.
وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء
__________
(1) نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير.(7/372)
وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرّج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن. فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلّا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [32] وآية سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) .
يمكن أن يقال إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطيبات ما أحلّ الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه وراضية نفوسهن معا. ومما روي في(7/373)
صدد ذلك «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو؟
فتلا عليها الآيات فقالت أفيك أستأمر أبويّ بل أختار الله ورسوله وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلّا أخبرتها. ثم خيّر نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة» «1» .
ولقد روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بخلاف يسير حيث رووا عن عائشة أنها قالت: «لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال إن الله جلّ ثناؤه قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبويّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت» «2» .
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرّخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة «3» . ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2) انظر التاج ج 4 ص 184.
(3) انظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج 3 ص 254 و 338 و 388 و 417 و 426.(7/374)
ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صحّ أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم هن حولي كما ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة الرِّجْسَ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [145] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «1» [90] وقد تكون في الآية [34] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول إنها تتحمل أن يكون معناها (الزنا) أيضا وقد يكون في جملة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ قرينة على ذلك والله أعلم.
__________
(1) انظر آيات التوبة [96 و 126] والحج [30] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [70] والأنعام [125] ويونس [100] .(7/375)
وفي تأويل جملة فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نستبعد ونستغرب هذا. ويتبادر لنا والله أعلم أن في العبارة تحذيرا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بألّا يتجاوزن في أقوالهن وأفعالهن ما رسم رسوله حتى لا يظن مرضى القلوب أن ذلك التجاوز بترخيص من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل النهي عن التبرّج روى المفسرون أنه في صدد النهي عن إظهار الزينة وإبراز المفاتن أمام غير المحارم. وهو تأويل وجيه. وتفيد جملة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
أن نساء العرب قبل البعثة كنّ يفعلن ذلك. ولقد نهى النساء عن إظهار مفاتنهنّ وزينتهنّ أمام غير المحارم في إحدى آيات سورة النور، وهذا مما يلهم ذاك، وبسبيل توكيد نهيه لنساء المسلمين عامة.
وهناك من أوّل جملة وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بمعنى (الزمن الوقار والسكينة في بيوتكن) . وهناك من أوّلها بمعنى (المكوث في البيوت وعدم الخروج) . وقد يكون التأويل الثاني هو الأوجه مع التنبيه على أن الأمر لم يكن يعني عدم خروجهن بالمرة، وإنما يعني عدم الإكثار من الخروج على غير ضرورة. وروح العبارة يلهم هذا فيما نعتقد. فهناك حاجات وضرورات ملزمة للخروج. والروايات متواترة على أن نساء النبي كن يخرجن في حاجاتهن وضروراتهن في حياة النبي وبعده ... ولقد روى الشيخان عن عائشة حديثا جاء فيه: «خرجت سودة لحاجتها بعد أن نزل الحجاب وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر فقال يا سودة أما والله لا تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فانكفأت راجعة ورسول الله في بيتي يتعشّى وبيده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» «1» . وننبه على كل حال أن الآيات صريحة بأنها
__________
(1) التاج، ج 4 ص 188 و 189.(7/376)
موجهة إلى نساء النبي بخاصة وقد احتوت تعليلا حكيما لما فيها من أوامر وتنبيهات.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة حديثا رواه البزار عن أنس جاء فيه:
«جئن النساء إلى رسول الله فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين فقال من قعدت في بيتها منكن فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله» . وحديثا ثانيا رواه البزار أيضا جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها» . والحديثان ليسا من الصحاح. والآية [195] من آل عمران تجمع الرجال والنساء معا في الهجرة والقتال في سبيل الله على ما شرحناه في تفسيرها. وهناك آيات في سورة النور تلهم جواز خروج النساء وقضاء حاجاتهن المتنوعة في نطاق الاحتشام والبعد عن أسباب الفتنة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وهناك أحاديث عديدة صحيحة تذكر أن المؤمنات كنّ يخرجن مع رسول الله وغيره للجهاد. من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يغزو بأمّ سليم ونسوة من الأنصار معه فيسقين الماء ويداوين الجرحى» «1» . وحديث رواه الشيخان عن أنس قال: «لمّا كان يوم أحد انهزم الناس عن النبيّ، وقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأمّ سليم مشمّرتين أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم» «2» . وحديث رواه البخاري جاء فيه: «قالت الربيع بنت معوّذ كنّا نغزو مع النبيّ فنسقي القوم ونخدمهم ونردّ الجرحى والقتلى إلى المدينة» «3» . وحديث رواه مسلم جاء فيه: «قالت أمّ عطية غزوت مع النبيّ سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى» «4» . يضاف إلى هذا التواتر الذي لم ينقطع في تردد
__________
(1) التاج، ج 4 ص 306 و 307.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه. [.....]
(4) المصدر نفسه.(7/377)
النساء كلما شئن على المساجد واشتراكهن بصلاة الجماعة مع الرجال. وهناك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» «1» . وليس هناك أي حديث صحيح فيما اطلعنا عليه يمنع خروج المرأة للجهاد والصلاة والحاجات الأخرى التي تقتضيها طبائع الحياة وما وهب الله المرأة من مواهب. وما أقرها القرآن والسنة لها من حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية مما مرت منه صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي سبق تفسيرها ومما سوف يمرّ منه من صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي يجيء تفسيرها بعد، بحيث يسوغ التوقف إزاء الحديثين أو حملهما على محمل التحذير والتنبيه بسبيل اتقاء الفتنة ودواعيها إذا صحّا. والله تعالى أعلم.
هذا، ومع أن مقام النبوة في عظمة أخلاق النبي وإيمانه وروحه واستغراقه في الله ودعوته لا يمكن أن يدانى. ومع أن الآيات متعلقة بخصوصيات النبي وزوجاته موضوعا وظرفا فإن هذا لا يمنع أن تكون منبع إلهام فياض ومدد تلقين جليل لكلّ من يتصدّر للزعامة السياسية والإصلاحية والجهادية استلهاما من الآية [21] من آيات السورة التي تحثّ المؤمنين على اتخاذ رسول الله لهم أسوة حسنة.
ولقد حمّلت الآيات نساء النبي واجبات مهمة في تقدير مركزهن بالنسبة لخطورة مركز النبي. وفي هذا المعنى تلقين جليل لنساء زعماء المسلمين وقوادهم بل وعامتهم كما هو المتبادر ...
تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
كتبنا تعليقا على تعبير (الجاهلية) في تفسير سورة آل عمران. وقد رجحنا أن إطلاق هذا التعبير على دور ما قبل الإسلام هو إطلاق قرآني. ولقد أورد المفسرون في سياق تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى في الآيات التي نحن في صددها أقوالا معزوة
__________
(1) التاج، ج 1 ص 211.(7/378)
إلى ابن عباس وغيره مفادها أن دور الجاهلية الذي سبق البعثة دوران الأول هو الذي كان ما بين زمن نوح وإدريس أو قبل عيسى عليهم السلام والثاني هو ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
ويبدو لنا أن هذا التقسيم غير مستقيم مع الواقع. من حيث إن بروز النساء العربيات وإظهار محاسنهن للرجال كان معروفا ممارسا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وقد نهى نساء النبي عن ذلك الذي وصف بتبرّج الجاهلية الأولى. وهو ما لا يدخل في نطاق الدور المسمى في التقسيم بالجاهلية الأولى. وعلى كل حال فالجملة القرآنية أسلوبية فيما يتبادر لنا هدفت إلى النهي عن التبرّج الذي كان السابقون يعرفونه ويمارسونه قبل البعثة. لأن ذلك لا ينبغي للمؤمنات وبخاصة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ
ومع أن دلالة الآيات صريحة كل الصراحة في كون تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ في الآية [33] هو كناية عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللائي هن موضوع الخطاب فيها وراجع إليهن فقد رويت بعض أحاديث تدخل في شمولها غير نساء النبي بل ويخرج بعضها نساء النبي من شمولها. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أم سلمة أم المؤمنين جاء فيه: «نزلت الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) في بيتي فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقلت: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير» «1» . ومنها حديث عن عائشة أم المؤمنين رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «خرج النبي غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ثمّ جاء الحسين
__________
(1) التاج، ج 3 ص 308- 309.(7/379)
فأدخله ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) » «1» . ومنها حديث رواه مسلم عن الحصين عن زيد بن أرقم جاء فيه فيما جاء: «أنّ النبيّ قال: أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي. فسأل الحصين زيدا: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم من الصدقة بعده وهم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. وفي رواية قال الحصين من أهل بيته، نساؤه؟ قال زيد: لا وأيم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا من الصدقة بعده» «2» . وإلى هذا فهناك أحاديث أخرى عن النبي رواها المفسرون في سياق تفسير الآية لم ترد في الكتب الخمسة، منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك جاء فيه: «أن النبيّ كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» «3» . ومنها حديث عن عائشة جوابا على سؤال سألتها أم مجمع عن أحبّ الناس إلى رسول الله فقالت: «لقد رأيت رسول الله جمع عليا وفاطمة وحسنا وحسينا بثوب ثمّ قال اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحي فإنك إلى خير» «4» . ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة» «5» . ومنها حديث عن سعد قال:
«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه بالآية أخذ عليا وابنيه وفاطمة وأدخلهم
__________
(1) التاج، ج 3 ص 308- 309.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير والطبري والبغوي.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(7/380)
في ثوبه ثم قال: ربّ هؤلاء أهلي وأهل بيتي» «1» .
ونقف أمام هذه الأحاديث- وبخاصة أمام ما يخرج نساء النبي صلى الله عليه وسلم من مدلول تعبير أهل البيت ومنها والذي يتمسك به الشيعة تمسكا شديدا- موقف الحيرة بل التحفظ والتوقف إزاء دلالة الآيات الصريحة وسياقها. ولا سيما إن الآية التي جاءت بعد الجملة هي استمرار للخطاب الموجه إلى نساء النبي بحيث لا يمكن أن يصرف التعبير في هذا المقام إلى غيرهن. هذا فضلا عن أن تعبير أهل البيت قد ورد في آيات أخرى كناية عن الزوجة. منها آيات سورة هود هذه في سياق قصة إبراهيم: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
(73) وآية سورة النمل هذه:
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) «2» ، بل لقد روى الشيخان والترمذي حديثا في سياق الآية [52] من هذه السورة سوف نورده بعد، جاء فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمرّ على حجرات زوجاته فيقول السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله «3» . ولقد روى ابن كثير عن عكرمة أحد كبار علماء التابعين أنه كان يقول إن هذه الجملة قد نزلت في نساء النبي خاصة ومن شاء باهلته بذلك. ولقد قال ابن كثير معلقا على الجملة إنها نصّ في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا لأنهن سبب نزولها وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول عكرمة أو مع غيره على الصحيح. ولقد
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير والطبري والبغوي.
(2) ومثل هذه الآية آيتان في سورة طه وهي [10] وفي سورة القصص وهي [29] .
(3) انظر التاج فصل التفسير ج 4 ص 187. وفي هذا الحديث انسجام نبوي مع الخطاب القرآني الذي يصف نساء النبيّ بأنهن أهل البيت ويمكن أن يقال والحالة هذه إذا صحت الأحاديث السابقة فيكون قصد النبي توكيد اللحمة العصبية الدنيوية بينه وبين أولاده وأحفاده ويكون في الحديث توفيق بين موقفي النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.(7/381)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
روى البغوي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بأن المراد بأهل البيت نساء النبي لأنهن في بيته وقال إن هذا قول مقاتل وعكرمة أيضا.
ويلحظ أن الحديث الصحيح الذي روي عن أمّ سلمة ذكر أن آية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) قد نزلت في بيتها مع أنها ليست آية برأسها وإنما هي تتمة لآية ثم جزء من سياق. ومثل هذه الملاحظة واردة بالنسبة للحديث الصحيح المروي عن أبي سعيد الخدري والحديث المروي عن سعد الذي أورده الطبري. ومما يتمسك به الشيعة بسبيل تدعيم تأويلهم استعمال ضمير المخاطب لجمع المذكر في الجملة مع أن الجملة التي قلبها وبعدها استعمل فيهما ضمير الجمع المخاطب المؤنث. وليس في هذا حجة ما.
فضمير الجمع المخاطب المذكر استعمل أيضا في حكاية الخطاب الموجه إلى زوجة إبراهيم وزوجة موسى عليهما السلام في آيات سورتي هود والنمل التي أوردناها آنفا.
ولسنا بسبيل نفي أقرب الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من معنى (أهل بيته) أو الانتقاص مما هم أهل له بسبب ذلك من التوقير والاحترام. ولكن من الحق أن يقال إن هذا الشمول أو الحصر لا يكون مستقيما إذا أريد الاستناد فيه إلى هذه الجملة القرآنية وسياقها وظروف نزولها. وكل ما يسوغ قوله إن الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا صحت قد قصدت تعميم مدلول الجملة القرآنية لتشمل الأربعة المطهرين عليا وفاطمة والحسن والحسين بالإضافة إلى نساء النبي رضوان الله عليهم جميعا.
ونصوص الأحاديث قد تفيد هذا. لأنها ليس فيها قصد الحصر بأسلوب صريح وقاطع. والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
.(7/382)
(1) المسلمين والمسلمات: هنا هي بمعناها اللغوي أي المسلمين أنفسهم لله على ما هو المتبادر.
تعليق على الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... إلخ
عبارة الآية واضحة. وهي بسبيل التنويه بكل مسلم ومسلمة يتصفان بالصفات التي وردت فيها ويفعلان الواجبات التي نبهت عليها. وبسبيل بشرى استحقاقهما عظيم الأجر ورفيع المنزلة عند الله تعالى.
ويلحظ أن الصفات والواجبات قد جمعت كل صفات الخير وعناوين البرّ وضمانات النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة حيث ينطوي في هذا ما يتوخّاه القرآن من الارتفاع بالمسلمين والمسلمات إلى ذرى الكمال في مختلف المجالات.
ومع أن أسلوب الآية مطلق ينطوي فيه حكمة ربانية لتكون مستمرة المدى لكل وقت ومكان فإنه يتبادر لنا أنها تنطوي في الوقت نفسه على الإشادة بصفات فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء كانوا يتصفون فعلا بهذه الصفات ويفعلون تلك الواجبات. وأن فيها والحالة هذه صورة رائعة من صورهم رضوان الله عليهم.
ولقد رويت بضع روايات في مناسبة نزول الآية اختلفت فيها الأسماء والكيفيات واتفقت الغاية وهي تساؤل بعض المسلمات عن سبب اختصاص القرآن الرجال بالذكر والتنويه. أو مراجعة بعضهن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم سلمة أم المؤمنين وأسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي(7/383)
طالب وأم عمارة الأنصارية. والأخيرة ذكرت في حديث رواه الترمذي جاء فيه:
«عن أم عمارة قالت يا رسول الله ما أرى كلّ شيء إلّا للرجال وما أرى النساء يذكرون بشيء فنزلت الآية» «1» . ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [195] من سورة آل عمران حديثا رواه الترمذي عن أم سلمة مماثلا لهذا الحديث وذكر فيه أن آية آل عمران هذه نزلت بناء على مراجعتها النبي صلى الله عليه وسلم في صدد عدم ذكر النساء مع الرجال. والآية تبدو وحدة تامة مستقلة لأول وهلة. وقد يقوي هذا صحة رواية سبب نزولها وهو مراجعة أم عمارة أو غيرها.
غير أننا نلاحظ أن القرآن لم يغفل قبل نزول هذه الآية المرأة المسلمة الصالحة والتنويه بها في المكي منه والمدني «2» . وأن الآية التالية قد أشير فيها إلى واجب المؤمن والمؤمنة على السواء من أمر الله ورسوله وقضائهما. فهذا وذاك يوردان على البال أن تكون الآية متصلة بالسياق التالي لها، وبمثابة مقدمة تمهيدية.
كما لا يبعد أن تكون جاءت معقبة على الآيات السابقة بعد ذكر نساء النبي وواجباتهن ولتستطرد إلى ذكر الأجر العظيم عند الله لكل مؤمن ومؤمنة يقوم بواجبه ويلتزم حدود الله.
ومهما يكن من أمر فإن صيغة الآية قوية رائعة من ناحية ذكر النساء مع الرجال في ما احتوته من تنويه وأوجبته من واجبات. وهي حاسمة الصراحة في اعتبار المرأة مخاطبة في القرآن كالرجل سواء بسواء بكل التكاليف التعبدية والأخلاقية وأهلا لكل ما يترتب على ذلك كالرجل سواء بسواء.
وننبه بهذه المناسبة على أن العلماء والمفسرين متفقون على أن كل خطاب قرآني موجّه للمؤمنين والمسلمين أو فيه ذكر للمؤمنين والمسلمين في أي شأن وليس فيه قرينة على اختصاص الرجال دون النساء هو شامل للمسلمات والمؤمنات.
__________
(1) التاج، ج 4 ص 185.
(2) من الآيات المدينة آية سورة آل عمران [195] ومن الآيات المكية آية سورة النحل [97] وآية سورة غافر [40] وآية سورة البروج [10] .(7/384)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
. (1) الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: جمهور المفسرين على أن الجملة تعني زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبنّي للنبي وقد كان مملوكا فأعتقه.
(2) إذا قضوا منهن وطرا: كناية عن الوطء والجماع.
في هذه الآيات:
1- تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله. فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق.
2- وتذكير موجّه للنبي فيه معنى العتاب لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس.
3- وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه بعد قضاء وطره الجزء السابع من التفسير الحديث 25(7/385)
منها ليكون قدوة للمؤمنين فلا يشعرون بحرج في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا ما انفصلن عنهن بالطلاق أو الموت. وتقرير بأن هذا هو قضاء الله وأمره الذي يجب أن يكون النافذ الجاري.
4- وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت: فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنّة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره. وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدّرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ.
5- وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين:
فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء.
تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وما بعدها لغاية الآية [40] وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها
لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى «1» . منها أنها نزلت حينما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عتبة بن أبي معيط وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. [.....](7/386)
ورووا أن الآيات الأخرى نزلت في مناسبة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما رووه في صدد ذلك أن النبي بعد أن زوج زينب بزيد رآها قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه جمالها حتى أنه لم يتمالك أن قال سبحان مقلّب القلوب أو عبارة أخرى من بابها على اختلاف الروايات. وأن زينب شعرت بذلك فأخذت تتكبر على زيد وتزعجه فشكاها للنبي وأبدى رغبته في تطليقها. أو أن الله قد ألقى في نفس زيد كراهيتها لما علم بما وقع في نفس نبيه منها فرغب في تطليقها وأن النبي نصحه بعدم تطليقها وإمساكها مع أنه ودّ في نفسه لو يطلقها حتى يتزوجها. غير أن الأمر اشتد بينهما حتى انتهى إلى الطلاق فتزوجها النبيّ بعد انقضاء عدّتها. ومما يروى أن النبيّ أرسل زيدا إليها ليذكر لها أن النبيّ يخطبها لنفسه فلما رآها عظمت في نفسه فولّى مدبرا وهتف قائلا: أبشري يا زينب فإن رسول الله بعثني لأذكره لك. وهناك رواية تذكر أن زينب أخبرت زيدا بما شعرت به من ميل قلب النبي لها فقال لها هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله فقالت أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني «1» .
ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات.
ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ
__________
(1) هذه الرواية من مرويات الطبرسي.(7/387)
كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهة أخلاقه وتصرفه منها. ولقد دافع الكتاب والمتكلمون والمفسرون قديما وحديثا وحاولوا أن يضعوا الأمر في نصابه الحق. ومنهم من رأى بين الروايات دسّا مقصودا أو خلطا وتشويشا «1» .
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات بل نحن نكاد نجزم بذلك.
ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي:
1- خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب لزيد فاعتذرت وتمنّعت لأسباب قد يكون منها أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلّا الاستجابة لله ورسوله ولكنها ظلّت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري.
2- وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طلاقها.
__________
(1) انظر كتب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص 307- 310، وانظر أقوال المفسرين الطبري والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري والقاسمي. وقد نقل الأخير عن الإمام ابن العربي وعن الإمام محمد عبده كلاما قويا في ذلك.(7/388)
3- وكان التبني يستتبع حرمة النكاح. فلما اقتضت حكمة التنزيل التنديدية في أوائل السورة تنديدا شديدا يتضمن إبطاله لأنه ليس مما يقرّه الله وبيان ما يجب عمله إزاء الأبناء بالتبني اقتضت إبطال ما يستتبعه ومن ذلك تحليل زواج المتبني من مطلقة متبناه. وكان التقليد راسخا فلم يجرؤ أحد على الإقدام على ذلك.
فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فرسل الله هم حملة رسالته ومبلّغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره ...
ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد.
4- وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره.
ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمّدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرّم عليه مطلقته.
وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام ربّاني ولكن بدون وحي قرآني. إلّا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته.
وموضوع عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في صيغة الآية الثانية واضح وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلّها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين- وليس عن النبي فقط- في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني(7/389)
إذا طلقوهن أو ماتوا عنهن، وواجب النبي في تنفيذ أمر الله وتقرير كون ما فعله هو إرادة الله وإلهامه. وفي هذا وبخاصة في جملة لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً مفتاح الحادث وتعليله الحقّ الصادق.
وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي وخاصة ما استغلّه الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوّج النبي منها.
بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد.
وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا.
وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبنّي، فصار زيد ليس ابنا للنبيّ صلى الله عليه وسلم فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبنّي.
وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عند ما قضى الله ورسوله إيجابا وسلبا. وتنفيذا وامتناعا.
وسواء أتبيّن حكمته أم لم يتبينها. مع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لكل أمر وحكم وتقرير وإيذان رباني ونبوي حكمة وإن أعياه إدراكها. وقد تكرر هذا في آيات كثيرة بأساليب متنوعة ممّا مرّ منه أمثلة عديدة وممّا هو الأساس الرئيسي للشريعة الإسلامية. والقرآن يمثّل حكم الله وقضاءه والسنن القولية والفعلية الثابتة عن رسول الله تمثّل حكم رسول الله وقضاءه.
ونخلص من كل ذلك بكلمة ختامية وهي أن المتبادر والمستلهم من فحوى الآيات ونصوصها وهي أن مفتاح الحادث في الآية التالية فالله سبحانه وتعالى أمر بإلغاء التبني فكان المقتضى أن تلغى أحكامه أيضا وكان فيها حرمة(7/390)
تزوّج الآباء بمطلقات الأبناء بالتبني، فتحرّج المؤمنون من ذلك فأمر الله تعالى رسوله بتنفيذ ذلك بنفسه حتى يكون قدوة للمؤمنين فخشي كلام الناس وتحرّج فعوتب على ذلك وكان إلغاء التبني وغدوّ زيد (زيد بن حارثة) بعد أن كان (زيد بن محمد) مما أثار الاستعلاء في النسب في نفس زينب فأثار ذلك توترا بين الزوجين فشكا زيد للنبي وشاوره بتطليقها فنصحه بإمساكها وكان تطليقها الوسيلة المناسبة التي قدّرها الله وأمر بها فعوتب على ذلك أيضا. ويظهر أن زينب تحرّجت من التزوّج من النبي لأنها على كل حال كانت زوجة (زيد بن محمد) فنبهت إلى أنه لا خيار لها حينما يقضي الله ورسوله أمرا، فكان كل ذلك حسما للأمور وجاءت الآيات التالية بعد هذه حاسمة أيضا فليس من حرج على النبي فيما فرض الله وهذه سنّة الله في رسله الذين من واجبهم أن ينفذوا أوامر الله ولا يخشون إلّا الله وقيل ذلك وبعده (ليس محمد أبا زيد ولا غيره في الحق والحقيقة وإنما رسول الله وخاتم النبيين والله تعالى أعلم) . ولقد جاء بعد قليل من هذه الآيات هذه الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) . ثم هذه الآيات: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) .
والمتبادر أن المنافقين أطالوا ألسنتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى زينب رغم ما في الآيات السابقة من قوة تضع الأمور في نصابها الحقّ، فأنزل الله تلك الآيات وبعد قليل من هذه الآيات جاءت هذه الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً(7/391)
عَظِيماً
(71) والمتبادر أن بعض المؤمنين المخلصين أيضا اندمجوا في المقالات فنبههم الله سبحانه وتعالى إلى ما هو أولى بهم من تقوى الله والقول السديد وطاعة الله ورسوله والله أعلم.
تعليق على مدى جملة وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ
ولقد علّق المفسرون «1» على هذه الجملة فقالوا إنه ينطوي فيها أنه يكون خاتم الرسل أيضا لأن كل رسول نبيّ وليس كل نبي رسولا فما دام أنه خاتم النبيين فهو خاتم الرسل. ثم رووا في سياقها أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الترمذي عن أبي بن كعب جاء فيه: «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تمّ موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع هذه اللبنة» «2» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك جاء فيه: «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي بعدي» قال فشقّ ذلك على الناس فقال: «ولكن المبشرات، قالوا يا رسول الله وما المبشرات؟ قال رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة» «3» . ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الترمذي جاء فيه: «فضلت على الأنبياء بستّ أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النبيون» . ومنها حديث عن جبير بن مطعم أخرج في الصحيحين جاء فيه: «إنّ لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» . ومنها
__________
(1) انظر تفسيرها في ابن كثير والخازن.
(2) روي هذان الحديثان بطرق عديدة مع خلاف يسير.
(3) انظر المصدر السابق نفسه.(7/392)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
حديث عن عبد الله بن عمر أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع فقال: «أنا محمّد النبيّ الأميّ ثلاثا ولا نبيّ بعدي. أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش وتجوز بي وعوفيت وعوفيت أمتي فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه» «1» .
ولقد رشح القرآن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في آيات عديدة ليكون دين البشرية جميعا في كلّ زمن ومكان مثل آية الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) [28] «2» وآية سورة النور هذه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) .
ولقد احتوى القرآن من الأسس والمبادئ والتشريعات والتلقينات والنظم والمعالجات في صدد العقائد والمعاملة والحياة الدنيوية والأخروية ما يكفل حلّ جميع الإشكالات والتمشي مع كل طور وزمن ومكان وصلاح البشرية وسعادتها على أتمّ وجه وأفضله. وجاءت السنن النبوية متممة موضّحة مفسّرة فلم يعد هناك حاجة إلى أنبياء ورسل من بعده وذلك هو مصداق قول الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ صلوات الله وسلامه عليه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) .
__________
(1) نقلنا نص هذا الحديث والأحاديث السابقة عن ابن كثير.
(2) هذا المعنى جاء أيضا في آية سورة التوبة [33] وفي آية سورة الصف [9] .(7/393)
(1) هو الذي يصلي عليكم وملائكته: الجمهور على أن معنى صلاة الله ورحمته وهدايته ومعنى صلاة الملائكة تأييدهم واستغفارهم.
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثّون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.(7/394)
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عزّ وجلّ يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم وبأن ذلك وسيلة وكفيل لإخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عزّ وجلّ منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله تعالى» «1» . ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» «2» .
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة.
ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا
__________
(1) التاج، ج 5 ص 83.
(2) المصدر نفسه ص 78 و 79 وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه.(7/395)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [45 و 46] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة. قال: أجل. والله إنّه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيّها النبي إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة. ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملّة العوجاء بقول لا إله إلّا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا» وقال ابن كثير إن البخاري روى هذا في البيوع «1» .
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة «2» . ومهما يكن من أمر فالآية [157] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
. (1) إذا نكحتم: هنا بمعنى إذا تزوجتم أو عقدتم نكاحكم.
__________
(1) انظر كتاب السنة للسباعي ص 73.
(2) لم نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري.(7/396)
في الآية خطاب للمؤمنين على سبيل التشريع والتنبيه يقرر لهم فيه بأنه ليس لهم فرض عدّة على الزوجة التي يطلقها زوجها قبل مسّها، وبأن على الزوج المطلق أن يؤدي لمطلقته حقّها من المتعة وأن يسرّحها سراحا جميلا لا أذى فيه ولا ضرر.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. وهي كما تبدو فصل جديد. أو بداية فصل جديد من فصول السورة. وقد جاءت موضحة أو مستدركة لآيات سورة البقرة [236- 237] التي وردت في صدد المطلقات قبل المسيس.
وقد احتوت آيات البقرة هذه تشريعا في صدد متعتهن ومهورهن دون عدتهن. ولقد ذكر في آية سورة البقرة [228] أن المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. فمن المحتمل أن يكون الأمر قد التبس على المسلمين فاستفتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية بعد مدة من نزول آيات البقرة فأمر النبي بوضعها في مقامها لحكمة غابت عنّا.
ولعل ذلك بسبب كون آيات البقرة كانت مرتبة فلم ير النبي ضرورة لإخلال ترتيبها والله أعلم. وقد انطوى في الآية تعليل أو حكمة تشريع. فالعدة هي لاستبراء الرحم ولإعطاء مجال للزوج المطلق لمراجعة زوجته. فإذا لم يقع مسّ فلا يبقى محل لذلك.
ولقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلوة الصحيحة توجب العدة ولو لم يكن وطء «1» . غير أن الجمهور على أن العدّة إنما تجب بالوطء. وهذا هو المنسجم مع نصّ الآية وحكمة تشريع العدّة. وهذا غير كون الخلوة الصحيحة موجبة للمهر
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن. والحديث النبوي منقول عن البغوي الذي رواه بطرقه. وقد أورده القاسمي وقال إنه من مرويات ابن ماجه عن المسور بن محرمة.(7/397)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
الكامل ولو لم يكن وطء الذي هو أيضا محل خلاف بين الفقهاء والذي يمكن أن يكون وجيها على ما شرحناه في سياق الآيات [236- 237] من سورة البقرة.
وصيغة الآية تلهم أن الحثّ على الرفق بالمرأة وأداء حقها وحسن معاملتها في حالة طلاقها هو هدف رئيسي فيها. وهذا متسق مع النصوص القرآنية العديدة التي استهدفت ذلك أيضا.
ولقد استنبط بعض الأئمة مثل الإمامين الشافعي وابن حنبل من هذه الآية ومن حديث رواه جابر عن رسول الله جاء فيه «لا طلاق قبل النكاح» أنه لا يقع طلاق قبل عقد نكاح بحيث لو قال رجل إن تزوجت فلانة فهي طالقة وتزوجها فلا يقع عليه طلاق. وذكر ابن كثير أن هذا مذهب طائفة كبيرة من السلف «1» . ويظهر من هذا أن هناك رأيا فقهيا يخالف هذا. ونحن نرى القول وجيها أكثر من نقيضه.
وهناك قضية أخرى من هذا الباب وهي حالة رجل يقول: «أيما امرأة تزوجتها فهي طالق» حيث ذكر ابن كثير أن الإمامين أبا حنيفة ومالك يقولان بوقوع الطلاق في حين أن الإمامين الحنبلي والشافعي يقولان بعدم وقوعه «2» . ونحن نرى هذا أوجه من القول الأول أيضا فالطلاق قد شرّع للفراق بعد الزواج في حالة تعذر الوفاق على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة. وهذا إنما يتحقق بعد الزواج والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) .
__________
(1) انظر تفسير الآية في الخازن.
(2) المصدر نفسه. [.....](7/398)
(1) آتيت أجورهن: دفعت مهورهن. وقد سمّي المهر أجرا في آية سورة النساء [23] . مع كلمة فريضة كما جاء في الآية: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.
(2) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك: وما أصبح ملك يمينك من السبي الذي يسّره الله لك.
(3) ترجى: بمعنى تترك وتهمل أو تؤجل.
(4) وتؤوي إليك: وتدخل إليك.
(5) ومعنى جملة وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ: أي تؤوي إليك من ابتغيت ممن أرجأتهنّ سابقا.
في الآيات:
خطاب للنبي بشأن أنكحته على سبيل التشريع يؤذن فيه:
1- أن الله قد أحلّ له زوجاته اللائي تزوج بهن سواء أكن اللائي أدى مهورهن من بنات أعمامه وعماته وأخواله وخالاته المهاجرات معه أم اللائي وهبن أنفسهن له، أم اللائي هن ملك يمينه مما أفاءه الله عليه من سبي الأعداء.
2- وأن هذا مباح له على وجه التخصيص دون سائر المؤمنين الذين شرع لهم ما شرع في آيات أنزلها قبل هذه الآيات حتى لا يكون في حرج وإشكال من أمر زوجاته وحياته الزوجية والله غفور رحيم.
3- أن الله قد أحلّ له كذلك أن يتصرف بما يتراءى له معهن في المعاشرة الجنسية فيترك أو يهمل أو يؤجّل من يشاء منهن ويؤوي إليه للنكاح من يشاء منهن ويعود إلى من ترك وأجّل منهن.(7/399)
4- وأن هذا أدعى إلى إدخال السرور على أنفسهن وعدم حزنهن ورضائهن بما يفعله معهن جميعهن. والله يعلم ما في قلوب الناس وميولهم ويأمر بما فيه المصلحة ويوسع لهم من حلمه.
5- وأنه ليس له بعد الآن أن يتزوج بامرأة زواجا بعقد ولا يترك إحدى زوجاته ليأخذ مكانها غيرها ولو أعجبه حسنها باستثناء ملك اليمين الذي يظل مباحا له، والله رقيب على كل شيء.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلخ والآيتين التاليتين لها
والذي يتبادر لنا استلهاما من فقرة قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أن هذه الآيات نزلت بعد آيات سورة النساء [3 و 18- 28] التي احتوت تشريعات في صدد الأنكحة وعدد الزوجات التي يستطيع الرجل جمعهن في عصمته وما يحلّ له وما لا يحلّ إلخ وبمناسبتها. فقد كان تعدد الزوجات جاريا من دون تحديد فتعددت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كما تعددت زوجات غيره. فلما نزلت آيات النساء المذكورة وبخاصة الآية الثالثة التي اعتبر نصّها تحديدا تشريعيا للتعدد وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) بحيث لا يزيد عدد الزوجات التي يستطيع المسلم أن يجمعهن في عصمته معا عن أربع باستثناء ملك اليمين احتفظ الذين كان عندهم أكثر من أربع زوجات بأربع منهن وسرّحوا العدد الزائد. وبرزت مشكلة زوجات النبي اللائي كن أكثر من العدد المحدد محرجة له ولهن، ونعتقد أن هذا مفتاح القضية في هذا المقام. فقد كان في إمكان زوجات المسلمين الزائدات عن العدد اللائي سرّحهن أزواجهن بعد نزول الآية أن يتزوجن فلم يكن هناك ضرر عظيم من تسريحهن، فاقتضت حكمة(7/400)
التنزيل أن لا يكون هذا سائغا لنساء النبيّ بسبب ما صار لهن من شرف وكرامة فأوحى الله بهذه الآيات لحلّ المشكلة على النحو الذي شرحناه. ولعل النبي أراد أن يطلق الزائدات منهن تقيدا بالتحديد القرآني كما فعل المسلمون فكان هذا مما أزعج أمهات المؤمنين وأحزنهن لما سوف يكون من أمر المطلقات منهن وقد حرموا من استمرار شرف النسبة إلى النبي وانسدّ عليهم باب الحياة الزوجية وفقدوا السند والكفيل فاحتوت الآية الأولى ما احتوته من إباحة احتفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بهن جميعا.
كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص وأنها احتوت شبه إيعاز للنبيّ بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حقّ معاشرة إحدى المرجئات تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجىء واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك. والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصحّ أن يكون قرينة على ذلك. ولقد روى الزمخشري في كشّافه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن: عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن.
وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء. والروايات لم ترد في الصحاح. ونصّ الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء لمن أرجأ. بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات والقول إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا بدّ من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم.
ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا. والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبيّ في تطليق الزائد عن العدد وأن في الرواية لبسا، لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في الجزء السابع من التفسير الحديث 26(7/401)
سياق آية التخيير ولم يكن هناك محل خوف من طلاق بعد نزول التخيير إذا ما اختار نساء النبي الله ورسوله والبقاء عنده وهو ما وقع. ولقد روى المفسرون أن إحداهن سودة أعلنت تنازلها عن يومها لعائشة ليبقيها في عصمته. والراجح أن ذلك كان بعد نزول التحديد وقبل نزول الآية الإذن للنبي باستبقاء جميع نسائه حيث نزلت لتهدئة اضطرابهن وتسكين حزنهن وتطمين قلوبهن.
ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [50] على مفهوم كونها مطلقة وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات «1» . وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه: «خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني. ثم أنزل الله الآية فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء» . وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانىء بنت أبي طالب «2» ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تمّ من زيجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه. ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول. ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده أن الله قد أحلّ في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم.
ولقد كان في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.
(2) انظر التاج، ج 4 ص 186 و 187 وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومنّ عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعدّ مهاجرا لأن النبي قال: (لا هجرة بعد الفتح) . على ما أوردناه في سياق الآية [77] من سورة الأنفال.(7/402)
بنت خزيمة وزينب بنت جحش وسنية النضيرية وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن. وماتت زينب بنت خزيمة في حياته وبقيت التسع الأخرى إلى أن توفاه الله تعالى. ولم يتزوج أحدا بعد هذه الآيات «1» . وقد يكون في هذا دليلا آخر مؤيدا.
ولقد احتوت الآية [52] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [51] على ما يتبادر لنا. فبعد أن أبيح له في الآية [51] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [52] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين. ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن. هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية.
منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما: «ما مات النبيّ حتى أحلّ الله النساء» . ومنها حديث عن أبيّ بن كعب يفيد أن الآية لم تحرّم الزواج على النبي بالمرة وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحلّه الله له في الآية [50] والأحاديث ليست من الصحاح.
ونصّ الآية فيما نرى، وبخاصة جملة مِنْ بَعْدِهِ صريح بالنهي إطلاقا.
ولذلك فنحن نتوقف فيها. ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا: إن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [28] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه. هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها
__________
(1) كان تحته بالإضافة إلى زوجاته المذكورة أمتان ملك يمينه هما ريحانة القرظية ومارية القبطية. وقد تسرى بالثانية بعد نزول الآيات. انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وانظر ابن هشام ج 4 ص 321- 326.(7/403)
من هؤلاء العلماء تعليقا على مدى الآية دون كونها سببا لنزولها. فإننا ما نزال نرى أن هذه الآية والآيتين السابقتين لها قد نزلت بعد آيات سورة النساء وبخاصة التي يحدد فيها عدد الزوجات اللائي يجوز جمعهن في عصمة الرجل وبمناسبتها. لأن هذا هو المتسق مع نصوصها وبخاصة مع جملة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ.
ولقد قال بعض المفسرين «1» في مدى تعبير وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له. والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبيّ عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له. أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك اليمين كما قلنا قبل قليل.
وصيغة الجملة وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها صيغة أسلوبية ولا تعني في مقامها على ما يتبادر لنا أن ذلك بالنسبة للمستقبل.
ونصّ الآية [50] التي وردت فيها هذه الجملة يفيد بقوة أن المرأة التي وهبت نفسها هي من جملة ما شملته جملة إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلخ.
ولقد تعددت الروايات في شخصية هذه المرأة منها أنها ميمونة بنت الحارث التي تزوجها النبي في ظرف زيارته الكعبة في السنة السابعة من الهجرة بناء على الاتفاق الذي تمّ بينه وبين قريش في الحديبية ومنها أنها زينب بنت خزيمة المعروفة بأم المساكين ومنها أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك بن جابر. والاثنتان الأوليان هما من زوجات النبي فعلا دون الأخريين على ما يستفاد من الأسماء المروية التي أوردناها آنفا. ويبدو أن رواية كونها ميمونة هي الأقدم والأوثق. وقد نبّه المفسرون
__________
(1) انظر الخازن والبغوي.(7/404)
على أن هبة التي وهبت نفسها للنبي ليست بمعنى التملك أو الزواج بدون عقد ومهر. وهو في محله. وقد روى ابن هشام أن العباس عمّ النبي هو الذي زوجها للنبي وأصدقها عنه أربعمائة درهم «1» .
ولقد كان استثناء القرآن النبيّ صلى الله عليه وسلم من تحديد الزوجات الوارد في حق سائر المؤمنين موضع انتقاد وغمز من قبل الأغيار بزعم أنه يضع لنفسه قوانين خاصة كما كانت كثرة زوجاته موضع غمز ونقد أيضا بزعم أن ذلك يدلّ على شدة شهوانيته.
ولقد ردّ كتّاب المسلمين على هذا وذاك ردودا متنوعة وجيهة. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم في تعدد زوجاته لم يكن شاذّا عن بيئته وعن الطبيعة البشرية. ومنها أن لأكثر زوجاته ظروفا غير دواعي الرغبة الجنسية إذ توخّى في بعضها تكريم صاحبيه أبي بكر وعمر وفي بعضها توثيق الرابطة بين الإسلام وبعض القبائل كزيجته بجويرية المصطلقية التي كان من نتائجها إسلام جميع قبيلتها وفي بعضها تكريم الزوجات التي مات أزواجهن في الحبشة أو استشهدوا في الجهاد مثل أم حبيبة وأم سلمة «2» وسودة. ومنها أن نصف زوجاته كنّ من المتقدمات في السنّ وأمهات أولاد كبار ممن تقلّ الرغبة الجنسية فيهن عادة. وجوهر ومدى الردود صحيحان كلّ الصحة «3» .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي ثم ابن هشام ج 4 ص 324 وابن سعد ج 3 ص 169.
(2) أورد ابن كثير في سياق الآية [155] من سورة البقرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها بعد انتهاء عدّة حدادها على زوجها أبي سلمة الذي مات شهيدا في حرب، فقالت له: أنا امرأة قد دخلت السن وأنا ذات عيال وأنا امرأة شديدة الغيرة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبا الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي» .
(3) انظر كتاب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص 303- 317 وتاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم ج 1 ص 130- 136، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه لعباس محمود العقاد ص 196- 199.(7/405)
ومما يصح أن يضاف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما تزوج لأول مرة في شبابه تزوج بمن تزيد عنه في السن سنين كثيرة. وظلّ مقتصرا عليها طيلة حياتها التي بلغت فيها سنّ الشيخوخة أو كادت. وكان من أسرة رفيعة ويستطيع أن يخطب ويتزوج بالأجمل والأفتى قبل زوجته وبعدها لو كان دافعه شهوانيا وحسب، رغم أن هذا ما تبرره البيئة والتقاليد والطبيعة كما قلنا. وكان ينبغي على الغامزين لو يشعرون بشيء من الإنصاف والحياء أن يتبينوا كل ذلك في ظرف التخيير الذي شرحناه في سياق الآية [28] والذي بدا فيه رسول الله في أروع صورة من التسامي ونبذ لذائذ الحياة وأن يتذكروا أنه كان في قدرته بعد نبوته ثم بعد هجرته بخاصة أن يتزوج بالأفتى والأجمل والأغنى وليس بالمطلقات والأرامل وأمهات الأولاد والمتقدمات في السن.
ونقول على سبيل المساجلة إن النبي لم يكن في حاجة إلى تشريع خاصّ لو لم يكن هناك ظروف قاهرة. وكان بإمكانه أن يستغني عن المتقدمات في السنّ وذوات الأولاد وغير الجميلات لو كانت دواعيه هي الرغبة الجنسية وحسب. وقد شرحنا هذه الظروف في سياق تفسير الآية [51] التي تضمنت إشارة إليها. وهي ظاهرة الصواب والحكمة والسموّ لا يكابر فيها منصف. ولقد تضمنت هذه الآية بالإضافة إلى ذلك إيعازا بعدم مباشرة أكثر من العدد المحدد على ما شرحناه كذلك فكان فيه توفيق بين هذه الظروف والتحديد القرآني. يضاف إلى هذا أن الآية [52] قد حرّمت التزوج على النبي بالمرة بعدها حتى ولو لم يبق في عصمته زوجة من زوجاته بالطلاق أو الموت على ما رجّحنا أنه المتبادر منها. وفي هذا ردّ مفحم آخر على الغامزين.
هذا، والآيات كما رجحنا قد تضمّنت استدراكا لآية سورة النساء [3] التي اعتبرت تشريعية في تحديد عدد الزوجات الذي يصحّ للمسلم جمعه في عصمته في(7/406)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
وقت واحد. فممّا يرد بالبال أنها نزلت بعد أن تمّ ترتيب آيات سورة النساء وعقب الآية السابقة لها فرأى النبي أن توضع في سياقها الذي وردت فيه في هذه السورة بإلهام من الله. وفي هذا صورة من صور تأليف آيات وسور القرآن. والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
. (1) إلّا أن يؤذن لكم: إلّا أن تدعوا ويؤذن لكم بالدخول.
(2) غير ناظرين: غير منتظرين.
(3) إناه: نضجه.
(4) فانتشروا: انصرفوا وتفرقوا.
(5) ولا مستأنسين لحديث: ولا تبقوا بقصد الائتناس والتسلّي بالكلام.
(6) متاعا: شيئا ما.
(7) حجاب: ستر.
(8) تنكحوا أزواجه: بمعنى تتزوجوهن.
الخطاب في الآيات موجه إلى المؤمنين:
1- تنهاهم فيه عن عدم دخول بيوت النبي إلّا بدعوة إلى طعام على أن لا يأتوا قبل إيذانهم بنضجه بقصد انتظار ذلك في هذه البيوت. فإذا نضج الطعام(7/407)
ودعوا فليدخلوا وإذا أكلوا فليتبادروا إلى الخروج دون إطالة مكث بقصد السمر والحديث.
2- وتنبههم فيه إلى أن ما كان من تصرف مخالف منهم لهذا كان مما يثقل على النبي ويؤذيه ولكنه كان يستحيي منهم فلا يصارحهم. والله لا يستحيي من الحقّ. ولذلك فهو ينهاهم وينبههم إلى ما يقتضي من الأدب في هذا الباب. وإذا ما كان لهم حاجة ما عند نساء النبي فعليهم أن يسألوهن عنها من وراء ستار. فهذا هو أطهر لقلوبهم وقلوبهن. وعليهم أن يلتزموا هذه الآداب ولا يؤذوا رسول الله بمخالفتها. وليس لهم كذلك أن يتزوجوا بزوجاته من بعده أبدا فإن إثم ذلك عند الله عظيم. وعليهم أن يذكروا دائما أن الله عليم بكل شيء سواء أأظهروه أم أخفوه في صدورهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... إلخ والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ورواة الحديث في صدد القسم الأول من الآية الأولى بعض أحاديث وروايات. ومما رواه الشيخان والترمذي من ذلك «أن النبي صنع طعاما في مناسبة بنائه على زينب وأمر أنسا أن يدعو الناس فصار يدعوهم فيأتون فيأكلون ويخرجون ثم يجيء غيرهم فيأكلون فيخرجون حتى لم يجد أحدا يدعوه، فقال: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج رسول الله فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي فإذا ثلاثة رهط يتحدثون وكان النبي شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فأخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في(7/408)
أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بينه وبين أنس ونزلت الآية إلى جملة ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» «1» .
وقد روى الشيخان في صدد القسم الثاني من الآية: «أن عمر قال: قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آيات الحجاب وهي: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» «2» .
والحديث الأول أكثر اتساقا مع مضمون الآية. ويفيد الحديث الثاني أن عمر كان يتمنى حجبهن شخصيا بحيث لا يراهن أو يجلس إليهن الناس وفيهم البرّ والفاجر في حين أن مضمون الآية لا ينطوي على هذا القصد تماما.
ولقد روى الطبري حديث عمر ثم روى أن أنس بن مالك قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية ثم ساق حديث وليمة النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبة زواجه بزينب على النحو الذي جاء في الحديث الأول كأنما يصحح المناسبة. وهذا لا ينفي أن يكون عمر اقترح على النبي قبل نزول الآية حجب نسائه وأن يكون اعتبر الآية حين نزلت استجابة لاقتراحه. وقد روى البخاري عن ابن عمر حديثا عن عمر قال: «وافقت أبي في ثلاث. قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى البقرة [125] وقلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلّمهن البرّ والفاجر فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربي إن طلّقكن أن يبدله خيرا منكن فنزلت آية التحريم عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ... إلخ الآية» . حيث ينطوي في الحديث دليل آخر على هذا الاعتبار.
__________
(1) انظر التاج فصل التفسير ج 4 ص 187- 188، وانظر أيضا تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن والبغوي وابن كثير. ففي كتبهم أحاديث وروايات أخرى بينها بعض التغاير في الصيغ مع الاتفاق في الجوهر فاكتفينا بنقل ما رواه الشيخان والترمذي.
(2) المصدر نفسه.(7/409)
وقد روى المفسرون في صدد القسم الأخير من الآية الأولى أن بعض المسلمين قال إنه إن عاش بعد النبي ليتزوجن بعائشة. والرواية ليست بعيدة الاحتمال والأرجح إن صحت أن يكون القائل من الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم بعد، لأن في قوله شيئا من التحدي لا يمكن أن يصدر من مخلص صادق الإيمان.
وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الفقرة الأخيرة لم تنزل لحدتها وأن الآيتين نزلتا معا. ومن المحتمل أن يكون هذا القول المروي قد صدر قبل نزولهما فاقتضت الحكمة التنبيه على ما فيه من إثم عظيم للمناسبة الموضوعية.
وواضح من نصّ الآية الأولى أنها في صدد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته بخاصة. كما أن من الواضح منها أن الحجاب المذكور فيها لا يعني نقاب الوجه وإنما يعني ستار الباب أو حجابه وأن الأمر بسؤالهن من وراء حجاب إذا أريد سؤالهن متاعا مستتبع للأدب الذي تعلمه الآية بعدم الدخول لبيوت النبي إلّا بإذن ودعوة إلى طعام وعدم إطالة المكث للسمر والحديث، حتى إن حديث عمر لا يفيد ذلك قط. ووجه المرأة ويداها ليسا عورة فهي تصلي وهما مكشوفان. وتؤدي مناسك الحج وهما مكشوفان. بل هناك حديث نهى النبي فيه عن النقاب والقفازين في إحرام المرأة على ما أوردناه في تفسير آيات الحج في سورة البقرة.
وفي سورة النور آيات فيها تعليم عام بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات عامة في صدد دخول بعضهم على بعض وتناول الطعام والدخول على المخادع وما يجوز للمرأة إظهاره من زينتها لمحارمها إلخ مما يقوي الدليل على خصوصية حكم الآية الأولى ببيوت النبي. والمتبادر أن حالة بيوت النبيّ التي لم تكن إلّا حجرات في طرف الساحة المسورة التي اتخذ النبيّ قسما منها للصلاة والاجتماع بالناس هي التي اقتضت هذا النهي. وقد ذكر الطبري في سياق الآيات وسبب نزولها أن زينب كانت موجودة في البيت الذي ظلّ بعض المدعوين سامرين فيه. وتحريم التزوج بنساء النبي بعده في الآية الأولى دليل قطعي على أن حكمها ومداها محصوران(7/410)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
ببيوت النبي ونسائه. وقد يكون فيها دليل على أن ممّا كان جاريا دخول المسلمين لبيوت بعضهم وتناولهم الطعام والسمر فيها ونساؤهم فيها مع رجالهم وذوي محارمهم. وقد ظلّ هذا سائغا بعد قيده بالاستئذان والإذن والاحتشام ووجود ذوي المحرم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة النور. ومع خصوصية الآية ببيوت النبي ونسائه فإن فيها أدبا يحسن بالمسلمين أن يلتزموه وهو مراعاة حال أهل البيت وعدم إطالة المكث فيه وعدم التحجج بالسؤال عن أمر وطلب متاع ما وكثرة طروق بيوت الناس إذا ما كان ذلك مما يسبب ضيقا وحرجا لأهل البيت، وهذا كثيرا ما يكون.
أما تحريم التزوج بزوجات النبي من بعده فحكمته ظاهرة، فقد سماهن القرآن بأمهات المؤمنين وقد جعل الله لهن بعض الخصوصيات بسبب هذه الكرامة التي كرّمهنّ بها فلا يصح لمسلم أن يفعل أو ينوي أن يفعل فيه إخلال. فيها. وصيغة النهي عن التزوج بزوجات النبي من بعده يؤيد ما قلناه. وسياق الآية التي وصفهنّ فيها بأمهات المؤمنين في هذه السورة من أن هذا الوصف هو من باب التكريم ولم ينطو على تحريمهن على المؤمنين في حالة طلاقهن أو ترملهن حيث اقتضت حكمة التنزيل النصّ على ذلك في الآية التي نحن في صددها.
[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
. (1) واتقين الله: أمر موجه لنساء النبي على سبيل الالتفات الخطابي.
وفي هذه الآية استدراك لآداب الحجاب والدخول التي احتوتها الآيات السابقة. والضمائر فيها عائدة بالتبعية إلى نساء النبي فليس من جناح أن يدخل على نساء النبي آباؤهن وأبناؤهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن ونساؤهن(7/411)
وخدمهن الذين هم ملك أيمانهن. وعليهن بتقوى الله والتزام حدوده وملاحظة كونه حاضرا في كل آن وشهيدا على كل شيء.
تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ ... إلخ
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآية. فإما أن تكون نزلت مع الآيتين الأوليين وإما أن يكون النهي قد أحدث بعض الحرج بالنسبة لمحارم نساء النبي فنزلت للاستدراك. وإذا صحّ الاحتمال الثاني دون الأول فتكون الآية قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.
ويلحظ أن الأعمام والأخوال لم يذكروا في المستدركين. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الأعمام والأخوال في مقام الآباء ولذلك لم يذكروا ولكن حكم الإباحة يجري عليهم كما قال بعضهم «2» إنهم ممن كره أن يدخلوا بدون إذن وحجاب على نساء النبي حتى لا ينعتوهن لأبنائهن الذين هم غير محارم عليهن.
والقول الأول هو الأوجه فيما نرى. ومسألة نعت النساء للأبناء ولغيرهم واردة في حقّ الإخوان وأبناء الإخوان وأبناء الأخوات والنساء جميعا ومهما يكن من أمر ومهما كانت حكمة عدم ذكر الأعمام والأخوال خافية فإننا نقول إن القرآن يتمم بعضه بعضا. والأعمام والأخوال من محارم المرأة بنص آية النساء هذه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ [23] بحيث يكون في هذا تأييد ما لوجاهة ذلك القول. ولقد أورد المفسر القاسمي حديثا عن البخاري عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «أنها قالت: استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب فقلت لا آذن حتى أستأذن النبي فلما دخل عليّ قلت له: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) المصدر نفسه.(7/412)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال: وما منعك أن تأذني؟ فقالت: إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فقال: ائذني له فإنه عمّك تربت يمينك» . وأفلح صار عمّها لأنه أخو زوج امرأة أرضعتها فمن باب أولى أن يكون دخول الأعمام والأخوال الأصليين جائزا.
وقد قال المفسرون «1» في تعبير وَلا نِسائِهِنَّ قولين، أحدهما أن المقصود به النساء المؤمنات. وأن غير المؤمنات داخلات في النهي. وثانيهما أن التعبير عام يقصد به النساء عامة لوحدة الجنس، والنفس تطمئن بالقول الثاني أكثر. ويتبادر لنا أن صيغة وَلا نِسائِهِنَّ قد جاءت للتوافق اللفظي أكثر منها للاختصاص.
كذلك فإن لهم في تعبير وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قولين «2» ، أحدهما أن المقصود به الإماء دون العبيد. وثانيهما أن الجنسين سواء في القصد. وإطلاق التعبير يتناول الجنسين كما هو واضح. ولذلك فإن النفس تطمئن بوجاهة القول الثاني أكثر. ولا سيما أن مالكة العبد من محارمها على ما تفيده آية سورة النور [31] على ما سوف يأتي شرحها بعد.
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
. تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
في هذه الآية:
1- تقرير تنويهي بما للنبي صلى الله عليه وسلم عند الله وملائكته من عظيم المنزلة ورفعة
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
(2) المصدر نفسه.(7/413)
الشأن: فألله تعالى يصلي عليه بشموله الدائم بعطفه ورحمته. والملائكة يصلون عليه بدعائهم وتأييدهم.
2- وأمر للمسلمين بأن يصلّوا هم عليه ويسلّموا صلاة وتسليما متناسبين مع رفعة شأنه وعلّو منزلته بالدعاء والتعظيم والإجلال.
والمتبادر أن الآية متصلة بما قبلها وما بعدها معا. ومعقبة على ما جاء قبلها من التعليم والتأديب والنهي وممهدة لما جاء بعدها من الإنذار للذين يتعمدون مكايدة النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه. وأنها استهدفت تلقين المسلمين ما يجب عليهم إزاء النبي من التوقير والإخلاص واجتناب كلّ ما يؤذيه ويحزّ في نفسه قولا وعملا سرا وجهرا واتباع كل ما فيه رضاؤه وقرة عينه وفعله.
ومع خصوصية الآية فإن إطلاق العبارة فيها يجعلها عامة شاملة لكل مسلم ومسلمة في كل وقت ومكان وموجبة عليهم أداء حق النبي صلى الله عليه وسلم من التوقير والتعظيم والدعاء والترحم وعظيم الشكر في سبيل تسجيل الاعتراف بما له عليهم من فضل خالد الأثر في هداهم إلى الحق والخير وسعادة الدارين وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ولقد أثرت أحاديث كثيرة مختلفة الرتب في صدد الصلاة على النبي ووجوبها وفضلها من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي جاء فيه: «قيل لرسول الله حينما نزلت الآية: أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلّي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «1» . ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود قال: «إذا صليتم على النبي فأحسنوا الصلاة عليه. قالوا له: علّمنا، فقال: قولوا اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك
__________
(1) انظر التاج فصل التفسير ج 4 ص 189 وهذه الصيغة هي المأثورة التي تتلى في التشهد بعد التحيات في الصلوات. [.....](7/414)
ورسولك إمام الدين وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» «1» . ومنها حديث رواه ابن ماجه جاء فيه: «قال رسول الله: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصلّ على النبي، ولا صلاة لمن لم يحبّ الأنصار» «2» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «أنّ النبيّ جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه، فقالوا:
يا رسول الله إنّا لنرى السرور في وجهك! فقال: إنه أتاني الملك فقال يا محمّد أما يرضيك أن ربّك عزّ وجلّ يقول إنه لا يصلّ عليك أحد من أمتك إلّا صلّيت عليه عشرا ولا يسلّم عليك أحد إلّا سلّمت عليه عشرا» «3» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «أتاني آت من ربي عزّ وجلّ فقال: من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وردّ عليه مثلها» «4» . ومنها حديث جاء فيه: «من صلّى عليّ صلاة صلّت عليه الملائكة ما صلّى، فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر» «5» . ومنها حديث عن ابن مسعود قال: «قال لي رسول الله إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» «6» .
صلوات الله على سيدنا محمد وسلامه صلاة وسلاما متناسبين مع فضله وجهاده وعظمة منزلته ورفعة شأنه وأثر نوره الوهاج الذي سيبقى ساطعا في الخافقين والذي سيزداد سطوعا كلما استقامت عقول الناس وحسنت نواياهم واستنارت بصائرهم فاستبانوا سبل الهدى والسعادة بفضل ذلك النور والقرآن معجزة نبوّته العظمى.
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير.
(2) ابن كثير.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) البغوي وهناك أحاديث عديدة أخرى استوعبها ابن كثير من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.
(6) المصدر نفسه.(7/415)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) والآية التالية لها
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما إنذار شديد بلعنة الله في الدنيا والآخرة وعذابه المهين لمن يؤذي الله ورسوله، وبيان شدّة إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات وينسبون إليهم ما لم يصدر عنهم بقصد أذيتهم.
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه صفية اليهودية وروى الخازن في نزول الآية الثانية ثلاث روايات بلفظ (قيل) إنها نزلت في الذين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب بالكلام أو في الذين آذوا عائشة أو في الفساق والزناة الذين كانوا يتعرضون للنساء في الليل ويؤذونهم. وإلى هذا فقد قال المفسرون «1» إن أذى الله هو نسبة الولد والشريك والفقر إليه واتخاذ النصارى وعبادتها من دون الله والإلحاد في أسماء الله وصفاته وإن أذى النبي هو تكذيبه ونسبة السحر والشعر والكهانة والجنون والافتراء إليه وما كان من شجّ وجهه وكسر رباعيته في يوم أحد، كما قالوا إن هناك محذوفا مقدرا في جملة يؤذون الله، وهو: يؤذون أولياء الله.
وليس شيء من هذه الروايات في الصحاح، والذي يتبادر لنا استئناسا بمضمونها ومضمون وروح الآيات السابقة واللاحقة أن الآيتين متصلتان موضوعا وسياقا بما قبلهما وما بعدهما ومعقبتان على ما قبلهما وممهدتان لما بعدهما
__________
(1) انظر أيضا الخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.(7/416)
حيث احتوت الآيات السابقة تنبيها إلى عظم إثم من يؤذي رسول الله بأي شكل والآيات اللاحقة تعليما لنساء المؤمنين يجنبهن أذى الناس، وإنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين إذا لم ينتهوا عن مواقفهم المؤذية. وهذا يوضح أن هذه الفئة هي التي كان يتوقع منها ويقع منها ما فيه أذى الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات فاستحقت ما احتوته الآيتان من اللعنة والإنذار.
والآيتان في حدّ ذاتهما جملة تامة. وإطلاق العبارة فيهما يجعلهما شاملين لكل نوع من أنواع الأذى وسوء الأدب والبذاءة والقذف والإحراج والبغي والغمز واللمز في حق الله وحق رسوله وحق المؤمنين والمؤمنات. وبهذا الاعتبار فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في شجب الذين يصدر منهم شيء من مثل ذلك في كل وقت ومكان ومناسبة وفي التشنيع عليهم والدعوة إلى الوقوف منهم موقف الشدّة والتأنيب والتنكيل.
وجملة بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات تزيد في قوة الإنذار بالإثم كما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين أحاديث عديدة. فمما رواه البغوي بطرقه حديث قدسي عن النبي جاء فيه: «قال الله يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار» . وحديث قدسي آخر عن النبي جاء فيه:
«من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» .
ولقد أورد ابن كثير الحديثين وأورد بالإضافة إليهما أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن النبي جاء فيه: «من آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» «1» . وحديث آخر أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة جاء فيه: «قال رسول الله أي الربا أربى عند الله قالوا الله ورسوله أعلم قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» «2» . وبعض الأحاديث لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها.
__________
(1) هذا النص ورد في التاج برواية الشيخين وأبي داود والترمذي انظر ج 3 ص 272.
(2) في التاج حديث قريب لهذا برواية أبي داود عن أبي هريرة ونصه: (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق) . التاج ج 5 ص 24.(7/417)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
وبعضها واردة وفيها تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
. (1) الجلباب: قيل إنه الملاءة التي تشتمل بها المرأة وقيل إنه المقنعة التي تغطي المرأة بها جبهتها ورأسها وقيل إنه الخمار الذي تستر به شقوق ثيابها.
في هذه الآية خطاب موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بالإيعاز إلى أزواجه وبناته وسائر نساء المؤمنين بضمّ جلابيبهن على أجسامهن حتى يعرفن بهذا الزيّ فلا يؤذين ببذيء الكلام.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
وقد روى المفسرون «1» أن الفساق كانوا يتعرضون للنساء في الليل حين يذهبن لحاجاتهن بدون تفريق بين الحرائر والإماء والعفيفات وغير العفيفات وأن الآية نزلت لجعل زيّ خاصّ لحرائر المؤمنات يميزهن عن غيرهن حتى يسلمن من التعرض والأذى. ومنهم من قال إن الفساق كانوا إذا رأوا المرأة متجلببة كفوا عنها وقالوا إنها حرة. فأمرت الآية نساء المؤمنين بعدم إهمال الجلباب. وقد روى البغوي في سياق الآية عن أنس قال: «مرّت بعمر بن الخطاب جارية مقنّعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع» والروايات ليست في الصحاح ولكنها متسقة مع مضمون الآية وروحها كما هو المتبادر.
وتبدو الآية لأول وهلة مستقلة. غير أن من الممكن أن يلمح شيء من
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.(7/418)
الاتصال بينها وبين الآية السابقة لها التي نبهت على عظم إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات، وبينها وبين الآية التالية لها التي احتوت إنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة. وهذا الاتصال الذي نبهنا إليه في شرح الآيات السابقة يؤيد ما قلناه إن هذه الفئة هي التي كان يقع منها ما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات. والإيعاز كما هو واضح قد تناول زوجات النبي وبناته وسائر نساء المؤمنين. ونصّ الآية يفيد أن جميعهن كنّ يخرجن وتقع أعين الناس عليهن.
وفي هذا قرينة أخرى على أن الحجاب الذي ذكر في الآية [53] ليس النقاب.
وعلى أن الأمر بقرار نساء النبي الوارد في الآية [33] ليس مطلقا وباتا. والنصّ يؤيد كذلك ما قلناه في سياق الآيات [28- 34] من أن ما في هذه الآيات من أوامر وتنبيهات هو خاصّ بنساء النبي. ففي ذلك المقام اقتصر الكلام عليهن. ولما اقتضت الحكمة تعليم جميع المؤمنات إطلاقا ذكرن في جملتهن في هذا المقام.
وقد اختلف القول في الجلباب ومفهوم إدنائه. وأوجه الأقوال في الجلباب هو الملاءة أو العباءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار. أما الإدناء فمن المفسرين من قال إنه تغطية الرأس والوجه. ومنهم من قال إنه ليس تغطية تامة للوجه وإنما هو تغطية جزئية بحيث يكشف عن العيون أو عين واحدة أو يغطي شقا من الوجه. وعلى كل حال فجملة يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ لا تفيد أن اتخاذ المؤمنات للجلباب شرعا إسلاميا جديدا وإن الذي تفيده هو أن اتخاذ النساء للجلباب كان زيّا ممارسا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرت بإدنائه كتعليم بزيّ خاص يعرف به المؤمنات ويفرّق به بين الحرائر والعواهر. ليمتنع بذلك أذى الفسقة والفجار عنهن.
وصيغة الآية تشريعية مستمرة الشمول من دون ريب. غير أن الذي يتبادر لنا من روحها وظرف نزولها أن شمول التشريع فيها قياسي أكثر منه شكليا. أي أنه يوجب على المؤمنات زيّا أو مظهرا خاصا يميزهن عن العواهر ويمنع عنهن أذى الفساق دون التقيد بنفس الشكل الذي كان جاريا وقت نزول الآية.(7/419)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
فأشكال اللباس والمعيشة والحياة عرضة للتبدّل والتطور ولقد بدأ هذا التبدل والتطور في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم واستمر عبر الأحقاب الإسلامية بدون حرج إلّا مما هو مخالف لروح الآيات القرآنية من الخلاعة والتهتك والتشبه بالعواهر. وهذا هو المتسق مع التشريع القرآني الإلهي ومع طبيعة الأمور التي يراعيها هذا التشريع في رسم المبادئ والقواعد وبيان الأهداف والغايات وعدم التقيد بالأشكال التي هي عرضة للتطور والتبدل حسب المكان والزمان والضرورة. هذا مع القول إن للنساء ولرجال المؤمنين اتخاذ ما يشاؤون من أشكال اللباس وطرق المعيشة في حدود الآداب الإسلامية. وليس من مانع للنساء أن يحتفظن إذا شئن بالجلباب أو الملاءة أو العباءة، ويدنينها على وجوههن ورؤسهن كما يشأن. والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
. (1) المرجفون: من الإرجاف. وهو إشاعة الشائعات السيئة لتخويف الناس وإثارتهم.
(2) المدينة: يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول.
في هذه الآيات:
1- إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عمّا يبثونه من وساوس ودسائس ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيّه بهم ويسلّطه عليهم ويقدّره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا.(7/420)
2- وتنبيه على أن هذه هي سنّة الله فيمن مضى من أمثالهم من الأمم وهي السنّة التي لا تتبدل في حال.
تعليق على الآية لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (60) والآيتين التاليتين لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزولها. وإنما قال المفسرون «1» إن المنافقين كانوا يشيعون أخبار السوء عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه الجهادية بسبيل إلقاء الرعب في قلوب المسلمين وتخويفهم وتخذيلهم. وإن الآيات هي في صدد ذلك. وهذا هو معنى الإرجاف على ما قالوه وقد روى الطبري عن عكرمة تأويلا لجملة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنهم أصحاب شهوة الزنا الذين يتبعون النساء والآيات شملت هؤلاء وهؤلاء.
والذي يتبادر لنا من روحها ومن السياق السابق أن الإنذار هو بصدد ما كان يبدو من الفئات المذكورة فيها من سوء أدب وذوق وبذاءة وأذى وكيد ودسّ وولوغ في الأعراض وإثارة الريب والفتنة سواء أكان في حقّ الله ورسوله أم في حقّ المؤمنين والمؤمنات، وأنها بناء على ذلك متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا.
ولقد احتوت الآيات حكما قرآنيا موكولا تنفيذه للنبي صلى الله عليه وسلم بتأديب هذه الفئات إذا لم تنته عن أذاها وإرجافها بعد الإنذار وهو الطرد وإهدار الدم والقتل دون هوادة وتسامح. واحتوت بالتبعية توطيدا لسلطان النبي وإيذانا باستعمال القوة والصرامة بحقها.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(7/421)
وقد يلحظ أن الآية الأولى احتوت أوصاف ثلاث فئات. ولقد ذكر المنافقون ومرضى القلوب في آيات عديدة منها ما جاء في السور التي سبق تفسيرها وشرحنا مدى أمرهم. والمرجفون يأتي ذكرهم هنا لأول مرة. والراجح أنهم الذين يبثون شوائع السوء وروح الهزيمة ويثبطون الهمم وهذا مما قاله المؤولون على ما ذكرناه آنفا.
والإنذار والتنديد الشديدان في الآية موجهان إلى الفئات الثلاث على السواء حيث يتبادر من هذا أنها تصدر عن موقف واحد هو عدم الإخلاص في الإيمان بالله ورسوله والوقوف عند أوامرهما ونواهيهما وأن التعدد آت من كون كل منها كانت تتميز بعمل من أعمال الضرر والشرّ والأذى فيكون ديدن واحدة هو الإرجاف وواحدة هو الاستهتار بالقيم والأعراض وواحدة هو الرياء والخداع والوقوف من النبي والإسلام والمسلمين موقف التربّص. والله تعالى أعلم.
ولم نطلع على روايات وثيقة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طرد هذه الفئات من المدينة وأهدر دمها، بل هناك آيات كثيرة في سور عديدة يجيء ترتيبها بعد هذه السورة تدل على أن النبي قد وسّع صدره وحلمه لهم مع ما تكررت حكاية القرآن عنهم من مواقف الدسّ والتشكيك والتعطيل والتثبيط وإشاعة الفاحشة والقلق والخوف بين المسلمين في مختلف الظروف بل مع ما ذكرته إحدى آيات التوبة من أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم [74] ومع ما أمرته إحدى آيات هذه السورة وإحدى آيات سورة التحريم من مجاهدتهم والإغلاظ عليهم هم والكفار سواء: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ التوبة [73] ، والتحريم [9] وأنه ظلّ على هذه الخطة إلى آخر حياته.
وأن باب التوبة ظلّ مفتوحا لهم في جميع الظروف كما جاء في السور المدنية التي نزلت بعد هذه السورة مضافا إليها ما جاء في السور المدنية السابقة لهذه السورة معا. فمن المحتمل والحالة هذه أن الآيات قد أثرت التأثير المطلوب في أفراد هذه الفئات في الصدد والظروف التي نزلت فيها فلزموا حدودهم وكفوا أذاهم وكفي(7/422)
المؤمنون شرّهم بوجه الإجمال. كما أن من الممكن أن يقال إن النبي قد ألهم سعة الصدر لهم والحلم عليهم لما كان بينهم وبين كثير من المخلصين من روابط رحم وقربى ولم يعتبرهم أعداء محاربين كالكفار ولا سيما أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام ويقومون بفرائضه التعبدية والمالية ويشتركون في الجهاد ويحلفون الأيمان على إخلاصهم وصدق إسلامهم على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة بعد هذه السورة. وإنهم أخذوا بعد التنكيل باليهود يتضاءلون عددا وقوة. وتضيق دائرة عدواهم وشرّهم ومكائدهم. وإن النبي اعتبر هذه الآية وأمثالها بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالذي يتبادر لنا أن حكمها عام شامل ومستمر، وموكول لأولي الأمر في المسلمين. حيث توجب عليهم سلوك سبيل الشدة في القمع والتنكيل مع من لم يرتدع عن موقف الأذى والدسّ والإرجاف لسلامة المجتمع وطمأنينته.
ولقد يرد على هذا أن وصف المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة هو وصف متصل بالعهد النبوي. غير أن الذي ينعم النظر في حالة المجتمعات في أي ظرف ومكان يجد بدون ريب هذه الفئات فيها وإن تنوعت صورها حيث تتمثل في الذين يتخذون الطغاة والظالمين والأعداء أولياء يبتغون عندهم العزة ويساعدونهم على إذلال أمتهم واستعبادها ويخونون مصالح بلادهم وأمنها بسبيل منافعهم أو أحقادهم أو الاثنتين معا. وتتمثل كذلك في الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويثيرون فيهم الشكوك والهواجس والفزع في أوقات الأزمات ويستهترون بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والاجتماعية والأسروية الصالحة المستحبة بسبيل نزواتهم وأهوائهم. ويقصرون في واجبات الإخلاص والتضامن والتعاون والتضحية المتنوعة، ولا يبالون بما يقع على أمتهم من مصائب ومظالم وبغي ونكبات ولا يهتمون إلّا لمصالحهم الخاصة. حيث يبدو من هذا مدى الإعجاز القرآني في وصف ومعالجة حالات تقع في كل ظرف ومكان وفي شمول(7/423)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
التنديد والإنذار وحيث يصدق ما قلناه من تلقين الآيات المستمر.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
. تعليق على الآية يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعدّه لهم من سعير حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليّا ولا نصيرا وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلّوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخازن: قيل إنّ المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزؤ وكان اليهود يسألون النبيّ عن ذلك امتحانا لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من(7/424)
مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظلّ من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحّل والتعجيز في العهد المدني أيضا.
والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله وليس هو إلّا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلّا ما شاء الله «1» .
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صحّ هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبرائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنّب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كلّ حركة ودعوة فيها خير وبرّ وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
__________
(1) اقرأ مثلا آيات الأعراف [187 و 188] وآيات يونس [48- 54] وآيات الأنبياء [35- 40] وآيات النمل [67- 75] .(7/425)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
وهتافا لعامة الناس ليحذروهم ولا يبالوا بهم لما يعود عليهم من ذلك من شرّ ونكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... إلخ والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد حذّر فيها المسلمون من أذية النبي كما فعل بنو إسرائيل مع موسى على ما كان من وجاهته وطهارته عند الله، وأمروا فيها بتقوى الله وعدم التفوّه بغير ما فيه السداد وإطاعة الله ورسوله وبذلك يصلح الله أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم ويضمنون لأنفسهم الفوز العظيم. والآيات وإن بدت لأول وهلة فصلا جديدا فإننا نرجح أن بينها وبين السياق السابق صلة ما على ما شرحناه قبل قليل. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون في موضوع الآيات أحاديث متنوعة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله: إنّ موسى كان رجلا حيّيا ستّيرا ما يرى من جلده شيء فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقال: ما يستتر هذا الستر إلّا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة «1» وإما آفة. فأراد الله عزّ وجلّ أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ وأقبل إلى ثيابه عدا الحجر بثوبه فلحق به حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا
__________
(1) فسّر المفسرون الكلمة بأنها ضخامة الخصيتين.(7/426)
أحسن الناس خلقا وبرّأه مما كانوا يقولون» . فذلك قول الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ إلخ «1» . ومنها حديث معزو إلى علي بن أبي طالب: «أن أذى بني إسرائيل لموسى هو اتهامهم إيّاه بقتل هارون فأمر الله الملائكة فحملوه ومرّوا به ببني إسرائيل فعرفوا أن موسى لم يقتله» «2» . ومنها «أن قارون استأجر مومسا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه وبرّأه» «3» . وقد رووا في سياق ذلك حديثا أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فقال له مسلم آخر سمع القول: يا عدوّ الله أما لأخبرنّ رسول الله بما قلت، ثم أخبر النبيّ بالأمر فاحمرّ وجهه ثم قال: رحمة الله على موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» «4» .
والأحاديث الثلاثة هي في بيان ما أوذي به موسى، وفيها ما هو صحيح فيوقف عنده.
والحديث الرابع فيه حادث واقعي إزاء النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فيه ما جاء من حكاية تأسي النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ويتضح به هدف الآيات التحذيري والتنبيهي أيضا.
وفي الآيات تأديب رباني مستمر التلقين في وجوب الامتناع عن اتهام الناس بما ليس فيهم والتزام حدود الحق والسداد في كل ما يصدر عن المرء من قول.
ولقد روى ابن كثير حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الآية وفي مناسبتها جاء فيه: «لا يبلّغني أحد عن أحد شيئا فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» .
وقد انطوى في الحديث كذلك تأديب نبوي في وجوب الامتناع عن نقل ما يسيء من أقوال الناس إلى من قيلت فيهم لما في ذلك من إثارة للكراهة والبغضاء وأذى النفس.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 189- 190 فصل التفسير وقد روى المفسرون حديث الشيخين والترمذي بصيغ وطرق عديدة وقد نقلناه عن التاج. وانظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. [.....]
(2) انظر كتب التفسير المذكورة.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه.(7/427)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
. تعليق على الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ... إلخ والتي بعدها
عبارة الآيتين واضحة من الناحية اللغوية. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزولهما. ويتبادر لنا أنهما معقبتان على الآيات السابقة في صدد النهي عن أذى الناس الأبرياء واتهامهم بما ليس فيهم. ففي هذا إخلال بالأمانة التي حملها الإنسان. ثم في صدد الأمر بتقوى الله والتزام حدود الحق والقول السديد. فإن هذا من مقتضيات الأمانة وما يؤدي إلى الصلاح والفوز ورضاء الله وغفرانه.
ولقد تعددت أقوال المفسرين «1» في مفهوم الأمانة وتأويل الآية الأولى عزوا إلى ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم من أصحاب رسول الله وتابعيهم. من ذلك أن الأمانة هي الطاعة لله والتزام ما فرضه أمرا ونهيا. ومنها أنها أركان الإسلام التعبدية والمالية. ومنها أنها عدم خيانة الودائع وأداء الدين. ومنها أنها التكليف عامة. ومنها أن الله عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فاعتذرن وقلن نحن مسخرات وكفى فقال لآدم إني عرضتها على السموات والأرض والجبال فأشفقن منها، فقال آدم وما فيها يا ربّ، فقال له إن قمت بحقها جوزيت وغفر لك وإن قصرت فيها عوقبت وعذبت فقبل وتحملها،
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن وابن كثير والقاسمي.(7/428)
فلم يلبث أن عصى ربّه وأخرج من الجنة. ومنها أن المقصود من السموات والأرض والجبال هو أهلها ويدخل في ذلك الملائكة والحيوان على اختلافه عدا بني آدم.
والذي يتبادر لنا أن الأمانة هي أهلية التكليف، أو التكليف نفسه بما فيه من الإخلاص لله وعبادته والتزام أوامره ونواهيه.
وإن جملة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ قد جاءت بلفظ الواقع على وجه التقدير بقصد تقرير خطورة التكليف وأهليته وواجباته بحيث لو عرض ذلك على السموات والأرض والجبال وهي ما هي من العظمة والسعة والجلال لخافت من التقصير فيه وأبت حمله فحمله الإنسان أو اختص بحمله نتيجة لتأهيل الله له بالتمييز والإرادة وقابلية الخير والشرّ والاختيار بينهما مما لم يكن حظّ غيره من المخلوقات. غير أنه لم يرعها حقّ رعايتها، فنمّ بذلك عن جهل لخطورة ما حمل وعن ظلم لنفسه بتقصيره في القيام بما حمل.
ويتبادر لنا من روح الآيتين أن النعت التنديدي بالإنسان بكونه ظلوما جهولا هو موجه في الدرجة الأولى إلى من لم يرع الأمانة حقّ رعايتها. أو أن هذا هو المقصود بذلك. ويتبادر لنا كذلك أن اللام التي بدئت الآية الثانية بها هي سببية.
وأن هذه الآية متممة للمعنى المنطوي في الآية الأولى حيث تكون احتوت تقرير كون الله قد اختصّ الإنسان بالأمانة التي هي بمعنى التكليف كوسيلة لاختبار الناس حتى يميز خبيثهم من طيبهم وطالحهم من صالحهم ومقصرهم من القائم بواجباته منهم فيعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يكونون قد انحرفوا عن طريق الحقّ والواجب واندفعوا بما اختاروه من طريق بالتقصير والظلم والجهالة. ويشمل المؤمنين والمؤمنات الذين يكونون بإيمانهم قد اختاروا طريق الحق المستقيم وكان ذلك حافزا لهم على القيام بواجبهم ورعاية الأمانة حقّ رعايتها بعطفه وتوفيقه ورحمته وغفرانه.
ويتبادر لنا أن تأويل وَحَمَلَهَا بمعنى خانها غير سليم من ناحية اللغة(7/429)
والاستعمال القرآني لكلمة (حمل) ومشتقاتها. ومن ناحية كون ليس كل إنسان على الإطلاق هو خائن للتكليف والأمانة مقصّر بواجباته نحوهما. فهناك الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحون والتابعون لهم بإحسان الذين يصحّ أن يدخلوا في عموم كلمة (الإنسان) فيكونوا حسب هذا التأويل مدموغين أيضا بالخيانة. بل وإن هذا الذي نقوله يرد في تشميل نعت الظلم والجهالة لكل إنسان مطلقا كما قد توهمه العبارة القرآنية. ويجعل ما قلناه من أن المراد به هو الإنسان المنحرف عن طريق الحق والهدى هو الأوجه والأكثر ورودا.
مدى التنويه القرآني بالإنسان
والآيتان بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قد احتوتا تنويها جديدا بالإنسان وخطورة شأنه. وتقريرا لأهليته للتكليف وقابليته لاختيار الخير والشرّ والاستقامة والانحراف وإنذارا للذين يختارون الضلال ويسيرون في طريقه وبشرى للذين يختارون الهدى ويسيرون في طريقه كذلك. بل نكاد أن نقول إن الآيتين وبخاصة أولاهما احتوت مفتاح كل ما أفاده القرآن للإنسان من اهتمام عظيم خاصة كل ما سواه بل وكان محور كل أو جلّ آياته حيث جعله على ما تفيده الآيات القرآنية الكثيرة جدا والعبارة القرآنية فيها قطب الكون والمخلوقات الأخرى وخليفة الله في أرضه وسخّر له كل ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وكرّمه وفضّله على كثير من خلقه وامتازه عن غيره من الحيوان فجعله خلقا آخر واختصّه بالبعث والحساب والثواب والعقاب وسّواه بيده ونفخ فيه من روحه وجعله في أحسن تقويم وعلى أحسن الصور وأعدلها وعلّمه البيان وعلّمه كل العلوم وكان من حكمة خلقه قصد ابتلاء نوعه أيهم أحسن عملا. فجاءت هذه الآيات لتكون ذروة ذلك الاهتمام ومفتاحه وهو كونه الذي أهلّه الله تعالى لحمل الأمانة والتكليف دون سائر مخلوقاته.(7/430)
دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات
وهناك دلالات عديدة لذكر هذه الفئات بالأسلوب الذي جاء به رأينا فائدة في التنبيه عليها على حدة.
فأولا: إنه مع شمول ما انطوى في الآيات من مقاصد لجميع الناس في جميع الأزمان فإن ذكر الفئات في الآية الثانية يجعل الصلة وثيقة بينها وبين سامعي القرآن الأولين من مختلف الفئات. أو بعبارة ثانية يعطي صورة لما كان عليه المجتمع في العهد النبوي.
وثانيا: إن ذكر المؤمنات والمشركات والمنافقات يفيد أن الميدان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإزاء دعوته ورسالته لم يكن خاليا من المرأة وأنه كان هناك مؤمنات مخلصات كما كان هناك مشركات عنيدات ومنافقات خائنات فاستحقت الأوليات بشرى الله بالتزامهن حدود الله وتكليفه واستحقت الأخريات إنذار الله وعذابه لانحرافهن عن هذه الحدود.
وثالثا: إن ذكر الرجال والنساء نصّا في الآية الثانية هو تابع لذكر الْإِنْسانُ في الآية الأولى. وبعبارة أخرى إن كلمة الْإِنْسانُ قد عنت الذكر والأنثى معا.
وفي هذا توكيد لما احتوته آيات كثيرة في كون الذكر والأنثى هم إزاء التكليف وواجباته وتبعاته سواء بدون أي تمييز مع القول إن هذا المعنى في الآيتين أشدّ بروزا والله تعالى أعلم.(7/431)
فهرس محتويات الجزء السابع(7/433)
تفسير سورة الأنفال 7 تعليق على الآيات الأربع الأولى 9 تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية 12 تعليق على الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [14] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر 15 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وما بعدها إلى آخر الآية [19] 23 تعليق على ما قيل في مدى جملة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى 25 تعليق على ما روي في صدد الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
وما بعدها إلى الآية [26] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات 28 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والآيتين اللتين بعدها 33 تعليق على الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ 35 استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي والمسلمين 37 تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 41(7/435)
تعليق على الآية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وما بعدها إلى آخر الآية [37] 44 تعليق على الآية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ والآيتين التاليتين لها 47 شرح الآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... وما ورد في صددها من تأويلات وأحاديث وتعليقات عليها 49 أولا: تأويل الغنيمة 50 ثانيا: الآية لا تذكر إلا الخمس أما الأخماس الأربعة 52 ثالثا: عدد مصارف خمس الغنائم خمسة 53 رابعا: كان النبي يأخذ سهما من الخمس 54 خامسا: سهم ذي القربى 57 سادسا: المسكين 62 سابعا: ابن السبيل 63 ثامنا: اليتامى 63 تاسعا: مقارنة بين آية الأنفال [41] وآية التوبة [60] 63 عاشرا: أقوال الفقهاء في توزيع سهام خمس الغنائم 64 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وما بعدها إلى الآية [49] 68 تلقين جملة ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ 72 تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [63] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات 75 التلقينات المنطوية في الآيات [55- 64] 80(7/436)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ... والآية التالية لها 86 تعليق على الآية ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ...
إلخ والآيتين التاليتين لها 88 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ والآية التالية لها 95 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة 97 تفسير سورة آل عمران 105 تعليق على الآيات الست الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران 108 تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني 114 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ والآيات الثلاث التالية لها 123 تعليق على الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 127 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ...
إلخ والآية التالية لها 131 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [7] 133 تعليق على الآية لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...
إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [32] 137 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى(7/437)
الْعالَمِينَ
وما بعدها إلى الآية [64] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران 147 تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة 159 استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي إلى هرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك 162 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وما بعدها الآيات [66- 68] 165 تعليق على الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ... إلخ والآيات التابعة لها إلى الآية [74] 169 تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 173 تعليق على الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 178 تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... إلخ والآية التالية لها 180 تعليق على الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 183 تعليق على الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [91] 185 تعليق على الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... إلخ 188 تعليق على الآية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 191 تعليق على الآية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ... إلخ والآية التالية لها 193(7/438)
استطراد إلى شمول أمن البيت 196 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ والآيات الأربع التالية لها 199 تعليق على الآية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... إلخ والآية التالية لها 204 تعليق على الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 206 تعليق على الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ...
إلخ والآيتين التاليتين لها 210 تعليق على الآية لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 215 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 219 تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وما بعدها لغاية الآية [129] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد 224 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وما بعدها إلى آخر الآية [136] 230 تعليق على الآية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [142] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة 234 تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ والآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... وما بعدهما إلى الآية [148] 239 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى(7/439)
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ
وما بعدها لغاية الآية [154] وما فيها من مشاهد وقعة أحد 245 تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ 248 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ 249 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ... إلخ والآيتين التاليتين لها 251 تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... إلخ وأمر الشورى في الإسلام 252 تعليق على الآية وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 259 تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [168] 265 تعليق على الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ والآية التي بعدها 267 تعليق على الآية الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ والآيتين اللتين بعدها 270 تعليق على الآية إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والآيتين التاليتين لها 274 تعليق على الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ 274 شرح الآية ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ... إلخ وتعليق عليها 276 تعليق على الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ(7/440)
أَغْنِياءُ ...
إلخ والآيات الثلاث التالية لها 280 تعليق على الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ... إلخ 282 تعليق على الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... إلخ 283 تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ والآيتين التاليتين لها 285 تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وما بعدها إلى الآية [195] 291 تعليق على الآية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ والآيتين التاليتين لها 296 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 299 تفسير سورة الحشر 302 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير 304 تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ... إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء 309 تعليق على جملة وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا 311 تعليق على جملة كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ 313 تعليق على الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والآيتين التاليتين لها 314 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [17] 321 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... إلخ والآية التالية لها 324(7/441)
تعليق على الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها 326 تفسير سورة الجمعة 328 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم 330 تعليق على الآية مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ... إلخ
والآيات الثلاث التالية لها 332 تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عاما للمسلمين 334 كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد 341 استطراد إلى الأذان في الإسلام 341 تفسير سورة الأحزاب 345 تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة 347 تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ... إلخ والآية التالية لها 349 تقليد الظهار في الجاهلية 350 تقليد التبني في الجاهلية ومداه 351 تعليق على تعبير وَمَوالِيكُمْ 353 تعليق على الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... إلخ 354 تعليق على مدى تعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ 356 تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ 357 الخلاصة 357(7/442)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [25] وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب 361 تعليق على الآية وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ... إلخ والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة 367 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [34] 371 تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى 378 تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ 379 تعليق على الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... إلخ 383 تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وما بعدها لغاية الآية [40] وتمحيص زواج النبي بزينب بنت جحش 386 تعليق على مدى جملة وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ 392 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها 397 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلخ والآيتين التاليتين لها 400 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... إلخ والآية التالية لها 408 تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ ... إلخ 412 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً 413(7/443)
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً والآية التالية لها 416 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً 418 تعليق على الآية لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا والآيتين التاليتين لها 421 تعليق على الآية يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً
والآيات الثلاث التالية لها 424 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... إلخ والآيتين التاليتين لها 426 تعليق على الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ...
إلخ والتي بعدها 428 مدى التنويه القرآني بالإنسان 430 دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات 431(7/444)
الجزء الثامن
السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- النساء.
2- محمد.
3- الطلاق.
4- البينة.
5- النور.
6- المنافقون.
7- المجادلة.
8- الحجرات.
9- التحريم.
10- التغابن.
11- الصفّ 12- الفتح
__________
(1) النظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.(8/5)
سورة النساء
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجنابة والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد.
ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف.
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار.
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة الله في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.(8/7)
ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا. ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا. ومنها المستقل. ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب. ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها. وكل هذا يسوغ القول إن هذه السورة ألّفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها.
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة سادسة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة «1» . ولعلّ ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع.
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلّا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة فألحقت بها لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تمّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله بن مسعود قال «ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة» وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لا حظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا «2» . وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9 والإتقان ج 1 ص 10- 12.
(2) الإتقان ج 1 ص 18.(8/8)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
. (1) تساءلون به: تتساءلون به، وقرئت بتشديد السين والمعنى واحد. وهو الذي تناشدون وتستحلفون به بعضكم حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لأجل الاطمئنان باليقين نشدتك بالله أو سألتك بالله.
(2) الأرحام: هي على قول الجمهور معطوفة على محل (به) أي اتقوا الأرحام التي تناشدون وتستحلفون بها بعضكم حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لبعضهم نشدتك بالرحم أو سألتك بالرحم إذا أرادوا أن يطلبوا مطلبا أو يستحلفوا أحدا. وقد يرد أن تكون معطوفة على الله بمعنى واتقوا الأرحام وقطيعتها.
تعليق على الآية الأولى من السورة
عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجّه للناس يدعون فيه إلى تقوى الله الذي يناشد بعضهم به بعضا، وتقوى الأرحام بمعنى حفظها وعدم قطيعتها وهي التي يناشد كذلك بعضهم بعضا بحقها. وينبهون فيه إلى أن الله رقيب عليهم محص لجميع أعمالهم. وهو الذي خلقهم من نفس واحدة ثم خلق منها زوجها وأخرج منها الكثير من الرجال والنساء.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية. والمتبادر أنها جعلت فاتحة السورة كبراعة استهلال لما احتوته من الأحكام والتشريعات المتعددة في حقوق النساء وذوي الأرحام، فلكل من هؤلاء حقوق يجب على الناس تقوى الله ومراقبته فيها وأداؤها إلى أهلها. وعلى ذلك يقوم المجتمع البشري قويا مطمئنا. ويتوطد التعاطف والتعاون بين أفراده الذين هم أخوة من أب واحد وأم واحدة. ومع أن(8/9)
المتبادر من روح الآية أن الخطاب موجه في الدرجة الأولى إلى المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن ويتلقون ما جاء فيه نبراسا وهدى لهم وهم أهل الدعوة إلى تقوى الله فإن استعمال لفظ النَّاسُ لا يخلو من معنى جليل في صدد الدعوة إلى تقوى الله في الحقوق التي هي قدر مشترك بين جميع الناس الذين يتألف منهم المجتمع البشري. وبهذا كله تبدو الآية رائعة في أسلوبها ومداها.
ويلحظ أن في الآية تكرارا لما ورد في سور سابقة في النزول من الإشارة إلى وحدة النفس الإنسانية وخلق زوجها منها. حيث يمكن أن يلمح من هذا التكرار قصد توكيد التنويه الرباني بشأن بني آدم ومركزهم بين خلق الله والتذكير بما يوجبه عليهم هذا التوكيد من تقوى الله تعالى على اعتبار أنهم هم المكلفون بذلك على ما شرحناه في آخر سورة الأحزاب السابقة لهذه السورة في النزول. وهناك أحاديث نبوية عديدة في تعظيم حرمة الأرحام والنهي عن قطيعتها حيث يبدو من ذلك حكمة ما جاء في الآية من مناشدة الناس بالأرحام التي يتساءلون بها ووجوب تقوى الله فيها. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي أيوب جاء فيه «إنّ رجلا قال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال تعبد الله لا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» «1» وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سرّه أن يبسط الله رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» «2» . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي جاء فيه «ليس الواصل بالمكافىء. ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» «3» وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ الرحم شجنة من الرحمن فقال الله من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» «4» وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة قاطع رحم» «5» .
__________
(1) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم.
(2) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم.
(3) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم.
(4) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم.
(5) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم.(8/10)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
[سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
. (1) حوبا: إثما أو ذنبا.
وعبارة الآية واضحة. وقد احتوت أمرا ربانيا بوجوب أداء أموال اليتامى وحقوقهم وعدم أكلها وإساءة استعمالها وتبديل الخبيث بالطيب منها. وبيانا لما في ذلك من ذنب عظيم عند الله.
تعليق على الآية وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إلخ
وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية نزلت في يتيم بلغ رشده فامتنع عمه ووصيه عن أداء أمواله إليه فشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية فاستجاب العمّ واستعاذ من الحوب الكبير. والرواية لم ترد في الصحاح بل في كتب التفسير القديمة كالطبري. ومع احتمال أن يكون قد حدث شيء مما ذكرته فإن نصف الآية المطلق واحتواءها حالات أخرى غير حالة الامتناع عن دفع مال اليتيم وورود آيات أخرى بعدها في صدد التشديد على حقّ اليتيم يجعلنا نرجح أنها لم تنزل لحدتها بسبب الحادث المروي وأنها استمرار لما قبلها بالدعوة إلى تقوى الله في أموال اليتيم ومتصلة بما بعدها في الوقت نفسه.
ويدل نصّها على أن بعض الأوصياء كانوا يتحايلون على أموال الأيتام الذين تحت وصايتهم فيتصرفون فيها لمصالحهم ويجعلون الرديء من ماشية وغلة ونقود محل الطيب فاقتضت حكمة التنزيل أن تكون الآية مطلقة العبارة شاملة لمختلف الحالات.
__________
(1) انظر تفسير الخازن للآية.(8/11)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
وننبه على أن القرآن المكي قد أمر مرارا بمراقبة الله في أموال اليتامى وحقوقهم. ولا بد من أن يكون هذا بسبب استشراء عادة البغي عليها والإساءة فيها فلما توطد سلطان الإسلام في المدينة اقتضت حكمة التنزيل أن يعار الأمر اهتماما تشريعيا. وقد بدأ ذلك فعلا في الآية [220] من سورة البقرة.
وورد في هذه السورة آيات عديدة بسبيل ذلك هذه أولاها. وهكذا تتسق المبادئ القرآنية في المكي والمدني من القرآن وتتطور في المدني وفقا لتطور حالة الإسلام فتغدو تشريعا بعد أن كانت تنبيها ووعظا وإنذارا ولقد علقنا على هذا الموضوع وأوردنا ما روي فيه من أحاديث في سياق سورة الفجر فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
. (1) ألا تقسطوا: أن لا تعدلوا.
(2) مثنى وثلاث ورباع: معدولة عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع.
(3) ذلك أدنى ألا تعولوا: فسر بعضهم أَلَّا تَعُولُوا بأن لا يكثر عيالكم وتفقروا. وفسرها بعضهم بأن (هذا أحرى أن يمنعكم من الجور والجنف) والكلمة لغويا تتحمل المعنيين. غير أن المقام يجعل المعنى الثاني هو الأوجه. وهو ما أخذنا به.
في الآية تنبيه للمسلمين على أنهم في حال احتمال خوفهم من عدم العدل مع البنات واليتيمات فلهم في غيرهن متسع فليتزوجوا بما يطيب لهم من غيرهن بواحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ثم تنبيه آخر في مقام الاستطراد على أنهم إذا خافوا من احتمال عدم العدل الواجب مع أكثر من زوجة واحدة فعليهم أن يكتفوا(8/12)
بواحدة أو بما في ملك يمينهم من الإماء فقط. فهذا هو أحرى أن يجنبهم إثم الجور والجنف.
تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ إلخ وتمحيص مسألة تعدد الزوجات
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ويتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآية السابقة لها التي تنهى عن أكل أموال اليتامى وهادفة إلى حماية البنات اليتيمات. أما بقية الآية فقد احتوت استطرادا متسقا مع مداها.
ولقد روى البخاري ومسلم عن عروة قال: «سألت عائشة عن قول الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فقالت:
يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويعجبه جمالها ومالها فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا عن ذلك إلّا أن يبلغوا لهن أعلى سنّتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن» «1» .
وقد روى الطبري حديثا آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة جاء فيه «أنّ الآية الأولى نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل وهي ذات مال فلعله ينكحها لمالها وهي لا تعجبه ثم يضربها ويسيء صحبتها فنهوا عن ذلك» وتبدو حكمة النهي في هذا الحديث أظهر مما هي في الحديث الأول كما هو واضح. فإن احتمال الخوف من الجور أحرى أن يكون من ناحية زواج الوصي على اليتيمة غير الجميلة طمعا في مالها فقط. والمتبادر أن هذه الحالة تكون في ذوي القربى حيث تكون اليتيمة ذات المال في حجر أحد أقاربها فيضنّ بمالها أن يأخذه الغريب فيتزوجها أو يزوجها لابنه ولا يكون لها من جمالها عاصم فتتعرض للأذى. وهذا المعنى ذكر بصراحة أكثر في آية أخرى من هذه السورة وهي: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ
__________
(1) التاج ج 4 ص 79- 80. [.....](8/13)
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (27) .
هذا في صدد الفقرة الأولى من الآية. وواضح من روحها أن الأمر الوارد في الفقرة الثانية أي فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ هو في حالة الخوف من عدم العدل والإنصاف في حالة التزوج باليتيمات. وأنه لا حرج من التزوج بهن في حالة انتفاء هذا الخوف.
والمتبادر أن الفقرة الثالثة التي جاءت بعدها أي فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قد جاءت في مقام الاستدراك في حالة الخوف من عدم العدل بين الزوجات العديدات اللاتي جعلت الفقرة الثانية فيهن مندوحة عن عدم الإقساط باليتيمات، وفي الجملة الأخيرة من الفقرة تعليل لذلك حيث يكون الاقتصار على زوجة واحدة أو ملك اليمين من الإماء مانعا للجور وعدم العدل.
وهكذا تكون الآية قد هدفت إلى حماية اليتيمات ثم إلى منع الجور عن الزوجات في حالة التعدد. وهذا وذاك من روائع الأهداف القرآنية التي تكررت بأساليب متعددة مرّ بعضها في سياق أحكام الطلاق التي تضمنتها آيات البقرة [221- 242] على ما شرحناه في مكانها، وفي هذه السورة فصول أخرى من هذا الباب أيضا.
ومع أن صيغة الفقرة الثانية في إباحة تعدد الزوجات في عصمة الرجل ليست تشريعية في التحديد وإنما هي بسبيل المخرج من خوف عدم الإقساط في اليتيمات فإن معظم العلماء اعتبروها تحديدا لعدد الزوجات اللاتي يسوغ للرجل جمعهن في عصمته وهو أربع زوجات حيث رووا أن الرجل كان قبلها ومنذ ما قبل الإسلام يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات ويصل العدد أحيانا إلى عشر. ومن ذلك أنه كان تحت النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية عشر نساء. وهناك أحاديث نبوية ساعدت على هذا الاعتبار. منها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه «إن غيلان بن سلمة(8/14)
الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اختر منهن أربعا» «1» وحديث رواه أبو داود عن عميرة الأسدي جاء فيه «إني أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اختر منهن أربعا» «2» وحديث رواه الشافعي عن نوفل بن معاوية الديلي جاء فيه «أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختر أربعا منهن أيهن شئت وفارق الأخرى» «3» ولقد قال الذين اعتبروا الآية تحديدا إن الله قد أحل للنبي أن يحتفظ بزوجاته اللاتي كن في عصمته زائدات عن الحد واستندوا في ذلك إلى آيات سورة الأحزاب [50- 52] التي مرّ تفسيرها.
على أن هناك أقوالا ومذاهب مخالفة لذلك «4» حيث ذهب قائلوها إلى أن الفقرة ليست لأجل الحصر والتحديد وإنما هي للترغيب لأجل تفادي ظلم اليتيمات وحسب، وأن من السائغ أن يجمع الرجل في عصمته ما شاء أكثر من أربع.
وذهبت الشيعة والظاهرية التي تأخذ ألفاظ القرآن على ظاهرها على ما ذكره ابن كثير إلى جواز جمع تسع نساء حيث اعتبروا كلمات مثنى وثلاث ورباع معدولة عن اثنين وثلاث وأربع، وجمعوا هذه الأرقام فصار الجمع تسعا. وأورد المفسر القاسمي أقوالا مطولة للرازي والشوكاني في تبرير جمع أكثر من أربع وفي كون الفقرة لا تعني التحديد، وفي إيراد أدلة على ضعف الأحاديث المروية عن غيلان وعميرة ونوفل وإبراز عللها وكون حديث الصحابي إذا صحّ لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته، وفي أنه لم يقم دليل على كون جمع النبي لعشر نساء كان من قبيل الاختصاص.
غير أن العمل المتواتر بعدم جواز جمع أكثر من أربع في عصمة الرجل من لدن العهد النبوي والخلفاء الراشدين قد عدّه أهل المذاهب السنية وعلماء الحديث
__________
(1) هذه النصوص من ابن كثير، وقد وردت في كتب التفسير الأخرى انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن والقاسمي.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه.(8/15)
دليلا على ذلك وهو الحق الذي يجب الالتزام به والوقوف عنده.
أما القول إنه لم يقم دليل على أن جمع النبي لعشر نساء هو من قبيل الاختصاص فهو غريب. ففي آية سورة الأحزاب [50] وبخاصة في جملة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من هذه الآية دليل لا يدحض على ذلك فيما هو المتبادر وعلى ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [50- 52] من سورة الأحزاب. ومن العجيب أن يتجاهله القائلون. بل وفيها دليل على صحة مذهب جمهور أهل السنة في التحديد.
ولقد قلنا في مقدمة السورة إن مضامين بعض فصولها تلهم أن بعضها نزل قبل فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب. وآية النساء التي نحن في صددها من الأمثلة على ذلك حيث يتبادر أنها نزلت قبل آيات سورة الأحزاب المذكورة التي نزلت للاستدراك بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت هذه الآية متصلة موضوعا وسياقا بما قبلها وما بعدها فقد يصح القول إن الفصل كلّه قد نزل قبل آيات الأحزاب المذكورة التي هي فصل قائم بذاته. ولو أن رواة الترتيب جعلوا سورة الأحزاب بعد هذه السورة لكان ذلك معقولا بسبب تقدم هذا الفصل على آيات سورة الأحزاب المذكورة. ولو كان هناك قرينة على أن هذا الفصل قد نزل قبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة لكنا نرى مبررا لتقديم هذه السورة على سورة الأحزاب في الترتيب.
ويبدىء بعض الأغيار ويعيدون في أمر إباحة الإسلام لتعدد الزوجات، والإنصاف يقتضي القول إن هناك ظروفا يكون فيها التعدد مفيدا من دون ريب وإن هناك ظروفا يكون فيها مضرّا من دون ريب أيضا. فهناك احتمال بأن يكون الرجل أو المجتمع في حاجة إلى كثرة النسل لأسباب اقتصادية واجتماعية عامة وخاصة.
وهناك احتمال بأن تكون زوجة الرجل عاقرا أو مريضة ولا يرى من الرأفة والإنصاف ما يسوغ له طلاقها. وهناك احتمال بتفوق عدد النساء في مجتمع ما على(8/16)
عدد الرجال وتعرض الزائدات للشقاء والعوز والسقوط. وهناك احتمال السفر والتغرب لمدة طويلة لأسباب متنوعة لا يكون في الإمكان اصطحاب الزوجة فيها.
ففي مثل ذلك يكون التعدد سائغا أو واجبا أو مرغوبا فيه. أما عدا هذه الحالات فإن التعدد يسبب المشاكل والبغضاء والتناحر في داخل الأسرة فيجعل حياتها جحيما. وهذا عدا الاحتمال الغالب بعدم العدل بين الزوجات العديدات سواء من ناحية المعاشرة أم من ناحية النفقة أم من ناحية تفضيل بعضهن على بعض لأسباب متنوعة نفسية واجتماعية واقتصادية مما يؤدي كذلك إلى المشاكل والبغضاء والتناحر في داخل الأسرة فيجعل حياتها بدوره جحيما.
وتنبيه القرآن إلى ذلك في جملة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً يتسق مع طبيعة الأشياء والوقائع. وفي هذه السورة آيات تذكر ما يمكن أن يقع من نشوز وإهمال من الرجال لبعض زوجاتهم العديدات ومن الميل الشديد لواحدة دون أخرى منهن وتقرر استحالة العدل بينهن وتوصي ببعض الحلول والمعالجات وهي الآيات [127- 130] . وهي وإن كانت لا تمنع التعدد بالمرة بسبب تلك الضرورات الملزمة فيما هو المتبادر فإنها تلهم بوجوب الاكتفاء بواحدة في حالة عدم قيام تلك الضرورات على ما سوف يأتي شرحه بعد.
وهكذا تكون الحكمة التشريعية القرآنية قد توخت إباحة التعدد لمعالجة حالة قائمة وسائغة فيها غلوّ وإفراط ولتكون بعد ذلك مخرجا للحالات السابقة الذكر والتشديد على وجوب العدل والاقتصار على زوجة واحدة في الحالات الأخرى بحيث يمكن أن يقال إن تلقين الاقتصار هو الأقوى وإن إباحة التعدد هو المخرج للحالات والضرورات الاستثنائية المتنوعة الدواعي. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. ولقد اقتضت حكمة الله ووعده أن يكون الدين الإسلامي والشرائع الإسلامية دين البشرية وشرائعها مما احتوت توكيده آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) فكان من ذلك أن احتوت الشرائع الإسلامية ما احتوته في هذا الصدد كما في غيره من حلّ مختلف المشاكل والانطباق على كل حالة وظرف.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 2(8/17)
ولعلّ فيما هو منتشر في الأمم والبلاد التي تجعلها شرائعها تقتصر على زوجة واحدة من الشذوذ والتحايل على هذه الشرائع ونقضها بمختلف الأشكال ومن جملة ذلك استباحة الأعراض المحرمة والسفاح والتخالل السري والعلني دليلا حاسما على حكمة التشريع الإسلامي «1» .
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام أنه ليس في الآية إيجاب للتعدد وإنما فيها تحديد لإباحة مطلقة كانت واقعة وسائغة. فضلا عما احتوته من توكيد بالعدل وإيجاب للاقتصار على واحدة إذا غلب احتمال الجور.
وهناك نقطة يتناولها الباحثون. وهي كيفية تنظيم التعدد. فبعضهم يرى إناطة الأمر بالقضاء الذي يكون عليه التثبت أولا من الحاجة والضرورة وثانيا من قدرة الرجل على الإنفاق والإقساط وعدم قصد المضارة. فإذا ثبت له ذلك أجاز الزواج الجديد وإلّا منعه. وبعضهم يرى أن الآيات القرآنية قد جعلت تقدير ذلك منوطا بالرجل وحذرته وأنذرته بحيث يكون مخالفا لتلقينات القرآن إذا ما أقدم على التزوج من جديد دون أن يكون متيقنا من استطاعته على الإنفاق وعلى الإقساط والعدل.
ونحن إذ نذكر أن المسلمين كانوا يرفعون مشاكلهم في الحياة الزوجية من نكاح وطلاق ورضاع وحضانة وشقاق ومضارة إلخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى خلفائه الراشدين من بعده فيقضون فيها في نطاق كتاب الله وسنة رسوله ساغ أن يقال إن أولي الحلّ والعقد من المسلمين وأولياء أمورهم إذا رأوا أن يكلوا أمر التثبت من قدرة الرجل على التعدد وحاجته إليه إلى القضاء وإناطة ذلك به فيكون ذلك صحيحا. وليس في الكتاب والسنة ما يمنعه، وقد أخذت بعض الحكومات الإسلامية تسير عليه «2» .
__________
(1) انظر تفسير الآية في المنار حيث ساق الإمام رشيد رضا له وللإمام محمد عبده من الأقوال والتعليلات ما فيه الحجة المقنعة التي لا يماري فيها منصف وعاقل. وهي في جملتها متسقة مع ما قررناه.
(2) ممن عرفنا منها الحكومة التونسية.(8/18)
على أن هناك أسلوبا آخر مستلهما من تلقينات القرآن قد يسدّ الثغرة أيضا.
فالحالة إما أن تكون برضاء الزوجة القديمة وعلم من الزوجة الجديدة بكون الزوج متزوجا أو لا تكون القديمة راضية أو الجديدة عالمة. فإن كانت الأولى راضية والجديدة عالمة لا يكون إشكال. وكل ما في الأمر وجوب التزام الزوج العدل وعدم الميل الشديد حسب تلقينات كتاب الله وسنة رسوله. أمّا إذا لم تكن القديمة راضية ورأت في ما يريده زوجها أن يقدم عليه ضررا عليها وتحميلا لنفسه ما لا طاقة لها به فيكون الموقف موقف شقاق ويصبح لها الحقّ في رفع أمرها إلى الحاكم ليحل ذلك وفقا للآية [35] من هذه السورة وفي نطاق ما سوف نشرحه من مداها بعد. وهذا ما تستطيع المرأة الجديدة أن تفعله أيضا إذا لم تكن عالمة بزواجه وكان قد غرر بها. والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعض المفسرين عزوا إلى بعض التابعين «1» : إن تَعُولُوا في الآية من (عال) بمعنى صار فقيرا وإن معنى الجملة (لئلا تفقروا من كثرة الأولاد والعيال) ولقد وردت كلمة عائِلًا في سورة الضحى بمعنى فقير وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ووردت كلمة عَيْلَةً بمعنى الفقر في سورة التوبة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... غير أن جمهور المفسرين «2» على أنها بمعنى (لئلا تجوروا ولا تميلوا) وإن الكلمة من (عال) بمعنى جار أو مال. وهذا مما هو وارد في معاجم اللغة وكتبها. ونقد بعضهم «3» القول الأول لغويا وصرفيا. وروح الآية ومضمونها يلهمان وجاهة تأويلها بمعنى الجور والميل أكثر.
ويمكن أن يقال أيضا في توجيه هذا التأويل إنه لو كان القصد تفادي الفقر بسبب كثرة العيال والنفقة عليهم لما أبيح استفراش الإماء بدون قيد وشرط في نفس الآية كبديلات عن الزوجات. فهنّ في هذا سواء والحرائر في الطبيعة الجنسية.
__________
(1) انظر تفسير الطبري.
(2) انظر أيضا الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.
(3) انظر الطبرسي والخازن والزمخشري.(8/19)
تعليق على جملة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في الآية الثالثة
وتعبير أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مطلق يدل كما قلنا آنفا على عدم تحديد عدد الإماء اللاتي يمكن استفراشهن في ظروف واحدة من قبل سيدهن. وهذا إقرار لعادة كانت جارية وليس إنشاء تشريعيا كما هو المتبادر. وروح الآية تدل على أن جعل الإماء بديلا من الزوجات فيها هو بسبب قلة الأكلاف والمشاكل التي تنجم عن الزواج بالحرائر واحدة أو أكثر وهذا المعنى واضح أكثر في آية أخرى من هذه السورة وهي وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [25] .
والجمهور على أن ما أبيح للمسلم الحرّ من استفراش ما يملك من إماء بدون تحديد غير مؤثر في حقه في جمع أربع زوجات في عصمته في ذات الوقت أيضا.
والمتبادر أن الشقاق بين الزوجات والجور عليهن إنما كان واردا بالنسبة للحرائر وحسب. وبهذا يزول ما يمكن أن يقع في الوهم من التناقض.
وإطلاق استفراش الإماء الذي قد يبدو الآن عجيبا ليس هو عجيبا بالنسبة للزمن الذي نزلت فيه الآية. وقد جعل وسيلة لتفادي الظلم أولا. وهو وسيلة من وسائل تحرير الإماء في الإسلام ثانيا من حيث أن الأمة التي تلد لسيدها تتحرر حال وفاته ولا يصح عليها بيع ولا هبة في حياته وتسمى بأم ولد تمييزا لها عن غيرها «1» . هذا بالإضافة إلى ما هيأه القرآن من الوسائل التي تجعل الرقّ من أساسه آئلا للزوال بالنسبة للأزمان التالية لزمن نزول الآية على ما سوف نزيده شرحا في مناسبات آتية.
ولقد شرحنا الشروط التي لا بدّ من توفرها ليكون استفراش الإماء سائغا من
__________
(1) هناك حديث رواه ابن ماجه والإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه» أي بعد وفاته ولا يصح عليها في حياته بناء على ذلك بيع ولا هبة.
التاج ج 2 ص 250.(8/20)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
وجهة نظر الشريعة الإسلامية في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) فلا نرى ضرورة للإعادة.
[سورة النساء (4) : آية 4]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
. (1) صدقاتهن: مهورهن والصداق هو المهر.
(2) نحلة: أمرا واجبا أو فريضة واجبة أو عطاء واجبا لا بد منه.
عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولها. والمتبادر أنها متصلة بموضوع الآية السابقة اتصال استطراد. فعلى الذين أبيح لهم نكاح ما يطيب لهم من الزوجات في نطاق التحديد الذي انطوى في الآية السابقة أن يدفعوا لزوجاتهم المهور المتفق عليها كعطية واجبة ولا ينقصوا منها شيئا بدون موافقتهن ورضائهن. فإذا تنازلن لهم عن شيء منها بطيب نفس ورضاء فهو لهم سائغ حلال.
وهدف حماية حق الزوجات في الآية بارز أيضا مثله في الآية السابقة.
ولقد روى الطبري عن بعض المؤولين أن الآية هدفت إلى منع عادة كانت جارية وهي تبادل الزواج بدون مهر فيزوج الرجل أخته أو ابنته لرجل ويتزوج أخت الرجل أو ابنته مقابل ذلك بدون مهر. وأوجبت أداء مهر الزوجة لها حين البناء عليها. وهذا وارد ووجيه. وفيه حماية للمرأة وعدم إضاعة حقها في مهرها لأي سبب. وهذه العادة كانت تسمى الشغار. وقد رويت أحاديث نبوية في ذلك منها حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا شغار في الإسلام» «1» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار. والشغار أن يزوّج الرجل ابنته على أن يزوّجه الآخر ابنته ليس بينهما
__________
(1) التاج ج 2 ص 305.(8/21)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
صداق» «1» وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال «الشغار أن يقول الرجل للرجل زوّجني ابنتك وأزوّجك ابنتي أو زوّجني أختك وأزوّجك أختي» «2» . والمتبادر أن يكون تزويج رجل ابنته لابن رجل آخر مقابل تزويج هذا ابنته لابن ذلك الرجل بدون مهر ينسحب عليه ذلك المنع، والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
. (1) السفهاء: أوجه تأويلات الكلمة أنهم ضعفاء العقل والتمييز صغارا كانوا أم كبارا.
(2) التي جعل الله لكم قياما: التي جعلها الله قوام حياتكم ومعيشتكم.
(3) ارزقوهم فيها: أجروا عليهم معيشتهم منها.
تعليق على الآية وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً إلخ
عبارة الآية أيضا واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في نزولها. ويتبادر لنا أنها استمرار استطرادي للسياق السابق الذي احتوى أوامر ونواهي تناولت المعاملات والحقوق المالية والشخصية.
وقد نهت المسلمين عن وضع أموالهم في أيدي ضعفاء العقل والتمييز.
ونبهتهم إلى أن المال قوام الحياة ووسيلة المعاش فيجب عدم التفريط فيه وإضاعته بتصرف السفهاء. وهذا مظهر من مظاهر اتساق تعاليم القرآن مع واقع الحياة الإنسانية وعنايتها وتوجيهاتها في الشؤون الاقتصادية والمعاشية.
وقد نبهت الآية إلى وجوب الإنفاق على السفهاء ما هم في حاجة إليه من
__________
(1) التاج ج 2 ص 305.
(2) التاج ج 2 ص 305.(8/22)
طعام وكساء ووجوب التصرف معهم بالحسنى. وهذا من مظاهر عناية القرآن بهذه الطبقة.
وروح الآية وتنبيهاتها تدل على أن السفهاء المقصودين في الآية هم الذين يكونون من ذوي رحم وقربى أصحاب الأموال الذين تجب عليهم نفقتهم.
ولقد أورد المفسرون «1» أقوالا عديدة في المقصود بكلمة السفهاء معزوة إلى ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم من الصحابة والتابعين منها أنهم الصبيان والنساء، ومنها أنهم النساء خاصة، ومنها أنهم كل ضعيف في عقله وتمييزه قاصرا كان أم بالغا وذكرا كان أو أنثى. ولقد أورد القائلون بأنهم النساء حديثا نبويا لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة جاء فيه «أنّ النساء سفهاء إلّا التي أطاعت قيّمها» مع أن هذا الحديث لو صحّ لا يصحّ أن يساق كدليل على تأويل الكلمة بالنساء فهو يصف المتزوجات اللاتي لا يطعن قيّمهن بالسفه لا جميع النساء، وهؤلاء ليسوا إلّا قلة ضئيلة. وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآيات [8- 14] من سورة البقرة والآية [20] من سورة الروم فلا حاجة للإعادة والزيادة. إلّا أن نقول إن نصّ الآية وروحها يتسقان مع القول الأخير الذي يقول إن المقصود من الكلمة كل ضعيف في عقله وتمييزه.
ومن العجيب أن الذين يقولون إنهم النساء خاصة ينسون أن في الآية السابقة لهذه الآية مباشرة صراحة بوجوب إعطاء الزوجة مهرها تاما دون ابتزاز منه وبتقرير حقها في التصرف فيه حيث ينقض هذا ذلك القول الذي يراد منه عدم قدرة المرأة على حسن التصرف والتدبير.
ويأتي بعد قليل آيات تقرر حقّ المرأة في الإرث وأهليتها في الدين والاستدانة والتملك والوصية والتصرف في كل ما اكتسبت. ومن جملة ذلك آية تنهى الزوج عن أخذ شيء مما أعطاه لزوجته ولو كان قنطارا مما فيه ضمنا إقرار بإعطاء الزوجات المال الكثير. وكل هذا يزيد في أسباب العجب ويكون فيه دعم حاسم.
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي والطبرسي. [.....](8/23)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
والآية وإن كانت موجهة إلى أصحاب الأموال لتدبير أمورهم بأنفسهم وتحذيرهم من تمكين ضعفاء العقل والإدراك من أولادهم ونسائهم منها تفاديا من الإساءة في استعمالها فإنها تنطوي على ما يمكن أن تلهمه روحها على مبدإ تشريعي وهو عدم تمكين ضعفاء العقل والتمييز من أموالهم أنفسهم لغلبة الظن بتفريطهم وإساءة تصرفهم بحيث يجب الحجر عليهم من قبل ولي الأمر وإقامة أوصياء يدبرون لهم أموالهم ويقومون بالإنفاق عليهم بالمعروف والحسنى. وقد قال المفسر القاسمي إن العلماء قد استدلوا بهذه الآية على وجوب الحجر على السفيه البالغ سواء أطرأ عليه السفه أم كان من حين البلوغ.
[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
. (1) حتى إذا بلغوا النكاح: الجملة بمعنى حتى إذا بلغوا سنّ الاحتلام والقدرة على المعاشرة الجنسية.
(2) وبدارا أن يكبروا: استعجالا لأكلها قبل أن يكبروا وتبقى لهم أموالهم.
الخطاب في هذه الآية أيضا موجّه للمسلمين كسابقاتها. وقد تضمنت:
(1) أمرا باختبار اليتامى حينما يبلغون سنّ الحلم ودفع أموالهم إليهم إذا ثبت لهم رشدهم وتمييزهم.
(2) نهيا عن أكل أموالهم بحجة تدبير أمور أصحابها أكلا فيه إسراف وفيه استعجال قبل أن يكبروا.
(3) وتحديدا للموقف الذي يجب أن يقفوه من مال الأيتام الذي في عهدتهم. وهو أن يعفّ الغني ولا يمدّ يده إليه. أما الفقير فله أن يأخذ أجرا(8/24)
بالمعروف أي بدون مبالغة فيما يأخذ.
(4) أمرا بالإشهاد حينما يدفع الوصيّ لليتيم أمواله.
تعليق على الآية وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ... إلخ
روى الشيخان عن عائشة قالت «إن الآية وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ نزلت في وليّ اليتيم إذا كان فقيرا أن يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف» «1» وليس في الحديث إشارة إلى مناسبة معيّنة، وإنما فيه توضيح لمدى الآية. وهو ظاهر من نصّها. وهناك رواية «2» تذكر أنها نزلت في مناسبة استفتاء شخص من النبي صلى الله عليه وسلم عما يحقّ له من مال ابن أخيه اليتيم الذي تحت يده ومتى يدفعه إليه. والرواية وإن كانت لم ترد في الصحاح فإنها محتملة الصحة.
ولكن المتبادر من روح الآية ونصّها أنها بسبيل تشريع أساسي وعام في صدد أموال اليتامى في حال صغرهم وفي حال بلوغهم سنّ الحلم والرشد. وهي من هذه الناحية متصلة نوعا ما بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. وقد يكون استفتاء العمّ قد جاء وسيلة إلى ذلك.
ولقد احتوت الآية وسيلتين متلازمتين للاستيثاق من قابلية اليتيم أولاهما بلوغه سنّ النكاح أي سنّ الاحتلام والقدرة الجنسية، وثانيتهما ثبوت رشده في التصرف. أي أنه لا يكفي لدفع مال اليتيم إليه أن يبلغ سنّ الحلم بل ينبغي أن يثبت رشده أيضا. وهذا يستتبع القول فيما يتبادر لنا إنه إذا لم يثبت رشده بعد بلوغه سنّ الحلم يدخل في حكم الآية السابقة فيعتبر سفيها ويظل محجورا عليه ويدبر ماله من قبل الولي أو الوصي وينفق عليه منه إلى أن يثبت رشده.
والمتبادر من روح الآية والرواية ثم من روح الآيات المكية والمدنية عامة
__________
(1) التاج ج 4 ص 80.
(2) انظر تفسير الخازن.(8/25)
التي نزلت في التشديد على حقّ اليتيم وحفظ ماله أن أولياء اليتامى كانوا من عصبتهم وأقاربهم الأدنين كالأخوة الكبار والأعمام وأن أموال اليتامى التي كانت على الأعمّ الأغلب من المواشي والزروع والثمار كانت مختلطة بأموالهم. ولذلك كانوا محل تهمة أكل أموالهم وتبديل الطيب منها بالخبيث.
ومن هنا تبدو حكمة التشديد القرآني المتوالي. لأن هذا المجال الغريب ولأن الغريب لا يجرؤ على ما يجرؤ عليه عصبة اليتيم وأقاربه الأدنون.
وحديث الشيخين عن عائشة الذي أوردناه قبل يفيد هذا أن ولي اليتيم كان يرى لنفسه حقّا في أخذ شيء من مال اليتيم القاصر مقابل النظر عليه وتدبيره فأباحت الآية هذا للفقير مع شرط الأكل بالمعروف أي عدم تجاوز الحد المتعارف على أنه حقّ معقول وسائغ. وأمرت الغني بالتعفف لأنه ليس في حاجة. فكان ذلك متسقا مع ما تكرر من مظاهر عناية حكمة التنزيل ورعايتها لليتيم. وفيه في الوقت نفسه دليل على أن أولياء اليتامى كانوا في العادة من ذوي عصبة اليتامى وأقربائهم الأدنين.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث النبوية في صدد ما يجوز للولي غير الغني أكله من مال اليتيم من ذلك حديث رواه الإمام أحمد جاء فيه «أنّ رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لي مال ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا أن تقي مالك- أو قال- تفدي مالك بماله» «1» مما فيه توضيح تطبيقي للآية واتساق مع هدفها.
ولقد روى المفسرون أقوالا عن بعض الصحابة والتابعين في صدد ما إذا كان ما يأخذه الفقير من مال اليتيم قرضا يجب رده إذا أيسر أم لا. فمنهم من قال إنه قرض، ومنهم من قال إنه مقابل الجهد والنظر. والقول الثاني هو الأوجه على
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير. وقد روى هذا المفسر أحاديث أخرى من باب هذا الحديث فاكتفينا بما أوردناه. انظر أيضا تفسير الخازن والزمخشري والطبري والطبرسي. ومعنى غير متأثل غير مدخر ومكتنز.(8/26)
ما هو المتبادر والأكثر اتساقا مع روح الآية والأحاديث وبخاصة مع صراحة الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها.
والخطاب في الآية وإن كان موجها للأولياء فإن الذي يتبادر لنا أن هذا لا يعني أنه ليس لولي الأمر والحكام حق الإشراف على تطبيق أحكامها سواء أفي اختيار اليتامى والتثبت من بلوغهم الرشد بعد الحلم أم في مراقبة الأولياء ومنع إساءة تصرفهم في أموال اليتامى التي تحت أيديهم بأي وجه. فإن هذا مما يحقق الهدف القرآني.
ولقد تعددت الأقوال في سنّ الرشد ودلائله وكيفية التثبت منه. ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وقد عزا بعض المفسرين إلى ابن عباس وسعيد ابن جبير وغيرهم أن دلائل ذلك صلاح الدين وحفظ المال، وقال بعضهم إن من ذلك اجتناب الفواحش والتبذير ومع ما في هذه الأقوال من وجاهة فإن عدم تفصيل ذلك في القرآن والسنة الصحيحة قد يعني أنه ترك للمسلمين والحكام حسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. ولقد قال بعضهم إن سنّ الرشد هي السابعة عشرة أو الثامنة عشرة. وروح الآية يفيد أن القصد من جملة فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً هو ثبوت رشدهم بعد بلوغهم الحلم. وهذا منوط بالتمييز والإدراك والأخلاق وليس بالسنّ. فإذا بلغ اليتيم الحلم ولم يثبت رشده بذلك يظل محجورا عليه كما قلنا قبل. وهذا المتفق عليه عند الجمهور.
وهناك نقطة يحسن الإشارة إليها وهي تأخر ظهور القدرة الجنسية في اليتيم.
وهو ما عبرت عنه الآية في جملة حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ لم نطلع على حديث نبوي وراشدي في ذلك. ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه تعرض لهذه النقطة والاحتلام في البلاد الحارة قد يكون قبل الخامسة عشرة وقد يتأخر في غيرها إلى بعدها. وقد يتأخر لسبب جسماني أو صحي أيضا. ولقد روى ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه «رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يحتلم أو يستكمل الخمس عشرة ... » وروى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم(8/27)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه» «1» . والآية قد هدفت إلى إيجاب التثبت من بلوغ اليتيم سنّ الرجولة والرشد معا. وقد يمكن الاستئناس بالحديثين على أن سنّ الرجولة يمكن أن يكون في الخامسة عشرة ولو لم يكن احتلام بحيث يسوغ القول على ضوء ذلك أن اليتيم إذا بلغ الخامسة عشرة ولم يكن قد احتلم وثبت رشده يكون قد تحققت صلاحيته للتصرّف بماله وساغ دفعه إليه. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
. (1) الأقربون وأولو القربى: يلفت النظر إلى الفرق في دلالة اللفظين حيث استعملا في موضعين متغايرين. فالأول استعمل في موضع الدلالة على الاستحقاق في الإرث حيث يفيد أنه يعني القربى القريبة التي تخول الإرث، والثاني استعمل في موضع الهبة والعطية حيث يفيد أنه يعني القربى البعيدة التي لا تخول الإرث.
(2) الرجال والنساء: المتبادر من روح الآيات ونصها أن الجملة تعني الذكور والإناث البالغين والقاصرين.
__________
(1) التاج ج 2 ص 244 و 245.(8/28)
تعليق على الآية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ إلخ والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) تقريرا بحق كل من الرجال والنساء في ما يتركه والدوهم وأقاربهم القريبون من إرث كنصيب مفروض من الله.
(2) وحثا على منح ذوي القربى الذين لا تخولهم درجة قرابتهم الإرث والمساكين واليتامى منحا مما قسم على أصحاب الحق فيه وتطييب خاطرهم إذا ما حضروا قسمة التركة.
(3) ودعوة قوية إلى تقوى الله في تنفيذ أوامره. وقد انطوت الدعوة على تذكير وتمثيل قويين: فكل امرئ يخاف على ذريته إذا مات عنها وهي ضعيفة قاصرة أن يصيبها أذى وتهضم فعليه والحالة هذه أن يتقي الله فلا يتسبب بقول أو عمل فيهما أذى وهضم لذرية ضعيفة قاصرة ولا يقول ويعمل إلّا ما فيه الحق والخير والصلاح.
(4) وعودة إلى التنبيه على حقّ اليتامى بإنذار شديد لآكلي أموالهم وحقوقهم ومضيعيها بغيا وظلما وطمعا. فليعلم هؤلاء أنهم بذلك إنما يأكلون النار المحرقة وأنهم سيصلون هذه النار في الآخرة.
وقد روى المفسرون رواية مختلفة في صيغها متفقة في مداها عن عكرمة وغيره مفادها أن الآية الأولى نزلت بمناسبة امرأة أنصارية مات زوجها وتركها مع يتيمة أو ثلاث يتيمات وخلّف مالا فأبى عم أو أعمام أو أبناء عمّ البنات أن يعطوهن شيئا من تركته على عادتهم قبل الإسلام في عدم توريث النساء فشكت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكأ عدوا يكسب عليها ولا تكتسب فنزلت فأرسل إليهم بعدم التصرف بالتركة حتى(8/29)
ينظر ما ينزل في أمرها مفصلا ثم نزلت بعدها آيات المواريث فأمر بقسمة التركة وفقا لذلك «1» . ورووا أن الآية الرابعة أي [10] نزلت في رجل من غطفان أكل مال ابن أخيه اليتيم «2» .
والروايات متسقة مع مدى الآيات. وإن لم ترد في الصحاح وهذا لا يمنع احتمال صحتها على أن الذي يتبادر لنا أن الآيات منسجمة مع بعضها أولا وليست منقطعة الصلة بسابقاتها ولا حقاتها موضوعا وسياقا ثانيا. وجملة نَصِيباً مَفْرُوضاً بخاصة قرينة على صلتها بلا حقاتها التي تبين نصيب كل صاحب حقّ في الإرث بحيث يصحّ أن يقال إن هذه الآيات وما بعدها قد نزلت معا. وأن ما روته الروايتان من أحداث كانت مناسبة لنزول هذا الفصل.
وقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيما إذا كانت الآية [8] منسوخة بآيات المواريث الواردة بعد أم محكمة «3» . وقد عزي القولان لابن عباس! والقول الثاني هو الأوجه فيما هو المتبادر وهو ما عليه الجمهور لأن هذه الآية كما يتبادر من روحها ومن الآية السابقة لها أنها في صدد الذين لا تخولهم درجة قرابتهم نصيبا في الإرث.
فلا محل للقول أنها نسخت بآيات المواريث.
ولقد روى المفسرون «4» عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم أن هذه الآية في معرض الإيعاز على المشرف على الموت بالوصية للفئات المذكورة فيها.
ونصّ الآية لا يتحمل ذلك فيما نرى لأنه يقرر أمرا بعد موت صاحب المال وإن كان القول في حد ذاته لا يخلو من وجاهة متسقة مع إيجاب القرآن على المسلم الذي يحضره الموت الوصية إذا ترك خيرا أي مالا على ما جاء في الآية [180] من
__________
(1) انظر تفسير الطبري والخازن.
(2) انظر تفسير الخازن.
(3) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.
(4) انظر المصدر نفسه.(8/30)
سورة البقرة التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها. ثم مع توكيد القرآن على وجوب تنفيذ وصية الميت على ما جاء في آيات تأتي بعد هذه الآيات حيث يفيد هذا أن وصية المسلم لغير ورثته بقصد صلة الرحم والبرّ مما كان مأمورا ومعمولا به ومرغوبا فيه.
والمتبادر أن الذين حثت الآية على رزقهم من التركة من أولي القربى هم الذين لا تخولهم درجة قرابتهم نصيبا من التركة ويكونون فقراء بدليل جمعهم مع المساكين والمتبادر كذلك أن اليتامى الذين حثت الآية على إعطائهم هم اليتامى الفقراء بالدليل نفسه. والآية مطلقة بحيث لا تمنع أن يكون اليتامى والمساكين من الغرباء عن الميت أو أقاربه.
وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية [9] في صدد التنبيه على أصحاب المال بعدم تبذير أموالهم بالهبات والوصايا تبذيرا يؤدي إلى حرمان ذريتهم من بعدهم. ومنهم من قال إنها في صدد تنبيه أصحاب الأموال إلى وجوب الوصية لأقاربهم الفقراء واليتامى والمساكين «2» . ومنهم من قال إنها في صدد التحذير من الإلحاح على صاحب المال في الإكثار من الهبات والوصايا لغير ذريته وتنبيههم إلى ما يؤدي ذلك إليه من حرمان ذرية الرجل والإهابة بهم إلى تذكر حالة ذريتهم أنفسهم إذا تركوها محرومة ضعيفة وإلى ألّا يقولوا إلّا المعروف الذي ليس فيه حرمان وأذى.
ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة. وبخاصة القول الأخير الذي قد يتسق مع نصّ الآية. على أنه يتبادر لنا أن الآية مرتبطة بالتي بعدها التي تنذر آكلي مال اليتيم ظلما حيث تهيب بهم إلى تقوى الله في أفعالهم وأقوالهم والخوف على أولادهم من أن يصيروا أيتاما مهضومي الحقّ مأكولي المال من بعدهم.
هذا والآية [8] جديرة بالتنويه من حيث كونها حاسمة في صدد تثبيت حق النساء خاصة في الإرث لأن هذا الحق لم يكن معترفا به مما فيه توكيد للعناية
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.
(2) المصدر نفسه.(8/31)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
الربانية بالمرأة على اختلاف حالاتها وفي تثبيت هذا الحق تثبيت لأهليتها للتصرف في المال. وتوهين من ناحية ما لما يساق من تطبيق وصف السفهاء عليها في مثل هذا المقام.
كذلك فإن الآية [10] جديرة بالتنويه أيضا لقوة ما فيها من إنذار وزجر ضد آكلي أموال اليتامى وظالميهم مما كان موضوع عناية القرآن في آيات كثيرة مكية ومدنية.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة متساوقة مع مدى وهدف الآية وإن لم ترد بنصّها في الصحاح. منها حديث أخرجه ابن مردويه عن أبي برزة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجّج أفواههم نارا قيل يا رسول الله من هم قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية» .
[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
.(8/32)
(1) ولد: هذا اللفظ وجمعه في الآيات يعني الذكور والإناث.
(2) الكلالة: تطلق الكلمة على الميت بدون وارث أصلي أو فرعي مباشر أي الذي لا يكون له والد وأم وولد. والكلال هو الإعياء أي الضعف والعجز.
كأنما الكلمة استعيرت لبيان عجز الميت وضعفه بفقده الوالد والولد من قبل.
وأكثر المفسرين على أن الميت إذا ترك ابن ابن لا يعد موته كلالة «1» .
تعليق على الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلخ والآيات الثلاث التالية لها وشرح إجمالي لأحكام الإرث وتلقينات الآيات
عبارة الآية واضحة. وقد احتوت بيان ما اقتضت الحكمة بيانه من الأنصبة المفروضة للرجال والنساء أو الذكور والإناث في إرث الأموات كما يلي:
(1) نصيب الذكر هو ضعف نصيب الأنثى.
(2) إذا كان الميت أبا ولم يترك إلّا بنتا فلها نصف تركته. وإن ترك أكثر من بنتين فلهن ثلثاها.
(3) إذا كان للميت والدان وأولاد فلكل من والديه السدس.
(4) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد فلوالده الثلثان ولأمه الثلث.
(5) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد وله إخوة فيكون للأم السدس بدلا من الثلث.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 3(8/33)
(6) للزوج نصف تركة زوجته إن لم يكن لها ولد. فإن كان لها ولد فله ربعها.
(7) للزوجات ربع تركة زوجهن إن لم يكن له ولد. فإن كان له ولد فلهن الثمن.
(8) إذا لم يكن للميت والدان ولا أولاد وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما سدس التركة وإذا كان الإخوة والأخوات أكثر فهم شركاء في ثلث التركة.
(9) التركة التي تقسم على الورثة هي ما يبقى منها بعد سداد دين الميت وتنفيذ وصيته.
وقد انتهت الآية الأولى بفقرة توطيدية لهذا التقسيم. فالناس لا يدرون حقيقة الأنفع لهم من آباء وأبناء ولكن الله أعلم بذلك. وقد أمر بما هو الأصلح لهم وجعله فريضة واجبة التنفيذ. وهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصلاح.
وقد انتهت الآية الثانية بالتنبيه على عدم تعمد الإضرار والإجحاف بحقوق أحد. وعلى أن هذا التقسيم هو فريضة الله العليم الحليم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويرأف بكل ذي حق ويعامله بمقتضى حلمه.
وفي الآيتين الأخيرتين توطيد تعقيبي أيضا: فما تقدم من الأحكام هي حدود الله التي يجب الوقوف عندها وعدم الانحراف عنها والتلاعب فيها. ومن أطاع الله ورسوله والتزم حدود الله كانت له الجنة والفوز العظيم. ومن عصاهما وانحرف عن حدود الله وتجاوزها أدخله الله النار وكان له عنده العذاب المهين.
ولقد رويت بعض الأحاديث والروايات في مناسبة نزول الآيات. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ورشّ عليّ فأفقت فقلت يا رسول الله(8/34)
ما تأمرني أن أصنع في مالي؟ فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «1» ومنها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال «كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحبّ فجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع» «2» ومنها حديث رواه أبو داود والترمذي عن جابر قال «جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا. وإن عمّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال يقضي الله في ذلك فنزلت آيات المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمّهما فقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي هو لك» «3» ومنها رواية عن السدي قال «كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري- أي البنات- ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلّا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن بن ثابت وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة فأخذوا ماله فشكت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات «4» .
وهذه الأحاديث تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزّأة في مناسبات مختلفة ويلحظ أن بعضها سيق كمناسبة لبعض الآيات السابقة. والذي يتبادر لنا من انسجام الآيات من أول السورة إلى آخر هذه الآيات وتسلسلها سياقا وموضوعا أنها نزلت في ظرف واحد دفعة واحدة أو تباعا لتحتوي ما احتوته من تشريعات وتحذيرات وتحديدات متنوعة متناسبة في صدد حقوق الأيتام واليتيمات وأموالهم وحقوق الزوجات ومهورهن والعدل بينهن وحقوق أصحاب الحق في التركات من رجال ونساء.
__________
(1) التاج ج 4 ص 80.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 2 ص 232. [.....]
(4) الخازن.(8/35)
وهذا لا يمنع طبعا أن تكون وقعت مناسبات ورفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكايات وتظلمات واستفتاءات مما احتوته الأحاديث والروايات فكان ذلك مناسبات لنزول هذه السلسلة التشريعية.
ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وكلمة نَفْعاً حيث قيل إن النفع المذكور هو نفع الدنيا أو نفع الدنيا والدين أو نفع الآخرة وحيث قيل في تأويل الجملة كلها (إن الله قد عين أنصبة الوارثين من الآباء والأبناء بمقتضى حكمته التي يعرف بها ما هو الأنفع للناس ولم يترك ذلك لهم لأنهم لا يدرون أي شيء أنفع فيخطئون في تعيين الأنصبة وتقسيم التركة) وفي هذا سداد كما هو الظاهر.
ويلحظ أن في الأحكام شيئا من الاقتضاب والإطلاق والفراغ. مثل إغفال الفقرة الأولى من الآية الأولى ذكر حالة وحقّ البنتين اللتين ترثان وحدهما أباهما، والاكتفاء بذكر حالة وحق بنت واحدة أو نساء فوق اثنتين. ومثل إغفال الفقرة الثانية من نفس الآية ذكر مستحق الباقي إذا كان الوارث والدين وبنتا واحدة حيث ذكر فيها أن الوالدين يأخذان السدسين والبنت النصف. ومثل السكوت عن مستحق السدس الذي ينقص من نصيب الأم إذا كان للوارث أخوة مع الوالدين. ومثل إغفال ذكر مستحق النصف الثاني من تركة الزوجة التي ليس لها ولد، ومستحق الأرباع الثلاثة من تركة الزوج الذي ليس له ولد. ومثل إغفال ذكر مستحق الثلثين الباقيين من تركة من يموت كلالة.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات احتوت الأسس والأحكام الرئيسية التي اقتضت حكمة التنزيل بيانها. وقد أكملت بعض الآيات والسنن المأثورة النبوية والراشدية بيان وأحكام ما فيها من اقتضاب وإطلاق وفراغ. وصار كل ذلك موضوع أبحاث واستنباطات وتفريعات تكون منه علم واسع وخطير من العلوم الإسلامية الفقهية المعروف بعلم الفرائض.
وجملة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ هي كما هو المتبادر لبيان كون أحكام الإرث(8/36)
التي احتوتها الآيات مما رسمه الله وفرضه. وكلمة الفرائض التي سمى بها العلم المذكور آنفا هي جمع فريضة كما هو واضح. وقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على أحكام الإرث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء في حديث نبوي رواه الترمذي عن أبي هريرة «تعلّموا القرآن والفرائض وعلّموها الناس فإني مقبوض» «1» .
ومما جاء في القرآن للتوضيح والتحديد والإتمام وسدّ الفراغ الآية الأخيرة من سورة النساء التي جعلت للأخ جميع تركة أخته المتوفاة كلالة وجعلت للأختين ثلثي تركة أخيهما المتوفى كلالة وجعلت جميع التركة لأخواته وإخوته إذا كانوا أكثر من ذلك على أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. وقد بدأت الآية بجملة يَسْتَفْتُونَكَ
حيث يدل ذلك على أنه وقع التباس في صدد ما احتوته الآية [12] من الآيات التي نحن في صددها من حكم إرث الذي يموت كلالة وهو السدس لكل من أخته وأخيه، والثلث إذا كانوا أكثر من ذلك فجاءت الآية الأخيرة من السورة في بيان حكم التوارث بين الإخوة الأشقاء أو الإخوة من أب الذين يورثون كلالة واعتبرت الآية [12] في صدد حكم التوارث بين الإخوة من أمّ على ما رواه جمهور المفسرين من طرق عديدة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وقالوا إن هذا متفق عليه «2» .
ومن ذلك الحالة التي أغفلتها الفقرة الأولى من الآية الأولى إلى الآية [10] ونبهنا عليها وهي عدم ذكر حكم البنتين حيث قيست على ما احتوته الآية الأخيرة من سورة النساء بالإضافة إلى الحديث النبوي الذي أوردناه قبل والذي روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين ثلثي تركة والدهما.
ومن ما جاء في الأحاديث المأثورة أحاديث نبوية منعت التوارث بين المسلمين والكفار. منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أسامة بن
__________
(1) التاج ج 2 ص 228.
(2) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير والنيسابوري والنسفي والقاسمي.(8/37)
زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» «1» وحديث آخر رواه أصحاب السنن جاء فيه «لا يتوارث أهل ملّتين شتى» «2» ومن ذلك حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه «القاتل لا يرث» «3» .
ومن ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه «أيّما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث» «4» .
ومن ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود عن شرحبيل بن هذيل «أن ابن مسعود سئل عن حقّ بنت وبنت ابن وأخت فقال: أقضي بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت» «5» حيث يفيد هذا أن بنت الابن المتوفى في حياة أبيه ترث من جدها إن لم يكن له ولد ذكر آخر يحجبها.
وقد قيس على ذلك ابن الابن أيضا. وقد روي عن زيد بن ثابت حديث فيه توضيح أكثر لهذه الحالة جاء فيه «أولاد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهم ابن. ذكرهم كذكرهم. وأنثاهم كأنثاهم. يرثون كما يرثون. ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع وجود ابن ذكر آخر» «6» وننبه على أن العلماء نبهوا على أن هذا بالنسبة لابن الابن دون ابن البنت لأنه ليس من ذوي عصبة المورث «7» .
ومن ذلك ما روي عن ملاعنة رجل لامرأته ونفيه ولدها عنه حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد بأمه وحرمه من ميراث الأب الذي نسبته أمه إليه وجعل التوارث بينه وبين أمه وورثتها من بعدها وحسب. وقد ورد هذا في حديث رواه
__________
(1) التاج ج 2 ص 229.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 230. وواضح أنه لا يرث قتيله إذا كان له نصيب شرعي في تركته.
(4) المصدر نفسه ص 231.
(5) المصدر نفسه ص 230.
(6) تفسير الخازن.
(7) تفسير القاسمي.(8/38)
البخاري وأبو داود «1» .
ومن ذلك حديث رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا معلّما وأميرا على قوم. فسئل عن رجل توفي وترك بنتا وأختا فأعطى كلا منهما النصف وكان ذلك في حياة النبي «2» . وهذا قد يفيد أنه أفتى بما علم من فتاوى رسول الله.
ومن ذلك أحاديث في إرث الجد والجدة حيث روى أصحاب السنن أن النبي قضى لرجل مات ابن ابن له بالسدس. كما رووا أن أبا بكر قضى لجدة بسدس تركة ابن ابن لها وأن عمر قضى للجد مع الإخوة بالثلث وأن النبي جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أمّ «3» والمتبادر أن الجد يستحق ذلك إذا كان ابنه ووالد ابنه متوفّى في حياته.
ومن ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي جاء فيه «أنا مولى من لا مولى له. أرث ماله وأفكّ عانه والخال مولى من لا مولى له يرث ماله ويفكّ عانه» «4» ولفظ رواية الترمذي «الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له» والفقرة الأولى توطد حق بيت المال في تركة من لا وارث له. والفقرة الثانية تجعل الخال وريثا إذا لم يكن للميت وريث من عصبته.
ومن ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي وحسّنه عن عائشة قالت «إن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم مات وترك شيئا ولم يدع ولدا ولا حميما فقال هاهنا أحد من أهل أرضه قالوا نعم قال فاعطوه ميراثه» «5» ومن ذلك حديث رواه الخمسة في صدد ميراث
__________
(1) التاج ج 2 ص 231 والملاعنة اصطلاح إسلامي حيث يكلف الزوج الذي يتهم زوجته بالزنا ولا يكون معه شهود أن يشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وحيث يسمح للزوجة أن ترد شهادته بأربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيفرق بينهما دون إقامة حدّ.
(2) المصدر نفسه ص 232.
(3) المصدر نفسه ص 236.
(4) المصدر نفسه ص 239 وعانه بمعنى أسيره أو مملوكه. ومولى بمعنى وارث. [.....]
(5) المصدر نفسه ص 239 و 240.(8/39)
رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة عن أبي بكر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال. وفي رواية لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة» «1» . ومن ذلك حديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن علي بن أبي طالب قال «إنكم تقرءون هذه الآية مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وإن رسول الله قضى بالدين قبل الوصية. وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلّات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه» «2» والشطر الأول من هذا الحديث يزيل الإشكال في تقديم الوصية على الدين في النص القرآني. وهذا هو الحق العدل لأن الوصية هبة وتبرع من مال الواهب المتبرع والدين ليس ماله. وإنما هو مال غيره ولا يكون ما يتركه بعد موته مالا خالصا له إلا بعد إخراج ما ليس ماله. والحديث بالتالي يسوغ القول إن النّص القرآني ليس لترتيب أولوية وإنما هو أسلوبي وحسب. وفي الشطر الثاني من الحديث توضيح لمدى التوارث بين الأخوة وفي حالة موت الكلالة فالتركة يرثها في الدرجة الأولى الأخوة الأشقاء ذكورا وإناثا فإذا لم يكن له إخوة أشقاء فيرثه أخوته لأبيه. وننبه على أن هذا الشطر يجب أن يكون موضحا لآية النساء الأخيرة في الكلالة لأنها نزلت لأجل الأخوة من أب أو من أب وأمّ. أما إذا كان لميت الكلالة أخ أو أخت لأمه فيكون لكل منهما السدس وإن كانوا أكثر فللجميع الثلث حسب نصّ الآية [12] التي قلنا إن الفقهاء والمؤولين متفقون على أنها لأجل نصيب الأخوة من أم من ميت الكلالة. والمتفق عليه أن الأشقاء أو الأخوة من أب لا يحجبون نصيب الأخوة من أم إذا كان لميت الكلالة أخوة من أم وأخوة لأب وأم أو لأب. فهؤلاء يأخذون نصيبهم وفق آية النساء الأخيرة على ما سوف يأتي شرحها ووفق الشطر الثاني من الحديث الأخير بعد إخراج نصيب الأخوة من أم لأن هذا النصيب مفروض قرآنا.
__________
(1) التاج ج 2 ص 239 و 240.
(2) المصدر نفسه ص 234.(8/40)
ولقد روى الشيخان وأبو داود والترمذي حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» «1» حيث يفيد هذا الحديث أن البواقي من تقسيم التركة حسب أحكام الآيات يعطي للأقرب فالأقرب إلى المتوفى من عصبته الذكور فقط الأخوة فأبناء الأخوة فالأعمام فأبناء الأعمام إلخ وأن الخال يأتي إذا لم يكن له عصبة ذكور. وهناك اصطلاح يستعمله علماء الفرائض، وهو الحجب ويريدون به القول بأن وجود طبقة من القرابة يحجب طبقة أخرى يحق لها أن ترث لو لم تكن الأولى موجودة. وقد جعلوا الحجب نوعين حجب نقصان وحجب حرمان. فمن الأول أن الولد يحجب الزوج من نصف تركة زوجته إلى الربع والزوجة من ربع تركة زوجها إلى الثمن. ويحجب الأب من الثلثين والأم من الثلث إلى السدس لكل منهما. والأخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس إذا لم يكن للميت ولد وورثه أبواه. ومن الثاني سقوط حق الأخوة للأم وأولاد الأم بالأب والجد وبالولد وولد الابن وسقوط حق الأخوة للأم والأب بالأب والأم والابن وابن الابن ...
وبمناسبة الحجب ننبه على أننا لم نطلع على أثر نبوي عن مدى كلمة إِخْوَةٌ في جملة فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ في الآية الأولى. وفي هذه الجملة مسألتان، الأولى مسألة عدد الأخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. والثانية مسألة السدس الذي ينقص من نصيب الأم. ففي المسألة الأولى روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله والتابعين قولين: أحدهما أن العدد الحاجب هو ثلاثة على الأقل أخذا بمدى جمع (إخوة) وثانيهما اثنان أخذا بجواز استعمال صيغة الجمع للاثنين. والجمهور على ما يستفاد من أقوال المفسرين هو على القول الثاني ويكون الأخ الواحد أو الأخت الواحدة غير حاجب. ويرد على بالنا خاطر وهو أي كلمة (الإخوة) للجنس فإذا صحّ هذا فيكون وجود أخ أو أخت فقط حاجبا أيضا والله تعالى أعلم. وفي المسألة الثانية الجمهور على أن
__________
(1) المصدر السابق نفسه ص 233.(8/41)
السدس الذي ينقص من الأم يعود إلى الأب لأنه أولي ذكر في العصبة دون الإخوة.
ونكتفي بما تقدم «1» وفيه سداد للفراغ والاقتضاب والإطلاق الملحوظ في الآيات دون تبسط في التفريعات والاصطلاحات والاستنباطات والتطبيقات لأنه خارج عن منهج التفسير.
هذا، ومما يحسن لفت النظر إليه أن هذه الأحكام قد غيرت وعدلت ما كان جاريا قبل نزولها في أمر الميراث مما كان فيه تموج وجنف. فقد كان حق الآباء والأقربين حائرا أو غير ثابت حتى لقد اقتضت حكمة التنزيل التعجيل بالأمر بوجوب الوصية للوالدين والأقربين في آيات سورة البقرة [180- 182] وكان كذلك حق الإناث في مختلف حالاتهن أمهات كنّ أو بنات أو بنات أو زوجات أو أخوات حائرا غير ثابت وعرضة للتهضم والإنكار. فثبتت الآيات حق الوالدين وحق المرأة في جميع حالاتها وحق الأقربين على أساس الأقرب فالأقرب عصبة بقطع النظر عن كونهم ذكورا وإناثا وصغارا وكبارا وضعفاء وأقوياء وليس فيها غبن ولا إجحاف في حق أحد.
ونريد أن نخصّ مسألة نصيب الأنثى في هذا المقام بكلمة لأن الأغيار غمزوا الشريعة الإسلامية بسبب جعلها نصيب الذكر ضعف نصيبها. مع أن الحكمة في ذلك ظاهرة بليغة وفيه كل الحق والإنصاف بل وربما كان فيه الإحسان الذي يفوق العدل. فالأنثى في غالب أحوالها مضمونة النفقة من ابنها أو أبيها أو زوجها بل أو أخيها. وحينما لا تكون كذلك فإنها لا تكون في الغالب مكلفة بغير نفسها. وذلك بعكس الذكر المكلف دائما بالإنفاق عليها وعلى أسرته مما هو مشاهد وممارس في مختلف الأدوار والبيئات دون استثناء. فإذا أضيف إلى هذا أن القرآن قد اهتمّ اهتماما عظيما بتثبيت حقها الذي كان ضائعا أو حائرا وحماها من الظلم والإجحاف ظهر أن في الغمز أو النقد قلبا للحقيقة وغضا لمزايا الشريعة الإسلامية
__________
(1) في تفسير الخازن خاصة بسط واسع.(8/42)
على طول الخط. ومهما تطورت البشرية فلن يأتي طور فيما نعتقد تنعكس فيه الحالة ويكون الرجل عالة على المرأة أو تكون المرأة هي المنفقة على الأسرة دونه في الأعم الأغلب. وكل ما يحتمل أن يكون أن طوائف من النساء يعوّلن على كسبهن في معيشتهن فتقل رغبتهن في التقيد بقيد الزواج أو يطرأ على زوج مانع قاهر من صحة وظرف فتبذل الزوجة جهدها في الكسب للإنفاق على الأسرة أو للمشاركة في الإنفاق. وهذا لن يغير ما قررناه ويخفف من مسؤولية وأعباء نفقة الأسرة والمرأة عن ظهر الرجل. وواضح من هذا الشرح أن عدم تسوية المرأة بالرجل في الميراث ليس من شأنه أن يخل بما قرره الله ورسوله لها من أهلية تامة ومركز متساو مع الرجل في مختلف المجالات الأخرى.
كذلك نريد أن نلفت النظر إلى ما في الأمر باحترام وصية المرأة المورثة المتوفاة وتنفيذها وتسديد ديونها من دلالة على ما وطده القرآن من شخصية المرأة وحقوقها وأهليتها التصرفية المدنية والمالية على قدم المساواة مع الرجل. فهي ترث كما يرث، وتوصي كما يوصي، وتستدين كما يستدين، وتمتلك كما يمتلك استقلالا عنه مما كان في الوقت الذي نزل فيه القرآن مفقودا كل الفقد في سائر أنحاء العالم المتحضر فضلا عن غيره، وظل كذلك بمقياس واسع بعده إلى أمد قريب. بل ما يزال بعض الأمم المتحضرة لم تحققه! ولقد عدّ جمهور العلماء والمفسرين أن الآيات قد نسخت أحكام آيات الوصية الواردة في سورة البقرة التي أشرنا إليها قبل قليل بالنسبة للذين جعلت لهم نصيبا مفروضا من تركة أمواتهم أي الوالدين والأقربين الأدنين وجاء الحديث النبوي «لا وصية لوارث» «1» مؤيدا لذلك وبقي حكم وجوب الوصية بالنسبة لمن ليس له نصيب محكما وهذا صواب. وقد نبهنا عليه في سياق شرح آيات البقرة المذكورة. والحديث المذكور وتوكيد وجوب تنفيذ وصية الميت في هذه الآيات دليل على بقاء وجوب الوصية لمن ليس له نصيب محكما. ولقد حددت السنة
__________
(1) أوردنا نصّه في مناسبة سابقة وانظر التاج ج 2 ص 243.(8/43)
النطاق الذي يجب أن لا تتعداه الوصية. وقد شرحنا ذلك وأوردنا ما في صدده من أحاديث في سياق شرح آيات البقرة فلا نرى محلا للزيادة أو الإعادة.
وتكرار توكيد وجوب تنفيذ وصية المورث وتسديد ديونه وتقديم ذلك على حقوق الوارثين ذو مغزى خطير بما فيه من الاتساق مع مقتضيات الحق والإنصاف والبرّ والإحسان التي قررها القرآن في مختلف المناسبات. وهو في أصله طبيعي لأن الديون والوصايا حقوق ثابتة في التركة للغير. والوارث إنما يحق له ما يفضل من تركة الميت بعدها.
وتعبير غَيْرَ مُضَارٍّ مطلق. ومع أنه جاء في الآية الثانية فقط فإن إطلاقه قد يسوغ القول بأنه شامل لما جاء في هذه الآية وفي الآية الأولى معا.
وإطلاقه يسوغ القول كذلك أن ما انطوى فيه من النهي عن المضارة موجه للمورث حين يستدين وحين يوصي وللورثة حين يقتسمون التركة وينفذون الوصية ويسددون الدين. وإن مما يشمله الأمر أن لا يتعمد المورث الإضرار بورثته في المبالغة في المنح والاستغراق في الدين. وأن لا ينسى في الوقت نفسه الوصية لأولي القربى واليتامى والمساكين. وأن لا يتعنت الورثة في أداء ما على التركة من حقوق للغير أي ديون ووصايا. ولا في إعطاء كل ذي حقّ حقّه من الورثة حسب أحكام الآيات وسنة الرسول.
وتلقين هذا التعبير بهذا الشرح جليل متصل بمبادىء العدل والإنصاف والبرّ القرآنية ومستمر المدى كما هو واضح.
ولقد روى الطبري بطرقه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم الضرار في الوصية من الكبائر» وروى هذا الحديث من طرق أخرى غير منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه من أقوال ابن عباس وبصيغ أخرى منها «الضرار والحيف من الكبائر» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشرّ عمله فيدخله النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل(8/44)
النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ثم قال أبو هريرة اقرأوا إذا شئتم تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله عَذابٌ مُهِينٌ» . وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها. وهناك حديث من باب الحديث الأخير رواه الترمذي وأبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار» «1» . وفي الأحاديث تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو ظاهر. والآيات [13 و 14] من الآيات التي نحن في صددها قويتا الأسلوب في صدد توطيد الأحكام والأوامر التي احتوتها آيات المواريث. ففي التزامها طاعة لله وفي عصيانها عصيان لله وتعدّ على حدوده.
وقد جعلت الآية [14] عقوبة الخلود في النار لمن يتجاوز أحكام الله ويحتال عليها مستحلا لذلك. وهذا إنذار رهيب هدف فيما هدف إليه جعل المسلمين يتقون الله ولا يقدمون على مخالفة أحكامه وتجاوزها. وبعض المسلمين يعمدون إلى اختصاص بعض الورثة بشيء من أموالهم المنقولة وغير المنقولة في حياتهم فيسلمونهم الأموال المنقولة ويسجلون عليهم الأموال غير المنقولة. والذي يتبادر لنا أن هذا احتيال على حدود الله وأحكامه ويدخل في نطاق المضارة المنهي عنها والإنذار الرباني الرهيب. وهناك حديث نبوي في هذا الصدد بالذات رواه الخمسة عن النعمان بن بشير قال «انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي. فقال له أكلّ بنيك قد نحلت مثل هذا قال لا. قال فأشهد على هذا غيري. ثم قال أيسرّك أن يكونوا في البرّ إليك سواء. قال بلى. قال فلا إذا. وفي رواية أنه قال اتّقوا الله واعدلوا في أولادكم» «2» . وهناك حديث نبوي عام ومبدئي رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى» «3» .
__________
(1) التاج ج 2 ص 241.
(2) المصدر نفسه ص 232 و 233.
(3) المصدر نفسه(8/45)
استطراد إلى الوقف
ويدخل في ما تقدم فيما يتبادر لنا ما يعمد إليه بعض أصحاب الأملاك من وقف أملاكهم في حياتهم بقصد حرمان بناتهم المتزوجات من الغير أو حرمان بعض فئات من الورثة الذين جعلت الآيات لهم نصيبا مفروضا في تركات أمواتهم ومعلوم أن الذين يفعلون ذلك من أصحاب الأملاك لتحقيق تلك المقاصد يجعلون مصير هذه الأملاك أو بعض ريعها إلى جهة من جهات البرّ مستندين في ذلك إلى ما أساغته السنة النبوية من الوقف الخيري حيث روى الخمسة في هذا حديثا عن ابن عمر قال «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فماذا تأمرني به. قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب ويكون ثمرها للفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه» «1» وهذا العمل مما يصح أن يحتذي به أصحاب الأملاك ويشجعون عليه من دون ريب. ولكن استناد الذين يوقفون أملاكهم للمقاصد المذكورة سابقا ويغطونها بتخصيص شيء من ريعها أو بجعل مصيرها للخير غير مستقيم. وإنما هو أسلوب احتيالي على أحكام كتاب الله ورسوله. وقد عرف هذا النوع بالوقف الذري. وحتى لو كان توزيع ما يخصص من ريعه وفق الأنصبة الشرعية لما ساغ الاستناد فيه إلى ما فعله عمر بأمر رسول الله وتسويغه. ويظل يعتبر بدعة سيئة، وحسنا فعلت بعض الحكومات الإسلامية حينما تنبهت له ومنعته وحلت الموجود منه لمخالفته لروح التشريع من جهة ولأضرار عديدة تحققت به من جهة أخرى.
وفي صدد الوقف الخيري البحت نرى أن ننبه على أمر، وهو وقف امرئ لجميع أملاكه للخير إذا كان له ورثة شرعيون. ونادرا ما يكون أحد لا يكون له ورثة شرعيون مهما كانت درجة صلتهم به.
__________
(1) التاج ج 2 ص 274.(8/46)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
ويتبادر لنا أن ذلك لا يسوغ بوجود ورثة شرعيين مهما كانوا. وأنه يصح بل يجب ملاحظة الحديث النبوي الذي أوردناه في سياق آيات الوصية في سورة البقرة والذي يجعل الثلث هو الحد الأقصى للوصية في هذه الحالة. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 18]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
. (1) الفاحشة: هنا بمعنى الزنا على قول الجمهور وهو ما تلهمه الآية أيضا.
(2) اللذان: الكلمة جمع مذكر في مقام اللذين على قول الجمهور.
احتوت الآيتان الأوليان تشريعا بحق الذين يأتون الفاحشة من النساء والرجال وهي الزنا على تأويل جمهور المفسرين:
(1) فإذا اقترفت النساء الفاحشة وشهد أربعة من المسلمين على ذلك حين استشهادهم فوجب حبسهن في البيوت إلى أن يمتن أو يأمر الله في شأنهن أمرا ويجعل لهن سبيلا وفكاكا بصورة ما.
(2) أما الرجال الذين يقترفون الفاحشة فوجب أذيتهم. فإذا تابوا وأصلحوا تركوا وشأنهم. فإن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين ويشملهم برحمته.
أما الآيتان الأخريان فإنهما جاءتا استطراديتين في صدد التوبة لتقررا أن الله(8/47)
إنما يعد بقبول توبة الذين يقترفون الذنوب بسائق الجهل والطيش ثم يستشعرون حالا بخطائهم فيسارعون إلى التوبة قبل فوات الوقت. فهؤلاء هم الذين يتوب عليهم الله. أما الذين يظلون يرتكبون الآثام والموبقات بدون مبالاة إلى أن يحضرهم الموت ثم يستشعرون بالحسرة فيقولون تبنا أو الذين يموتون وهم كفار فلا توبة لهم ولهم عذاب أليم عند الله.
ولقد شرحنا الآية [16] على اعتبار أن وَالَّذانِ جمع مذكر على ما عليه الجمهور والمأثور من اللغة يسمح به. وقد ذكر النساء في الآية [15] فصار من السائغ أن تكون الكلمة قد قصدت الرجال للمقابلة. ويكون على هذا تثنية فَآذُوهُما وفَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما هي للتساوق وحسب.
على أن هناك من يقول إن الآية [15] هي بحق النساء الثيبات والمتزوجات وأن الآية [16] هي بحق الأبكار من الرجال والنساء على السواء. وهناك من يقول: إن الآية [16] تعني لواط الذكر بالذكر «1» . ولقد أورد الذين قالوا هذه الأحاديث النبوية الواردة في عقوبة جريمة اللواط والتي منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» «2» ويلحظ أن الحديث عين عقوبة أشد من العقوبة التي عينتها الآية التي نحن في صددها والتي هي الخطوة التشريعية الأولى لمرتكبي الفاحشة. وهذا يجعلنا نرجح أن الحديث قد صدر في ظرف الخطوة التشريعية الثانية التي عينت عقوبة شديدة على الزنا على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورة النور بحيث يسوغ القول إن إيراد الحديث للتدليل على أن كلمة (اللذان) قد قصد بها لواط الذكر بالذكر في غير محله. ونحن نرجح أن هذه الكلمة في مقامها هي جمع مذكر على ما شرحناه قبل. والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) المصدر نفسه.(8/48)
تعليق على الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع. وأنها نزلت بعدها.
ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان [68- 69] والإسراء [32] .
وهو الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة.
ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة وَالَّذانِ على ما رجحناه على جملة فَآذُوهُما وبالنسبة للنساء على جملة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره إن فَآذُوهُما بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال «1» . وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل
__________
(1) انظر الخازن وابن كثير والطبري.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 4(8/49)
والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفي في عقوبته بالضرب والتعزير ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة» «1» ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية.
وجمهور المفسرين والعلماء «2» على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا.
ويلحظ ثانيا أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة.
والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة لأنها تنصّ على وجوب اتباع الحدّ على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم.
وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نصّ الآية الثانية حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور [4 و 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ
__________
(1) ابن كثير وقال المفسر قال الترمذي حديث حسن صحيح. وقد روي هذا الحديث بطرق عديدة وبشيء يسير من الخلاف على ما جاء في تفسير ابن كثير ... انظر أيضا تفسير الطبري والخازن والبغوي والطبرسي. [.....]
(2) انظر الكتاب المذكورة أيضا.(8/50)
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرّمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحدّ لهذا وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور «1» .
وجملة فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ... لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم (إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت ... ) ومع أن الجمهور «2» على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإنّ نصّ العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصرّ على القول إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها «3» . وقد عبّر الحديث الذي
__________
(1) هناك حديث سنورده ونمحّصه في سياق تفسير آيات سورة النور الأولى رواه الخمسة عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال ما مفاده (إن حدّ الزنا يوقع على الزاني إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) حيث يفيد هذا أنه أضيف إلى إثبات الزنا بالشهادة التي عبر عنها بكلمة (البينة) وسيلتان أخريان هما الحبل بالنسبة للمرأة والاعتراف بالنسبة للرجل والمرأة.
(2) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(3) انظر التاج ج 3 ص 22 و 23 وسنورد أحاديث هذه الحوادث في تفسير سورة النور.(8/51)
يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة «إذا قامت البينة» .
وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا وإذا صحّ هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه «إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستبطنا المرأة لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم» ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث.
والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة وأنهم لا بدّ من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها.
وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ... [4]
وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها.
ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهزّ كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة.
والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.(8/52)
وكلمة (منكم) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحشة بين المسلمين ويعرف أن مصلحة المجتمع الإسلامي هي مصلحته. فلا يقدم على شهادة من هذا النوع في حق أخيه المسلم إلّا إذا كان على يقين منها بحيث يعتقد أنه مؤاخذ عند الله إذا كتمها في حين أن هذا لا يكون مؤكدا من غير المسلم في حق المسلم.
وكلمة (منكم) تحتمل أن تشتمل الرجال والنساء معا. غير أن الجمهور على حصر حق الشهادة في الحدود بخاصة في الرجال. ولم نطلع في صدد ذلك على حديث نبوي صحيح. وإنما رأينا الإمام رشيد رضا يذكر في سياق تفسير الآية أن الزهري- وهو من علماء الحديث من التابعين- قال: (مضت السنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود) ونحن في حيرة من هذا. فقد تذهب الجريمة بدون عقاب إذا توقف إثباتها على شهادة امرأة مسلمة. هذا إلى أن فرصة النساء لمشاهدة مثل هذه الجريمة أكثر سنوحا من الرجال كما هو المتبادر، ولقد قلنا إننا لم نطلع على حديث نبوي صحيح. وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي يصح أن يورد لأن فيه تأييدا لتحفظنا. حيث رويا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم وفي رواية لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» «1» فهذا الحديث مطلق. ويفيد أن كل من يكون متصفا بالصفات المذكورة سائغ الشهادة مطلقا في الحدود وغير الحدود معا وسواء أكان رجلا أو امرأة. والله تعالى أعلم.
والجملة التي نحن في صددها قد جاءت في الآية التي فيها النساء. غير أنها
__________
(1) التاج ج 3 ص 38 ومعنى ذي الغمر ذي العداوة والحقد. ومعنى القانع الخادم أو التابع.(8/53)
شاملة للرجال الذين يأتون الفاحشة أيضا المذكورين في الآية التالية لها على ما هو المتبادر من حيث إن العقوبة المترتبة عليهم لا توقع إلّا بعد ثبوت جريمتهم بالطرق التي تثبت جريمة النساء. باستثناء الحبل بطبيعة الحال. أي بالشهادة التي عبر عنها في حديث ابن عباس بالبينة أيضا أو الاعتراف.
وجملة فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما تفيد كما هو المتبادر أمرا بالكف عن أذاهما إذا أظهرا الندم والتوبة والصلاح. وهذا شرط قبول توبة التائب على ما جاء في آيات عديدة وشرحناه شرحا وافيا في سياق تفسير سورة الفرقان.
ولعل كلمة وَأَصْلَحا بخاصة تنطوي في مقامها على إيجاب تلافي نتائج الفاحشة مما قد يدخل فيه التعويض والزواج. والله أعلم.
وفي الآيتين [17- 18] اللتين جاءتا استطراديتين في صدد التوبة زيادة مهمة جديرة بالتنويه حيث توجب على المذنبين الإسراع في التوبة والصدق فيها وتنبه على أن تأخير التوبة إلى ساعة الموت يجعلها غير مقبولة عند الله. وفي هذا ما فيه من التلقين البليغ. فالتوبة إنما فتح بابها للناس حتى يندموا ويرعووا ويصلحوا ما أفسدوا وهم في متسع من حياتهم ومتعة من صحتهم وعمرهم.
هذا، وجملة فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً وجملة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وجملة فَآذُوهُما وجملة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما وإن تكن موجهة للمسلمين فالمتبادر أن محل توجيهها في الدرجة الأولى هو أولو الأمر والشأن والحكم والسلطان منهم. وقد ذكر ذلك المفسر الخازن فيما ذكره في صدد ذلك.
وهو حق لأنهم هم الذين يؤهلهم مركزهم واحترام الناس لأوامرهم ونواهيهم لاستشهاد الشهود والحكم بحبس النساء في البيوت وضرب الرجال وتعزيرهم.
وهذا يعني بالتبعية أن هذه الأمور منوطة في الدرجة الأولى بهم وأن من واجب المسلمين رفعها إليهم. وعدم التصرف فيها مباشرة لما يؤدي إليه ذلك من فوضى وأخطاء وأهواء.
هذا ولقد رأى المعتزلة في جملة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ تأييدا لمذهبهم بأنه(8/54)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
يجب على الله الأصلح لعباده «1» . وهذا تعبير مناف للأدب نحو الله لا يليق استعماله على ما نبهنا عليه في مناسبة سابقة أيضا. والمتبادر أن الجملة أسلوبية يقصد بها بيان كون الله تعالى إنما يتوب على الذين يعملون السيئات بجهالة ثم يتوبون من قريب.
[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(1) نهيا للمسلمين عن إمساك الزوجات مع الكراهية والبغض بقصد الكيد والإعنات وابتزاز أموالهن من مهور وغيرها.
(2) وأمرا لهم بمعاشرتهن بالحسنى والمعروف وتحملهن حتى في حال الشعور بكرههن. فليس كل ما يكرهه المرء شرا حقا. وقد يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا.
(3) وتحذيرا لهم في حال اعتزامهم على تركهن للتزوج بغيرهن ألا يأخذوا شيئا مما أعطوهن مهما كان كثيرا. ففي ذلك إثم وظلم كبيران بعد ما كان بينهما ما كان من صلة الزوجية العظمى والميثاق والعهد الذي تم به التراضي.
(4) واستثناء لحالة صدور فاحشة ثابتة منهن. فهذه حالة استثنائية خطيرة قد تسوغ للزوج الكره والفراق ومحاولة استرداد ما أعطاه كله أو بعضه.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير رشيد رضا.(8/55)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقينات
ولقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» «1» .
وهناك روايات أخرى يرويها الطبري وغيره ذكر في بعضها أسماء وأحداث معينة وفي بعضها أن ابن الزوج وأقاربه كانوا يمسكون الزوجة إذا توفي زوجها حتى تفتدي نفسها برد المهر وفي بعضها أنهم كانوا يلقون عليها ثوبا كإعلان بأنهم سيمسكونها عندهم. وفي بعضها أن أهل ابن الزوج يفعلون ذلك إذا كان هذا الابن صغيرا حتى يكبر فيمسكها أو يتركها. وأن الآية الأولى نزلت في منع هذه العادات المجحفة.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية الأولى تنطوي على قرينة حاسمة على أن الخطاب فيها موجه للأزواج في صدد معاملتهم لزوجاتهم حيث يجعل ذلك رواية نزولها بسبب عادة إمساك ابن الزوج أو أقاربه لزوجة الأب لأنفسهم أو لأخذ الفدية منها غريبة. وقد يكون تعبير لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً من ما سوغ للمؤولين ولابن عباس ما قالوه كسبب لنزول الآية. ولقد رأينا الزمخشري يؤولها تأويلا وجيها متسقا مع ملاحظتنا وهو (لا يحلّ لكم أن تمسكوا زوجاتكم على كراهيتكم لهن حتى يمتن عندكم بقصد أن ترثوهن) وقد يكون من القرائن على أن الآية في صدد معاملة الأزواج لزوجاتهم ورود نهي عن نكاح زوجات الآباء في آية
__________
(1) التاج فصل التفسير ج 4 ص 81.(8/56)
مستقلة تأتي بعد الآيات التي نحن في صددها. ونرجح أن الروايات المساقة هي في صدد هذه الآية وأن سوقها في صدد الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من قبيل الالتباس.
والذي يتبادر لنا أن الآيات نزلت في مناسبة شكوى رفعها بعض الزوجات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حق أزواجهن بسبب ما بدا من بعض المحاولات والمواقف التي تضمنتها الآية الأولى والله أعلم.
ومع أن الآيات تبدو فصلا مستقلا فإن موضوعها متصل بموضوع النساء وحمايتهن وحقوقهن مما احتوت الآيات السابقة توطيده حتى ليصح أن يقال إنها استمرار لها. ومن المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها إن لم تكن نزلت معها فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية.
ولد سبقت وصايا ونواه وتحذيرات مماثلة في الآيات (222- 247) من سورة البقرة مما يؤكد ما كان يلقاه الزوجات من أزواجهن من المكايدة والأذى وما كان يعمد إليه الأزواج من أساليب لابتزاز أموالهن فاقتضت الحكمة مواصلة توكيد النواهي والتحذيرات للقضاء على هذه التصرفات المكروهة المتناقضة مع الحق والعدل والواجب والعهد الزوجي.
وأسلوب الآيات هنا قوي رائع حقا. ينطوي على أبلغ التلقين وأروع العظة في حماية الزوجات وتعظيم شأن الصلة الزوجية ووجوب حسن معاشرتهن ومعاملتهن، وحمل النفس على ما تكره في هذا السبيل، والتعفف عن أموالهن ولو كانوا هم الذين أعطوها لهن لأنها صارت حقهن، وعدم التسرع في التخلي عنهن وتطليقهن. فإذا أضيف إليها ما احتوته الآيات العديدة الأخرى المكية والمدنية من مثل ذلك وفي صدده وقد مرّ منها أمثلة كثيرة بدا الأمر فذّا بالنسبة لجميع الشرائع، وصار من خصوصيات القرآن والشريعة الإسلامية ومرشحاتها للخلود والشمول.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا مقتطعا من حديث خطبة حجة وداع رسول الله رواه مسلم وأبو داود جاء فيه «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن(8/57)
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «1» وفي مجمع الزوائد حديث رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني في وجوب إحسان معاملة الزوجات والبرّ بهنّ، وهناك حديث آخر مهم رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يفرك مؤمن مؤمنة وإن كره منها خلفا رضي منها بآخر» «2» . وجمهور المفسرين والمؤولين على أن جملة يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ في الآية الأولى كناية عن الزنا. وإن للزوج في حالة ثبوت ذلك على زوجته حقا في استرداد مهرها وما قد يكون أعطاها إياه من مال أو بعضه بالأسلوب الذي لا يخالف شرعا ولا عرفا. وهذا متسق مع روح الآية كما هو المتبادر.
مسألة المغالاة في المهور
ولقد روى المفسرون في سياق الآية [20] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في خلافته فقال «ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان الصداق في عهد النبي وأصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان في الإكثار تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم» . ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال نعم، فقالت أما سمعت ما أنزل الله؟ قال وأي ذلك؟ فقالت: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فقال اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب- وفي رواية- فمن طابت نفسه فليفعل» «3» . ورووا روايات أخرى من بابها جاء في إحداها أن عمر بن الخطاب قال: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت
__________
(1) التاج ج 2 ص 143 و 288.
(2) المصدر نفسه. وكلمة يفرك بمعنى يبغض والراجح أن المقصود بمؤمن ومؤمنة زوج وزوجة مؤمنان.
(3) النص منقول عن ابن كثير.(8/58)
امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته «1» . وجاء في إحداها أن عمر قال «لا تزيدوا في مهور النساء، فقالت امرأة ما ذاك لك، قال ولم؟ قالت إن الله قال وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً الآية فقال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ» «2» وجاء في إحداها أن عمر قال لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من الفضة فمن زاد جعلت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة ما ذاك لك: قال لم؟
قالت إن الله يقول وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً الآية فقال امرأة أصابت وأخطأ عمر «3» .
وهذه الروايات لم ترد في الصحاح وقد روى أصحاب السنن حديثا فيه نهي من عمر عن المغالاة في المهور فقط عن أبي العجفاء قال «خطبنا عمر فقال ألا لا تغالوا بصداق النساء فإنّها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم. ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية» «4» .
على أن عدم ورود قصة اعتراض إحدى النساء على عمر في هذا الحديث لا يمنع أن تكون روايته المروية بصيغ وطرق عديدة صحيحة. ولئن صحت فيكون فيه صورة رائعة عن العهد الراشدي. منها نباهة المرأة العربية وقدرتها على استنباط الأحكام من القرآن. وجرأتها على الدفاع عن حقوقها. وإقرار الرجال وفي
__________
(1) النص منقول عن ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) من رشيد رضا.
(4) التاج ج 2 ص 270 وقيمة الاثنتي عشرة أوقية (480) درهما على ما جاء في شرح الحديث وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة يؤيد ما جاء في الحديث المروي عن عمر جاء فيه (سألت عائشة كم كان صداق رسول الله قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّا. أتدري ما النش قال لا. قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم) انظر التاج ج 2 ص 269. [.....](8/59)
مقدمتهم الخليفة بذلك ومنها تراجع الخليفة عن وصية وصاها حينما نبهته المرأة إلى احتمال مخالفة الوصية للتلقين القرآني.
والمتبادر أن إيعاز عمر كان اجتهادا منه فيه مصلحة للمسلمين. وهناك حديث رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إن من خير النساء أيسرهن صداقا» «1» وحديث ثان رواه أحمد والحاكم والبيهقي جاء فيه «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها» «2» ومن المحتمل أن يكون عمر قد استأنس بهذه الأحاديث وأمثالها في إيعازه.
وفي سورة النور آية تنطوي على تلقين قوي بوجوب تيسير الزواج لكل فئة وبخاصة للفقراء مما لا يتيسر إلّا بعدم المغالاة في المهور وهي وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) .
وحتى على فرض صحة رواية احتجاج المرأة على عمر وتراجعه عن إيعازه فإنه ليس في الآية ما يصح الاستدلال به على أن المبلغ الكبير الذي عنته بلفظ القنطار هو المهر فقط حيث يمكن أن يكون مجموعة عطايا من الزوج. وعبارتها تهدف إلى حماية المرأة وعدم ابتزاز ما صار حقها الشرعي من مال أعطاه لها زوجها فيه المهر وغير المهر مهما كثر. ويظل تلقين آية سورة النور والأحاديث النبوية وإيعاز عمر واردا واجب الاحترام بل ومخولا للحكام الإشراف على مقادير المهور ومنع المغالاة فيها في كثير من الظروف التي لا يكون أكثر الناس فيها قادرين على دفع مهور عالية حيث يؤدي هذا إلى تعسير الزواج وتزايد الأيامى- أي العزاب- من رجال ونساء وعبيد وإماء، وبعبارة أخرى إلى تعطيل أمر الله الوارد في آية سورة النور أما القادرون فالذي يتبادر لنا أنه ليس في التلقين المشار إليه ما يحول دون زيادة المهر بينهم عن المقدار المحدد في الروايات المروية. ولعل حكمة عدم
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير المنار.
(2) المصدر نفسه.(8/60)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
تحديد المقدار في الكتاب والسنة مع حضهما على التساهل فيه بالنسبة للناس الذين لا يقدرون على الكثير وهم الأكثرية الساحقة تلمح في كون طبيعة الحياة التي فيها التفاوت في المقدرة والمراتب الاجتماعية لا تتعارض مع الزيادة بالنسبة للقادرين بل تجعل ذلك مما لا يمكن تفاديه. وهكذا تتسق الشريعة الإسلامية مع مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس ومع طبيعة الحياة في مختلف الظروف وهذا من مرشحاتها للشمول والخلود. ولقد روى أبو داود والنسائي وأحمد حديثا عن أمّ حبيبة أم المؤمنين قالت «إنها كانت تحت عبد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوّجها النجاشي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها منه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة» «1» حيث يمكن الاستئناس بهذا على ما قلناه والله سبحانه أعلم.
[سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
. تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إلخ
عبارة الآية واضحة. وهي في نهي المسلمين عن عادة بشعة جاهلية وتشنيعها وإبطالها.
وقد روى المفسرون «2» أنه كان من عادة العرب قبل الإسلام- ومنهم من روى ذلك عن أهل المدينة خاصة- إذا مات رجل منهم عن زوجة وله ابن بالغ من غيرها وألقى عليها ثوبا فإن ذلك يكون بمثابة إعلان رغبته فيها فيصبح أحق بها من نفسها إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها لغيره وإن شاء أمسكها في بيته وإن شاء سرحها مقابل فدية تفدي بها نفسها من مال تدفعه أو حق تتنازل عنه له. وقد رووا
__________
(1) التاج ج 2 ص 270.
(2) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.(8/61)
هذا في سياق الآيات السابقة كما ذكرنا قبل. ورووا إلى هذا أن الآية نزلت في مناسبة مراجعة امرأة كانت زوجة لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري، فلما مات خطبها ابنه فأتت رسول الله وأخبرته وقالت إني أعدّ ابنه ابنا لي فما لبثت الآية أن نزلت بالنهي. كذلك مما رووه أن الآية نزلت في مناسبة حالات متعددة من هذا الباب ذكروا أسماء أصحابها من قريش حيث خلف صفوان بن أمية والأسود بن خلف على زوجتي أبويهما.
ويلحظ أولا أن الآية منصبة على النهي عن نكاح زوجات الآباء وتشنيعه فقط، وثانيا أنه جاء بعدها فصل فيه بيان المحرم على المسلمين من الأنكحة والحلال لهم حيث يسوغ القول إنها غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق موضوعا وظرفا. وهذا لا يمنع أن يكون بعض الروايات أو جميعها وقعت أو مما كان يقع وإن امرأة شكت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية وما بعدها من ما فيه محرمات الأنكحة.
وأسلوب الآية قوي في التشنيع حاسم في النهي. والمتبادر أن استثناء ما قد سلف قد استهدف تسوية نتائجه الطبيعية كالذرية التي نتجت من هذا النكاح تسوية شرعية وحقوقية. وفي هذا من الحكمة والحق ما هو ظاهر.
ويستفاد من أقوال المفسرين «1» ورواياتهم عن أهل التأويل أن الاستثناء أي جملة إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ هو من أجل الأولاد الذين ولدوا من هذه الحالة قبل تحريمها ليعتبروا أولادا شرعيين لأنهم من نكاح كان سائغا وليس للسماح باستمرار الزوجية بين زوجة الأب وابن الزوج. وهو حق سديد، ولقد روى الترمذي حديثا عن فيروز الديلمي قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له إني أسلمت وتحتي أختان فقال اختر أيّتهما شئت وفي رواية طلّق أيّتهما شئت» «2» وقد حرمت آية تأتي بعد هذا جمع الأختين إلّا ما قد سلف حيث يدعم هذا ذلك القول.
__________
(1) انظر بخاصة تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن لهذه الآيات.
(2) التاج ج 2 ص 324.(8/62)
ولقد قال المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية إن من يتزوج زوجة أبيه بعد تحريم ذلك يكون مرتدا عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال. وأورد للتدليل على ذلك حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن البراء بن عازب قال «لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» «1» حيث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع هذه العقوبة لمثل هذا الجرم الفظيع حينما اقترف في الإسلام رغم التحريم والتسفيه الشديدين اللذين احتوتهما الآية.
وهناك أقوال يوردها المفسرون ومنهم من يعزوها أو يعزو بعضها إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآية «2» من ذلك أن لفظ الآباء يشمل الجد بحيث يكون التحريم شاملا لنكاح ما نكحه الجد من قبل حفيده ومنها أن زوجة الأب تحرم على الابن ولو لم يدخل بها أن كان طلقها أو مات عنها قبل الدخول. ومنها أن التحريم يشمل ما استفرشه الآباء من إمائهم وما باشروه مباشرة بدون جماع من إمائهم وزوجاتهم بل ومن يكونون خلوا بهن منهن أو رأوهن مجردات أي عاريات. ثمّ تخلوا عنهن بدون جماع، وهذه أقوال وجيهة. وهناك اختلاف في ما جامعه الآباء سفاحا وما باشروه مباشرة وقبلوه بشهوة بدون جماع من نساء حرائر وإماء ولم يكنّ زوجاتهم وملك يمينهم. فبعض المؤولين والفقهاء أخذوا جملة وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ على معنى الجماع بالزواج أو بالسفاح وألحق به المباشرة والتقبيل بشهوة. وقال إن ذلك يحرم المرأة المزني بها أو المباشرة أو المقبلة بشهوة على الأبناء. وعزا الخازن هذا القول إلى عمران بن الحصين وجابر بن زيد والحسن وفقهاء العراق. ورتب أصحاب هذا الرأي حرمة المصاهرة عليه بحيث تكون بنت الزنا محرمة على أخيها الشرعي وعلى والد أبيها.
وبعضهم أخذوا الجملة على معنى عقد الزواج وقالوا بعدم حرمة من ليس زوجة
__________
(1) التاج ج 3 ص 26.
(2) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن مثلا.(8/63)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
بعقد يجب فيه الصداق على الزوج ويلحق به الولد وتجب فيه العدة على الزوجة، وعزا الخازن هذا القول إلى علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري ومالك والشافعي وفقهاء الحجاز ومعنى هذا أن زواج الابن من امرأة زنى بها الأب غير محرم فضلا عن ما باشره أو خلا بها أو قبله بشهوة من نساء حراما.
وهذا الرأي مستفاد من الجزء الثاني من موطأ مالك.
وإذا لحظنا أن القرآن إنما استعمل كلمة (النكاح) ومشتقاتها في مقام الزواج وعقده دون استثناء. مما مثاله ما جاء في آية البقرة وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [221] وفي آية الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [49] ومما سوف يأتي أمثلة له في هذه السورة وما بعدها يكون القول الثاني هو الأوجه. وإن كان ضمير المرء يشعر أن القول الأول لا يخلو من وجاهة أيضا باستثناء اللمس والتقبيل بشهوة والمباشرة بدون جماع للمرأة غير الزوجة لأن هذه الأفعال لا يمكن أن تدخل في وصف النكاح ولو حمل على محمل الجماع.
والمتبادر أن الإماء يلحقن بالحرائر في كلا القولين والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 23 الى 24]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
.(8/64)
(1) ربائبكم: جمع ربيبة وهي بنت الزوجة والمتبادر أن التسمية من معنى كون الزوج يرب أو يربي بنت زوجته في كنفه.
(2) في حجوركم: بمعنى في كفالتكم مع أمهاتهن.
(3) حلائل: جمع حليلة وهي الزوجة.
(4) المحصنات من النساء: كلمة المحصنات جاءت في مقامات في القرآن في معان متنوعة. منها الحرائر ومنها العفيفات ومنها المتزوجات والجمهور على أنها هنا بالمعنى الأخير وهو الملموح من روح الآية.
(5) أجورهن: بمعنى مهورهن.
(6) فريضة: مفروضة متفقا عليها.
الخطاب في الآيتين موجّه إلى المسلمين وقد أوذنوا فيه بما كتب الله لهم من الحلال والحرام في الأنكحة كما يلي:
1- حرم عليهم التزوج بأمهاتهم، وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم، وخالاتهم، وبنات إخوتهم، وبنات أخواتهم، ومرضعاتهم اللاتي يعتبرن أمهاتهم، وبنات مرضعاتهم اللاتي يعتبرن أخواتهم، وأمهات زوجاتهم، وبنات زوجاتهم من أزواج غيرهم إذا كانوا قد دخلوا بهن باستثناء اللاتي يطلقوهن قبل الدخول بهن، وزوجات أبنائهم الذين من أصلابهم، وجمع الأختين في آن واحد مع العفو عما كان من ذلك قبل نزول الآيات والنساء المتزوجات باستثناء ما ملكته أيمانهم.
2- وأبيح لهم أن يتزوجوا بغير هذه المحرمات مع تنبيههم إلى وجوب أن تكون غايتهم الإحصان والعفة عن الزنا والسفاح. وإلى وجوب أدائهم مهرا للمرأة التي يتزوجون بها كفرض متفق عليه مع إباحة التراضي في شأنه بعد تسميته وأدائه زيادة أو نقصا حسب التراضي.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 5(8/65)
تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما يتصل بهما من أحكام
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين. وما احتوتاه هو تشريعات رئيسية قد لا تحتاج إلى مناسبات خاصة. غير أن الّذي نرجحه أنهما نزلتا بسبب حوادث متنوعة في صدد حرام الأنكحة وحلالها كثرت في مناسباتها الاستفتاءات والمناقشات. وهو المتسق مع ما جرت عليه حكمة التنزيل في التشريع وغير التشريع في الأعمّ الأغلب.
والتناسب الموضوعي الخاص بين الآيتين والآية السابقة لها أولا والتناسب الموضوعي العام بينهما وبين الآيات السابقة جملة واضح. فإما أن تكون الآيتان نزلتا بعد السياق السابق بدون فاصل فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي والظرفي وإما أن تكونا نزلتا لحدتهما بعد وقت ما فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي.
ولم نطلع على روايات تفيد أن شيئا من المحرمات المذكورة وبخاصة الرئيسية منها مثل الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وزوجة الابن من الصلب كان مباحا عند العرب قبل الإسلام وقد تكون جملة إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ في صدد نكاح زوجات الآباء والجمع بين الأختين قرينة على أن المحرمات المذكورة في الآيتين وبخاصة الرئيسية كانت محرمة قبل الإسلام.
ولعلهم كانوا يتساهلون في غير هذه المحرمات الرئيسية كأمهات الرضاع وأخوات الرضاع والربائب مثل تساهلهم في نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. وكانوا إلى هذا يتشددون في تحريم نكاح أرامل ومطلقات الأبناء حتى شمل ذلك مطلقات الأبناء بالتبني فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء هذه الآيات لتكون أحكاما صريحة شاملة لجميع الحالات بأسلوب حاسم.(8/66)
والنصّ على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط وقيد تحريم الربائب بالدخول بأمهاتهن وما ورد من أحاديث حرمة الرضاع على ما سوف نورده بعد قد يكون قرائن على ما نقول.
والنصّ على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط الذي خرج به تحريم زوجة الابن بالتبني من المحرمات قد يدل على أن هذه الآيات قد نزلت بعد إبطال تقليد التبني وتوابعه في سورة الأحزاب. ولعل ذلك من أسباب تقديم سورة الأحزاب على هذه السورة في روايات ترتيب النزول.
وقد نبّه المفسرون «1» والفقهاء ومنهم من عزا قوله إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على أن تعبير الأب في المحرمات يشمل الجد وتعبير الأم يشمل الجدة، وتعبير الابن يشمل ابن الابن وبنت الابن، وتعبير البنت يشمل ابن البنت وبنت البنت، وتعبير العمة يشمل عمة الأب وعمة الأم، وتعبير الخالة يشمل خالة الأب وخالة الأم. وهذا وجيه ومتسق مع روح الآيات وأساليب اللغة العربية، ونبهوا كذلك على حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها استنادا إلى حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» «2» وهذا تشريع نبوي لحالة سكت القرآن عنها.
ونبهوا كذلك على حرمة وطء الرجل والدة أمته التي يستفرشها ولا بناتها من غيره ولا بنات أبنائها وبناتهم أيضا ولو كن ملك يمينه. وهو قول سديد. ولم نقع على قول في عمات الأمة التي يستفرشها سيدها وخالاتها أو الجمع بينها وبينهن.
ويتبادر لنا أن هذا ينسحب عليه ذلك الأصل لأن تعليله جنسي ولا يتبدل في حالة الحرية والرق. والله أعلم. ونبهوا أيضا على أن زوجات الكفار داخلات في مدى عبارة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ محرمات على المسلمين على اعتبار أنهن ذوات أزواج سواء أكنّ مشركات أم كتابيات باستثناء ما يسبيه المسلمون من
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري والبغوي وغيرهم.
(2) انظر أيضا التاج ج 2 ص 264.(8/67)
أعدائهم الكفار نتيجة لحرب وقتال من نساء حيث أبيح لهم أن يستفرشوهن لأنهن غدون ملك يمين لهم على ما تفيده جملة إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مما سوف نزيده شرحا بعد.
وفي موطأ مالك «1» حالات أخرى. منها عزوا إلى زيد بن ثابت (عدم صحة زواج رجل من أم زوجة عقد عليها ثم طلقها قبل أن يمسها لأنه صارت أم زوجته على كل حال) وهذا متسق مع إطلاق العبارة القرآنية. ومنها بدون عزو إلى أحد (حالة الرجل تكون تحته امرأة فيجامع أمها. حيث تحرم عليه زوجته وأمها معا) .
وهذا اجتهاد تطبيقي للجملة القرآنية إذا أخذ بقول من يقول بحرمة المرأة التي يصيبها الرجل ولو سفاحا. وقد علقنا على هذا سابقا.
ولم يذكر شيء في الآيات عن دين النساء اللاتي يحل للمسلم أن يتزوجهن.
غير أن الآية التالية لهذه الآيات مباشرة ذكرت ذلك بأسلوب يفيد وجوب كونهن من المؤمنات. ولقد حرمت آية البقرة [220] نكاح المشركات على ما شرحناه قبل. ولقد أدخل تعديل على ذلك بإباحة الكتابيات في آية سورة المائدة [5] على ما سوف نشرحه بعد.
وفي صدد حرمة الرضاع روى الخمسة عن عائشة رضي الله عنها حديثا جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» «2» . وحديثا ثانيا رواه الشيخان جاء فيه «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم» «3» . وحديثا ثالثا رواه جميعهم عدا الترمذي عن أم حبيبة «قالت يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال: بنت أم سلمة، قلت نعم قال فو الله لو لم تكن في حجري ما حلّت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة» «4»
__________
(1) الموطأ ج 2 ص 23 و 24.
(2) انظر التاج ج 4 ص 264- 265.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. [.....](8/68)
وحديثا رابعا رواه الخمسة إلّا البخاري عن أمّ الفضل جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم:
لا تحرّم الرضعة أو الرضعتان أو المصّة أو المصتان» «1» . وحديثا خامسا رواه البخاري والترمذي عن عقبة بن الحارث قال: «تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته وقلت إن المرأة كاذبة فأعرض، فأتيته من قبل وجهه وقلت إنها كاذبة، قال كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك» «2» . وحديثا سادسا رواه الترمذي جاء فيه «أن ابن عباس سئل عن امرأتين في عصمة رجل واحد أرضعت إحداهما جارية (بنتا) والأخرى غلاما أتحلّ الجارية للغلام فقال لا إن اللقاح واحد» «3» . وحديثا سابعا رواه الترمذي عن أم سلمة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» «4» . وحديثا ثامنا عن ابن عباس رواه الدارقطني جاء فيه «قال رسول الله لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان في الحولين» «5» .
وفي موطأ مالك أحاديث أخرى. منها حديث عن عائشة قالت: «جاء عمي من الرضاعة يستأذن عليّ فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله فسألته فقال إنه عمك فأذني له قالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال إنه عمك فليلج عليك» «6» وحديث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه أخبره «أن عائشة زوج النبي كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها. ولا يدخل عليها من أرضعته نساء أخواتها» «7» .
وليس في الأحاديث ما ينقض الجملة الواردة في الآية الأولى في تحريم
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 264- 265.
(2) انظر أيضا التاج ج 2 ص 266.
(3) المصدر نفسه.
(4) ابن كثير.
(5) المصدر نفسه.
(6) الموطأ ج 2 ص 68- 70.
(7) المصدر نفسه.(8/69)
المرضعات وبناتهن وإنما فيها توضيح وتوسيع ومن الواجب الأخذ بها بحيث يصح القول على ضوئها وضوء الجملة القرآنية أن الرضاعة المشبعة في سن الرضاعة هي التي تحرم النكاح وأن الرضاعة بهذا الوصف تحرم من الأنكحة ما يحرمه الرحم والولادة حيث تغدو المرضعة بمثابة أم الطفل أو الطفلة التي رضعت منها فتحرم هي على الطفل كما يحرم عليه بناتها وأخواتها وعماتها وخالاتها وبنات أبنائها وبنات بناتها ويحرم على الطفلة أبو المرضعة وأبناؤها وإخوتها وأعمامها وأخوالها ويحرم على الطفل من رضع معه منها من بنات غير بناتها ويحرم على الطفلة من رضع معها منها من صبيان غير صبيان مرضعتها مع التنبيه على أن هناك بعض اختلافات مذهبية لا يتحمل منهج التفسير بسطها.
ولقد روى الخمسة إلّا البخاري حديثا عن عائشة جاء فيه «كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله وهنّ فيما يقرأ من القرآن» «1» ، ونحن في حيرة من هذا الحديث. ففي عهد أبيها حرر مصحف رسمي ليكون الإمام والمرجع على ملأ من المسلمين ولا يعقل أن تسكت على عدم إثبات قرآن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو قرآن في المصحف ولا يعقل أن ترد شهادتها في ذلك ونرجح أن في الأمر التباسا وقد ناقش رشيد رضا هذه المسألة وقال ما مفاده أن رواية الخمس عنها هي المعتمدة وبها يقول أهل الحديث ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث. ورواية القرآن كقرآن لا تثبت إلا بالتواتر وليس هناك تواتر يؤيد صحة ما روي في هذا عن عائشة رضي الله عنها.
وعلى كل حال فإن قصارى الأمر تقرير كون حرمة الرضاع منوطة بالرضاعة الكثيرة المشبعة لا بالمصة والمصتين وهو ما تضمنت الأحاديث الأخرى تقريره.
ولقد روى مالك قولا عن سعيد بن المسيب «2» (إن كل ما كان في الحولين وإن كانت قطرة واحدة يحرّم) وعن ابن شهاب (إن الرضاعة قليلها وكثيرها إذا
__________
(1) التاج ج 2 ص 265.
(2) الموطأ ج 2 ص 68.(8/70)
كانت في الحولين تحرم) ولا يروي الإمام مالك ما رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الخمسة وأوردناه آنفا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ندري إذا كانت لم تبلغه أو لم تثبت عنده وعند سعيد وابن شهاب. وما دامت هذه الأحاديث واردة في كتب الصحاح فهي الأكثر وثاقة ولزوما وما فيها هو الأسدّ والأوجه في الوقت نفسه والله تعالى أعلم.
وقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في تأويل جملة إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بعد جملة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «1» منها أنها في صدد إباحة التزوج بسبايا الأعداء اللاتي يكون لهن أزواج أو وطئهن كإماء. حيث يكون السبي قد جعلهن ملك يمين المسلمين وأحلّ لهم وطئهن رغم كونهن ذوات أزواج، وقد رووا في صدد ذلك عن أبي سعيد الخدري «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل الله هذه الآية بإباحتهن» «2» ومنها أنها في صدد الأمة التي تكون مستفرشة من سيدها فيبيعها أو يهبها لغيره حيث تضمنت الجملة على رأي أصحاب هذا القول إباحة استفراشها من سيدها الجديد أيضا. ومنها أن الجملة في صدد إباحة استفراش الإماء من قبل مالكيهن بدون تحديد، بالإضافة إلى أربع زوجات شرعيات، واعتبار ذلك غير مقيد بما قيد به الزواج من عدد ومهر إلخ.
وقد يكون القول الأول هو الأكثر اتساقا مع مقام الجملة. غير أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سياق بحيث يسوغ التوقف في التسليم بنزول الجملة لحدتها حسب الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري. ولعل حادث جيش أوطاس كان سابقا لنزول الآيات فأباح النبي صلى الله عليه وسلم للمجاهدين وطء سبايا المشركين ثم أيد القرآن ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم في سياق بيان الحلال والحرام من الأنكحة.
__________
(1) انظر تفسيرها في ابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي.
(2) أورد هذا الحديث ابن كثير والخازن ورواه الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج 4 ص 81 في فصل التفسير.(8/71)
وننبه في هذه المناسبة على أن وطء المسبية والأمة التي يبيعها سيدها أو يهبها وتكون مستفرشة له قبل بيعها لا يجوز إلّا بعد استبراء رحمها. وقد روي أن المسلمين أخذوا يقعون على سبايا خيبر فأرسل النبي مناديا ينادي «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعن على امرأة من السبي حتى يستبرئها» «1» وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة» «2» . وواضح من إطلاق الآية والأحاديث أن المسلم يستطيع أن يستفرش أمته سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة إطلاقا وهو ما عليه الجمهور دون خلاف. أما آية البقرة [220] التي نهي فيها عن نكاح المشركات فهي في صدد التزوج بهن بعقد على ما نبهنا عليه في مناسبتها.
ومما نبّه عليه المفسرون «3» وأهل التأويل في هذا الصدد أن سيد الأمة حينما يهبها أو يبيعها تخرج من نطاق ملك يمينه فلا تعود تحل له وهي في ملك غيره إلّا إذا اشتراها ثانية أو وهبت له. وإلّا إذا تزوجها بعقد مما أباحته آية تأتي بعد قليل.
وهذا سديد وجيه. وننبه على أن بيع الأمة وهبتها يسوغان إذا لم تلد من سيدها فإذا ولدت صارت أم ولد ولم يعد يسوغ بيعها وهبتها وتصبح بعد موت سيدها حرة.
ونذكر بهذه المناسبة بالتعليق الذي علقناه على هذا الموضوع في سياق الآيات الأولى من سورة المؤمنون لأن فيه بعض البيان الذي يحسن ملاحظته حين قراءة هذا الكلام.
واستثناء ما قد سلف من حالة جمع الأختين هو مثل استثناء حالة زواج الابن من زوجة والده لتسوية النتائج الطبيعية تسوية حقوقية وشرعية كما قلنا في صدد استثناء الحالة الثانية.
__________
(1) ابن سعد ج 3 ص 161.
(2) التاج ج 2 ص 316.
(3) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. [.....](8/72)
ولقد أورد المفسرون «1» حديثا رواه أبو داود عن الضحاك بن فيروز عن أبيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسلمت وتحتي أختان فقال طلق أيتهما شئت. والمتبادر أن ذلك كان بعد نزول الآيات وكتطبيق لها.
ولقد نبّه المفسرون إلى أن عقد نكاح الأخت مع الأخت باطل. فإن كان العقد على الأختين معا فالعقد عليهما باطل وإن كان العقد على واحدة بعد أخرى فعقد الثانية باطل. كذلك نبهوا إلى أن حرمة الجمع بين الأختين شاملة لملك اليمين أيضا بحيث قالوا عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم أنه لا يجوز لسيد أن يستفرش أختين في آن واحد. وقد فرضوا حالة ثالثة وهي أن تكون واحدة ملك يمين وثانية حرة وقالوا إن هناك من جوز ذلك ولكن الأكثر على خلافه.
ورووا بسبيل ذلك حديثا أخرجه الإمام مالك جاء فيه: أن رجلا سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل هل يجمع بينهما فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأمّا أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب رسول الله هو في رواية علي بن أبي طالب وفي رواية الزبير بن العوام فسأله فقال: أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحدا فعل ذلك إلّا جعلته نكالا «2» . والنهي عن جمع الأختين في الآية مطلق بحيث يتبادر أنه شامل للأخوات مطلقا سواء أكن حرائر أو إماء أو بعضهن حرائر وبعضهن إماء والله أعلم.
وهناك نقاط أخرى متصلة بمدى الآيات رأينا من المفيد الإلمام بها:
إن الآيات تأمر بإيتاء النساء مهورهن وفرضها لهن فريضة. وآيات البقرة [236 و 237] تفيد سواغ عقد النكاح بدون تعيين المهر وأدائه مسبقا. فيكون الأمر في الآيات التي نحن في صددها مطلقا لإيجاب أداء المهر سواء كان قبل العقد أم بعده وهناك حديث رواه أصحاب السنن في صدد ذلك وفي صدد المهر الواجب في هذه الحالة جاء فيه «سئل ابن مسعود عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن وابن كثير والطبرسي.
(2) المصدر نفسه.(8/73)
لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط ولها ميراثه وعليها العدّة فقام معقل بن سنان فقال قضى رسول الله في بروع بنت وأشق مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود» «1» . ويقاس على هذا جواز العقد والدخول قبل فرض الصداق وأدائه واستحقاق المرأة المدخول بها صداق أمثالها كما هو المتبادر. أما مهر المرأة المطلقة في مثل هذه الحالة فالحكم في آيات البقرة [236 و 237] وفي نطاق ما شرحناها.
2- وإيجاب إعطاء المرأة مهرها يمنع تزويج الرجل بنته أو أخته لرجل مقابل تزوج بنت الرجل أو أخته بدون مهر وهو ما عرف بالشغار الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أيضا في أحاديث سبق إيرادها قبل قليل.
3- ولقد سبق تعليق على المهور والمغالاة فيها قبل قليل أيضا فنكتفي به في صدد مقادير المهور في الإسلام. وهناك أحاديث لم نوردها في التعليق رأينا أن نوردها هنا لأن فيها سننا للمسلمين في بعض الحالات. من ذلك حديث رواه الترمذي وصححه جاء فيه «تزوجت امرأة من بني فزارة على نعلين فقال رسول الله أرضيت نفسك بنعلين قالت نعم فأجازه» «2» . وحديث رواه الخمسة عن سهل بن سعد جاء فيه «إنّ امرأة جاءت إلى رسول الله فقالت جئت لأهب لك نفسي فنظر رسول الله إليها وصعّد نظره ثم طأطأ رأسه. فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك حاجة بها فزوجنيها فقال هل عندك من شيء قال لا والله يا رسول الله قال فاذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال انظر ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري فلها نصفه فقال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام
__________
(1) التاج ج 2 ص 273 صداق نسائها يعني صداق أمثالها. والعدة هي عدة حداد الزوجة المتوفى عنها زوجها.
(2) التاج ج 2 ص 270.(8/74)
فرآه رسول الله موليا فأمر به فدعي فقال ما معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال أتقرأهن عن ظهر قلبك قال نعم قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن وفي رواية زوجتكها بما معك من القرآن» «1» .
4- وغير المحرمات في الآية المسموح للمسلم التزوج بهن يجب أن يكون بموافقتهن على ما يستفاد من أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال أن تسكت» «2» . وفي رواية «الثيب أحقّ بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها» «3» . وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها» «4» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن خنساء بن خدام الأنصارية «أن أباها زوجها وهي ثيّب فكرهت ذلك فأتت رسول الله فردّ نكاحها» «5» وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه «جاءت جارية بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم» «6» . وجمهور الفقهاء على أن هذه الأحاديث هي بالنسبة للبالغات، وأن للولي أن يزوج غير البالغة بدون حاجة إلى استئمارها وإذنها لأنها غير راشدة. وليس هناك حديث صريح في إثبات ذلك ونفيه. والقول وجيه سديد بتعليله.
5- والأحاديث لا تنفي مع ذلك دور الولي للبالغات وإنما تحتم استئماره لمن هي تحت ولايته إن كانت بكرا وتمنعه من تزويجها وهي غير موافقة. وتجعل الثيب أكثر انطلاقا في حقها في التصرف في نفسها.
__________
(1) التاج ج 2 ص 271 و 272.
(2) المصدر نفسه ص 266 و 267.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(8/75)
على أن هناك أحاديث تجعل دور الولي أقوى بروزا. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل. ثلاث مرات. فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها. فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» «1» .
وصيغة الحديث تحتمل أن يكون في حق البكر والثيب معا. وهناك حديث يرويه أحمد والبيهقي جاء فيه «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» «2» وحديث رواه أصحاب السنن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما امرأة زوّجها وليّان فهي للأول منهما» «3» ، وليس في الأحاديث ما يخلّ في وجوب استئمار البكر والثيب وإذنهما مما قررته الأحاديث السابقة كما هو المتبادر.
وننبه على أن آيات سورة البقرة [228- 231 و 234 و 240] تقرر بشيء من القوة والصراحة بأن للمرأة المطلقة والمترملة أن تتصرف بنفسها بدون تدخل وليها بل إن الآية [231] تنهى الولي عن ممانعتها من الرجوع إلى زوجها إذا تراضت معه.
وبناء على ذلك ثم على نصوص الأحاديث فإن المذاهب الفقهية مع اتفاقها على حق الولي في تزويج من هي تحت ولايته إذا كانت بالغة بكرا كانت أم ثيبا مع الحصول على إذنها وموافقتها فإن منها من لا يرى ضرورة لموافقة ولي ولا لشهود ومنها من يرى ذلك ضروريا ومنها من لا يرى ذلك ضروريا بالنسبة للثيب دون البكر. ومنها من جعل للقاصرة حق الخيار والرفض حينما تبلغ إذا كرهت تزويج وليها لها.
ويتبادر لنا على ضوء الآيات والأحاديث أن الصواب هو أن للثيب حق
__________
(1) التاج ج 2 ص 266 و 267.
(2) المصدر نفسه ص 267 و 268.
(3) المصدر نفسه.(8/76)
التصرف بنفسها دون ضرورة للولي. وإن موافقة الولي ضرورية بالنسبة للبكر بشرط موافقتها هي أيضا. وأن للقاصرة البكر التي يزوجها وليها الخيار حين بلوغها إذا لم يكن زوجها قد دخل بها. أما الشاهدان فنعتقد بضرورتهما لأن ذلك أحوط من الغش والخداع والضرر والله تعالى أعلم.
6- وفي صدد المرأة التي يظهر فيها عاهة روى الإمامان مالك والشافعي عن عمر قال «أيما رجل تزوّج امرأة بها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها كاملا ولزوجها غرم ذلك على وليها» «1» .
7- وفي صدد الوفاء بما يشرطه الزوج على نفسه من شروط روى الخمسة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أحق الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج» «2» .
وهذا الحديث واسع الآفاق بحيث يمكن أن يشمل كل شرط شرطه الزوج على نفسه لزوجته من لباس وسكن ومعاش وعدم قسمة للزوجة الثانية وعدم الزواج بأخرى وجعل الطلاق بيدها وعدم إخراجها من بلدها وعدم منعها من العمل وعدم إجبارها على الخدمة والعمل إلخ. وقد قال هذا غير واحد من المفسرين والمؤولين والفقهاء. وهناك من ساق حديثا رواه الخمسة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كلّ شرط ليس في كتاب الله باطل» «3» وقالوا إن هذا الحديث ضابط للأمر فما كان من شرط لا يتناقض مع ما أباحه كتاب الله ورسوله أو منعاه وجب الوفاء به، ومن الأمثلة التي سيقت مسألة شرط عدم التزوج بأخرى وعدم القسمة للأخرى وعدم إخراج الزوجة من بلدها لأن كل هذا من حق الرجل شرعا وفاق كتاب الله وسنّة رسوله. ومع صواب القول إن الحديث يكون ضابطا فإن للمرأة أن ترفع أمرها للحاكم ليقدر مدى انطباق الشرط على شرع الله ورسوله فيلزم به الزوج والله أعلم.
__________
(1) التاج ج 2 ص 299. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 271.(8/77)
8- وفي صدد الحثّ على الزواج روى الخمسة حديثا عن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» «1» ومن المفسرين من أوّل (الباءة) بالقدرة المالية ومنهم من أولها بالقدرة الجنسية.
والراجح أنها بالمعنى الأول. بقرينة نهاية الحديث.
9- وفي صدد إيجاب تزويج صاحب الخلق والدين ترجيحا على غيره ممن يكونون في حالة مالية أو اجتماعية أرقى ويكون دونه دينا وخلقا روى الترمذي وحسنه عن أبي حاتم المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد، قالوا يا رسول الله وإن كان فيه؟
قال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات» «2» .
10- وفي صدد المرأة الفضلى للزواج روى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» «3» . وللنسائي ومسلم «إن الدنيا كلّها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» «4» . وروى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن معقل بن يسار قال «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أحببت امرأة ذات جمال وحسب وإنها لا تلد أفأتزوجها قال لا. ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» «5» وروى أصحاب السنن «قيل يا رسول الله أي النساء خير قال التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في
__________
(1) التاج ج 2 ص 253 و 254 و 259.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 257 و 258 والمتبادر أن مرد تفضيل ذات الدين إلى أن الوفاء وحسن الأخلاق والأمانة وحسن المعاشرة والاستقامة كل ذلك مضمون في حين لا يكون مضمونا بالصفات الثلاث الأخرى.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(8/78)
نفسها ولا مالها بما يكره» «1» .
11- وفي صدد نظر الرجل إلى من يريد أن يتزوجها روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال «كنت عند النبي فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له أنظرت إليها قال لا. قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» «2» وحديث رواه أبو داود والشافعي والحاكم وصححه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» «3» .
وحديث رواه النسائي والترمذي وحسنه عن المغيرة قال إنه خطب امرأة فقال النبي له «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» «4» .
12- وفي صدد إعلان النكاح روى الترمذي وأحمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف» «5» .
تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة
ولقد كانت جملة فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ موضوع تأويلات وروايات عديدة ومختلفة «6» منها أنها في معنى كون المهور الواجب إعطاؤها للنساء هي
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) التاج ج 2 ص 260- 275 وفي كتب الحديث أحاديث كثيرة أخرى فاكتفينا بما تقدم هنا وقد أوردنا منها طائفة في مناسبات سابقة وسنورد طائفة أخرى في مناسبات آتية إن شاء الله.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وغيرهم وقد ألمّ بهذا الموضوع وما دار حوله وما ورد فيه جميع المفسرين ومنهم من تبسط ومنهم من أوجز ومنهم من أورد الروايات والأقوال والتأويلات المختلفة أيضا.(8/79)
مقابل استمتاع الرجال بهن بالنكاح وكونها يجب أن تكون مقدارا معينا متفقا عليه مع رفع الحرج عن الزوجين فيما يتراضيان عليه بعد ذلك فيه إذا ما طرأت ظروف تدعو إلى تبديل من زيادة أو نقص أو تسامح ... إلخ وأن الاستمتاع هو كناية عن الوطء الذي يباح للرجال بعد العقد وأداء المهر. ومنها أن الجملة احتوت إباحة نكاح المتعة. وهو عقد بين امرأة ورجل على مدة معينة يستمتع بها فيها لقاء أجر معين فإذا انتهت المدة انفسخ العقد دون تطليق مع جواز التراضي على تمديد المدة لقاء أجر جديد. وكان هذا جاريا عند العرب قبل الإسلام.
ومع أن في استنباط إباحة نكاح المتعة من العبارة تحميلا لا تتحمله هي وبقية الآية والآيات السابقة وأن التأويل الذي تقدم هو الأوجه حسب ما يتبادر لنا مع التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن المهر ليس مقابل الوطء فحسب وإنما هو لتوطيد الميثاق الزوجي بصورة عامة فإن المفسرين جميعهم أداروا الكلام في سياق هذه الآية على نكاح المتعة.
ولقد عزوا إلى ابن عباس أقوالا ليس منها شي واردا في الصحاح منها أن الآية محكمة في إباحة نكاح المتعة وأنه كان يزيد بعد عبارة فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ جملة إلى أجل مسمى وأن أبا نضرة قال له ما أقرؤها كذلك فقال له والله إن الله أنزلها كذلك ثلاث مرات. ومنها أن عمارا سأل ابن عباس عن المتعة فقال له هي متعة لا سفاح ولا نكاح ولا طلاق ولا توارث ومنها أنه قال لما كثر كلام الناس عن إباحته للمتعة وانتشارها أنا ما أفتيت بها على الإطلاق وإنما قلت تحل للمضطر كما تحل الميتة له. ومنها أنه رجع عن قوله وقال بتحريمها وأن الآية الأولى من سورة الطلاق نسختها.
ولقد أوردوا أحاديث فيها إباحة للمتعة ثم تحريم لها. وفي بعضها تناقض في الوقت نفسه. حيث روي النهي في ظروف وقعة خيبر بينما رويت الإباحة في ظروف فتح مكة التي كانت بعد خيبر بسنتين. ومن هذه الأحاديث حديث رواه الشيخان عن جابر وسلمة قالا «كنا في جيش فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن(8/80)
تستمتعوا فاستمتعوا» «1» ومنها حديث عن سبرة الجهني رواه الإمام أحمد جاء فيه «أن سبرة غزا مع رسول الله في فتح مكة قال فأقمنا بها خمس عشرة فأذن لنا رسول الله في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد، وبردي خلق وبرد ابن عمي جديد غض. حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها تلقتنا فتاة مثل البكرة العطنطة فقلنا هل لك أن يستمتع منك أحدنا فقالت وماذا تبذلان؟ فنشر كل منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين ويراها صاحبي تنظر إليّ بعطفها فقال إن برد هذا خلق وبردي جديد غض فتقول برد هذا لا بأس به ثلاث مرات أو مرتين ثم استمتعت منها» «2» . ومنها حديث رواه الخمسة عن علي بن أبي طالب «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية» «3» . ومنها حديث رواه مسلم عن سلمة قال «رخص النبيّ عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها» «4» . ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن سبرة قال «رأيت رسول الله قائما بين الركن والباب وهو يقول يا أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» «5» . ومنها عن عمر بن الخطاب أنه قال «نهى النبي عن المتعة وأيّما رجل أو امرأة يأتوني بهما فسوف أرجمهما بالحجارة» .
ومع أن الخمسة رووا عن علي بن أبي طالب أن النبي نهى عن المتعة يوم خيبر على ما أوردناه قبل فقد روى عنه قوله «لولا أن عمر نهى عن المتعة لما زنى إلّا شقيّ» «6» حيث توهم الرواية أن عمر نهى عنها اجتهادا. ويستبعد جدا صدور هذا القول من علي الذي روى أن النبي هو الذي نهى عنها. ولأن فيه اتهاما لعمر
__________
(1) انظر أيضا التاج ج 2 ص 306. [.....]
(2) انظر أيضا مجمع الزوائد ج 4 ص 364.
(3) انظر أيضا التاج ج 2 ص 306.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 6(8/81)
أنه نهى عن شيء كان سائغا في حياة النبي. والرواية المروية عن عمر التي تذكر أنه نهى عن المتعة استنادا إلى نهي النبي عنها هي الأكثر وجاهة وورودا.
ومن باب الرواية الآنفة الذكر المروية عن علي ثلاث روايات أخرى. واحدة عن عمران بن الحصين أنه قال «إنّ آية المتعة نزلت في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وإن رسول الله أذن لنا وتمتعنا ولم ينهنا عنها. فقال رجل بعده وبرأيه ما شاء» «1» والرجل المقصود هو عمر. وواحدة جاء فيها «سئل جابر بن عبد الله عن المتعة فقال نعم استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر» «2» وواحدة بدون راو عن عمر بن الخطاب أنه قال «متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالا وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما وهما متعة النكاح ومتعة الحج» «3» .
والروايات الأربع التي يرويها الطبرسي الشيعي لم ترد في الصحاح ولم يوردها الطبري ولا البغوي ولا ابن كثير ولا الخازن الذين اهتموا لاستيفاء الروايات والأحاديث المأثورة في سياق الآيات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم باستثناء الأولى التي أوردها الطبري وحده. وإيراده لها لا يثبتها لأن الحديث الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها والذي يرويه الخمسة هو الأوثق. ورواية الروايات الأربع مجتمعة في تفسير الطبرسي الشيعي والراجح أنها وردت في كتب تفسير شيعية قبله وبعده تثير الشبهة في صنعها من الشيعة الذين يحللون المتعة ويقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمها وإنما حرمها عمر والذين يحاولون تشويه اسم عمر رضي الله عنه في كل مناسبة لهواهم الحزبي ولو كان ذلك في مناسبات وصيغ لا تتسق مع عقل ومنطق وتخرج عمر من ربقة الإسلام في نسبة تحريم ما أحله الله ورسوله والعياذ بالله كما جاء في الرواية الرابعة مما أوردنا منه أمثلة كثيرة. ولا يمكن أن يعقل صدور هذا من عمر وأن يسكت أصحاب رسول الله ويرضوا عنه ومن جملتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي.
(2) روى الروايتين الطبرسي أيضا.
(3) المصدر نفسه.(8/82)
وعلى كل حال فإن جل أئمة السنة وعلمائها انتهوا إلى القول بأن تحريم المتعة صار محكما. أما أئمة الشيعة فإنهم انتهوا إلى القول بأن إباحتها هي التي ظلت محكمة حيث يبدو أنهم لا يثبتون أحاديث تحريمها ويثبتون أحاديث حلها من جهة، وما روي عن ابن عباس في صدد تأويله للآية واعتباره إياها محكمة في حل المتعة من جهة ثم ما روي عن علي وعمران بن الحصين وعبد الله بن جابر من أن عمر هو الذي حرمها وأنها كانت حلالا ممارسا في عهد النبي ثم في عهد أبي بكر وشطر من عهد عمر من جهة.
والنفس تطمئن بما انتهى إليه أئمة السنة أكثر ولا سيما إن الآية التي جاءت فيها العبارة والآيات السابقة لها منصبة على الزواج وتعظيم رابطته ووجوب الاحتفاظ بالزوجات وحسن معاشرتهن وتحمل ما يكره منهن والإحصان والأولاد والمواريث والمهور وما يحل التزوج به من النساء وإبطال بعض عادات الجاهلية منه مثل نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. ثم ننبه على كون الزواج هو للإحصان وليس للشهوة فحسب وننهى عن قصد السفاح. والمتعة على كل حال ليست نكاحا ولا إحصانا في معناهما ومداهما الصحيحين ولا تخرج عن كونها نوعا من أنواع المخادنة وليس فيها قصد تأسيس علاقة زوجية ثابتة وإقامة كيان أسروي وإنجاب ذرية مما هو منطو في الآيات. ويتبادر لنا من كل ما روي وقيل أن مسألة المتعة وحلها وتحريمها متصلة بما روي من أحاديث أكثر مما هي منطوية في الجملة القرآنية. وإن من المحتمل أن تكون مما أباحها رسول الله في ظرف ثم نهى عنها.
ولقد روي حديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير جاء فيه «إن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت له إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة فحملت منه فخرج فزعا يجر رداءه فقال هذه المتعة لو كنت تقدمت فيها لرجمت» وحديث آخر أخرجه الإمام مسلم عن عروة أيضا جاء فيه «إن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى بصائرهم يفتون بالمتعة- يعرض بذلك بعبد الله بن عباس- فناداه عبد الله إنك لجلف جاف(8/83)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
لعمري. لقد كانت المتعة على عهد إمام المتقين «يعني النبي صلى الله عليه وسلم» فقال له ابن الزبير فجرب بنفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجاري» والحديثان يفيدان أن عبد الله بن الزبير يعتبر المتعة زنا يستحق حدّ الزنا. وأن عمر أوشك أن يعتبرها كذلك. غير أن الحديثين لم يردا في الصحاح وأن المستفاد من أقوال جمهور الفقهاء السنيين أنها وإن كانت محرمة فلا يوقع فيها حدّ الزنا للشبهة القائمة حول حلها وحرمتها عملا بالقاعدة الشرعية المشهورة (ادرأوا الحدود بالشبهات) «1» ونعتقد أن بين أئمة الشيعة الذين يقولون بإباحتها علماء مجتهدون وأتقياء ورعون يبعد أن يحرموا ويحللوا جزافا دون قناعة بقطع النظر عن احتمال الخطأ والصواب في ذلك. هذا إلى أنهم قد يرون في إباحة هذا النكاح حكمة وهي منع المسلم من الوقوع في إثم الزنا أو العنت الشديد بالحرمان. والله أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 25 الى 28]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) .
__________
(1) هذه القاعدة مستمدة من أحاديث عديدة منها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي جاء فيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة) التاج ج 3 ص 33 ومنها حديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا) ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود مرفوعا (ادرأوا الحدود بالشبهات. ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم) . نيل الأوطار للشوكاني ج 7 ص 271- 272 الطبعة المنيرية.(8/84)
(1) طولا: سعة وقدرة مالية أو فضلا من مال. وفسّرها بعضهم بالإمكان والقدرة مطلقا ومنها (يد فلان طائلة) بمعنى قادرة مادّيّا ومعنويّا.
(2) المحصنات: في المرتين اللتين وردت فيهما الكلمة بمعنى الحرائر.
(3) فتياتكم: إمائكم. وكان العرب يسمون الصبيان من عبيدهم فتيانا والبنات فتيات.
(4) محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان: الجملة على سبيل وصف ما ينبغي أن يكون حالهن بعد الزواج أو القصد من زواجهن وهو أن يكنّ متعففات لا يرتكسن في الزنا ولا في اتخاذ الأخدان. والخدن هو الخليل في السر. والمسافحة هي الزنا إطلاقا مع أي كان.
(5) فإذا أحصن: فإذا تزوجن وصرن محصنات بالزواج.
(6) فاحشة: هنا بمعنى الزنا.
(7) العذاب: هنا بمعنى حد الزنا وعقوبته.
(8) العنت: الشدة. وهنا كناية عن غلبة الشهوة وحملها صاحبها على الإثم.
تضمنت الآية الأولى تشريعا في صدد تزوج الرجال الأحرار بالإماء المؤمنات كما تضمنت حكمة ذلك. ووجّه الخطاب فيها للمؤمنين لتقرر لهم:
(1) أنه ليس من بأس على الذين لا قدرة مالية لهم على التزوج بامرأة حرة مؤمنة أن يتزوجوا بإماء مؤمنات.
(2) وبأن الله أعلم بإيمانهم جميعا وبأن بعضهم من بعض أحرارا كانوا أم أرقاء.
(3) وبأن على من أراد ذلك أن يحصل على إذن أهل الفتاة ويؤدي لها مهرها(8/85)
بالحسنى وبالقدر المتعارف عليه بين الناس والأمثال.
(4) وبأن الأمة حينما تتزوج من حرّ تكون قد تحصنت من السفاح والتخادن ويصبح من واجبها التعفف عن ذلك والحذر من الارتكاس فيه وغدت زوجة شرعية لزوجها فإذا اقترفت الفاحشة فيترتب عليها نصف الحدّ الذي يترتب على الحرة المتزوجة.
وانتهت الآية بالتنبيه على أن التشريع والإذن الرباني قد جعل لمن يخشى على نفسه العنت والأذى والإثم وعلى أن الصبر والتحمل خير وأفضل وعلى أن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم في كل حال.
أما الآيات الثلاث الأخريات فهي معقبة على محتويات الآية والآيات السابقة لها معا كما هو المتبادر من نصها وروحها. وأسلوبها ونصّها رائعان قويا النفوذ.
وقد وجّه الخطاب فيها كذلك للمؤمنين:
(1) لتنبههم على أن الله فيما شرعه لهم قد أراد أن يبين لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ويهديهم إلى طريق الحق الذي بينه لمن قبلهم وهداهم إليه ويتوب عليهم فيحول بينهم وبين الإثم والطرق المعوجة المنحرفة ويخفف عنهم. فهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.
(2) ولتهيب بهم إلى وجوب اتباع ما أنزله الله وعدم اتباع وساوس الذين يندفعون وراء الشهوات. فهؤلاء لا يريدون لهم إلّا الانحراف عن جادة الهدى والصواب. وقد أراد الله بما أنزل التسهيل لهم والتخفيف عليهم لما يعلمه من ضعف الطبيعة الإنسانية.
وورود كلمتي (مسافحات ومتخذي أخدان) معا ينطوي على صورة من صور ما كان جاريا. حيث كان بعض الإماء أو النساء يتخذن المسافحة أي الزنا مع أي كان مهنة وبعضهن يتخذن الأخدان والأخلاء الحقيقيين في السرّ وحسب.
ولقد روى الطبري عن ابن مسعود والسدي والشعبي أنهم كانوا يؤولون جملة(8/86)
فَإِذا أُحْصِنَّ بمعنى (فإذا أسلمن) ويقولون إحصانها إسلامها. غير أن جمهور المؤولين على أنها بمعنى (فإذا تزوجن) حيث يصرن بذلك محصنات. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومداها.
تعليق على الآية وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة مع سابقاتها موضوعا ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أيضا وأن تكون سياقا واحدا منذ الآية [22] .
وجملة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ تدل على أنها نزلت بعد الآيات الأولى من سورة النور التي عين فيها حدّ الزنا. هذا في حين أن الآيات [15- 18] نزلت قبل آيات سورة النور المذكورة لأنها كانت الخطوة التشريعية الأولى في عقوبة الزنا بينما جاءت آيات النور خطوة ثانية على ما نبهنا عليه قبل. وفي هذا وذاك مثل آخر من وجود بعض فصول في السورة نزلت بعد فصول سورة أخرى متأخرة عنها في الترتيب وصورة من صور تأليف السورة معا على ما ذكرناه في مقدمة السورة.
ويلحظ أن الفقرة الأولى من الآية الأولى تضمنت تقرير كون المؤمنات من حرائر وإماء هن اللائي يصح أن يتزوج بهن المؤمنون وحسب. وقد عدل هذا القيد بآية في سورة المائدة وهي الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [5] حيث أحل فيها للمؤمنين المحصنات من أهل الكتاب أيضا.(8/87)
ونقول استطرادا لصلته بموضوع الآيات إن المفسرين «1» أوردوا روايات وأقوالا مختلفة معزوة إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين ومفسريهم في تأويل كلمة الْمُحْصَناتُ في آية المائدة حيث قيل إنها بمعنى (الحرائر) كما قيل إنها بمعنى (العفائف) ثم بنوا على القول الأول عدم جواز تزوج المؤمن بالأمة الكتابية، وعلى القول الثاني جواز تزوج المؤمن بالكتابيات إطلاقا سواء أكن حرائر أم إماء إذا ما تيقن من عفافهن. والكلمة تتحمل المعنيين. غير أن الأكثر على القول الثاني. هذا مع التنبيه إلى أن هناك من يقول «2» إن الكتابيات إنما يحللن بعد إسلامهن وإن الوصف هو على اعتبار ما كن عليه قبل إسلامهن. غير أن الأكثر على خلاف ذلك. وظاهر الآية يؤيد هذا إذ ذكر فيها المحصنات من المؤمنات مع المحصنات من أهل الكتاب. وما نقوله هو في صدد التزوج بعقد. أما استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن فليس هناك خلاف على جوازه فيما اطلعنا عليه.
وجملة فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مطلقة تتضمن إباحة ذلك بل إباحة استفراش غير المسلمات إطلاقا سواء أكن كتابيات أم مشركات على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وظاهر من نصّ الآية وروحها أن التزوج بالإماء يعني التزوج بهن بعقد. وأن الزوج هو غير مالكهن. إذ ليس على الملك قيد وشرط في استفراش ملك يمينه على ما ذكرناه قبل.
ومن المؤولين من أوّل جملة بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ بمعنى بإذن مالكيهن. ومنهم من أولها بمعنى أوليائهن من أقاربهن كالآباء والأخوة والأعمام. والجملة تتحمل المعنيين وإن كان المعنى الأول هو الأكثر ورودا لأن إذن الأولياء الأقارب لا يحسم الأمر إذا لم يأذن المالك. وقد نبه أصحاب الرأي الأول على أن ذلك متصل باستمرار ملكية المالك عليهن بعد زواجهن وعلى أن تزوج الأمة بغير إذن
__________
(1) انظر تفسير آية المائدة في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري والقاسمي.
(2) جاء ذلك في الكتب السابقة الذكر أيضا.(8/88)
مالكها باطل «1» . وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي بسند حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر وفي رواية فنكاحه باطل» «2» . وقد يكون أصحاب القول استلهموا هذا الحديث وقاسوا الأمة على العبد. وهو وجيه، والله أعلم.
ومع ذلك فإن أمر الآية بإعطائهن أجورهن أي مهورهن قد يدل على أن حالة الأمة حينما تتزوج بإذن مالكها تتبدل بعض الشيء. ويكون لها الحق في أن تقبض مهرها وتتصرف فيه. وقد يكون لمالكها أن يبيعها أو يهبها لغيره وقد تنتقل ملكيتها لورثته بعد موته. ولكن ذلك لا يغير كما هو المتبادر حالتها الجديدة. وبكلمة أخرى إن مالك الأمة المتزوجة بإذنه لا يملك أن يسترجعها من زوجها أو أن يتصرف فيها تصرفا مطلقا كما كان له ذلك قبل زواجها فضلا عن أنه يحرم عليه جماعها لأنها صارت ذات زوج محصنة. وإن هذا هو شأن مالكها الجديد إذا باعها المالك الأول أو وهبها أو أورثها بعد موته، والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر القاسمي أن مالكا استدل بجملة وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على أنهن أحق بمهورهن وإنه لا حقّ لمالكهن فيه، ثم قال وذهب الجمهور إلى أن المهر للمالك وإن إضافته إليهن لأن التأدية لهن هي تأدية لمالكهن لأنهن ماله.
ونحن نرى رأي الإمام مالك هو الأوجه المتسق مع نص الآية وروحها. ويظل ما ذكرناه في محله إن شاء الله.
ومما قالوه إن أولاد الإماء المتزوجات يلحقون بأمهاتهم فيكونون أرقاء ملكا لمالكي الأمهات «3» ولم نطلع على أثر نبوي أو راشدي في ذلك. ونحن نراه عجيبا ومحلّا للتوقف. فالأولاد عند العرب ينسبون إلى آبائهم ويلحقون بهم. وفي جملة ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ في آية الأحزاب [5] قرينة على ذلك. فما دام الزوج حرّا
__________
(1) انظر كتب تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير.
(2) التاج ج 2 ص 307.
(3) انظر الزمخشري. [.....](8/89)
فأحرى أن يكون ابنه حرا. وقد يصح أن يقاس هذا على أبناء مالكي الإماء من مستفرشاتهم منهن. فالعلماء والمفسرون متفقون على أنهم أحرار بل ويحررون أمهاتهم فلا يبقى لمالكيهم حق بيعهن ولا هبتهن ويتحررن بالمرة عند وفاة مالكيهن ويطلق عليهن اسم خاص للتمييز وهو (أم ولد) وقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه» «1» مع التنبيه على أن حالة ولد الأمة المتزوجة بعقد ومهر أقوى من حالة الأمة المستفرشة.
ونصّ العبارة القرآنية وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وروحها يلهمان أن ذلك رخصة للمؤمنين الأحرار في حال عدم استطاعتهم أن يتزوجوا من الحرائر. وفيها تقرير ضمني بعدم جواز تزوج الحر من أمة إذا كان قادرا على التزوج من حرة. وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا.
وينطوي في جملة ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ حكمة الرخصة والتشريع كما هو المتبادر. ومع ذلك فإن جملة وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ تنطوي على الحث على عدم التسرع في التزوج بالإماء وتحمل عنت الشهوة ما أمكن ذلك.
وما تقدم مضافا إليه ما انطوى في جملة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ على ما شرحناه قبل أولا وجعل عقوبة الزنا على الأمة في الآية نصف عقوبة الحرة ثانيا وتعبير بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الذي قد يلهم أنه أريد به التخفيف عن النفس ثالثا يلهم أن الإماء كن عرضة للتورط والارتكاس في الفاحشة ومظنة لها أكثر من الحرائر. وأن العرب كانوا يأنفون التزوج بهن بسبب ذلك أولا وبسبب عدم التكافؤ ثانيا. ثم بسبب ما كان جاريا على ما يستفاد من روايات المفسرين من استمرار ملكية مالكي الإماء لهن بعد زواجهن وإلحاق أولادهن بحالتهن وغدوهم مملوكين لمالكيهن دون آبائهم ثالثا. وفي هذا ما فيه من الثقل والغضاضة والمتاعب.
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 250 والقاسمي.(8/90)
ومع ما قلناه فيما تلهمه جملة بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فإنه ينطوي فيها تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد الأخوة والمساواة في الإسلام وشمولهما لكل المسلمين الأحرار منهم والأرقاء على السواء.
وقد استدللنا من جملة فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ على أن الآية قد نزلت بعد آيات سورة النور الأولى التي حددت عقوبة الزاني والزانية بمائة جلدة. وهذا يعني أن عقوبة الأمة المتزوجة خمسون جلدة. ولما كان هناك أحاديث شددت فيها عقوبة الزنا فغدت على غير المتزوجين مائة جلدة وتغريب سنة وعلى المتزوجين مائة جلدة ورجم بالحجارة حتى الموت «1» فقد قال المفسرون والفقهاء إن عقوبة الأمة المتزوجة تظل خمسين جلدة وتغريب نصف عام لأن عقوبة الرجم لا تنصف «2» ووجاهة هذا القول ظاهرة.
وننبه على أن هناك من قال إنه لا تغريب على الأمة الزانية ولو كانت محصنه.
والقياس يقضي أن يكون القول الأول هو الأوجه.
ونصّ الآية يفيد أن إحصان الأمة هو حالة تزوجها بعقد ومهر. وقد يرد سؤال عما إذا كانت الأمة المستفرشة من مالكها تعد محصنة أم لا. ويتبادر لنا أنها تعد كذلك. لأن الحكمة من تشديد العقوبة على المحصنين هي كون رغباتهم الجنسية متوفرة بالزواج أو بالاستفراش. والله تعالى أعلم.
وواضح من نص الآية أن نصف العذاب هو على الأمة التي أحصنت.
أما عقوبة الأمة غير المحصنة فهناك حديث يرويه ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس على أمة حدّ حتى تحصن» وروى ابن كثير أن ابن عباس كان يأخذ بهذا ويفتي بضرب الأمة إذا زنت ولم تكن محصنة ضربا تأديبيا دون حدّ معين من الجلدات. والحديث ليس من الصحاح. وهناك حديث رواه مسلم عن علي بن أبي طالب «أنه خطب يوما فقال أيها الناس أقيموا الحدّ على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن. فإن أمة لرسول الله زنت فأمرني أن أجلدها فإذا
__________
(1) سوف نورد هذه الأحاديث ونمحص المسألة في سياق تفسير سورة النور إن شاء الله.
(2) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير وغيرهما.(8/91)
هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها قتلتها فذكرت ذلك للنبي فقال لي أحسنت» «1» وقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة فيها توضيح جاء فيها «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي اتركها حتى تتماثل فإذا تعافت فاجلدها خمسين» «2» وليس في حديث علي وضوح بما إذا كانت الأمة محصنة أم لا. بل إن قول عليّ «أقيموا الحدّ على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن، قد يفيد أن الأمة التي أمره النبي بجلدها لم تكن محصنة. وهناك حديث آخر رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرّب. ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرّب. ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل شعر» «3» . وروى ابن كثير هذا الحديث بزيادة في أوله وهي «سئل النبي عن الأمة إذا زنت ولم تحصن» «4» .
ولو لم تصح الزيادة فإن صيغة الحديث تفيد ضمنا أن الأمر في صدد الأمة التي لم تحصن بزواج. فهو أمر موجه إلى مالكها. وليس في الحديث تعيين لعدد الجلدات، غير أن هناك حديثا يرويه الإمام مالك عن عياش بن ربيعة «أن عمر بن الخطاب أمره مع فتية من قريش بجلد ولائد الأمارة خمسين خمسين من الزنا» وولائد الأمارة هنّ إماء كان يملكهن بيت المال. والراجح أنهن لم يكن متزوجات. والمتبادر أن عمر لا بد من أن يكون أمر بذلك بناء على سنة نبوية.
وهذا العدد قد ورد في الزيادة التي يرويها ابن كثير على حديث علي بن أبي طالب الذي يرويه مسلم. بحيث يمكن القول إن تعبير (فليجلدها) في حديث الخمسة عن أبي هريرة قد قصد جلدها بالحد المعين على الإماء المحصنات وهو خمسون. فيكون النبي صلى الله عليه وسلم والحالة هذه قد جعل حدّ الأمة غير المحصنة مثل حدّ الأمة المحصنة.
وهذه الأحاديث أوثق من حديث ابن عباس الذي يرويه ابن كثير والذي ذكر فيه أنه ليس على الأمة حدّ حتى تحصن وإنما تأديب مهما بدا وجيها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 24 و 25.
(2) هذه الزيادة ليست واردة في حديث مسلم في التاج.
(3) التاج ج 3 ص 24.
(4) لم ترد الزيادة في التاج.(8/92)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
وقد فسّر شارح الحديث الذي يرويه الخمسة عن أبي هريرة جملة (ولا يثرب) بعدم القسوة في الجلد. وهذا وجيه واجب الالتزام. والمتبادر أن ذلك متصل بحالة الإماء وقوة احتمال ارتكاسهن في البغاء أكثر من الحرائر.
هذا، ولقد نبّه الإمام مالك على بعض أمور متصلة بنكاح العبيد نرى المناسبة قائمة للإلمام بها «1» .
من ذلك عدم جواز تزوج العبد لسيدته الحرة. وعدم جواز تزوج الحرّ لأمته «2» . ومن ذلك جواز تزوج العبد للحرة بإذن مالكه أسوة بجواز تزوج الحر للأمة بإذن مالكها. ومن ذلك انفساخ النكاح في حالة تملك الحرة لزوجها العبد بعد تزوجها به وتملك الحر لزوجته الأمة بعد تزوجه بها. وإذا أعتقت الحرة زوجها بعد تملكها إياه وأعتق الحر أمته بعد تملكه إياها لا تعود حالة الزوجية بينهما إلّا بعقد جديد. ومن ذلك كراهية تزوج الحر أمة بعقد وعنده زوجة حرة ومن ذلك جواز جمع العبد لأربع زوجات أسوة بالحر ولا يورد الإمام أحاديث نبوية وصحابية على ما ساق. ونراها اجتهادات في محلها غير متعارضة مع النصوص القرآنية والنبوية بل ومستلهمة من هذه النصوص والله أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 32]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) .
__________
(1) الموطأ ج 2 ص 30.
(2) هناك حديث رواه الخمسة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه أن من الذين يؤتون أجرهم مرتين رجلا عنده جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها ثم تزوجها يبتغي بذلك وجه الله» التاج ج 2 ص 272.(8/93)
عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجّه للمسلمين وقد تضمن:
(1) نهيا عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل مستثنيا ما يدخل على بعضهم من بعض من الربح عن طريق التجارة والتراضي.
(2) ونهيا عن قتل أنفسهم.
(3) وتعقيبا على ما نهوا عنه يتضمن تقرير كون الله بهم رحيما ييسر لهم الرزق الحلال ويشملهم بالرحمة والعناية فلا يجوز أن يتحايل بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا ويعتدي بعضهم على بعض.
(4) وإنذارا لمن يفعل ذلك منهم بالنار مما هو يسير على الله عزّ وجلّ.
(5) وتنبيها على وجوب اجتناب الكبائر التي ينهاهم الله عنها. ووعدا بتسامح الله مع من يجتنبها فيما يمكن أن يصدر منه من هفوات ثانوية حيث يغفرها له وييسر له الدخول في المدخل الكريم.
(6) ونهيا عن التنافس والتحاسد وتشهي ما فضل الله به بعضهم على بعض في القسمة والأنصبة والربح والرزق. مع تقرير حق الرجال فيما أحرزوا وكسبوا وحق النساء فيما أحرزن وكسبن وتقرير كون الله عز وجل هو المتفضل عليهم جميعا وأن عليهم أن يسألوه من فضله فهو العليم بمقتضيات كل شيء.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على مناسبة خاصة في نزول الآيات الثلاث الأولى. وقد روى المفسرون «1» أن الآية الرابعة نزلت في مناسبة قول أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(8/94)
الرجال ولا يغزو النساء وجعل نصيب النساء نصف نصيب الرجال. وقد روى هذا الترمذي أيضا وهذا لفظه عن أم سلمة قالت يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث فنزلت الآية. وشيء من هذا روي عن أم سلمة في سياق آيات سورة آل عمران [195] وسورة الأحزاب [35] على ما ذكرناه سابقا. والذي يتبادر لنا أن هذه الآية غير منفصلة عن الآيات الثلاث وأن النهي فيها متصل بالنهي عن أكل بعض الناس أموال بعضهم بالباطل وهذا ما جعلنا نعرض الآيات الأربع معا.
ويجعلنا نميل إلى القول إن في رواية نزولها في مناسبة ما قالته أم سلمة التباسا. بل ويتبادر لنا من روحها وانسجامها مع الآيات الثلاث أن فيها نهيا عن أكل أموال النساء من حيث كون الرجال اعتادوا أن يتحايلوا على أموال النساء بشتى الطرق فاحتوت الآية بمناسبة النهي الوارد في الآية الأولى تثبيتا لحقوقهن ونهيا عن العدوان والتحايل عليها بأسلوب آخر جعلها تدخل في عموم النهي وفي مشمول الكبائر.
وإذا صحّ هذا التوجيه كما نرجو فتكون الآية الرابعة قد انطوت على تنبيه حاسم على حق المرأة فيما يدخل إلى يدها من مال مشروع من مختلف الطرق وحرية تصرفها فيه وأهليتها الاستقلالية لهذا التصرف ثم على حقها في النشاط والاكتساب وأهليتها لهما. بل إن هذا منطو في الآية على كل حال على ما تلهمه روحها ومضمونها بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي مرت في هذه السورة وفي سورة البقرة وشرحناها شرحا يغني عن التكرار.
والآيات الأربع كما قلنا وحدة تامة. وفيما احتوته من أوامر ونواه وإنذار وتبشير ووعيد تلقينات جليلة مستمرة المدى في صدد المواضيع المتنوعة التي تضمنتها على ما شرحناه في تأويلها شرحا يغني عن التكرار. وقد تكرر مثل ذلك بمختلف الأساليب في فصول عديدة مكية ومدنية معا. لأن ما احتوته متصل بمختلف أعمال الناس وصلاتهم ببعضهم وحياتهم ومصالحهم فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الفصول فيه.
ومع ما شرحناه لمدى الآية الأخيرة وقولنا باتصال مداها بمسائل أنصبة(8/95)
الإرث التي عينها الله تعالى في آيات المواريث للرجال والنساء فإن فيها تلقينا عاما يجدر التنويه به. وهو عدم طمع الناس فيما عند غيرهم مما هو من كسبهم وجهدهم وحقهم الشرعي. مع التنبيه على أن هذا لا يعني عدم التمني بأن يكون لهم مثل ذلك أو عدم الجهد في الحصول عليه من طرقه الشرعية السائغة بل إن الفقرة الأخيرة من الآية تتضمن حثا على ذلك.
وجملة لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ في الآية الأولى تأتي للمرة الثانية. وقد جاءت قبل في آية سورة البقرة [188] وشرحنا مداها بما يغني عن التكرار إلّا أن نقول إن تكرارها يفيد أن حكمة التنزيل قد توخت التوكيد على وجوب قيام التعامل بين المسلمين وبخاصة في الشؤون المالية على الحق والإنصاف واجتناب كل جنف وحيلة ووسيلة باطلة. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.
ولقد وقف المفسرون «1» عند جملة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وهذا لم يرد في آية سورة البقرة. وقد رووا عن أهل التأويل أن التراضي الذي يجب أخذ المسلمين أموال بعضهم به في التجارة هو منح الخيار للبائع والشاري في النقض والإمضاء بعد عقد الصفقة حتى لا يبقى في نفس أي من البائع والشاري أي شيء. وروى الطبري في صدد ذلك حديثا عن مهران بن ميمون جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغشّ مسلما» وحديثا آخر عن أبي قلابة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفترقن بيعان إلّا عن رضا» وحديثا آخر عن ابن عباس جاء فيه «إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع رجلا ثم قال له اختر فقال اخترت. فقال هكذا البيع» .
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها، إن لم تكن نصا فروحا. وهناك أحاديث وردت في الصحاح من بابها. منها حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه «إنّ رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال إذا
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.(8/96)
بايعت فقل لا خلابة وفي رواية لا خيابة» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يفترقنّ اثنان إلّا عن تراض» «2» . وحديث رواه الخمسة عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» «3» وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم «4» . وينطوي في الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني وتعليم وتوضيح نبويان يجب الوقوف عندهما.
وهناك من قال إن الخيار الممنوح في الأحاديث يجب أن يكون في مجلس البيع وهناك من لم ير ذلك ضروريا. وأصحاب هذا المذهب أوّلوا جملة «ما لم يتفرقا» في الحديث بأنها ما لم يتفرقا في القول «5» . وقد صوب الطبري القول الأول، إلا إذا تراضى المتبايعان على الخيار بعد الافتراق. ولعلّ هذا هو الأسدّ الأوجه.
ولقد حمل بعض المفسرين جملة وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ على ظاهرها.
ومنهم من حملها على النهي عن تعريض النفس للقتل بقتل الغير أو بأكل مال الغير بالباطل أو للهلاك بالموبقات «6» . ويتبادر لنا أن النهي متصل بموضوع الآيات ولا سيما أنه جزء من الآية الأولى التي تنهى الناس عن أكل أموال بعضهم بالباطل.
فإما أن تكون الآية رمت إلى مفهوم معنوي وهو ما يكون في أكل الناس أموال بعضهم بالباطل الذي يكون قتل النفس في معنى من معانيه وفي تعريضها لعقوبة الله. وإما أن تكون رمت إلى النهي عن العدوان على النفس بسبيل الإرث ومشاكله
__________
(1) التاج ج 2 ص 179 والراجح أن في الحديث تعليما بأنه إذا كان في البيع خلابة أو خيابة أي غش وتغرير فهو غير ملزم.
(2) المصدر نفسه ص 185.
(3) المصدر نفسه ص 185. [.....]
(4) المصدر نفسه ص 179- 185.
(5) انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وفيها بيان مذاهب أئمة الفقه في هذه المسائل.
(6) المصدر نفسه.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 7(8/97)
ولا سيما أن مشاكل الإرث كثيرا ما تبعث على البغي والجريمة. ولعل التشريع الإرثي الجديد قد أحدث بعض الأحقاد وساق بعض الناس إلى البغي والعدوان.
ولعلّ الآية الرابعة رمت فيما رمت إليه إلى تهدئة النفوس في صدد ذلك وتوطينها على الامتثال لما شرع الله.
وهذا الذي نقوله لا يقلل وجاهة حمل الجملة على ظاهرها من حيث كون قتل الإنسان نفسه مما يقدم عليه بعض الناس في كل ظرف ومكان بسبب ما يلمّ بهم من أزمات نفسية ومادية وجملة إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً التي جاءت بعد الجملة تنطوي في هذا المقام على تهدئة ومعالجة حيث تهتف بالمسلمين: إن الله يظل شاملا إياهم برحمته فيجب أن لا ييأسوا ويقدموا على قتل أنفسهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذلك بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا. ومن تحسّى سمّا فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلدا فيها. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها» «1» وحديث رواه البخاري عن جندب بن عبد الله البجلي قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا فحزّ بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عزّ وجل عبدي بادرني بنفسه حرّمت عليه الجنة» «2» حيث يفيد هذا أن قاتل نفسه مخلد في النار وحيث ينطوي فيه على كل حال تنبيه على أن قتل الإنسان نفسه ليس أمرا شخصيا، له الحرية فيه وإنما هو جريمة كبرى يعاقب الله عليها. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن جابر بن سمرة قال «أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه» «3» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 4.
(2) التاج ج 5 ص 22.
(3) التاج ج 1 ص 328 والمشقص نصل أو حديدة عريضة.(8/98)
ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة داخلة في جملة الكبائر المنهي عنها التي نبهت الآية الثالثة من الآيات على وجوب تجنبها ووعدت من يتجنبها بالمدخل الكريم.
وبعض المفسرين أوّلوا المدخل الكريم بالجنة. ومع وجاهة هذا التأويل فإن إطلاق الجملة القرآنية يسوغ القول باحتمال أن يكون ذلك في الحياة أيضا. ولقد وعد المتقون بالحياة الحسنة في الدنيا بالإضافة إلى ما هو أحسن في الآخرة كما جاء في آية سورة النحل هذه وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) «1» .
ولا شك في أن اجتناب الكبائر يضمن للمسلم حياة كريمة مطمئنة في الدنيا بالإضافة إلى ما يضمنه من نعيم ورضوان في الآخرة.
ومع أن المتبادر أن جملة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ راجعة إلى ما ذكرته الآية الأولى من الآيات لأنها متصلة بها مباشرة فإن الطبري روى عن عبد الله بن مسعود وغيره أن ذلك يشمل كل ما ورد من المنهيات في جميع الآيات من أول السورة. ومع ذلك فإن جمهور المفسرين أخذوها على إطلاقها أيضا واعتبروها شاملة على الحثّ على اجتناب كل ما نهى الله ورسوله عنه من كبائر.
وليس في هذا بعد عن مفهوم الجملة ظاهر فيما نرى.
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة فيها بيان كبائر الذنوب وموبقاتها.
ولقد أوردنا طائفة من هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية [31] من سورة النجم فنكتفي بهذا التنبيه. مع تكرار القول إن ما جاء في الأحاديث ليس على سبيل الحصر وإن في القرآن كبائر لم تذكر بأعيانها بهذا الوصف في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض إلخ.
ولقد أولنا كلمة سَيِّئاتِكُمْ في الجملة التي جاءت بعد الجملة السابق
__________
(1) هناك آيات أخرى من هذا الباب مثل آيتي النحل [41 و 97] والنور [54] مثلا.(8/99)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
ذكرها بالذنوب الثانوية استلهاما من روح الجملة ونصها. وعلى هذا فيكون في جملة نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ بعد جملة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ بشرى للمؤمنين وتخفيف عنهم ينطوي فيهما معالجة وحكمة ربانية جليلة. فالله سبحانه وتعالى يعلم ضعف الإنسان وعدم استطاعته التفلت من نزعات النفس وأهوائها بالمرة ويعلم أن هناك ما قد يدق عن فهم مداه بصورة عامة من هفوات قد تبدر منه عن حسن نية أو غفلة أو بغير تعمد للأذى والإثم والمخالفة أو ما يكون ضرره وأذاه محدودا فآذن المسلمين في هذه الجملة أن المهم هو اقتراف الموبقات والكبائر والفواحش فإذا ما اجتنبوها ودللوا بذلك على التزامهم حدود الله وقاموا بما عليهم من واجبات نحوه ونحو خلقه أسبغ عفوه وغفرانه على ما يلمون به من الأخطاء والهفوات الثانوية. وقد تضمنت هذا المعنى آيات سورة النجم هذه وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ [32] على ما شرحناه في سياق تفسيرها.
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
. (1) موالي: جمع مولى في معنى الوارث على قول الجمهور.
تعليق على الآية وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... إلخ
لم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآية. وقد يتبادر أنها استمرار للآيات السابقة وأن الضمير المخاطب فيها راجع إلى المؤمنين الذين وجه إليهم الخطاب في تلك الآيات.
ولقد تعددت أقوال المفسرين في مفهوم الفقرة الأولى من الآية. فهناك من قال(8/100)
إن الفقرة تقرر أن الله قد جعل لكل ميت ورثة يرثون ما تركه وهم الآباء والأقربون والمتعاقدون. وهناك من قال إن الله قد جعل لكل ما يتركه الآباء والأقربون والمتعاقدون ورّاثا. وكلمة لِكُلٍّ تجعل فيما يتبادر لنا المعنى الأول أوجه. وعلى هذا يكون تقدير الجملة ولكل ميت جعلنا ورثة مما ترك من آباء وأقربين ومتعاقدين.
كذلك تعددت أقوالهم «1» في مدلول جملة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهناك من قرأها عاقدت بدلا من عقدت. وقال بعضهم إنها تعني الحليف حيث كان من العادات الجارية عند العرب قبل الإسلام أن يلتحق شخص بآخر باسم الولاء أو الحلف فيتعاقدا على تحمل كل منهما تبعة الآخر العصبية. فإذا مات أحدهما ورث الآخر سدس تركته. وقال بعضهم «2» إنها تعني الأبناء بالتبني حيث كان التبني يتمّ بعقد وصيغة مماثلة لعقد الولاء والحلف. وقال بعضهم إنها تعني ما تمّ في أول عهد الهجرة من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي اعتبرت بمثابة عقد ولاء وحلف. وقال بعضهم إنها تعني حق الأزواج في الإرث على اعتبار أن الزوجية تمت بين الزوجين بالتعاقد فصار لكل منهما حق في إرث الآخر وتركته «3» وننبه على أن المفسرين الذين أوردوا هذه الأقوال عزوها إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم.
__________
(1) انظر الكتب السابقة الذكر.
(2) مما رواه الخازن أنه كان يستعمل في التعاقد على الولاء والحلف والتبني هذه الصيغة، يقولها كل من المتعاقدين للآخر ماسكا كل منهما بيد صاحبه (دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك) والجملة الأخيرة تعني أن يدفع الواحد منهما نصيبا من الديات التي تطلب من الآخر لأن الديات تدفع من ذوي العصبية حينما تطلب من واحد منهم لأناس آخرين. وقد روى ابن كثير حديثا عن النبي جاء فيه: (لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) حيث يفيد أن النبي ألغى هذا التقليد مع إقرار ما كان من قبل.
(3) هذا القول معزو إلى أبي مسلم الأصفهاني على ما جاء في تفسير القاسمي. ومما قاله المفسر لتدعيم القول إن النكاح يسمى عقدا اقتباسا من جملة وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ في آية سورة البقرة [235] .(8/101)
ويلحظ أن تقليد التبني قد ألغي في آيات سورة الأحزاب وألغيت نتائجه ومنها التوارث على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة. وتعيين حرمة حلائل الأبناء من الأصلاب فقط في الآية [23] من سورة النساء قد يدل على أن هذا الإلغاء قد تمّ قبل نزول الآية التي نحن في صددها.
ورواية التوارث بين المتآخين من المهاجرين والأنصار ليست وثيقة على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال [72] ومع ذلك فآية الأنفال [75] ثم آية الأحزاب [6] وكلتاهما نزلتا على ما نرجحه قبل الآية التي نحن في صددها قد أكدتا أولوية التوارث بين ذوي الأرحام. وهذا يجعل القول إن الجملة في صدد ذلك في غير محله أيضا فضلا عن أنها لا يصح أن توصف بالوصف الذي جاء في الآية وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ويبقى من الأقوال عقد الولاء أو الحلف وعقد الزوجية. وكل منهما وارد في دلالة الجملة. وقد أوردنا حديثا في ذيل سابق يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الحلف في الإسلام ولكنه أقرّ ما كان منه قبل ذلك «1» .
ونحن نرجح أن الجملة قد قصدت عقد الزوجية. فقد جعل الله الإرث في آيات المواريث للوالدين والأقربين وهم الأولاد والأخوة وللزوجين. فحيث ذكر الوالدان والأقربون فيتعين أن تعني الجملة عقد الزوجية فيتسق ذلك مع آيات المواريث.
وبناء على هذا فإن الآية فيما يتبادر لنا ونرجو أن يكون صوابا تقرر أن الله تعالى قد جعل لكل ميت ورثة يرثونه وهم والداه وأقاربه وزوجه. وأن لكل من هؤلاء حقا لا يصح لأحد منعه منه وأن من الواجب إعطاءه إياه. فيكون في هذا توطيد لتشريع الإرث من جهة وتدعيم للآية السابقة لهذه الآية التي نهت المسلمين عن أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض والتي قررت في الوقت نفسه أن
__________
(1) إن الطبري أورد في سياق الآيات أحاديث عن أحلاف كانت قبل الإسلام تفيد أن الحلف المقصود هو حلف حربي تعقده عشائر أو قبائل عديدة للتناصر ضد عشائر وقبائل أخرى فيكون في هذا أيضا نفي لمدى الحلف والولاء في الآية والله تعالى أعلم.(8/102)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
لكل من الرجال والنساء حقا فيما نالوا واكتسبوا.
ولقد قال بعض المفسرين «1» - استنادا إلى أقوال مروية عن بعض الصحابة والتابعين- إن هذه الآية نسخت بآيات المواريث ولسنا نرى القول في محلّه بناء على ما تقدم من شرحها من جهة ولأن كل ما فيها هو تقرير مبدأ حق الورثة بالإرث مطلقا من جهة أخرى.
[سورة النساء (4) : آية 34]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)
. (1) قانتات: مطيعات.
(2) تخافون: هنا بمعنى تتوقعون أو تتيقنون من وقوعه.
(3) نشوزهن: عصيانهن وتمردهن.
تعليق على الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلخ وتمحيص مسألة قوامة الرجل على النساء وحدودها وتأديب الزوجة ومداه
الخطاب في الآية موجّه إلى المسلمين. وقد تضمنت:
(1) تقرير حق القوامة والإشراف للرجال على النساء مع تعليل ذلك بأنه بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من مزايا خاصة ثم بسبب ما ينفقونه من الأموال.
__________
(1) انظر ابن كثير والخازن والطبري.(8/103)
(2) تنويها بالمرأة الصالحة ووصفا لها. فهي المطيعة المسالمة الحافظة بما أمر الله حفظه من حقوق زوجها في غيبته.
(3) إشارة إلى المرأة التي لا تتصف بهذا الوصف. ويبدر منها بوادر العصيان والانحراف عن واجبها. وإيجاب عظتها وردعها بالكلام أولا، فإذا لم تتعظ وترتدع فبالهجر، فإذا لم يجد فبالضرب. وإيجاب توقف الرجل عن ذلك حالما يبدو من زوجته طاعة وإذعان. وتقرير كون الله لم يجعل للرجل حق الاستمرار في الموقف الخشن من المرأة بدون حق وضرورة وهو العليّ فوق الجميع، الكبير الذي يجب أن يطاع ويخشى.
ولقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في مناسبة لطم أحد الأنصار لزوجته فأخذها أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا. فأمر النبي بالاقتصاص من الزوج فلما انصرفا استرجعهما وقال أتاني جبريل بهذه الآية، ولقد أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير.
والرواية لم ترد في الصحاح ولا نراها متسقة مع الآية وفحواها وهدفها.
والذي يتبادر لنا أن الآية غير منقطعة عن سابقاتها. فالسابقات احتوت تثبيت حقوق المرأة المالية والزوجية وتعظيم شأنها ووصت بالاعتراف بها واحترامها فجاءت هذه الآية لتستدرك ذكر ما للرجال من حق على النساء.
ويلحظ أن الآية مع جعلها الرجال قوامين على النساء وفي منحها لهم حق تأديب الناشزات منهن تظل كما هو ظاهر من فحواها وروحها في نطاق التلقين القرآني العام الذي يوجب على الرجال عدم اضطهاد النساء وإعناتهم ومخاشنتهم بدون مبرر مشروع معقول.
وجملة الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ وإن كانت مطلقة فإن روح الآية التي وردت فيها ونصّها معا يسوغان القول إنها في صدد تقرير قوامة الزوج على الزوجة
__________
(1) انظر الخازن وابن كثير والطبرسي والطبري والبغوي.(8/104)
في الحياة الزوجية دون الشؤون الأخرى. والآية التي تأتي بعد هذه الآية من الأدلة الحاسمة على ذلك. لأنها تذكر احتمال الشقاق بينهما. وكلمة بَيْنِهِما لا يمكن أن تعني إلّا الزوجين والحياة الزوجية بالتالي. ويؤيد هذا تقريرات القرآن لحق المرأة في تزويج نفسها وقبض مهرها والتصرف فيه وحقها في التصرف في نفسها بعد الطلاق وبعد وفاة زوجها وحقها في ما يدخل في يدها من مال من طريق الإرث وغيره وأهليتها في التصرف فيه هبة ووصية وإدانة. وحقها في الاستدانة.
وتملك العقار والمماليك والتصرف في كل ذلك مما سبق شرحه في سياق آيات سابقة. ويساق بعض الأحاديث الموهمة نقضا لما نقرره. منها حديث رواه الطبراني عن الأسقع بن واثلة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا إلّا بإذن زوجها إذا ملك عصمتها» وقد قال الطبري إن بين رواة هذا الحديث من لا يعرفهم مما يوجب التوقف فيه. ومنها حديث قد يكون أقوى سندا رواه أصحاب السنن جاء فيه «سئل النبي صلى الله عليه وسلم أيّ النساء خير قال التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» «1» . وواضح أنه ليس في هذا الحديث منع للزوجة عن التصرف بمالها وممارسة أي نشاط مشروع آخر. بل فيه إقرار لحقها في ذلك. وكل ما فيه تحذير بأن لا يكون في ذلك عصيان لأمره أو ما يكرهه. وفرق كبير بين هذا النص والنص السابق. ومع ذلك فإن الزوجة إذا رأت أن تفعل ما تراه حقا مشروعا في مالها ونفسها وكرهه زوجها ورأت في موقفه تعسفا وأدى ذلك إلى شقاق فيكون لها الرجوع إلى الحاكم لحل الأمر في نطاق الآية التالية على ما سوف نشرحه بعد. وهذا يكون للزوجة حتى في صحة الحديث الأول.
وإذا كان القرآن سكت عن حريتها في النشاط الاجتماعي والسياسي فلا يعني ذلك أنها محرومة من حقها بذلك بدون قوامة الرجل أيضا بدليل أن القرآن خاطبها بكل ما خاطب الرجل ورتب عليها كل ما رتب على الرجل من إيمان وعمل وعلم وتدبر وتفكر وتذكر وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودعوة إلى الخير وتواص بالحق والصبر وإنفاق في سبيل الله وهجرة في سبيله. وذكر مشاركتها في
__________
(1) التاج ج 2 ص 258. [.....](8/105)
كل ذلك على ما أوردنا نصوصه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير آيات البقرة [9- 14] وآل عمران [195] والأحزاب [72 و 73] مما يدخل فيه ذلك النشاط وحقها فيه. وفي سورة التوبة آية تقرر واقع المؤمنات وممارستهن للشؤون العامة كالمؤمنين مما فيه تأييد لذلك أيضا وهي وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) .
ومع ما قلناه من أن قوامة الرجال على النساء في الآية هي في صدد الحياة الزوجية فإننا نقول أيضا إن آيات عديدة مرّت في هذه السورة وفي سورتي البقرة والروم يمكن أن يكون فيها قيود وضوابط لهذه القوامة حيث تأمر برعاية الزوجية وتنوه بعظمة شأن الرابطة الزوجية وكونها قائمة على المودة والرحمة وتثبت للزوجة حقوقا على زوجها مثل الذي عليها مما يدخل فيه حسن المعاشرة والتحمل وعدم البغي عليها والطمع في مالها ومكايدتها ومضارتها والوفاء والأمانة والانسجام والتشاور في شؤون البيت والأسرة والتكريم والترفيه والمساعدة إلخ. وما ذكرته آية البقرة من الدرجة للزوج على الزوجة هي هذه القوامة الزوجية التي جعلت له للمزايا الطبيعية والاجتماعية التي امتاز بها وللأموال التي ينفقها ومما كان ولا يزال ولن يزال متسقا مع طبائع الأمور ومما ليس فيه ما يثقل على الطبيعة البشرية أو يتناقض معها مهما وصل الإنسان إليه من حضارة وثقافة.
ولقد قال بعض الأئمة والمفسرين إن حق القوامة للزوج يزول إذا قصر أو امتنع عن النفقة وهذا وجيه متفق مع ما يلهمه روح ونصّ الآية التي جعلت الإنفاق من أسباب منحه هذا الحق.
ولقد روى المفسرون أن جملة وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ عنت ما دفعوه من مهور. ومنهم من قال إنها المهور وما بعدها من نفقات الكساء والغذاء المستمرة. وهذا هو الأوجه. وهناك أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في مدى العبارات الأخرى في الآية.(8/106)
ففي صدد وصف فَالصَّالِحاتُ روى الطبري حديثا بصراحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها ثم قرأ الآية» وهذا الحديث مقارب لما رواه أصحاب السنن وأوردناه قبل. وهناك حديث رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الدنيا كلّها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» «1» وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير نساء ركبن الإبل صالحو نساء قريش. أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده» «2» .
والأحاديث رائعة في وصفها وتنويهها بالمرأة الصالحة ثم في حثها المرأة المسلمة على الاتصاف بالصفات المحببة التي تجعلها كذلك. وفي صدد جملة حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ روى الطبري وغيره أنها بمعنى (حافظات لما استودعهن الله من حقه ولغيب أزواجهن) أو (حافظات لفروجهن ومال أزواجهن) والأقوال سديدة متسقة مع روح الآية.
وفي صدد (النشوز) رووا أنه الامتناع عن الاستجابة لطلب الزوج الجنسي أو عدم إطاعته في ما أوجب الله عليها إطاعته فيه أو جنوح الزوجة إلى المعصية والتمرد وكراهية زوجها وأهله. وكل هذا سديد كذلك. مع التنبيه على أن الطبري نبّه عزوا إلى عكرمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أن طاعة الزوجة لزوجها مشروطة بأن تكون في معروف. أي أن ما يأمرها به ويجب طاعتها له هو ما يكون فيه توافق مع كتاب الله وسنة رسوله ومكارم الأخلاق المتعارف أنها كذلك. وصحة ما يرويه الطبري عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم محتملة وهو متسق مع التلقينات القرآنية والنبوية الوثيقة.
فالله حينما أمر النبي بأخذ البيعة من النساء كان من جملة ذلك وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ على ما جاء في آية سورة الممتحنة [12] التي سوف يأتي شرحها في
__________
(1) التاج ج 2 ص 257.
(2) المصدر نفسه.(8/107)
مناسبتها. ومن باب أولى أن يكون ذلك في صدد ما نحن فيه. بحيث يمكن أن يقال بجزم إنه ليس للزوج في أي حال أن يسيء استعمال القوامة التي منحها الله له على زوجته. إذا ما أطاعته في ما هو حقّ ومعروف وغير معصية في ذات نفسها وفي نطاق الحياة الزوجية وكانت وفية أمينة له حافظة لما له وسمعته وعرضه في الحضور والغياب. وفي هذا تلقين مزدوج حيث يكون من جهة ضابطا تنتظم به الصلات الزوجية ومن جهة زاجرا لسيّئي الأخلاق من الأزواج الذين يحاولون قهر زوجاتهم بالعنف والشتائم بدون داع ولا مبرر، وإذا تجاوز الزوج النطاق المشروع فللزوجة أن لا تمتثل لأمره فإذا أصرّ فيكون الأمر حالة شقاق وللزوجة أن ترفع أمرها للقضاء لحلها وفاقا للآية [34] على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل.
وحق التأديب الذي منح للزوج على زوجته إنما يكون والحالة هذه في حالة نشوزها الموصوف مداه وعدم طاعتها في ما هو حقّ ومعروف وشذوذها في أخلاقها ومعاملتها له ولأهله بالسوء والأذى وعدم وفائها وأمانتها ولا يمكن لعاقل منصف أن يرى فيه حيفا أو جنفا وهو متدرج بحيث تكون العظة والنصيحة أولا فإذا استمر فالهجر في المضاجع الذي يقصد منه على ما عليه الجمهور الامتناع عن وطئها وتحويل وجهه عنها في الفراش الواحد إشعارا لها بعدم رضائه عنها. فإذا استمر النشوز جاز له ضربها. وإذا لاحظنا أن الضرب جاء كآخر وسيلة أولا وأنه على سبيل الإباحة لا الإيجاب ثانيا ولا يكون إلا بعد استنفاد وسيلتي العظة والنصح والهجران ثالثا. وبعبارة أخرى إلا في حالة التمرد الشديد. والإصرار على النشوز والشذوذ وسوء الخلق والتصرف بدا لنا أن ما قد يبدو غريبا ليس هو كذلك في حقيقة الأمر بل هو احتياط حكيم في شريعة مرشحة لكل ظرف وفئة من حيث إن ظروف الناس وحالاتهم لا تدخل تحت حصر. فقد يكون هناك ظروف وحالات خاصة من حيث الوقائع وطبقات الناس يكون الضرب فيها وسيلة لا بد منها وليس من وسيلة غيرها للردع والتأديب أو وسيلة يتفادى بها كارثة الطلاق وغيرها من كوارث الزوجية مما هو جائز الوقوع وسائغ في العقول وممارس فعلا في كل ظرف ومكان.(8/108)
وهناك مأثورات نبوية في صدد الضرب إذا ما أتت الزوجة ما يستحق حيث جاء في خطبة حجة وداع النبي التي يرويها مسلم وأبو داود أن تضرب ضربا غير مبرح «1» . وفي حديث آخر نهى عن الضرب على الوجه والتقبيح والهجر «2» .
ويروي الطبري عن ابن عباس أن الضرب غير المبرح هو أن يكون غير مؤثر أو بالسواك، ويروي الخازن عن الشافعي أن الضرب مباح وتركه أفضل. وهناك أحاديث نبوية تنهى بشدّة عن الضرب بدون مبرر مشروع منها حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم» «3» وحديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن إياس بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تضربوا إماء الله. فجاء عمر فقال يا رسول الله ذئر النساء على أزواجهن فأذن بضربهنّ فأطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كلّهن يشتكين أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم» «4» .
وتلخيصا لما تقدم واستنادا إلى ما في الآيات القرآنية عامة وآيات سورة البقرة [231- 236] وآيات هذه السورة [14- 19] والآية التي نحن في صددها ثم إلى ما في الأحاديث النبوية من تلقينات وحدود يصح أن يقال إن قوامة الرجل على زوجته محصورة في مجال الحياة الزوجية غير ممتدة إلى غيره من المجالات المالية والمدنية والاجتماعية والسياسية وأن واجب الطاعة على الزوجة لزوجها وعدم مخالفتها له في نفسها ومالها بما يكره مشروطان بأن يكون ما يطلبه منها مشروعا في غير معصية وغير معطل لما قرره لها القرآن من حقوق متنوعة. وأن حقّ التأديب الممنوح له مشروط بشذوذ الزوجة وانحرافها وتمردها وسوء خلقها وعدم وفائها وأمانتها، مع التدرج في التأديب وتقديره بقدره واستهداف الإصلاح والصلاح منه.
__________
(1) التاج ج 2 ص 143 و 144.
(2) المصدر نفسه ص 288 والراجح أن الهجر والتقبيح هناك في معنى الشتائم والفظاظة.
(3) المصدر نفسه ص 298.
(4) المصدر نفسه.(8/109)
وعدم الاندفاع فيه أكثر مما تقتضيه الحالات الداعية له وبخاصة في الضرب ومداه.
وأن على الرجل في غير ذلك مراعاة حقوق زوجته ومعاملتها بالوفاء والأمانة والحفظ والرعاية والإنفاق وحسن المعاشرة والمودة وتجنب العنف والقهر والغلظة والتسرع في مؤاخذتها وضربها على ما ليس فيه شذوذ ونشوز خطيران وتحمل ما يمكن تحمله منها مما ليس فيه ذلك. وفي هذا كل الحق والخير والمصلحة للزوجين والرابطة الزوجية وللمجتمع الإنساني الذي تكون هذه الرابطة نواته الرئيسية.
هذا ويلحظ أنه ليس في القرآن إشارة صريحة في امتداد قوامة الرجل إلى أخواته وبناته. وقد يصح أن يقال إن كتاب الله قد اهتم للمسألة الأكثر ورودا وحدوثا. والألزم للتوضيح والتنبيه وهي العلاقة الزوجية التي هي أصل كيان الأسرة وتفرعاتها. وهناك حديث مشهور رواه الخمسة عن عمر جاء فيه «والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته» فيمكن أن يقال إن هذا الحديث قد يجعل للرجل على غير زوجته وبخاصة من هم في كنفه من أفراد أسرته من النساء قوامة ما بحيث يكون له بذلك حق مراقبتهن والإشراف على سلوكهن وتقويم ما قد يبدو منهن من انحراف وشذوذ وتمرد وسوء خلق في نطاق ما احتوته الآية التي نحن في صددها.
وقياسا على مدى هذه الآية وعلى ضوء شروحنا المتقدمة يمكن القول إن الأهلية المالية والمدنية والاجتماعية والسياسية للبالغات منهن تظل محفوظة لهن دون أن تمتد قوامة الرجل إليها لتعطلها بدون سبب مشروع من كتاب الله وسنّة رسوله ومكارم الأخلاق المتعارفة. كما هو الشأن بالنسبة لزوجته، والله تعالى أعلم.
ونرى المناسبة للاستطراد إلى ما يسمى بيت الطاعة. فقد يحصل شقاق بين الزوجين في أمر السكنى وتذهب الزوجة مغاضبة لبيت أهلها فيرفع الزوج الأمر للقضاء ويثبت أنه هيأ لزوجته مسكنا شرعيا ويصدر القاضي حكما على الزوجة(8/110)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
بطاعة زوجها والسكن في البيت الذي هيأه لها. ويناط تنفيذ ذلك بواسطة الشرطة إذا رفضت الزوجة الامتثال وتجبر على ذلك بالقوة! وليس لهذا الإجراء سند قرآني. ولم نطلع فيه على أثر نبوي صحيح. والزوجية وفاق وتراض وإمساك بالمعروف أو تسريح بالمعروف مما يسوغ القول إن هذا الإجراء مخالف لروح التلقينات القرآنية والنبوية ومؤذ للكرامة الإنسانية. ومذهب لمعنى المودة والرحمة اللتين يجب أن تقوم عليهما العلاقة الزوجية. وكل ما يصح للزوج هو الامتناع عن الإنفاق على الزوجة إذا أبت تنفيذ رغبته والسكن حيث يطلب منها. ثم تطبيق أحكام الآية التي نحن في صددها من حيث الصلح والتوفيق والتراضي أو التسريح بالإحسان. والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
. (1) إن خفتم: بمعنى إن توقعتم أو غلب ظنكم.
عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية في مناسبة نزولها. والمتبادر أنها استمرار للآية السابقة التي احتوت تقرير قوامة الرجل على الزوجة ومعالجة حالة نشوز الزوجة حيث جاءت هذه معها أو بعدها تباعا لمعالجة حالة احتمال الشقاق بين الزوجين. فأمرت المسلمين المخاطبين بالمداخلة والنظر في الأمر من قبل حكم من جانب الزوج وأهله وحكم من جانب الزوجة وأهلها فيما ينبغي عمله في سبيل الإصلاح بينهما الذي قد يوفق الله إليه إن أراده الفريقان.
ويتبادر لنا أن الفقرة الأخيرة من الآية أسلوبية وأن فيها معنى الحثّ على الإصلاح والتأميل في توفيق الله إليه مع عدم إغفال إرادة الزوجين مما هو متسق مع التقريرات القرآنية في أهلية المرء للإرادة والاختيار التي أودعها الله فيه.(8/111)
تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ... إلخ
لقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون «1» لأنفسهم أو لأهل التأويل وأئمة الفقه في مدى الإجراءات التي تضمنتها الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي، مع التنبيه على أننا لم نطلع على أثر نبوي وثيق في ذلك وأن الراجح أن الأقوال المساقة هي من قبيل الاجتهاد:
1- قال المفسرون إن المخاطبين في الآية يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل الزوجين أو ذوي الشأن والعلاقة من المسلمين. ونقول إن من المحتمل أن يكون كل من الجهات الثلاث معا مخاطبة. فكل منها يصح أن تتدخل وتتوسط في الإصلاح بين الزوجين. ولما كانت صيغة الآية تشريعية مطلقة لتكون محل تطبيق وتنفيذ في كل ظرف فيكون ولي أمر المؤمنين أو نائبه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بعده.
ومع ذلك فإن من المتبادر أنه الأقوى هو أن الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان المرجع فيما كان ينشب بين المسلمين من خلافات والقادر على التنفيذ المطاع فيه.
وإذا صح هذا فيكون الخطاب بعد النبي موجها لولي أمر المؤمنين في الدرجة الأولى. وإن كان هذا لا يقلل من احتمال توجيهه لذوي الشأن في أسرة الزوجين ومجتمعهما.
2- هناك من قال إن الزوجين المتشاقين هما اللذان يختاران حكميهما.
فيخبر كل منهما حكمه المختار بما يطلب ويشكو. وهناك من قال إن هذا شأن ذوي الشأن من الأسرة أو المجتمع أو السلطان على اختلاف تحمل مدى العبارة القرآنية ويكون للطرف المتضرر من موقف الآخر أن يرفع أمره وحسب. والآية تخاطب المخاطبين ببعث الحكمين وهذا يجعل الرجحان للقول الثاني. ويوجهه كون كل من الطرفين قد يختار حكما متعصبا له فيتعسر إيجاد الحل الوسط.
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.(8/112)
3- هناك من قال إن للحكمين أن يجدا الحلول المناسبة ويلزما بها الطرفين عدا التفريق الذي لا يتم إلا بتفويض وموافقة الفريقين. وهناك من قال إن الحكمين يرفعان ما يريانه من حلول إلى من عينهما. وأن هؤلاء هم الذين يلزمون الزوجين بما يرونه موافقا منها مع الاختلاف فيما إذا كان هؤلاء أيضا يستطيعون أن يقرروا التفريق ويلزموا به الزوجين بدون موافقتهما أم لا بد من موافقتهما حيث قال فريق بحقهم في الإلزام بالتفريق. وقال آخر إنه لا بدّ من موافقة الزوجين على ذلك.
وجميع هذه الأقوال واردة ووجيهة.
ومهما يكن من أمر هذه الاجتهادات فالذي يتبادر لنا بصورة عامة ومبدئية أن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق بين الزوجين في حالة حدوث نزاع بينهما أو احتمال ذلك اتساقا مع هدف القرآن العام في تعظيم الرابطة الزوجية والإبقاء عليها ما أستطيع إلى ذلك. وخاطبت ذوي الشأن في سبيل تحقيق ذلك.
والاختلاف في التفريق هو كما يبدو بسبب كون الآية هدفت إلى التوفيق والإصلاح وحسب. ويتبادر لنا أن التفريق يصح أن يرد في مجال الحلول استلهاما من المبدأ القرآني العام للحياة الزوجية الذي شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة وهو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالمعروف والإحسان وعدم الإمساك للضرر والعدوان. ويكون التفريق وفق الخطط القرآنية المشروحة في تلك الآيات أيضا وهو الخلع والفداء أو الطلاق الرجعي والبائن أو البات.
هذا مع توكيد القول إن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق وإن على الحكمين أو من يتدخل بذل كل جهد في سبيل ذلك في الدرجة الأولى.
ومع صحته واحتمال أن يكون التدخل من ذوي الأسرة والشأن في المجتمع والسلطان فالذي يتبادر لنا أن هذا متروك للظروف. فما أمكن حلّه بدون تدخل السلطان حلّ. وما كان يحتاج إلى سلطان رفع إليه. وإن كان رفع الأمر إلى السلطان يظل هو الأضمن للحسم والتنفيذ.
وقد يصح القول بالإضافة إلى ما تقدم واستلهاما من فحوى الآية أن الجزء الثامن من التفسير الحديث 8(8/113)
المخاطبين فيها مدعوون إلى التدخل للإصلاح والتوفيق إذا ما خيف من تسوية نزاع وشقاق بين الزوجين ولو لم يرفع الزوجان أمرهما إليهم. والله تعالى أعلم.
ولم نقع على قول بما يجب عمله إذا اختلف الحكمان، والمتبادر أن للذي عينهما أن ينتدب آخرين مكانهما أو يمحص الأمر بوسائله الأخرى أو يرجح رأي أحد الحكمين على الآخر أو يفرض الحل المناسب. وهذا ما يوحيه ما قلناه أن السلطان يظل هو الأضمن للحسم والتنفيذ والأكثر ورودا في الخطاب والله تعالى أعلم.
حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة
هذا، وهذه الآية هي خاتمة فصل طويل في شؤون الأسرة المتنوعة. ومن المحتمل أن يكون بعض آياته نزلت متتابعة فوضعت في مكانها للمناسبة الظرفية والموضوعية. ومن المحتمل أن يكون بعض آياته الأخرى نزلت في غير ظرف نزول الباقي فوضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.
ويلحظ من هذا الفصل الطويل أن حكمة التنزيل قد أعارت هذه الشؤون عناية كبيرة واقتضت نتيجة لذلك أن يحتوي القرآن بيانات وتشريعات كثيرة حولها.
وهذا يلحظ كذلك في الفصل الطويل الذي احتوته آيات سورة البقرة [220- 241] والذي هو من هذا الباب لأنه متصل بالطلاق والعدة والمهر وحالة الزوجة التي يتوفى عنها زوجها وحالة الزوجة التي يطلقها زوجها قبل الدخول ومسألة الرضاع إلخ إلخ.
وليس هذان الفصلان كل ما جاء في هذا الباب في القرآن. ففي سورة الأحزاب التي مرّ تفسيرها فصل منه، ومعظم سورة الطلاق من الباب نفسه، وفي سورة النور فصول عديدة منه أيضا.
والمتبادر أن من حكمة ذلك كون هذه الشؤون متصلة بحياة جميع الأفراد من آباء وأمهات وزوجات وأولاد، وبعبارة أخرى أن لكل إنسان صلة بها بشكل من الأشكال، واحتمال أن تكون مثار خلاف ونزاع وشقاق وبلبلة وضغائن بل وجرائم(8/114)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
واردة باستمرار في كل ظرف ومكان وكل هذا مما يؤدي إلى اضطراب أسروي واجتماعي واقتصادي ومعاشي وسلوكي فإذا ما حددت وأوضحت انتفت أسباب ذلك وضمنت الطمأنينة والهدوء والتراضي للأسرة الإسلامية ثم للمجتمع الإسلامي والله أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 42]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
. (1) الجار ذي القربى. قيل إنه القريب رحما وقيل إنه القريب دينا.
(2) الجار الجنب: قيل إنه الأجنبي رحما وقيل إنه الأجنبي دينا.
(3) الصاحب بالجنب: الذي بينه وبين الآخر رفقة وصحبة. وبعضهم قال إن الجملة تعني زوجة الرجل.
(4) ابن السبيل: الغريب.
(5) من المؤولين من قال إن هذه الآية عنت اليهود الذين وصفوا بمثل ذلك في آيات أخرى. ومن قال إنها عنت من يبخل بعلمه ويكتمه من العلماء مطلقا.
ومن قال إنها على المعنى الظاهر وهو الشحّ بالمال وكتمانه وأمر الناس بذلك.(8/115)
والقول الأخير هو الأوجه بقرينة في الآية التالية.
(6) لو تسوّى بهم الأرض: الجملة كما يتبادر لنا أنها في معنى (لو تنشق الأرض وتبلعهم ثم تعود إلى حالها مسواة ويبقون في بطنها) .
تعليق على الآية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات في صدد سلوك المسلم تجاه غيره على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت:
(1) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبرّ بهم ومعاونتهم.
(2) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبرّ والحسنى ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان. ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
(3) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله وهم يعترفون بوجوده ويعرفون أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.(8/116)
(4) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
(5) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذار لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
(6) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان الحقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبرّ نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ليتم الاتساق بين التلقينات القرآنية الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلّا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر وعن رغبة صادقة في أدائه(8/117)
كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم وكل هذا متسق مع وصايا القرآن على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روي من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» «1» . وعنها «قالت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال إلى أقربهما منك بابا» «2» .
وحديث آخر جاء فيه «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» «3» . وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه «لا يشبع الرجل دون جاره» «4» . وحديث خامس جاء فيه «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره» «5» . وحديث سادس جاء فيه «الجيران ثلاثة: جار له حقّ واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حقّ الجوار، والثاني جار مسلم فله حقّ الإسلام والجوار والثالث جار مسلم ذو رحم فله حق الجوار والإسلام والرحم» «6» . وحديث سابع جاء فيه «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» «7» . ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» «8» . ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث
__________
(1) التاج ج 5 ص 14 الحديث رواه الأربعة.
(2) التاج ج 5 ص 14 الحديث رواه البخاري وأبو داود.
(3) التاج ج 5 ص 14 الحديث رواه الشيخان.
(4) من تفسير ابن كثير للآيات.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) من تفسير الخازن. [.....]
(8) التاج ج 5 ص 9 و 15 والحديث رواه الترمذي.(8/118)
عن أبي هريرة جاء فيه «من سرّه أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» «1» وحديث عنه أيضا «إنّ رجلا قال يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ فقال لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» «2» . ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة بن الصامت جاء فيه «سمع رسول الله يقول أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون» «3» . وثان عن أبي مسعود قال «كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول: اعلم أبا مسعود- مرتين- أن الله أقدر عليك منك عليه فالتفتّ فإذا هو النبي فقلت يا رسول الله هو حرّ لوجه الله قال أما لو لم تفعل للفحتك النار» «4» . وثالث عن أبي هريرة عن النبي قال «من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا» «5» . ورابع عن ابن عمر جاء فيه «جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله كم نعفو عن الخادم فصمت فأعاد الكلام فصمت فلما كان في الثالثة قال في كل يوم سبعين مرة» «6» . وخامس عن أبي ذرّ جاء فيه «قال رسول الله من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله» «7» وسادس عن رافع جاء فيه «أن النبي قال حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم» «8» . وسابع عن جابر جاء فيه «ثلاث من كنّ فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة: رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك» «9»
__________
(1) التاج ج 5 ص 9 و 15 والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(2) المصدر نفسه ص 9 رواه الأربعة.
(3) المصدر نفسه ص 10- 12.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه. والملكة في معنى الذي يملك شيئا.
(9) المصدر نفسه.(8/119)
وثامن عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله «كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم» «1» . وتاسع عن أبي ذرّ جاء فيه «خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم وإن كلفتموهم فأعينوهم» «2» . وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردّد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه» «3» . وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله «للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلّف من العمل إلّا ما يطيق» «4» . ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء» «5» . وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين» «6» . وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذلّ من كل مكان» «7» . وفي صدد البخل والشحّ حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه «لا يدخل الجنة خبّ ولا منّان ولا بخيل» «8» وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق» «9» . وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة «في من يقضى عليهم أول ما يقضى يوم القيامة رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه
__________
(1) من تفسير ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. [.....]
(5) التاج ج 5 ص 29- 30.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه ص 38.
(9) المصدر نفسه.(8/120)
فعرفها قال ما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها المال إلّا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» «1» وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء» «2» .
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم.
لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام. دمه وماله وعرضه» «3» .
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روي عن عبد الله قال «قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ. قلت أقرأ
__________
(1) التاج ج 1 ص 51.
(2) هناك أحاديث أخرى في الرياء فاكتفينا بما تقدم وننبه على أن هناك أحاديث فيها استدراكات يحسن أن يساق بعضها للتوضيح من ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه «قال رجل يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسرّه فإذا اطلع عليه أعجبه ذلك. قال رسول الله له أجران أجر السر وأجر العلانية» التاج ج 1 ص 51. وحديث رواه أبو داود جاء فيه «وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحبّ أن يفوقني أحد بشراك نعلي أفمن الكبر من ذلك قال لا ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس» التاج ج 5 ص 31 حيث يفيد الحديثان أن الإنسان لا يؤاخذ إلّا إذا أراد بما يفعل مراءاة الناس أو إظهار الكبر والخيلاء.
(3) انظر التاج ج 5 ص 35.(8/121)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
عليك وعليك نزل. قال فإني أحبّ أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [4] قال: أمسك. فإذا عيناه تذرفان» «1» حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعرفت شخصيتها التامة. وهذا مؤيد فيما نرى بآية إرث الكلالة التي في آخر السورة أيضا على ما سوف ننبه عليه في مناسبتها.
هذا، وللمفسر التستري تفسير لبعض عبارات الآية الأولى في السلسلة ينحو به نحو التفسير الرمزي أو الصوفي ويبتعد به عن معنى العبارة الصريح وهدفها الذي لا يتحمل مثل هذا التفسير قطعا وهو «الجار ذو القربى هو القلب والجار الجنب هو الطبيعة والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة وابن السبيل هو الجوارح المطيعة» «2» .
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
. (1) الغائط: المحل المنخفض ولعلّه أريد بالكلمة «الحفرة» أو «الجورة» العميقة في الأرض التي كانوا يقضون حاجاتهم فيها. وقد ذكرت بعض الروايات أن الناس كانوا يذهبون إلى البراري ويقضون حاجاتهم في منخفضاتها. وهناك روايات تذكر أنه كان في جانب المساكن أماكن تسمى كنفا «مفردها كنيف» لقضاء
__________
(1) التاج ج 4 ص 82.
(2) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 30.(8/122)
الحاجة وهو ما نسميه بيت الماء أو بيت الخلاء. وهذا أو ذاك بمثابته هو المعقول لأن خروج الناس إلى البراري لقضاء الحاجة من أهل المدن غير معقول. ولا بد من أن يكون لهم أماكن لذلك «حفرا أو جورا» قريبة من المساكن.
(2) تيمموا: معناها اللغوي اتجهوا نحو الشيء أو تحروا أو اختاروا. وكلمة «التيمم» التي هي اصطلاح إسلامي والتي صارت تطلق على عملية المسح من الصعيد الطاهر بدلا من الماء مشتقة منها.
(3) صعيدا: قيل إنه بمعنى الأرض الملساء أو بمعنى الأرض المستوية أو الأرض المرتفعة. وقيل إنها بمعنى وجه الأرض مطلقا ترابا كان أم حجرا أو صخرا.
(4) طيبا: طاهرا.
الخطاب في الآية موجّه إلى المسلمين وقد تضمنت:
(1) نهيا عن الصلاة وهم في حالة السكر حتى يعلموا ما يقولون لأن السكران لا يدري ما يقول أو يفعل.
(2) ونهيا آخر عن الصلاة وهم على جنابة حتى يغتسلوا مع الترخيص لعابري السبيل «1» .
(3) وترخيصا لهم إذا كانوا مرضى.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... وما فيها من أحكام التيمم والجنابة والوضوء والاغتسال
أولا: روى المفسرون «2» روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الأول من هذه الآية. وقد روى أبو داود والترمذي عن علي
__________
(1) سيأتي شرح لمدى جملة عابِرِي سَبِيلٍ.
(2) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي ورشيد رضا إلخ.(8/123)
صيغة نكتفي بإيرادها لأنها الأوثق سندا جاء فيها «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منّا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ «1» وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» «2» وروى المفسرون روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الثاني من الآية. من ذلك حديث رواه البخاري عن عائشة قالت «هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلّوا على غير وضوء. فأنزل الله آية التيمم» «3» . ومن ذلك رواية يرويها الطبري تذكر أنه نال أصحاب رسول الله جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا إلى رسول الله فنزلت وإن كنتم مرضى. ورواية أخرى يرويها الطبري أيضا أنه كان للنبي خادم اسمه الأسلع فناداه ليلة يا أسلع قم فارحل لي فقال له يا رسول الله أصابتني جنابة فأتاه جبريل بآية الصعيد فناداه أن قم فتيمم ووصف له ضربتين للتيمم واحدة للوجه وواحدة لليدين إلى المرفقين ثم مروا على ماء فأمره أن يغتسل. وهذه الرواية تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر أيضا.
والأحاديث والروايات تفيد أن الآية نزلت مجزأة وفي مناسبات متعددة مع أنها وحدة تامة كما تبدو. وفيها نقاط أخرى لم ترد في الروايات والأحاديث مثل ملامسة النساء وعبور المساجد. وهذا يسوغ القول إن الآية نزلت مرة واحدة واحتوت مواضيع عديدة متناسبة.
ولا يمنع هذا بطبيعة الحال أن تكون المناسبات المروية صحيحة فكانت سببا لنزول الآية جامعة لما كان ولما يفرض أن يكون ليكون الموضوع تاما.
ثانيا: والآية بعد فصل جديد وتام. وهذا النوع من الآيات التشريعية غير نادر
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) التاج ج 4 ص 82 و 83. [.....]
(3) المصدر نفسه.(8/124)
في النظم القرآني. وقد مرّ منه أمثلة في سورة البقرة. وفي هذه السورة. والتناسب قائم بين الآية والآيات السابقة من ناحية كون الجميع فصولا تشريعية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الفصل السابق لها فوضعت بعده للمناسبة الظرفية والموضوعية.
ومن المحتمل أن تكون نزلت في ظرف آخر فوضعت بعده للمناسبة الموضوعية.
ثالثا: إن النهي عن الصلاة في حالة السكر في الآية يأتي كخطوة تشريعية ثانية في الخمر. والخطوة الأولى جاء في آية سورة البقرة [219] التي ذكرت أن إثم الخمر أكبر من نفعها. وقد عرض القرآن المكي بآثار خمر الدنيا وما تحدثه من أعراض كريهة ضارة أكثر من مرة في سياق وصفه خمر الآخرة وكونها مبرأة من ذلك. وهذه الخطوة الثانية ليست حاسمة أيضا لأنها إنما تنهى عن الصلاة في حالة السكر التي تنجم عن شرب الخمر. وقد نزل التشريع الحاسم الأمر بالانتهاء من شربها والجامع في الإثم بينها وبين الميسر والأنصاب والأزلام بعد مدة ما من هذه الآية في سورة المائدة. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور التشريعي، ودليل على تأصل تعاطي الخمر وشيوعه والانتفاع به اقتصاديا حتى اقتضت حكمة التنزيل هذا التدرج.
رابعا: إن الأمر بالاغتسال من الجنابة يأتي هنا لأول مرة. وقد تكرر مرة ثانية في سورة المائدة في صيغة وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [6] وهذه وتلك من الآيات المدنية. وليس هناك حديث يمكن وصفه بأنه مكي الصدور عن النبي يوجب الاغتسال من الجنابة. غير أن المفسر القاسمي ينقل عن ابن عبد البرّ قوله إن أهل السير متفقون على أن الغسل من الجنابة قد فرض في مكة وإن هذا مما لا يجهله عالم. وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن أبي بن كعب جاء فيه «إن الفتيا التي يفتون بها إنما الماء من الماء كانت رخصة رخصها النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد» . وجملة إنما الماء من الماء تفيد أن نزول المني هو الذي يكون به الجنابة ويوجب الاغتسال. والحديث يفيد أن هذا تشريع نبوي مكي. ولعل العلماء الذين يحكي ابن عبد البر اتفاقهم استندوا إلى هذا الحديث.
وشراح الحديث يذكرون أن الحديث يعني أن النبي أوجب في بدء الإسلام(8/125)
الاغتسال إذا ما حدث إنزال في جماع ثم أوجبه في حالة الجماع مطلقا ولو بدون إنزال. وليس هناك ما يمكن الاستناد إليه فيما اطلعنا عليه في ما إذا كان أمر النبي بالاغتسال من الجماع ولو لم يكن إنزال مكيا. وهناك حديث في ذلك رواه مسلم عن عائشة قالت «إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل وعائشة جالسة فقال رسول الله إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» «1» . وهذا الحديث مدني يقينا. وصار الاغتسال من الجماع بدون إنزال على كل حال تشريعا.
على أن قول الشراح إن معنى إنما الماء من الماء هو إيجاب الغسل إذا نزل مني في الجماع محل نظر في ما نرى. ونرى الأوجه والله أعلم أن يؤخذ الكلام على ظاهره فيكون نزول المني في غير حالة الجماع أيضا موجبا للاغتسال. وإذا صحّ هذا فيكون هذا أيضا تشريعا مكيا تبعا لأصل الحديث الذي يذكر أن الفتيا بأن الماء من الماء كان في بدء الإسلام.
وننبه على أن هناك أحاديث صريحة باعتبار نزول الماء في الاحتلام حالة جنابة وبإيجاب الاغتسال من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم جاء فيه «إنّ أم سليم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنّ الله لا يستحي من الحقّ. فهل على المرأة غسل إذا احتلمت قال نعم إذا رأت الماء» «2» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل وعن الرجل أنه حلم ولا يجد ماء قال لا غسل عليه. فقالت أم سليم المرأة ترى ذلك أعليها غسل قال نعم. إنما النساء شقائق الرجال» «3» والأحاديث مدنية الصدور. ولكنها لا تفيد أن التشريع النبوي جديد لأمر لم يكن ويجوز أن يكون استمرارا للجاري منذ بدء الإسلام الذي أساسه «إنما الماء من الماء» . ولم نطلع على حديث نبوي في صدد الإنزال في اليقظة نتيجة للتهيج الجنسي. ويقاس
__________
(1) التاج ج 1 ص 96 و 97.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 96 و 97.(8/126)
هذا على نزول الماء في الاحتلام بل يكون الأوجب للاغتسال. والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث نبوية توجب الغسل ولو لم يكن إنزال إذا التقى الختانان. من ذلك حديث رواه الخمسة إلّا الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها وجب الغسل وفي رواية وإن لم ينزل وفي رواية ومسّ الختان بالختان» «1» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا» «2» فصار هذا بدوره تشريعا وفي حكم الجنابة. والأحاديث مدنية الصدور ولا يمكن الجزم بما إذا كان الأمر استمرارا لما كان جاريا في العهد المكي.
وهناك أحاديث عن المذي الذي يخرج من ذكر الرجل حين يدنو من أهله.
وهو غير المني الذي ينقذف في الجماع أو الاحتلام أو اشتداد الشهوة تسوغ المناسبة إيرادها. منها حديث يرويه الإمام مالك عن المقداد بن الأسود قال «سئل رسول الله عنه فقال إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة» «3» وحديث آخر يرويه نفس الإمام عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال «إني لأجده ينحدر مني مثل الحريرة فإذا وجد ذلك أحدكم فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة يعني المذي» «4» .
ولقد تكفلت السنّة النبوية في بيان كيفية الاغتسال من الجنابة. من ذلك حديث رواه الخمسة عن ميمونة قالت «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره ثم مسح يده بالأرض ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثم أفاض على جسده ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه وفي رواية ثم غسل رأسه ثلاثا وفي رواية فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل
__________
(1) التاج ج 1 ص 96
(2) المصدر نفسه.
(3) الموطأ ج 1 ص 21.
(4) المصدر نفسه.(8/127)
ينفض الماء بيده» «1» وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه» «2» وحديث رواه الخمسة عن أم سلمة إلّا البخاري قالت «قلت يا رسول الله إني امرأة أشدّ ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة. قال لا. إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» «3» .
وهناك أحاديث مهمة في صدد السلوك في حالة الجنابة من المفيد إيرادها.
منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال «لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة في طريق من طرق المدينة وأنا جنب فاختنست وفي رواية فانسللت فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال أين كنت يا أبا هريرة قلت إني كنت جنبا فكرهت أن أجالسك على غير طهارة قال سبحان الله إن المسلم لا ينجس» «4» وحديث رواه الخمسة أيضا عن عائشة قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة» «5» وحديث رواه الخمسة لذلك عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة وفي رواية كان يطوف على نسائه بغسل واحد» «6» وروى أصحاب السنن عن عليّ قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا» «7» . والحديث الثاني يسوغ قراءة القرآن للمسلم إذا لم يكن على وضوء.
والقراءة غيبا غير الإمساك بالمصحف الذي يشترط الجمهور على أن يكون الممسك على وضوء. ويرد على البال سؤال عما إذا كان يجوز للجنب قراءة القرآن
__________
(1) التاج ج 1 ص 101.
(2) المصدر نفسه
(3) المصدر نفسه ص 102 و 103..
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه ص 103. [.....]
(7) المصدر نفسه.(8/128)
في نفسه والقراءة هي تلاوة بالألفاظ جهرا أو تخافتا. وقراءة النفس ليست كذلك.
ولم نطلع على أثر في منع هذا. والله تعالى أعلم.
خامسا: لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في تأويل إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ منها أنها لتجويز الصلاة للجنب في حالة السفر وعدم وجود ماء. ومنها أنها لتجويز دخول المسجد للجنب إذا كان طريقه منه. وقد رووا في صدد المعنى الثاني أنه كان لبعض أصحاب رسول الله منازل أبوابها شارعة على مسجد رسول الله فكانوا يضطرون إلى العبور منها فرخص لهم ذلك إذا كانوا في حالة الجنب.
وهناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة حديث آخرون تذكر أنه كان لبيتي أبي بكر وعلي رضي الله عنهما أبواب على المسجد «1» .
ومن الثابت اليقيني أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت في جانب من ساحة المسجد. وليس لأهلها طريق إلّا المسجد وليس لمن يقصدها طريق إلّا المسجد. ولقد كان المسجد في الوقت نفسه مكان جلوس النبي صلى الله عليه وسلم للناس والوفود الذين يقصدونه لغير الصلاة وفي غير أوقات الصلاة. فكانت الرخصة لعبورهم المسجد في حالة الجنابة بما تقتضيه ظروف السيرة النبوية فكان ذلك من حكمة تنزيلها ويمكن أن يكون هذا محل قياس في الحالات المشابهة لطبيعة الحال. والله تعالى أعلم.
ومن الأمور الممارسة في معظم المساجد منذ زمن قديم وجود غرف ومخادع فيها للأئمة والخطباء والمدرسين والسدنة. ودخولها والخروج منها من أرض المسجد. وقد ينامون ويحتلمون فيها. بل كثيرا ما يحدث أن ينام بعضهم في صحن المسجد في فترات الصلوات وقد يحتلمون. وحكمة الرخصة القرآنية والحالة هذه مستمرة.
سادسا: قد يلحظ أن الوضوء لم يذكر هنا. ولم يذكر فيما سبق من القرآن وإنما ذكر في آية في سورة المائدة المتأخرة في النزول. مع أن المتواتر المؤيد
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 273 ومجمع الزوائد ج 9 ص 114 و 115.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 9(8/129)
بالأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا يتوضؤون للصلاة منذ بدء الإسلام في مكة. وفي الآية نواقض للوضوء وإيجاب التيمم في حالة حدوثها وهي التبرز والتبول اللذان عبر عنهما بجملة أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ وهذا يعني أن الوضوء للصلاة كان أمرا جاريا ممارسا فاقتضت الحكمة ذكر بديله إذا تعذر الماء أو تعذر استعماله. أما الأمر به في سورة المائدة فهو على ما يتبادر للتذكر والتوكيد على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
سابعا: في جملة ما جعلته الآية سببا للتيمم إذا فقد الماء لامَسْتُمُ النِّساءَ.
وقد اختلفت أقوال المؤولين في مدى الجملة. فمنهم من أوّلها بمعنى مسّ الرجل لبشرة المرأة أو تقبيلها وعلى مذهب هؤلاء فإن هذا العمل يكون ناقضا للوضوء أيضا بنص قرآني. ومن هؤلاء من قال النقض بالمسّ أو القبلة بشهوة. ومنهم من قيّد بالمرأة الأجنبية دون المحارم. وقد أوّلها آخرون بمعنى الجماع. وليس هناك فيما اطلعنا عليه حديث نبويّ صحيح في ذلك.
والملامسة قد ذكرت في آية أخرى في سورة المائدة في نفس الصيغة والمقام اللذين ذكرت فيهما الملامسة في آية النساء التي نحن في صددها. ولقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة غير الجماع فيها بكلمة «المس» لا «الملامسة» من ذلك آية سورة البقرة هذه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) . ومنها آية سورة الأحزاب هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) وفي آية سورة آل عمران هذه الآية: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [47] ، ومنها آية [20] في سورة مريم قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا وفي سورة المجادلة هذه الآية وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [3] .(8/130)
والمتبادر أن هذه الآيات هي التي جعلت الذي يقول إن الجماع هو المس وإن الملامسة هي ملامسة بدنية تنقض الوضوء فقط.
وهكذا قام بين مذاهب الفقه لأهل السنة والجماعة مذهبان في هذا الأمر لكل منهما اجتهاد سائغ مستند إلى قرآن وحديث. واحد يقول إن الملامسة في الآية هي ملامسة بدنية وهي تنقض الوضوء، وواحد يقول إن الملامسة في الآية هي بمعنى الجماع وإن الملامسة البدنية لا تنقض الوضوء ونحن نحترم الرأيين ولا نرى حرجا على المسلم أن يعمل بأحدهما والله تعالى أعلم.
هذا، وفي كتب التفسير أحاديث وروايات أخرى في صدد التيمم من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن عمران بن الحصين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال عليك بالصعيد فإنه يكفيك» .
وعلى ترجيحنا استنادا إلى النصوص القرآنية بأن الملامسة لا تعني الجماع فتكون الجملة القرآنية خالية من حكم التيمم بالنسبة لمن يصيبهم جنابة ولا يجدون ماء فكان هذا الحديث مبيّنا لهذا الحكم الذي سكت عنه القرآن.
وهناك أحاديث نبوية عديدة تذكر نواقض أخرى للوضوء غير التبرز والتبول المكنى عنهما في الآية في جملة أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ.
وغير الملامسة المذكورة في الآية على رأي من أوّلها بمس بشرة المرأة مطلقا. من ذلك خروج المذي من ذكر الرجل الذي ذكر في أحاديث سابقة. ويقاس عليها خروج نزيف دموي من أحد السبيلين ومن ذلك الفساء والضراط والنوم في حالة الإضجاع والقيء ورعاف الدم ومسّ الفرج وأكل لحوم الإبل وما غير شيه على النار مع اختلافات فقهية في بعض ذلك بسبب اختلاف الأحاديث وتضاربها «1» .
__________
(1) انظر التاج ج 1 صفحة 85- 88 ومجمع الزوائد ج (1) ص 241- 255 وفي صدد الفساء والضراط حديث من الصحاح أن الوضوء ينتقض إذا سمع صوت أو وجدت رائحة.(8/131)
وحكمة الوضوء والاغتسال لا تحتاج إلى شرح طويل. ففي غسل الأطراف المكشوفة أكثر من مرة كل يوم نظافة مستمرة ذات فوائد عظمى صحية ومظهرية.
والمباشرة الجنسية وما بسبيلها تثير هياجا يذهل المرء بعض اللحظات عن كل شيء والاغتسال يهدىء هياج الجسم ويعيد إلى النفس سكونها. وهو وسيلة إلى تطهير الجسم جميعه وتنظيفه من آن لآخر مما فيه كذلك فوائد صحية ومظهرية عظمى.
ولعل جعلهما واجبا دينيا ينطوي فيه إلزام المسلمين به دون أي إهمال وتقصير. بل هذا ما تلهمه جملة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في الآية [6] من سورة المائدة التي أمر فيها بالوضوء. ويضاف إلى هذا ما في الوضوء والاغتسال من مظهر الاحتفال بالصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل في حالة تامة من النظافة والطهارة متوافقة مع ما تنطوي عليه الصلاة من مظهر إيمان المسلم بربّه وإسلام نفسه إليه.
ثامنا: وقد يوهم نظم الآية أن جملة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً شاملة لجمله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى غير أن الجمهور متفقون على أن المرض يجيز للمريض التيمم في حالتي الحدثين الأصغر والأكبر مع وجود الماء. وهذا وجيه سديد مستفاد من حكمة التشريع الذي تضمنته الآية. وفي بعض الأحاديث التي سوف نوردها بعد قليل صراحة بذلك.
تاسعا: ليس هناك أثر نبوي وصحابي وثيق بل ولا غير وثيق يفيد أن التيمم كان في العهد المكي حيث يمكن القول إنه تشريع قرآني مدني اقتضته ظروف المسلمين المستجدة.
والمتبادر أن الحكمة من هذه العملية هي تعظيم شأن الصلاة ومواضع الصلاة وأوقات الصلاة فواجب الصلاة على المسلم مكرر في اليوم الواحد خمس مرات.
وهي ركن من أركان الإسلام يجب أداؤه في أوقاته. فإذا تعذر الماء الذي يتطهر به المسلم ويستعد للوقوف أمام ربّه متعبّدا خاشعا فبالمسح يظهر نيته للتطهر(8/132)
واحتفاله بالصلاة وأدائها في أوقاتها إظهارا رمزيا فلا تفوته عبادة الله في الأوقات المعينة لها.
والمتبادر أن جملة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ليست من مشمول جملة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فهذه الجملة هي والله أعلم بالنسبة لمن لم يجد ماء فعلا في حين أن في الجملة الأولى ترخيصا بالتيمم للمريض مع وجود الماء إذا تيقن أن استعمال الماء في الاغتسال من الجنابة أو لأجل الوضوء يسبب ضررا أو خطرا على حياته وصحته.
عاشرا: إن جمهور المفسرين والمؤولين والفقهاء على وجوب البحث عن الماء. وعدم جواز التيمم إلّا بعد اليأس من وجوده وهذا وجيه.
أما كيفية التيمم فهناك أحاديث عديدة فيها منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه الخمسة جاء فيه «جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر أما تذكر إذ كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصلّ وأما أنا فتمكنت وصلّيت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك هكذا فضرب بكفّيه على الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه» «1» وحديث رواه الخمسة والشافعي عن أبي الجهم قال «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يردّ عليه النبي حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه السلام. ولفظ الشافعي فمسح وجهه وذراعيه» «2» . ولأبي داود عن ابن عمر «فضرب يديه على الحائط ومسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم ردّ على الرجل السلام وقال لم يمنعني أن أردّ عليك السلام إلّا أني لم أكن على طهر» «3» .
أما مدة التيمم فلم نطلع على حديث صحيح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى
__________
(1) التاج ج 1 ص 114 ونفخ فيهما أي أزال الغبار الكثير على ما قاله الشراح.
(2) التاج ج 1 ص 114 و 115 والجمهور على أن عدم ردّ السلام بسبب عدم الطهر منسوخ بآيات وأحاديث عديدة أجازت ذكر الله تعالى في جميع الحالات. وهذا سديد وجيه.
(3) المصدر نفسه.(8/133)
الطبري عن علي وابن عمر والشعبي والنخعي أن التيمم يجب لكل صلاة وعن عطاء والحسن أنه كالوضوء يصلى به أكثر من صلاة ما دامت أسبابه قائمة. وقد صوب الطبري القول الأول وعلل تصويبه بأن الأصل القرآني هو الوضوء أو التيمم حين القيام للصلاة، والسنّة أجازت أكثر من صلاة بوضوء واحد ولم يرد ذلك بالنسبة للتيمم. ونرى في هذا وجاهة أكثر.
وننبه على أن المستفاد من أقوال المؤولين والمفسرين والفقهاء على أن هناك اتفاقا على جواز الصلاة النافلة بين وقتي صلاتين مكتوبتين متواليتين بتيمم واحد.
وهناك مسألة، وهي وجوب قضاء الصلاة بالتيمم وعدمه عند وجود الماء.
وقد روى البخاري ومالك والشافعي عن ابن عمر أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة «1» وروى أبو داود والنسائي عن أبي سعيد قال «خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمّما وصلّيا. ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد أصبت وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد لك الأجر مرتين» «2» . وهذا يعني أن المسلم بالخيار إن شاء أعاد الصلاة التي يصليها بالتيمم حين وجود الماء وإن شاء لم يعد وإن كانت الإعادة أكثر أجرا. وننبه على كلمة «وجدا الماء في الوقت» حيث يمكن أن يعني هذا أنه إذا وجد الماء بعد فوات وقت الصلاة فلا يكون محل للخيار حيث يكون قد صلى المسلم المكتوبة عليه بالتيمم في وقتها وبذلك أتم واجبه والله أعلم.
والمستفاد مما يسوقه المفسرون من أقوال لهم وللمؤولين والفقهاء في صدد المرض الذي يبيح التيمم أنه الجروح والقروح التي يؤذيها الماء ولا يمكن عصبها
__________
(1) التاج ج 1 ص 115 ومعنى والشمس مرتفعة أي قبل انقضاء وقت صلاة العصر.
(2) التاج ج 1 ص 115 و 116.(8/134)
والمسح على العصابة، ثم المريض الواهن والشيخ الواهن اللذين يؤذيهما الماء.
وعلى كل حال إن المسألة دينية إيمانية موكولة للمؤمن المفروض أنه لا يبحث عن فتوى بدون مبرر ليخلص نفسه من مؤونة استعمال الماء للوضوء والاغتسال. والذي لا يفعل ذلك إذا اعتقد هو أو قال له الخبراء إن استعمال الماء يؤذيه أو يزيد مرضه حقا والله تعالى أعلم. وهناك حديثان فيهما ما يصح الاستئناس بهما على ذلك يروي أحدهما البخاري وأبو داود عن عمرو بن العاص قال «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن اغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول الله ولم يقل شيئا» «1» ويروي ثانيهما أبو داود عن جابر قال «خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجّه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك فقال قتلوه قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» «2» ولقد روى الخازن عن أبي حنيفة أن من مذهبه جواز التيمم إذا تعذر الماء الموجود بسبب قوة قاهرة حيث يكون ذلك بمثابة عدم وجوده بحيث لو كان هناك بئر ليس عنده أداة لاستخراج الماء بها أو كان عنده خطر بوجود عدو أو سبع جاز للمسلم أن يتيمم. ووجاهة القول ظاهرة فيما نرى والله أعلم.
وهناك احتمال لم نطلع على قول أو أثر فيه وهو أن يكون مع المسافر ماء قليل لا يكفي لشربه ووضوئه واغتساله ولا يجد ماء في طريق سفره. ويتبادر لنا أن هذا يكون في حكم انفقاد الماء للوضوء والاغتسال ويبرر التيمم والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج ج 1 ص 113- 116.
(2) المصدر نفسه.(8/135)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 57]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
. (1) يشترون الضلالة: أوّل المؤولون الجملة بمعنى يختارون الضلالة ويتعمدونها ويستبدلونها بالهدى. وهو وجيه ومتسق مع ما جاء في آيات عديدة مثل آيات البقرة [16 و 41] وآل عمران [77] .
(2) اسمع غير مسمع: قيل إنها كلمة هجو بمعنى اسمع لا سمعت. وقيل إنها كلمة تمرد بمعنى اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه.(8/136)
(3) راعنا ليّا بألسنتهم: كانوا يلوون ألسنتهم بكلمة راعنا لتكون بمعنى الرعونة استهزاء بالنبي. وفي سورة البقرة آية من هذا الباب نهى المسلمون فيها عن ترديد هذه الكلمة تقليدا لليهود وهي الآية [104] .
(4) لا يظلمون فتيلا: لا ينقص من أجرهم وحقهم مقدار فتلة من خيط والعبارة لأجل التقليل وتمثيل الضالة.
(5) الجبت والطاغوت: أول المؤولون الجبت بالأصنام والطاغوت بما يشرك به الله عموما. وهناك من أول الجبت بالسحر والطاغوت بالسحرة والكهان أو بسدنة الأصنام. والتأويل الأول هو الأوجه المتساوق مع مدى الآية.
(6) نقيرا: قشرة النواة أو شقها أو نقرتها التي تكون في ظهرها. والقصد أقل شيء مهما كان تافها.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ إلخ وما بعدها لآخر الآية [57]
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود، وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم، وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا، بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها «1» من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من أورد روايات أخرى أو الروايات بصيغة أخرى.(8/137)
صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون إنه لو كان نبيا لعرف ذلك، وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه بن التابوت من زعمائهم وقالوا إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له كتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [53] من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه هل على هؤلاء من ذنب فقال لا فقالوا ما نحن إلّا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار. لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفوا معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد؟ فقالوا لهم إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه(8/138)
أوردت في سياق آيات الزمر [54- 59] وقد فنّدناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسلة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته الروايات وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القرشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية [51] وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية [48] لا صلة لها باليهود. غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية [48] وهي الآية [116] غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية [116] بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية [48] بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود. لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو ربّ(8/139)
إسرائيل «1» فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمرا وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيّا وظرفيّا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية وبنو النضير في السنة الثالثة ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سور الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية ذهاب وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلّوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها، وقد نتج عن ذلك زحف
__________
(1) في الأسفار المتداولة اليوم في أيدي اليهود عبارات كثيرة تذكر أنهم شعب الله وأنه يرعاهم وأنه رب إسرائيل. وفي القرآن آيات عديدة تحكي قولهم أنهم أولياء الله وأبناؤه وأحباؤه وأن الآخرة لهم خالصة وأنهم هم الذين يدخلون الجنة وحدهم مثل آيات البقرة [94 و 111] والمائدة [18] والجمعة [6] وهكذا ينطوي في الآيات كون ما جاء في أسفارهم تحريفا وافتراء.(8/140)
الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة «1» تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلّا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكرناه في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودسّ وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي بسبيل أحقادهم ومآربهم. ولقد حكيت هذه الأخلاق عن أسلافهم وظلت متحققة في أخلاقهم إجمالا دون تبديل من لدن نزول أسفار العهد القديم إلى الآن ولعلهم في ذلك شاذون عن كل ما سواهم في الدنيا منذ الأزمنة القديمة
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 108- 120.(8/141)